23 - ) تبسيط تفسير ابن كثير للقرأن الكريم
تفسير الجزء
الثالث والعشرين
سورة يس
وَمَآ
أَنزَلۡنَا عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنۢ بَعۡدِهِۦ مِن جُندٖ
مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ ٢٨ إِن كَانَتۡ إِلَّا صَيۡحَةٗ
وَٰحِدَةٗ فَإِذَا هُمۡ خَٰمِدُونَ ٢٩
"وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ
قَوۡمِهِۦ مِنۢ بَعۡدِهِۦ مِن جُندٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا كُنَّا
مُنزِلِينَ " يخبر الله تعالى أنه انتقم من قوم الرجل الذى جاء اليهم ليدعوهم
الى اتباع المرسلين بعد قتلهم اياه غضبا منه ولأنهم كذبوا رسله وقتلوا وليه ويذكر
الله تعالى أنه ما أنزل عليهم وما احتاج فى اهلاكه اياهم الى انزال جند من
الملائكة عليهم بل الأمر كان أيسر من ذلكوقيل " وما كنا منزلين" أى
وماكنا ننزل الملائكة على الأمم اذا أهلكناهم بل نبعث عليهم عذابا يدمرهم وقيل ما
أرسلنا عليهم من رسالة أخرى وقال أبن جرير المعنى الأول أصح لأن الرسالة لا تسمى
جندا ، " إِن كَانَتۡ إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ
فَإِذَا هُمۡ خَٰمِدُونَ " أهلك الله أهل القرية الكافرةوقال المفسرون بعث
الله تعالى اليهم جبريل فأخذ بعضادتى باب بلدهم ثم
صاح فيهم صيحة واحدة فاذا هم خامدون عن آخرهم لم يبق فيهم روح تتردد فى جسد فبادوا
على وجه الأرض فلم يبق منهم باقية .
يَٰحَسۡرَةً
عَلَى ٱلۡعِبَادِۚ مَا يَأۡتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ
يَسۡتَهۡزِءُونَ ٣٠ أَلَمۡ يَرَوۡاْ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّنَ ٱلۡقُرُونِ
أَنَّهُمۡ إِلَيۡهِمۡ لَا يَرۡجِعُونَ ٣١ وَإِن كُلّٞ
لَّمَّا جَمِيعٞ لَّدَيۡنَا مُحۡضَرُونَ ٣٢
" يَٰحَسۡرَةً عَلَى
ٱلۡعِبَادِۚ مَا يَأۡتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ
" يقول الله تعالى ياحرة العباد على أنفسها ومعنى هذا يا حسرتهم وندامتهم يوم
القيامة اذا عاينوا العذاب كيف كذبوا رسل الله وخالفوا أمر الله فانهم فى الدنيا
كانوا كلما يأتيهم رسول من عند الله يهديهم يكذبون ويستهزئون به ويجحدون ما أرسل
به من الحق ، "أَلَمۡ يَرَوۡاْ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّنَ ٱلۡقُرُونِ
أَنَّهُمۡ إِلَيۡهِمۡ لَا يَرۡجِعُونَ " يقول الله تعالى لهؤلاء الكفار ألم
يتعظوا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل كيف لم يكن لهم الى هذه الدنيا كرة
ولا رجعة ولك يكن الأمر كما زعم كثيرمن جهلتهم وفجرتهم من قولهم " ان هى الا
حياتنا الدنيا نموت ونحيى وما يهلكنا الا الدهر " وهم القائلون بالدور من
الدهرية وهم الذين يعتقدون جهلا منهم أنهم يعودون الى الدنيا كما كانوا فيها فرد
الله عليهم تبارك وتعالى عليهم باطلهم
فقال " أَلَمۡ يَرَوۡاْ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّنَ ٱلۡقُرُونِ
أَنَّهُمۡ إِلَيۡهِمۡ لَا يَرۡجِعُونَ " ، " وَإِن كُلّٞ لَّمَّا جَمِيعٞ لَّدَيۡنَا
مُحۡضَرُونَ " يقول الله تعالى أن جميع الأمم الماضية والآتية ستحضر للحساب
يوم القيامة بين يدى الله جل وعلا فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها وهذا كقوله
تعالى " وان كلا لما ليوفينهم
ربك أعمالهم " .
وَءَايَةٞ
لَّهُمُ ٱلۡأَرۡضُ ٱلۡمَيۡتَةُ أَحۡيَيۡنَٰهَا وَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهَا حَبّٗا
فَمِنۡهُ يَأۡكُلُونَ ٣٣ وَجَعَلۡنَا فِيهَا جَنَّٰتٖ
مِّن نَّخِيلٖ وَأَعۡنَٰبٖ وَفَجَّرۡنَا فِيهَا مِنَ ٱلۡعُيُونِ ٣٤ لِيَأۡكُلُواْ مِن
ثَمَرِهِۦ وَمَا عَمِلَتۡهُ أَيۡدِيهِمۡۚ أَفَلَا يَشۡكُرُونَ ٣٥ سُبۡحَٰنَ
ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡأَزۡوَٰجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلۡأَرۡضُ وَمِنۡ
أَنفُسِهِمۡ وَمِمَّا لَا يَعۡلَمُونَ ٣٦
يتحدث
الله تعالى عن قدرته فى الخلق "وَءَايَةٞ لَّهُمُ ٱلۡأَرۡضُ ٱلۡمَيۡتَةُ أَحۡيَيۡنَٰهَا وَأَخۡرَجۡنَا
مِنۡهَا حَبّٗا
فَمِنۡهُ يَأۡكُلُونَ " يقول الله تعالى دلالة لهم على وجود الصانع وقدرته
التامة واحيائه الموتى احياء الأرض اذا كانت ميتة هامدة لا شىء فيها من النبات
فاذا أنزل الله تعالى عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج يخرج الله
منها الحب يكون رزقا للعباد ولأنعامهم ،" وَجَعَلۡنَا فِيهَا جَنَّٰتٖ مِّن نَّخِيلٖ وَأَعۡنَٰبٖ وَفَجَّرۡنَا فِيهَا مِنَ
ٱلۡعُيُونِ " ويخرج الله من الأرض الزروع عطف بذكر الثمار وتنوعها وأصنافها
وجعل فى الأرض الماء الذى يتفجر منها ليروى الأرض ، " لِيَأۡكُلُواْ مِن
ثَمَرِهِۦ وَمَا عَمِلَتۡهُ أَيۡدِيهِمۡ"فتخرج هذه الزروع والثمار ليأكل
العباد من ثمرها وما هذا من عمل أيديهم ولا من صنعهم ولا بحولهم وقوتهم انما من
رحمة الله تعالى بهم وقال ابن جرير " ما عملته أيديهم " أى ما غرسوه
ونصبوه وزرعوه ، " أَفَلَا يَشۡكُرُونَ " فهلا يشكرونه على ما أنعم
عليهم به من هذه النعم التى لا تعد ولا تحصى ، " سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي خَلَقَ
ٱلۡأَزۡوَٰجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلۡأَرۡضُ وَمِنۡ أَنفُسِهِمۡ وَمِمَّا لَا
يَعۡلَمُونَ " عقب الله على نعمته على عباده بقوله تعالى وتنزه الله الذى خلق
كل شىء من أزواج مختلفة من زروع وثمار ومن بشر من ذكر وأنثى ومن مخلوقات شتى غسر
معروفة لعباده كما قال تعالى " ومن كل
شىء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون " .
وَءَايَةٞ
لَّهُمُ ٱلَّيۡلُ نَسۡلَخُ مِنۡهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظۡلِمُونَ ٣٧
وَٱلشَّمۡسُ تَجۡرِي لِمُسۡتَقَرّٖ لَّهَاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ ٣٨ وَٱلۡقَمَرَ
قَدَّرۡنَٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلۡعُرۡجُونِ ٱلۡقَدِيمِ ٣٩ لَا ٱلشَّمۡسُ
يَنۢبَغِي لَهَآ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّيۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ
وَكُلّٞ
فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ ٤٠
" وَءَايَةٞ لَّهُمُ
ٱلَّيۡلُ نَسۡلَخُ مِنۡهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظۡلِمُونَ " يقول الله
تعالى ودلالة لهم ايضا على قدرة الله تبارك وتعالى العظيمةينصرم البنهار فيذهب
فيقبل الليل ةيحل معه الظلام خق الليل
والنهار هذا بظلامه وهذا بضيائه وجعلهما يتعاقبان يجىء هذا ويذهب هذا فيجىء هذا
كما قال تعالى " يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا " ، " وَٱلشَّمۡسُ
تَجۡرِي لِمُسۡتَقَرّٖ لَّهَاۚ
" ومن دلالات قدرة الله تعالى الشمس وحركتها وفيه قولان أن المراد بمستقرها
هومنتهى سيرها وهو يوم القيامة يبطل سيرها وتسكنحركنها وتكور وينتهى هذا العالم
الى غايته وهذا هومستقرها الزمانى وقال قتادة "لمستقرلها" أى لوقتها
ولأجل لا تعدوه وقيل المراد أنها لاتزال تنتقل فى مطالعها الصيفية الى مدة لا تزيد
عليها ثم تنتقل فى مطالع الشتاء الى مدة لا تزيدعليها وقال ابن عباس " والشمس
تجرى لا مستقر لها" أى لا قرار لها ولا سكون بل هى سائرة ليلا ونهارا لا تفتر
ولا تقف كما قال تعالى " وسخر لكم الشمس والقمر دائبين " أى لا يفتران
ولا يقفان الى يوم القيامة ، "ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ
" وهذا الى يحدث هو من تدبير الله العزيز الذى لا يخالف ولا يمانع العليم بجميع
الحركات والسكنات وقد قدر ذلك ووقته على منوال لا اختلاف فيه ولا تعاكس كما قال
تعالى "فالق الاصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز
العليم "والقول الآخر أن المراد مستقرها المكانى وهو تحت العرش وعن أبى ذر
قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المسجد عند غروب الشمس فقال " يا
أبا ذر أتدرى أين تغرب الشمس ؟ قلت " الله ورسوله أعلم قال صلى الله عليه
وسلم : فانها تذهب حتى تسجد تحت العرش فذلك قوله تعالى " وَٱلشَّمۡسُ تَجۡرِي
لِمُسۡتَقَرّٖ لَّهَاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ
ٱلۡعَلِيمِ ، " وَٱلۡقَمَرَ
قَدَّرۡنَٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلۡعُرۡجُونِ ٱلۡقَدِيمِ " تشير
الآية الى قدرة الله تعالى فى منازل القمر فقد جعله يسير سيرا آخر يستدل به على
مضى الشهور كما أن الشمس يعرف بها الليل والتهار كما قال تعالى " هو الذى جعل
الشمس ضياءا والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب " وكما قال
تعالى " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار
مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شىء فصلناه تفصيلا
" ، " لَا ٱلشَّمۡسُ يَنۢبَغِي لَهَآ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا
ٱلَّيۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ" لكل من الشمس والقمر حد لا يعدوه ولا يقصر دونه
اذا جاء سلطان هذا ذهب هذا واذا ذهب سلطان هذا جاء سلطان هذا وقال عكرمة يعنى لكل
منهما سلطان فلا ينبغى للشمس أن تطلع بالليل فسلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر
بالليل ، " وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ "والشمس والقمر والليل والنهار كلهم
يدورون فى فلك السماء .
وَءَايَةٞ
لَّهُمۡ أَنَّا حَمَلۡنَا ذُرِّيَّتَهُمۡ فِي ٱلۡفُلۡكِ ٱلۡمَشۡحُونِ ٤١
وَخَلَقۡنَا لَهُم مِّن مِّثۡلِهِۦ مَا يَرۡكَبُونَ ٤٢ وَإِن نَّشَأۡ نُغۡرِقۡهُمۡ
فَلَا صَرِيخَ لَهُمۡ وَلَا هُمۡ يُنقَذُونَ ٤٣ إِلَّا رَحۡمَةٗ
مِّنَّا وَمَتَٰعًا إِلَىٰ حِينٖ ٤٤
" وَءَايَةٞ لَّهُمۡ أَنَّا حَمَلۡنَا
ذُرِّيَّتَهُمۡ فِي ٱلۡفُلۡكِ ٱلۡمَشۡحُونِ " يقول الله تعالى ودلالة لهم
أيضا على قدرته تبارك وتعالى تسخيره البحر ليحمل السفن وحملنا ذريتهم أى آباءهم
والفلك المشحون السفينة المملوءة من الأمتعة والحيوانات وهذا اشارة الى سفينة نوح
عليه السلام الذى أمره الله أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين والتى أنجاه الله
تعالى فيها بمن معه من المؤمنين الذين لم يبق على وجه الأرض من ذرية آدم عليه
السلام غيرهم ،" وَخَلَقۡنَا لَهُم مِّن مِّثۡلِهِۦ مَا يَرۡكَبُونَ "
قال أبن عباس هى السفن التى جعلت من بعد سفينة نوح عليه السلام على مثلها كما قال
تعالى " انا لما طغا الماء حملناكم فى الجارية * لنجعلها لكم تذكرة وتعيها
أذن واعية " ، " وَإِن نَّشَأۡ نُغۡرِقۡهُمۡ فَلَا صَرِيخَ لَهُمۡ وَلَا
هُمۡ يُنقَذُونَ " يقول الله تعالى أنه سخر البحر لتجرى فيه السفن ولو شاء
لجعله غير صالح لسير السفن ويغرق الذين هم فى السفن فلا مغيث لهم مما هم فيه ولا
أحد ينقذهم مما أصابهم ،"إِلَّا رَحۡمَةٗ مِّنَّا وَمَتَٰعًا إِلَىٰ حِين " وهذا استثناء منقطع تقديره
ولكن برحمتنا نسيركم فى البر والبحر ونسلمكم الى أجل مسمى والى وقت معلوم عند الله
فلكل أجل كتاب يقدره الله تعالى .
وَإِذَا
قِيلَ لَهُمُ ٱتَّقُواْ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيكُمۡ وَمَا خَلۡفَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ
تُرۡحَمُونَ ٤٥ وَمَا تَأۡتِيهِم مِّنۡ ءَايَةٖ
مِّنۡ ءَايَٰتِ رَبِّهِمۡ إِلَّا كَانُواْ عَنۡهَا مُعۡرِضِينَ ٤٦ وَإِذَا قِيلَ
لَهُمۡ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ
لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنُطۡعِمُ مَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطۡعَمَهُۥٓ إِنۡ
أَنتُمۡ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ ٤٧
"وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّقُواْ مَا بَيۡنَ
أَيۡدِيكُمۡ وَمَا خَلۡفَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ " يقول الله تعالى
مخبرا عن تمادى المشركين فى غيهم وضلالهم وعدم اكتراثهم بذنوبهم التى أسلفوها وما
يستقبلون بين أيديهم يوم القيامة قال مجاهد اذا قيل للمشركين ابعدوا عما تفعلوه من
الذنوب لعل الله يرحمكم باتقائكم ذلك ويؤمنكم من عذابه وتقدير الكلام أنهم لا
يجيبون الى ذلك بل يعرضون عنه ، " وَمَا تَأۡتِيهِم مِّنۡ ءَايَةٖ مِّنۡ ءَايَٰتِ رَبِّهِمۡ إِلَّا كَانُواْ عَنۡهَا
مُعۡرِضِينَ " يتحدث الله عن المشركين أنهم كلما جاءتهم آية من آيات الله
ويمكن أن تكون الآية بمعنى دليل وحجة تدل
على التوحيد وصدق الرسل أو آية منزلة من آيات الذكر الحكيم وهو القرآن لا
يتأملونها ولا يقبلونها ولا ينتفعون بها بل يواجهونها بالاعراض ، "وَإِذَا
قِيلَ لَهُمۡ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ " يقول الله تعالى أن
هؤلاء المشركين اذا أمروا بالانفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج ، "
قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ " قال هؤلاء المشركون لمن
أمرهم من المؤمنين بالانفاق محاجين لهم فيما أمروهم به ، " أَنُطۡعِمُ مَن لَّوۡ يَشَآءُ
ٱللَّهُ أَطۡعَمَهُ" يقولون لهم أن هؤلاء الذين أمرتمونا بالانفاق عليهم لو
شاء الله لأغناهم ولأطعمهم من رزقه فنحن نوافق مشيئة الله فيهم ، " إِنۡ
أَنتُمۡ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ مُّبِين
" يقول الكفار للمؤمنين أنتم فى ضلال واضح ولستم على الحق فى أمركم لنا
بالانفاق ، ويحتمل أن يكون ذلك من قول الله عز وجل للكفار حين ناظروا المؤمنين
وردوا عليهم فقال لهم ٓ" إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ مُّبِين" أى أنكم أيها المشركون فى ضلال واضح فى ردكم
على المؤمنين وحجتكم بعدم الانفاق .
وَيَقُولُونَ
مَتَىٰ هَٰذَا ٱلۡوَعۡدُ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٤٨ مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيۡحَةٗ
وَٰحِدَةٗ تَأۡخُذُهُمۡ وَهُمۡ يَخِصِّمُونَ ٤٩ فَلَا يَسۡتَطِيعُونَ
تَوۡصِيَةٗ وَلَآ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِمۡ يَرۡجِعُونَ ٥٠
"
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا ٱلۡوَعۡدُ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ " يخبر الله
تعالى عن استبعاد الكفار لقيام الساعة وهو وعد الله فهم يستبعدونه ويتهمون
المؤمنين فى ذلك بعدم الصدق ويتحدثون اليهم عن ذلك فى تحد كما فى قوله عزوجل
" يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها " ، "مَا يَنظُرُونَ إِلَّا
صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ تَأۡخُذُهُمۡ وَهُمۡ
يَخِصِّمُونَ" يرد الله تعالى على من يستبعدون قيام الساعة ان هى الا مجرد
صيحة واحدة وهى نفخة الفزع ، ينفخ فى الصور نفخة الفزع والناس فى معايشهم وأسواقهم
يختصمون ويتشاجرون على عادتهم فبينما هم كذلك اذ أمر الله عز وجل اسرافيل فنفخ فى
الصور نفخة يطولها ويمدها فلا يبقى أحد على وجه الأرض ويتسمع الصوت من قبل السماء
ثم يساق الموجودين من الناس الى محشر القيامة بالنار تحيط بهم من جوانبهم ولهذا
قال تعالى " فَلَا يَسۡتَطِيعُونَ
تَوۡصِيَةٗ
وَلَآ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِمۡ يَرۡجِعُونَ " فهم لا يمهلون فلا يمكنهم التوصية
على ما يملكونه ولا يمكنهم الرجوع الى الدنيا فهم يفقدون الأمور كلها والأهل وما
يملكون ويكون الأمر كله لله الواحد القهار حيث يكون بعد هذا نفخة الصعق التى تموت
بها الأحياء كلهم ما عدا الحى القيوم ثم بعد ذلك نفخة البعث .
وَنُفِخَ
فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ يَنسِلُونَ ٥١
قَالُواْ يَٰوَيۡلَنَا مَنۢ بَعَثَنَا مِن مَّرۡقَدِنَاۜۗ هَٰذَا مَا وَعَدَ
ٱلرَّحۡمَٰنُ وَصَدَقَ ٱلۡمُرۡسَلُونَ ٥٢ إِن كَانَتۡ إِلَّا صَيۡحَةٗ
وَٰحِدَةٗ فَإِذَا هُمۡ جَمِيعٞ لَّدَيۡنَا مُحۡضَرُونَ ٥٣ فَٱلۡيَوۡمَ لَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ
شَيۡٔٗا وَلَا تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٥٤
"
وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ
يَنسِلُونَ " هذه هى النفخة الثالثة وهى نفخة البعث والنشور للقيام من
الأجداث وهى القبور والنسلان هو المشى السريع يبعث العباد من قبورهم ويسارعون
للحساب من ربهم كما قال تعالى " يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم الى نصب
يوفضون " ، " قَالُواْ يَٰوَيۡلَنَا مَنۢ بَعَثَنَا مِن
مَّرۡقَدِنَاۜۗ" يقول الكفار فى حسرة لما عاينوا ما كذبوه فى محشرهم وهم لا يصدقون ما يجرى حولهم والذى كانوا
يكذبونه من قبل ويتساءلون عن من بعثهم من قبورهم التى كانوا يعتقدون فى الدار
الدنيا أنهم لا يبعثون منها وهذا لا ينفى عذابهم فى قبورهم لأنه بالنسبة الى ما
بعده فى الشدة أقل فان ما بعد هذا الرقاد فى القبور أشد ،" هَٰذَا مَا وَعَدَ
ٱلرَّحۡمَٰنُ وَصَدَقَ ٱلۡمُرۡسَلُونَ " واذا قال الكفار ما قالوا أجابهم
المؤمنون وقال الحسن انما يجيبهم الملائكة ولا منافاة اذ الجمع ممكن ان هذا هو ما
وعد به الرحمن من البعث وهو كذلك يؤكد صدق ما جاء به الرسل من الله بهذا اليوم
وهذا كقوله تعالى " ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك
كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والايمان لقد لبثتم فى كتاب الله الى يوم
البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون "وكقوله تعالى" فى الصافات
"وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذى كنتم به تكذبون " ،
" إِن كَانَتۡ إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ فَإِذَا هُمۡ جَمِيعٞ لَّدَيۡنَا مُحۡضَرُونَ "
يتحدث الله عن صيحة البعث التى يبعث الله بها عباده ويلاقونه يوم الحساب انما هو
أمر واحد فاذا الجميع محضرون اليه وهذا كقوله " وما أمر الساعة الا كلمح
البصر أو هو أقرب "و كقوله " فانما هى زجرة واحدة فاذا هم بالساهرة
" وكقوله " يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون ان لبثتم الا قليلا
" ، " فَٱلۡيَوۡمَ لَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡٔٗا وَلَا تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ " فى يوم
الحساب كل يجازى بعمله ان خيرا فخير وان شرا فشر بعدل الله وحكمته ولا تظلم نفس
شيئا من عملها .
إِنَّ
أَصۡحَٰبَ ٱلۡجَنَّةِ ٱلۡيَوۡمَ فِي شُغُلٖ فَٰكِهُونَ ٥٥ هُمۡ وَأَزۡوَٰجُهُمۡ فِي ظِلَٰلٍ عَلَى
ٱلۡأَرَآئِكِ مُتَّكُِٔونَ ٥٦ لَهُمۡ فِيهَا فَٰكِهَةٞ
وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ ٥٧ سَلَٰمٞ قَوۡلٗا مِّن رَّبّٖ رَّحِيمٖ ٥٨
" إِنَّ أَصۡحَٰبَ ٱلۡجَنَّةِ
ٱلۡيَوۡمَ فِي شُغُلٖ فَٰكِهُونَ " يخبر الله تعالى
عن أهل الجنة أنهم يوم القيامة اذا ارتحلوا من العرصات فنزلوا فى روضان الجنات
أنهم فى شغل عن غيرهم بما هم فيه من النعيم المقيم والفوز العظيم وقال الحسن
البصرى وغيره أنهم فى شغل عما فيه أهل النار من العذاب وقال مجاهد " فى شغل
فاكهون " أى فى نعيم معجبون به وقال ابن عباس فاكهون أى فرحون ، "هُمۡ وَأَزۡوَٰجُهُمۡ " الأزواج هنا هم الحلائل فى الجنة من زوجات الجنة
وليس من كن أزواجا فى الدنيا فكل يحاسب بعمله من ذكر أو أنثى فيمكن أن يدخل زوج
الجنة وتدخل زوجته النار والعكس كما أن الدرجات فى الجنة تختلف ليس لفضل الا
بالعمل الصالح ، " فِي ظِلَٰلٍ عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِ مُتَّكُِٔونَ " فى ظلال أشجار الجنة
والأرائك هى السرر تحت الحجال ونظيره فى الدنيا التخوت تحت البشاخين أى أنهم
مستلقون مستريحون على السرر دون كلل أو نصب،"لَهُمۡ فِيهَا فَٰكِهَة" يرزقون فى الجنة من جميع أنواع الفاكهة وفاكهة الجنة ليست كفاكهة الدنيا "وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ
" ولهم كل ما يسألون ويطلبون مهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذ وعن
أسامة بن زيد رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا هل
مشمر الى الجنة ؟ فان الجنة لا خطر اها هى ورب الكعبة نور كلها يتلألأ ، وريحانة
تهتز ، وقصر مشيد ، ونهر مطرد ، وثمرة نضيجة ، وزوجة حسناء جميلة ، وحلل كثيرة ،
ومقام فى أبد فى دار سلامة ، وفاكهة خضرة وخيرة ونعمة فى محلة عالية بهية "
قالوا : نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها ، قال صلى الله عليه وسلم " قولوا
ان شاء الله " فقال القوم : ان شاء الله " ، " سَلَٰمٞ قَوۡلٗا مِّن رَّبّٖ رَّحِيم " قال
ابن عباس فان الله تعالى نفسه سلام على أهل الجنة وعن جابر بن عبد الله رضى الله
عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بينا أهل الجنة فى نعيمهم اذ
سطع عليهم نور فرفعوا رءوسهم فاذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال السلام
عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله تعالى " سلام مقولا من رب رحيم " وهذا
كقوله " تحيتهم يوم يلقونه سلام " .
وَٱمۡتَٰزُواْ
ٱلۡيَوۡمَ أَيُّهَا ٱلۡمُجۡرِمُونَ ٥٩ ۞أَلَمۡ أَعۡهَدۡ إِلَيۡكُمۡ يَٰبَنِيٓ
ءَادَمَ أَن لَّا تَعۡبُدُواْ ٱلشَّيۡطَٰنَۖ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ
مُّبِينٞ ٦٠ وَأَنِ ٱعۡبُدُونِيۚ هَٰذَا صِرَٰطٞ
مُّسۡتَقِيمٞ ٦١ وَلَقَدۡ أَضَلَّ مِنكُمۡ جِبِلّٗا
كَثِيرًاۖ أَفَلَمۡ تَكُونُواْ تَعۡقِلُونَ ٦٢
" وَٱمۡتَٰزُواْ ٱلۡيَوۡمَ أَيُّهَا ٱلۡمُجۡرِمُونَ " يقول الله تعالى مخبرا عما يؤول اليه حال الكفار يوم القيامة من أمره لهم أن يمتازوا بمعنى يتميزون عن المؤمنين فى موقفهم كقوله تعالى " ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم " وقال " ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون "،"أَلَمۡ أَعۡهَدۡ إِلَيۡكُمۡ يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ أَن لَّا تَعۡبُدُواْ ٱلشَّيۡطَٰنَۖ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِين" هذا تقريع من الله تعالى للكفرة من بنى آدم الذين أطاعوا الشيطان وهو عدو لهم واضح العداوة وعصوا الرحمن وهو الذى خلقهم ورزقهم ولهذا قال تعالى " وَأَنِ ٱعۡبُدُونِيۚ هَٰذَا صِرَٰطٞ مُّسۡتَقِيم" يقول الله تعالى لعباده من بنى آدم قد أمرتكم فى دار الدنيا بعصيان الشيطان وأمرتكم بعبادتى وهذا هو الصراط المستقيم أى الطريق الذى لا عوج فيه الموصل الى الحق فسلكتم غير ذلك واتبعتم الشيطان فيما أمركم به ولهذا قال الله تعالى " وَلَقَدۡ أَضَلَّ مِنكُمۡ جِبِلّٗا كَثِيرًا"المراد بالجبل الكثير الخلق الكثير جيلا بعد جيل وقد أضلهم الشيطان ، " أَفَلَمۡ تَكُونُواْ تَعۡقِلُونَ " يوبخ الله الكفار من بنى آدم لاتباعهم الشيطان ألم يكن لكم عقل فى مخالفة ربكم فيما أمركم به من عبادته وحده لا شريك له وعدولكم عن ذلك الى اتباع الشيطان وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اذا كان يوم القيامة أمر الله تعالى جهنم فيخرج منها عنق ساطع مظلم يقول " أَلَمۡ أَعۡهَدۡ إِلَيۡكُمۡ يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ أَن لَّا تَعۡبُدُواْ ٱلشَّيۡطَٰنَۖ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٞ ٦٠ وَأَنِ ٱعۡبُدُونِيۚ هَٰذَا صِرَٰطٞ مُّسۡتَقِيمٞ ٦١ وَلَقَدۡ أَضَلَّ مِنكُمۡ جِبِلّٗا كَثِيرًاۖ أَفَلَمۡ تَكُونُواْ تَعۡقِلُونَ * هذه جهنم التى كنتم توعدون " " وامتازوا اليوم أيها المجرمون " فيتميز الناس ويجثون وهى التى يقول الله عز وجل " وترى كل أمة جاثية * كل أمة تدعى الى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون " .
هَٰذِهِۦ
جَهَنَّمُ ٱلَّتِي كُنتُمۡ تُوعَدُونَ ٦٣ ٱصۡلَوۡهَا ٱلۡيَوۡمَ بِمَا كُنتُمۡ
تَكۡفُرُونَ ٦٤ ٱلۡيَوۡمَ نَخۡتِمُ عَلَىٰٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَتُكَلِّمُنَآ
أَيۡدِيهِمۡ وَتَشۡهَدُ أَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ٦٥ وَلَوۡ
نَشَآءُ لَطَمَسۡنَا عَلَىٰٓ أَعۡيُنِهِمۡ فَٱسۡتَبَقُواْ ٱلصِّرَٰطَ فَأَنَّىٰ
يُبۡصِرُونَ ٦٦ وَلَوۡ نَشَآءُ لَمَسَخۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ مَكَانَتِهِمۡ فَمَا
ٱسۡتَطَٰعُواْ مُضِيّٗا وَلَا يَرۡجِعُونَ ٦٧
"
هَٰذِهِۦ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي كُنتُمۡ تُوعَدُونَ " يقول الله تعالى للكفرة من
بنى آدم يوم القيامة وقد برزت الجحيم لهم تقريعا وتوبيخا هذه هى جهنم التى حذرتكم
الرسل منها فكذبتموهم ،" ٱصۡلَوۡهَا ٱلۡيَوۡمَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ
" يقول الله للكفار اصطلوا بنار جهنم جزاء كفركم كما قال تعالى " يوم
يدعون الى نار جهنم دعا هذه النار التى كنتم بها تكذبون * أفسحر هذا أم أنتم لا
تبصرون " ، " ٱلۡيَوۡمَ نَخۡتِمُ عَلَىٰٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَتُكَلِّمُنَآ
أَيۡدِيهِمۡ وَتَشۡهَدُ أَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ " يتحدث الله
تعالى عن حال الكفار والمنافقين يوم القيامة حين ينكرون ما اجترموه فى الدنيا
ويحلفون ما فعلوه فيختم الله على أفواههم ويستنطق جوارحهم بما عملت وعن عقبة بن
نافع رضى الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ان أول عظم
من الانسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل اليسرى " ،
"وَلَوۡ نَشَآءُ لَطَمَسۡنَا عَلَىٰٓ أَعۡيُنِهِمۡ فَٱسۡتَبَقُواْ
ٱلصِّرَٰطَ فَأَنَّىٰ يُبۡصِرُونَ " يقول الله تعالى عن الكفار لو نشاء
لأضللناهم عن الهدى بسبب أفعالهم فكيف يهتدون وقال الحسن البصرى لو شاء الله لطمس
على أعينهم فجعلهم عميا يترددون وقال السدى ولو نشاء أعمينا أبصارهم وقال قتادة
وغيره فاستبقوا الصراط الصراط يعنى الطريق أى يسيرون فيه فأنى يبصرون وقد طمسنا
على أعينهم وقال ابن عباس فأنى يبصرون لا يبصرون الحق ، " وَلَوۡ نَشَآءُ
لَمَسَخۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ مَكَانَتِهِمۡ" المسخ هو تغيير الخلقة قال السدى يعنى
لغيرنا خلقهم وقال الحسن البصرى وقتادة لأقعدهم على أرجلهم ولهذا قال تعالى "
فَمَا ٱسۡتَطَٰعُواْ مُضِيّٗا " أى ما استطاعوا
المضى الى الأمام ،" وَلَا يَرۡجِعُونَ " ولا يمكنهم الرجوع الى وراء
يلزمون حالا واحدا لا يتقدمون ولا يتأخرون .
