Grammar American & British

Friday, May 13, 2022

تبسيط تفسير ابن كثير للقرآن الكريم - تفسير الجزء التاسع والعشرين ( 29 )

29 - ) تبسيط تفسير ابن كثير للقرآن الكريم

 

تفسير الجزء التاسع والعشرين

 تفسير سورة الملك

سورة الملك سورة مكية وعدد آياتها 30 آية ، تتحدث عن قدرة الله فى الخلق كدليل على آلوهيته ووحدانيته ، وكالسور المكية تتحدث عن الجنة والنار ، وجزاء الكافرين المشركين وجزاء المؤمنين ، وعن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان سورة فى القرآن ثلاثين آية شفعت لصاحبها حتى غفر له " تبارك الذى بيده الملك " ، وعن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سورة فى القرآن خاصمت عن صاحبها حتى أدخاته الجنة : تبارك الذى بيده الملك " .  

تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ ١ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفُورُ ٢ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖ طِبَاقٗاۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلۡقِ ٱلرَّحۡمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖۖ فَٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ هَلۡ تَرَىٰ مِن فُطُورٖ ٣ ثُمَّ ٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ كَرَّتَيۡنِ يَنقَلِبۡ إِلَيۡكَ ٱلۡبَصَرُ خَاسِئٗا وَهُوَ حَسِيرٞ ٤ وَلَقَدۡ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلۡنَٰهَا رُجُومٗا لِّلشَّيَٰطِينِۖ وَأَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ ٥

"تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ " يمجد الله تعالى نفسه الكريمة ويخبر أن بيده الملك أى هو المتصرف فى جميع المخلوقات بما يشاء لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل لقهره وحكمته ولهذا قال تعالى " وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ " يخبر الله عز وجل معقبا أنه بيده القدرة على كل شىء فان أمره بين الكاف والنون اذا قال لشىء كن فيكون ، " ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ " يخبر الله عز وجل أنه أوجد الخلائق من العدم وبيده حياتها وموتها واستدل بهذه الآية من قال أن الموت أمر وجودى لأنه مخلوق ونحن نعلم أنه يوم القيامة حياة بلا موت يأتى بالموت على هيئة كبش يذبح وبدأت الآية بالموت لأنه هو الزائل والحياة هى الباقية ولكنها تكون فانية فى الدنيا وأزلية فى الآخرة والموت يكون نهاية الأحياء " كل نفس زائقة الموت " ولكن هذا فى الحياة الدنيا ولكن القاعدة هى الحياة وليس الموت فالحياة أولى من الموت فهى فى الآخرة أما نعيم مقيم أو جحيم ونار مستعرة  ، ولكن اذا قصد الاشارة الى ما سيكون بالنسبة للأحياء فى الدنيا فان الموت اذا ذكر أولا فهو الأطول فى مدته وهو المسيطر فالحياة قصيرة سرعان ما تمضى ويفنى الأحياء كما قال تعالى " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم " فسمى الحال الأول وهو العدم موتا وسمى هذه النشأة حياة ولهذا قال تعالى " ثم يميتكم ثم يحييكم "وعن قتادة فى قوله تعالى " الذى خلق الموت والحياة " قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول"ان الله أذل بنى آدم بالموت وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت ، وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء "ولهذا قال "  لِيَبۡلُوَكُمۡ " أى أن الله جعل الموت والحياة فى الدنيا ليختبركم أيها الناس ، "أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ" أى خير عملا ولم يقل أكثر عملا من منكم أحسن العمل لينال الجزاء الحسن فى الآخرة ، "وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفُورُ " يعقب الله تعالى أنه هو رب العزة الذى يغفر الذنوب ويتجاوز عن السيئات هو العزيز العظيم المنيع الجناب وهو مع ذلك غفور لمن تاب اليه وأناب بعد ما عصاه وخالف أمره وان كان تعالى عزيزا هو مع ذلك يغفر ويرحم ويصفح ويتجاوز ، " ٱلَّذِي خَلَقَ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖ طِبَاقٗا" أي طبقة بعد طبقة والله أعلم بمراده هل هن الطبقات التى تعلو الأرض لأن كل ما يعلو الأرض هو سماء وهن هنا متواصلات بمعنى أنهن علويات بعضهن على بعض ، أم السموات السبع التى فى الكون الذى خلقه الله ونحن حتى الآن لم نصل حتى الى السماء الأولى وهنا فان هذه السموات متفاصلات بينهن خلاء وهذان قولان أصحهما الثانى كما دل على ذلك حديث الاسراء وغيره ، " مَّا تَرَىٰ فِي خَلۡقِ ٱلرَّحۡمَٰنِ مِن تَفَٰوُت" يقول الله تعالى معقبا على حسن خلقه أنك لو تأملات خلق الرحمن هة مصطحب مستو ليس فيه اختلاف ولا تنافر ولا نقص ولا عيب ولا خلل ولهذا قال تعالى " فَٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ هَلۡ تَرَىٰ مِن فُطُور" أى أنظر الى السماء فتأملها هل ترى فيها عيبا أونقصا أو خلللا أو فطور قال ابن عباس فطور أى شقوق وفى رأى آخر له من وهاء  وقال السدى خروق وقال قتادة هل ترى خللا يا ابن آدم ؟ ،"ثُمَّ ٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ كَرَّتَيۡنِ " يدعو الله عز وجل الى اطالة التأمل فى خلقه بأن نديم النظر والتدبر أكثر من مرة وهذه دعوة منه سبحانه لدراسة الكون حولنا واذا فعلنا ذلك فماذا نكتشف ؟ رد الله تعالى علينا بقوله " يَنقَلِبۡ إِلَيۡكَ ٱلۡبَصَرُ خَاسِئٗا وَهُوَ حَسِير" قال ابن عباس عن " خاسئا " ذليلا وقال مجاهد وقتادة صاغرا وقال ابن عباس " وهوحسير " يعنى وهوكليل وقال مجاهد وغيره : الحسير المنقطع من الاعياء ومعنى الآية أنك لو كررت البصر مهما كررت لا نقلب اليك أى لرجع اليك البصر " خاسئا " عن أن يرى عيبا أو خللا " وهوحسير " أى كليل قد انقطع من الأعياء من كثرة التكرر ولا يرى نقصا ، " وَلَقَدۡ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِمَصَٰبِيحَ " ولما نفى الله عز وجل النقص فى خلق السموات بين كمالها وزينتها بما فيها من نجوم وكواكب لامعات وشبهها بالمصابيح وذكر هنا لفظ السماء الدنيا أى القريبة وهو من اعجاز القرآن فان علم الفلك لميصل حتى الى السماء الأولى فى هذا الكون الممتد الشاسع ويقيس علم الفلك المسافات فى السماء بالسنوات الضوئية مما يعجز البصر عنه حتى لو استخدم أعقد الأجهزة العلمية البصرية فهو عما قال عز وجل هذا البصر سيعجز ويصبح كليلا عن ادراك السموات وما فيها من أجرام ومجموعات لا حصر لها ، " وَجَعَلۡنَٰهَا رُجُومٗا لِّلشَّيَٰطِينِ" لفظ جعلناها يعود الضمير على جنس المصابيح لا على عينها لأنه لا يرمى بالكواكب التى فى السماء بل بالشهب من دونها كما قال تعالى فى سورة الصافات " انا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب * وحفظا منكل شيطان مارد * لا يسمعون الى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب * دحورا ولهم عذاب واصب * الا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب " ، " وَأَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ " أى جعلنا للشياطين هذا الخزى فى الدنيا وأعتدنا لهم عذاب السعير فى الآخرة .

وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡ عَذَابُ جَهَنَّمَۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ ٦ إِذَآ أُلۡقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقٗا وَهِيَ تَفُورُ ٧ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ ٱلۡغَيۡظِۖ كُلَّمَآ أُلۡقِيَ فِيهَا فَوۡجٞ سَأَلَهُمۡ خَزَنَتُهَآ أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ نَذِيرٞ ٨ قَالُواْ بَلَىٰ قَدۡ جَآءَنَا نَذِيرٞ فَكَذَّبۡنَا وَقُلۡنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٍ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ كَبِيرٖ ٩ وَقَالُواْ لَوۡ كُنَّا نَسۡمَعُ أَوۡ نَعۡقِلُ مَا كُنَّا فِيٓ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ ١٠ فَٱعۡتَرَفُواْ بِذَنۢبِهِمۡ فَسُحۡقٗا لِّأَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ ١١

" وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡ عَذَابُ جَهَنَّمَۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ " بعد أن ذكر عذابه للشياطين يتحدث الله عزوجل عما أعده للكافرين من عذاب جهنم وهى بئس المآل والمنقلب ، " إِذَآ أُلۡقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقٗا " يتحدث الله عز وجل عما سيحدث للكافرين حال القاءهم فى جهنم فانهم يسمعون شهيقها وهو الصياح العالى فهى كارهة لهم لمعصيتهم ربهم وقال عز وجل ذلك بقوله " لها " أى أن هذا الصوت يخصها وصادر منها وليس عن ما فيها أو من فيها فهى كائن من خلق الله وليست هذه صورة مجازية بل صورة حقيقية فهى ليست جماد كما هو الحال فى الدنيا ، "وَهِيَ تَفُورُ " قال الثورى تغلى بهم كما يغلى الحب القليل فى الماء الكثير ، " تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ ٱلۡغَيۡظِۖ" أى يكاد ينفصل بعضها من بعض من شدة غيظها عليهم وحنقها بهم وهذا تصوير حسى لجهنم يعلمه الله تعالى ، "كُلَّمَآ أُلۡقِيَ فِيهَا فَوۡجٞ سَأَلَهُمۡ خَزَنَتُهَآ أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ نَذِير" يتحدث الله عز وجل عن استقبال خزنة جهنم لأفواج العصاة الذين يلقون فيها فهم يوبخونهم ويزجرونهم على ما وصلوا اليه من حال ويسالونهم ليس من باب الاستفهام ولكن للتوبيخ بمعنى لقد جاءكم رسل من الله منذرين لكم من هذا العذاب أليس الأمر كذلك وهم يتوقعون منهم الاجابة بالايجاب فهم أمام المشهد العظيم وأمام ما كانوا ينكرونه من البعث فما كان غيبا فى الحياة الدنيا ويجب الايمان به أصبح واقعا شاخصا أمام الأعين ، "  قَالُواْ بَلَىٰ قَدۡ جَآءَنَا نَذِيرٞ فَكَذَّبۡنَا وَقُلۡنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٍ " يرد أصحاب النار على خزنة جهنم بقولهم بالايجاب " بلى " أى نعم جاءنا نذير ولكننا كذبناه وانكرنا أن يكون الله قد بعثه وأنزل معه الدعوة والرسالة وهذا انذار لكفار قريش بما سيكون عليه حالهم اذا كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم فهم قد أنكروا البعث ويوم القيامة وأنكروا أن يبعث الله لهم بشرا رسولا ، " إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ كَبِير" يرد خزنة جهنم على الذين كفروا بربهم موبخين لهم لقد كنتم فى بعد عن الحق وعن طريق الله مجاوزينه تجاوزا بعيدا كنتم فى الضلال الكبير وهذا تجسيم لضلالهم فهو ليس بالصغير القليل ولكنه الكبير الجسيم ، " وَقَالُواْ لَوۡ كُنَّا نَسۡمَعُ أَوۡ نَعۡقِلُ مَا كُنَّا فِيٓ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ " يرد الذين كفروا بانكسار وذلة وندم وحسرة يوم لا ينفع الندم  أنهم لو كانوا سمعوا وعقلوا ما جاءهم من الحق من الله تعالى لم يكونوا فى السعير وما كانوا ضمن أصحاب السعير أى لو كانت لنا عقول ننتفع بها أو نسمع ما أنزله الله من الحق لما كنا على ما كنا عليه من الكفر بالله والاغترار به ولكن لم يكن لنا فهم نعى به ما جاءت به الرسل ولا كان لنا عقل يرشدنا الى اتباعهم  وهكذا عادوا على أنفسهم بالملامة وندموا حيث لا تنفعهم الندامة  يذكر تعالى عدله فى خلقه وأنه لا يعذب أحدا الا بعد قيام الحجة عليه وارسال رسول اليه كما قال تعالى " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " وقال تعالى " حتى اذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين "  ، "  فَٱعۡتَرَفُواْ بِذَنۢبِهِمۡ"  يعقب الله تعالى بقوله أن الذين كفروا بأنهم يقرون ويعترفون بذنبهم وهو الكفر بالله ، "فَسُحۡقٗا لِّأَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ " يذم الله تعالى الذين كفروا وأصبحوا من أصحاب السعير بقوله " سحقا " أى سحقوا وزالوا وبادوا ، وعن أبى البحترى الطائى قال أخبرنى من سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم " وفى حديث آخر " لا يدخل أحد النار الا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة " .  

إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَيۡبِ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٞ كَبِيرٞ ١٢ وَأَسِرُّواْ قَوۡلَكُمۡ أَوِ ٱجۡهَرُواْ بِهِۦٓۖ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ١٣ أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ ١٤ هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ ٱلنُّشُورُ ١٥

" إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَيۡبِ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٞ كَبِير" يقول تعالى مخبرا عمن يخاف مقام ربه فيما بينه وبينه اذا كان غائبا عن الناس فينكف عن المعاصى ويقوم بالطاعات حيث لا يراه أحد الا الله تعالى بأنه له مغفرة وأجر كبير أى تكفر عنه ذنوبه ويجازى بالثواب الجزيل كما سبت فى الصحيحين " سبعة يظلهم الله تعالى فى ظل عرشه يم لا ظل الا ظله " فذكر منهم رجلا دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال انى أخاف الله ، ورجلا تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلمشماله ما تنفق يمينه " ، " وَأَسِرُّواْ قَوۡلَكُمۡ أَوِ ٱجۡهَرُواْ بِهِۦٓۖ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ " قال تعالى منبها على أنه مطلع على الضمائر والسرائر أى مهما أسررتم من قولكم أوجهرتم به فانه يعلم ما تخفيه الصدور أى بما يخطر فى القلوب  مطلع عليه ، " أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ " يقول الله عز وجل موجها كلامه باستفهام للتحقق أنه يعلم كل شىء عن الخلائق وقيل معناه ألا يعلم الخالق مخلوقه ؟ لتكون الاجابة نعم يعلم خلقه وهو لطيف بأحوالهم خبير بها لا يخفى عليه منهم خافية ، " هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا " ذكر الله نعمته على خلقه فى تسخيره لهم الأرض وتذليله اياها لهم بأن جعلها قارة ساكنة لا تميد ولا تضطرب بما جعل فيها من الجبال وأنبع فيها من العيون وسلك فيها من السبل وهيأ فيها من المنافع ومواضع الزروع والثمار ، " فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا" قال ابن عباس وغيره مناكبها أطرافها وفجاجها ونواحيها وقال كذلك مناكبها الجبال وقال أبو الرداء هى الجبال ولوقصد الجبال فهذا حض على السعى الجاد على الرزق حتى لوكان فى أماكن صعبة والتفسير أى فسافروا حيث شئتم من أقطار الأرض وترددوا على فى أقاليمها وأرجائها فى أنواع المكاسب والتجارات ، واعلموا أنةسعيكم لا يجدى عليكم شيئا الا أن ييسره الله لكم وفى هذا تأكيد أن الاسلام دين عمل وليس تواكل ودعة فلو ضاقت علينا الأرزاق فى مكان فعندنا أرجاء الأرض واسعة ولهذا قال تعالى " وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِ" فالسعى فى السبب لا ينافى التوكل على الله وعن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا وتروح بطانا " فأثبت لها رواحا وغدوا لطلب الرزق مع توكلها على الله عز وجل وهو المسخر المسير المسبب ، والملاحظ أن الله تعالىعندما تحدث عن السعى لطلب الرزق فى الدنيا قال " فامشوا فى مناكبها "وعندما تحدث عن الآخرة والسعى والعمل الى الجنة قال " وسارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة " وقال " وفروا الى الله " فهذا السعى فى الحياة الدنيا لطلب الرزق لابد أن يكون فيه تمهل لأن الله كتب الأرزاق ولكننا مأمورون بالسعى على الرزق وعدم التواكل ولكن الآخرة هى المقصد فلابد من المسارعة والفرار اليها بالعمل الصالح الذى يقرب الى الله ومغفرته وهو الطريق الى الجنة ونعيمها ، " وَإِلَيۡهِ ٱلنُّشُورُ " أى المرجع يوم القيامة أى مع هذا السعى على الرزق لا تنسوا يوم القيامة يوم البعث الذى فيه الحساب والثواب والعقاب .

ءَأَمِنتُم مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخۡسِفَ بِكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ١٦ أَمۡ أَمِنتُم مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرۡسِلَ عَلَيۡكُمۡ حَاصِبٗاۖ فَسَتَعۡلَمُونَ كَيۡفَ نَذِيرِ ١٧ وَلَقَدۡ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ فَكَيۡفَ كَانَ نَكِيرِ ١٨ أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ إِلَى ٱلطَّيۡرِ فَوۡقَهُمۡ صَٰٓفَّٰتٖ وَيَقۡبِضۡنَۚ مَا يُمۡسِكُهُنَّ إِلَّا ٱلرَّحۡمَٰنُۚ إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَيۡءِۢ بَصِيرٌ ١٩

يخبر الله تعالى عن لطفه ورحمته بخلقه وأنه قادر على تعذيبهم بسبب كفر بعضهم به وعبادتهم معه غيره وهو مع هذا يحلم ويصفح ويؤجل ولا يعجل فيقول عز وجل " ءَأَمِنتُم مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ " أى هل تأمنون وتطمأنون وفيكم الكافرون والمشركون أن الله عز وجل فى سمواته العلا وهومطلع ورقيب على أقوالكم وعلى أعمالكم عز وجل ، " أَن يَخۡسِفَ بِكُمُ ٱلۡأَرۡضَ " الخسف هو أن تبتلعكم الأرض كما ابتلعت قارون كما فى قوله تعالى " وخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين " القصص 81 ، " فَإِذَا هِيَ تَمُورُ " أى تذهب وتجىء وتضطرب وهى حركة الأرض اذا حدث فيها زلزال مدمر يبتلع ما عليها فكما نعلم فان الزلازل هى نتيجة لتحركات فى القشرة الأرضية وكمانرى بأعيننا ماذا تفعل الزلازل فى لمح البصر من تخريب وتدمير وكل هذه الأمور تسير بأمر الله وقدره وهذا كقوله " ولويؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم الى أجل مسمى فاذا جاء أجلهم فان الله كان بعباده بصيرا "  ، " أَمۡ أَمِنتُم مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ " هذا تأكيد لتهديد الله ووعيده أى هل أيضا تأمنون وتطمأنون أن الله عز وجل فى سمواته العظيم فى ملكوته ، " أَن يُرۡسِلَ عَلَيۡكُمۡ حَاصِبٗا" الحاصب هو الريح التى فيها حصباء وهى قطع الحجارة الصغيرة التى تدمغكم ، " فَسَتَعۡلَمُونَ كَيۡفَ نَذِيرِ" يقول الله عزوجل متوعدا لهؤلاء الكافرين ستعلمون كيف يكون انذارى وعاقبة من تخلف عنه وكذب به وهذا كقوله تعالى " أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا "،  "وَلَقَدۡ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ " ويتحدث الله عزوجل متوعدا ومهددا المشركين أن يأخذوا العبرة مما وقع من اهلاك للأمم السالفة المكذبة قبلهم فيقول " فَكَيۡفَ كَانَ نَكِيرِ " أى أنظروا وتدبروا كيف كان انكارى عليهم ومعاقبتى لهم ؟ أى كيف كان عظيما شديدا أليما ، " أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ إِلَى ٱلطَّيۡرِ فَوۡقَهُمۡ " يقول الله عز وجل منبها الأبصار والعقول أن ترى وتتدبر عظمة خلقه فى قدرته فى خلق الطيور التى تملأ أفق السماء فوقهم وكيف أن طيرانها آية من آيات الله " صَٰٓفَّٰتٖ وَيَقۡبِضۡنَ"  هذه الطيور التى تارة يصففن أجنحتهن فى الهواء وتارة تجمع جناحا وتنشر جناحا وهذا وصف دقيق لعملية الطيران وكيف تتم فهى تتم من تحريك الهواء بشدة فيحمل الهواء الطائر وتحريك الهواء يتم بتحريك الأجنحة وكلما كبر حجم الطائر كلما كبر جناحاه كالنسر والصقر وغير ذلك ألم يروا ذلك ويتدبروه، وقد استفاد الانسان من طيران الطيور فاخترع الطائرات بهذه النظرية التى تحرك الهواء بقوة محركاتها  فيحملها وكلما كانت قوة المحركات كانت القدرة على حمل طائرة أكبر كما هو الحال بالنسبة للطيور ، فهذه آية من آيات القرآن التى تحتاج الى تدبر ، " مَا يُمۡسِكُهُنَّ إِلَّا ٱلرَّحۡمَٰنُ"  هذه الطيور التى تطير فى الفضاء لا يمكن لأحد أن يوقفها أو يسيرها الا الله الرحمن برحمته ولطفه الذى سخر لها الهواء فى السماء التى تطير فيها وتتحرك للسعى فى الأرض الذى تعتمد عليه حياتها  ، " إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَيۡءِۢ بَصِيرٌ " يعقب الله عز وجل أنه هو سبحانه البصير بما يصلح كل شىء من مخلوقاته وهذا كقوله " أو لم يروا الى الطير مسخرات فى جو السماء ما يمسكهن الا الله ان فى ذلك لآيات لقوم يؤمنون " .

أَمَّنۡ هَٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٞ لَّكُمۡ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ ٱلرَّحۡمَٰنِۚ إِنِ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ ٢٠ أَمَّنۡ هَٰذَا ٱلَّذِي يَرۡزُقُكُمۡ إِنۡ أَمۡسَكَ رِزۡقَهُۥۚ بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوّٖ وَنُفُورٍ ٢١ أَفَمَن يَمۡشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجۡهِهِۦٓ أَهۡدَىٰٓ أَمَّن يَمۡشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ٢٢ قُلۡ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَكُمۡ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡ‍ِٔدَةَۚ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ ٢٣ قُلۡ هُوَ ٱلَّذِي ذَرَأَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَإِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ ٢٤ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا ٱلۡوَعۡدُ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٢٥ قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡعِلۡمُ عِندَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَا۠ نَذِيرٞ مُّبِينٞ ٢٦ فَلَمَّا رَأَوۡهُ زُلۡفَةٗ سِيٓ‍َٔتۡ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَٰذَا ٱلَّذِي كُنتُم بِهِۦ تَدَّعُونَ ٢٧

يقول تعالى للمشركين الذين عبدوا معه غيره يبتغون عندهم نصرا ورزقا منكرا عليهم فيما اعتقدوه ومخبرا لهم أنه لا يحصل لهم ما أملوه فقال تعالى " أَمَّنۡ هَٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٞ لَّكُمۡ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ ٱلرَّحۡمَٰنِ" يقول الله عز وجل موجها لهم الكلام هل من أحد مؤيد ممن تتخذوهم من دون الله ينصركم ان أراد الله بكم سواء جزاءا لكم على كفركم والجواب معلوم وهو ليس لكم من دون الله من ولى ولا واق ولا ناصر غيره ولهذا قال " إِنِ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ " يقول عز وجل معقبا هؤلاء الكفار مغرورون مخدعون بما هم عليه فى هذه الحياة الدنيا لأن الغرور هوخداع للنفس حيث يتصور المغرور ويتوهم شيئا ليس عليه ويعظم نفسه بالباطل ، " أَمَّنۡ هَٰذَا ٱلَّذِي يَرۡزُقُكُمۡ إِنۡ أَمۡسَكَ رِزۡقَهُ" ويقول الله عز وجل موجها كلامه الى المشركين هل من أحد اذا قطع الله عنكم رزقه يرزقكم بعده ؟ أى لا أحد يعطى ويمنع ويخلق ويرزق وينصر الا الله عز وجل وحده لا شريك له أى وهم يعلمون ذلك ومع هذا يعبدون غيره ولهذا قال تعالى " بَل لَّجُّواْ"اللجج هو الخوج فى الشىء والاستمرار فيه فيكون المعنى أى استمروا فى طغيانهم وافكهم وضلالهم فهم " فِي عُتُوّٖ وَنُفُورٍ " أى فى معاندة واستكبار ونفور على ادبارهم وتوليهم عن الحق لا يسمعون له ولا يتبعونه ، هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر " أَفَمَن يَمۡشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجۡهِهِ" الكافر مثله فيما هو فيه من ضلال وكفر كمثل من يمشى منكبا على وجهه أى يمشى منحنيا لا مستويا على وجهه لا يدرى أين يسلك ولا كيف يذهب بل تائه حائر ضال ، " أَهۡدَىٰٓ أَمَّن يَمۡشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيم" أهذا الضال أهدى ممن يمشى منتصب القامة على طريق واضح وهو فى نفسه مستقيم وطريقه مستقيمة هذا مثلهم فى الدنيا وكذلك يكونون فى الآخرة ، فالمؤمن يحشر يمشى سويا على صراط مستقيم مفض به الى الجنة الفيحاء ، وأما الكافر فانه يحشر يمشى على وجهه الى نار جهنم كقوله تعالى " احشروا الذين ظلموا وأزوجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم الى صراط الجحيم " والمقصود بأزواجهم أشباههم ومن كان مثلهم وعن أنس بن مالك قيل يارسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم ؟ فقال " أليس الذى أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم ؟" ، "  قُلۡ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَكُمۡ " يقول الله عز وجل أنه هو وحده الذى ابتدأ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا ، " وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡ‍ِٔدَةَ" ويتحدث عزوجل عن قدرته فى خلق الأسماع والأبصار والعقول والادراك وخص الله هذه الأعضاء بالذكر فالسمع أعم من البصر فبدأ به  لأن من فقد نعمة البصر يمكن أن يعيش ويفهم ويشق طريقه من خلال السمع ونحن نعلم كم من ملايين الأكفاء فى العالم يعيشون حياتهم ويتعلمون ويتفوقون وهناك أمثلة كثيرة لمن كف بصرهم وحتى يمكن للانسان أن يسمع فى كل الأحوال حتى فى الظلام ثم يأتى البصر وتأتى الأفئدة والعقول التى تعى ما تسمع وترى وهذه هى عملية الادراك التى يفهم بها الانسان ويتعلم ، "  قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ " أى رغم هذه النعم من الله على العباد فقليل منهم الشكور لله على نعمه ولهذا قال " ان تعدو نعمة الله لا تحصوها " وفى قول آخر أى قلما تستعملون هذه القوى التى أنعم الله بها عليكم فى طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره ، "  قُلۡ هُوَ ٱلَّذِي ذَرَأَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ " يتحدث الله عن فضله على عباده أنه هو الذى أسكنكم فى الأرض وبثكم ونشركم فى أقطار الأرض وأرجائها مع اختلاف ألسنتكم فى لغاتكم وألوانكم وأشكالكم وصوركم ، وَإِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ " يقول عز وجل لعباده أنكم تجمعون بعد هذا التفرق والشتات يوم الحشر وهو يوم القيامة كما فرقكم ويعيدكم كما بدأكم ، " وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا ٱلۡوَعۡدُ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ " يقول تعالى مخبرا عن الكفار المشركين المنكرين للمعاد المستبعدين وقوعه متى يقع هذا الذى تخبرنا بكونه من الاجتماع بعد هذا التفرق ، " قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡعِلۡمُ عِندَ ٱللَّهِ " يقول الله عزوجل مخبرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين لا يعلم وقت ذلك المعاد للبعث والحشر على التعيين الا الله عز وجل لكنه أمرنى أن أخبركم أن هذا كائن وواقع لا محالة فاحذروه ، " وَإِنَّمَآ أَنَا۠ نَذِيرٞ مُّبِين" يقول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين انما على البلاغ الواضح وقد أديته اليكم ، " فَلَمَّا رَأَوۡهُ زُلۡفَةٗ سِيٓ‍َٔتۡ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ " أى لما قامت الساعة وشاهدها الكفار ورأوا أن الأمر كان قريبا لأن كل ما هو آت آت وان طال زمنه فلما وقع ما كذبوا به ساءهم ذلك لما يعلمون ما لهم هناك من الشر أى فأحاط بهم ذلك وجاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم فى بال ولا حساب كقوله تعالى " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون " ولهذا يقال على وجه التقريع والتوبيخ " وَقِيلَ هَٰذَا ٱلَّذِي كُنتُم بِهِۦ تَدَّعُونَ " هذا هو اليوم الذى كنتم تستعجلون .

قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِنۡ أَهۡلَكَنِيَ ٱللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوۡ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ ٱلۡكَٰفِرِينَ مِنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ ٢٨ قُلۡ هُوَ ٱلرَّحۡمَٰنُ ءَامَنَّا بِهِۦ وَعَلَيۡهِ تَوَكَّلۡنَاۖ فَسَتَعۡلَمُونَ مَنۡ هُوَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ ٢٩ قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِنۡ أَصۡبَحَ مَآؤُكُمۡ غَوۡرٗا فَمَن يَأۡتِيكُم بِمَآءٖ مَّعِينِۢ ٣٠

" قُلۡ " يقول تعالى مخبرا رسوله صلى الله عليه وسلم قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الجاحدين لنعمه "أَرَءَيۡتُمۡ " هذا لجذب الانتباه وشحذ الحواس لتلتفت وتفهم وتعى بمعنى ها تدبرتم وفكرتم فى هذا الأمر وهم ،"  إِنۡ أَهۡلَكَنِيَ ٱللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوۡ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ ٱلۡكَٰفِرِينَ مِنۡ عَذَابٍ أَلِيم" لو أن الله قد أوقع بنا وبكم الهلاك ورحم من شاء وأهلك من شاء أيها الكافرين خلصوا أنفسكم فانه لا منقذ لكم من الله الا التوبة والرجوع الى دينه ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون من العذاب والنكال فسواء عذبنا الله أو رحمنا فلا مناص لكم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بكم ، " قُلۡ هُوَ ٱلرَّحۡمَٰنُ ءَامَنَّا بِهِۦ وَعَلَيۡهِ تَوَكَّلۡنَا" يقول الله عز وجل لرسوله أن يقول نحن آمنا برب العالمين الرحمن الرحيم وعليه توكلنا فى جميع أمورنا كما قال تعالى " فاعبده وتوكل عليه " ولهذا قال تعالى " فَسَتَعۡلَمُونَ مَنۡ هُوَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِين" أيها الكفارستعلمون من منا ومنكم تكون له العاقبة فى الدنيا والآخرة ، "  قُلۡ أَرَءَيۡتُم" يلفت الله عزوجل الأسماع والأبصار وكل الحواس للتدبر والاعتبار فيقول لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر الكفار " إِنۡ أَصۡبَحَ مَآؤُكُمۡ غَوۡرٗا " غورا أى ذاهبا فى الأرض الى أسفل فلا يمكن أن ينال والغائر عكس النابع أى لو ذهب منكم الماء وتاه فى الأرض  " فَمَن يَأۡتِيكُم بِمَآءٖ مَّعِينِۢ " هل يمكن لأحد أن يأتيكم بماء نابع سائح جار على وجه الأرض ، أى لا يقدر على ذلك الا الله عز وجل فمن فضله وكرمه أن أنبع لكم المياه وأجراها فى سائر أقطار الأرض بحسب ما يحتاجه العباد من القلة والكثرة - فلو قل وذهب وغار هلكتم وان فاض وتدفق أغرقكم وأهلككم .

تفسير الجزء التاسع والعشرين

تفسير سورة القلم

سورة القلم أو سورة ن سورة مكية ، عدد آياتها 52 آية ، تتسم السورة بما اتسمت به السور المكية من تثبيت لرسوله صلى الله عليه وسلم فى دعوته لكفار قريش الى الاسلام وتثبيته فى مواجهتهم ،وضرب الله المثل بأصحاب البستان الذين انقسموا على أنفسهم فى العطاء وأرادوا منع العطاء فبادت فلاموا أنفسهم وتابوا الى الله ، وتتحدث السورة عن الجنة والنار وأحوال المؤمنين والكفار فى الآخرة .

نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ ١ مَآ أَنتَ بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ بِمَجۡنُونٖ ٢ وَإِنَّ لَكَ لَأَجۡرًا غَيۡرَ مَمۡنُونٖ ٣ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ ٤ فَسَتُبۡصِرُ وَيُبۡصِرُونَ ٥ بِأَييِّكُمُ ٱلۡمَفۡتُونُ ٦ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ ٧

" نٓۚ" تقدم الكلام عن الحروف الهجاء فى افتتاح السور فى سورة البقرة وهذا كقوله تعالى " ص " وكقوله " ق " ونحو ذلك من الحروف المقطعة فى أوائل السور ، " وَٱلۡقَلَمِ " هو جنس القلم الذى يكتب به ، " وَمَا يَسۡطُرُونَ " قال ابن عباس وغيره وما يكتبون وفى قول آخر وما يعملون وقال السدى يعنى الملائكة وما يكتبون من أعمال العباد وقال آخرون بل المراد هنا بالقلم الذى أجراه الله بالقدر حين كتب مقادير الخلائق فعن أبى هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ان أول شىء خلقه الله القلم ثم خلق النون وهى الدواة ثم قال له أكتب ، قال وما أكتب ؟ قال اكتب ما يكون - أو - ما هو كائن من عمل أو رزق أو أثر أو أجل فكتب ذلك الى يوم القيامة فذلك قوله " ن والقلم وما يسطرون " ثم ختم على القلم فلم يتكلم الى يوم القيامة ، ثم خلق العقل وقال وعزتى لأكملنك فيمن أحببت ولأنقصنك ممن أبغضت " وعن الوليد بن عبادة بن الصامت قال دعانى أبى حين حضره الموت فقال انى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ان أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قال يارب وما أكتب ؟ قال اكتب القدر وما هو كائن الى الأبد " ، وذكر الله تعالى للقلم وهو أداة الكتابة وتعظيمه لما يكتب هو تعظيم للعلم كما قال تعالى فى سورة العلق" الذى علم بالقلم *علم الانسان ما لم يعلم " فهذا التعظيم لأداة الكتابة تعظيم للعلم كما عظم الله القراءة " اقرأ باسم ربك الذى خلق " وعظم الكتابة بذكر القلم فالعلم المحفوظ الذى توارثته الأجيال كان هو العلم المسجل ،وهذا يحتاج منا الى بحث منفصل ، "  مَآ أَنتَ بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ بِمَجۡنُون" يقول الله عز وجل مدافعا عن رسوله صلى الله عليه وسلم حين اتهمه الكفار بأنه ساحر أو مجنون ينفى الله عنه ذلك أى ولست ولله الحمد بمجنون كما يقوله الجهلة من قومك المكذبون بما جئتهم به من الهدى والحق المبين فنسبوك فيه الى الجنون ، " وَإِنَّ لَكَ لَأَجۡرًا غَيۡرَ مَمۡنُون" الممنون المستمر الذى لا ينقطع فيكون معنى ممنون غير مقطوع كقوله تعالى " عطاء غير مجذوذ - فلهم أجر غير ممنون " وكقوله " الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غبر ممنون "  أى بل ان لك الأجر العظيم والثواب الجزيل الذى لا ينقطع ولا يبيد على ابلاغك رسالة ربك الى الخلق وصبرك على أذاهم ، " وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيم" قال ابن عباس وانك لعلى دين عظيم وهو الاسلام وقال عطية لعلى أدب عظيم وعن قتادة سئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت كان خلقه القرآن وذكر أن عيد بن هشام سأل عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت ألست تقرأ القرآن ؟ قال بلى قالت فان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن "وعن الحسن قال سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت كان خلقه القرآن "    ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسلام صار امتثال القرآن أمرا ونهيا سجية له وخلقا تطبعه وترك طبعه الجبلى فمهما أمره القرآن فعله ومهما نهاه عنه تركه ، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكل خلق جميل كما ثبت فى الصحيحين عن أنس قال خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لى أف قط ولا قال لشىء فعلته ؟ ولا لشىء لم أفعله ألا فعلته لم فعلته ، وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا ولا مسست خزا ولا حريرا ولا شيئا كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممت مسكا ولا عطرا كان أطيب من عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم " وقال البراء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها وأحسن الناس خلقا ، ليس بالطويل ولا بالقصير " والأحاديث فى هذا كثيرة ولأبى عيسى الترمذى فى هذا كتاب الشمائل ، وعن عائشة قالت : ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادما قط ولا ضرب امرأة ولا ضرب بيده شيئا قط الا أن يجاهد فى سبيل الله ، ولا خير بين شيئين قط الا كان أحبهما اليه أيسرهما حتى يكون اثما فاذا كان اثما كان أبعد الناس من الاثم ، ولا انتقم لنفسه من شىء يؤتى اليه الا أن تنتهك حرمات الله فيكون هو ينتقم لله عز وجل " ، وعن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " انما بعثت لأتمم صالح الأخلاق " تفرد به ، "  فَسَتُبۡصِرُ وَيُبۡصِرُونَ * بِأَييِّكُمُ ٱلۡمَفۡتُونُ " المفتون هو الضال الذى يعجب ويفتتن بأمر يخرجه عن طريق الصواب أو الذى قد افتتن عن الحق وضل عنه وانما دخلت الباء فى قوله بأيكم لتدل على تضمين الفعل فى قوله " فستبصر ويبصرون " وتقديره فستعلم ويعلمون أو فستخبر ويخبرون بايكم المفتون  كقول فى سورة طه وهو يتحدث عن اتخاذ بنى اسرائيل العجل من دون الله " ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم انما فتنتم به وان ربكم الرحمن فاتبعونى وأطيعوا أمرى " طه 90  وهنا المعنى فستعلم يا محمد وسيعلم مخالفوك ومكذبوك من المفتون أى الضال منك ومنهم ؟ وهذا كقوله تعالى "سيعلمون غدا من الكذاب الأشر " وكقوله تعالى " وانا أو اياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين " وقال ابن عباس فى هذه الآية ستعلم وتعلمون يوم القيامة وفى قول آخر له بأيكم المفتون أى المجنون وقال قتادة بأيكم المفتون أى أولى بالشيطان ، " إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ " أى الله عز وجل يعلم أى الفريقين منكم ومنهم هو المهتدى ويعلم الحزب الضال عن الحق فهو عز وجل يعلم من هم المهتدون  ومن هم الضالون  بعلمه وحكمته .

فَلَا تُطِعِ ٱلۡمُكَذِّبِينَ ٨ وَدُّواْ لَوۡ تُدۡهِنُ فَيُدۡهِنُونَ ٩ وَلَا تُطِعۡ كُلَّ حَلَّافٖ مَّهِينٍ ١٠ هَمَّازٖ مَّشَّآءِۢ بِنَمِيمٖ ١١ مَّنَّاعٖ لِّلۡخَيۡرِ مُعۡتَدٍ أَثِيمٍ ١٢ عُتُلِّۢ بَعۡدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ ١٣ أَن كَانَ ذَا مَالٖ وَبَنِينَ ١٤ إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِ ءَايَٰتُنَا قَالَ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ ١٥ سَنَسِمُهُۥ عَلَى ٱلۡخُرۡطُومِ ١٦

