الهجرة النبوية من مكة الى
المدينة .
أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج الى المدينة والهجرة اليها واللحاق باخوانهم من الأنصار وقال الرسول صلى الله عليه وسلم :" ان الله عز وجل قد جعل لكم اخوانا ودارا تأتمنون فيها ( أى تشعرون بالأمن ) " ، فخرجوا وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أن يأذن الله له بالخروج من مكة والهجرة الى المدينة ، ويوم دعاهم للهجرة الى الحبشة قال لهم :" ان بها ملكا لا يظلم عنده أحد " ، أما هذه المرة فقد جعل الله لهم اخوانا ودارا يأمنون فيها ، والفرق بين المركزين والمنطقتين واضح من حيث الموقع نجد أن الحبشة بعيدة ولا تصلح لتكون مركزا لاقامة الدولة بعيدا عن الأرض والبيئة العربية ، ومهما قويت فستبقى محصورة ضمن اطار محدود وتاحركة ستكون مشلولة للمواجهة ، بينما نجد المدينة وان كانت بعيدة عن مكة لكنها تحتل موقعا حساسا بالنسبة لمكة ، فهى قادرة على خنق مكة اقتصاديا لأن طريق قوافل قريش علبها ، والتجارة عصب الحياة لقريش ، كما أن البيئة واحدة والعرب يمكن أن تتم الدعوة فى صفوفهم وأن يتقبلوها ، ومن حيث الاعتماد فى الحبشة على الحاكم العادل فان الحاكم قد يتغير فى أية لحظة فيسبح المسلمون فى خطر عظيم ، وقد وقع ذلك فعلا ، جيث قامت ثورة ضد النجاشى ، فهيأ للمسلمين سفينتين ليغادروا الحبشة ان تم النصر لعدوهم وهو يعلم أن المسلمين هم المستهدفون من هذه الثورة ، وبقيتالحبشة مأمنا للمسلمين فترة طويلة حتى بعد وجود يثرب ، ولكنها لم تكن مركزا لاقامة دولة ، وحين أتى التوفيق الربانى قبل وفد الحجيج اليثربى الاسلام ، ولم تنجح محادثات " شيبان " أو " كندة " فى صرف هذا الوفد عن الاسلام ، وعندما جاء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة رحلت عائلات بأكملها مثل قبيلة "بنى غنم " ، التى رحل منها أربعة عشر رجلا وسبع نسوة ، كما تحرك عمر رضى الله عنه وأهله وحلفاؤه وتتابع المسلمون يهاجرون .خافت قريش من خروج الرسول صلى الله عليه وسلم الى المدينة ، حيث عرفوا أن فى الدار منع، وأن القوم فى يثرب أهل قوة فخافوا من خروج الرسول صلى الله عليه وسلم اليهم ولحاقه بهم ، وعرفوا أنه أجمع لحربهم فأجتمعوا فى دار الندوة ولم يتخلف أحد من ذوى الرأى والحجة منهم ليشاوروا فى أمره فقال أبو جهل :" ان لى فيه رايا ما أراكم وقعتم عليه " ، فقالوا :" وما هو يا أبا الحكم ؟ " ، قال :" أرى أن نأخذ من كل فبيلة فتى شابا جلدا نسيبا وسيطا فينا ، ثم نعطى كل فتى سيفا صارما ثم يعمدوا عليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه ، فانهم اذا فعلوا ذلك تفرق دمه فى القبائل جميعا ، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا ". ، وتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون عليه .
وقد ذكر القرآن ذلك فى سورة الأنفال " اذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك وبمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ".الأنفال30 فجاء جبريل الى الرسول صلى الله عليه وسلم يأمره ألا يبيت هذه الليلة فى فراشه وأن يستعد للهجرة ، قالت عائشة رضى الله عنها :" فبينما نحن يوما جلوس فى بيت أبى بكر فى حر الظهيرة قال قائل لآبى بكر :" هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن يأتينا فى مثل هذه الساعة فقال أبو بكر رضى الله عنه :" فاء له أبى وأمى والله ما جاء فى هذه الساعة الا لأمر " ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فاذن له فدخل فقال النبى صلى الله عليه وسلم لأبى بكر :" أخرج من عندك ! " ، فقال أبو بكر :" انما هم أهلك بأبى أنت يارسول الله " ، قال :" فانى قد أذن لى فى الخروج " ، فقال أبو بكر :" الصحبة بأبى أنت يا رسول الله " ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" نعم " .