وَمَن
نُّعَمِّرۡهُ نُنَكِّسۡهُ فِي ٱلۡخَلۡقِۚ أَفَلَا يَعۡقِلُونَ ٦٨ وَمَا
عَلَّمۡنَٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا يَنۢبَغِي لَهُۥٓۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ
وَقُرۡءَانٞ مُّبِينٞ ٦٩ لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّٗا
وَيَحِقَّ ٱلۡقَوۡلُ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ ٧٠
"
وَمَن نُّعَمِّرۡهُ نُنَكِّسۡهُ فِي ٱلۡخَلۡقِۚ" يخبر الله تعالى عن ابن آدم
كلما طال عمره رد الى الضعف بعد القوة والعجز بعد النشاط كما قال تعالى "
الله الذى خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق
ما يشاء وهو العليم القدير " وقال عز وجل " ومنك من يرد الى أرزل العمر
لكيلا يعلم من بعد علم شيئا" والمراد من هذا الاخبار عن الدار الدنيا بانها
دار زوال وانتقال لا دار دوام واستقرار ولهذا قال تعالى أَفَلَا يَعۡقِلُونَ
" أى أفلا تتفكرون بعقولكم فى ابتداء خلقكم ثم صيرورتكم الى سن الشيبة ثم الى
الشيخوخة لتعلموا أنكم خلقتم لدار أخرى لا زوال لهتا ولا انتقال منها ولا نحيد
عنها وهى الدار الآخرة ، " وَمَا
عَلَّمۡنَٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا يَنۢبَغِي لَهُ"يقول الله عزوجل مخبرا عن نبيه
محمد صلى الله عليه وسلم أنه ما علمه الشعروما يصلح له وما هو فى طبعه فلا يحسنه ولا يحبه ولا تقتضيه
جبلته ولهذا ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يحفظ بيتا على وزن منتظم بل ان
انشده زحفه أم لم يتمه وعن الشعبى أنه قال ما ولد عبد المطلب ذكرا ولا أنثى الا
يقول الشعر الا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكل ما كان يفعله صلى الله عليه
وسلم أنه كان يرتجز كما قال فى يوم حنين وهو راكب البغلة يقدم بها فى نحور العدو
أنا
النبى لا كذب * أنا ابن عبد المطلب
وهذا وقع اتفاقا من غير قصد لوزن شعر بل جرى على اللسان من غير قصد اليه فانما الله تعالى انما علمه القرآن العظيم " الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد " وعن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا خيرا له من أن يمتلىء شعرا " على أن الشعر فيه ما هومشروع وهو هجاء المشركين الذى كان يتعاطاه شعراء الاسلام كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وأمثالهم ومنه مافيه حكم ومواعظ وآداب كما يوجد فى شعرجماعة من الجاهلية ومنهم أمية بن أبى الصلت الذى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم" آمن شعره وكفر قلبه " وقد روى أبوداود من حديث أبى بن كعب وبريدة بن الخصيب وعبد الله بن عباس رضى الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ان من البيان سحرا وان من الشعر حكما " ، " إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ وَقُرۡءَانٞ مُّبِين" يقول الله تعالى ما هذا الذى علمناه الا الذكر والقرآن البين الواضح الجلى لمن تأمله وتدبره ولهذا قال تعالى ،" لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّٗا " يقول الله تعالى أنه أنزل هذا القرآن المبين لينذر كل حى على وجه الأرض كقوله تعالى " لأنذركم به ومن بلغ" وقال " ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده " وانما ينتفع بنذراته من هو حى القلب مستنير البصيرة كما قال قتادة حى القلب حى البصر وقال الضحاك يعنى عاقلا ،" وَيَحِقَّ ٱلۡقَوۡلُ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ " أى أن هذا القرآن كما هو رحمة للمؤمنين فهو حجة على الكافرين وعلى أفعالهم وما يصدر منهم من كفر .
أَوَ
لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا خَلَقۡنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتۡ أَيۡدِينَآ أَنۡعَٰمٗا
فَهُمۡ لَهَا مَٰلِكُونَ ٧١ وَذَلَّلۡنَٰهَا لَهُمۡ فَمِنۡهَا رَكُوبُهُمۡ
وَمِنۡهَا يَأۡكُلُونَ ٧٢ وَلَهُمۡ فِيهَا مَنَٰفِعُ وَمَشَارِبُۚ أَفَلَا
يَشۡكُرُونَ ٧٣
"
أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا خَلَقۡنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتۡ أَيۡدِينَآ أَنۡعَٰمٗا " يذكر الله تعالى ما أنعم
به على خلقه من هذه الأنعام التى سخرها لهم ،" فَهُمۡ لَهَا مَٰلِكُونَ
" قال قتادة مطيقون أى جعلهم يقهرونها وهى ذليلة لهم لا تمتنع منهم بل لوجاء
صغير الى بعير لأناخه ولو شاء لأقامه وساقه وكذا لو كان القطار مائة بعير أو أكثر
لسار الجميع بسير الصغير ، " وَذَلَّلۡنَٰهَا لَهُمۡ فَمِنۡهَا رَكُوبُهُمۡ
وَمِنۡهَا يَأۡكُلُونَ " سخر الله الأنعام لعباده فمنها ما يركبون فى الأسفار
ويحملون عليها الأثقال الى سائر الجهات والأقطار واذا شاءوا نحروا واجتزوا وطعموا
منها من لحومها وألبانها ،" وَلَهُمۡ
فِيهَا مَنَٰفِعُ وَمَشَارِبُ" يتحدث الله تعالى عن الأنعام أن للبشر منها
منافع من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا الى حين ولهم فيها مشارب من
ألبانها وأبوالها لمن يتداوى ونحو ذلك ، " أَفَلَا يَشۡكُرُونَ " أفلا
يستوجب كل ذلك من بنى آدم الشكر أفلا يوحدون خالق ذلك ومسخره ولا يشركون به غيره ؟
.
وَٱتَّخَذُواْ
مِن دُونِ ٱللَّهِ ءَالِهَةٗ لَّعَلَّهُمۡ يُنصَرُونَ ٧٤ لَا يَسۡتَطِيعُونَ نَصۡرَهُمۡ وَهُمۡ
لَهُمۡ جُندٞ مُّحۡضَرُونَ ٧٥ فَلَا يَحۡزُنكَ قَوۡلُهُمۡۘ إِنَّا نَعۡلَمُ مَا
يُسِرُّونَ وَمَا يُعۡلِنُونَ ٧٦
" وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ ءَالِهَةٗ لَّعَلَّهُمۡ يُنصَرُونَ "
يقول الله تعالى منكرا على المشركين فى اتخاذهم الأنداد آلهة مع الله يبتغون بذلك أن تنصرهم تلك الآلهة وترزقهم وتقربهم
الى الله زلفى ، " لَا يَسۡتَطِيعُونَ نَصۡرَهُمۡ وَهُمۡ لَهُمۡ جُندٞ مُّحۡضَرُونَ " لا تقدر هذه
الآلهة التى اتخذوها من دون الله على نصر عابديها
قال مجاهد عند الحساب الأصنام التى اتخذها المشركون آلهة يغضبون لها فى
الدنيا وهى لا تسوق اليهم خيرا ولا تدفع عنهم شرا محشورة مجموعة يوم القيامة محضرة
عند حساب عابديها ليكون ذلك أبلغ فى حزنهم
وأدل فى اقامة الحجة عليهم ، " فَلَا
يَحۡزُنكَ قَوۡلُهُمۡۘ " يقول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم لا يحزنك تكذيب
المشركين لك وكفرهم بالله وما يقولون عليك من افتراءات ، " إِنَّا نَعۡلَمُ
مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعۡلِنُونَ " يقول الله تعالى نحن نعلم جميع مافيه
المشركين وسنجزيهم وصفهم ونعاملهم على ذلك يوم لا يفقدون من أعمالهم جليلا ولا
حقيرا ولا صغيرا ولا كبيرا بل يعرض عليهم جميع ما كانوا يعملون قديما وحديثا .
أَوَ
لَمۡ يَرَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقۡنَٰهُ مِن نُّطۡفَةٖ
فَإِذَا هُوَ خَصِيمٞ مُّبِينٞ ٧٧ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلٗا وَنَسِيَ خَلۡقَهُۥۖ قَالَ مَن يُحۡيِ ٱلۡعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيمٞ
٧٨ قُلۡ يُحۡيِيهَا ٱلَّذِيٓ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٖۖ
وَهُوَ بِكُلِّ خَلۡقٍ عَلِيمٌ ٧٩ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ
ٱلۡأَخۡضَرِ نَارٗا فَإِذَآ أَنتُم مِّنۡهُ تُوقِدُونَ ٨٠
قال مجاهد
وقتادة وعكرمة وغيرهم أن أبى بن خلف جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى يده عظم رميم وهو يفته ويذروه فى الهواء وهو يقول يا محمد أتزعم أن الله يبعث
هذا ؟ قال صلى الله عليه وسلم " نعم يميتك الله تعالى ثم يبعثك ثم يحشرك الى
النار " ونزلت هذه الايات من آخر يس " أَوَ لَمۡ يَرَ ٱلۡإِنسَٰنُ
أَنَّا خَلَقۡنَٰهُ مِن نُّطۡفَةٖ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٞ مُّبِين" وعن ابن عباس قال : ان العاص بن وائل أخذ عظما من البطحاء ففته ثم
قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أيحيى الله هذا بعد ما أرى ؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " نعم يميتك الله ثم يحييك ثم يدخلك جهنم " قال نزلت
الآيات من آخر يس ، وعلى كل تقدير سواء كانت هذه الآيات قد نزلت فى أبى بن خلف أو
العاص بن وائل أو فيهما فهى عامة فىكل من أنكر البعث ،" أَوَ لَمۡ يَرَ ٱلۡإِنسَٰنُ"
هذا الخطاب موجه للجنس يعم كل منكر للبعث
، " أَنَّا خَلَقۡنَٰهُ مِن نُّطۡفَةٖ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٞ مُّبِين" يقول الله تعالى أو لم يستدل من أنكر البعث بالبدء
على الاعادة فان الله ابتدأ خلق الانسان من سلالة من ماء مهين فخلقه من شىء حقير
ضعيف مهين كما قال عز وجل " ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه فى قرار مكين الى
قدر معلوم " وقال تعالى " انا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج " خلق
الله من نطفة من أخلاط فيها من صفات وراثية من الأب والأم فالذى خلقه من هذه
النطفة الضعيفة أليس بقادر على اعادته بعد موته وعن بشر بن جحاش قال ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم بصق يوما فى كفه فوضع عليها أصبعه ثم قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم " قال الله تعالى يابن آدم أنى تعجزنى وقد خلقتك من مثل هذه حتى
اذا سويتك وعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى اذا بلغت التراقى
قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة ؟ " ولهذا قال تعالى " وَضَرَبَ لَنَا مَثَلٗا وَنَسِيَ خَلۡقَهُۥۖ قَالَ مَن
يُحۡيِ ٱلۡعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيم" استبعد اعادة الله تعالى ذى القدرة العظيمة التى خلقت السموات
والأرض للأجساد والعظام الرميمة ونسى نفسه وأن الله تعالى خلقه من العدم الى
الوجود فعلم من نفسه ماهو أعظم مما استبعده وأنكره وجحده ورد الله عزوجل عليه
بقوله " قُلۡ يُحۡيِيهَا ٱلَّذِيٓ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٖۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلۡقٍ عَلِيمٌ
" أى اخبر هذا الجاهل الكافر المنكر للبعث أن الله الذى خلقها أول مرة من
العدم أيسر عليه وهو أقدر على اعادتها الى البعث والحياة وهو الذى يعلم العظام فى
سائر أقطار الأرض وأرجائها أين ذهبت وأين تفرقت وتمزقت وعن حذيفة رضى الله قال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ان رجلا حضره الموت فلما يئس من
الحياة أوصى أهله اذا أنا مت فاجمعوا لى حطبا كثيرا جزلا ثم أوقدوا فيه نارا حتى
اذا أكلت لحمى وخلصت الى عظمى فامتحشت فخذوها فدقوها فذروها فى اليم ففعلوا فجمعه
الله تعالى ثم قال له : لم فعلت ذلك؟ قال من خشيتك فغفر الله عز وجل له " وقد
أخرج الحديث بألفظ كثيرة منها أنه أمر بنيه أن يحرقوه ثم يسحقوه ثم يذروا نصفه فى
البر ونصفه فى البحر فى يوم رائح أىكثير الهواء ففعلوا ذلك ، فأمر الله تعالى
البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه ثم قال له كن فاذا هو رجل قائم فقال له
ما حملك على ما صنعت ؟ قال : مخافتك وأنت أعلم فما تلاقاه أن غفر له " ، "
ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلۡأَخۡضَرِ نَارٗا فَإِذَآ أَنتُم مِّنۡهُ
تُوقِدُونَ " الذى بدأ خلق هذا الشجر من ماء حتى صار
خضرا نضرا فأثمر وينع ثم أعاده الى أن صار حطبا يابسا توقدون به النار كذلك هو
فعال لما يشاء قادر على ما يريد لا يمنعه شىء وقيل أن المراد شجر المرخ والعفار
ينبت فى أرض الحجاز فيأتى من أراد أن يقدح نار وليس معه زناد فيأخذ منه عودين
أخضرين ويقدح أحدهما بالآخر فتتولد النار من بينهما كالزناد سواء بسواء ، وفى
العصر الحديث ومع تقدم العلم الحديث الذى كشف لنا أن مصدر الطاقة على الأرض من
النبات الذى يستمد الطاقة من الشمس بأوراقه الخضراء وهى التى تمده بالطاقة ولا
يمكن للنبات أن يعيش بدون الأوراق الخضراء وعلى النبات يقتات الحيوان وعليه يقتات
الانسان كل ذلك فيما يعرف بدورة الحياة ، كما أن مصادر الطاقة من فحم وبترول وغيره
من الوقود الاحفورى من النباتات والحيوانات التى طمرت تحت الأرض منذ الأزمان
السحيقة وتحللت تحت الضغط والحرارة فتحولت الى بترول وفحم وغاز طبيعى ، فالقرآن هو
مائدة الله على الأرض الى يوم القيامة لا تنتهى معجزاته وآياته .
أَوَ
لَيۡسَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يَخۡلُقَ
مِثۡلَهُمۚ بَلَىٰ وَهُوَ ٱلۡخَلَّٰقُ ٱلۡعَلِيمُ ٨١ إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ
أَرَادَ شَيًۡٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ٨٢
فَسُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيۡءٖ
وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ٨٣
"أَوَ لَيۡسَ
ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يَخۡلُقَ
مِثۡلَهُمۚ" يقول الله تعالى منبها على قدرته العظيمة فى خلق السموات السبع
والأرض وما فيها ومرشدا الى الاستدلال على اعادة الأجساد يخلق هذه الأشياء العظيمة
كقوله " لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس " ، والله الذى خلق
السموات والأرض قادر على أن يعيد خلقهم كما بدأهم مثل البشر وهذا كقوله " أو
لم يروا أن الله الذى خلق السموات والأرض ولم يعى بخلقهن بقادر على أن يحيى الموتى
بلى انه على كل شىء قدير" ،" بَلَىٰ وَهُوَ ٱلۡخَلَّٰقُ ٱلۡعَلِيمُ
" يرد الله على السؤال أنه قادر فهو الخلاق العليم المحيط بكل شىء ،
" إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ
أَرَادَ شَيًۡٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ "
فأمره اذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فانما يأمر بالشىء أمرا واحدا لا يحتاج
الى تكرار وتأكيد وعن أبى ذر رضى الله عنه قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال " ان الله تعالى يقول يا عبادى كلكم مذنب الا من عافيت فاستغفرونى أغفر
لكم ، وكلكم فقير الا من أغنيت ، انى جواد ماجد واجد أفعل ما أشاء ، عطائى كلام
وعذابى كلام اذا أردت شيئا فانما أقول له كن فيكون"،"فَسُبۡحَٰنَ
ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيۡءٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ " أى تنزيه وتقديس وتبرئة من السوء
للحى القيوم الذى بيده مقاليد السموات والأرض واليه يرجع الأمر كله وله الخلق
والأمر واليه يرجع العباد يوم المعاد فيجازى كل عامل بعمله وهو العادل المنعم
المتفضل وقوله" فسبحان الذى بيده ملكوت كل شىء" كقوله " قل من بيده ملكوت كل شىء "
وكقوله " تبارك الذى بيده الملك " فالملك والملكوت واحد فى المعنى كرحمة
ورحموت ورهبة ورهبوت وهو الذى عليه الجمهور من المفسرين وغيرهم .
تفسير الجزء الثالث والعشرين
تفسير سورة الصافات
سورة الصافات سورة مكية ، آياتها 182
آية ، وهى تحكل سمات السور المكية من ابراز قضية الكفر والايمان والآيات الدالةعلى
قدرة الله فى الخلق ، وتتحدث عن الجنة والنار وجزاء الله لعباده المؤمنين وعقابه
للمشركين الكافرين ، وتورد أخبار الرسل السابقين لتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم
فى وجه ما يتعرض له من اعراض المشركين فى مكة ، والصافات هى الملائكة وهى كثيرة صفوف فى
السماء خاضعين لأمر الله يطيعون اللهما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وعن عبد الله بن
عمر رضى الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف
ويؤمنا بالصافات " تفرد به النسائى .
وَٱلصَّٰٓفَّٰتِ
صَفّٗا
١ فَٱلزَّٰجِرَٰتِ زَجۡرٗا ٢ فَٱلتَّٰلِيَٰتِ ذِكۡرًا ٣ إِنَّ إِلَٰهَكُمۡ لَوَٰحِدٞ
٤ رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا وَرَبُّ ٱلۡمَشَٰرِقِ ٥
يقسم الله تعالى فى هذه السورة
بالملائكة بذكرأصناف منهم يقول تعالى "وَٱلصَّٰٓفَّٰتِ صَفّٗا "عن عبد الله بن
مسعود رضى الله عنه قال الصافات هى الملائكة وقال ابن عباس وقتادة وعكرمة وغيرهم
الملائكة صفوف فى السماء وعن حذيفة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم " فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض
كلها مسجدا ، وجعل لنا ترابها طهورا اذا لم نجد ماء " وعن جابر بن سمرة رضى
الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا تصفون كما تصف الملائكة
عند ربهم ؟ قلنا وكيف تصف الملائكة عند ربهم ؟ قال صلى الله عليه وسلم يتمون الصفوف
المتقدمة ويتراصون فى الصف " ، " فَٱلزَّٰجِرَٰتِ زَجۡرٗا " الزاجرات أيضا
هى الملائكة قال الربيع بن أنس تزجر عما زجر الله به فى القرآن وقال السدى أنها
تزجر السحاب أى تسيره ، " فَٱلتَّٰلِيَٰتِ ذِكۡرًا "قال السدى
الملائكة يجيئون بالكتاب والقرآن من عند الله الى الناس وهذه الآية كقوله تعالى
" فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا " ، " إِنَّ إِلَٰهَكُمۡ لَوَٰحِد" هذا هو المقسم عليه أنه تعالى لا اله الا هو ، " رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا
بَيۡنَهُمَا وَرَبُّ ٱلۡمَشَٰرِقِ " هو رب السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات
وهو المالك المتصرف فى الخلق بتسخيره لها فى حركتها فى المشارق والمغارب واكتفى
بذكر المشارق عن المغارب لدلالتها عليه وقد صرح الله بذلك فى قوله عز وجل "
فلا أقسم برب المشارق والمغارب انا لقادرون " وقال تعالى فى آية أخرى "
رب المشرقين ورب المغربين " يعنى فى الشتاء والصيف للشمس والقمر .
إِنَّا
زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِزِينَةٍ ٱلۡكَوَاكِبِ ٦ وَحِفۡظٗا
مِّن كُلِّ شَيۡطَٰنٖ مَّارِدٖ ٧ لَّا يَسَّمَّعُونَ إِلَى ٱلۡمَلَإِ ٱلۡأَعۡلَىٰ وَيُقۡذَفُونَ
مِن كُلِّ جَانِبٖ ٨ دُحُورٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٞ وَاصِبٌ ٩ إِلَّا مَنۡ خَطِفَ ٱلۡخَطۡفَةَ فَأَتۡبَعَهُۥ شِهَابٞ
ثَاقِبٞ
١٠
" إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِزِينَةٍ ٱلۡكَوَاكِبِ
" يخبر الله تعالى أنه زين السماء الدنيا للناظرين اليها من أهل الأرض بزينة
الكواكب والكواكب
هنا بمعنى النجوم وعند العرب لا يفرقون بين النجم والكوكب فهم يطلقون التسمية على
ما يشاهدونه فى السماء من أى جرم سماوى مضىء سواء كان ضوءه منه أو ضوءه مستمد
ويعكسه وما كان قريب هو الشمس والقمر أما مابعد فى السماء فتارة يطلق عليه نجم
وتارة يطلق عليه كوكب وقد واكب القرآن ذلك حتى يبسط لهم الفهم ويصل المعنى اليهم
وكذلك ورد لفظ النجم والكوكب كما يعرفه العلم الحديث بأن النجم ما يشع ضوء وحرارة
وأن الكوكب فقط ما يعكس الضوء الذى يتلقاه وهذا يحتاج الى بحث مفصل وتناول للآيات
الواردة فى القرآن فى هذا الشأن ، " وَحِفۡظٗا مِّن كُلِّ شَيۡطَٰنٖ مَّارِد" " الشيطان
المارد هو المتمرد العاتى اذا أراد أن يسترق السمع أتاه شهاب ثاقب فأحرقه فحفظ
الله منه أهل الأرض ومن أفعاله ودسائسه الكاذبة كما قال تعالى " ولقد زينا
السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير " ،
" لَّا يَسَّمَّعُونَ إِلَى
ٱلۡمَلَإِ ٱلۡأَعۡلَىٰ " يقذفهم الله بالشهب لئلا يصلوا الى الملأ الأعلى وهى
السموات ومن فيها من الملائكة اذا تكلموا بما يوحيه الله تعالى بما يقوله من شرعه
وقدره ، " وَيُقۡذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِب" يرمون من أى جهة يقصدون السماء منها ، " دُحُورٗا " يرجم الشياطين رجما
يدحرون به ويزجرون ويمنعون من الوصول الى ذلك ، "وَلَهُمۡ عَذَابٞ وَاصِبٌ " ولهم فى الدار
الآخرة عذاب دائم موجع مستمر لا ينقطع كما قال تعالى " وأعتدنا لهم عذاب
السعير " ، " إِلَّا مَنۡ خَطِفَ ٱلۡخَطۡفَةَ فَأَتۡبَعَهُۥ شِهَابٞ ثَاقِب " الا من اختطف من
الشياطين الخطفة وهى الكلمة يسمعها من السماء فيلقيها الى الذى تحته ويلقيها الآخر
الى الذى تحته فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها بقدر الله تعالى قبل
أن يأتيه الشهاب فيحرقه فيذهب بها الآخر الى الكاهن وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال
" كان للشياطين مقاعد فى السماء فكانوا يستمعون الوحى وكانت النجوم لا تجرى
وكانت الشياطين لا ترمى فاذا سمعوا الوحى نزلوا الى الأرض فزادوا فى الكلمة تسعا
فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الشيطان اذا قصد مقعده جاء شهاب فلم
يخطئه حتى يحرقه فشكوا ذلك الى ابليس فقال ما هو الا من أمر حدث فبعث جنوده فاذا
رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى بين جبلى نخلة يعنى بطن نخلة فرجعوا الى
ابليس فأخبروه فقال هذا الذى حدث وهناك حديث مفصل عن ذلك عند الحديث عن الجن فى
قولهم " وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا * وأنا كنا نقعد
منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا * وأنا لا ندرى أشر أريد بمن
فى الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا " .
فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ
أَهُمۡ أَشَدُّ خَلۡقًا أَم مَّنۡ خَلَقۡنَآۚ إِنَّا خَلَقۡنَٰهُم مِّن طِينٖ
لَّازِبِۢ ١١ بَلۡ عَجِبۡتَ وَيَسۡخَرُونَ ١٢ وَإِذَا ذُكِّرُواْ لَا يَذۡكُرُونَ
١٣ وَإِذَا رَأَوۡاْ ءَايَةٗ يَسۡتَسۡخِرُونَ ١٤ وَقَالُوٓاْ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ
مُّبِينٌ ١٥ أَءِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابٗا
وَعِظَٰمًا أَءِنَّا لَمَبۡعُوثُونَ ١٦ أَوَ ءَابَآؤُنَا ٱلۡأَوَّلُونَ ١٧ قُلۡ
نَعَمۡ وَأَنتُمۡ دَٰخِرُونَ ١٨ فَإِنَّمَا هِيَ زَجۡرَةٞ
وَٰحِدَةٞ فَإِذَا هُمۡ يَنظُرُونَ ١٩
"فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ
أَهُمۡ أَشَدُّ خَلۡقًا أَم مَّنۡ خَلَقۡنَآۚ" يقول الله تعالى لرسوله صلى
الله عليه وسلم فسل هؤلاء المنكرين للبعث أيهم أشد خلقا هم أم السموات والأرض وما
بينهما من الملائكة والشياطين والمخلوقات العظيمة ؟ واذا كان الأمر كذلك فلم
ينكرون البعث وهم يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا كما قال عز وجل " لخلق
السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون " ، "
إِنَّا خَلَقۡنَٰهُم مِّن طِينٖ لَّازِبِۢ " بين الله للبشر أنهم خلقوا من شىء ضعيف وهو
الطين الذى يلتزق بعضه ببعض وقال ابن عباس رضى الله عنهما وعكرمة هو اللزج الجيد
وقال قتادة هو الذى يلزق باليد ، " بَلۡ عَجِبۡتَ وَيَسۡخَرُونَ " يقول
الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بل عجبت من تكذيب هؤلاء المنكرين للبعث
وأنت موقن مصدق بما أخبر الله تعالى من الأمر العجيب وهو اعادة الأجسام بعد فنائها
وهم بخلاف أمرك من شدة تكذيبهم ويسخرون مما تقول لهم من ذلك وقال قتادة عجب محمد
صلى الله عليه وسلم وسخر من ضلال بنى آدم ،"وَإِذَا ذُكِّرُواْ لَا يَذۡكُرُونَ
" واذا ذكرتهم بما أنزل الله من الحق ينكرونه ويعرضون عنه ويكذبوه ،
"وَإِذَا رَأَوۡاْ ءَايَةٗ يَسۡتَسۡخِرُونَ "واذا رأى هؤلاء الكفار المشركون دلالة
واضحة على الخلق والبعث يستهزئون
"وَقَالُوٓاْ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ مُّبِينٌ " يقول هؤلاء
للرسول صلى الله عليهوسلم ان هذا الذى جئت به الا سحر واضح بين ، " أَءِذَا
مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابٗا وَعِظَٰمًا أَءِنَّا لَمَبۡعُوثُونَ " يستبعدون البعث بعد
الموت وتحلل أجسادهم وتحولها الى تراب وعظام ، " أَوَ ءَابَآؤُنَا
ٱلۡأَوَّلُونَ " وينكرون كذلك بعث من سبقوهم من آبائهم الذين تحللوا من زمن
بعيد وتحولوا الى تراب وعظام نخرة ، " قُلۡ نَعَمۡ وَأَنتُمۡ دَٰخِرُونَ
" يبلغ الله رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يخبر هؤلاء الكفار ويقول لهم
نعم تبعثون يوم القيامة بعدما تصيرون ترابا وعظاما وأنتم داخرون أى حقيرون تحت
القدرة العظيمة كما قال تعالى " وكل أتوه داخرين " أى حقيرين تحت القدرة
العظيمة كما قال تعالى أيضا " ان الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم
داخرين" ،"فَإِنَّمَا هِيَ زَجۡرَةٞ وَٰحِدَةٞ فَإِذَا هُمۡ يَنظُرُونَ " يقول الله تعالى مخبرا عن قدرته
على البعث فانما هو أمر واحد من الله عز وجل يدعوهم دعوة واحدة أن يخرجوا من الأرض
فاذا هم قيام بين يديه ينظرون الى أهوال يوم القيامة .
وَقَالُواْ
يَٰوَيۡلَنَا هَٰذَا يَوۡمُ ٱلدِّينِ ٢٠ هَٰذَا يَوۡمُ ٱلۡفَصۡلِ ٱلَّذِي كُنتُم
بِهِۦ تُكَذِّبُونَ ٢١ ۞ٱحۡشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزۡوَٰجَهُمۡ وَمَا
كَانُواْ يَعۡبُدُونَ ٢٢ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَٱهۡدُوهُمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ
ٱلۡجَحِيمِ ٢٣ وَقِفُوهُمۡۖ إِنَّهُم مَّسُۡٔولُونَ ٢٤ مَا لَكُمۡ لَا تَنَاصَرُونَ ٢٥
بَلۡ هُمُ ٱلۡيَوۡمَ مُسۡتَسۡلِمُونَ ٢٦
"وَقَالُواْ
يَٰوَيۡلَنَا هَٰذَا يَوۡمُ ٱلدِّينِ " يخبر الله تعالى عن الكفار وما
يقولونه يوم القيامة أنهم يرجعون على أنفسهم بالملامة ويعترفوا بأنهم كانوا ظالمين
لأنفسهم فى الدار الدنيا فاذا عاينوا أهوال يوم القيامة ندموا كل الندم حيث لا
ينفعهم الندم ، " هَٰذَا يَوۡمُ ٱلۡفَصۡلِ ٱلَّذِي كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَ
" ترد الملائكة والمؤمنون على قول هؤلاء الكفار على وجه التقريع والتوبيخ هذا
اليوم الذى يفصل فيه كل الأمور وتحسم ويجازى كل عامل بعمله وقد كانوا من قبل
يكذبون به فاذا هو قد تحقق ويأمر الله تعالى الملائكة أن تميز الكفار من المؤمنين
فى الموقف فى محشرهم ومنشرهم ولهذا قال " ٱحۡشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ
وَأَزۡوَٰجَهُمۡ وَمَا كَانُواْ يَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ " يأمر الله
الملائكة أن يحشروا أى يجمعوا الكفارالذين ارتكبوا الظلم وهو الكفر فلا ظلم للنفس
والغير أكبر من الكفر والخروج عن أمر الله وطاعته وقال النعمان بن بشير رضى الله
عنه يعنى بأزواجهم أشباههم وأمثالهم أى يحشروا هم وأمثالهم وقال سفيان الثورى عن
عمر بن الخطاب أشباههم ، قال يجىء أصحاب الزنا مع أصحاب الزنا وأصحاب الربا مع
أصحاب الربا وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر وعن مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس
أزواجهم قرناؤهم وما كانوا يعبدون من دون الله أى من الأصنام والأنداد تحشر معهم
فى أماكنهم ، " فَٱهۡدُوهُمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡجَحِيمِ " يقول الله
تعالى للملائكة أرشدوا هؤلاء الكفار الى طريق جهنم كقوله تعالى " ونحشرهم يوم
القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا " ،
" وَقِفُوهُمۡۖ إِنَّهُم مَّسُۡٔولُونَ " ويأمر الله الملائكة أن
يسئلوا هؤلاء الكفار عن أعمالهم وأقوالهم التى صدرت عنهم فى الدار الدنيا وقال ابن
عباس يعنى احبسوهم انهم محاسبون وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " أيما داع دعا الى شىء كان موقوفا معه الى يوم القيامة
لا يغادره ولا يفارقه وان دعا رجل رجلا " ثم قرأ " وقفوهم انهم مسؤولون
" ، " مَا لَكُمۡ لَا تَنَاصَرُونَ " يقال للكفار على سبيل التقريع
والتوبيخ كيف لا ينصر بعضكم بعضا كما زعمتم أنكم جميع منتصر ، " بَلۡ هُمُ
ٱلۡيَوۡمَ مُسۡتَسۡلِمُونَ " يتحدث الله تعالى عن حال الكفار أنهم يوم
القيامة مستسلمون لأمر الله لا يخالفونه ولا يحيدون عنه فهم أذلاء خاضعون وانزاح
عنهم كل ما كانوا يزعمون فى الحياة الدنيا .
وَأَقۡبَلَ
بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ يَتَسَآءَلُونَ ٢٧ قَالُوٓاْ إِنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَأۡتُونَنَا
عَنِ ٱلۡيَمِينِ ٢٨ قَالُواْ بَل لَّمۡ تَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٢٩ وَمَا كَانَ
لَنَا عَلَيۡكُم مِّن سُلۡطَٰنِۢۖ بَلۡ كُنتُمۡ قَوۡمٗا
طَٰغِينَ ٣٠ فَحَقَّ عَلَيۡنَا قَوۡلُ رَبِّنَآۖ إِنَّا لَذَآئِقُونَ ٣١
فَأَغۡوَيۡنَٰكُمۡ إِنَّا كُنَّا غَٰوِينَ ٣٢ فَإِنَّهُمۡ يَوۡمَئِذٖ
فِي ٱلۡعَذَابِ مُشۡتَرِكُونَ ٣٣ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَفۡعَلُ بِٱلۡمُجۡرِمِينَ ٣٤
إِنَّهُمۡ كَانُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ
يَسۡتَكۡبِرُونَ ٣٥ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوٓاْ ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٖ
مَّجۡنُونِۢ ٣٦ بَلۡ جَآءَ بِٱلۡحَقِّ وَصَدَّقَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ٣٧
"
وَأَقۡبَلَ بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ يَتَسَآءَلُونَ " يذكر الله تعالى أن الكفار يتلاومون فى
عرصات يوم القيامة كما يتخاصمون فى دركات النار كما قال تعالى " فيقول
الضعفاء للذين استكبروا انا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار * قال
الذين استكبروا انا كل فيها ان الله قد حكم بين العباد " ، " قَالُوٓاْ
إِنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَأۡتُونَنَا عَنِ ٱلۡيَمِينِ " قال السدى يقول الذين
اتبعوا لمن أضلوهم من كبراءهم ومن الشياطين أنكم كنتم تأتوننا من قبل الحق وتزينوا
لنا الباطل وتصدونا عن الحق وقال ابن زيد يقولوا لهم أنكم كنتم تحولون بيننا وبين
الخير ورددتمونا عن الاسلام والايمان والعمل بالخير الذى أمرنا به وقال عكرمة انكم
كنتم تأتوننا من حيث نأمنكم وقال ابن عباس يقولون كنتم تقهروننا بالقدرة منكم
علينا لأنا كنا أذلاء وكنتم أعزاء وقال قتادة قالت الانس للجن انكم كنتم تأتوننا
عن اليمين من قبل الخير فتنهونا عنه وتبطئونا عنه وقال الحسن يأتيه عند كل خير
يريده فيصده عنه ، " قَالُواْ بَل
لَّمۡ تَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ " تقول القادة من الجن والانس للأتباع ما الأمر
كما تزعمون بل كانت قلوبكم منكرة للايمان قابلة للكفر والعصيان ، " وَمَا
كَانَ لَنَا عَلَيۡكُم مِّن سُلۡطَٰنِۢۖ بَلۡ كُنتُمۡ قَوۡمٗا طَٰغِينَ " يرد القادة من
الجن والانس على الأتباع أنكم كان فيكم طغيان ومجاوزة للحق فلهذا استجبتم لنا
وتركتم الحق الذىجاءتكم به الأنبياء وأقاموا لكم الحجج على صحة ما جاؤكم به
فخالفتموهم "فَحَقَّ عَلَيۡنَا
قَوۡلُ رَبِّنَآۖ إِنَّا لَذَآئِقُونَ "يقول الكبراء للمستضعفين حقت علينا
كلمة الله انا من الأشقياء الذائقين للعذاب يوم القيامة ، "
فَأَغۡوَيۡنَٰكُمۡ إِنَّا كُنَّا غَٰوِينَ " يقولن أيضا لهم دعوناكم الى
الضلالة وما نحن فيه فاستجبتم لنا ، " فَإِنَّهُمۡ يَوۡمَئِذٖ فِي ٱلۡعَذَابِ مُشۡتَرِكُونَ
" فيقول الله تعالى الجميع فى النار يشترك فى العذاب كل بحسبه ، "
إِنَّا كَذَٰلِكَ نَفۡعَلُ بِٱلۡمُجۡرِمِينَ " وهذا هو الذى نفعله بهؤلاء
الذين أجرموا فى حق الله بكفرهم وصدهم عن الحق ، " إِنَّهُمۡ كَانُوٓاْ إِذَا
قِيلَ لَهُمۡ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ يَسۡتَكۡبِرُونَ " هؤلاء الكفار
كانوا فى الدار الدنيا يستكبرون عن قول لا اله الا الله كما كان يقولها المؤمنون
ويقرون لله بالألوهية والوحدانية وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله ، فمن
قال لا اله الا الله فقد عصم منى ماله ونفسه الا بحقه وحسابه على الله عز وجل
" فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر من الله بالدعوة الى الحق والوحدانية ونشر
دين الله ومقاومة الكفار لأنهم لن يسكتوا عن الحق اذا ملكوا للقوة سبيلا كما نراه
فى عصرنا الحالى ولن يتوانوا عن اضطهاد من اتبعوا دين الله فالصراع هو صرع عقيدة
الى يوم القيامة ودين الله أحق أن يتبع وهناك ما يسمى بالحرب الوقائية أى تحارب من
يتربص بك حماية لنفسك منه فالكفار لم ولن يتوانوا عن قتل واضطهاد المسلمين اذا
رأوا فيهم ضعفا ، " وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوٓاْ ءَالِهَتِنَا
لِشَاعِرٖ
مَّجۡنُونِۢ " يخبر الله تعالى عن المشركين فى مكة أنهم يقولون أنحن نترك
عبادة آلهتنا وآلهة آبائنا عن قول هذا الشاعر المجنون يعنون رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، " بَلۡ جَآءَ بِٱلۡحَقِّ وَصَدَّقَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ " يقول الله
تعالى تكذيبا لهؤلاء المشركين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالحق فى جميع
شرعة الله تعالى وصدق المرسلين من قبله فيما أخبروا عنه من الصفات الحميدة
والمناهج السديدة وقال الله تعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم" ما يقال
لك الا ما قد قيل للرسل من قبلك " أى ما يقوله المشركون للرسول صلى الله عليه
وسلم ليس بجديد بل قيل للرسل من قبله .