يقول تعالى كما أنعمنا عليك وأعطيناك الشرع المستقيم والخلق العظيم " فَلَا تُطِعِ ٱلۡمُكَذِّبِينَ " ينهى الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم عن الانصياع الى المكذبين لدين الله من المشركين مهما كان منهم ، "وَدُّواْ لَوۡ تُدۡهِنُ فَيُدۡهِنُونَ " معنى ودوا أى أحبوا والمداهنة هى التقرب الى شخص أو شىء بما يحبه من القول أو الفعل والمداهنة هى النفاق والتدليس وقال ابن عباس عن " تدهن فيدهنون " لو ترخص لهم فيرخصون وقال مجاهد تركن الى آلهتهم وتترك ما أنت عليه من الحق ثم قال تعالى " وَلَا تُطِعۡ كُلَّ حَلَّافٖ مَّهِينٍ " الحلاف صيغة مبالغة من الحالف فيكون من هو كثير الحلف وهو من يحلف على أمر ما حتى يصدق فيما قال  وقال ابن عباس المهين الكاذب وقال مجاهد هو الضعيف القلب وذلك أن الكاذب لضعفه ومهانته انما يتقى بحلفه وأيمانه الكاذبة التى يجترىء بها على أسماء الله تعالى واستعمالها فى كل وقت فى غير محلها وقال الحسن كل حلاف مكابر مهين ضعيف فينهى الله عز وجل عن طاعة من يكون فيه هذه الصفات ، " هَمَّاز" قال ابن عباس وغيره الهمز هو الاغتياب والهماز هو المغتاب وهو ذكر الناس بالباطل فى غيبتهم وهذا كقوله " ويل لكل همزة لمزة " ، " مَّشَّآءِۢ بِنَمِيم" يعنى الذى يمشى بين الناس ويحرش بينهم وينقل الحديث لفساد ذات البين وهى الحالقة وقد ثبت فى الصحيحين عن ابن عباس قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبر فقال " انهما ليعذبان وما يعذبان فى كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشى بالنميمة " وعن حذيفة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يدخل الجنة قتات " يعنى نماما وعن أسماء بنت يزيد بن السكن أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " ألا أخبركم بخياركم ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله " قال " الذين اذا رؤوا ذكر الله عز وجل " ثم قال " ألا أخبركم بشراركم المشاءون بالنميمة المفسدون بين الأحبة الباغون للبرآء العنت "،" مَّنَّاعٖ لِّلۡخَيۡرِ "  أى يمنع ما عليه وما لديه من الخير أى ممتنع عن فعل الخير وكذلك يمنع من حدوثه حتى اذا أراد فعله غيره وهذا النموذج موجود فى المجتمع من هو لا يفعل الخير ولا يجعل الناس تستفيد من خير يقدمه لهم غيره ،  "مُعۡتَدٍ " يتجاوز الحد المشروع فى تناول ما أحل الله له ، " أَثِيمٍ " صيغة مبالغة من آثم وهو من يرتكب الاثم أى يتناول المحرمات أى يتناول الكثير من المحرمات ،"  عُتُلِّۢ  " العتل هو الفظ الغليظ وعن حارثة ابن وهب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أنبئكم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره ، ألا أنبئكم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر " وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبى صلى الله عليه وسلم قال عند ذكر أهل النار " كل جعظرى جواظ مستكبر جماع مناع " تفرد به أحمد وقال أهل اللغة الجعظرى هو الفظ الغليظ والجواظ الجموع المنوع وقال مجاهد وغيره أن العتل هو المصحح الخلق الشديد القوى فى المأكل والمشرب والمنكح وغير ذلك ، " بَعۡدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ " الزنيم فى لغة العرب هو الدعى فى القول وقال آخر :زنيم ليس يعرف من أبوه بغى الأم ذو حسب لئيم وعن ابن عباس أنه الملحق النسب وقال سعيد هو الملصق بالقوم ليس منهم وقال عكرمة هو ولد الزنا وعن عكرمة فى قوله تعالى " عتل بعد ذلك زنيم " قال يعرف المؤمن من الكافر مثل الشاة الزنماء والزنماء من الشاة التى فى عنقها هنتان معلقتان فى حلقها وقال سعيد بن جبير الزنيم الذى يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها والزنيم الملصق وفى قول آخر لابن عباس الزنيم هو المريب الذى يعرف بالشر وقال مجاهد كذلك الزنيم يعرف بهذا الوصف كما تعرف الشاة وقال عكرمة كذلك الزنيم يعرف باللؤم كما تعرف الشاة بزنمتها وقال أبو رزين علامة الكفر ، والأقوال فى هذا كثيرة وترجع الى ما قلناه وهو أن الزنيم هو المشهور بالشر الذى يعرف من بين الناس وغالبا يكون دعيا ولد زنا فانه فى الغالب يتسلك الشيطان عليه مالا يتسلط على غيره كما جاء فى الحديث " ولد الزنا شر الثلاثة اذا عمل بعمل أبويه " ، " أَن كَانَ ذَا مَالٖ وَبَنِينَ *  إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِ ءَايَٰتُنَا قَالَ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ " يقول تعالى أن هذا مقابلة ما أنعم الله عليه من المال والبنين كفر بآيات الله عز وجل وأعرض عنها وزعم أنها كذب مأخوذ من أساطير الأولين كقوله تعالى " ذرنى ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا * قم يطمع أن أيد كلا انه كان لآياتنا عنيدا * سارهقه صعودا * انه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال ان هذا الا سحر يؤثر * ان هذا الا قول البشر " ، " سَنَسِمُهُۥ عَلَى ٱلۡخُرۡطُومِ " السمة هى العلامة  والخرطوم هو الأنف فى رواية عن قتادة سنسمه سيما على أنفه وقال آخرون "سنسمه" سمة أهل النار يعنى نسود وجهه يوم القيامة وعبرعن الوجه بالخرطوم وقال ابن جرير سنبين أمره بيانا واضحا حتى يعرفوه ولا يخفى عليهم كما لا تخفى عليهم السمة على الخراطيم وقال قتادة " سنسمه على الخرطوم"  شين لا يفارقه لآخر ما عليه وعن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ان العبد يكتب يوم القيامة مؤمنا أحقابا ثم أحقابا ثم يموت والله عليه ساخط ، وان العبد يكتب كافرا أحقابا ثم أحقابا ثم يموت والله عليه راض ، ومن مات همازا لمازا ملقبا للناس كان علامته يوم القيامة أن يسمه الله على الخرطوم من كلا الشفتين " ، فهذا الحديث يدل على أن الانسان لابد له من الالتزام بالعمل الصالح طوال حياته ولا يغتر فيموت على معصية ، وكذلك يحفز الانسان ويدعوه الى التوبة والاستقامة فيموت والله راض عنه ، ويحذر الحديث من الهمز واللمز أشد التحذير وعاقبته يوم القيامة لأن ذلك يحث فتنة بين الناس والفتنة أشد من القتل ، وكل هذا يتفق مع ما جاءت به الآيات .

إِنَّا بَلَوۡنَٰهُمۡ كَمَا بَلَوۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلۡجَنَّةِ إِذۡ أَقۡسَمُواْ لَيَصۡرِمُنَّهَا مُصۡبِحِينَ ١٧ وَلَا يَسۡتَثۡنُونَ ١٨ فَطَافَ عَلَيۡهَا طَآئِفٞ مِّن رَّبِّكَ وَهُمۡ نَآئِمُونَ ١٩ فَأَصۡبَحَتۡ كَٱلصَّرِيمِ ٢٠ فَتَنَادَوۡاْ مُصۡبِحِينَ ٢١ أَنِ ٱغۡدُواْ عَلَىٰ حَرۡثِكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰرِمِينَ ٢٢ فَٱنطَلَقُواْ وَهُمۡ يَتَخَٰفَتُونَ ٢٣ أَن لَّا يَدۡخُلَنَّهَا ٱلۡيَوۡمَ عَلَيۡكُم مِّسۡكِينٞ ٢٤ وَغَدَوۡاْ عَلَىٰ حَرۡدٖ قَٰدِرِينَ ٢٥ فَلَمَّا رَأَوۡهَا قَالُوٓاْ إِنَّا لَضَآلُّونَ ٢٦ بَلۡ نَحۡنُ مَحۡرُومُونَ ٢٧ قَالَ أَوۡسَطُهُمۡ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ لَوۡلَا تُسَبِّحُونَ ٢٨ قَالُواْ سُبۡحَٰنَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ ٢٩ فَأَقۡبَلَ بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ يَتَلَٰوَمُونَ ٣٠ قَالُواْ يَٰوَيۡلَنَآ إِنَّا كُنَّا طَٰغِينَ ٣١ عَسَىٰ رَبُّنَآ أَن يُبۡدِلَنَا خَيۡرٗا مِّنۡهَآ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا رَٰغِبُونَ ٣٢ كَذَٰلِكَ ٱلۡعَذَابُۖ وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَكۡبَرُۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ ٣٣

هذا مثل ضربه الله تعالى لكفار قريش فيما أهدى اليهم من الرحمة العظيمة وأعطاهم من النعمة الجسيمة وهو بعثة محمد صلى الله عليه وسلم اليهم فقابلوه بالتكذيب والرد والمحاربة ولهذا قال " إِنَّا بَلَوۡنَٰهُمۡ كَمَا بَلَوۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلۡجَنَّةِ " بلوناهم أى اختبرناهم كما اختبرنا أصحاب البستان المشتمل على أنواع الثمار والفواكه وهو الجنة " إِذۡ أَقۡسَمُواْ " أى حلفوا فيما بينهم " لَيَصۡرِمُنَّهَا مُصۡبِحِينَ * وَلَا يَسۡتَثۡنُونَ " ليجذن أى يجنوا ثمرها مبكرا فى الصباح الباكر لئلا يعلم بهم فقير ولا سائل ليتوفر ثمرها عليهم ولا يتصدقوا منه بشىء وأن لا يستثنون أحدا أو شيئا مما حلفوا به ، ولهذا حنثهم الله فى أيمانهم فقال تعالى " فَطَافَ عَلَيۡهَا طَآئِفٞ مِّن رَّبِّكَ وَهُمۡ نَآئِمُونَ " الطائف هو آفة سماوية قيل هو صاعقة محرقة أنزلها الله من السماء أصابت هذا البستان وهم نائمون ليلا لم يصبح عليهم الصباح ، " فَأَصۡبَحَتۡ كَٱلصَّرِيمِ " الصريم هو الليل الأسود أى احترقت وتفحمت فأصبحت كالليل الأسود حالك السواد كما قال ابن عباس وقال الثورى والسدى مثل الزرع اذا حصد أى هشيما يبسا وعن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اياكم والمعاصى ان العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا قد كان هيىء له " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم  " فَطَافَ عَلَيۡهَا طَآئِفٞ مِّن رَّبِّكَ وَهُمۡ نَآئِمُونَ * فَأَصۡبَحَتۡ كَٱلصَّرِيمِ " قد حرموا خير جنتهم بذنبهم ،"فَتَنَادَوۡاْ مُصۡبِحِينَ " أى لما كان وقت الصبح نادى بعضهم بعضا ليذهبوا الى الجذاذ أى القطع للثمار، "أَنِ ٱغۡدُواْ عَلَىٰ حَرۡثِكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰرِمِينَ " صارمين أى تريدون الصرام قال مجاهد كان حرثهم عنبا وهو الصرام الغدو هو الصباح المبكر فهم قد عزموا أن يتوجهوا فى الصباح الباكر على حرث ثمار بستانهم من العنب ، " فَٱنطَلَقُواْ وَهُمۡ يَتَخَٰفَتُونَ " شرعوا فى عملهم من التوجه الى البستان لجنى الثمار يتخافتون بمعنى  يتناجون أى يتحدثون همسا بحيث لا يسمعهم أحد أو لا يسمعون أحدا كلامهم ثم فسر الله سبحانه وتعالى عالم السر والنجوى ما كانوا يتخافتون به فقال " أَن لَّا يَدۡخُلَنَّهَا ٱلۡيَوۡمَ عَلَيۡكُم مِّسۡكِين" كانوا يقول بعضهم لبعض لا تمكنوا اليوم فقيرا يدخلها عليكم ، " وَغَدَوۡاْ عَلَىٰ حَرۡد" أى أصبحوا وهم على الحرد هو القوة والشدة وقال مجاهد الجد وقال عكرمة على غيظ وقال الشعبى " على حرد " على المساكين ،"قَٰدِرِينَ " أى متمكنين منها قادرين عليها أى هذه المهمة من الحرث فيما يزعمون ويرومون ، "  فَلَمَّا رَأَوۡهَا قَالُوٓاْ " فلما وصلوا الى بستانهم وأشرفوا عليه أوجنتهم ورأو الحالة التى قال الله عز وجل قد استحالت عن تلك النضارة والزهرة وكثرة الثمار الى أن صارت سوداء مدلهمة لا ينتفع بشىء منها فاعتقدوا أنهم قد أخطأوا الطريق ولهذا قالوا " إِنَّا لَضَآلُّونَ "  أى قد سلكنا اليها غير الطريق فتهنا عنها هذا ما قاله ابن عباس وغيره ، ثم رجعوا عما كانوا فيه وتيقنوا أنها هى فقالوا " بَلۡ نَحۡنُ مَحۡرُومُونَ " أى بل هى هذه ولكن نحن لا حظ لنا ولا نصيب فقد حرمنا من ثمارها بعد أن تدمرت ، " قَالَ أَوۡسَطُهُمۡ" قال ابن عباس وغيره قال أوسطهم أى أعدلهم وخيرهم والوسطية هى الاعتدال كقوله "وكذلك جعلناكم أمة وسطا" " أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ لَوۡلَا تُسَبِّحُونَ " قيل معناه قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون ؟ أى أن تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم وأنعم به عليكم ، " قَالُواْ سُبۡحَٰنَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ " أتوا بالطاعة حيث لا تنفع وندموا واعترفوا حيث لا ينجع فسبحوا بحمد ربهم على ما كانوا فيه من النعمة واعترفوا بخطئهم وما كانوا عليه من الظلم فيما كانوا يعتزمون فعله من ظلم للمساكين والفقراء بحرمانهم من نصيبهم من الثمار ،" فَأَقۡبَلَ بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ يَتَلَٰوَمُونَ " أخذ كل منهم يلوم الآخر على ما كانوا أصروا عليه من منع المساكين من حق الجذاذ ، " قَالُواْ يَٰوَيۡلَنَآ إِنَّا كُنَّا طَٰغِينَ " ما كان جواب بعضهم لبعض الا الاعتراف بالخطيئة والذنب على ما حاق بهم من تدمير لجنتهم وخسارتهم جزاء ربهم فقالوا اعتدينا وبغينا وطغينا وجاوزنا الحد حتى أصابنا ما أصابنا ، " عَسَىٰ رَبُّنَآ أَن يُبۡدِلَنَا خَيۡرٗا مِّنۡهَآ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا رَٰغِبُونَ " تمنوا من الله أن يقبل توبتهم ويبدلهم خيرا مما ضاع منهم وقيل رغبوا فى بذلها لهم فى الدنيا وقيل احتسبوا ثوابها فى الدار الآخرة وذكر بعض السلف أن هؤلاء كانوا من أهل اليمن وقيل كانوا من أهل الحبشة وكان أبوهم قد خلف لهم هذه الجنة وكانوا من أهل الكتاب وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة فكان ما يستغل منها يرد فيها ما تحتاج اليه ويدخر لعياله قوت سنتهم ويتصدق بالباقى ، فلما مات وورثه بنوه قالوا لقد كان أبونا أحمق اذ كان يصرف من هذه شيئا للفقراء ولو أنا منعناهم لتوفر ذلك علينا فلما عزموا على ذلك عوقبوا بنقيض قصدهم فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية رأس المال والربح والصدقة فلم يبق لهم شىء ، "كَذَٰلِكَ ٱلۡعَذَابُ" أى هكذا عذاب من خالف أمر الله وبخل بما آتاه الله وأنعم به عليه ومنع حق المساكين والفقراء وذوى الحاجات وبدل نعمة الله كفرا ، " وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَكۡبَرُۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ " أى هذه عقوبة الدنيا كما سمعتم وعذاب الآخرة أشق وأكبر من هذا العذاب بكثير ، فعذاب الدنيا يمر ويمكن تعويض ما فات فيه أما أن يكسب الانسان بعد الخسارة وكذلك  يرجع الى الله بالتوبة فأمامه فرصة للتعويض أما عذاب الآخرة فلا توبة ورجعة للدنيا فهو الخسران المبين الذى يلقى صاحبه فى جهنم خالدا فيها مخلدا فالدنيا دار عمل بلا حساب والآخرة دار حساب ولا ينفع فيها الا ما قدمه العبد لربه فى الدنيا وهذا ما لايعلمه الكثير من الناس وهم الكفار والمشركون الذين ينكرون البعث واليوم الآخر ويعلمه آخرون ويصدقون به ولكن تلهيهم الدنيا بمشاغلها ومتاعها فينصروفون اليها ولا يعملون لليوم الآخر كما هو الحال بالنسبة لكثير من المسلمين ولهذا استخدم لفظ " لويعلمون " فلو تفيد عدم التحقق التام للفعل وهى مشروطة .