كان الله قادرا على أن يرسل
ملكا يحمل الارسول صلى الله عليه وسلم الى يثرب كما حمله من مكة الى بيت المقدس
وعرج به الى السماء ، ولكن جعل الهجرة فرصة كبيرة لنتعلم من رسول الله صلى الله
عليه وسلم دروسا عظيمة فى كيفية التفكير والتخطيط والأخذ بالأسباب التى توصل الى
النجاح .
وضع الكفار مجموعة من الشباب
أمام بيته ليقتلوه وكانوا بين الحين والآخر
يتطلعون الى فراشه ليطمئنوا على وجوده فأمر النبى صلى الله عليه وسلم على
أبن أبى طالب رضى الله عنه بالنوم فى فراشه وأن يتغطى ببردته ، وطمأنه بأن المشركين
لن يؤذوه باذن الله ، واستجاب على رضى الله عنه بكل شجاعة وحماس ونفذ ما أمره به
الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك تضليل الكفار
، فاذا نظروا اليه من الباب ووجدوه فى فراشه ظنوا أنه صلى الله عليه وسلم ما زال
نائما ، وقد كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانات كثيرة تركها المشركون
عنده ، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يردها الى أصحابها ، فأمر عليا أن
ينتظر فى مكة لأداء هذه المهمة ، رغم أ،هم أخرجوا المسلمين من ديارهم وآذوهم ،
ونهبوا أموالهم ، ولكن المسلم يجب أن يكون أمينا ، ونام على رضى الله عنه فى فراش
النبى صلى اللله عليه وسلم وتوجه النبى صلى الله عليه وسلم الى الباب ، وخرج وفى
قبضته جفنة من التراب فنثرها على رؤوس المشركين ، وهو يقرأ سورة يس الى قوله تعالى
" وجعلنا منت بين أيديهم سدأ ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لايبصرون " يس
9 ، واذا برجل يمر عليهم فرأى التراب على رؤوسهم فقال لهم :" خيبكم الله ، قد
خرج عليكم محمد " ، فنظروا من الباب فوجدوا رجلا نائما فى مكان الرسول صلى
الله عليه وسلم وعليه غطاؤه فقالوا :" هذا محمد ةفى فراشه ، وعليه برده
". ، ثم أقتحموا دار النبى صلى الله عليه وسلم فوجدوا عليا فى فراشه ، فخرجوا
يبحثون عن الرسول صلى الله عليه وسلم فى كل مكان ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم
قد وصل الى بيت صاحبه أبى بكر رضى الله عنه ، وعزما على الذهاب الى غار ثور ليختبأ فيه ، وحمل أبو بكر الصديق
رضى الله عنه كل ماله وخرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم من باب صغير فى نهاية
المنزل حتى لا يراهما أحد ، وانطلقا حتى وصلا الغار ، وهناك وقف رسول الله صلى
الله عليه وسلم ودخل أبو بكر أولا ليطمئن على خلو الغار من الحيات والعقارب ، ثم
سد ما فيه من فتحات حتى لا يخرج منها شىء ، وبعد ذلك دخل رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، ووقف الكفار حيارى يبحثون عن الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه ويضربون كفا
بكف من الحيرة والعجب ، فتتبعوا آثار الأقدام فقادتهم الى غار ثور فوقفوا أمام
الغار وليس بيتهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه سوى أمتار قليلة ، حتى أن
أبا بكر رأى أر جلهم فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا رسول الله لو
نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم :" يا أبا بكر
ما ظنك بأثنين الله ثالثهما " متفق عليه .
وصدق رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقد انصرف القوم ولم يفكر أحدهم أن ينظر فى الغار ، وسجل القرآن هذا فقال
تعالى " الا تنصروه فقد نصره الله اذ أخرجه الذين كفروا ثانى أثنين اذ هما فى
الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم
تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هى العليا والله عزيز حكيم "
. التوبة 40 .
ومكث الرسول صلى الله عليه
وسلم وصاحبه فى الغار ثلاثة أيام ، وكان عبد الله بن أبى بكر يذهب اليهما بأخبار
الكفار ليلا ، وأخته أسماء تحمل لهما الطعام ، أما عامر بن فهيرة راعى غنم أبى بكر
فقد كان يسيبر بالأغنام فوق آثار أقدام عبد الله وأسماء حتى لا يترك أثرا يوصل الى
الغار ، وبعد انتهاء الأيام الثلاثة خف طلب المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم ،
فخرجا من الغار والتقيا بعبد الله بن أريقط ، وقد أتفقا معه على أن يكون
دليلهما فى هذه الرحلة مقابل أجر.