إِنَّكُمۡ
لَذَآئِقُواْ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَلِيمِ ٣٨ وَمَا تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ
تَعۡمَلُونَ ٣٩ إِلَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلۡمُخۡلَصِينَ ٤٠ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ
رِزۡقٞ
مَّعۡلُومٞ ٤١ فَوَٰكِهُ وَهُم مُّكۡرَمُونَ ٤٢ فِي جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ ٤٣
عَلَىٰ سُرُرٖ مُّتَقَٰبِلِينَ ٤٤ يُطَافُ عَلَيۡهِم بِكَأۡسٖ
مِّن مَّعِينِۢ ٤٥ بَيۡضَآءَ لَذَّةٖ لِّلشَّٰرِبِينَ ٤٦ لَا فِيهَا غَوۡلٞ
وَلَا هُمۡ عَنۡهَا يُنزَفُونَ ٤٧ وَعِندَهُمۡ قَٰصِرَٰتُ ٱلطَّرۡفِ عِينٞ
٤٨ كَأَنَّهُنَّ بَيۡضٞ مَّكۡنُونٞ ٤٩
" إِنَّكُمۡ لَذَآئِقُواْ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَلِيمِ " يقول الله تعالى مخاطبا الناس ان العذاب الأليم سيقع عليكم يوم القيامة ،" وَمَا تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ " وسيجزون بما كانوا يعملون فى الحياة الدنيا ان خيرا فخير وان شرا فشر ، " إِلَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلۡمُخۡلَصِينَ " استثنى الله من هذا العذاب عباده المخلصين ليسوا يذوقون العذاب الأليم ولا يناقشون فى الحساب بل يتجاوز عن سيئاتهم ان كان لهم سيئات ويجزون الحسنة بعشر أمثالها الى سبعمائة ضعف الى أضعاف كثيرة الى ما يشاء الله تعالى من التضعيف كما قال تعالى " والعصر ان الانسان لفى خسر * الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " وكما قال " لقد خلقنا الانسان فى أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " ، " أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ رِزۡقٞ مَّعۡلُوم" أولئك لهم رزق معلوم وهو الجنة كما قال قتادة والسدى ، " فَوَٰكِهُ وَهُم مُّكۡرَمُونَ " فسر الله تعالى هذا الرزق فى الجنة أنه الفواكه الكثيرة المتنوعة وهم يكرمون بأن يخدمون ويرفهون وينعمون ، " فِي جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ " يتمتعون ويرزقون جنات النعيم المقيم التى ينعمون فيها أبدا ، " عَلَىٰ سُرُرٖ مُّتَقَٰبِلِينَ " ينظر بعضهم الى بعض وهم مسرورون ، " يُطَافُ عَلَيۡهِم بِكَأۡسٖ مِّن مَّعِينِۢ " المعين هنا هو خمر الجنة وقد نزهه الله تعالى أى يطاف عليهم بخمر من أنهار جارية " بَيۡضَآءَ " خمر الجنة بيضاء اللون مثل الحليب قال زيد بن أسلم خمر جارية بيضاء أى لونها مشرق حسن بهى لا كخمر الدنيا فى منظرها البشع الردىء من حمرة أو سواد أو اصفرار أو كدورة الى غير ذلك مما ينفر الطبع السليم لا يخافون انقطاعها ولا فراغها ، " لَذَّةٖ لِّلشَّٰرِبِينَ " أى طعمها طيب لمن يشربها كلونها وطيب الطعم دليل على طيب الريح بخلاف خمر الدنيا فى جميع ذلك ، " لَا فِيهَا غَوۡل" يعنى لا تؤثر فيمن يشربها غولا وهو وجع البطن ليس لها نظير ، خمر الجنة منزهة عن الآفات التى فى خمر الدنيا من صداع الرأس ووجع البطن وهو الغول وذهابها بالعقل ويجعل الله ما حرمه فى الدنيا حل فى الآخرة بمذاق وطعم ومتعة وقال ابن عباس وغيره ليس لها وجع كما تفعله خمر الدنيا من القولنج ونحوه لكثرة مائيتها وارتفاع نسبة الكحول بها ونحن نعلم فى عصرنا الحديث مضار الخمر والادمان وما يفعله من أمراض عضوية ونفسية ومجتمعية وقيل المراد بالغول هنا صداع الرأس وقال قتادة هو صداع الرأس ووجع البطن وقال السدى لاتغتال عقولهم كما قال الشاعر
فما
زالت الكأس تغتالنا وتذهب بالأول الأول
" وَلَا هُمۡ عَنۡهَا يُنزَفُونَ " قال مجاهد لا تذهب عقولهم وقال الضحاك عن ابن عباس فى الخمر أربع خصال : السكر والصداع والقىء والبول فذكر الله تعالى خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال كما ذكر فى سورة الصافات ،" وَعِندَهُمۡ قَٰصِرَٰتُ ٱلطَّرۡفِ عِين" من نعيم أهل الجنة أن الله يزوجهم بزوجات خير من زوجاتهم فى الحياة الدنيا عفيفات لا ينظرن الى غير أزواجهن وعين أى حسان الأعين وقيل ضخام الأعين وهو يرجع الى الأول وهى النجلاء العيناء فوصف عيونهن بالحسن والعفة كما قالت امرأة العزيز فى يوسف عليه السلام فوصفته بالجمال والعفة حين أخرجته على النسوة فأعظمنه وأكبرنه وظنن أنه ملك من الملائكة لحسنه وبهاء منظره وقلن " وقلن حاش لله ما هذا بشرا ان هذا الا ملك كريم " قالت وهى تصفه " فذلكن الذى لمتتنى فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم " أى هو مع هذا الجمال عفيف نقى وهكذا الحور العين كما فى سورة الرحمن " خيرات حسان " ، " كَأَنَّهُنَّ بَيۡضٞ مَّكۡنُون " البيض المكنون هو اللؤلؤ المستقر والكامن فى البحر ويكون أجود اللؤلؤ كما فى بيت أبى دهيل الشاعر
وهى
زهراء مثل لؤلؤة الغوا ص ميزت من جوهر
مكنون
وقال
الحسن " كأنهن بيض مكنون " يعنى محصون لم تمسه الأيدى وقال السدى بياض
البيض حين ينزع قشرته ،وعن أم سلمة رضى الله عنهما قالت قلت يا رسول الله أخبرنى
عن قول الله عز وجل "حور عين"
قال " العين الضخام العيون شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر " قلت
: يا رسول الله أخبرنى عن قول الله عز وجل " :انهن بيض مكنون " قال
" رقتهن كرقة الجلدة التى رأسها فى داخل البيضة التى تلى القشر وهى الفرقى
" ، وعن أنس رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا
أول الناس خروجا اذا بعثوا ، وأنا خطيبهم اذا وفدوا ، وأنا مبشرهم اذا حزنوا ،
وأنا شفيعهم اذا حبسوا ، لواء الحمد يومئذ بيدى ، وأنا أكرم ولد آدم على الله عز
وجل ولا فخر ، يطوف على ألف خادم كأنهن البيض المكنون - أو اللؤلؤ المكنون "
.
فَأَقۡبَلَ
بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ يَتَسَآءَلُونَ ٥٠ قَالَ قَآئِلٞ
مِّنۡهُمۡ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٞ ٥١ يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُصَدِّقِينَ ٥٢ أَءِذَا مِتۡنَا
وَكُنَّا تُرَابٗا وَعِظَٰمًا أَءِنَّا لَمَدِينُونَ ٥٣ قَالَ هَلۡ أَنتُم
مُّطَّلِعُونَ ٥٤ فَٱطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِي سَوَآءِ ٱلۡجَحِيمِ ٥٥ قَالَ
تَٱللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرۡدِينِ ٥٦ وَلَوۡلَا نِعۡمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ
ٱلۡمُحۡضَرِينَ ٥٧ أَفَمَا نَحۡنُ بِمَيِّتِينَ ٥٨ إِلَّا مَوۡتَتَنَا ٱلۡأُولَىٰ
وَمَا نَحۡنُ بِمُعَذَّبِينَ ٥٩ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ٦٠
لِمِثۡلِ هَٰذَا فَلۡيَعۡمَلِ ٱلۡعَٰمِلُونَ ٦١
" فَأَقۡبَلَ
بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ يَتَسَآءَلُونَ " تبخبر الله تعالى عن أهل الجنة أنه أقبل
بعضهع على بعض يتسلءلون عن أحوالهم وكيف كانوا فى الدنيا وماذا كانوا يعانون فيها
وذلكمن حديثهم على شرابهم واجتماعهم فى تنادمهم ومعاشرتهم فى مجالسهم وهو جلوس على
السرر والخدم بين أيديهم يسعون ويجيئون بكل خير عظيم من مآكل ومشارب ومجالس وغير
ذلك مما عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فالله يبدلهم مجالس الدنيا
بمجالس الآخرة وما فيها من نعيم مجالس الدنيا الحافلة باللغو واللهو والبعد عن ذكر
الله والانشغال بها بهموم الدنيا الزائلة ومجالس الآخرة التى هى جزاء من عند الله
فى نعيم دائم دون شقاء ولا عناء , " قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ إِنِّي كَانَ لِي
قَرِين" قال ابن عباس هو الرجل المشرك يكون له صاحب من أعل الايمان فى الدنيا
وقال مجاهد القرين هو الشيطان ولا تنافى بينكلام ابن عباس ومجاهد فان الشيطان يكون
من الجن فيوسوس فى النفس ويكون من الانس فيقول كلاما تسمعه الاذنان وكلاهما
يتعاونان كما قال تعالى" شياطين الجن والانس يوحى بعضهم الى بعض زخرف القول
غرورا " وكل منهم يوسوس كما قال الله تعالى " من شر الوسواس الخناس *
الذى يوسوس فى صدور الناس * من الجنة والناس " ، " يَقُولُ أَءِنَّكَ
لَمِنَ ٱلۡمُصَدِّقِينَ " يقول هذا القرين قرين السوء على مجه التعجب
والتكذيب والاستبعاد والكفر والعناد أأنت تصدق بالبعث والنشور والحساب والجزاء ،
" أَءِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابٗا وَعِظَٰمًا أَءِنَّا لَمَدِينُونَ " مدينون أى محاسبون وهذا
ما كان يقوله القرين مشككا فى الآخرة أى كيف نبعث ونحاسب بعد أن نموت ونصير ترابا
وعظاما وقال ابن عباس وغيره مدينون أى مجزيون بأعمالنا وكلاهما صحيح ، " قَالَ هَلۡ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ " يقول
المؤمن لأصحابه وجلسائه من أهل الجنة وهو يتطلع الى أهل النار هل ترون ما يحدث لهم
،" فَٱطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِي سَوَآءِ ٱلۡجَحِيمِ " عنما يطلع المؤمن فى
الجنة فيرى قرين السوء فى فى لتجحيم التى تحاصره من كل مكان مسنوية وقال ابن عباس
سواء الجحيم وسط الجحيم وقال الحسن البصرى فى وسط الجحيم كأنه شهاب يتقد ، وقال
كعب الأحبار فى الجنة كوى اذا أراد أحد من أهلها أن ينظر الى عدوه فى النار اطلع
فازداد شكرا وقال قتادة ذكر لنا أنه اطلع فرأى جماجم القوم تغلى ،" قَالَ
تَٱللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرۡدِينِ " يقول المؤمن مخاطبا للكافر والله ان كدت
لتهلكنى وتقودنى الى الردى وهو الهلاك لو أطعتك ،" وَلَوۡلَا نِعۡمَةُ رَبِّي
لَكُنتُ مِنَ ٱلۡمُحۡضَرِينَ " ويقول المؤمن للكافر لولا فضل الله على لكنت
مثلك فى سواء الجحيم حيث أنت محضر معك فى العذاب ولكنه تفضل على ورحمنى فهدانى
للايمان وأرشدنى الى توحيده ، "
أَفَمَا نَحۡنُ بِمَيِّتِينَ " هذا من كلام المؤمن مغبطا نفسه بما
أعطاه الله تعالى من الخلد فى الجنة والاقامة فى دار الكرامة بلا موت فيها ولا نصب
ولا عذاب " إِلَّا مَوۡتَتَنَا
ٱلۡأُولَىٰ وَمَا نَحۡنُ بِمُعَذَّبِينَ " أى نحن لسنا بميتين الا الموتة التى
متناها فى الدنيا وبعثنا بعدها فى الآخرة وبعدنا عن العذاب فى النار ، "
إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ " يقول المؤمنون أن الذى نحن فيه
هو الفوز والمفازة العظيمة التى ليس بعدها فوز ، " لِمِثۡلِ هَٰذَا
فَلۡيَعۡمَلِ ٱلۡعَٰمِلُونَ" قال ابن جرير هذا من كلام الله تعالى وقال قتادة
من كلام أهل الجنة ومعناه لمثل هذا النعيم وهذا الفوز فليعمل العاملون فى الدنيا
ليصيروا اليه فى الآخرة ، قال السدى اذا كان يوم القيامة يذكر المؤمن شريكه الكافر
فيقول " إِنِّي كَانَ لِي قَرِين* يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُصَدِّقِينَ * أَءِذَا مِتۡنَا
وَكُنَّا تُرَابٗا وَعِظَٰمًا أَءِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلۡ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ * فَٱطَّلَعَ
فَرَءَاهُ فِي سَوَآءِ ٱلۡجَحِيمِ " وقال السدى الجنة عالية والنار هاوية
يرى الله المؤمن وهو فى الجنة شريكه فى وسط الجحيم من بين لأهل النار فاذا رآه
المؤمن عرفه قَالَ " تَٱللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرۡدِينِ * وَلَوۡلَا نِعۡمَةُ
رَبِّي لَكُنتُ مِنَ ٱلۡمُحۡضَرِينَ * أَفَمَا نَحۡنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوۡتَتَنَا ٱلۡأُولَىٰ وَمَا نَحۡنُ
بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ * لِمِثۡلِ هَٰذَا
فَلۡيَعۡمَلِ ٱلۡعَٰمِلُونَ " .
أَذَٰلِكَ
خَيۡرٞ
نُّزُلًا أَمۡ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ ٦٢ إِنَّا جَعَلۡنَٰهَا فِتۡنَةٗ
لِّلظَّٰلِمِينَ ٦٣ إِنَّهَا شَجَرَةٞ تَخۡرُجُ فِيٓ أَصۡلِ ٱلۡجَحِيمِ ٦٤ طَلۡعُهَا كَأَنَّهُۥ رُءُوسُ
ٱلشَّيَٰطِينِ ٦٥ فَإِنَّهُمۡ لَأٓكِلُونَ مِنۡهَا فَمَالُِٔونَ مِنۡهَا ٱلۡبُطُونَ ٦٦ ثُمَّ إِنَّ
لَهُمۡ عَلَيۡهَا لَشَوۡبٗا مِّنۡ حَمِيمٖ ٦٧ ثُمَّ إِنَّ مَرۡجِعَهُمۡ لَإِلَى ٱلۡجَحِيمِ ٦٨ إِنَّهُمۡ
أَلۡفَوۡاْ ءَابَآءَهُمۡ ضَآلِّينَ ٦٩ فَهُمۡ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ يُهۡرَعُونَ
٧٠
"
أَذَٰلِكَ خَيۡرٞ نُّزُلًا "يقول الله تعالى أهذا الذى ذكره من الجنة وما فيها
من مآكل ومشارب وزوجات جميلات عفيفات وغير ذلك من الملاذ خير ضيافة وعطاء ، "
أَمۡ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ " أم شجرة الزقوم التى فى جهنم وقد يحتمل أن يكون
المراد بذلك شجرة واحدة معينة كما قال بعضهم أنها شجرة تمتد فروعها الى جميع محال
جهنم كما أن شجرة طوبى ما من دار فى الجنة الا وفيها منها غصن وقد يحتمل أن يكون
المراد بذلك جنس شجر يقال له الزقوم كما قال تعالى " وشجرة تخرج من طور سيناء
تنبت بالدهن وصبغ للآكلين" يعنى شجرة الزيتون ويؤيد ذلك قوله تعالى " ثم
انكم أيها الضالون المكذبون * لآكلون من شجر من زقوم " ، " إِنَّا
جَعَلۡنَٰهَا فِتۡنَةٗ لِّلظَّٰلِمِينَ " قال قتادة ذكرت شجرة الزقوم فافتتن بها
أهل الضلالة من الكفار والمشركين وقالوا صاحبكم ينبئكم أن فى النار شجرة والنار
تأكل الشجر فأنزل الله تعالى " إِنَّهَا شَجَرَةٞ تَخۡرُجُ فِيٓ أَصۡلِ ٱلۡجَحِيمِ
" يقول الله تعالى ردا عليهم أن هذه الشجرة غذيت من النار ومنها خلقت وخرجت
وأن أصل منبتها فى قرار النار وهذا من اعجاز الله وفى عصرنا الحديث مواد لا تتأثر
بالنار مثل ملابس رجال الاطفاء وقال مجاهد قال أبوجهل ساخرا انما الزقوم التمر
والزبد أتزقمه ومعنى الآية انما أخبرناك يا محمد بشجرة الزقوم اختبارا تختبر به
الناس من يصدق منهم ممن يكذب كقوله تعالى " وما جعلنا الرؤيا التى أريناك الا
فتنة للناس والشجرة الملعونة فى القرآن ونخوفهم فما يزيدهم الا طغيانا كبيرا"
،" طَلۡعُهَا كَأَنَّهُۥ رُءُوسُ ٱلشَّيَٰطِينِ" الطلع هو المنظر أى أن
منظرها كأنه رءوس الشياطين تبشيع لها وتكريه لذكرها وانما شبهها الله برءوس
الشياطين وان لم تكن معروفة عند المخاطبين لأنه استقر فى النفوس أن الشياطين قبيحة
المنظر ، " فَإِنَّهُمۡ لَأٓكِلُونَ مِنۡهَا فَمَالُِٔونَ مِنۡهَا ٱلۡبُطُونَ " ذكر الله
تعالى أن أهل جهنم يأكلون من هذه الشجرة التى لا أبشع منها ولا أقبح من منظرها مع
ما هى عليه من سوء الطعم والريح والطبع فانهم ليضطرون الى الأكل منها لأنهم لا
يجدون الا اياها وما هو فى معناها كما قال تعالى
"ليس لهم طعام الا من ضريع * لا يسمن ولا يغنى من جوع " وعن ابن
عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية وقال " اتقوا الله فلو
أن قطرة من الزقوم قطرت فى بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن
يكون طعامه ؟ "، " ثُمَّ إِنَّ لَهُمۡ عَلَيۡهَا لَشَوۡبٗا مِّنۡ حَمِيم" الشوب
هنا هو الشراب وقال ابن عباس شربا من حميم
يعنى شرب الحميم على الزقوم ة وعن أبى أمامة الباهلى رضى الله عنه عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول " يقرب - يعنى الى أهل النار - ماء
فيتكرهه فاذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فيه فاذا شربه قطع أمعاءه حتى
تخرج من دبره " وعن سعيد بن جبير قال اذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة
الزقوم فأكلوا منها فاختلست جلود وجوههم فلو أن مارا مر بهم يعرفهم لعرفهم بوجوههم
فيها ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون فيغاثوا بماء كالمهل وهو الذى قد انتهى حره
فاذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التى قد سقطت عنها الجلود ويصهر
ما فى بطونهم فيمشون أمعاءهم وتتساقط جلودهم ثم يضربون بمقامع من حديد فيسقط كل
عضو على حياله يدعون بالثبور ، "
ثُمَّ إِنَّ مَرۡجِعَهُمۡ لَإِلَى ٱلۡجَحِيمِ " يقول الله تعالى ثم ان
مرد أهل جهنم بعد هذا الفصل من العذاب من طعام وشراب الى نار تتأرجح وجحيم تتوقد
وسعير تتوهج فتارة فى هذا وتارة فى هذا كما قال تعالى " يطوفون بينها وبين
حميم آن " ، " إِنَّهُمۡ أَلۡفَوۡاْ ءَابَآءَهُمۡ ضَآلِّينَ "
يقول الله تعالى عن أهل جهنم انما جازينهم بذلك لأنهم وجدوا آباءهم على الضلالة
فاتبعوهم فيها بمجرد ذلك من غير دليل ولا برهان ولهذا قال تعالى عنهم "
فَهُمۡ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ يُهۡرَعُونَ " يهرعون أى يسارعون وقال مجاهد
شبيه بالهرولة أى يسارعون الى اتباع آباءهم الضالين ويسيرون على خطاهم .
وَلَقَدۡ
ضَلَّ قَبۡلَهُمۡ أَكۡثَرُ ٱلۡأَوَّلِينَ ٧١ وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا فِيهِم
مُّنذِرِينَ ٧٢ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُنذَرِينَ ٧٣ إِلَّا عِبَادَ
ٱللَّهِ ٱلۡمُخۡلَصِينَ ٧٤
"وَلَقَدۡ ضَلَّ قَبۡلَهُمۡ
أَكۡثَرُ ٱلۡأَوَّلِينَ " يخبر الله تعالى عن الأمم الماضية أن أكثرهم كانوا
ضالين يجعلون مع الله آلهة أخرى ، "
وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ " وذكر الله تعالى أنه أرسل
فيهم رسل منذرين ينذرونهم بأس الله ويحذرونهم سطوته ونقمته ممن كفر به وعبد غيره
وأنهم تمادوا على مخالفة رسلهم وتكذيبهم فأهلك المكذبين ودمرهم ونجى المؤمنين
ونصرهم وظفرهم ولهذا قال تعالى" فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ
ٱلۡمُنذَرِينَ * إِلَّا عِبَادَ ٱللَّهِ
ٱلۡمُخۡلَصِينَ " يدعو الله الى التدبر والنظر والتفكر فى سوء العاقبة لمن
كذب من الذين أنذرتهم الرسل وما حاق بهم من هلاك ودمار لم ينجو منه الا عباد الله
المخلصين له أو الذين اصطفاهم لايمانهم به واختارهم واستخلصهم من بين عباده .
وَلَقَدۡ
نَادَىٰنَا نُوحٞ فَلَنِعۡمَ ٱلۡمُجِيبُونَ ٧٥ وَنَجَّيۡنَٰهُ وَأَهۡلَهُۥ مِنَ
ٱلۡكَرۡبِ ٱلۡعَظِيمِ ٧٦ وَجَعَلۡنَا ذُرِّيَّتَهُۥ هُمُ ٱلۡبَاقِينَ ٧٧
وَتَرَكۡنَا عَلَيۡهِ فِي ٱلۡأٓخِرِينَ ٧٨ سَلَٰمٌ عَلَىٰ نُوحٖ
فِي ٱلۡعَٰلَمِينَ ٧٩ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٨٠ إِنَّهُۥ مِنۡ
عِبَادِنَا ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٨١ ثُمَّ أَغۡرَقۡنَا ٱلۡأٓخَرِينَ ٨٢ ۞
"
وَلَقَدۡ نَادَىٰنَا نُوحٞ فَلَنِعۡمَ ٱلۡمُجِيبُونَ " لما ذكر الله تعالى عن أكثر
الأولين أنهم ضلوا عن سبيل النجاة شرع يبين ذلك مفصلا فذكر نوحا عليه السلام وما
لقى من قومه من التكذيب وأنه لم يؤمن معه الا قليل مع طول المدة لبث فيهم ألف سنة
الا خمسين عاما فلما طال عليه ذلك واشتد عليه تكذيبهم وكلما دعاهم ازدادوا نفرة
فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر فغضب الله تعالى لغضبه عليهم واستجاب له ولدعائه عليهم
وامتدح الله هذه الاستجابة التى جاءتة منه استجابة لنصرة رسوله ونبيه نوح عليه
السلام التى كانت سريعة بعد دعاء نوح باهلاكهم وقوية حتى اجتثتهم من على وجه الأرض
فقد سأل الله أن لا يدع للكافرين مكان على الأرض فأمره ان يحمل معه القليل الذين
آمنوا معه ، "وَنَجَّيۡنَٰهُ وَأَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلۡكَرۡبِ ٱلۡعَظِيمِ "
فانجاه الله وأهله ومن اتبعه من هذا الكرب وهو التكذيب والأذى ووصفه الله بالعظم
لأن معاناته استمرت لأجل طويل ، " وَجَعَلۡنَا ذُرِّيَّتَهُۥ هُمُ
ٱلۡبَاقِينَ " قال ابن عباس لم تبق الا ذرية نوح عليه السلام وقال قتادة
الناس كلهم من ذرية نوح عليه السلام ، " وَتَرَكۡنَا عَلَيۡهِ فِي
ٱلۡأٓخِرِينَ " قال قتادة والسدى أبقى الله على نوح عليه السلام الثناء الحسن
فى الآخرين وقال ابن عباس يذكر بخير وقال مجاهد يعنى لسان صدق للأنبياء كلهم ،
" سَلَٰمٌ عَلَىٰ نُوحٖ فِي ٱلۡعَٰلَمِينَ " مفسر لما أبقى الله عليه من الذكر
الجميل والثناء الحسن أنه يسلم عليه فى جميع الطوائف والأمم ،" إِنَّا
كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ " يقول الله تعالى هكذا نجزى من أحسن من
العباد فى طاعة الله تعالى نجعل له لسان صدق يذكر به بعده بحسب مرتبته فى ذلك
،" إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُؤۡمِنِينَ " يمتدح الله نوح عليه
السلام ويصفه أنه من عباده المؤمنين به يصفه بالعبودية له والايمان به المصدقين
الموحدين الموقنين ، " ثُمَّ أَغۡرَقۡنَا ٱلۡأٓخَرِينَ " أهلك الله
المكذبين بنوح عليه السلام بالغرق بالطوفان فلم يبق منهم عين تطرف ولا ذكر ولا عين
ولا أثر ولا يعرفون الا بهذه الصفة القبيحة .
وَإِنَّ
مِن شِيعَتِهِۦ لَإِبۡرَٰهِيمَ ٨٣ إِذۡ جَآءَ رَبَّهُۥ بِقَلۡبٖ
سَلِيمٍ ٨٤ إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوۡمِهِۦ مَاذَا تَعۡبُدُونَ ٨٥ أَئِفۡكًا
ءَالِهَةٗ دُونَ ٱللَّهِ تُرِيدُونَ ٨٦ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ
ٱلۡعَٰلَمِينَ ٨٧
" وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِۦ
لَإِبۡرَٰهِيمَ " يتحث الله بعد الحديث عن نوح عليه السلام عن ابراهيم عليه
السلام فيقول أنه من أهل دين نوح عليه السلام وقال مجاهد على منهاجه وسنته ،
" إِذۡ جَآءَ رَبَّهُۥ بِقَلۡبٖ سَلِيمٍ " قال الحسن أن القلب
السليم الذى تمتع به ابراهيم عليه السلام هو السليم من الشرك وقال ابن عباس يعنى
شهادة أن لا اله الا الله وعن عوف قال قلت لمحمد بن سيرين ما القلب السليم ؟ قال :
يعلم أن الله حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من فى القبور ، "
إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوۡمِهِۦ مَاذَا تَعۡبُدُونَ " أنكر ابراهيم عليه
السلام على أبيه وقومه عبادة الأصنام والأنداد ولهذا قال تعالى على لسانه "
أَئِفۡكًا ءَالِهَةٗ دُونَ ٱللَّهِ تُرِيدُونَ" الافك الكذب يعيب عليهم اتخاذ آلهة وأنداد من
دون الله بالباطل فهى لا تضر ولا تنفع وبعيدة عن الحق ، " فَمَا ظَنُّكُم
بِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ " قال قتادة يعنى ما ظنكم أن الله رب العالمين فاعل
بكم اذا لاقيتموه وقد عبدتم معه غيره .
فَنَظَرَ
نَظۡرَةٗ فِي ٱلنُّجُومِ ٨٨ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٞ
٨٩ فَتَوَلَّوۡاْ عَنۡهُ مُدۡبِرِينَ ٩٠ فَرَاغَ إِلَىٰٓ ءَالِهَتِهِمۡ فَقَالَ
أَلَا تَأۡكُلُونَ ٩١ مَا لَكُمۡ لَا تَنطِقُونَ ٩٢ فَرَاغَ عَلَيۡهِمۡ ضَرۡبَۢا
بِٱلۡيَمِينِ ٩٣ فَأَقۡبَلُوٓاْ إِلَيۡهِ يَزِفُّونَ ٩٤ قَالَ أَتَعۡبُدُونَ مَا
تَنۡحِتُونَ ٩٥ وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ وَمَا تَعۡمَلُونَ ٩٦ قَالُواْ ٱبۡنُواْ
لَهُۥ بُنۡيَٰنٗا فَأَلۡقُوهُ فِي ٱلۡجَحِيمِ ٩٧ فَأَرَادُواْ بِهِۦ كَيۡدٗا
فَجَعَلۡنَٰهُمُ ٱلۡأَسۡفَلِينَ ٩٨
قال
ابراهيم عليه السلام لقومه أنه أنه لا يستطيع الخروج معهم فى عيدهم ليقيم فى البلد
اذ ذهبوا الى عيدهم فانتهز فرصة خروجهم الى عيدهم فاحب أن يختلى بآلهتهم ليكسرها
" فَنَظَرَ نَظۡرَةٗ فِي ٱلنُّجُومِ " قال قتادة أنه نظر الى السماء متفكرا وقال
قتادة والعرب تقول لمن تفكر نظرفى النجوم ،"
فَقَالَ إِنِّي سَقِيم" قال ابراهيم لقومه حتى لا يخرج معهم أنه مريض مرضا شديدا والسقيم
هو الضعيف فقال لهم كلاما هو حق فى نفس الأمر فهموا منه أنه سقيم على مقتضى ما
يعتقدونه ويمكن أنه يقصد أنى مريض القلب من عبادتكم الأوثان من دون الله تعالى
،" فَتَوَلَّوۡاْ عَنۡهُ مُدۡبِرِينَ " وقال الحسن البصرى : خرج قوم
ابراهيم الى عيدهم فأرادوه على الخروج فاضطجع على ظهره وقال " انى سقيم
" قال ابن عباس يعنى طعين أى مصاب بالطاعون وكانوا يفرون من المطعون فأراد أن
يخلو بآلهتهم فقالوا له وهو فى بيت آلهتهم : اخرج فقال: انى مطعون فتركوه مخافة
الطاعون وجعل ينظر فى السماء ، "
فَرَاغَ إِلَىٰٓ ءَالِهَتِهِمۡ فَقَالَ أَلَا تَأۡكُلُونَ " بعد أن تركه قومه
خرج الى آلهتهم وذهب اليها فى سرعة واختفاء وكان قومه قد وضعوا بين أيديها طعاما
قربانا لتبارك لهم فيه قال السدى : دخل ابراهيم عليه السلام الى بيت الآلهة فاذا
هم فى بهو عظيم واذا مستقبل باب البهو صنم عظيم الى جنبه أصغر منه بعضها الى جنب
بعض كل صنم يليه أصغر منه حتى بلغوا باب البهو واذا هم قد جعلوا طعاما ووضعوه بين
أيدى الآلهة وقالوا اذا كان حين نرجع وقد باركت الآلهة فى طعامنا أكاناه فلما نظر
ابراهيم عليه السلام الى ما بين أيديهم من الطعام
قال لها متهكما وساخرا لم لا تأكلون ما قدم لكم من الطعام ، " مَا
لَكُمۡ لَا تَنطِقُونَ " بعد أن خاطب الأصنام وهى لم ترد عليه فى تهكمه عليها
وبخها أنها أصنام لا تتكلم ولا تدفع عن نفسها الأذى ولو حتى بالكلام ، "
فَرَاغَ عَلَيۡهِمۡ ضَرۡبَۢا بِٱلۡيَمِينِ " أقبل ابراهيم على الأصنام يضربها
بيده اليمنى وقال قتادة والجوهرى وانما ضربهم باليمين لأنها أشد وأنكى ولهذا تركهم
جذاذا الا كبير لهم لعلهم اليه يرجعون كما تقدم فى سورة الأنبياء ، "
فَأَقۡبَلُوٓاْ إِلَيۡهِ يَزِفُّونَ " قال مجاهد وغير واحد أن قومه أقبلوا
الى ابراهيم عليه السلام يسرعون والقصة هنا مختصرة وفى سورة الأنبياء مبسوطة فانهم
لما رجعوا ما عرفوا من أول وهلة من فعل هذا حتى كشفوا واستعلموا فعرفوا أن ابراهيم
عليه السلام هو من فعل هذا فلما جاءوه ليعاتبوه أخذ فى تأنيبهم وعيبهم فقال لهم
" قَالَ أَتَعۡبُدُونَ مَا تَنۡحِتُونَ " أتعبدون من دون الله من
الأصنام ما أنتم تنحتونها وتجعلونها بأيديكم ، " وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ وَمَا
تَعۡمَلُونَ " يقول ابراهيم عليه السلام لقومه مذكرا
لهم أن الله هو الذى خلقهم وخالق كل شىء خلقكم وعملكم وعن حذيفة رضى الله عنه قال
" ان الله تعالى يصنع كل صانع وصنعته " ،" قَالُواْ ٱبۡنُواْ لَهُۥ بُنۡيَٰنٗا فَأَلۡقُوهُ فِي ٱلۡجَحِيمِ
" لما عجز قوم ابراهيم عليه السلام من مواجهته وقامت عليهم الحجة عدلوا الى
أخذه باليد والقهر فقرروا القاءه فى النار المستعرة ، " فَأَرَادُواْ بِهِۦ
كَيۡدٗا فَجَعَلۡنَٰهُمُ ٱلۡأَسۡفَلِينَ
" ونجى الله ابراهيم عليه السلام من النار ورد كيد من أرادوا به كيدا واحراقه
الى نحورهم وأظهره عليهم وأعلى حجته ونصرها .