إِنَّ لِلۡمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ ٣٤ أَفَنَجۡعَلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ كَٱلۡمُجۡرِمِينَ ٣٥ مَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ ٣٦ أَمۡ لَكُمۡ كِتَٰبٞ فِيهِ تَدۡرُسُونَ ٣٧ إِنَّ لَكُمۡ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ٣٨ أَمۡ لَكُمۡ أَيۡمَٰنٌ عَلَيۡنَا بَٰلِغَةٌ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ إِنَّ لَكُمۡ لَمَا تَحۡكُمُونَ ٣٩ سَلۡهُمۡ أَيُّهُم بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ ٤٠ أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَآءُ فَلۡيَأۡتُواْ بِشُرَكَآئِهِمۡ إِن كَانُواْ صَٰدِقِينَ ٤١

" إِنَّ لِلۡمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ " لما ذكر الله حال أهل الجنة الدنيوية وما أصابهم فيها من النقمة حين عصوا الله عز وجل وخالفوا أمره بين أن لمن اتقاه وأطاعه فى الدار الآخرة جنات النعيم التى لا تبيد ولا تفرغ ولا ينقضى نعيمها ، "  أَفَنَجۡعَلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ كَٱلۡمُجۡرِمِينَ " يقول الله عزوجل أفنساوى بين المسلمين وبين الكفار والمشركين الذين أجرموا فى حق الله فى الجزاء ؟ كلا ورب الأرض والسماء ، " مَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ " فكيف تظنون ذلك ؟ ، " أَمۡ لَكُمۡ كِتَٰبٞ فِيهِ تَدۡرُسُونَ * إِنَّ لَكُمۡ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ " يقول تعالى أفأيديكم كتاب منزل من السماء تدرسونه وتحفظونه وتتداولونه ينقل الى الخلف عن السلف متضمن حكما مؤكدا كما تدعونه ؟ ، " أَمۡ لَكُمۡ أَيۡمَٰنٌ عَلَيۡنَا بَٰلِغَةٌ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ " أى أمعكم عهود منا ومواثيق مؤكدة مستمرة الى يوم القيامة ؟،" إِنَّ لَكُمۡ لَمَا تَحۡكُمُونَ " تؤكد هذه العهود والمواثيق أنه سيحصل لكم ما تريدون وتشتهون ، " سَلۡهُمۡ أَيُّهُم بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ " يقول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين من هو المتضمن المتكفل بهذا الأمر من عهد لهم أنه سيحصل لهم ما يشتهونه ؟ قال ابن عباس أيهم بذلك كفيل أى ضامن تحقيق هذا ،" أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَآءُ " يقول الله عز وجل موبخا المشركين هل لهم شركاء من الأصنام والأنداد الذين يشركونهم فى  عبادتهم لله تضمن لهم ما يريدونه ، " فَلۡيَأۡتُواْ بِشُرَكَآئِهِمۡ إِن كَانُواْ صَٰدِقِينَ " لو كان لهم ذلك فليقدموا هؤلاء الشركاء ليدللوا على صدقهم فيما يدعونه .

يَوۡمَ يُكۡشَفُ عَن سَاقٖ وَيُدۡعَوۡنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلَا يَسۡتَطِيعُونَ ٤٢ خَٰشِعَةً أَبۡصَٰرُهُمۡ تَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّةٞۖ وَقَدۡ كَانُواْ يُدۡعَوۡنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ وَهُمۡ سَٰلِمُونَ ٤٣ فَذَرۡنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِۖ سَنَسۡتَدۡرِجُهُم مِّنۡ حَيۡثُ لَا يَعۡلَمُونَ ٤٤ وَأُمۡلِي لَهُمۡۚ إِنَّ كَيۡدِي مَتِينٌ ٤٥ أَمۡ تَسۡ‍َٔلُهُمۡ أَجۡرٗا فَهُم مِّن مَّغۡرَمٖ مُّثۡقَلُونَ ٤٦ أَمۡ عِندَهُمُ ٱلۡغَيۡبُ فَهُمۡ يَكۡتُبُونَ ٤٧

لما ذكر تعالى أن للمتقين عند ربهم جنات النعيم بين متى ذلك كائن وواقع فقال تعالى " يَوۡمَ يُكۡشَفُ عَن سَاق" قال ابن جرير عن أمر عظيم كقول الشاعر " شالت الحرب عن ساق " يعنى يوم القيامة وما يكون فيه من الأهوال والبلاء والامتحان والأمور العظام وقال مجاهد شدة الأمر وقال ابن عباس هى أشد ساعة تكون فى يوم القيامة وقال مجاهد شدة الأمر وجده وفى قول آخر عن ابن عباس هو الأمر الشديد الفظيع من الهول يوم القيامة حين يكشف الأمر وتبدو الأعمال ، " وَيُدۡعَوۡنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلَا يَسۡتَطِيعُونَ " فى هذا اليوم يكون الاختبار يدعى الجميع الى السجود كما كانوا يسجدون فى الدنيا فلا يستطيعون ذلك الأمر أى يكون هذا الأمر شاقا  فعن أبى سعيد الخدرى قال سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول " يكشف ربنا عن ساقه ( أى عن الأمر العظيم والكرب الشديد يوم القيامة من امتحان لعباده ومن أمور عظام ) فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد فى الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا " وهذا الحديث مخرج فى الصحيحين وفى غيرهما من طرق وله ألفاظ وهوحديث طويل مشهور وفى حديث آخر عن أبى بردة بن أبى موسى عن أبيه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال " يوم يكشف عن ساق يعنى عن نور عظيم يخرون له سجدا " ، " خَٰشِعَةً أَبۡصَٰرُهُمۡ تَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّة " يتحدث الله عن حال الكفار والمشركين يوم القيامة وما يصيبهم من خضوع لله من أفعالهم لا يستطيعون الابصار برفع رؤوسهم  عندما يتجلى للعباد سبحانه عز وجل ويصيبهم الذل الشديد ، " وَقَدۡ كَانُواْ يُدۡعَوۡنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ وَهُمۡ سَٰلِمُونَ " أى فى الدار الآخرة باجرامهم وتكبرهم فى الدنيا فعوقبوا بنقيض ما كانوا عليه ، ولما دعوا الى السجود فى الدنيا فامتنعوا منه مع صحتهم وسلامتهم كذلك عوقبوا بعدم قدرتهم عليه فى الآخرة اذا تجلى الرب عز وجل فيسجد له المؤمنون ولا يستطيع أحد من الكافرين ولا المنافقين أن يسجد بل يعود ظهر أحدهم طبقة واحدا كلما أراد أن يسجد خر لقفاه عكس السجود كما كانوا فى الدنيا بخلاف ما عليه المؤمنون ، " فَذَرۡنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ" الحديث هو القرآن الكريم وهذا تهديد شديد من الله عز وجل يقول لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم دعنى وهذا الكافر المشرك واياه منى ومنه أنا أعلم به كيف أستدرجه وأمده فى غيه وأنظره ثم آخذه أخذ عزيزمقتدر ولهذا قال تعالى " سَنَسۡتَدۡرِجُهُم مِّنۡ حَيۡثُ لَا يَعۡلَمُونَ " أى أن الله عزوجل سيمدهم فى غيهم وهم لا يشعرون بل يعتقدون أن ذلك من الله كرامة وهو فى نفس الأمر اهانة كما قال تعالى " أيحسبون أنما نمدهم بهمن مال وبنين نسارع لهم فى الخيرات بل لا يشعرون " وقال تعالى " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شىء حتى اذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فاذا هم مبلسون " ولهذا قال هنا " وَأُمۡلِي لَهُمۡۚ إِنَّ كَيۡدِي مَتِينٌ " أى وأؤخرهم وأنظرهم وأمدهم وذلك من كيدى ومكرى بهم وان تدبيرى عظيم لمن خالف أمرى وكذب رسلى واجترأ على معصيتى وفى الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ان الله تعالى ليملى للظالم حتى اذا أخذه لم يفلته ثم قرأ " وكذلك أخذ ربك اذا أخذ القرى وهى ظالمة ان أخذه أليم شديد " ، "  أَمۡ تَسۡ‍َٔلُهُمۡ أَجۡرٗا فَهُم مِّن مَّغۡرَمٖ مُّثۡقَلُونَ * أَمۡ عِندَهُمُ ٱلۡغَيۡبُ فَهُمۡ يَكۡتُبُونَ " تقدم تفسير الآيتين فى سورة الطور والمعنى فى ذلك أنك يا محمد تدعوهم الى الله عز وجل بلا أجر تأخذه منهم بل ترجو ثواب ذلك عند الله تعالى وهم يكذبون بما جئتم به بمجرد الجهل والكفر والعناد .

فَٱصۡبِرۡ لِحُكۡمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ ٱلۡحُوتِ إِذۡ نَادَىٰ وَهُوَ مَكۡظُومٞ ٤٨ لَّوۡلَآ أَن تَدَٰرَكَهُۥ نِعۡمَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ لَنُبِذَ بِٱلۡعَرَآءِ وَهُوَ مَذۡمُومٞ ٤٩ فَٱجۡتَبَٰهُ رَبُّهُۥ فَجَعَلَهُۥ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ٥٠ وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزۡلِقُونَكَ بِأَبۡصَٰرِهِمۡ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكۡرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُۥ لَمَجۡنُونٞ ٥١ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ ٥٢

" فَٱصۡبِرۡ لِحُكۡمِ رَبِّكَ " يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم اصبر على قومك وتكذيبهم لك فان الله سيحكم لك عليهم ويجعل العاقبة لك ولأتباعك فى الدنيا والآخرة ،" وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ ٱلۡحُوتِ " صاحب الحوت هو ذا النون يونس بن متى عليه السلام حين ذهب مغاضبا على قومه فكان من أمره ما كان من ركوبه البحر والتقام الحوت له وشرود الحوت به فى البحار وظلمات غمرات اليم وسماعه تسبيح البحر بما فيه للعلى القدير الذى لا يرد ما أنفذه من التقدير فحينئذ نادى فى الظلمات " أن لا اله الا أنت سبحانك انى كنت من الظالمين " فقال تعالى " فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجى المؤمنين " وقاتل تعالى " فلولا أنه كان من المسبحين * للبث فى بطنه الى يوم يبعثون " وقال هنا " إِذۡ نَادَىٰ وَهُوَ مَكۡظُوم" قال ابن عباس وغيره وهو مغموم وقال عطاء الخرسانى وأبو مالك مكروب ،"  لَّوۡلَآ أَن تَدَٰرَكَهُۥ نِعۡمَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ لَنُبِذَ بِٱلۡعَرَآءِ وَهُوَ مَذۡمُوم" تقدم فى الحديث أنه لما قال " لا اله الا أنت سبحانك انى كنت من الظالمين " خرجت الكلمة تحن حول العرش فقالت الملائكة يارب هذا صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة فقال الله تبارك وتعالى أما تعرفون هذا ؟ قالوا لا ، قال هذا يونس ، قالوا يارب عبدك الذى لا يزال له عمل صالح ودعوة مجابة قال نعم ، قالوا أفلا ترحم ما كان يعمله فى الرخاء فتنجيه من البلاء ، فأمر الله الحوت فألقاه بالعراء ولهذا قال تعالى ، " فَٱجۡتَبَٰهُ رَبُّهُۥ فَجَعَلَهُۥ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ " بعد هذا الابتلاء من الله اختاره الله ضمن عباده الصالحين وعن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ينبغى لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى " ، " وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزۡلِقُونَكَ بِأَبۡصَٰرِهِمۡ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكۡرَ " معنى "ليزلقونك " لينفذونك بأبصارهم أى يعينونك بأبصارهم بمعنى يحسدونك أو ينظرون اليه نظرة حسد لبغضهم اياك لولا وقاية الله لك وحمايته اياك منهم عندما سمع الكفار القرآن ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم حسدوه ونظروا اليه نظرة حسد اذ  كيف ينزل عليه هذا الذكر العظيم من دوننا ويستأثر بهذا الفضل وفى هذه الآية دليل على أن العين اصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة فعن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا رقية الا من عين أوحمة أودم لا يرقأ"   وعن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين يقول " أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة " وعن أبى سعيد الخدرى قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من أعين الجان وأعين الانس فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سوى ذلك " وعن أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ان العين حق " وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تسترقى من العين وعن جابر بن عبد الله عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أكثر من يموت من أمتى بعد كتاب الله وقضائه وقدره بالأنفس : قال البزار يعنى العين وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد تدخل الرجل العين فى القبر وتدخل الجمل القدر " وعن على رضى الله عنه أن جبريل أتى النبى صلى الله عليه وسلم فوافقه مغتما فقال يا محمد ما هذا الغم الذى أراه فى وجهك ؟ قال " الحسن والحسين أصابتهما عين " قال صدق بالعين فان العين حق أفلا عوذتهما بهؤلاء الكلمات ؟ قال "وما هن يا جبريل؟ قال : قل اللهم ذا السلطان العظيم والمن القديم ذا الوجه الكريم ولى الكلمات التامات والدعوات المستجابات عاف الحسن والحسين من أنفس الجن وأعين الانس فقالها النبى صلى الله عليه وسلم فقاما يلعبان بين يديه فقال النبى صلى الله عليه وسلم  "عوذوا أنفسكم ونساءكم وأولادكم بهذا التعويذ فانه لم يتعوذ المتعوذون بمثله "وَيَقُولُونَ إِنَّهُۥ لَمَجۡنُون" أى يزدرونه بأعينهم ويؤذونه بألسنتهم ويقولون انه لمجنون أى لمجيئه بالقرآن  ، "  وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ " يقول الله معقبا أن هذا القرآن ذكر للعالمين .