تحرك الركب بسلام وأبو بكر
لايكف عن الالتفاف والدوران حول النبى صلى الله عليه وسلم خوفا عليه ، ورسول الله
صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن ولا يلتفت حوله وهو واثق من نصر الله تعالى له ولا
يخشى أحدا ، وبينما أبو بكر يلتفت خلفه اذ بفارس يقبل نحوهما من بعيد ، كان الفارس
هو سراقة بن مالك وقد دفعه الى ذلك أنم قريشا لما يئست من العثور على الرسول صلى
الله عليه وسلم وصاحبه جعلوا مائة ناقة جائزة لمن يرده اليهم حيا أو ميتا ، فأنطلق
سراقة بن مالك بفرسه وسلاحه فى الصحراء طمعا فى الجائزة فغاصت أقدام فرسه فى
الرمال مرتين حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل سراقة مسرعا عن الفرس ،
حتى نزعت أقدامها من الرمال فأيقن سراقة أن الله تعالى يحرس رسول الله صلى الله
عليه وسلم ولن يستطيع انسان مهما فعل أن ينال منه ، فطلب من رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن يعفوا عنه وعرض عليه الزاد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم
:" لا حاجة لنا ولكن عم عنا الخبر " ، فوعده سراقة ألا يخبر أحدا ، وعاد
الى مكة ، وسار النبى صلى الله عليه وسلم وصاحبه الى مكة تحرسهما عناية الله .
ومر الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بمنازل خزاعة ودخلا خيمة أم معبد الخزاعية فسألاها اذا كان عندها طعام ؟ ، فأخبرتهما أنها لا تملك شيئا فى ذلك الوقت ، فقد كانت السنة شديدة القحط ، فنظر الرسول صلى الله عليه وسلم الى شاة فى جانب الخيمة فقال :" ما هذه الشاة يا أم معبد ؟ ، فأخبرته أنها شاة منعها المرض عن الخروج الى المراعى مع بقية الغنم ، فقال :"أتأذنين لى أن أحلبها ؟ " ، قالت :" نعم ان رأيت بها حلبا فاحلبها " ، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها وسمى الله ودعا وطلب اناءا فحلب حتى علته الرغوة فسقاها فشربت حتى شبعت ، وسقى رفيقه ابا بكر وعبد الله بن أريقط حتى شبعا ، ثم شرب وحلب فيه ثانية حتى ملأ الاناء ثم تركه صلى الله عليه وسلم وانصرف .
علم أهل المدينة بوصول الرسول
صلى الله عليه وسلم فخرجوا فى يوم الأثنين الثانى عشر من ربيع الأول واستقبلوا
وأنشدوا نشيدهم " طلع البدر علينا " ، وظل الرسول صلى الله عليه وسلم فى
قباء فى بيت سعد بن حيثمه يستقبل الوافدين عليه ، أقبل على بن أبى طالب من مكة بعد
أن ظل فيها ثلاثة أيام يرد الأمانات الى أهلها ، وقد ظل الرسول صلى الله عليه وسلم
فى قباء أربعة أيام يستقبل أهل المدينة ، وعندما أقبل يوم الجمعة ترك رسول الله
صلى الله عليه وسلم قباء متوجها الى المدينة بعد أن أسس مسجد قباء ، وهو أول مسجد
بنى فى الاسلام ، وقال الله عنه " لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن
تقوم فيه ، فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين " . التوبة 108
وكانت الهجرة حدثا فاصلا بين عهدين ، فقد أعز الله
المسلمين بعد أن كانوا مضطهدين ، وصارت لهم دارا يقيمون فيها ، ومسجد يصلون فيه
ويؤذن فيه ويؤدون فيه شعائرهم ، ويتشاورون فى أمورهم ، لهذا كله أتفق الصحابة على
جعل الهجرة بداية للتاريخ الاسلامى على يد الخليفة عمر ابن الخطاب رضى الله عنه ،
فقد تحول المسلمون من الضعف والحصار الى القوة والانتشار ورد العدوان .