وَقَالَ
إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهۡدِينِ ٩٩ رَبِّ هَبۡ لِي مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ
١٠٠ فَبَشَّرۡنَٰهُ بِغُلَٰمٍ حَلِيمٖ ١٠١ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡيَ قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّيٓ
أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ أَنِّيٓ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ قَالَ
يَٰٓأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ
ٱلصَّٰبِرِينَ ١٠٢ فَلَمَّآ أَسۡلَمَا وَتَلَّهُۥ لِلۡجَبِينِ ١٠٣ وَنَٰدَيۡنَٰهُ
أَن يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ ١٠٤ قَدۡ صَدَّقۡتَ ٱلرُّءۡيَآۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي
ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١٠٥ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡبَلَٰٓؤُاْ ٱلۡمُبِينُ ١٠٦
وَفَدَيۡنَٰهُ بِذِبۡحٍ عَظِيمٖ ١٠٧ وَتَرَكۡنَا عَلَيۡهِ فِي ٱلۡأٓخِرِينَ ١٠٨ سَلَٰمٌ عَلَىٰٓ
إِبۡرَٰهِيمَ ١٠٩ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١١٠ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا
ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ١١١ وَبَشَّرۡنَٰهُ بِإِسۡحَٰقَ نَبِيّٗا
مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ١١٢وَبَٰرَكۡنَا عَلَيۡهِ وَعَلَىٰٓ إِسۡحَٰقَۚ وَمِن
ذُرِّيَّتِهِمَا مُحۡسِنٞ وَظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ مُبِينٞ ١١٣
" وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهۡدِينِ " يقول الله تعالى مخبرا عن خليله ابراهيم عليه السلام انه بعد ما نصره على قومه وأيس من ايمانهم بعد ما شاهدوا من الآيات العظيمة هاجر من بين أظهرهم وتوجه الى اللهوطلب منه الهداية ، " رَبِّ هَبۡ لِي مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ طلب من الله تعالى ودعاه أن يرزقه أولادا مطيعين عوضا من قومه وعشيرته الذين فارقهم ، " فَبَشَّرۡنَٰهُ بِغُلَٰمٍ حَلِيم" استجاب الله لدعائه وكان لا ينجب فبشره بما سيكون وهذا الغلام هو اسماعيل عليه السلام فانه أول ولد بشر به ابراهيم عليه السلام وهو أكبر من اسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب ، " فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡيَ " لما كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشى معه وعن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغيرهم بمعنى شب وارتجل وأطاق ما يفعله أبوه من السعى والعمل ، " قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّيٓ أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ أَنِّيٓ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰ "قص ابراهيم عليه السلام ما رآه فى منامه من رؤيا ورؤيا الأنبياء وحى فعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رؤيا الأنبياء فى المنام وحى " وأعلم ابنه بأنه أمر بذبحه ليكون أهون عليه وليختبر صبره وجلده وعزمه فى صغره على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه ،" قَالَ يَٰٓأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰبِرِينَ" رد اسماعيل عليه السلام على أبيه وقال له أمض لما أمرك الله من ذبجى سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عز وجل وصدق فيما وعد ولهذا قال الله عنه " واذكر فى الكتاب اسماعيل انه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند الله مرضيا " ، " فَلَمَّآ أَسۡلَمَا " أسلما أى استسلما وانقادا لامر الله ، ابراهيم عليه السلام امتثل أمر الله تعالى بذبح ابنه واسماعيل عليه السلام طاعة لله ولابيه ، "وَتَلَّهُۥ لِلۡجَبِينِ " أكب ابراهيم عليه السلام اسماعيل عليه السلام على وجهه ليذبحه من قفاه ولا يشاهد وجهه عند ذبحه ليكون أهون عليه ، " وَنَٰدَيۡنَٰهُ أَن يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ * قَدۡ صَدَّقۡتَ ٱلرُّءۡيَآۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ" أرسل الله تعالى جبريل عليه السلام فنادى ابراهيم عليه السلام قد صدقت الرؤيا التى رأيتها وأنت توفى بها وقد صدقت فيما ابتلاك الله به وثبت وقد حصل المقصود من رؤياك وذكر السدى وغيره أنه أمر السكين على رقبة ابنه فلم تقطع شيئا فالتفت ابراهيم فاذا بكبش أبيض أقرن أعين ،" إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡبَلَٰٓؤُاْ ٱلۡمُبِينُ" يتحدث الله عما حدث مع ابراهيم عليه السلام ان أمر الله له وما مر به هو اختبار واضح جلى من الله حيث أمر بذبح ولده فسارع الى ذلك مستسلما لأمر الله تعالى منقادا لطاعته وانما كان المقصود من شرعه أولا اثابة الخليل على الصبر على ذبح ولده وعزمه على ذلك ولهذا قال الله تعالى وابراهيم الذى وفى"، "وَفَدَيۡنَٰهُ بِذِبۡحٍ عَظِيم" الذبح العظيم هو الكبش الذى افتدى به ابراهيم عليه السلام ابنه اسماعيل عليه السلام ، "وَتَرَكۡنَا عَلَيۡهِ فِي ٱلۡأٓخِرِينَ "يقول الله تعالى أنه جعل له من الثناء والذكر الحسن يترك أى يستمر بعد موته فيمن يأتى من بعده فهو أبو الأنبياء الذين كانوا من نسله يعقوب واسحاق واسماعيل عليهم السلام والذين كان من نسلهم موسى عليه السلام وآل عمران الذى تنحدر منهم السيدة مريم أم المسيح عليه السلام واسماعيل عليه السلام ينحدر منه العرب الذين جاء منهم محمد صلى الله عليه وسلم فذكره متصل الى يوم القيامة ونحن فى الصلاة فى التحيات نذكر فيها " اللهم صلى على محمد وآل محمد كما صليت على ابراهيم وآل ابراهيم وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على ابراهيم وآل ابراهيم فى العالمين انك حميد مجيد " وهذا فى كل صلاة من جانب ملايين المسلمين فى كل مكان وزمان الى يوم القيامة ،" سَلَٰمٌ عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ " وكذلك يرسل الله الى ابراهيم عليه السلام السلام الذى يدخله فى دائرة الله كما ورد ذلك فى آيات القرآن فى السلام على آل البيت وعلى الأنبياء ، " كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ " يقول الله تعالى هكذا نجزى من أحسن من العباد فى طاعة الله تعالى وهكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد ونجعل لهم من أمرهم فرجا ومخرجا كقوله تعالى " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهوحسبه ان الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شىء قدرا" ،" إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُؤۡمِنِينَ " يمتدح الله ابراهيم عليه السلام أنه من عباده المؤمنين به يصفه بالعبودية له والايمان به المصدقين الموحدين الموقنين ، "وَبَشَّرۡنَٰهُ بِإِسۡحَٰقَ نَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ " من نعمة الله على ابراهيم عليه السلام أنه بشره وهو على الكبر وامرأته عاقر باسحاق ويعقوب عليهما السلام من بعد اسماعيل عليه السلام وبشره أن اسحاق سيكون نبيا من الصالحين وهذا جزاء من الله بعد أن جاد لله تعالى بابنه اسماعيل ، " وَبَٰرَكۡنَا عَلَيۡهِ وَعَلَىٰٓ إِسۡحَٰقَ" البركة من الله شىء عظيم منحه الله لابراهيم وابنه اسحاق عليهما السلام والبركة من الله تحتمل معانى كثيرة منها الجزاء الحسن وسعة الرزق والجزاء الوفير على العمل والبسطة فى الأجل والرزق وأفضل الناس من طال عمره وحسن عمله فهذا بركة من الله ، " وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحۡسِنٞ وَظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ مُبِين " أوضح الله أنه سيكون من ذريتهما من هو محسن وصالح ومن هو مشرك وكافر وأكبر ظلم بين واضح للنفس هو الجحود والخروج من طاعة الله ونحن نعلم ما كان عليه بنى اسرائيل وهم من ذرية ابراهيم عليه السلام وما فعلوه مع موسى عليه السلام وكذلك مع رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وما يفعلوه حتى قيام الساعة وهذا كقوله لنوح عليه السلام " قيل يانوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم " .
وَلَقَدۡ
مَنَنَّا عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ ١١٤ وَنَجَّيۡنَٰهُمَا وَقَوۡمَهُمَا مِنَ
ٱلۡكَرۡبِ ٱلۡعَظِيمِ ١١٥ وَنَصَرۡنَٰهُمۡ فَكَانُواْ هُمُ ٱلۡغَٰلِبِينَ ١١٦
وَءَاتَيۡنَٰهُمَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلۡمُسۡتَبِينَ ١١٧ وَهَدَيۡنَٰهُمَا ٱلصِّرَٰطَ
ٱلۡمُسۡتَقِيمَ ١١٨ وَتَرَكۡنَا عَلَيۡهِمَا فِي ٱلۡأٓخِرِينَ ١١٩ سَلَٰمٌ عَلَىٰ
مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ ١٢٠ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١٢١ إِنَّهُمَا
مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ١٢٢
" وَلَقَدۡ مَنَنَّا عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ " يذكر الله تعالى ما أنعم به على موسى وهارون عليهما السلام من النبوة ، " وَنَجَّيۡنَٰهُمَا وَقَوۡمَهُمَا مِنَ ٱلۡكَرۡبِ ٱلۡعَظِيمِ " ويذكر الله تعالى كذلك ما أنعم به من النجاة لهما ولمن آمن معهما من قهر فرعون وقومه وما كان يعتمد فى حقهم من الاساءة العظيمة من قتل الأبناء واستحياء النساء واستعمالهم فى أخس الأشياء والأعمال ، " وَنَصَرۡنَٰهُمۡ فَكَانُواْ هُمُ ٱلۡغَٰلِبِينَ " يتحدث الله تعالى بعد هذا كله عن نصره لهم وأقراره أعينهم منهم فغلبوا فرعون وقومه وأخذوا أرضهم وأموالهم وما كانوا جمعوه طول حياتهم ، " وَءَاتَيۡنَٰهُمَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلۡمُسۡتَبِينَ " ذكر الله نعمته من انزاله عز وجل على موسى عليه السلام الكتاب العظيم الواضح الجلى المستبين وهو التوراة ، " وَهَدَيۡنَٰهُمَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ " يذكر الله تعالى بمنته على موسى وهارون عليهما السلام وهدايته لهما الى الطريق الحق فى الأقوال والأفعال ، " وَتَرَكۡنَا عَلَيۡهِمَا فِي ٱلۡأٓخِرِينَ " يقول الله تعالى أنه عز وجل أبقى لهمامن بعدهما ذكرا جميلا وثناء حسنا وفسر الله ذلك الثناء الحسن يقوله " سَلَٰمٌ عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ " وكذلك يرسل الله الى موسى وهارون عليهما السلام السلام الذى يدخلهما فى دائرة الله كما ورد ذلك فى آيات القرآن فى السلام على آل البيت وعلى الأنبياء ،" كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ " يقول الله تعالى هكذا نجزى من أحسن من العباد فى طاعة الله تعالى وهكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد ونجعل لهم من أمرهم فرجا ومخرجا ، "إِنَّهُمَا مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُؤۡمِنِينَ" يمتدح الله موسى وهارون عليهما السلام ويصفهما أنهما من عباده المؤمنين به يصفهما بالعبودية له والايمان به من المصدقين الموحدين الموقنين .
وَإِنَّ
إِلۡيَاسَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٢٣ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦٓ أَلَا تَتَّقُونَ
١٢٤ أَتَدۡعُونَ بَعۡلٗا وَتَذَرُونَ أَحۡسَنَ ٱلۡخَٰلِقِينَ ١٢٥ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡ
وَرَبَّ ءَابَآئِكُمُ ٱلۡأَوَّلِينَ ١٢٦ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمۡ لَمُحۡضَرُونَ
١٢٧ إِلَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلۡمُخۡلَصِينَ ١٢٨ وَتَرَكۡنَا عَلَيۡهِ فِي
ٱلۡأٓخِرِينَ ١٢٩ سَلَٰمٌ عَلَىٰٓ إِلۡ يَاسِينَ ١٣٠ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي
ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١٣١ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ١٣٢
" وَإِنَّ إِلۡيَاسَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ " قال قتادة ومحمد بن اسحاق يقال الياس هو ادريس عليه السلام بعثه الله تعالى فى بنى اسرائيل " إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦٓ أَلَا تَتَّقُونَ "وكانوا قد عبدوا صنما فدعاهم الى تقوى اللهوقال لهم ألا تخافون الله عز وجل فى عبادتكم غيره ،"أَتَدۡعُونَ بَعۡلٗا وَتَذَرُونَ أَحۡسَنَ ٱلۡخَٰلِقِينَ " الصنم الذى عبده بنو اسرائيل كان يقال له بعل كما قال الضحاك وقال عبد الرحمن بن أسلم عن أبيه هو اسم صنم كان يعبده أهل مدينة بعلبك غربى دمشق وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم بعلا يعنى ربا وهى لغة أهل اليمن فنهاهم عن عبادته من دون الله الخالق الذى ليس كمثله شىء ،" ٱللَّهَ رَبَّكُمۡ وَرَبَّ ءَابَآئِكُمُ ٱلۡأَوَّلِينَ " دعاهم الى عبادة الله ربهم ورب آباءهم الذين سبقوهم المستحق للعبادة وحده لا شريك له ، " فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمۡ لَمُحۡضَرُونَ " كذب قوم الياس ما أرسله الله اليهم به فتوعدهم الله أنهم سيأتى بهم يوم القيامة يوم الحساب الى العذاب ، " إِلَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلۡمُخۡلَصِينَ " الذى سينجو من العذاب الموحدون منهم وهذا استثناء منقطع من منبث ، " وَتَرَكۡنَا عَلَيۡهِ فِي ٱلۡأٓخِرِينَ " انه يستحق المديح والثناء الجميل فى وقته وفيمن جاء بعده ، "سَلَٰمٌ عَلَىٰٓ إِلۡ يَاسِينَ " وكذلك يرسل الله الى الياس عليه السلام السلام الذى يدخله فى دائرة الله كما ورد ذلك فى آيات القرآن فى السلام على آل البيت وعلى الأنبياء ، " كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ " يقول الله تعالى هكذا نجزى من أحسن من العباد فى طاعة الله تعالى نجعل له لسان صدق يذكر به بعده بحسب مرتبته فى ذلك ،" إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُؤۡمِنِينَ " يمتدح الله الياس عليه السلام ويصفه أنه من عباده المؤمنين به يصفه بالعبودية له والايمان به المصدقين الموحدين الموقنين .
وَإِنَّ
لُوطٗا
لَّمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٣٣ إِذۡ نَجَّيۡنَٰهُ وَأَهۡلَهُۥٓ أَجۡمَعِينَ ١٣٤
إِلَّا عَجُوزٗا فِي ٱلۡغَٰبِرِينَ ١٣٥ ثُمَّ دَمَّرۡنَا ٱلۡأٓخَرِينَ ١٣٦
وَإِنَّكُمۡ لَتَمُرُّونَ عَلَيۡهِم مُّصۡبِحِينَ ١٣٧ وَبِٱلَّيۡلِۚ أَفَلَا
تَعۡقِلُونَ ١٣٨
"وَإِنَّ
لُوطٗا لَّمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ "
يخبر الله تعالى عن عبده ورسوله لوط عليه السلام انه بعثه الى قومه فكذبوه ،
"إِذۡ نَجَّيۡنَٰهُ وَأَهۡلَهُۥٓ أَجۡمَعِينَ " أنجى الله تعالى نبيه
لوط عليه السلام مما نزل بقومه الذين كذبوه من العذاب والاهلاك هو وأهله ،" إِلَّا عَجُوزٗا فِي ٱلۡغَٰبِرِينَ " أهلك الله امرأة لوط عليه السلام مع من
هلك من قومها ، " ثُمَّ دَمَّرۡنَا ٱلۡأٓخَرِينَ " أهلك الله قوم لوط
بأنواع من العقوبات وجعل محلتهم من الأرض بحيرة منتنة قبيحة المنظر والطعم والريح
وجعلها بسبيل مقيم ، " وَإِنَّكُمۡ لَتَمُرُّونَ عَلَيۡهِم مُّصۡبِحِينَ "
يمر بهذا المكان المسافرون بالنهار ،" وَبِٱلَّيۡلِۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ
" وكذلك يمرون عليهم بالليل فى طريقهم أى طوال الوقت ليكونوا عبرة لمن غيرهم
ويقول الله موبخا أفلا تعتبرون بهم كيف دمر الله عليهم وتعلمون أن للكافرين
أمثالها؟
وَإِنَّ
يُونُسَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٣٩ إِذۡ أَبَقَ إِلَى ٱلۡفُلۡكِ ٱلۡمَشۡحُونِ ١٤٠
فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلۡمُدۡحَضِينَ ١٤١ فَٱلۡتَقَمَهُ ٱلۡحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٞ
١٤٢ فَلَوۡلَآ أَنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُسَبِّحِينَ ١٤٣ لَلَبِثَ فِي بَطۡنِهِۦٓ
إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ ١٤٤ ۞فَنَبَذۡنَٰهُ بِٱلۡعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٞ
١٤٥ وَأَنۢبَتۡنَا عَلَيۡهِ شَجَرَةٗ مِّن يَقۡطِينٖ ١٤٦ وَأَرۡسَلۡنَٰهُ إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلۡفٍ أَوۡ يَزِيدُونَ ١٤٧
فََٔامَنُواْ فَمَتَّعۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ حِينٖ
١٤٨
" وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ "يخبر الله عن يونس عليه السلام وقد تقدمت قصته فى سورة الأنبياء اذا أرسله الى قومه ، " إِذۡ أَبَقَ إِلَى ٱلۡفُلۡكِ ٱلۡمَشۡحُونِ " الفلك المشحون هو السفينة المليئة بالأمتعة أى توجه وركب هذه السفينة ،" فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلۡمُدۡحَضِينَ تلعبت الأمواج بالسفينة المملوءة بالأمتعة من كل جانب وأشرف من فيها على الغرق فساهموا أى التجأوا الى على من تقع عليه القرعة يلقى فى البحر لتخف بهم السفينة وتنجو من الغرق فوقعت القرعة على نبى الله يونس عليه السلام ثلاث مرات وهم يضنون به أن يلقى من بينهم فتجرد من ثيابه ليلقى نفسه وهم يأبون عليه ذلك ، " فَٱلۡتَقَمَهُ ٱلۡحُوتُ وَهُوَ مُلِيم" أمر الله تعالى حوتا من البحر أن يشق طريقه وأن يلتقم يونس عليه السلام فلا يهشم له لحما ولا يكسر له عظما فجاء ذلك الحوت وألقى يونس عليه السلام نفسه فالتقمه الحوت وذهب به فطاف به البحار ، " فَلَوۡلَآ أَنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُسَبِّحِينَ " لما استقر يونس عليه السلام فى بطن الحوت حسب أنه قد مات ثم حرك رأسه ورجليه وأطرافه فاذا هو حى فقام فصلى فى بطن الحوت واختلف فى مقدار ما لبث فى بطن الحوت فقيل ثلاثة أيام وقيل سبعة وقيل أربعين يوما والله أعلم بذلك ومن المسبحين أى المصلين وصرح بعضهم أنه كان من المصلين قبل ذلك وقيل المراد هو قوله عز وجل " فنادى فى الظلمات أن لا اله الا أنت سبحانك انى كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم كذلك ننجى المؤمنين " والمعنى أنه لولا صلاته وتسبيحه ، " لَلَبِثَ فِي بَطۡنِهِۦٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ " لولا ما سبق وما تقدم من صلاة وتسبيح أو لولا ما تقدم له من العمل فى الرخاء لاستمر فى بطن الحوت ومات كما يموت غيره وكان بطن الحوت هو قبره حتى يبعثه الله يوم القيامة يوم يبعث عباده جميعا ومن كان قبره جوف الحيوانات أو احترق وصار رماد وغير ذلك من الميتات كلهم يبعثهم جميعا وكما ورد فى حديث ابن عباس " تعرف الى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة " ،"فَنَبَذۡنَٰهُ بِٱلۡعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيم" يقول الله تعالى ناسبا الأمر اليه فنبذناه أى ألقيناه فكل الأمور تحدث بأمره فى العراء وهى الأرض التى ليس بها نبت ولا بناء ألقى وهو سقيم أى ضعيف البدن ، " وَأَنۢبَتۡنَا عَلَيۡهِ شَجَرَةٗ مِّن يَقۡطِين" قال كل المفسرين اليقطين هو القرع وذكر بعضهم فى القرع فوائد منها سرعة نباته وتظليل ورقه لكبره ونعومته وأنه لا يقربها الذباب وجودة تغذية ثمره وأنه يؤكل نيئا ومطبوخا وقشره أيضا ،" وَأَرۡسَلۡنَٰهُ إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلۡفٍ أَوۡ يَزِيدُونَ " قال البغوى أنه أرسل الى أمة أخرى بعد خروجه من الحوت وكانوا مائة ألف أو يزيدون عن ذلك وقال ابن عباس بل يزيدون عن ذلك واختلف فى الزيادة ، " فََٔامَنُواْ فَمَتَّعۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ حِين " فآمن هؤلاء القوم الذين أرسل اليهم يونس عليه السلام جميعهم فمتعهم الله بآجالهم حتى انقضت بارك الله لهم فى حياتهم من حيث الرزق والثواب الجزيل من عنده كقوله عز وجل " فلولا كانت قرية آمنت فنفعها ايمانها الا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى فى الحياة الدنيا ومتعناهم الى حين " ، تمر دعوة يونس عليه السلام المسمى ذى النون أى صاحب الحوت بمراحل : المرحلة الأولى تكذيب قومه له وخروجه منبين قومه غاضبا لم يطق كذبهم ولم يصبر حتى يتحقق له نصر الله وتعجل الأمور ، والمرحلة الثانية هى ركوبه السفينة فشاء الله أن يعلمه درسا فى حياته فأرسل الريح التى عرضت السفينة الى أمواج شديدة وكانت مملوءة بالمتاع ولابد أن تخفف الحمولة حتى تسير فالتجأوا الى الاستهام أى القرعة لالقاء جزء من حمولة السفينة من الركاب الى البحر فكان نصيب يونس عليه السلام أن يقع عليه الاختيار فألقى فى البحر فالتقمه الحوت وهو مليم أى يحمل اللوم والذنب وهو غالبا والله أعلم الخروج غاضبا وعدم الصبر على تبليغ الدعوة ، المرحلة الثالثة هى افاقته فى بطن الحوت ولجوءه ورجوعه الى الله والتوجه اليه بفك الكرب وقوله " لا اله الا أنت سبحانك انى كنت من الظالمين " فتقبل الله منه توبته فألقاه الحوت بمشيئة الله فى العراء وهو فى حالة من الاعياء الشديد وتدخلت العناية الالهية لانقاذه فنبتت حوله شجرة الياقطين أى القرع وهى تناسب ما كان فيه من حيث الحماية من الحر الشديد والذباب ويكون ثمرها غذاءه حتى استرد عافيته فارسله الله فى المرحلة الأخيرة الى قوم مطيعين فاتبعوه فبلغ دعوة الله والرسالة التى أرسله بها ومن اتبعه لم يكن بالعدد القليل فى زمانه وقال الله عنهم " فآمنوا فمتعناهم الى حين " .
فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ
أَلِرَبِّكَ ٱلۡبَنَاتُ وَلَهُمُ ٱلۡبَنُونَ ١٤٩ أَمۡ خَلَقۡنَا ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ
إِنَٰثٗا
وَهُمۡ شَٰهِدُونَ ١٥٠ أَلَآ إِنَّهُم مِّنۡ إِفۡكِهِمۡ لَيَقُولُونَ ١٥١ وَلَدَ
ٱللَّهُ وَإِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ ١٥٢ أَصۡطَفَى ٱلۡبَنَاتِ عَلَى ٱلۡبَنِينَ ١٥٣
مَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ ١٥٤ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ١٥٥ أَمۡ لَكُمۡ سُلۡطَٰنٞ
مُّبِينٞ ١٥٦ فَأۡتُواْ بِكِتَٰبِكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ١٥٧
وَجَعَلُواْ بَيۡنَهُۥ وَبَيۡنَ ٱلۡجِنَّةِ نَسَبٗاۚ
وَلَقَدۡ عَلِمَتِ ٱلۡجِنَّةُ إِنَّهُمۡ لَمُحۡضَرُونَ ١٥٨ سُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ
عَمَّا يَصِفُونَ ١٥٩ إِلَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلۡمُخۡلَصِينَ ١٦٠
" فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ أَلِرَبِّكَ ٱلۡبَنَاتُ وَلَهُمُ ٱلۡبَنُونَ " يقول الله تعالى منكرا على هؤلاء المشركين فى جعلهم لله تعالى البنات سبحانه ولهم ما يشتهون أى من الذكور أى يودون لأنفسهم الجيد وهذا كقوله" واذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم " أى يسوؤه ذلك ولا يختار لنفسه الا البنين يقول الله عز وجل فكيف نسبوا الى الله تعالى القسم الذى لا يختارونه لأنفسهم ولهذا قال تعالى على سبيل الانكار " فاستفتهم " أى سلهم على سبيل الانكار عليهم " ألربك البنات ولهم البنون " كقوله تعالى " ألكم الذكر وله الأنثى * تلك اذا قسمة ضيزى " ، " أَمۡ خَلَقۡنَا ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ إِنَٰثٗا وَهُمۡ شَٰهِدُونَ "يقول الله تعالى كيف حكموا على الملائكة أنهم أناث وما شهدوا خلقهم كقوله عز وجل " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن اناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسئلون " أى يسئلون عن ذلك يوم القيامة ، " أَلَآ إِنَّهُم مِّنۡ إِفۡكِهِمۡ لَيَقُولُونَ وَلَدَ ٱللَّهُ " الافك هو الكذب أىمن كذبهم يقولون أن الله من صدر منه الولد ، " وَإِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ " يؤكد الله كذبهم فذكر الله تعالى عنهم فى الملائكة ثلاثة أقوال فى غاية الكفر والكذب ، فأولا جعلوهم بنات الله فجعلوا لله ولدا تعالى وتقدس ، وجعلوا ذلك الولد أنثى ثم عبدوهم من دون الله تعالى وكل منهم كاف فى التخليد فى نار جهنم ثم قال الله تعالى منكرا " أَصۡطَفَى ٱلۡبَنَاتِ عَلَى ٱلۡبَنِينَ " بمعنى أى شىء يحمله على أن يختار البنات دون البنين كقوله عز وجل " أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة اناثا انكم لتقولون قولا عظيما " ولهذا قال تعالى " مَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ " مالكم عقول تتدبرون بها ما تقولون ، " أَفَلَا تَذَكَّرُونَ " يوبخ الله تعالى هؤلاء الكفار أنهم تخونهم الذاكرة والذكر لما جرى ويجرى من حولهم ، " أَمۡ لَكُمۡ سُلۡطَٰنٞ مُّبِين" يستمر الله تعالى فى توبيخ الكفار فى السؤال التقريرى الذى يقر الحقيقة بان ليس لهم حجة على مايقولونه ، " فَأۡتُواْ بِكِتَٰبِكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ " يتحدى الله هؤلاء الكفار فيقول لهم هاتوا برهانا على ما تقولونه وما تعتقدونه مستندا الى كتاب منزل من السماء عن الله تعالى أنه اتخذ ما تقولونه فان ما تقولونه لا يمكن استناده الى عقل بل لا يجوزه العقل بالكلية ، " وَجَعَلُواْ بَيۡنَهُۥ وَبَيۡنَ ٱلۡجِنَّةِ نَسَبٗاۚ" قال مجاهد وغيره قال المشركون الملائكة بنات الله تعالى فقال أبو بكر رضى الله عنه فمن أمهاتهن ؟ قالوا بنات سروات الجن ولهذا قال تعالى " وَلَقَدۡ عَلِمَتِ ٱلۡجِنَّةُ إِنَّهُمۡ لَمُحۡضَرُونَ " يقول الله تعالى أن الجن الذين نسبوا اليهم ما قالوه أن الذين قالوا ذلك لمحضرون فى العذاب يوم الحساب لكذبهم فى ذلك وافترائهم وقولهم الباطل بلا علم وقال ابن عباس زعم أعداء الله تبارك وتعالى أنه هو وابليس اخوان " تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا " ، " سُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ " تعالى وتقدس وتنزه الله عن أن يكون له ولد وعما يصفه به الظالمون الملحدون علوا كبيرا ، " إِلَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلۡمُخۡلَصِينَ " استثناء منقطع عائد الى الناس جميعهم ثم استثنى منهم المخلصين وهم المتبعون للحق المنزل على كل نبى مرسل .
فَإِنَّكُمۡ
وَمَا تَعۡبُدُونَ ١٦١ مَآ أَنتُمۡ عَلَيۡهِ بِفَٰتِنِينَ ١٦٢ إِلَّا مَنۡ هُوَ
صَالِ ٱلۡجَحِيمِ ١٦٣ وَمَا مِنَّآ إِلَّا لَهُۥ مَقَامٞ
مَّعۡلُومٞ ١٦٤ وَإِنَّا لَنَحۡنُ ٱلصَّآفُّونَ ١٦٥ وَإِنَّا لَنَحۡنُ
ٱلۡمُسَبِّحُونَ ١٦٦ وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ ١٦٧ لَوۡ أَنَّ عِندَنَا ذِكۡرٗا
مِّنَ ٱلۡأَوَّلِينَ ١٦٨ لَكُنَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلۡمُخۡلَصِينَ ١٦٩ فَكَفَرُواْ
بِهِۦۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ ١٧٠
"
فَإِنَّكُمۡ وَمَا تَعۡبُدُونَ * مَآ أَنتُمۡ عَلَيۡهِ بِفَٰتِنِينَ * إِلَّا
مَنۡ هُوَ صَالِ ٱلۡجَحِيمِ " يقول الله تعالى مخاطبا المشركين انما ينقاد
لمقالتكم وما أنتم عليه من الضلالة والعبادة الباطلة من هو أضل منكم ممن درىء
للنار وسيصلى سعيرها وهذا مصدقا لقوله تعالى " لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم
أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم
الغافلون " فهذا الضرب من الناس هو الذى ينقاد لدين الشرك والكفر والضلالة ، " وَمَا مِنَّآ إِلَّا
لَهُۥ مَقَامٞ مَّعۡلُوم * وَإِنَّا لَنَحۡنُ
ٱلصَّآفُّونَ * وَإِنَّا لَنَحۡنُ ٱلۡمُسَبِّحُونَ " يقول الله تعالى
للملائكة منزها لهم مما نسبوا اليهم من الكفر بهم والكذب عليهم أنهم بنات الله أن
كل ملك له موضع مخصوص فى السموات ومقامات العبادات لا يتجاوزه ولا يتعداه وعن عبد
الرحمن بن سعد عن أبيه وكان ممن بايع يوم الفتح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال يوما لجلسائه " أطت السماء وحق لها أن تئط ليس فيها موضع قدم الا عليه
ملك راكع أو ساجد " ثم قرأ صلى الله عليه وسلم " وَمَا مِنَّآ إِلَّا
لَهُۥ مَقَامٞ
مَّعۡلُوم" وعن
عائشة رضى الله عنها قالت " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من السماء
الدنيا موضع الا عليه ملك ساجد أو قائم" فذلك قوله تعالى " وما منا الا
له مقام معلوم " وقال قتادة كانوا يصلون الرجال والنساء جميعا حتى نزلت
" وما منا الا له مقام معلوم " فتقدم الرجال وتأخر النساء ، "وَإِنَّا
لَنَحۡنُ ٱلصَّآفُّونَ " يتحدث الله عن الملائكة بقولهم نحن الذين نقف صفوفا فى الطاعة لله سبحانه
وتعالى كما تقدم فى قوله تعالى " والصافات صفا" وعن الوليد بن عبد الله
بن أبى مغيث قال كانوا لا يصفون فى الصلاة حتى نزلت " وانا لنحن الصافون
" فصفوا وقال أبو نصرة كان عمر رضى الله عنه اذا أقيمت الصلاة استقبل الناس
بوجهه ثم قال أقيموا صفوفكم استووا يريد الله تعالى بكم هدى الملائكة ثم يقول
" وانا لنحن الصافون " تأخر يا فلان تقدم يافلان ثم يتقدم فيكبر ، وعن
حذيفة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم " فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ،
وجعلت لنا الأرض مسجدا ، وتربتها طهورا " ، " وَإِنَّا
لَنَحۡنُ ٱلۡمُسَبِّحُونَ
" الملائكة تسبح الله عز وجل فالله
يتحدث أيضا عن الملائكة بقولهم نحن نصطف فنسبح الله ونمجده ونقدسه وننزهه عن
النقائص فنحن عبيد له فقراء اليه خاضعون لديه ، " وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ * لَوۡ
أَنَّ عِندَنَا ذِكۡرٗا مِّنَ
ٱلۡأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلۡمُخۡلَصِينَ " يتحدث الله عن
المشركين فقد كانوا يتمنون قبل أن تأتيهم يا محمد لو كان عندهم من يذكرهم بأمر
الله وما كان من أمر القرون الأولى ويأتيهم بكتاب الله كما قال الله عز وجل "
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من احدى الأمم فاما جاءهم
نذير ما زادهم الا نفورا"،" فَكَفَرُواْ بِهِۦۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ "
يقول الله تعالى لما جاءهم ما كانوا يقولون كفروا به وأعرضوا عنه فيتوعدهم الله فى
وعيد أكيد وتهديد شديد على كفرهم بربهم عز وجل وتكذيبهم رسوله صلى الله عليه وسلم بما
ينتظرهم من الحساب والعقاب يوم القيامة الذى سيكون حقا يعلمون به .