تفسير الجزء التاسع والعشرين

تفسير سورة الحاقة

سورة الحاقة سورة مكية ، عدد آياتها 52  آية ، والحاقة من أسماء يوم القيامة لأن فيها يتحقق الوعد والوعيد ، وهى تتحدث عن يوم القيامة وما  يحدث فيه من حساب ، وكسمة من سمات السور المكية تتحدث عما حدث للأمم السابقة من هلاك نتيجة تكذيبهم لرسل الله وهذا ليكون عبرة لكفار قريش ليعتبروا ويبعدوا عن شركهم وتكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

ٱلۡحَآقَّةُ ١ مَا ٱلۡحَآقَّةُ ٢ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡحَآقَّةُ ٣ كَذَّبَتۡ ثَمُودُ وَعَادُۢ بِٱلۡقَارِعَةِ ٤ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهۡلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ ٥ وَأَمَّا عَادٞ فَأُهۡلِكُواْ بِرِيحٖ صَرۡصَرٍ عَاتِيَةٖ ٦ سَخَّرَهَا عَلَيۡهِمۡ سَبۡعَ لَيَالٖ وَثَمَٰنِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومٗاۖ فَتَرَى ٱلۡقَوۡمَ فِيهَا صَرۡعَىٰ كَأَنَّهُمۡ أَعۡجَازُ نَخۡلٍ خَاوِيَةٖ ٧ فَهَلۡ تَرَىٰ لَهُم مِّنۢ بَاقِيَةٖ ٨ وَجَآءَ فِرۡعَوۡنُ وَمَن قَبۡلَهُۥ وَٱلۡمُؤۡتَفِكَٰتُ بِٱلۡخَاطِئَةِ ٩ فَعَصَوۡاْ رَسُولَ رَبِّهِمۡ فَأَخَذَهُمۡ أَخۡذَةٗ رَّابِيَةً ١٠ إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلۡمَآءُ حَمَلۡنَٰكُمۡ فِي ٱلۡجَارِيَةِ ١١ لِنَجۡعَلَهَا لَكُمۡ تَذۡكِرَةٗ وَتَعِيَهَآ أُذُنٞ وَٰعِيَةٞ ١٢

" ٱلۡحَآقَّةُ * مَا ٱلۡحَآقَّةُ * وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡحَآقَّةُ " تحدث الله عن يوم القيامة وكرر ذكره ليشدد على أهميته وما يحدث فيه من أهوال وكما قال تعالى " القارعة * ما القارعة * وما أدراك ما القارعة " والقارعة كذلك اسم من أسماء يوم القيامة فالأسلوب واحد يعظم هذا اليوم وما يحدث فيه من أمور وأهوال ،" كَذَّبَتۡ ثَمُودُ وَعَادُۢ بِٱلۡقَارِعَةِ " ذكر الله تعالى اهلاكه الأمم المكذبين بها فقال تعالى "  فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهۡلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ" تحدث الله عزوجل عن ما حدث لثمود من اهلاك بالطاغية وهى الصيحة التى أسكنتهم والزلزلة كذلك التى اسكتتهم الى الأبد وقال قتادة الطاغية الصيحة وقال مجاهد الطاغية الذنوب وقال الربيع بن أنس وابن زيد انها الطغيان وقرأ ابن زيد" كذبت ثمود بطغواها " وقال السدى فأهلكوا بالطاغية يعنى عاقر الناقة أى بسبب طغيان عاقر الناقة وفعلته ، " وَأَمَّا عَادٞ فَأُهۡلِكُواْ بِرِيحٖ صَرۡصَرٍ عَاتِيَة" ويتحدث الله تعالى عن اهلاك عاد بالريح الباردة شديدة البرودة العاتية شديدة الهبوب وقال قتادة عتت عليهم حتى نقبت عن أفئدتهم وقال الضحاك " صرصر " باردة " عاتية " عتت أى قست عليهم بغير رحمة ولا بركة ،"سَخَّرَهَا عَلَيۡهِمۡ سَبۡعَ لَيَالٖ وَثَمَٰنِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومٗا" سلطها الله عليهم سبع ليال كوامل وثمانية أيام متتابعات مشائيم معنى ذلك أن الريح  بدأت فى اليوم الأول من أوله و لم تتم اليوم الثامن أى لم تكمله حتى الليل وقال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما حسوما متتابعات وعن عكرمة مشائيم عليهم كقوله تعالى " فى أيام نحسات" ، " فَتَرَى ٱلۡقَوۡمَ فِيهَا صَرۡعَىٰ كَأَنَّهُمۡ أَعۡجَازُ نَخۡلٍ خَاوِيَة" هذه الريح صرعت هؤلاء القوم أى قتلتهم وقال ابن عباس " خاوية " خربة وقال غيره بالية أى جعلت الريح تضرب بأحدهم الأرض فيخر ميتا على أم راسه فينشدخ راسه وتبقى جثته هامدة كأنها قائمة النخلة اذا خرجت بلا أغصان وعن ابن عمر قال قثال رسول الله صلى اله عليه وسلم " ما فتح الله على عاد من الريح التى هلكوا بها الا مثل موضع الخاتم فمرت بأهل البادية فحملتهم ومواشيهم وأموالهم فجعلتهم بين السماء والأرض فلما رأى ذلك أهل الحاضرة من عاد الريح وما فيها قالوا هذا عارض ممطرنا فألقت البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة" ،  " فَهَلۡ تَرَىٰ لَهُم مِّنۢ بَاقِيَة" يقول عزوجل هل تحس منهم من أحد من بقاياهم أو ممن ينتسب اليهم بل بادوا عن آخرهم ولم يجعل الله لهم خلفا ،" وَجَآءَ فِرۡعَوۡنُ وَمَن قَبۡلَهُ وَٱلۡمُؤۡتَفِكَٰتُ بِٱلۡخَاطِئَةِ " يتحدث الله تعالى عن اهلاك فرعون وقرىء " ومن قبله " بكسر القاف أى ومن عنده ممن فى زمانه من أتباعه من الكفار وقرأ آخرون بفتحها أى ومن قبله من الأمم المشابهين له وقوله " والمؤتفكات " وهم الأمم المكذبون بالرسل من الافك وهوالكذب والمؤتفك والأفاك هو المكذب والمتبع الافك وهو الكذب ومتخذه منهجا له  " بالخاطئة " وهى التكذيب بما أنزل الله وقال الربيع بالمعصية وقال مجاهد بالخطايا ولهذا قال تعالى " فَعَصَوۡاْ رَسُولَ رَبِّهِمۡ " هذا جنس أى كل كذب رسول الله اليهم كما قال تعالى " كل كذب الرسل فحق وعيد" ومنكذب برسول فقد كذب بالجميع كما قال تعالى " كذبت قوم نوح المرسلين" وكقوله" كذبت عاد المرسلين " وكقوله "كذبت ثمود المرسلين " وانما جاء كل أمة رسول واحد ولهذا قال هنا " فعصوا رسول ربهم ،" فَأَخَذَهُمۡ أَخۡذَةٗ رَّابِيَةً" الرابية العظيمة الشديدة الأليمة وقال مجاهد رابية شديدة وقال السدى مهلكة يعنى أن الله تعالى عاقبهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر ،" إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلۡمَآءُ حَمَلۡنَٰكُمۡ فِي ٱلۡجَارِيَةِ"  أى عندما زاد عن الحد وارتفع على الوجود وقال ابن عباس كثر وذلك بسبب دعوة نوح عليه السلام على قومه حين كذبوه وخالفوه فعبدوا غير الله فاستجاب الله له وعم أهل الأرض بالطوفان الا من كان مع نوح عليه السلام فى السفينة ، فالناس كلهم من سلالة نوح وذريته والجارية هى السفينة الجارية على سطح الماء التى صنعها نوح عليه السلام ليحمل فيها قومه ومن اتبعه فأنقذه الله ومن معه وأهلك الذين كذبوه ، "  لِنَجۡعَلَهَا لَكُمۡ تَذۡكِرَة" قال قتادة : ابقى الله السفينة حتى أدركها أوائل الأمة أى لتكون عبرة وعظة تذكر بما حدث وفى قول آخر عاد الضمير على الجنس لدلالة المعنى عليه أى وأبقينا لكم من جنسها ما تركبون على تيار الماء فى البحار كما قال تعالى " وآية لهم أنا حملنا ذريتهم فى الفلك المشحون * وخلقنا لهم من مثله ما يركبون " والأول أظهر ولهذا قال تعالى " وَتَعِيَهَآ أُذُنٞ وَٰعِيَة " أى وتفهم هذه النعمة وتذكرها أذن واعية وقال ابن عباس حافظة سامعة وقال قتادة عقلت على الله فانتفعت بما سمعت من كتاب الله وقال الضحاك سمعتها أذن ووعت أى من له سمع صحيح ،وعقل رجيح وهذا عام فى كل فهم ووعى .

 فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفۡخَةٞ وَٰحِدَةٞ ١٣ وَحُمِلَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَٱلۡجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةٗ وَٰحِدَةٗ ١٤ فَيَوۡمَئِذٖ وَقَعَتِ ٱلۡوَاقِعَةُ ١٥ وَٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَهِيَ يَوۡمَئِذٖ وَاهِيَةٞ ١٦ وَٱلۡمَلَكُ عَلَىٰٓ أَرۡجَآئِهَاۚ وَيَحۡمِلُ عَرۡشَ رَبِّكَ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَئِذٖ ثَمَٰنِيَةٞ ١٧ يَوۡمَئِذٖ تُعۡرَضُونَ لَا تَخۡفَىٰ مِنكُمۡ خَافِيَةٞ ١٨

" فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفۡخَةٞ وَٰحِدَة" يخبر الله تعالى عن أهوال يوم القيامة وأول ذلك نفخة الفزع ثم يعقبها نفخة الصعق حين يصعق من فى السموات والأرض الا من شاء الله ثم بعدها نفخة القيام لرب العالمين والبعث والنشور وهى هذه النفخة أكدها هنا بأنها واحدة لأن أمر الله لا يخالف ولا يمانع ولا يحتاج الى تكرار ولا تأكيد وقال الربيع هى النفخة الأخيرة ولهذا قال هنا " وَحُمِلَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَٱلۡجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةٗ وَٰحِدَة" يتحدث الله عز وجل عن دك الأرض والجبال بحيث أنها تتدمر وتصبح الأرض ممدودة مسطحة وتبدل الأرض غير الأرض كقوله فى الواقعة " اذا رجت الأرض رجا * وبست الجبال بسا * فكانت هبآء منبثا " ويقول فى النبأ " وسيرت الجبال فكانت سرابا " ويقول فى سورة الانشقاق " واذا الأرض مدت " ويقول فى القارعة "وتكون الجبال كالعهن المنفوش " ، " فَيَوۡمَئِذٖ وَقَعَتِ ٱلۡوَاقِعَةُ " عند حدوث ذلك فقد قامت القيامة ، " وَٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَهِيَ يَوۡمَئِذٖ وَاهِيَة" ويتحدث الله أنه بعد أن تدك الأرض تنشق السماء وتفقد تماسكها الذى كانت عليه فتصبح ضعيفة غير متماسكة كقوله فى سورة النبأ " وفتحت السماء فكانت أبوابا " وفى سورة الانشقاق " اذا السماء انشقت " ، " وَٱلۡمَلَكُ عَلَىٰٓ أَرۡجَآئِهَا" الملك اسم جنس أى الملائكة على أرجاء السماء وقال الحسن البصرى أبوابها كما قال " وفتحت السماء فكانت أبوابا "،  "وَيَحۡمِلُ عَرۡشَ رَبِّكَ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَئِذٖ ثَمَٰنِيَة" أى يوم القيامة يتجلى الله للعباد ويحمل العرش ثمانية من الملائكة ويحتمل أن يكون المراد بهذا العرش العظيم أو العرش الذى يوضع يوم القيامة لفصل القضاء والله أعلم بالصواب وعنجابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أذن لى أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه الى عاتقه مسيرة سبعمائة عام " هذا لفظ أبى داود وعن سعيد بن جبير قال ثمانية صفوف من الملائكة ، " يَوۡمَئِذٖ تُعۡرَضُونَ لَا تَخۡفَىٰ مِنكُمۡ خَافِيَة " فى هذا اليوم وفى هذا التجلى من الله تعالى تعرضون على عالم السر والنجوى الذى لا يخفى عليه شىء من أموركم بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر وهذا هو العرض الأكبر وعن أبى موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير ، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف فى الأيدى فآخذ بيمينه وآخذ بشماله " أى حسب الحديث قبل نشر الصحف تكون العرضة الأولى والثانية التى يتجادل العباد ويطلبون أن يعذروا أو يقدمون الأعذار لما فعلوا وقدموا وهذا قبل أن تنشر صحفهم التى تحوى ما قدموا وما فعلوا والذى يحاسبون عليه وتقدر به مصائرهم أما الى الجنة واما الى النار .

فَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقۡرَءُواْ كِتَٰبِيَهۡ ١٩ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَٰقٍ حِسَابِيَهۡ ٢٠ فَهُوَ فِي عِيشَةٖ رَّاضِيَةٖ ٢١ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٖ ٢٢ قُطُوفُهَا دَانِيَةٞ ٢٣ كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ هَنِيٓ‍َٔۢا بِمَآ أَسۡلَفۡتُمۡ فِي ٱلۡأَيَّامِ ٱلۡخَالِيَةِ ٢٤

" فَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقۡرَءُواْ كِتَٰبِيَهۡ " قال عبد الرحمن بن زيد معنى " هاؤم اقرءوا كتابية " أى ها اقرءوا كتابية و"ؤم " زائدة والظاهر أنها بمعنى هاكم يخبر الله تعالى عن سعادة من يؤتى كتابه يوم القيامة بيمينه وفرحه بذلك وأنه من شدة فرحه يقول لكل من لقيه خذوا اقرءوا كتابيه لأنه يعلم أن الذى فيه خير وحسنات محضة لأنه ممن بدل الله سيئاته حسنات وفى الصحيح حديث ابن عمر حين سئل عن النجوى فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يدنى الله العبد يوم القيامة فيقرره بذنوبه كلها حتى اذا رأى أنه قد هلك قال الله تعالى انى سترتها عليك فى الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه ، وأما الكافر والمنافق فيقول " الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين " ،" إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَٰقٍ حِسَابِيَهۡ " أآ قد كنت موقنا فى الدنيا أن هذا اليوم كائن لا محالة كما قال تعالى " الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم " ، "  فَهُوَ فِي عِيشَةٖ رَّاضِيَة  " هذا الذى تلقى كتابه بيمينه تكون عيشته مرضية له ترضيه وتسره ، " فِي جَنَّةٍ عَالِيَة " يتحدث الله عز وجل عن هذه المعيشة تكون فى الجنة الرفيعة وقد ثبت فى الصحيح " ان الجنة مائةدرجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض" وعن أبى أمامة قال سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يتزاور أهل الجنة ؟ قال " نعم انه ليهبط أهل الدرجة العليا الى أهل الردجة السفلى فيحيونهم ويسلمون عليهم ولا يستطيع أهل الدرجة السفلى أن يصعدون الى الأعلين تقصر بهم أعمالهم " ، "  قُطُوفُهَا دَانِيَة" الدانية الثمار التى  تكون تحت الطلب تمتد اليها الأيدى دون عناء وحسب ما تشتهى الأنفس تجد وقال البراء بن عازب أى قريبة يتناولها أحدهم وهو نائم على سريره وعن سلمان الفارسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يدخل أحد الجنة الا بجواز : بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله لفلان بن فلان أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية "،" كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ هَنِيٓ‍َٔۢا بِمَآ أَسۡلَفۡتُمۡ فِي ٱلۡأَيَّامِ ٱلۡخَالِيَةِ " يقال لأهل الجنة تفضلا عليهم وامتنانا وانعاما واحسانا أن هنيأ لكم طعام وشراب الجنة هذا جزاء لكم لما قدمتموه فيما سلف فى الحياة الدنيا التى خلت وانتهت أيامها وكانت عمل بلا حساب وهذه تهنئة من الله لهم بالفوز بالجنة كما نهنىء من نجح مع الفارق فى الدنيا والآخرة ، فقد استلم من يدخل الجنة كتاب فوزه بها بيمينه وفاز بنعيمها وتكريمها من الله عز وجل وقد ثبت فى الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " اعملوا وسددوا وقاربوا واعلموا أن أحدا منكم لن يدخله عمله الجنة " قالوا : ولا أنت يا رسول الله قال " ولا أنا الا أن يتغمدنى الله برحمة منه وفضل " .

وَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِشِمَالِهِۦ فَيَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي لَمۡ أُوتَ كِتَٰبِيَهۡ ٢٥ وَلَمۡ أَدۡرِ مَا حِسَابِيَهۡ ٢٦ يَٰلَيۡتَهَا كَانَتِ ٱلۡقَاضِيَةَ ٢٧ مَآ أَغۡنَىٰ عَنِّي مَالِيَهۡۜ ٢٨ هَلَكَ عَنِّي سُلۡطَٰنِيَهۡ ٢٩ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ٣٠ ثُمَّ ٱلۡجَحِيمَ صَلُّوهُ ٣١ ثُمَّ فِي سِلۡسِلَةٖ ذَرۡعُهَا سَبۡعُونَ ذِرَاعٗا فَٱسۡلُكُوهُ ٣٢ إِنَّهُۥ كَانَ لَا يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ ٱلۡعَظِيمِ ٣٣ وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ ٣٤ فَلَيۡسَ لَهُ ٱلۡيَوۡمَ هَٰهُنَا حَمِيمٞ ٣٥ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنۡ غِسۡلِينٖ ٣٦ لَّا يَأۡكُلُهُۥٓ إِلَّا ٱلۡخَٰطِ‍ُٔونَ ٣٧

"وَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِشِمَالِهِ" يتحدث الله عزوجل عن حال الأشقياء اذا أعطى أحدهم كتابه فى العرصات بشماله فحينئذ يندم غاية الندم ،" فَيَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي لَمۡ أُوتَ كِتَٰبِيَهۡ "يندم أشد الندم ويتمنى أنه لم يتلقى هذا الكتاب الذى تلقاه بشماله لما يحويه من سىء المصير ويندم يوم لا ينفع الندم ويتحسر يوم لا تنفع الحسرة ،" وَلَمۡ أَدۡرِ مَا حِسَابِيَهۡ " ويتمنى كذلك أنه لم يحاسب ويعلم أى شىء عن هذا الحساب السىء لما قدمت يداه ، " يَٰلَيۡتَهَا كَانَتِ ٱلۡقَاضِيَةَ " قال قتادة تمنى الموت ولم يكن شىء فى الدنيا أكره اليه منه وقال الضحاك يعنى موتة لا حياة بعدها ، " مَآ أَغۡنَىٰ عَنِّي مَالِيَهۡۜ * هَلَكَ عَنِّي سُلۡطَٰنِيَهۡ " يتحدث من أوتى كتابه بشماله فى حسرة وندم فيقول لم يدفع عنى مالى ولا جاهى عذاب الله وبأسه بل خلص الأمر الى وحدى فلا معين لى ولا مجبر ولا جاه لى ولا سلطان فعندها يقول الله عز وجل " خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ ٱلۡجَحِيمَ صَلُّوهُ " يأمر الله عز وجل الزبانية أن تأخذ من تلقى كتابه بشماله عنفا من المحشر فتغله أى تضع الأغلال فى عنقه ثم تورده الى جهنم فتصليه اياها أى تغمره فيها ، " ثُمَّ فِي سِلۡسِلَةٖ ذَرۡعُهَا سَبۡعُونَ ذِرَاعٗا "  قال كعب الأحبار كل حلقة من السلسلة قدر حديد الدنيا والذرع هو الطول وليس الذراع كذراع الدنيا ففى الآخرة تتبدل المعايير والمقاييس قال ابن عباس بذراع الملك وهنا يقيس ضخامة الحجم وكذلك عندما يبعث الله البشر وعن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو أن رضاضة مثل هذه - وأشار الى جمجمة - أرسلت من السماء الى الأرض وهى مسيرة لخمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفا الليل والنهار قبل أن تبلغ قعرها أو أصلها " ، " فَٱسۡلُكُوهُ" قال ابن عبا تدخل فى استه ثم تخرجمن فيه ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد فى العود حين يشوى وفى قول آخر عن ابن عباس يسلك فى دبره حتى يخرج من منخريه حتى لا يقوم على رجليه ، "إِنَّهُۥ كَانَ لَا يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ ٱلۡعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ " يتحدث الله عز وجل عن من استحق أن يأخذ كتابه بشماله أنه لا يقوم بحق الله عليه من طاعته وعبادته ولا ينفع خلقه ويؤدى حقهم فحق الله هو الايمان به والعبادة له وحق العباد هو الاحسان اليهم ، فان لله على العباد أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا وللعباد بعضهم على بعض الاحسان والمعاونة على البر والتقوى ولهذا أمر الله باقام الصلاة وايتاء الزكاة وقبض النبى صلى الله عليه وسلم وهو يقول " الصلاة وما ملكت أيمانكم " ، " فَلَيۡسَ لَهُ ٱلۡيَوۡمَ هَٰهُنَا حَمِيم* وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنۡ غِسۡلِين" أى ليس له اليوم من ينقذه من عذاب الله تعالى لا حميم وهو القريب ولا شفيع يطاع ، ولا طعام له هنا الا من غسلين وقال قتادة هو شر طعام أهل النار وقال الربيع والضحاك هو شجرة فى جهنم وعن ابن عباس قال ما أدرى ما الغسلين ولكنى أظنه الزقوم وفى قول آخر عن ابن عباس قال الغسلين الدم والماء يسيل من لحومهم وقال على بن أبى طلحة عنه الغسلين صديد أهل النار ، " لَّا يَأۡكُلُهُۥٓ إِلَّا ٱلۡخَٰطِ‍ُٔونَ " هذا هو الذى يتناوله فى جهنم المذنبون العصاة الذين أخطأوا فى حق ربهم وأعرضوا عن اتباع الحق .

فَلَآ أُقۡسِمُ بِمَا تُبۡصِرُونَ ٣٨ وَمَا لَا تُبۡصِرُونَ ٣٩ إِنَّهُۥ لَقَوۡلُ رَسُولٖ كَرِيمٖ ٤٠ وَمَا هُوَ بِقَوۡلِ شَاعِرٖۚ قَلِيلٗا مَّا تُؤۡمِنُونَ ٤١ وَلَا بِقَوۡلِ كَاهِنٖۚ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ ٤٢ تَنزِيلٞ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٤٣

" فَلَآ أُقۡسِمُ بِمَا تُبۡصِرُونَ * وَمَا لَا تُبۡصِرُونَ " يقول تعالى مقسما لخلقه بما يشاهدونه من آياته فى مخلوقاته الدالة على كماله فى اسمائه وصفاته وما غاب عنهم مما لا يشاهدونه من المغيبات عنهم وهذه آية من اعجاز القرآن فهناك الكثيرمن خلق الله الذى لا يشاهده البشر من الظواهر والمخلوقات ومنه ما يحس ومنه ما لا يحس وفى عصر العلم كشف لنا العلم الكثير من ذلك بما يعجز عنه الوصف ويحتاج الى مؤلفات والمخفى أكثر اعجازا من المشاهد وما خفى أعظم مما يبصر من حولنا فكيف للعرب وهم أمة أمية أن تعلم ذلك وتعلم ما لهذا القسم من اعجاز يفضى الا الاذعان للخالق وقدرته والايمان به ،" إِنَّهُۥ لَقَوۡلُ رَسُولٖ كَرِيم" هذا جواب القسم بعد ذكر المقسم به بأن القرآن هو كلامه عز وجل ووحيه وتنزيله على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم الذى اصطفاه لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة أضافه اليه على معنى التبليغ لأن الرسول من شأنه أن يبلغ عن المرسل ولهذا أضافه فى سورة التكوير الى الرسول الملكى " انه لقول رسول كريم * ذى قوة عند ذى العرش مكين * مطاع ثم أمين " وهذا جبريل عليه السلام ، ثم قال تعالى  "وما صاحبكم بمجنون " يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم " ولقد رآه بالأفق المبين " يعنى أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على صورته التى خلقه الله عليها " وما هو على الغيب بضنين " ألا بمتهم " وما هو بقول شيطان رجيم " وهكذا قال هنا " وَمَا هُوَ بِقَوۡلِ شَاعِرٖۚ قَلِيلٗا مَّا تُؤۡمِنُونَ " هذا القرآن ليس بقول شاعر حيث أن المشركين اتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن بأنه شاعر أتى بشعر ولم يؤمنوا به ، " وَلَا بِقَوۡلِ كَاهِنٖۚ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ " وليس هذا القرآن بقول كاهن وهم لا يفهمون ولا يذكرون ذلك  فأضاف الله هذا التزيل من عنده تارة الى قول الرسول الملكى وتارة الى الرسول البشرى لأن كلا منهما مبلغ من الله على ما استأمنه عليه من وحيه وكلامه ولهذا قال تعالى " تَنزِيلٞ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ " هذا القرآن هو تنزيل من الله عز وجل رب العالمين ، وقال عمر بن الخطاب يحكى عن اسلامه : خرجت أتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن اسلم فوجدته قد سبقنى الى المسجد فقمت خلفه فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن فقلت والله شاعر كما قالت قريش ، فقرأ " إِنَّهُۥ لَقَوۡلُ رَسُولٖ كَرِيم * وَمَا هُوَ بِقَوۡلِ شَاعِرٖۚ قَلِيلٗا مَّا تُؤۡمِنُونَ " فقلت كاهن فقرأ "وَلَا بِقَوۡلِ كَاهِنٖۚ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٞ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ * وَلَوۡ تَقَوَّلَ عَلَيۡنَا بَعۡضَ ٱلۡأَقَاوِيلِ *  لَأَخَذۡنَا مِنۡهُ بِٱلۡيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعۡنَا مِنۡهُ ٱلۡوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنۡ أَحَدٍ عَنۡهُ حَٰجِزِينَ " الى آخر الورة فوقع الاسلام فى قلبى كل موقع " فهذا من جملة الأسباب التى جعلها الله تعالى مؤثرة فى هداية عمر بن الخطاب رضى الله عنه .