وَلَقَدۡ
سَبَقَتۡ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٧١ إِنَّهُمۡ لَهُمُ
ٱلۡمَنصُورُونَ ١٧٢ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ ١٧٣ فَتَوَلَّ عَنۡهُمۡ
حَتَّىٰ حِينٖ ١٧٤ وَأَبۡصِرۡهُمۡ فَسَوۡفَ يُبۡصِرُونَ ١٧٥ أَفَبِعَذَابِنَا
يَسۡتَعۡجِلُونَ ١٧٦ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمۡ فَسَآءَ صَبَاحُ ٱلۡمُنذَرِينَ
١٧٧ وَتَوَلَّ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ حِينٖ ١٧٨ وَأَبۡصِرۡ فَسَوۡفَ يُبۡصِرُونَ ١٧٩
"
وَلَقَدۡ سَبَقَتۡ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلۡمُرۡسَلِينَ * إِنَّهُمۡ لَهُمُ
ٱلۡمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ
ٱلۡغَٰلِبُونَ " يقول الله تعالى تقدم فى الكتاب الأول أن العاقبة للرسل وأتباعهم
فى الدنيا والآخرة كما تقدم بيان نصرتهم على قومهم ممن كذبهم وخالفهم وكيف أهلك
الله الكافرين ونجى عباده المؤمنين ونصرهم وحقق لهم الغلبة كما قال تعالى " كتب الله لأغلبن أنا ورسلى
ان الله قوى عزيز " وكما قال " انا لننصر رسلنا والذين آمنوا فى الحياة
الدنيا ويوم يقوم الأشهاد" ، " فَتَوَلَّ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ حِين" يقول
الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم اصبر على أذى المشركين المكذبين لك وانتظر
الى وقت مؤجل فانا سنجعل لك العاقبة والنصرة والظفر ولهذا قال بعضهم نسأ ذلك أى
أجله الى يوم بدر وما بعدها ، " وَأَبۡصِرۡهُمۡ فَسَوۡفَ يُبۡصِرُونَ "
ويقول لرسوله صلى الله عليه وسلم أيضا أنظرهم وارتقب ماذا يحل بهم من العذاب
والنكال بمخالفتك وتكذيبك ولهذا قال تعالى على وجه التهديد والوعيد " فسوف
يبصرون " ثم قال تعالى ويتحدث عن الكفار" أَفَبِعَذَابِنَا
يَسۡتَعۡجِلُونَ " أى هم انما يستعجلون العذاب لتكذيبهم وكفرهم بك يا محمد
فان الله تعالى يغضب عليهم بذلك ويعجل لهم العقوبة ومع هذا أيضا كانوا من كفرهم
وعنادهم يستعجلون العذاب والعقوبة ، " فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمۡ فَسَآءَ
صَبَاحُ ٱلۡمُنذَرِينَ " يقول الله تعالى عن المشركين اذا نزل العذاب بمحلتهم
فبئس ذلك اليوم يومهم باهلاكهم ودمارهم وقال السدى " فاذا نزل بساحتهم "
يعنى نزل العذاب بدارهم فبئس ما يتصبحون أى بئس الصباح صباحهم وعن أبى طلحة رضى
الله عنه قال : لما صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وقد أخذوا مساحيهم
وغدوا الى حروثهم وأراضيهم ، فلما رأوا النبى صلى الله عليه وسلم نكصوا مدبرين
فقال نبى الله صلى الله عليه وسلم " انا اذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح
المنذرين " ،" وَتَوَلَّ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ حِين*
وَأَبۡصِرۡ فَسَوۡفَ يُبۡصِرُونَ " تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك وهو
تطمين للرسول صلى الله عليه وسلم أن ينتظر ما سيقع بهؤلاء المشركين .
سُبۡحَٰنَ
رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠ وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ
١٨١ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٨٢
"سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ
عَمَّا يَصِفُونَ " ينزه الله تعالى نفسه ويقدسها ويبرئها عما يقول الظالمون
المكذبون المعتدون المفترون تعالى وتنزه وتقدس عن قولهم علوا كبيرا فهو رب العزة
التى لا ترام ،"وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ " سلام الله على الرسل
فى الدنيا والآخرة لسلامة ما قالوه فى ربهم وصحته وحقيقته ، " وَٱلۡحَمۡدُ
لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ " والحمد لله رب العالمين عالم الجن والأنس وكل
عالم فى السموات والأرض فى الأولى والآخرة فى كل حال ، ولما كان التيسبيح يتضمن
التنزيه والتبرئة من النقص كما أن الحمد يدل على اثبات صفات الكمال ويتلزم التنزيه
من النقص قرن بينهما فى هذا الموضع وفى مواضع كثيرة من القرآن وعن قتادة قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " اذا سلمتم على فسلموا على المرسلين فأنا رسول
من المرسلين " وعن عبد الله بن زيد بن أرقم عن أبيه عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال " من قال فى دبر كل صلاة " سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ
ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ * وَٱلۡحَمۡدُ
لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ " ثلاث مرات فقد اكتال بالجريب الأوفى من الأجر "
وعن على رضى الله عنه قال " من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم
القيامة فليكن آخر كلامه فى مجلسه " سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ
عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ * وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ
ٱلۡعَٰلَمِينَ " .
تفسير
الجزء الثالث والعشرين
تفسير
سورة ص
سورة ص مكية ، عدد آياتها 88 آية فيها سمات السور المكية من قصر الآيات والآيات التى تطرح قضية الكفر والايمان والآيات الدالة على قدرة الله فى الخلق وفى الكون وذكر الرسل والأنبياء وما تعرضوا له لتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم فى مواجهة تكذيب المشركين له وتتعرض للجنة والنار وما أعد الله للمؤمنين من جنات وللكفار فى جهنم . سورة ص سورة مكية، السورة من المثاني، آياتها 88، وترتيبها في المصحف 38، في الجزء الثالث والعشرين، بدأت بحرف من حروف الهجاء: ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ نزلت بعد سورة القمر. وبها سجدة تلاوة في الآية 24 قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ -
تبدأ بالقسم بالقرآن
وتعرض لقضية الوقوع في الخطأ وعواقبه. السورة تتحدث عن ثلاثة أنبياء استسلموا لله
بعدما أخذوا قرارات ظنوها بعيدة عن الحق ثم عادوا إلى الحق وكيف رد الله عليهم، ثم
تحدثت عن نموذج عكسي وهو إبليس الذي عاند ورفض أن يستسلم بعدما عرف الحق.
قصة سليمان: بدأ من
الآية الثلاثين وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ
إِنَّهُ أَوَّابٌ
قصة أيوب: بدأ من الآية
الواحدة والأربعين وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ
أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ.
في هذه القصص الثلاث
يعطي الله لكل نبي صفة «العبد» وكلمة أوّاب معناها سريع العودة وذا الأيد معناها
كثير الخير. ونلاحظ تكرار كلمة «أناب» رمز العودة إلى الحق. وتختم السورة بنموذج
عكسي للعودة إلى الحق وهو نموذج إبليس وعناده، الآيات من 73 وحتى 76: ﴿فَسَجَدَ
الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ73إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ
مِنَ الْكَافِرِينَ74قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا
خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ75قَالَ أَنَا
خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ76﴾ [38:73—76].
أسباب النزول
أسباب النزول للآيات
(1-8): عن ابن عباس قال: مرض أبو طالب فجاءته قريش، وجاءه رسول الله فشكوه إلى أبي
طالب فقال له يا ابن أخي ما تريد من قومك؟ قال يا عم إنما أريد منهم كلمة تدين لهم
بها العرب، ويملكون بها العجم، كلمة واحدة، قال أبو طالب ما هي؟ قال لا إله إلا
الله، فقالوا: ﴿أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب﴾[38:5]، فنزل فيهم قوله
تعالى: ﴿ص والقرآن ذي الذكر﴾[38:1] … إلى ﴿بل لما يذوقوا عذاب﴾[38:8] رواه أحمد
والترمذي والنسائي.
ما تتضمنه السورة
هذه السورة مكية، تعالج
موضوعات السور المكية قضية التوحيد، وقضية الوحي إلى محمد ﷺ وقضية الحساب في
الآخرة. وتعرض هذه القضايا الثلاث في مطلعها الذي يؤلف الشوط الأول منها وهي
الآيات الكريمة التي تمثل الدهش والاستغراب الذي تلقي به كبار المشركين في مكة
دعوة النبي لهم إلى توحيد الله: ﴿وعجبوا أن جاءهم منذر منهم﴾[38:4].
لقد استكتروا أن يختار
الله سبحانه رجلا منهم لينزل عليه الذكر من بينهم وأن يكون هذا الرجل محمد بن عبد
الله الذي لم تسبق له فيهم إمارة: ﴿أأنزل عليه الذكر من بيننا﴾[38:8].
وفي هذا السياق جاءت
قصة داود وقصة سليمان وما أغدق الله عليهما من النبوبة والملك، ومن تسخير الجبال
والطير، وتسخير الجن والريح، فوق الملك وخزائن الأرض والسلطان والمتاع. وجاء مع
القصتين توجيه النبي ﷺ إلى الصبر على ما يلقاه من المكذبين، والتطلع إلى فضل الله
ورعايته كما تمثلهما قصة داود وقصة سليمان: ﴿اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود
ذا الأيد إنه أواب﴾[38:17] ….
كذلك جاءت قصة أيوب
ابتلاء الله للمخلصين من عباده بالضراء، وصبر أيوب مثل في الصبر، وفي عرض القصة
تأسية للرسول وللمؤمنين عما كانوا يلقونه من الضر والبأساء في مكة. وهذا القصص
يستغرق معظم السورة بعد المقدمة، ويؤلف الشوط الثاني منها.
كذلك تتضمن السورة رداً
على استعجالهم بالعذاب وقولهم: ﴿ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب﴾[38:16]، ويعرض
بعد القصص مشهد من مشاهد القيامة، ويصور النعيم الذي ينتظر المتقين، والجحيم الذي
ينتظر المكذبين.
ويؤلف الشوط الثالث،
استنكار الكفار لما يخبرهم به الرسول ﷺ من أمر الوحي. ويتمثل هذا الرد في قصة آدم
في الملأ الأعلى. حيث لم يكم النبي حاضراً، وإنما إخبار الله له بما كان مما لم
يشهده غير آدم – حاضراً، وفي ثنايا القصة يتبين أن الذي أردى إبليس وذهب به إلى
الطرد واللعنة، هو حسده لآدم، واستكثاره أن يؤثره الله عليه كما هم يستكثرون على
محمد.
وتختم السورة بختام هذا
الشوط الرابع والأخير، يقول النبي ﷺ لهم: إن ما يدعوهم إليه لا يتكلفه من عنده.
ولا يطلب عليه أجراً. وإن له شأناً عظيماً سوف يتجلى: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ86إِنْ هُوَ إِلَّا
ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ87وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ88﴾ [38:86—88].
هذه الأشواط التي تجري
بموضوعات السورة، تجول بالقلب البشري في مصارع الغابرين، وتعرض صفحة الهزيمة
والدمار للمكذبين، وتعرض صفحة العز والتمكين والرحمة في قصص داود وسليمان وأيوب.
وتطوف بالقلب البشري في يوم القيامة وصور النعيم والجحيم. والجولة الأخيرة في قصة
البشرية الأولى وقصة الحسد والغواية من العدو الأول الذي يقود الضالين عن عمد وسبق
إصرار.
كذلك ترد في ثنايا
القصص لفتة تلمس القلب البشري وتوقظه إلى الحق الكامن في بناء السماء والأرض. وأنة
الحق الذي يريد الله بإرسال الرسل أن يقره بين الناس في الأرض: ﴿وما خلقنا السماء
والأرض وما بينهما باطلاً﴾[38:27] وهي لفتة لها في القرآن نظائر. وهي حقيقة أصيلة من
حقائق هذه العقيدة التي هي مادة القرآن المكي الأصلية
صٓۚ
وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِي ٱلذِّكۡرِ ١ بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٖ
وَشِقَاقٖ ٢ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنٖ
فَنَادَواْ وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٖ ٣
" صٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِي ٱلذِّكۡرِ " تقدم الكلام
عن الحروف المقطعة فى بدايات السور فى سورة البقرة والقرآن المشتمل على ما فيه ذكر
للعباد ونفع لهم فى المعاش والمعاد وقال الضحاك فى قوله" ذى الذكر"
كقوله تعالى " لقد أنزلنا اليكم كتابا فيه ذكركم " أى تذكيركم وقال ابن
عباس " ذى الذكر" ذى الشرف أى ذى الشأن والمكانة ولا منافاة بين القولين
فانه كتاب شريف مشتمل على التذكير والاعذار والانذار ، " بَلِ ٱلَّذِينَ
كَفَرُواْ فِي عِزَّةٖ وَشِقَاق"ان فى هذا القرآن لذكرى لمن يتذكر وعبرة لمن
يعتبر وانما لم ينتفع به الكافرون لأنهم فى استكبارعنه وحمية "وشقاق "
أى ومخالفة له ومعاندة ومفارقة ،" كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡن" ثم خوفهم ما
أهلك به الأمم المكذبة قبلهم بسبب مخالفتهم
للرسل وتكذيبهم الكتب المنزلة من السماء واستخدم لفظ كم للتعبير عن الكثرة
أى أهلكنا قبلهم أمما كثيرة ، " فَنَادَواْ
" هذه الأمم المكذبة حين جاءهم العذاب استغاثوا وجأروا الى الله تعالى وهذا
كقوله " فلما أحسوا بأسنا اذا هم منها يركضون" أى يهربون مسرعين ، "وَّلَاتَ
حِينَ مَنَاص " لكن ليس هذا هو الوقت والحين الذى فيه مفر أو فرار وقال ابن
عباس ليس بحين مغاث وقال قتادة لما رأوا العذاب أرادوا التوبة فى غير حين النداء
وقال مجاهد ليس بحين فرار ولا اجابة وقال مالك عن زيد بن أسلم ولا نداء فى غير حين
النداء وكلمة لات هى "لا" التى تفيد النفى أى ولا يوجد فى هذا الحين أو
الوقت مهرب أوفرار والتاء زيدت معها كما تزاد فى" ثم" فيقولون ثمت وفى "رب"
فيقولون ربت والوقف عليها وهى مفصولة ويقول أهل اللغة أن النوص هو التأخر والبوص
التقدم ولهذا قال تعالى " ولات حين مناص " أى ليس الحين حين فرار ولا
ذهاب .
وَعَجِبُوٓاْ
أَن جَآءَهُم مُّنذِرٞ مِّنۡهُمۡۖ وَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٞ
كَذَّابٌ ٤ أَجَعَلَ ٱلۡأٓلِهَةَ إِلَٰهٗا وَٰحِدًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عُجَابٞ
٥ وَٱنطَلَقَ ٱلۡمَلَأُ مِنۡهُمۡ أَنِ ٱمۡشُواْ وَٱصۡبِرُواْ عَلَىٰٓ
ءَالِهَتِكُمۡۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٞ يُرَادُ ٦ مَا سَمِعۡنَا بِهَٰذَا فِي ٱلۡمِلَّةِ ٱلۡأٓخِرَةِ
إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا ٱخۡتِلَٰقٌ ٧ أَءُنزِلَ عَلَيۡهِ ٱلذِّكۡرُ مِنۢ بَيۡنِنَاۚ
بَلۡ هُمۡ فِي شَكّٖ مِّن ذِكۡرِيۚ بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ ٨ أَمۡ عِندَهُمۡ
خَزَآئِنُ رَحۡمَةِ رَبِّكَ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡوَهَّابِ ٩ أَمۡ لَهُم مُّلۡكُ
ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ فَلۡيَرۡتَقُواْ فِي ٱلۡأَسۡبَٰبِ
١٠ جُندٞ مَّا هُنَالِكَ مَهۡزُومٞ مِّنَ ٱلۡأَحۡزَابِ ١١
قال
السدى عندما ذكر سبب نزول هذه الايات أن ناسا من قريش اجتمعوا فيهم أبو جهل بن
هشام والعاص ابن وائل والأسود بن عبد يغوث فى
نفر من مشيخة قريش فقال بعضهم لبعض انطلقوا بنا الى أبى طالب فلنكلمه فيه فلينصفنا
منه فليكف عن شتم آلهتنا وندعه والهه الذى يعبده فانا نخاف أن يموت هذا الشيخ
فيكون منا اليه شىء فتعيرنا به العرب يقولون تركوه حتى اذا مات عنه تناولوه فبعثوا
رجلا منهم يقال له المطلب فاستأذن لهم على أبى طالب فقال هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم
يستأذنون عليك قال أدخلهم فلما دخلوا عليه قالوا يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا
فأنصفنا من ابن أخيك فمره فليكف عن شتم آلهتنا وندعه والهه ، فبعث اليه أبوطالب
فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا ابن أخى هؤلاء مشيخة قومك
وسراتهم وقد سألوك أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك والهك قال صلى الله عليه وسلم
" يا عم أفلا أدعوهم الى ما هو خير لهم ؟ قال والام تدعوهم ؟ قال صلى الله
عليه وسلم " أدعوهم أن يتكلموا بكلمة يدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم
" فقال أبوجهل من بين القوم ما هى وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها قال صلى
الله عليه وسلم تقولون لا اله الا الله " فنفروا وقالوا سلنا غيرها قال صلى
الله عليه وسلم " لوجئتمونى بالشمس حتى تضعوها فى يدى ما سألتكم غيرها "
فقاموا من عنده غضابا وقالوا والله لنشتمك والهك الذى أمرك بهذا " وانطلق
الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم ان هذا لشىء يراد " ونزلت الآيات الى
قوله تعالى" بل لما يذقوا عذاب "
فلما خرجوا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه الى قول لا اله الا الله
فأبى وقال بل على دين الأشياخ ونزلت " انك لا تهدى من أحببت " ،"وَعَجِبُوٓاْ
أَن جَآءَهُم مُّنذِرٞ مِّنۡهُمۡۖ وَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٞ كَذَّابٌ " يقول الله تعالى
مخبرا عن المشركين فى تعجبهم من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيرا ونذيرا
وهو بشر مثلهم وقالوا عنه ساحر كاذب ،
"أَجَعَلَ ٱلۡأٓلِهَةَ إِلَٰهٗا وَٰحِدًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عُجَاب" أنكر
المشركون وتعجبوا بقولهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم أزعم أن المعبود واحد لا
اله الا هو وتعجبوا من ترك الشرك بالله فانهم قد تلقوا عن آبائهم عبادة الأوثان
وأشربته قلوبهم فلما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم الى خلع ذلك من قلوبهم
وافراد الاله بالوحدانية أعظموا ذلك وتعجبوا ، " وَٱنطَلَقَ ٱلۡمَلَأُ
مِنۡهُمۡ أَنِ ٱمۡشُواْ وَٱصۡبِرُواْ عَلَىٰٓ ءَالِهَتِكُمۡۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٞ يُرَادُ " الملأ هم السادة
والقادة والرؤساء والكبراء انطلقوا قائلين امشوا أى استمروا على دينكم واصبروا على
آلهتكم ولا تستجيبوا لما يدعوكم اليه محمد (صلى الله عليه وسلم) من التوحيد وان
هذا الذى يدعونا اليه محمد (صلى الله عليه وسلم) من التوحيد لشىء يريد به الشرف
عليكم والاستعلاء وأن يكون له منكم أتباع ولسنا نجيبه اليه ، " مَا سَمِعۡنَا
بِهَٰذَا فِي ٱلۡمِلَّةِ ٱلۡأٓخِرَةِ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا ٱخۡتِلَٰقٌ " يقول
المشركون ما سمعنا بهذا الذى يدعونا اليه محمد من التوحيد فى الملة الأخرة قال
مجاهد وغيره يعنون دين قريش الاختلاق هو الكذب يعنى أن هذا كذب ، "أَءُنزِلَ عَلَيۡهِ ٱلذِّكۡرُ مِنۢ
بَيۡنِنَا" يعنى أنهم يستبعدون تخصيص الرسول صلى الله عليه وسلم بانزال
القرآن عليه من بينهم كلهم كما قال تعالى يخبر قولهم " لولا نزل هذا القرآن
على رجل من القريتين عظيم " وكما رد الله عليهم " أهم يقسمون رحمة ربك
نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات " ،
" بَلۡ هُمۡ فِي شَكّٖ مِّن ذِكۡرِيۚ بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ "يقول الله متوعدا المشركين أنهم مكذبون بذكر الله وهو
القرآن ويشكون أنه منزل من عند الله انما يقولون هذا لأنهم ما ذاقوا الى حين قولهم
ذلك عذاب الله تعالى ونقمته سيعلمون غب ما قالوا وما كذبوا به يوم يدعون الى نار
جهنم دعا ، " أَمۡ عِندَهُمۡ خَزَآئِنُ رَحۡمَةِ رَبِّكَ ٱلۡعَزِيزِ
ٱلۡوَهَّابِ " يقول الله تعالى مبينا أنه المتصرف فى ملكه الفعال لما يشاء
الذى يعطى من يشاء ما يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ويهدى من يشاء ويضل من يشاء
وينزل الروح من أمره على من يشاء من عباده ويختم على قلب من يشاء فما يهديه أحد من
بعد الله وقال الله منكرا عليهم هل عندهم تحكم فى ما عند الله من خزائن عطائه انه
هو العزيز الوهاب وأن العباد لا يملكون شيئا من الأمر وليس اليهم من التصرف فى الملك
ولا مثقال ذرة وما يملكون من قطمير فالله هو العزيز الذى لا يرام جنابه الوهاب
الذى يعطى ما يريد لمن يريد وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى " أم لهم نصيب
من الملك فاذا لا يؤتون الناس نقيرا * أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله
فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما * فمنهم من آمن به ومنهم
من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا" وكقوله تعالى" قل لو أنتم تملكون خزائن
رحمة ربى اذا لأمسكتم خشية الانفاق وكان الانسان قتورا"،"أَمۡ لَهُم
مُّلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ فَلۡيَرۡتَقُواْ فِي
ٱلۡأَسۡبَٰبِ " يتحدى الله تعالى المشركين ويوبخهم هل لهم ملك السموات والأرض
والجواب أن ليس لهم ذلك ويقول الله تعالى ان كان لهم ذلك فليصعدوا فى طرق السماء
وقال الضحاك فليصعدوا الى السماء السابعة وهذا يبين ويوضح عظمة الله وقدرته فالعلم
الحديث بكل ما أوتى من امكانات لم يصل حتى الى السماء الأولى ويقيس المسافات
بالملايين من السنوات الضوئية وهذا اعجاز من الله يذهل العقول سبق عصره فى عجائب
القرآن التى لا تنتهى، "جُندٞ مَّا هُنَالِكَ مَهۡزُومٞ مِّنَ ٱلۡأَحۡزَابِ " يقول الله تعالى أن هؤلاء الجند
المكذبون الذين هم فى عزة وشقاق سيهزمون ويغلبون ويكبتون كما كبت الذين من قبلهم
من الأحزاب المكذبين وهذ الآية كقوله جلت عظمته " أم يقولون نحن جميع منتصر
سيهزم الجمع ويولون الدبر " وكان ذلك يوم بدر .
كَذَّبَتۡ
قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحٖ وَعَادٞ وَفِرۡعَوۡنُ ذُو ٱلۡأَوۡتَادِ ١٢ وَثَمُودُ وَقَوۡمُ لُوطٖ
وَأَصۡحَٰبُ لَۡٔيۡكَةِۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلۡأَحۡزَابُ ١٣ إِن
كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ١٤ وَمَا يَنظُرُ هَٰٓؤُلَآءِ
إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ مَّا لَهَا مِن فَوَاقٖ ١٥ وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبۡلَ يَوۡمِ
ٱلۡحِسَابِ ١٦ ٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَا دَاوُۥدَ ذَا
ٱلۡأَيۡدِۖ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ ١٧
يقول
الله تعالى مخبرا عن الذين كذبوا فى القرون الماضية وما حل بهم من العذاب والنكال
والنقمات فى مخالفة الرسل وتكذيب الأنبياء وقد تقدمت قصصهم مبسوطة فى أماكن متعددة
" كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحٖ وَعَادٞ وَفِرۡعَوۡنُ ذُو ٱلۡأَوۡتَادِ " من الذين كذبوا الرسل وحاق
بهم العذاب قوم نوح عليه السلام وقوم عاد وقوم فرعون الذى تمتع بالقوة والبطش
الشديد ، " وَثَمُودُ وَقَوۡمُ لُوطٖ وَأَصۡحَٰبُ لَۡٔيۡكَةِۚ " وكان من الذين كذبوا الرسل
كذلك قوم ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وقال عنهم " أُوْلَٰٓئِكَ ٱلۡأَحۡزَابُ
" أى كانوا أكثر منكم وأشد قوة وأكثر أموالا وأولادا ،" إِن كُلٌّ
إِلَّا كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ "كل قوم من هؤلاء كذب الرسل فما
دفع عنهم من عذاب الله وعقابه من شىء لما
جاء أمر ربك نتيجة تكذيبهن لرسل الله ، " وَمَا يَنظُرُ هَٰٓؤُلَآءِ إِلَّا
صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ مَّا لَهَا مِن فَوَاق" وجعل
الله علة اهلاكهم هو تكذيبهم الرسل فليحذر المخاطبون من ذلك اشد الحذر وليحذروا أن
تأتيهم الساعة بغتة فلينظر هؤلاء فقد جاء أشراطها أى فقد اقتربت ودنت وأزفت ويبقى
أن تأتى الصيحة وهى نفخة الفزع التى يأمر الله تعالى اسرافيل أن يطولها فلا يبقى
أحد من أهل السموات والأرض الا فزع الا من استثنى الله عز وجل ، "وَقَالُواْ
رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبۡلَ يَوۡمِ ٱلۡحِسَابِ" هذا انكار من الله تعالى على المشركين فى دعائهم
على أنفسهم بتعجيل العذاب فان القط هو الكتاب وقيل هو الحظ والنصيب وقال ابن عباس
وغيره سألوا تعجيل العذاب كما قالوا " اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك
فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " وقيل سألوا تعجيل نصيبهم
من الجنة ان كانت موجودة ليلقوا ذاك فى الدنيا وانما خرج منهم ذلك مخرج الاستبعاد
والتكذيب وقال ابن جرير سألوا تعجيل ما يستحقونه من الخير أو الشر فى الدنيا وهذا
الكلام منهم على وجه الاستهزاء والاستبعاد ، " ٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ
وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَا دَاوُۥدَ ذَا ٱلۡأَيۡدِۖ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ " قال الله
تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم آمرا له بالصبر على أذاهم ومبشرا له على صبره
بالعاقبة والنصر والظفر يعطى الله مثلا بمن نصره من عباده وينتقل الى ذكر عبده
ورسوله داود عليه السلام أنه كان ذا أيد والأيدى القوة فى العلم والعمل وقال ابن
عباس الأيدى القوة وقال مجاهد الأيدى القوة فى الطاعة وقال قتادة أعطى داود عليه
السلام قوة فى العبادة وفقها فى الاسلام وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه
كان يقوم ثلث الليل ويصوم نصف الدهر وهذا ثابت فى الصحيحين عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال " أحب الصلاة الى الله تعالى صلاة داود ، وأحب الصيام الى الله عز وجل صيام داود كان
ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ، وكان يصوم يوما ويفطؤ يوما ولا يفر اذا
لاقى وانه كان أوابا ومدحه أنه أواب والأواب
هو الرجاع الى الله عز وجل فى جميع أموره وشؤنه .
إِنَّا
سَخَّرۡنَا ٱلۡجِبَالَ مَعَهُۥ يُسَبِّحۡنَ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِشۡرَاقِ ١٨
وَٱلطَّيۡرَ مَحۡشُورَةٗۖ كُلّٞ لَّهُۥٓ أَوَّابٞ ١٩ وَشَدَدۡنَا مُلۡكَهُۥ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحِكۡمَةَ وَفَصۡلَ
ٱلۡخِطَابِ ٢٠ ۞
"
إِنَّا
سَخَّرۡنَا ٱلۡجِبَالَ مَعَهُۥ يُسَبِّحۡنَ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِشۡرَاقِ "
يستمر الله تعالى فى الحديث عن داود عليه السلام فيقول تعالى أنه سخر الجبال تسبح
معه عند اشاق الشمس وآخر النهار ، " وَٱلطَّيۡرَ
مَحۡشُورَةٗۖ
كُلّٞ لَّهُۥٓ أَوَّاب" الطير
محبوسة فى الهواء كل مطيع يسبح تبعا له وقال قتادة وغيره " كل له أواب "
أى مطيع وكذلك كانت الطيرتسبح بتسبيحه
وترجع بترجيعه اذا مر الطير وهو سابح فى الهواء فسمعه وهو يترنم بقراءة الزبور لا
يستطيع الذهاب بل يقف فى الهواء ويسبح معه وتجيبه الجبال الشامخات ترجع معه وتسبح
تبعا له وعن ابن عباس أنه بلغه أن أم هانىء رضى الله عنها ذكرت أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم يوم فتح مكة صلى الضحى ثمانى ركعات فقال ابن عباس قد ظننت أن لهذه
الساعة صلاة يقول الله عز وجل " يسبحن بالعشى والاشراق " ، " وَشَدَدۡنَا
مُلۡكَهُ" التشديد هنا التقوية والدعم
أى جعلنا له ملكا كاملا من جميع ما يحتاج اليه الملوك وقال مجاهد أنه كان
أشد أهل الدنيا سلطانا ، " وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحِكۡمَةَ" قال مجاهد
الحكمة هى الفهم والعقل وقال مرة آتاه الله الحكمة والعدل وقال كذلك الحكمة هى
الصواب وقال قتادة كتاب الله واتباع ما فيه وقال السدى الحكمة النبوة، " وَفَصۡلَ
ٱلۡخِطَابِ " قال مجاهد والسدى فصل الخطاب هو اصابة القضاء وفهم ذلك وقال
مجاهد أيضا هو الفصل فى الكلام وفى الحكم وقال شريح القاضى والشعبى فصل الخطاب هو
الشهود والأيمان وقال قتادة هوالقضاء فهو يتمتع بحسن القضاء كما سيرد .
وَهَلۡ
أَتَىٰكَ نَبَؤُاْ ٱلۡخَصۡمِ إِذۡ تَسَوَّرُواْ ٱلۡمِحۡرَابَ ٢١ إِذۡ دَخَلُواْ
عَلَىٰ دَاوُۥدَ فَفَزِعَ مِنۡهُمۡۖ قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ خَصۡمَانِ بَغَىٰ
بَعۡضُنَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فَٱحۡكُم بَيۡنَنَا بِٱلۡحَقِّ وَلَا تُشۡطِطۡ وَٱهۡدِنَآ إِلَىٰ
سَوَآءِ ٱلصِّرَٰطِ ٢٢ إِنَّ هَٰذَآ أَخِي لَهُۥ تِسۡعٞ
وَتِسۡعُونَ نَعۡجَةٗ وَلِيَ نَعۡجَةٞ وَٰحِدَةٞ فَقَالَ أَكۡفِلۡنِيهَا وَعَزَّنِي فِي ٱلۡخِطَابِ ٢٣ قَالَ
لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِيرٗا
مِّنَ ٱلۡخُلَطَآءِ لَيَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ
ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٞ
مَّا هُمۡۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّۤ
رَاكِعٗاۤ
وَأَنَابَ۩ ٢٤ فَغَفَرۡنَا لَهُۥ ذَٰلِكَۖ وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ
وَحُسۡنَ مََٔابٖ ٢٥
يتحدث
الله تعالى فيخبر عن ما وقع مع داود من حدث وان كل ما ورد فى القرآن هو حق "وَهَلۡ
أَتَىٰكَ نَبَؤُاْ ٱلۡخَصۡمِ إِذۡ تَسَوَّرُواْ ٱلۡمِحۡرَابَ * إِذۡ دَخَلُواْ
عَلَىٰ دَاوُۥدَ فَفَزِعَ مِنۡهُمۡۖ قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ خَصۡمَانِ بَغَىٰ
بَعۡضُنَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فَٱحۡكُم بَيۡنَنَا بِٱلۡحَقِّ وَلَا تُشۡطِطۡ وَٱهۡدِنَآ إِلَىٰ
سَوَآءِ ٱلصِّرَٰطِ " يخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الحدث
بشد الانتباه بقوله هل لديك علم بما وقع بين خصمين دخلوا على داود عليه السلام
المحراب وهو يتعبد فجأة ففزع منهم لأنه كان فى محرابه وهو أشرف مكان فى داره وكان
قد أمر ألا يدخل عليه أحد ذلك اليوم فلم يشعر الا بشخصين قد تسوروا عليه المحراب
أى احتاطا به يسألانه عن شأنهما وطلبا منه الحكم بينهما بالعدل وأن يهديهما الى
الصواب فى حكمه بينهما ، " إِنَّ هَٰذَآ أَخِي لَهُۥ تِسۡعٞ وَتِسۡعُونَ نَعۡجَةٗ وَلِيَ نَعۡجَةٞ وَٰحِدَةٞ فَقَالَ أَكۡفِلۡنِيهَا
وَعَزَّنِي فِي ٱلۡخِطَابِ " يحكى أحد الخصمين أن ما يملكه هو نعجة واحدة فقط
وأن أخيه له تسع وتسعون نعجة من الغنم
وطلب منه أن يكفلها له أى يضمها الى غنمه ويرعاها له وانه غلبه يقال عز يعز
اذا قهر وغلب أى غلبنى فى مخاطبته هذه ،
" قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ
نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡخُلَطَآءِ لَيَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا
ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡۗ " تسرع داود فى
حكمه فهو لم يسمع من الطرف الآخر فقال له أن أخيك ظلمك بضم نعجتك الى نعاجه وأن فى
هذا ظلم وأن كثيرا ممن يخلطون يظلم ويتعدى على حقوق غيره الا من هدى الله من الذين
آمنوا بالله وعملوا الأعمال الصالحة وهم قليلون ، "وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا
فَتَنَّٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّۤ رَاكِعٗاۤ وَأَنَابَ فَغَفَرۡنَا لَهُۥ
ذَٰلِكَۖ " رجع داود الى نفسه واعتقد أن ما فعله كان اختبار له من الله وسجد
الى ربه سجدة توبة مما وقع فيه من اللبس فتاب الله عليه مما وقع فيه وغفر له وعن ابن عباس قال ان النبى صلى الله عليه وسلم
سجد فى ص وقال "سجدها داود عليه
السلام توبة ونسجدها شكرا " وعن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال : قرأ رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر "ص" فلما بلغ السجدة نزل فسجد
وسجد معه الناس فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشرف الناس للسجود فقال
صلى الله عليه وسلم " انما هى توبة نبى ولكنى رأيتكم تشرفتم " فنزل وسجد
تفرد به أبو داود واسناده على شرط الصحيحين ، " وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا
لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مََٔاب " يقول الله عن داود عليه السلام
ان له يوم القيامة لقربة يقربه الله عز وجل بها وحسن مرجع وهو الدرجات العالية فى
الجنة لنبوته وعدله التام فى ملكه كما جاء فى الحديث " المقسطون على منابر من
نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يقسطون فى أهليهم وما ولوا " وعن
أبى سعيد الخدرى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان أحب الناس الى
الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا امام عادل ، وان أبغض الناس الى الله يوم
القيامة وأشدهم عذابا امام جائر " .
يَٰدَاوُۥدُ
إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا
تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ
عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا نَسُواْ يَوۡمَ ٱلۡحِسَابِ ٢٦
"يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ
ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ " هذه دعوة من الله لداود عليه السلام للحكم بين الناس
بالحق المنزل من عنده بما جعله خليفة فى الأرض ومكنه من الحكم وهى كذلك وصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن
يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده ،" وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ
فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ " ينهى الله داود عليه السلام أن يبعد عن
هوى النفس فان النفس لأمارة بالسوء وتبعد من اتبع هواها عن طريق الحق طريق الله
وشرعه وما أمر به ،" إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمۡ
عَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا نَسُواْ يَوۡمَ
ٱلۡحِسَابِ " يذكر الله بعاقبة من يضلوا عن سبيله وتوعدهم بالعذاب الشديد فى
جهنم يوم الحساب وهو يوم القيامة لأنهم فى أقوالهم وأفعالهم لم يضعوا فى تفكيرهم
هذا اليوم وأنهم سوف يحاسبون وقال السدى لهم عذاب شديد بما تركوا أن يعملوا ليوم
الحساب ، حدث ابراهيم أبو زرعة وكان قد قرأ الكتاب أن الوليد بن عبد الملك قال له
أيحاسب الخليفة فانك قد قرأت الكتاب الأول وقرأـ القرآن وفقهت فقلت يا أمير
المؤمنين أقول ؟ قال قل فى أمان الله ، قلت : يا أمير المؤمنين أنت أكرم على الله
أم داود عليه السلام ان الله تعالى جمع له النبوة والخلافة ثم توعده فى كتابه فقال
تعالى " يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ
ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ
" .
وَمَا
خَلَقۡنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا بَٰطِلٗاۚ
ذَٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ فَوَيۡلٞ
لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ ٢٧ أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ
وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ كَٱلۡمُفۡسِدِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ نَجۡعَلُ
ٱلۡمُتَّقِينَ كَٱلۡفُجَّارِ ٢٨ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَكٞ
لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٢٩
"وَمَا
خَلَقۡنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا بَٰطِلٗاۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ
كَفَرُوا" يخبر الله تعالى أنه ما خلق السماء والأرض وما فيهما وما خلق الخلق
عبثا أى دون هدف فهذا اعتقاد الكفار الذين لا يرون بعثا ولا معادا وانما يعتقدون
هذه الدار الدنيا فقط وانما خلقهم سبحانه
وتعالى ليعبدوه ويوحدوه ثم يجمعهم يوم الجمع فيثيب المطيع ويعذب الكافر ،"
فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ
ٱلنَّارِ " يتوعد الله الكفار بالويل لهم يوم معادهم ونشورهم من النار المعدة
لهم ،" أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ
كَٱلۡمُفۡسِدِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلۡمُتَّقِينَ كَٱلۡفُجَّارِ "
بين الله عز وجل أن من عدله وحكمته أنه لا يساوى بين المؤمنين والكافرين واذا كان
الأمر كذلك فلابد من دار أخرى يثاب فيها المطيع ويعاقب فيها الفاجر الكافر وهذا
الارشاد يدل العقول السليمة والفطر المستقيمة على أنه لابد من معاد وجزاء فانا نرى
الظالم الباغى يزداد ماله وولده ونعيمه ويموت كذلك ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده
فلابد فى حكمه الحكيم العليم العادل الذى لا يظلم مثقال ذرة من انصاف هذا وهذا
واذا لم يقع هذا فى هذه الدار الدنيا فتعين أن هناك دار أخرى لهذا الجزاء
والمواساة ،"كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ
وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ " قال الله تعالى عن القرآن الذى
يرشد الى المقاصد الصحيحة والمآخذ العقلية الصريحة الذى نزله الى رسوله محمد صلى
الله عليه وسلم أنه نزل هذا الكتاب وهو القرآن للتدبر وأخذ العبرة من آياته وليكون
تذكرة لذوى العقول وهى الألباب جمع لب وهو العقل يذكرهم بسبيل الحق سبيل الله
فيعملوا به ويتبعوه وقال الحسن البصرى والله ما تدبره بحفظ حروفه واضاعة حدوده حتى
ان أحدهم ليقول قرأت القرآن كله ما يرى له القرآن فى خلق وعمل .
وَوَهَبۡنَا
لِدَاوُۥدَ سُلَيۡمَٰنَۚ نِعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ ٣٠ إِذۡ عُرِضَ
عَلَيۡهِ بِٱلۡعَشِيِّ ٱلصَّٰفِنَٰتُ ٱلۡجِيَادُ ٣١ فَقَالَ إِنِّيٓ أَحۡبَبۡتُ
حُبَّ ٱلۡخَيۡرِ عَن ذِكۡرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتۡ بِٱلۡحِجَابِ ٣٢ رُدُّوهَا
عَلَيَّۖ فَطَفِقَ مَسۡحَۢا بِٱلسُّوقِ وَٱلۡأَعۡنَاقِ ٣٣
"وَوَهَبۡنَا لِدَاوُۥدَ سُلَيۡمَٰنَۚ يقول الله تعالى أنه وهب لداود سليمان أى نبيا كما قال عز وجل " وورث سليمان داود " أى فى النبوة والا فقد كان له بنون غيره فانه كان عنده مائة امرأة حرائر ، " نِعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ "هذا ثناء من الله على سليمان عليه السلام بأنه كثير الطاعة والعبادة والانابة الى الله عز وجل ،" إِذۡ عُرِضَ عَلَيۡهِ بِٱلۡعَشِيِّ ٱلصَّٰفِنَٰتُ ٱلۡجِيَادُ " الصافنا الجياد هى خيل مجنحة مسخرة لسليمان عليه السلام عرض على سليمان عليه السلام فى حال مملكته وسلطانه الخيل الصافنات وهى التى تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة والجياد السراع وعن ابراهيم التيمى قال كانت عشرين فرسا ذات أجنحة وهناك خلاف فى العدد فعن ابراهيم التيمى أنها كانت عشرين ألف فرس وقال أنها شغلته عن عبادة ربه فعقرها ، وعن الطبري في تفسيره الصافنات: جمع الصافن من الخيل، والأنثى: صافنة، والصافن منها عند بعض العرب: الذي يجمع بين يديه، ويثني طرف سنبك إحدى رجليه، وعند آخرين: الذي يجمع يديه. وزعم الفرّاء أن الصافن: هو القائم، يقال منه: صَفَنَتِ الخيلُ تَصْفِن صُفُونًا. ومن جنس الصافنات الجياد البراق الذي أتى به جبريل للرسول محمد صلى الله عليه وسلّم في رحلة الإسراء والمعراج ووصفه الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم بأنه دابة فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه واسم البراق قريب من البرق في سرعته ، وأعلى من الصافنات الجياد والبراق في السرعة ما اختص الله به الملائكة من أجنحة مثنى وثلاث ورباع ويزيد الله في الخلق ما يشاء وقد راى الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم الصورة الملائكية لجبريل وأجنحته العظيمة ، وعن الصافنات الجياد أتت فكرة بساط الريح وفكرة الطيران ورسم الحيوانات المجنحة وحتى اليوم يتخذ الحصان المجنح والثور المجنح شعارا لبعض الشركات.
وعن
عائشة رضى الله عنها قالت قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر
وفى سهوتها ستر فهبت الريح فكشفت ناحية الستر عن بنات ( أى كما نقول عرائس أو دمى
صنعتها ) لعائشة رضى الله عنها لعب فقال صلى الله عليه وسلم : ما هذا يا عائشة ؟
" قالت رضى الله عنها : بناتى ورأى بينهن فرسا له جناحان قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم "فرس له جناحان؟ " قالت رضى الله عنها : أما سمعت أن
سليمان عليه السلام كانت له خيل لها أجنحة ؟ قالت رضى الله عنها فضحك صلى الله
عليه وسلم حتى رأيت نواجذه " ،" فَقَالَ إِنِّيٓ أَحۡبَبۡتُ حُبَّ
ٱلۡخَيۡرِ عَن ذِكۡرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتۡ بِٱلۡحِجَابِ " يخبر الله عن
سليمان عليه السلام أنه انشغل عن ذكر الله بحب الخير وهو متاع الدنيا كما قال الله
فى آية "وانه لحب الخير لشديد" فحب الخير المقصود به حب متاع الدنيا وما
فيها وذكر غير واحد من السلف والمفسرين أنه اشتغل بعرضها حتى فات وقت صلاة
العصر والذى يقطع به أنه لم يتركها عمدا بل نسيانا وتلهيا التى توارت بالحجاب هى
الشمس التى توارت وغربت واحتجبت أى اشتغلت بحب متاع الدنيا وتلهيت به عن ذكر الله
وهو غالبا الصلاة فى موعدها حتى غربت الشمس وخرج وقت الصلاة واعتبر سليمان ذلك من الذنوب التى توجب التوبة
والرجوع الى الله وهذا بالنسبة لنا ولغيرنا أمور قد لا نلتفت اليها ولكن عند
الأنبياء من عظائم الأمور وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بموقف مشابه مع
اختلاف الموقف فقد كان فى غزو فى سبيل الله فلا يجوز المقارنة فيقول البعض أن
النبى صلى الله عليه وسلم شغل يوم الخندق عن صلاة العصر حتى صلاها بعد الغروب فعن
جابر رضى الله عنه قال جاء عمر رضى الله عنه يوم الخندق بعدما غربت الشمس فجعل يسب
كفار قريش ويقول يا رسول الله والله ما كدت أصلى العصر حتى كادت الشمس تغرب فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم "والله ما صليتها " فقال فقمنا الى بطحان
فتوضأ نبى الله صلى الله عليه وسلم للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت
الشمس ثم صلى بعدها المغرب ، "رُدُّوهَا عَلَيَّۖ فَطَفِقَ
مَسۡحَۢا بِٱلسُّوقِ وَٱلۡأَعۡنَاق " طلب سليمان عليه السلام أن يأتى له
بالخيل وقال لا والله لا تشغلينى عن عبادة ربى وجعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها
حبالها وقال ابن جرير أنه لم يكن ليعذب حيوانا بالعرقبة ويهلك مالا من ماله بلا
سبب سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر اليها ولا ذنب لها حتى خرج وقت الصلاة ثم أمر
بها فعقرت ، ولهذا لما خرج عنها لله تعالى عوضه الله عز وجل ما هو خير منها وهو
الريح التى تجرى بأمره رخاء حيث أصاب غدوها شهر ورواحها شهر فهذا أشرع وخير من
الخيل وعن أبى قتادة وأبى الدهماء وكانا يكثران السفر نحو البيت قالا أتينا على رجل
من أهل البادية فقال لنا البدوى أخذ بيدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل
يعلمنى مما علمه الله عز وجل وقال " انك لا تدع شيئا اتقاء الله تعالى الا
أعطاك الله عز وجل خيرا منه " .
وَلَقَدۡ
فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا
ثُمَّ أَنَابَ ٣٤ قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَهَبۡ لِي مُلۡكٗا
لَّا يَنۢبَغِي لِأَحَدٖ مِّنۢ بَعۡدِيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ ٣٥ فَسَخَّرۡنَا لَهُ
ٱلرِّيحَ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦ رُخَآءً حَيۡثُ أَصَابَ ٣٦ وَٱلشَّيَٰطِينَ كُلَّ
بَنَّآءٖ وَغَوَّاصٖ ٣٧ وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلۡأَصۡفَادِ ٣٨ هَٰذَا
عَطَآؤُنَا فَٱمۡنُنۡ أَوۡ أَمۡسِكۡ بِغَيۡرِ حِسَابٖ
٣٩ وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مََٔابٖ ٤٠
"وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ " يقول لله تعالى فتنا سليمان أى اختبرناه ولكن الآية فى العموم تتحدث عن ذنب ارتكبه سليمان عليه السلام ثم تاب من بعده الى ربه وأناب, وقد تعددت الروايات فى تفسير هذه الآية يدخل بعضها فى الاسرائيليات والاختلاف حول هذا الذنب وهذا الاختبار الذى اختبر به الله سليمان عليه السلام هو محور تعدد التفسيرات ونستعرض هنا ما قاله الشيخ محمد متولى الشعراوى عن ذلك فى خواطره الفتنة معناها الاختبار، والفتنة في ذاتها ليست مكروهة، إنما المكروه أنْ تُخفق فيها وتفشل في خوضها، فماذا عليم لو فتناك. يعني: اختبرناك ونجحتَ في الاختبار؟ وأصل الفتنة من فتنة الذهب لتنقيته، فالذهب منه المخلوط بمواد أخرى، ونريده ذهباً إبريزاً صافياً فماذا نفعل؟ نصهر الذهب في النار ليخرج منه الخبث إلى أن يصير خالصاً نقياً، كذلك تفعل الفتنة بالناس تمحِّصهم لتبين الجيد من الرديء. وقد فتن الله سليمان كما فتن من قَبْل أباه داود - عليهما السلام - في مسألة المحراب.
ومعنى: { وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ
كُرْسِيِّهِ جَسَداً.. } [ص: 34] الكرسي هو العرش الذي يجلس عليه الملك، والجسد هو
قالب الكائن الحي. ويقال لهذا القالب (جسد) إذا كان خالياً من الروح، وللمفسرين
في هذه الآية عدة أقوال:
قالوا: إن سيدنا داود كان له ولد آخر
غير سليمان، إلا أنه كان ولداً فاسداً مثل ولد نوح، فاحتال هذا الولدُ وقام
بانقلاب على سليمان، حتى أخذ المُلْكَ منه، وظل مَلِكاً مدة طويلة، فلما أراد الحق
سبحانه أنْ يعيد سليمان إلى مُلْكه ألقى هذا الولد الفَاسِد على كرسي عرشه جسداً
هامداً لا حركة فيه، يعني: بعد أنْ كان مَلِكاً مُطاعاً مُسيطراً صار لا يسيطر حتى
على نفسه وجوارحه. بعد ذلك خرجتْ عليه رعيته فقتلوه، وجاء بعده سليمان.
وقالوا: إن سيدنا سليمان كان لديه
جَوَارٍ كثيرات. فقال: سأطوف الليلة على سبعين جارية، وآت من كل واحدة بولد فارس
يركب فرسه في سبيل الله، يعني: المسألة كلها كانت في الخير وفي الله، إلا أنه لم
يقدم المشيئة ولم يقُلْ: إنْ شاء الله، فلم تَلِدْ منهن إلا جارية واحدة، ولدتْ له
جسداً لا حركةَ فيه ولا تصرُّفَ؛ لأن المؤمن مُطالب بأنْ يقدم مشيئة الله إذا عزم
على شيء في المستقبل، كما قال سبحانه:
( وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي
فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ) الكهف: 23-24
أنك حين تقول: سأفعل غداً كذا وكذا،
فقد حكمتَ على فعل لا تملك عنصراً واحداً من عناصره، فأنت لا تضمن بقاء نفسك إلى
أنْ تفعل، ولا تضمن تغيُّر الأحوال وتغيُّر الأسباب، فحين تعلِّق فعلَك على مشيئة
الله إنما تحفظ كرامتك وتبرئ نفسك من الكذب، فقد شئتَ ولكن الله لم يَشَأْ.
ويبدو أن المُلْكَ أغرى سليمان،
فداخله شيء من الزَّهْو؛ لأنه متحكم في عوالم الإنس والجن والطير والحيوان ومُطَاع
من الكون كله من حوله، لذلك لم يقُلْ إنْ شاء الله، فجازاه الله بذلك.
وقال آخرون: إن سليمان - عليه السلام
- أنجب ولداً، وأن الجن أرادتْ به سوءاً؛ لأنها خافت أنْ يفعل بها كما يفعل
سليمان، فأرادوا قتله، فما كان من سليمان إلا أنْ رفعه فوق السحاب يرضع من المزْن،
فكأنه - عليه السلام - أراد أنْ يفر من قدر الله.وقالوا: إن الجسد هو سليمان نفسه؛
لأن الإنسان العادي، جعله الله يتحكَّم في جوارح نفسه حين يريد اللهُ ذلك، فيقوم
بمجرد أنْ يريد القيام، ويتحرك بمجرد أنْ يريدَ الحركةَ دون أنْ يعرفَ هو نفسه
ماذا يجري في أعضائه ومفاصله، فكأن الله تعالى يعطي الإنسان مثلاً في نفسه؛ ليقرب
له المسائل المتعلقة بالحق في إطار
( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)الشورى:
11
فإذا كنتَ أنت أيها المخلوق تفعل ما
تشاء، وتنفعل لك جوارحك وتطاوعك بمجرد الإرادة، ودون أنْ تأمرها بشيء فهل تستبعد
هذا في حقِّ الخالق سبحانه، حين يقول:
(
إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن
فَيَكُونُ ) يس: 82
إن الحق سبحانه يقول للشيء: كُنْ.
أما أنت فلا تقول: كُنْ وقد أراحك الله منها، وجعل الأعضاء تطاوعك دون أمر منك،
لأنك لو أمرتَها ما استجابتْ لك، هي تستجيب للخالق سبحانه، فإذا أراد الخالق
سبحانه سَلبك هذه القدرة، فتريد أنْ تحرك يدك فلا تستطيع؛ لينبهك إلى أنها موهوبة
لك، ليستْ ذاتية فيك.
الحق سبحانه وهب سيدنا سليمان
القدرةَ على السيطرة على جوارح ذاته، ثم عَدَّى هذه القدرة إلى السيطرة على
الآخرين من جنسه ومن غير جنسه، وجعل له سيطرةً على الكون كله، ينفعل له ويجاوبه،
يعني: المسألةُ كانت استعلاءً في التسلُّط على جنود الله.
ويبدو أن سليمان - عليه السلام -
داخله شيء في نفسه، فأراد الحق سبحانه أنْ يلفته إلى أن هذه القدرة ليستْ ذاتية
فيك، إنما هي موهوبة لك، أسلبها حين أشاء، فلا تستطيع السيطرة على جوارحك ولا
السيطرة على الآخرين، وألقاه الله فترة جسداً على كرسيه لا يقدر على شيء، ولا يأمر
بشيء.
فما دامتْ هذه النعمة موهوبةً من
الله الذي أعطاك مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعدك، فلا بُدَّ أنْ تظل مُتمسِّكاً
بحبله، لاجئاً دائماً إلى مَنْ ملَّككَ هذا الملْكَ.
لذلك، يُرْوَى أنه - عليه السلام -
ركب مرة البساط، وسارتْ به الريح كما يشاء، وفجأة مال به البساط، وكاد أنْ يُوقعه
فأمره أنْ يستوي به. فقال له البساط: أُمِرْنَا أنْ نطيعك ما أطعتَ الله.
إذن: فتناه لأننا مَلَّكناه مُلْكاً
لا ينبغي لأحد من بعده، لكن لا نريد له أنْ يطغى أو يتعالى، والحق سبحانه لا يكذب
كلامه، وقد قال سبحانه:
( كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ
لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ ) العلق: 6-7
وسليمان - عليه السلام - إنسان،
فأراد الحق سبحانه أنْ يُثبت لنا أن الإنسان تملَّك في جوارحه، وتملَّك فيمن حوله،
وتملَّك في جنس آخر غير جنسه، لكن هذا كله ليس ذاتياً فيه، بل هو موهوب له؛ بدليل
أن الله سلبه هذا المُلْك في لحظة ما، وألقاه على كُرسيه جسداً لا أمرَ له ولا
نهيَ ولا سلطانَ على شيء.فلما فهم سليمان المسألة آبَ ورجع { ثُمَّ أَنَابَ } [ص:
24] يعني: رجع إلى ما كان عليه قبل التجربة التي مَرَّ بها.
يعني: رجع وعاد إلى الجسد الذي فيه
روح، أو أناب ورجع إلى الله وعرف السبب فالمعنى يحتمل المعنيين: أناب في السبب، أو
أناب في المسبب. والجسد هو الجِرْم والهيكل الظاهري الذي لا روحَ فيه، والذي قال
الله عنه
(
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ )[الحجر: 29] أي: الجسد، ومنه قوله تعالى في قصة
السامري: { فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ... } [طه: 88] يعني:
هيكل العجل وصورته الظاهرية، لكن بدون روح.
فإنْ قَلْتَ: فهل يحدث هذا من الرسل؟
يعني: هل يخطئ الرسول ويُصحِّح له؟ نعم، العيب أنْ يصحح لك المسَاوي لك، إنما ليس
عيباً أنْ يصحح لك الأعلى، فماذا فيها إنْ كان الذي يُصحِّح لسليمان ربه عز وجل لا
أنت. إذن: من الشرف أنَّ الله يُعدِّل لسليمان، لذلك لما عَدَّلَ الحق سبحانه
الحكم لنبيه محمد، فقال:
(
يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي
مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) التحريم: 1
وقال:( عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ ) [عبس: 1-2] فهل استنكف رسول الله أنْ يُعدِّل له ربه؟ لا لم يستنكف بدليل أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أبلغ هذا التعديل وأخبرنا به، وأنا لا أخبر إلا بما فيه شَرفٌ لي.
، " قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَهَبۡ لِي
مُلۡكٗا لَّا يَنۢبَغِي
لِأَحَدٖ مِّنۢ بَعۡدِيٓۖ
إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ " سأل سليمان الله ان يغفر ما تقدم منه من ذنب وأن
يهبه ملك له وحده يخصه به وعن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما قال سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول : ان سليمان عليه السلام سأل الله تعتالى ثلاثا فأعطاه اثنتين
ونحن نرجوا أن تكون لنا الثالثة ، ساله حكما يصادف حكمه فأعطاه اياه وسأله ملكا لا
ينبغى لأحد من بعده فأعطاه اياه وساله أيما رجل خرج من بثيته لا يريد الا الصلاة
فى هذا المسجد خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه فنحن نرجو أن يكون الله عز وجل قد
أعطانا اياها " ، " فَسَخَّرۡنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦ
رُخَآءً حَيۡثُ أَصَابَ " قال الحسن البصرى لما عقر سليمان عليه السلام
الخيل غضبا لله عز وجل عوضه الله تعالى ما هو خير منها وأسرع الريح الت غدوها شهر
ورواحها شهر تجرى حيث أراد من البلاد ، " وَٱلشَّيَٰطِينَ كُلَّ بَنَّآءٖ وَغَوَّاص"
سخر الله تعالى لسليمان عليه السلام أيضا الشياطين من الجن منهم من هو مستعمل فى
الأبنية الهائلة من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات الى غير ذلك من
الأعمال الشاقة التى لا يقدر عليه البشر وطائفة غواصون فى البحار يستخرجون ما فيها
من اللآلىء والجواهر والأشياء النفيسة التى لا توجد الا فيها ،" وَءَاخَرِينَ
مُقَرَّنِينَ فِي ٱلۡأَصۡفَادِ " والآخرين الذين هم مقرنين فى الأصفاد أى
موثقون فى الأغلال والأكبال ممن قد تمرد وعصى وامتنع عن العمل وأبى أو قد أساء فى
صنيعه واعتدى وتعدى ، " هَٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمۡنُنۡ أَوۡ أَمۡسِكۡ بِغَيۡرِ
حِسَاب" يقول الله تعالى لسليمان عليه السلام هذا الذى أعطيناك من
الملك التام والسلطان الكامل كما سألتنا فأعط من شئت وأحرم من شئت لا حساب عليك أى
مهما فعلت فهو جائز لك أحكم بما شئت فهو صواب وقد ثبت فى الصحيحين أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لما خير بين أن يكون عبدا رسولا - وهو الذى يفعل ما يؤمر به
وانما هو قاسم يقسم بين الناس كما أمره الله تعالى به - وبين أن يكون نبيا ملكا
يعطى من يشاء ويمنع من يشاء بلا حساب ولا جناح اختار المنزلة الأولى بعد ما استشار
جبريل عليه السلام فقال له تواضع فاختار المنزلة الأولى لأنها أرفع قدرا عند الله
عز وجل وأعلى منزلة فى المعاد وان كانت المنزلة الثانية وهى النبوة مع الملك عظيمة
أيضا فى الدنيا والآخرة ولهذا لما ذكر الله تبارك وتعالى ما أعطى سليمان عليه
السلام فى الدنيا نبه تعالى على أنه ذو حظ عظيم عند الله يوم القيامة أيضا فقال
"وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مََٔاب" أى له عند الله قرب وحسن عاقبة فى الدنيا والآخرة .
وَٱذۡكُرۡ
عَبۡدَنَآ أَيُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيۡطَٰنُ
بِنُصۡبٖ وَعَذَابٍ ٤١ ٱرۡكُضۡ بِرِجۡلِكَۖ هَٰذَا مُغۡتَسَلُۢ بَارِدٞ
وَشَرَابٞ ٤٢ وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ أَهۡلَهُۥ وَمِثۡلَهُم مَّعَهُمۡ رَحۡمَةٗ
مِّنَّا وَذِكۡرَىٰ لِأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٤٣ وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا
فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ
نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ ٤٤
" وَٱذۡكُرۡ
عَبۡدَنَآ أَيُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيۡطَٰنُ
بِنُصۡبٖ وَعَذَابٍ " يذكر
الله تبارك وتعالى عبده ونبيه أيوب عليه السلام وما كان ابتلاه به من الضر فى جسده
وماله وولده حتى لم يبق من جسده مغرز ابرة سليما سوى قلبه ولم يبق له من الدنيا
شىء يستعين به على مرضه وما هو فيه غير أن زوجته حفظت وده لايمانها بالله تعالى
ورسوله فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه لمدة طويلة تمتد لسنوات نحوا من
ثمانى عشرة سنة وقد كان قبل ذلك فى مال جزيل وأولاد وسعة طائلة من الدنيا فسلب
جميع ذلك حتى ساء به الحال فلما طال المطال واشتد الحال وانتهى القدر وتم الأجل
المقدر تضرع لرب العالمين واله المرسلين رجاء المتوسل الطامع فى رحمة الله فقال
مسنى الضر على الرغم مما كان فيه من شدة البلاء وسأل الله رحمته به فهو أرحم
الراحمين فقال فى آية أخرى " أنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين وفى هذه الآية
قال وهو ينادى ربه مناداة الخاضع له" إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّي
مَسَّنِيَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِنُصۡبٖ وَعَذَابٍ " قيل أن به مس من السيطان وليس عقاب من الله قيل بنصب
فى بدنى وعذاب فى مالى وولدى ، " ٱرۡكُضۡ بِرِجۡلِكَۖ هَٰذَا مُغۡتَسَلُۢ
بَارِدٞ وَشَرَاب" استجاب له
أرحم الراحمين وأمره أن يقوم من مقامه وأن يركض الأرض برجله ففعل لإانبع الله
تعالى عينا وأمره أن يغتسل منها فأذهبت جميع ما كان فيه بدنه من الأذى ثم أمره
فضرب الأرض فى مكان آخر فأنبع له عينا أخرى وأمره أن يشرب منها فأذهب جميع ما كان
فى باطنه من السوء وتكاملت العافية ظاهرا وباطنا وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال
: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ان نبى الله أيوب عليه السلام لبث
به بلاؤه ثمانى عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد الا رجلين كانا من أخص اخوانه به
كانا يغدوان اليه ويروحان ، فقال أحدهما لصاحبه تعلم لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه
أحد من العالمين قال له صاحبه وما ذاك ؟ قال منذ ثمانى عشرة سنة لم يرحمه الله
تعالى فيكشف ما به فلما راحا اليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له فقال أيوب عليه
السلام لا أدرى ما تقول ما تقول غير أن الله عز وجل يعلم أنى كنت أمر على الرجلين
يتنازعان فيذكران الله تعالى فأرجع الى بيتى فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله
تعالى الا فى حق قال وكان يخرج الى حاجته فاذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ
فلما كان ذات يوم أبطأ عليها فأوحى الله تبارك وتعالى الى أيوب عليه السلام أن " ٱرۡكُضۡ بِرِجۡلِكَۖ هَٰذَا مُغۡتَسَلُۢ بَارِدٞ وَشَرَاب " فاستبطأته فالتفتت تنظر فأقبل عليها قد أذهب الله
ما به من البلاء وهو على أحسن ما كان فلما رأته قالت أى بارك الله فيك هل رأيت نبى
الله هذا المبتلى ؟ فو الله على ذلك ما رأيت رجلا أشبه به منك اذ كان صحيحا قال
فانى أنا هو " هذا لفظ ابن جرير ،
" وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ أَهۡلَهُۥ وَمِثۡلَهُم مَّعَهُمۡ " قال الحسن
وقتادة أحياهم الله تعالى له بأعيانهم وزادهم مثلهم معهم ، " رَحۡمَةٗ مِّنَّا وَذِكۡرَىٰ
لِأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ " يقول الله تعالى أن الله تولاه برحمته به على صبره
وثباته وانابته وتواضعه واستكانته وهذا الذى حدث لأيوب عليه السلام لتذكرة لذوى
العقول ليعلموا أن عاقبة الصبر الفرج والمحخرج والراحة ،" وَخُذۡ بِيَدِكَ
ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا
تَحۡنَثۡ" ذلك أن أيوب عليه السلام كان قد غضب على زوجته ووجد عليها فى أمر
فعلته قيل باعت ضفيرتها بخبز فأطعمته اياه فلامها على ذلك وحلف ان شفاه الله تعالى
ليضربنها مائة جلدة وقيل لغير ذلك من الأسباب فلما شفاه الله عز وجل وعافاه ما كان
جزاؤها مع هذه الخدمة التامة والرحمة والشفقة والاحسان أن تقابل بالضرب فأفتاه
الله عز وجل أن يأخذ ضغثا وهو الشمراخ فيه مائة قضيب فيضربها به ضربة واحدة وقد
برت يمينه وخرجمن حنثه ووفى بنذره وهخذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله تعالى
وأناب ولهذا قال تعالى ،" إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ
إِنَّهُۥٓ أَوَّاب" أثنى الله عليه ومدحه بأنه العبد الصابر الراجع المنيب
اليه حيث قال الله تعالى " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه منحيث لا يحتسب
* ومن يتوكل على الله فهو حسبه ان الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شىء قدرا "
.
وَٱذۡكُرۡ
عِبَٰدَنَآ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ أُوْلِي ٱلۡأَيۡدِي
وَٱلۡأَبۡصَٰرِ ٤٥ إِنَّآ أَخۡلَصۡنَٰهُم بِخَالِصَةٖ ذِكۡرَى ٱلدَّارِ ٤٦
وَإِنَّهُمۡ عِندَنَا لَمِنَ ٱلۡمُصۡطَفَيۡنَ ٱلۡأَخۡيَارِ ٤٧ وَٱذۡكُرۡ
إِسۡمَٰعِيلَ وَٱلۡيَسَعَ وَذَا ٱلۡكِفۡلِۖ وَكُلّٞ مِّنَ ٱلۡأَخۡيَارِ ٤٨
"وَٱذۡكُرۡ عِبَٰدَنَآ
إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ أُوْلِي ٱلۡأَيۡدِي وَٱلۡأَبۡصَٰرِ " يقول تبارك
وتعالى مخبرا عن فضائل عباده المرسلين وأنبيائه العابدين فذكر منهم ابراهيم
وأبنائه اسحاق ويعقوب عليهم السلام عن ابن عباس "أولى الأيدىوالأبصار " أى أولى القوة وهى القوة فى العبادة
والعمل الصالح وأصحاب البصيرة النافذة ويقول ابن عباس عن أولى الأبصار الفقه فى
الدين وقال مجاهد " أولى الأيدى " يعنى القوة فى طاعة الله تعالى
و"الأبصار" يعنى البصر فى الحق وقال قتادة والسدى أعطوا قوة فى العبادة
وبصرا فى الدين ، " إِنَّآ أَخۡلَصۡنَٰهُم بِخَالِصَةٖ ذِكۡرَى ٱلدَّارِ "
قال مجاهد أى جعلناهم يعملون للآخرة ليس لهم هم غيرها وقال مالك ابن دينار نزع
الله تعالى من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصهم بحب الآخرة وذكرها وقال سعيد
بنجبير يعنى بالدار الجنة يقول أخلصناها لهم بذكرهم لها وفى رواية أخرى ذكرى الدار
عقبى الدار وقال ابنزيد جعل لهم خاصة أفضل شىء فى الدار الآخرة ،" وَإِنَّهُمۡ
عِندَنَا لَمِنَ ٱلۡمُصۡطَفَيۡنَ ٱلۡأَخۡيَارِ " يقول الله تعالى عنهم أنهم
عنده لمن المختارين المجتبين الأخيار فهم أخيار مختارون هم مختارون من أخيار الناس
أو أفضل المختارين من الأخيار أى صفوة الصفوة ونخبة النخبة ،" وَٱذۡكُرۡ إِسۡمَٰعِيلَ وَٱلۡيَسَعَ
وَذَا ٱلۡكِفۡلِۖ وَكُلّٞ مِّنَ ٱلۡأَخۡيَارِ " يقول الله
تعالى وخص كذلك بالذكر اسماعيل واليسع وذا الكفل عليهم السلام وكلهم كذلك من
المتارين عند الله المفضلين على العباد وقد تقدم الكلام على قصصهم وأخبارهم فى
سورة الأنبياء .
هَٰذَا ذِكۡرٞۚ وَإِنَّ لِلۡمُتَّقِينَ لَحُسۡنَ مََٔابٖ ٤٩ جَنَّٰتِ
عَدۡنٖ
مُّفَتَّحَةٗ لَّهُمُ ٱلۡأَبۡوَٰبُ ٥٠ مُتَّكِِٔينَ فِيهَا يَدۡعُونَ فِيهَا بِفَٰكِهَةٖ
كَثِيرَةٖ وَشَرَابٖ ٥١ ۞وَعِندَهُمۡ قَٰصِرَٰتُ ٱلطَّرۡفِ أَتۡرَابٌ ٥٢ هَٰذَا مَا
تُوعَدُونَ لِيَوۡمِ ٱلۡحِسَابِ ٥٣ إِنَّ هَٰذَا لَرِزۡقُنَا مَا لَهُۥ مِن
نَّفَادٍ ٥٤
" هَٰذَا
ذِكۡر" أى هذا فضل فيه ذكر لمن يتذكر وقال السدى يعنى القرآن العظيم وكما قال
الرسول صلى الله عليه وسلم فيه ذكر من قبلكم وذكر من بعدكم ،" وَإِنَّ
لِلۡمُتَّقِينَ لَحُسۡنَ مََٔاب " يخبر الله تعالى عن عباده المؤمنين السعداءالمتقين له
لهم فى الدار الآخرة حسن المرجع والمنقلب ، " جَنَّٰتِ عَدۡنٖ مُّفَتَّحَةٗ لَّهُمُ ٱلۡأَبۡوَٰبُ"
يفسر الله تعالى حسن المرجع والمنقلب بقوله "جنات عدن " أى جنات اقامة
دائمة مفتحة لهم أبوابها أى اذا جاءوها فتحت لهم أبوابها وعن عبد الله بن عمر رضى
الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان فى الجنة قصرا يقال له
عدن حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب عند كل باب خمسة ألاف حبرة لا يدخله أو
لا يسكنه الا نبى أو صديق أو شهيد أو امام عدل " وقد ذكر فى أبواب الجنة
الثمانية أحاديث كثيرة من وجوه عديدة ، " مُتَّكِِٔينَ
فِيهَا يَدۡعُونَ فِيهَا بِفَٰكِهَةٖ كَثِيرَةٖ وَشَرَاب" يتحدث الله عن أهل الجنة وهم فى الجنة أنهم مستريحون
فيها متربعون على سرر تحت الحجال ومهما طلبوا من فاكهة كثيرة متنوعة وجدوا وأحضر
لهم كما أرادوا ويأتيهم أى من أنواع الشراب شاءوا يأتيهم به الخدام " بأكواب
وأباريق وكأس من معين "،"وَعِندَهُمۡ قَٰصِرَٰتُ ٱلطَّرۡفِ أَتۡرَابٌ "
ويرزقهم الله فى الجنة كذلك قاصرات الطرف أى الزوجات العفيافات الذين يغضون الطرف
عن غير أزواجهن فلا يلتفتن الى غير بعولتهن متساويات فى السن والعمر ، " هَٰذَا
مَا تُوعَدُونَ لِيَوۡمِ ٱلۡحِسَابِ" يقول الله تعالى هذا الذى ذكرنا من صفة
الجنة وما فيها من نعيم هى التى وعدها لعباده المتقين التى يصيرون اليها بعد بعثهم
وقيامهم من قبورهم وسلامتهم من النار يوم الحساب أى يوم القيامة ، " إِنَّ
هَٰذَا لَرِزۡقُنَا مَا لَهُۥ مِن نَّفَادٍ " أخبر الله تعالى عن الجنة أنه
جزاء يرزقه الله لا فراغ لها ولا زوال ولا انقضاء ولا انتهاء وهذا كقوله عز وجل
" ما عندكم ينفد وما عند الله باق " وكقوله تعالى " عطاء غير مجذوذ
" وكقوله تعالى " لهم أجر غير ممنون" أى غير مقطوع وكقوله عز وجل
" أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار" والآيات
فى هذا كثيرة .
هَٰذَاۚ
وَإِنَّ لِلطَّٰغِينَ لَشَرَّ مََٔابٖ ٥٥ جَهَنَّمَ يَصۡلَوۡنَهَا فَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ ٥٦ هَٰذَا
فَلۡيَذُوقُوهُ حَمِيمٞ وَغَسَّاقٞ ٥٧ وَءَاخَرُ مِن شَكۡلِهِۦٓ أَزۡوَٰجٌ ٥٨ هَٰذَا فَوۡجٞ
مُّقۡتَحِمٞ مَّعَكُمۡ لَا مَرۡحَبَۢا بِهِمۡۚ إِنَّهُمۡ صَالُواْ ٱلنَّارِ ٥٩
قَالُواْ بَلۡ أَنتُمۡ لَا مَرۡحَبَۢا بِكُمۡۖ أَنتُمۡ قَدَّمۡتُمُوهُ لَنَاۖ
فَبِئۡسَ ٱلۡقَرَارُ ٦٠ قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَٰذَا فَزِدۡهُ
عَذَابٗا
ضِعۡفٗا
فِي ٱلنَّارِ ٦١ وَقَالُواْ مَا لَنَا لَا نَرَىٰ رِجَالٗا
كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ ٱلۡأَشۡرَارِ ٦٢ أَتَّخَذۡنَٰهُمۡ سِخۡرِيًّا أَمۡ
زَاغَتۡ عَنۡهُمُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ ٦٣ إِنَّ ذَٰلِكَ لَحَقّٞ
تَخَاصُمُ أَهۡلِ ٱلنَّارِ ٦٤
" هَٰذَاۚ وَإِنَّ لِلطَّٰغِينَ
لَشَرَّ مََٔاب" لما ذكر الله
تعالى مآل السعداء ثنى بذكر حال الأشقياء ومرجعهم ومآبهم فى دار معادهم وحسابهم و"الطاغين"
هم الخارجون عن طاعة الله عز وجل المخالفون لرسل الله لهم سوء منقلب ومرجع ،"
جَهَنَّمَ يَصۡلَوۡنَهَا فَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ " فسر الله تعالى سوء المرجع
أنه جهنم يدخلونها فتغمرهم من جميع جوانبهم فبئس جهنم مهاد لهم ، " هَٰذَا
فَلۡيَذُوقُوهُ حَمِيمٞ
وَغَسَّاق"
الحميم هو الحار الذى قد انتهى حره وأما الغساق فهو ضده وهو البارد
الذى لا يستطاع من شدة برده المؤلم فهذا هو شراب أهل النار الأشقياء ، "
وَءَاخَرُ مِن شَكۡلِهِۦٓ أَزۡوَٰجٌ " أى وأشياء من هذا القبيل الشىء وضده يعاقبون به وقال الحسن البصرى ألوان
أخرى من العذاب على هذه الشاكلة وقال غيره كالزمهرير والسموم وشراب الحميم وأكل
الزقوم والصعود والهوى الى غير ذلك من الأشياء المختلفة المتضادة والجميع مما
يعذبون به ويهانون بسببه وعن أبى سعيد رضى
الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لو أن دلوا من غساق
يهراق فى الدنيا لأنتن أهل الدنيا" ، "هَٰذَا فَوۡجٞ مُّقۡتَحِمٞ
مَّعَكُمۡ لَا مَرۡحَبَۢا بِهِمۡۚ إِنَّهُمۡ صَالُواْ ٱلنَّارِ" يقول الله
تعالى عن قيل أهل النار بعضهم لبعض عن الأفواج التى تدخل معهم النار كلما دخل فوج
يقولوا عنه هذا فوج داخل معكم أى قادم اليكم كما قال تعالى " كلما دخلت أمة
لعنت أختها " وبدلا من السلام يتلاعنون ويتكاذبون ويكفر بعضهم ببعض فتقول
الطائفة التى تدخل قبل الأخرى اذا أقبلت التى بعدها مع الخزنة من الزبانية "
هذا فوج مقتحم معكم " هذا فوج داخل معكم غير مرحب بهم لأنهم من أهل جهنم أى
بئس الترحيب بهم وهذا من باب التلاعن كما هو فى حياتنا الدنيا عندما يدخل سجين الى
السجن ويستقبله من هم أقدم منه فى السجن فهو يسمع من سوء الكلام الكثير ، "
قَالُواْ بَلۡ أَنتُمۡ لَا مَرۡحَبَۢا بِكُمۡۖ أَنتُمۡ قَدَّمۡتُمُوهُ لَنَاۖ
فَبِئۡسَ ٱلۡقَرَارُ " يرد الداخلون عليهم أنت الذين دعوتمونا الى ما أفضى
بنا الى هذا المصير فبئس المنزل والمستقر والمصير ، "
قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَٰذَا فَزِدۡهُ عَذَابٗا ضِعۡفٗا
فِي ٱلنَّارِ " هذا تخاصم أهل النار فيما بينهم يقول الذين اتبعوا عن السادة
والكبراء الذين أضلوهم أن هؤلاء هم من أضلونا فيسألون الله أن يضاعف لهم العذاب فى
نار جهنم كما قال تعالى " قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا
ضعفا فى النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون " أى لكل منكم عذاب بحسبه ،"
وَقَالُواْ مَا لَنَا لَا نَرَىٰ رِجَالٗا
كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ ٱلۡأَشۡرَارِ " هذا اخبار من الكفار فى النار أنهم
يفقتدون رجالا كانوا يعتقدون أنهم على الضلالة وهو المؤمنون فى زعمهم قالوا ما لنا
لا نراهم فى النار ؟ قال مجاهد هذا قول أبى جهل يقول مالى لا أرى بلالا وعمارا
وصهيبا وفلانا وفلانا وهذا ضرب مثل والا فكل الكفار هذا حالهم يعتقدون أن المؤمنين
يدخلون النار فلما دخل الكفار النار افتقدوهم فلم يجدوهم فقالوا قولهم ، "
أَتَّخَذۡنَٰهُمۡ سِخۡرِيًّا " يقول الكفار أنهم اتخذوا هؤلاء ويقصدون
المؤمنين فى الدار الدنيا سخريا أى سخروا منهم وهزءوا بهم ۡ، " أَم زَاغَتۡ
عَنۡهُمُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ " يقول الكفار كذاك وهم فى جهنم عن المؤمنين وهم يسلون
أنفسهم بالمحال لعلهم معنا فى جهنم ولكن لم يقع بصرنا عليهم فعند ذلك يعرفون أنهم
فى الدرجات العاليات من الجنة وهو قوله تعالى " ونادى أصحاب الجنة أصحاب
النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن
مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين " ، " إِنَّ ذَٰلِكَ لَحَقّٞ تَخَاصُمُ أَهۡلِ ٱلنَّارِ" يقول الله لرسوله صلى اله عليه وسلم
ان هذا الذى أخبرناك به يا محمد من تخاصم أهل النار بعضهم فى بعض ولعن بعضهم لبعض
لحق لا مرية فيه ولا شك .
قُلۡ إِنَّمَآ
أَنَا۠ مُنذِرٞۖ وَمَا مِنۡ إِلَٰهٍ إِلَّا ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ
ٱلۡقَهَّارُ ٦٥ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا ٱلۡعَزِيزُ
ٱلۡغَفَّٰرُ ٦٦ قُلۡ هُوَ نَبَؤٌاْ عَظِيمٌ ٦٧ أَنتُمۡ عَنۡهُ مُعۡرِضُونَ ٦٨ مَا
كَانَ لِيَ مِنۡ عِلۡمِۢ بِٱلۡمَلَإِ ٱلۡأَعۡلَىٰٓ إِذۡ يَخۡتَصِمُونَ ٦٩ إِن
يُوحَىٰٓ إِلَيَّ إِلَّآ أَنَّمَآ أَنَا۠ نَذِيرٞ مُّبِينٌ ٧٠
" قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ مُنذِرٞۖ وَمَا
مِنۡ إِلَٰهٍ إِلَّا ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ " يقول الله تعالى آمرا
رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار بالله المشركين به المكذبين لرسوله صلى
الله عليه وسلم انما هو منذر لهم من عذاب الله وعصيان أمره وعدم اتباع رسالته وأن
الله هو اله واحد هو وحده قد قهر كل شىء وغلبه أى يدعوهم الى ترك الشرك والايمان
بوحدانية الله ، " رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا
ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفَّٰرُ " هذا استمرار الى الدعوة الى الله والتعريف به فهو
خالق السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو مالك جميع ذلك ومتصرف فيه وهو غفار
لذنوب من تاب اليه واتبع طريقه وحاد عن عصيانه مع عظمته وعزته فهو عزيز ورب العزة
وغفار للذبوب يقبل من تاب اليه ويعفو عنه ، " قُلۡ هُوَ نَبَؤٌاْ عَظِيمٌ "
يخبر الله تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار وغيرهم أن ارسال
الله تعالى اياى اليكم هو خبر عظيم وشأن بليغ ، " أَنتُمۡ عَنۡهُ مُعۡرِضُونَ
" هذا الأمر العظيم أنت عنه مبتعدون غافلون له منكرون ، " مَا كَانَ
لِيَ مِنۡ عِلۡمِۢ بِٱلۡمَلَإِ ٱلۡأَعۡلَىٰٓ إِذۡ يَخۡتَصِمُونَ " الملأ
الأعلى هو الملائكة والاختصام هو فى شأن آدم عليه السلام وامتناع ابليس فى السجود
له ومحاجته ربه فى تفضيلع عليه كما سيأتى
ذلك فى الآيات التى فصلته والمعنى هو لولا الوحى من أين كنت أدرى باختلاف الملأ الأعلى
؟ ، " إِن يُوحَىٰٓ إِلَيَّ إِلَّآ أَنَّمَآ أَنَا۠ نَذِيرٞ مُّبِينٌ
" هذا تأكيد من الله تعالى كما جاء فى أول الآية " قل انما أنا منذر
" ومعناه أن ما جاءنى من وحي من عند ربى بالرسالة أنذركم به فأنا منذر ونذير
لكم واضح الانذار وكل هذا ليؤكد المعنى ويصله الى هؤلاء الكفار المشركين فى اختلاف
اللفظ المستخدم للانذار واستخدام كلمة مبين .
إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ
بَشَرٗا مِّن طِينٖ ٧١ فَإِذَا
سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ ٧٢
فَسَجَدَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ كُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ ٧٣ إِلَّآ إِبۡلِيسَ ٱسۡتَكۡبَرَ
وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٧٤ قَالَ يَٰٓإِبۡلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ
لِمَا خَلَقۡتُ بِيَدَيَّۖ أَسۡتَكۡبَرۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡعَالِينَ ٧٥ قَالَ
أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن
طِينٖ ٧٦ قَالَ فَٱخۡرُجۡ
مِنۡهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٞ ٧٧ وَإِنَّ عَلَيۡكَ لَعۡنَتِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ
ٱلدِّينِ ٧٨ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرۡنِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ ٧٩ قَالَ
فَإِنَّكَ مِنَ ٱلۡمُنظَرِينَ ٨٠ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡوَقۡتِ ٱلۡمَعۡلُومِ ٨١ قَالَ
فَبِعِزَّتِكَ لَأُغۡوِيَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ ٨٢ إِلَّا عِبَادَكَ مِنۡهُمُ
ٱلۡمُخۡلَصِينَ ٨٣ قَالَ فَٱلۡحَقُّ وَٱلۡحَقَّ أَقُولُ ٨٤ لَأَمۡلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ أَجۡمَعِينَ ٨٥
" إِذۡ قَالَ
رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن طِين" هذه القصة ذكرها الله تعالى فى سورة البقرة وفى أول
سورة الأعراف وفى سورة الحجر وسبحان أو الاسراء والكهف وهى أن الله تعالى أعلم
الملائكة قبل خلق آدم عليه السلام بأنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون ، "
فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ
مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ " وتقدم الله اليهم بالأمر : متى فرغ
من خلق آدم وتسويته على الوجه الأكمل فليسجدوا له اكراما واعظاما واحتراما وامتثالا
لأمر الله عزوجل ، " فَسَجَدَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ كُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ " امتثل
الملائكة كلهم لأمر الله لهم بالسجود لآدم عليه السلام ، " إِلَّآ إِبۡلِيسَ
ٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ " امتنع ابليس وهو لم يكن من
الملائكة جنسا عن السجود لآدم والامتثال لأمر الله وهو بذلك كان من الكافرين فقد
خرج عن طاعة الله فيما فعل فقد أصابه الكبر فى أن أن يفعل ما أمره الله به فقد كان
من الجن فخانه طبعه وجبلته أحوج اليه فاستنكف عن السجود لآدم وخاصم ربه عز وجل فيه
، " قَالَ يَٰٓإِبۡلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ
بِيَدَيَّۖ أَسۡتَكۡبَرۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡعَالِينَ " سأل الله تعالى
ابليس عن الامتناع عن السجود لمن خلقه بيديه وهو آدم عليه السلام وأنه فعل ذلك أما
لتكبر واستعلاء منه على أمر الله وتكبر على من خلق الله وأمره بالسجود له طاعة
لأمره وعظمة خلقه فمن صفات المؤمن بالله أن يقول سمعنا وأطعنا وينفذ ويمثل لأمر
الله عز وجل و لا يستكبر ويدخل فى جدل ويعصى أمره ، " قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي
مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن
طِين" ادعى ابليس أنه خير من
آدم فانه مخلوق من نار وآدم
خلق من طين والنار خير فى زعمه من الطين وقد أخطأ فى ذلك وخالف أمر الله تعالى
وكفر بذلك ، " قَالَ فَٱخۡرُجۡ
مِنۡهَا فَإِنَّكَ رَجِيم" كان جزاء ابليس لمخالفته أمر ربه أن أبعده الله عز وجل
عن الجنة ، " وَإِنَّ عَلَيۡكَ لَعۡنَتِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلدِّينِ " وأرغم الله أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل انسه
وحضرة قدسه وسماه ابليس اعلاما له بأنه قد أبلس من الرحمة أى خرج منها وأنزله من
السماء وأخرجه من رحمته الى يوم القيامة يوم البعث حيث يلقى عقابه السرمدى
الدائم فى جهنم ،" قَالَ رَبِّ فَأَنظِرۡنِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ
يُبۡعَثُونَ "أنزل الله ابليس من السماء مذموما مدحورا الى الأرض فسأل الله
النظرة الى يوم البعث ، " قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلۡمُنظَرِينَ " أنظر
الله الحليم الذى لا تعجل على من عصاه أى أمهل ولم يحاسب ، " إِلَىٰ يَوۡمِ
ٱلۡوَقۡتِ ٱلۡمَعۡلُومِ " أى الى يوم البعث أعطى الله ابليس ما سأله عز وجل وهو
الامهال الى يوم القيامة يوم البعث الذى علمه عند الله ، " قَالَ
فَبِعِزَّتِكَ لَأُغۡوِيَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ " أقسم ابليس بعزة الله عز وجل
لما أمن الهلاك الى القيامة وتمرد وطغى أن يستمر فى غواية البشر من بنى آدم كلهم
ويحضهم على ارتكاب المعاصى والخروج عن طاعة الله ليكونوا له اتباعا الى يوم
القيامة ، " إِلَّا عِبَادَكَ مِنۡهُمُ ٱلۡمُخۡلَصِينَ " من لا يستطيع
ابليس غوايته هو المخلص أى الذى استخلصه الله واصطفاه وثبت على الايمان وطريق الحق
وهذا كقوله سبحانه وتعالى " أرأيتك هذا الذى كرمت على * لئن أخرتن الى يوم
القيامة لأحتنكن ذريته الا قليلا " وهؤلاء هم المستثنون فى الآية الأخرى وهى
قوله تعالى " ان عبادى ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا " ، "
قَالَ فَٱلۡحَقُّ وَٱلۡحَقَّ أَقُولُ " يقسم الله تعالى بالحق وفسره مجاهد
بان معناه ان الله يقول أنا الحق والحق الثانى أنه قول الحق منه وفى رواية عن
مجاهد الحق منى وأقول الحق وقال آخرون هو
قسم أقسم الله به وهذا كقوله تعالى " ولكن حق القول منى لأملأن جهنم من الجنة
والناس أجمعين " ، " لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ
مِنۡهُمۡ أَجۡمَعِينَ " بعد تأكيد الله وقسمه قال الله تعالى متوعدا ابليس
ومن تبعه من العصاة باستخدام لام التوكيد أنه سيملأ جهنم بابليس وذريته ومن تبعه
من بنى آدم كلهم اجمعين وهذا كقوله عز وجل " قال اذهب فمن تبعك منهم فان جهنم
جزاؤكم جزاء موفورا " .
قُلۡ مَآ أَسَۡٔلُكُمۡ
عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٖ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُتَكَلِّفِينَ ٨٦ إِنۡ هُوَ
إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ ٨٧ وَلَتَعۡلَمُنَّ نَبَأَهُۥ بَعۡدَ
حِينِۢ ٨٨
" قُلۡ مَآ أَسَۡٔلُكُمۡ
عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡر" يقول الله تعالى قل يا محمد لهؤلاء المشركين ما أسالكم
على هذا البلاغ وهذا النصح أجر تعطونيه من عرض الحياة الدنيا ، " وَمَآ
أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُتَكَلِّفِينَ "وما أريد على ما أرسلنى الله تعالى به ولا
أبتغى زيادة عليه بل ما أمرت به أديته لا
أزيد عليه ولا أنقص منه وانما أبتغى وجه الله عز وجل والدار الآخرة ، " إِنۡ
هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ " يعنى القرآن ذكر لجميع المكلفين من الانس
والجن وقال ابن عباس " للعالمين " الجن والانس وهذا كقولهتعالى "
لأنذركم به ومن بلغ " ، " وَلَتَعۡلَمُنَّ نَبَأَهُۥ بَعۡدَ حِينِۢ
" يقول الله تعالى مؤكذا سوف تعلمون خبر القرآن وصدقه عن قريب وقال قتادة بعد
الموت وقال عكرمة يعنى يوم القيامة ولا منافاة بين القثولين فان من مات فقددخل فى
حكم القيامة وقال الحسن يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين .
تفسير الجزء الثالث والعشرين
تفسير سورة الزمر
سورة الزمر
سورة مكية فيه سكات السور المكية من قضية الكفر والايمان والبعث وقدرة الله فى
الخلق والدليل على الوهيته ووحدانيته وأخبار الجنة والنار وعن عائشة رضى الله عنها
قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول ما يريد أن يفطر ويفطر حتى نقول
ما يريد أن يصوم ، وكان رسول الله عليه وسلم يقرأ فى كل ليلة بنى اسرائيل والزمر
" .
تَنزِيلُ ٱلۡكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ
ٱلۡحَكِيمِ ١ إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ فَٱعۡبُدِ
ٱللَّهَ مُخۡلِصٗا لَّهُ ٱلدِّينَ ٢ أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلۡخَالِصُۚ
وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا
لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰٓ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ فِي
مَا هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ كَٰذِبٞ كَفَّارٞ ٣ لَّوۡ أَرَادَ
ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدٗا لَّٱصۡطَفَىٰ مِمَّا يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ
سُبۡحَٰنَهُۥۖ هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ ٤
"تَنزِيلُ ٱلۡكِتَٰبِ
مِنَ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَكِيمِ " يخبر الله تعالى أن تنزيل هذا الكتاب
وهو القرآن العظيم من عنده تبارك وتعالى رب العزة والحكمة منيع الجانب الحكيم فى
أقواله وأفعاله وشرعه وقدره كقوله تعالى " وانه لتنزيل رب العالمين * نزل به
الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربى مبين " وكما قال
تعالى " وانه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من
حكيم حميد " ، "إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ
" فهو الحق الذى لا مرية فيه ولا شك الذى أنزله الله على نبيه صلى الله عليه
وسلم ورسوله ، " فَٱعۡبُدِ ٱللَّهَ مُخۡلِصٗا لَّهُ ٱلدِّينَ " فاعبد الله وحده لا شريك له وادع الخلق الى
ذلك وأعلمهم أنه لاتصلح العبادة الا له وحده وأنه ليس له شريك ولا عديل ولا نديد
ولهذا قال تعالى " أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلۡخَالِصُ" أى لا يقبل من
العمل الا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له وقال قتادة فى قوله تعالى
" ألا لله الدين الخالص " شهادة أن لا اله الا الله ، " وَٱلَّذِينَ
ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ
إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰٓ " أخبر الله عز وجل عن عباد الأصنام من المشركين
أنهم يقولون عن عبادة الأصنام انما يحملهم على عبادتهم لهم أنهم عمدوا الى الأصنام
اتخذوها على صور الملائكة المقربين فى زعمهم فعبدوا تلك الصور تنزيلا لذلك منزلة
عبادتهم الملائكة ليشفعوا لهم عند الله تعالى فى نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمور
الدنيا فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به وقال قتادة وغيره عن زيد بن أسلم
وابن زيد " الا ليقربونا الى الله زلفى " أى ليشفعوا لنا ويقربونا عند
الله منزلة ولهذا كانوا يقولون فى تلبيتهم اذا حجوا فى جاهليتهم لبيك لا شريك لك
الا شريكا هو لك تملكه وما ملك ، وهذه الشبهة هى التى اعتمدها المشركون فى قديم
الدهر وحديثه وجاءتهم الرسل أجمعين بردها والنهى عنها والدعوة الى افراد العبادة
لله وحده لا شريك له وأن هذا شىء اخترعه المشركون من عند أنفسهم لم يأذن فيه الله
ولا رضى به بل أبغضه ونهى عنه وهذا كقوله"ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن
اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت" وأخبر الله أن الملائكة التى فى السموات من
الملائكة المقربين وغيرهم كلهم عبيد خاضعون لله لا يشفعون عنده الا باذنه لمن
ارتضى وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم يشفعون عندهم بغير اذنهم فيما أحبه الملوك
وأبوه ،" إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ
بَيۡنَهُمۡ فِي مَا هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ" يخبر الله تعالى أنه يوم
القيامة سيفصل بين الخلائق يوم معادهم فيما اختلفوا فيه من الحق ويجزى كل عامل
بعمله كما فى قوله " ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء اياكم كانوا
يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون
" ، " إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ كَٰذِبٞ كَفَّار" يقول الله
تعالى أنه لا يرشد الى الهداية من قصده الكذب والافتراء على الله تعالى وقلبه كافر
بآياته وحججه وبراهينه ، " لَّوۡ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدٗا لَّٱصۡطَفَىٰ مِمَّا
يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُ" بين الله تعالى أنه لا ولد له كما يزعمه جهلة
المشركين فى الملائكة والمعاندون من اليهود والنصارى فى العزير وعيسى ورد عليهم
سبحانه أن لو أراد ذلك لكان الأمر على خلاف ما يزعمون وهذا شرط لا يلزم وقوعه ولا
جوازه بل هومحال وانما قصد تجهيلهم فيما ادعوه وزعموه كما قال عز وجل " لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا انا كنا
فاعلين " وكما قال "قل ان كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين " ،
" سُبۡحَٰنَهُۥۖ هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ " تنزه وتقدس
وتعالى الله عن أن يكون له ولد فانه الواحد الأحد الفرد الصمد الذى كل شىء عبد
لديه فقير اليه وهو الغنى عما سواه الذى قد قهر الأشياء فدانت له وذلت وخضعت تبارك
وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا .
خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۖ يُكَوِّرُ
ٱلَّيۡلَ عَلَى ٱلنَّهَارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّهَارَ عَلَى ٱلَّيۡلِۖ وَسَخَّرَ
ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمًّىۗ أَلَا هُوَ
ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفَّٰرُ ٥ خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ ثُمَّ جَعَلَ مِنۡهَا
زَوۡجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ ثَمَٰنِيَةَ أَزۡوَٰجٖۚ يَخۡلُقُكُمۡ فِي
بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ خَلۡقٗا مِّنۢ بَعۡدِ خَلۡقٖ فِي ظُلُمَٰتٖ ثَلَٰثٖۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ
رَبُّكُمۡ لَهُ ٱلۡمُلۡكُۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَأَنَّىٰ تُصۡرَفُونَ ٦
"خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقّ" يخبر الله تعالى أنه الخالق لما فى السموات والأرض وما بين ذلك من الأشياء وبأنه مالك الملك المتصرف فيه ، " يُكَوِّرُ ٱلَّيۡلَ عَلَى ٱلنَّهَارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّهَارَ عَلَى ٱلَّيۡل" يتحدث الله عن قدرته فى خلق الليل والنهار فقد سخرهما يجريان متعاقبين لا يفتران كل منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا كقوله تعالى " يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا " وهنا استخدم فعل يكور كالكرة المستديرة المتصلة هما متصلان متعاقبان والطلب الحثيث هو التدرج فى حلول الضياء وحلول الظلام فهو لا يحدث فجاءة،" وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمًّىۗ" من آيات الله تعالى تسخير الشمس والقمر لأجل مسمى وهو مدة معلومة عند الله تعالى الى يوم القيامة فالحياة على الأرض تعتمد على الشمس والقمر اعتمادا أساسيا فى وجودهما وحركتهما ، "أَلَا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفَّٰرُ " أى أن الله مع عزته وكبريائه هو غفار لمن عصاه ثم تاب وأناب اليه ، "خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَة" من قدرة الله تعالى على الخلق وعظمته أنه خلق البشر جميعا مع اختلاف أجناسهم وأصنافهم وألسنتهم وألوانهم من نفس واحدة وهو آدم عليه السلام ، "ثُمَّ جَعَلَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا " جعل منها زوجها وهى حواء خلقت من ضلع آدم عليه السلام لتكون زوجة له كقوله تعالى"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء " ،" وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ ثَمَٰنِيَةَ أَزۡوَٰج" وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية أزواج وهى المذكورة فى سورة الأنعام ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الابل اثنين ومن البقر اثنين وهى الحيوانات الأكثر شيوعا التى ينتفع بها الناس وبخاصة فى شبه الجزيرة العربية الصحراوية فكانت حياتهم تعتمد عليها ، " يَخۡلُقُكُمۡ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ خَلۡقٗا مِّنۢ بَعۡدِ خَلۡق" يتحدث الله عن قدرته فى الخلق وهو خلق الناس فى بطون أمهاتهم ومراحل نمو الجنين فى بطن أمه يكون نطفة ثم يكون علقة ثم يكون مضغة ثم يكون عظاما وتكسى العظام لحما وعصبا وعروقا وينفخ فيه الروح فيصير خلقا آخر ، " فِي ظُلُمَٰتٖ ثَلَٰث" ويكون الجنين فى ظلمات ثلاث فى ظلمة الرحم وظلمة المشيمة التى هى كالغشاوة والوقاية وظلمة البطن ،" ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ " هذا الذى خلق السموات والأرض وما بينهما وخلقكم وخلق آباءكم هو الله ربكم ورب كل شىء وسيده ، "لَهُ ٱلۡمُلۡكُۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُو" هو الرب له الملك المتصرف فى جميع ذلك لا اله الا هو الذى لا تنبغى العبادة الا له وحده لا شريك له ،" فَأَنَّىٰ تُصۡرَفُونَ " فكيف تعبدون معه غيره ؟ أين يذهب بعقولكم؟.
إِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمۡۖ
وَلَا يَرۡضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلۡكُفۡرَۖ وَإِن تَشۡكُرُواْ يَرۡضَهُ لَكُمۡۗ وَلَا
تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرۡجِعُكُمۡ
فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٧ ۞وَإِذَا مَسَّ ٱلۡإِنسَٰنَ ضُرّٞ دَعَا رَبَّهُۥ مُنِيبًا إِلَيۡهِ ثُمَّ إِذَا
خَوَّلَهُۥ نِعۡمَةٗ مِّنۡهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدۡعُوٓاْ إِلَيۡهِ مِن
قَبۡلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادٗا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِۦۚ قُلۡ تَمَتَّعۡ
بِكُفۡرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلنَّارِ ٨
" إِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمۡ" يقول الله تعالى مخبرا عن نفسه تبارك وتعالى أنه الغنى عما سواه من المخلوقات كما قال موسى عليه السلام " ان تكفروا أنتم ومن فى الأرض جميعا فان الله لغنى حميد " وفى صحيح مسلم " يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم كانوا على أفجرقلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا " ، " وَلَا يَرۡضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلۡكُفۡرَ" الله سبحانه وتعالى من رفقه بعباده أنه لا يحب الكفر ولا يأمر به ولا يرضاه لعباده والكفر هو جحود نعمة الله والخروج عن طاعته ، " وَإِن تَشۡكُرُواْ يَرۡضَهُ لَكُمۡ" والشكر هو عكس الكفر فهو الاعتراف بفضل الله ونعمته والايمان به فالله يحبه لكم ويزدكم من فضله،"وَلَاتَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ" لا تحمل نفس عن نفس شيئا بل كل مسؤول عن نفسه مطالب بأمرها لا أحد يتحمل أوزار أحد ، " ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرۡجِعُكُمۡ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ " بعد الحياة الدنيا والموت يكون المرجع يوم القيامة الى الله والحساب بين يديه فلا تخفى عليه خافية وكل يحاسب بعمله ان خيرا فخير وان شرا فشر ، " وَإِذَا مَسَّ ٱلۡإِنسَٰنَ ضُرّٞ دَعَا رَبَّهُۥ مُنِيبًا إِلَيۡهِ " عند الحاجة يتضرع الانسان الى الله ويستغيث به وحده لا شريك له تائبا اليه كما قال تعالى " واذا مسكم الضر فى البحر ضل من تدعون الا اياه فلما نجاكم الى البر أعرضتم وكان الانسان كفورا " ولهذا قال تعالى " ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُۥ نِعۡمَةٗ مِّنۡهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدۡعُوٓاْ إِلَيۡهِ مِن قَبۡلُ " فى حال الرفاهية ينسى الانسان ذلك الدعاء والتضرع كما قال تعالى " واذا مس الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا الى ضر مسه " ، " وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادٗا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِۦ" فى حال العافية يشرك الانسان بالله ويجعل له أندادا،"قُلۡ تَمَتَّعۡ بِكُفۡرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلنَّارِ " يقول الله تعالى قل لمن هذه حالته وطريقته ومسلكه تمتع بكفرك قليلا وهوتهديد ووعيد أكيد لسوء العاقبة كقوله تعالى " قل تمتعوا فان مصيركم الى النار " وقوله تعالى " نمتعهم قليلا ثم نضطرهم الى عذاب غليظ " .
أَمَّنۡ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ سَاجِدٗا وَقَآئِمٗا يَحۡذَرُ ٱلۡأٓخِرَةَ
وَيَرۡجُواْ رَحۡمَةَ رَبِّهِۦۗ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ
وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٩
يقول الله عزوجل من
هوصفته صفات الايمان كمن أشرك بالله وجعل له أندادا ؟ لا يستوون عند الله " أَمَّنۡ
هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ سَاجِدٗا وَقَآئِمٗا " يخبر عن المؤمن ومن هو وما هى صفاته فهو قانت أى خاضع لله
مطيع له ولهذا استدل بهذه الاية من ذهب الى أن القنوت هو الخشوع فى الصلاة وليس هو
القيام وحده كما ذهب اليه آخرون وعن ابن مسعود رضى الله عنه قال : القانت المطيع
لله عزوجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس وغيره آناء الليل جوف الليل
وقال الحسن وقتادة آناء الليل أوله وأوسطه وآخره يعنى من هو يقوم بالصلاة مطيعا
لله خاشعا فى جوف الليل بكل أركانها وخص هنا السجود لأن أقرب ما يكون العبد قريبا
من ربه وهو ساجد قائم بالصلاة وفى هذه الآية فضل صلاة قيام
الليل فى خشوع لله ،"يَحۡذَرُ ٱلۡأٓخِرَةَ وَيَرۡجُواْ رَحۡمَةَ رَبِّهِۦ"
هذا القانت لله فى حال عبادته خائف راج رحمة الله أن تحل به ولابد فى العبادة من
هذا وهذا وأن يكون الخوف فى مدة الحياة هو الغالب عليه وعن تميم الدارى رضى الله
عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرأ بمائة آية فى ليلة كتب له
قنوت ليلة " وكذا رواه النسائى فى اليوم والليلة ،" قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي
ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ" يقول الله تعالى هل
يستوى هذا الذى يعلم قدرالله وآمن به وخشع له مع هذا الذى لا يعلم قدره وجعل لله
أندادا ليضل عن سبيله وكذلك فى هذه الآية رفعة من شأن العلم وأهله والتقليل من شأن
الجاهلين ، " إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ " يقول الله
تعالى انما يعلم الفرق بين هذا وهذا من له لب وهو العقل وكذلك فى الآية اختصاص
التذكرة والعبرة من آيات الله لأصحاب العقول والأفهام فالقرآن معانيه كثيرة وغزيرة
.
قُلۡ يَٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ
رَبَّكُمۡۚ لِلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٞۗ وَأَرۡضُ ٱللَّهِ
وَٰسِعَةٌۗ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَيۡرِ حِسَابٖ ١٠ قُلۡ إِنِّيٓ
أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ ٱللَّهَ مُخۡلِصٗا لَّهُ ٱلدِّينَ ١١ وَأُمِرۡتُ لِأَنۡ أَكُونَ أَوَّلَ
ٱلۡمُسۡلِمِينَ ١٢
" قُلۡ يَٰعِبَادِ
ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ لِلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ فِي هَٰذِهِ
ٱلدُّنۡيَا حَسَنَة" يقول الله تعالى آمرا عباده المؤمنين بالاستمرار على
طاعته وتقواه فلمن أحسن العمل فى هذه الدنيا حسنة فى دنياهم وأخراهم ، "وَأَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٌ" وعن
عطاء قال اذا دعيتم الى معصية فاهربوا بعيدا عنها فارض الله واسعة ولا تركنوا
وتخضعوا وقال مجاهد أرض الله واسعة فهاجروا فيها وجاهدوا واعتزلوا الأوثان ويقول
الله تعالى فى آية أخرى " ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها " فلابد
للمسلم أن يقيم حدود ربه واذا ضاقت عليه يسعى وقد هاجر المسلمون الى الحبشة والى
المدينة فرارا بدينهم من الكفار حتى أيدهم الله بنصره فلابد أن يكون ذلك فى كل
مكان وفى كل زمان ، " إِنَّمَا
يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَيۡرِ حِسَاب" قال السدى يوفى الصابرون أجرهم فى الجنة وهنا اشارة الى
الصابرين الذين يصبرون ويقيمون دين الله يصبرون على ما يتعرضون له من مشاق ومتاعب
فى مواجهة الحياة ومواجهة الكفار والمشركين وهذا الذى يحدث للمسلمين فى عصرنا
الحالى فالقابض على دينه كالقابض على الجمر فعظم الله الجزاء وجعله بغير حساب
وأضعاف مضاعفة تعويضل لهم على صبرهم وقال الأوزاعى ليس يوزن لهم ولا يكال لهم انما
يغرف لهم غرفا وقال ابن جريج بلغنى أنه لا يحسب عليهم ثواب عملهم قط ولكن يزادون
على ذلك ، " قُلۡ إِنِّيٓ أُمِرۡتُ
أَنۡ أَعۡبُدَ ٱللَّهَ مُخۡلِصٗا لَّهُ ٱلدِّينَ " يقول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم
ولعباده المؤمنين أن يرددوا أمره ويقولوا انما أمرت باخلاص العبادة لله وحده لا
شريك له ، " وَأُمِرۡتُ لِأَنۡ أَكُونَ أَوَّلَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ " هذا
أمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قالالسدى يعنى أول المسلمين من أمته
فهو الذى أرسلت اليه الرسالة وأمر أن يبلغها من ربه وهنا الأولوية بمعنى السبق الى الاسلام ويمكن أن يكون أول المسلمين يعنى القدوة فى
الاسلام والايمان فهو الأول الذى يتبعه من بعده .
قُلۡ إِنِّيٓ أَخَافُ إِنۡ عَصَيۡتُ رَبِّي عَذَابَ
يَوۡمٍ عَظِيمٖ ١٣ قُلِ ٱللَّهَ أَعۡبُدُ مُخۡلِصٗا لَّهُۥ دِينِي ١٤ فَٱعۡبُدُواْ
مَا شِئۡتُم مِّن دُونِهِۦۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ
أَنفُسَهُمۡ وَأَهۡلِيهِمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ
ٱلۡمُبِينُ ١٥ لَهُم مِّن فَوۡقِهِمۡ ظُلَلٞ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحۡتِهِمۡ ظُلَلٞۚ ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ
ٱللَّهُ بِهِۦ عِبَادَهُۥۚ يَٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ ١٦
"قُلۡ
إِنِّيٓ أَخَافُ إِنۡ عَصَيۡتُ رَبِّي عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيم" يقول الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم
قل يامحمد وأنت رسول الله أنى أخشى ان خالفت ربى وعصيته وما بلغت أوامره وما
أرسلنى به العذاب العظيم يوم القيامة فى هذا اليوم العظيم ، " قُلِ ٱللَّهَ أَعۡبُدُ مُخۡلِصٗا لَّهُۥ دِينِي " يقول الله تعالى
آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول ويبلغ أنه يخلص العبادة لله وحده لا شريك
له ،" فَٱعۡبُدُواْ مَا شِئۡتُم مِّن دُونِهِۦۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡخَٰسِرِينَ
ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَأَهۡلِيهِمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ أَلَا
ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ " أى أيها الكفار المشركون أنا مفصول
عنكم لى دينى أما أنتم فاعبدوا ما شئتم من الأصنام والأوثان من دون الله وهذا
تهديد وتبر من الكافرين والمشركين فانما الخاسرون كل الخسران هم من يخسرون يوم
القيامة يخسرون أنفسهم ويخسرون أهليهم يوم القيامة أى تفارقوا فلا التقاء لهم أبدا
وسواء ذهب أهلوهم الى الجنة وقد ذهبوا هم الى النار أو أن الجميع خاسر اسكنوا
النار ولكن لا اجتماع لهم ولا سرور وهذا بعينه هو الخسران الواضح الجلى الظاهر الذى لا خسران بعده ولا خسران يساويه ،"
لَهُم مِّن فَوۡقِهِمۡ ظُلَلٞ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن
تَحۡتِهِمۡ ظُلَل" وصف الله حال هؤلاء الخاسرين فى النار فالنار تظللهم من
فوقهم ومن تحتهم أى تحيط بهم احاطة تامة فلا فرار كما قال تعالى"لهم من جهنم
مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزى الظالمين " ، " ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ
ٱللَّهُ بِهِۦ عِبَادَهُۥۚ يَٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ" انما يقص الله تعالى خبر
الكائن لا محالة ويتحقق وقوعه ليخوف به عباده لينزجروا عن المحارم والمآثم ويخشوا
بأسه وسطوته وعذابه ونقمته ويلتزموا بتقواه فى جميع أمورهم .
وَٱلَّذِينَ
ٱجۡتَنَبُواْ ٱلطَّٰغُوتَ أَن يَعۡبُدُوهَا وَأَنَابُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ
ٱلۡبُشۡرَىٰۚ فَبَشِّرۡ عِبَادِ ١٧ ٱلَّذِينَ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ
وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٨
"
وَٱلَّذِينَ ٱجۡتَنَبُواْ ٱلطَّٰغُوتَ أَن يَعۡبُدُوهَا وَأَنَابُوٓاْ إِلَى
ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰۚ فَبَشِّرۡ عِبَادِ " قال عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم عن أبيه نزلت فى زيد بن عمرو بن نفيل وأبى ذر وسلمان الفارسى رضى الله عنهم
والصحيح أنها شاملة لهم ولغيرهم ممن اجتنب عبادة الأوثان وأناب الى عبادة الرحمن
فهؤلاء هم الذين لهم البشرى فى الحياة الدنيا وفى الآخرة وهم عباد الله الذين لهم
البشرى بالجزاء العظيم وحسن العاقبة فى الدنيا
وبالجنة فى الآخرة ثم قال عزوجل " ٱلَّذِينَ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُ" من لهم البشرىمن عباد الله هم الذين يستمعون
القول من
حولهم ولكن ما يتبعون أحسنه وأحسن القول هوما جاء من عند الله أى ما جاءهم من الله يفهمونه
ويعملون بما فيه كقوله تبارك وتعالى لموسى عليه السلام حين آتاه التوراة "
فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها " ،" أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ
وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ" المتصفون بهذه الصفة هم الذين
هداهم الله فى الدنيا والآخرة وهم ذوو العقول الصحيحة والفهم القويم والفطر المستقيمة
. أَفَمَنۡ حَقَّ عَلَيۡهِ كَلِمَةُ ٱلۡعَذَابِ أَفَأَنتَ
تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ ١٩ لَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ لَهُمۡ غُرَفٞ مِّن فَوۡقِهَا غُرَفٞ مَّبۡنِيَّةٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا
ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ لَا يُخۡلِفُ ٱللَّهُ ٱلۡمِيعَادَ ٢٠
" أَفَمَنۡ حَقَّ
عَلَيۡهِ كَلِمَةُ ٱلۡعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ " يقول
الله تعالى أفمن كتب الله أنه شقى وحق عليه العذاب فى النار هل تنقذه مما هو فيه
من الضلال والهلاك ؟ أى لا يهديه أحد من بعد الله لأنه من يضلل الله فلا هادى له ومن
يهده فلا مضل له ،" لَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ لَهُمۡ غُرَفٞ مِّن فَوۡقِهَا غُرَفٞ مَّبۡنِيَّة"
أخبر الله عز وجل عن عباده السعداء أن لهم غرفا فى الجنة وهى القصور الشاهقة طباق
فوق طباق مبنيات محكمات مزخرفات عاليات وعن على رضى الله عنه قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " ان فى الجنة لغرفا يرى بطونها من ظهورها وظهورها من
بطونها ، فقال أعرابى لمن هى يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم لمن أطاب
الكلام وأطعم الطعام وصلى بالليل والناس نيام " وعن سهل بن سعد رضى الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" ان أهل الجنة ليتراءون الغرفة فى الجنة كما تراءون الكوكب فى أفق السماء
" وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ان
أهل الجنة ليتراءون فى الجنة أهل الغرف كما تراءون الكوكب الدرى الغارب فى الأفق
الطالع فى تفاضل أهل الدرجات- فقالوا يارسول الله أولئك النبيون ؟ فقال صلى الله
عليه وسلم " بلى والذى نفسى بيده وأقوام آمنوا بالله وصدقوا الرسل " ،
" تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ" تسلك الأنهار بينخلال تلك القصور
الشاهقات كما يشاءون وأين أرادوا ، " وَعۡدَ ٱللَّهِ لَا يُخۡلِفُ ٱللَّهُ
ٱلۡمِيعَادَ " يقول الله تعالى هذا الذى ذكرنا وعد وعدناه عبادنا المؤمنين
والله وعده متحقق لا يخلف أبدا .
أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ
مَآءٗ فَسَلَكَهُۥ
يَنَٰبِيعَ فِي ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ يُخۡرِجُ بِهِۦ زَرۡعٗا مُّخۡتَلِفًا أَلۡوَٰنُهُۥ
ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرّٗا ثُمَّ يَجۡعَلُهُۥ حُطَٰمًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ
لَذِكۡرَىٰ لِأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٢١ أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدۡرَهُۥ
لِلۡإِسۡلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِۦۚ فَوَيۡلٞ لِّلۡقَٰسِيَةِ
قُلُوبُهُم مِّن ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ ٢٢
"أَلَمۡ تَرَ
أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآء" يخبر الله تعالى أن أصل الماء
فى الأرض من السماء كما قال تعالى " وأنزلنا من السماء ماء طهورا " ،
" فَسَلَكَهُۥ يَنَٰبِيعَ فِي ٱلۡأَرۡضِ " اذا أنزل الله الماء من
السماء كمن فى الأرض ثم يصرفه تعالى فى أجزاء الأرض كما يشاء وينبعه عيونا ويجرى
أنهارا تنبع من الجبال وتجرى من قمم الجبال لتكون أنهارا وبحيرات ويكون هناك ثلج
متراكم على الجبال وفى الأجزاء شديدة البرودة من الأرض كما فى القطبين الشمالى
والجنوبى ، " ثُمَّ يُخۡرِجُ بِهِۦ زَرۡعٗا مُّخۡتَلِفًا أَلۡوَٰنُهُ"
يخرج الله تعالى بالماء النازل من السماء والنابع من الأرض زرعا مختلفا ألوانه
وأشكاله وطعومه وروائحه ومنافعه ، " ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرّٗا " بعد نضارة
النبات وشبابه يكتهل فتراه مصفرا قد خالطه اليبس ،" ثُمَّ يَجۡعَلُهُۥ
حُطَٰمًاۚ" ثم يعود النبات يابسا يتحطم ، " إِنَّ فِي ذَٰلِكَ
لَذِكۡرَىٰ لِأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ " فى هذا تذكرة وعبرة للذين لهم عقول
يتذكرون بها فيعتبرون الى أن الدنيا هكذا تكون خضرة نضرة حسناء ثم تعود عجوزا
شوهاء والشباب يعود شيخا هرما كبيرا ضعيفا وبعد ذلك كله الموت فالسعيد من كان حاله
بعده الى خير وكثير ما يضرب الله تعالى مثل الحياة الدنيا بما ينزل الله من السماء
من ماء وينبت به زروعا وثمارا ثم يكون بعد ذلك حطاما كما قال تعالى " واضرب
لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلنا من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما
تذروه الرياح وكان الله على كل شىء مقتدرا " ،" أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ
صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِۦ" هل يستوى
من شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه ومن هو قاسى القلب بعيد عن الحق
كقوله تعالى " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به فى الناس كمن
مثله فى الظلمات ليس بخارج منها " ولهذا قال تعالى " فَوَيۡلٞ لِّلۡقَٰسِيَةِ
قُلُوبُهُم مِّن ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ "
يتوعد الله الذين قست قلوبهم وتحجرت ولم تلين وتنفتح لذكر الله وتخشع له وتعى
وتفهم فهى فى ضلال واضح ظاهر جلى لا يخفى على أحد .
ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا مَّثَانِيَ
تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ ثُمَّ تَلِينُ
جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهۡدِي
بِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٍ ٢٣
هذا مدح من الله عزوجل لكتابه القرآن العظيم
"ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا مَّثَانِيَ " أحسن الحديث هو القرآن العظيم نزله الله كما
قال مجاهد كله متشابه مثانى وقال قتادة الآية تشبه الآية والحرف يشبه الحرف وقال
الضحاك مثانى ترديد القول ليفهموا عن ربهمتباركوتعالى وقال عكرمة والحسن ثنى الله
فيه القضاء زاد الحسن تكون السورة فيها آية وفى السورة الأخرى آية تشبهها وقال عبد
الرحمن بنزيد بن أسلم مثانى مردد ردد موسى فى القرآن وصالح وهود وتلأنبياء عليهم
السلام فى أمكنة كثيرة وقال ابن عباس القرآن يشبه بعضه بعضا ويرد بعضه على بعض
ويروى عن سفيان بن عيينة معنى قوله "متشابه مثانى " ان سياقات القرآن
تارة تكون فى معنى واحد فهذان من المتشابه وتارة تكون بذكر الشىء وضده كذكر
المؤمنين ثم الكافرين وكصفة الجنة ثم صفة النار وما أشبه هذا فهذا من المثانى
كقوله تعالى " ان الأبرار لفى نعيم وان الفجار لفى جحيم " ونحوهذا من
السياقات فهذا كله من المثانى أى فى معنيين اثنين وأما اذا كان السياق كله فى معنى
واحد يشبه بعضه بعضا فهو المتشابه ، " تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ
يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ "هذه من صفات الأبرا عند سماع كلام الجبار المهيمن
العزيز الغفار لما يفهمون منه من الوعد والوعيد والتخويف والتهديد تقشعر منه
جلودهم من الخشية والخوف ، " ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ
ذِكۡرِ ٱللَّهِ" قال قتادة هذا نعت أولياء الله نعتهم الله بأن تقشعر جلودهم
وتبكى أعينهم وتطمئن قلوبهم الى ذكر الله ، تلين قلوبهم وترق لما يرجون ويؤملون من
رحمته ولطفه فهم مخالفون لغيرهم من الفجار من وجوه أحدها أن سماع هؤلاء الآيات
وسماع أولئك نغمات الأبيات من أصوات القينات والثانى أنهم اذا تليت عليهم آيات
الرحمن خروا سجدا وبكيا بأدب وخشية ورجاء ومحبة وفهموعلم وهناك آيات كثيرة تفيد
ذلك كقوله تعالى " انما المؤمنون الذين اذا ذكر الله وجلت قلوبهم واذا تليت
عليهم آياته زادتهم ايمانا وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم
ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم "
وكقوله" والذين اذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا "
والثالث أنهم يلزمون الأدب عند سماعها كما كان الصحابة رضوان الله عليهم ، " ذَٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهۡدِي بِهِۦ مَن
يَشَآءُۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٍ " هذه صفة من هداه
الله من عباده ومنكان على خلاف ذلك فهو ممن أضله الله فالله وحده يهدى من يشاء ومن
يهدى فلا مضل له وهو يضل من يشاء ومن يضلل فلا هادى له .
أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجۡهِهِۦ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ يَوۡمَ
ٱلۡقِيَٰمَةِۚ وَقِيلَ لِلظَّٰلِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡسِبُونَ ٢٤
كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ فَأَتَىٰهُمُ ٱلۡعَذَابُ مِنۡ حَيۡثُ لَا
يَشۡعُرُونَ ٢٥ فَأَذَاقَهُمُ ٱللَّهُ ٱلۡخِزۡيَ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ
وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَكۡبَرُۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ ٢٦
" أَفَمَن
يَتَّقِي بِوَجۡهِهِۦ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ " يتحدث الله
عن من يقرع بسوء العذاب يوم القيامة ويواجه سواء العذاب ويصبح أمامه وجها لوجه ،"
وَقِيلَ لِلظَّٰلِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡسِبُونَ " ويقال له ولكل
الكافرين وهم الظالمون وليس هناك ظلم أكثر من الكفر وأكبر ذوقوا جزاء ما فعلتم
وكسبتم فى الحياة الدنيا وهذا كقوله تعالى " يوم يسحبون فى النار على وجوههم
ذوقوا مس سقر " وكقوله تعالى " أفمن يلقى فى النار خير أم من يأتى آمنا
يوم القيامة " ، " كَذَّبَ
ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ فَأَتَىٰهُمُ ٱلۡعَذَابُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَشۡعُرُونَ "
يعنى القرون الماضية المكذبة للرسل أهلكهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من
واق يحميهم ويقيهم العذاب فأتاهم عذاب
الله من حيث لا يتوقعون فهم كانوا منكرون له مكذبون ," فَأَذَاقَهُمُ ٱللَّهُ ٱلۡخِزۡيَ فِي
ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا" أذاق هؤلاء الكفار الخزى والذلة بما أنزل بهم من العذاب
والنكال وتشفى المؤمنين منهم فليحذر المخاطبون من ذلك فانهم قد كذبوا أشرف الرسل
وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ، "وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَكۡبَرُۚ لَوۡ
كَانُواْ يَعۡلَمُونَ " ويتوعدهم الله بالعذاب الأكبر والأشد مما أصابهم فى
الدنيا لو أنهم يعلمون ذلك ويتذكرونه .
وَلَقَدۡ ضَرَبۡنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ
مِن كُلِّ مَثَلٖ لَّعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ ٢٧ قُرۡءَانًا عَرَبِيًّا
غَيۡرَ ذِي عِوَجٖ لَّعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ ٢٨ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلٗا فِيهِ شُرَكَآءُ
مُتَشَٰكِسُونَ وَرَجُلٗا سَلَمٗا لِّرَجُلٍ هَلۡ يَسۡتَوِيَانِ مَثَلًاۚ ٱلۡحَمۡدُ
لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ٢٩ إِنَّكَ مَيِّتٞ وَإِنَّهُم
مَّيِّتُونَ ٣٠ ثُمَّ إِنَّكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عِندَ رَبِّكُمۡ
تَخۡتَصِمُونَ ٣١ ۞
" وَلَقَدۡ ضَرَبۡنَا لِلنَّاسِ فِي
هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٖ لَّعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ " يقول الله تعالى بينا
للناس فى القرآن المعانى ووضحناها بضرب الأمثال كما قال تعالى " وتلك الأمثال
نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون " ، " قُرۡءَانًا عَرَبِيًّا
غَيۡرَ ذِي عِوَجٖ لَّعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ " يقول الله عن القرآن ان هذا
القرآن بلسان عربى مبين واضح لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا لبس بل هو بيان ووضوح
وبرهان وجعله الله كذلك لعل الناس يحذرون ما فيه من الوعيد ويعملون بما فيه من
الوعد ،وفى تفسير الطبرى فى قوله تعالى " ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلٗا فِيهِ شُرَكَآءُ
مُتَشَٰكِسُونَ وَرَجُلٗا سَلَمٗا لِّرَجُلٍ هَلۡ يَسۡتَوِيَانِ مَثَلًاۚ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ
بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ " يقول الله تعالى أنه ضرب مثلا فيه نزاع
واختلاف وتشاكس رجل سالما خالصا وآخر مشرك لايستوى هذا المشرك الذى يعبد مع الله الها
آخر مع هذا المؤمن المخلص الذى لا يعبد الا الله وحده لا شريك له فأين هذا من هذا
؟ القول في تأويل قوله تعالى : ضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ
هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29)
يقول تعالى
ذكره: مثل الله مثلا للكافر بالله الذي يعبد آلهة شَتَّى, ويطيع جماعة من
الشياطين, والمؤمن الذي لا يعبُد إلا الله الواحد, يقول تعالى ذكره: ضرب الله مثلا
لهذا الكافر رجلا فيه شركاء. يقول: هو بين جماعة مالكين متشاكسين, يعني مختلفين
متنازعين, سيئة أخلاقهم, من قولهم: رجل شكس: إذا كان سيئ الخلق, وكل واحد منهم
يستخدمه بقدر نصيبه ومِلْكه فيه, ورجلا مسلما لرجل, يقول: ورجلا خُلُوصا لرجل يعني
المؤمن الموحد الذي أخلص عبادته لله, لا يعبد غيره ولا يدين لشيء سواه بالربوبية.
واختلفت
القرّاء في قراءة قوله: ( وَرَجُلا سَلَمًا ) فقرأ ذلك بعض قرّاء أهل مكة والبصرة:
" ورَجُلا سَالِمًا " وتأوّلوه بمعنى: رجلا خالصا لرجل. وقد رُوي ذلك
أيضا عن ابن عباس.
حدثنا أحمد
بن يوسف, قال: ثنا القاسم, قال: ثنا حجاج, عن هارون, عن جرير بن حازم, عن حميد, عن
مجاهد, عن ابن عباس أنه قرأها: " سَالِمًا لِرَجُلٍ" يعني بالألف, وقال:
ليس فيه لأحد شيء.
وقرأ ذلك
عامة قرّاء المدينة والكوفة: ( وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ ) بمعنى: صلحا (2) .
والصواب من
القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان, قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من
القرّاء, متقاربتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وذلك أن السلم مصدر من قول
القائل: سَلِم فلان لله سَلما (3) بمعنى: خَلَص له خُلوصا, تقول العرب: ربح فلان
في تجارته رِبْحا ورَبَحا (4) وسَلِمَ سِلْما وسَلَما (5) وسلامة, وأن السالم من
صفة الرجل, وسلم مصدر من ذلك. وأما الذي توهمه من رغب من قراءة ذلك سَلَما من أن
معناه صلحا, فلا وجه للصلح في هذا الموضع, لأن الذي تقدم من صفة الآخر, إنما تقدم
بالخبر عن اشتراك جماعة فيه دون الخبر عن حربه بشيء من الأشياء, فالواجب أن يكون
الخبر عن مخالفه بخلوصه لواحد لا شريك له, ولا موضع للخبر عن الحرب والصلح في هذا
الموضع.
وبنحو الذي
قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال
ذلك:
حدثني محمد
بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال:
ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: " رَجُلا فِيه
شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلا سالِمًا لِرَجُلٍ" قال: هذا مثل إله الباطل
وإله الحق.
حدثنا بشر,
قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا
فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ) قال: هذا المشرك تتنازعه الشياطين, لا يقر به
بعضهم لبعض " وَرَجُلا سَالِمًا لِرَجُلٍ" قال: هو المؤمن أخلص الدعوة
والعبادة.
حدثني محمد
بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: (
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ) إلى قوله: ( بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) قال: الشركاء المتشاكسون: الرجل الذي يعبد آلهة شتى
كلّ قوم يعبدون إلها يرضونه ويكفرون بما سواه من الآلهة, فضرب الله هذا المثل لهم,
وضرب لنفسه مثلا يقول: رجلا سَلِمَ لرجل يقول: يعبدون إلها واحدا لا يختلفون فيه.
حدثنا محمد,
قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا
رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ) قال: مثل لأوثانهم التي كانوا يعبدون.
حدثني يونس,
قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا
فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ ) قال: أرأيت الرجل
الذي فيه شركاء متشاكسون كلهم سيئ الخلق, ليس منهم واحد إلا تلقاه آخذا بطرف من
مال لاستخدامه أسواؤهم, والذي لا يملكه إلا واحد, فإنما هذا مثل ضربه الله لهؤلاء
الذين يعبدون الآلهة, وجعلوا لها في أعناقهم حقوقا, فضربه الله مثلا لهم, وللذي
يعبده وحده ( هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ
) وفي قوله: " وَرَجُلا سالِمَا لِرَجُلٍ" يقول: ليس معه شرك.
وقوله: (
هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا ) يقول تعالى ذكره: هل يستوي مثلُ هذا الذي يخدم جماعة
شركاء سيئة أخلاقهم مختلفة فيه لخدمته مع منازعته شركاءه فيه والذي يخدمُ واحدا لا
ينازعه فيه منازع إذا أطاعه عرف له موضع طاعته وأكرمه, وإذا أخطأ صفح له عن خطئه,
يقول: فأيّ هذين أحسن حالا وأروح جسما وأقلّ تعبا ونصبا؟.
كما حدثني
محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس (
هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ )
يقول: من اختُلف فيه خير, أم من لم يُخْتلَف فيه؟.
وقوله: (
الْحَمْدُ لِلَّهِ ) يقول: الشكر الكامل, والحمدُ التامّ لله وحده دون كلّ معبود
سواه. وقوله: ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) يقول جل ثناؤه: وما يستوي هذا
المشترك فيه, والذي هو منفرد ملكه لواحد, بل أكثر هؤلاء المشركين بالله لا يعلمون
أنهما لا يستويان, فهم بجهلهم بذلك يعبدون آلهة شتى من دون الله. وقيل: ( هَلْ
يَسْتَوِيَانِ مَثَلا ) ولم يقل: مثلين لأنهما كلاهما ضربا مثلا واحدا, فجرى المثل
بالتوحيد, كما قال جل ثناؤه: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً إذ كان
معناهما واحدا في الآية.
ثم ضرب مثلا
للشرك والتوحيد فقال: { {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا } } أي: عبدا { {فِيهِ
شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} } فهم كثيرون، وليسوا متفقين على أمر من الأمور وحالة
من الحالات حتى تمكن راحته، بل هم متشاكسون متنازعون فيه، كل له مطلب يريد تنفيذه
ويريد الآخر غيره، فما تظن حال هذا الرجل مع هؤلاء الشركاء المتشاكسين؟ {
وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ } أي: خالصا له، قد عرف مقصود سيده، وحصلت له الراحة
التامة. { {هَلْ يَسْتَوِيَانِ} } أي: هذان الرجلان { {مَثَلًا } } ؟ لا يستويان.
وقال ابن عباس هذه الآية ضربت مثلا للمشرك والمخلص ولما كان هذا
المثل ظاهرا جليا قال " الحمد لله " أى على اقامة الحجة عليهم ولكن
أكثرهم لا يعلمون ذلك ولا يعترفون بالحجة ولهذا يشركون بالله تعالى ،"
إِنَّكَ مَيِّتٞ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ " يخبر الله تعالى ويؤكد لرسوله
صلى الله عليه وسلم بلام التوكيد حقية موته وموت كل الناس جميعا وقوله : ( إنك ميت وإنهم ميتون ) هذه
الآية من الآيات التي استشهد بها الصديق
[ رضي الله
عنه ] عند موت الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى تحقق الناس موته ، مع قوله : (
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن
ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) [ آل عمران : 144 ] .
ومعنى هذه
الآية : ستنقلون من هذه الدار لا محالة وستجتمعون عند الله في الدار الآخرة ،
وتختصمون فيما أنتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي الله - عز وجل -
فيفصل بينكم ، ويفتح بالحق وهو الفتاح العليم ، فينجي المؤمنين المخلصين الموحدين
، ويعذب الكافرين الجاحدين المشركين المكذبين .
ثم إن هذه
الآية - وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين ، وذكر الخصومة بينهم في الدار
الآخرة - فإنها شاملة لكل متنازعين في الدنيا ، فإنه تعاد عليهم الخصومة في الدار
الآخرة .
، " ثُمَّ إِنَّكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عِندَ
رَبِّكُمۡ تَخۡتَصِمُونَ " يكون الحساب عند الله يوم القيامة يخاصم الصادق
الكاذب والمظلوم الظالم والضعيف القوى والمهتدى الضال وقال ابن زيد يعنى أهل
الاسلام وأهل الكفر .