وَلَوۡ تَقَوَّلَ عَلَيۡنَا بَعۡضَ ٱلۡأَقَاوِيلِ ٤٤ لَأَخَذۡنَا مِنۡهُ بِٱلۡيَمِينِ ٤٥ ثُمَّ لَقَطَعۡنَا مِنۡهُ ٱلۡوَتِينَ ٤٦ فَمَا مِنكُم مِّنۡ أَحَدٍ عَنۡهُ حَٰجِزِينَ ٤٧ وَإِنَّهُۥ لَتَذۡكِرَةٞ لِّلۡمُتَّقِينَ ٤٨ وَإِنَّا لَنَعۡلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ ٤٩ وَإِنَّهُۥ لَحَسۡرَةٌ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ ٥٠ وَإِنَّهُۥ لَحَقُّ ٱلۡيَقِينِ ٥١ فَسَبِّحۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلۡعَظِيمِ ٥٢

 " وَلَوۡ تَقَوَّلَ عَلَيۡنَا بَعۡضَ ٱلۡأَقَاوِيلِ " يقول تعالى لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كما يزعمون مفتريا علينا فزاد فى الرسالة أو نقص منها أو قال شيئا من عنده فنسبه الينا لعاجلناه بالعقوبة ولهذا قال تعالى   " لَأَخَذۡنَا مِنۡهُ بِٱلۡيَمِينِ " قيل معناه انتقمنا منه باليمين لأنها أشد بطشا وقيل لأخذنا منه بيمينه أى لأنزل الله به بطشه الشديد وعقابه الأليم ، " ثُمَّ لَقَطَعۡنَا مِنۡهُ ٱلۡوَتِينَ " قال ابن عباس عن الوتين هونياط القلب وهو العرق الذى القلب معلق فيه أى الشريان الأورطى الذى يغذى القلب بالدم اذا قطع مات الشخص يعنى أن الله لو كان يفترى عليه بالقول لأنهى حياته بهذه الطريقة ، " فَمَا مِنكُم مِّنۡ أَحَدٍ عَنۡهُ حَٰجِزِينَ " أى فما يقدر أحد منكم على أن يحجز بيننا وبينه اذا أردنا به شيئا من ذلك  والمعنى فى هذا بل هو صادق بار راشد لأن الله عز وجل مقرر له ما يبلغه عنه ومؤيد له بالمعجزات الباهرات والدلالات القاطعات ثم قال تعالى " وَإِنَّهُۥ لَتَذۡكِرَةٞ لِّلۡمُتَّقِينَ " يتحدث الله عز وجل عن القرآن أنه تذكرة للمتقين كما قال تعالى " قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون فى آذانهم وقر وهو عليهم عمى " ثم قال تعالى " وَإِنَّا لَنَعۡلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ " أى مع هذا البيان والوضوح سيوجد منكم من يكذب بالقرآن ، " وَإِنَّهُۥ لَحَسۡرَةٌ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ " قال ابن جرير وان التكذيب لحسرة على الكافرين يوم القيامة وعن أبى مالك يقول لندامة ويحتمل عود الضمير على القرآن أى وان القرآن والايمان به لحسرة فى نفس الأمر على الكافرين كما قال تعالى" كذلك سلكناه فى قلوب المجرمين لا يؤمنون به " وقال تعالى " وحيل بينهم وبين ما يشتهون " ولهذا قال هنا   " وَإِنَّهُۥ لَحَقُّ ٱلۡيَقِينِ " أن هذا القرآن هو الخبر الصادق الحق الذى لا مرية فيه ولا شك ولا ريب ، "فَسَبِّحۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلۡعَظِيمِ " أى نزه الله من من كل ما لا يليق به من صفات الذى أنزل هذا القرآن العظيم .

تفسير الجزء االتاسع والعشرين

تفسير سورة المعارج

سورة المعارج مكية ،عدد آياتها 44 آية ، فيها سمات السور المكية من التحدث عن يوم القيامة وما يحدث فيه من هول ، وعن تكذيب المشركين به واستبعاد وقوعه وتهديد الله ووعيده لهم بما سيحل بهم فى هذا اليوم .

سَأَلَ سَآئِلُۢ بِعَذَابٖ وَاقِعٖ ١ لِّلۡكَٰفِرِينَ لَيۡسَ لَهُۥ دَافِعٞ ٢ مِّنَ ٱللَّهِ ذِي ٱلۡمَعَارِجِ ٣ تَعۡرُجُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيۡهِ فِي يَوۡمٖ كَانَ مِقۡدَارُهُۥ خَمۡسِينَ أَلۡفَ سَنَةٖ ٤ فَٱصۡبِرۡ صَبۡرٗا جَمِيلًا ٥ إِنَّهُمۡ يَرَوۡنَهُۥ بَعِيدٗا ٦ وَنَرَىٰهُ قَرِيبٗا ٧

" سَأَلَ سَآئِلُۢ بِعَذَابٖ وَاقِع" أى واقع للكافرين مرصد معد لهم ولا دافع له اذا أراد الله كونه  يتحدث الله عز وجل عن استعجال الكفار من مشركى مكة وقوع يوم القيامة انكارا لوقوعه للتدليل على أنه سيقع وهم يقولون ذلك استخفافا واستهزاءا وأكد الله عزوجل وقوع هذا اليوم وتحققه وتحقق ما سيلحق فيه بالمكذبين له من المشركين كقوله تعالى " وستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده " أى وعذابه واقع لا محالة وقال ابن عباس ذلك سؤال الكفار عن عذاب الله وهو واقع بهم وقال مجاهد دعا داع بعذاب واقع يقع فى الآخرة وهو قولهم " اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " ، "  لِّلۡكَٰفِرِينَ لَيۡسَ لَهُۥ دَافِع* مِّنَ ٱللَّهِ ذِي ٱلۡمَعَارِجِ " هذا اليوم معد للكافرين ولا دافع له اذا أراد الله كونه من الله وقال مجاهد ذى المعارج معرج السماء ، " تَعۡرُجُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيۡهِ " قال تقادة تعرج تصعد اليه الملائكة والروح المحتمل أن يكون المراد به جبريل ويكون من باب عطف الخاص على العام ويحتمل أن يكون اسم جنس لأرواح بنى آدم فانها اذا قبضت يصعد بها الى السماء كما دل عليه حديث البراء مرفوعا والحديث بطوله فى قبض الروح الطيبة قال فيه " فلا يزال يصعد بها من سماء الى سماء حتى ينتهى بها الى السماء السابعة "  ، " فِي يَوۡمٖ كَانَ مِقۡدَارُهُۥ خَمۡسِينَ أَلۡفَ سَنَة" فيه أربعة أقوال أحدهما أن المراد بذلك مسافة ما بين العرش العظيم الى أسفل سافلين وهو قرار الأرض السابعة وذلك مسيرة خمسين ألف سنة قال ابن عباس منتهى أمره من أسفل الأرضين الى منتهى أمره فوق السموات خمسين ألف سنة ، والقول الثانى أن المراد بذلك مدة بقاء الدنيا منذ خلق الله هذا العالم الى قيام الساعة فعن عكرمة قال الدنيا أولها الى آخرها مقدار خمسين ألف سنة لا يدرى أحد كم مضى ولا كم بقى الا الله عزوجل ، والقول الثالت أنه اليوم الفاصل بين الدنيا والآخرة وهو قول غريب جدا قال محمد  بن كعب هو يوم الفصل بين الدنيا والآخرة ، والقول الرابع أن المراد بذلك يوم القيامة فعن ابن عباس قال يوم القيامة جعله الله تعالى على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة وقد وردت أحاديث فى ذلك فعن أبى سعيد قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم " فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " ما أطول هذا اليوم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذى نفسى بيده انه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها فى الدنيا " وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من صاحب كنز لا يؤدى حقه الا جعل صفائح يحمى عليه فى نار جهنم فتكوى بها جبهته وجنبه وظهره حتى يحكم الله بين عباده فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله اما الى الجنة واما الى النار "  ، "فَٱصۡبِرۡ صَبۡرٗا جَمِيلًا " يقول عز وجل لرسول محمد صلى الله عليه وسلم اصبر على تكذيب قومك لك واستعجالهم العذاب استبعادا لوقوعه كقوله " يستعجل بها الذين لا يؤمنون  بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق " ولهذا قال "  إِنَّهُمۡ يَرَوۡنَهُۥ بَعِيدٗا " أى وقوع العذاب وقيام الساعة يراه الكفار بعيد الوقوع بمعنى مستحيل الوقوع ،" وَنَرَىٰهُ قَرِيبٗا " أى المؤمنون يعتقدون كونه قريبا وان كان له أمد لا يعلمه الا الله عز وجل ، لكن كل ما هو آت فهو قريب وواقع لا محالة .

يَوۡمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلۡمُهۡلِ ٨ وَتَكُونُ ٱلۡجِبَالُ كَٱلۡعِهۡنِ ٩ وَلَا يَسۡ‍َٔلُ حَمِيمٌ حَمِيمٗا ١٠ يُبَصَّرُونَهُمۡۚ يَوَدُّ ٱلۡمُجۡرِمُ لَوۡ يَفۡتَدِي مِنۡ عَذَابِ يَوۡمِئِذِۢ بِبَنِيهِ ١١ وَصَٰحِبَتِهِۦ وَأَخِيهِ ١٢ وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِي تُ‍ٔۡوِيهِ ١٣ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ يُنجِيهِ ١٤ كَلَّآۖ إِنَّهَا لَظَىٰ ١٥ نَزَّاعَةٗ لِّلشَّوَىٰ ١٦ تَدۡعُواْ مَنۡ أَدۡبَرَ وَتَوَلَّىٰ ١٧ وَجَمَعَ فَأَوۡعَىٰٓ ١٨ ۞

يقول تعالى العذاب واقع بالكافرين " يَوۡمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلۡمُهۡلِ " يتحدث الله عزوجل عن ما سوف يحدث للسماء يوم القيامة فقال ابن عباس وغيره تكون السماء كدردى الزيت ،"  وَتَكُونُ ٱلۡجِبَالُ كَٱلۡعِهۡنِ " تكون الجبل مفتتة منهارة كالصوف المنفوش وهذا كقوله " وتكون الجبال كالعهن المنفوش " ، " وَلَا يَسۡ‍َٔلُ حَمِيمٌ حَمِيمٗا " أى لا يسأل القريب قريبه عن حاله وهو يراه فى أسوأ الأحوال فتشغله نفسه عن غيره وقال ابن عباس يعرف بعضهم بعضا ويتعارفون بينهم ثم يفر بعضهم من بعض بعد ذلك يقول تعالى " لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه " وهذا كقوله" يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هوجاز عن والده شيئا ان وعد الله حق " وكقوله تعالى " وان تدع مثقلة الى حملها لا يحمل منه شىء ولو كان ذا قربى " وكقوله تعالى " فاذا نفخ فى الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " وكقوله تعالى " يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه " ، "  يُبَصَّرُونَهُمۡ" يبصر من البصيرة وهى الادراك أى يدركون ما حدث لهم وهم يشاهدون أهوال يوم القيامة ، " يَوَدُّ ٱلۡمُجۡرِمُ لَوۡ يَفۡتَدِي مِنۡ عَذَابِ يَوۡمِئِذِۢ بِبَنِيهِ * وَصَٰحِبَتِهِۦ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِي تُ‍ٔۡوِيهِ * وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ يُنجِيهِ " فى هذا الهول يتمنى الكافر والمشرك أن يفتدى من عذاب الله بولده الذى كان فى الدنيا حشاشة كبده ومن حوله من هم فى صحبته من زوجة وأصحاب وخلان وبأخوته وفصيلته أى عشيرته وقبيلته وقال أشهب فصيلته أمه ويود أن يفتدى بكل أهل الأرض جميعا ولكن لايقبل منه فداء ولو جاء بكل ما هو عزيز لديه من  أهل الأرض وبأعز ما يجده من المال ولو بملء الأرض ذهبا ،" كَلَّآ" يستبعد الله تعالى قبول ذلك من الكافر بالرفض بكلمة " كلا " ، " إِنَّهَا لَظَىٰ * نَزَّاعَةٗ لِّلشَّوَىٰ " يتحدث الله عز وجل عن النار التى يلقى فيها الكفار يصفها بأنها شديد ة الحرارة مستعرة من شدة حرها تنزع الجلود والهام كما قال ابن عباس وقال مجاهد ما دون العظم من اللحم وقال الحسن البصرى مكارم وجهه وقال قتادة نزاعة لهامته ومكارم وجهه وخلقه وأطرافه وقال الضحاك تبرى اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئا وقال ابن زيد نزاعة تقطع عظامهم ثم تبدل جلودهم وخلقهم ، "  تَدۡعُواْ مَنۡ أَدۡبَرَ وَتَوَلَّىٰ "تدعو النار اليها أبناءها الذين خلقهم الله لها وقدر لهم أنهم فى الدار الدنيا يعملون عملها فتدعوهم يوم القيامة بلسان طلق ذلق ثم تلتقطهم من بين أهل المحشر كما يلتقط الطير الحب وذلك أنهم كما قال الله تعالى كانوا ممن أدبر وتولى أى كذب بقلبه وترك العمل بجوارحه ،" وَجَمَعَ فَأَوۡعَىٰٓ"أى جمع المال بعضه على بعض فأوعاه أى أوكاه ومنع حق الله منه من الواجب عليه فى النفقات ومن اخراج الزكاة ، وقد ورد فى الحديث " ولا توعى فيوعى الله عليك " وقال قتادة فى قوله وجمع فأوعى كان جموعا نموما " أى يجمع المال ويحبسه وينم به ان أعطى منه وقال الحسن البصرى يا ابن آدم سمعت وعيد الله ثم أوعيت الدنيا .

إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا ١٩ إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعٗا ٢٠ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلۡخَيۡرُ مَنُوعًا ٢١ إِلَّا ٱلۡمُصَلِّينَ ٢٢ ٱلَّذِينَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ دَآئِمُونَ ٢٣ وَٱلَّذِينَ فِيٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ حَقّٞ مَّعۡلُومٞ ٢٤ لِّلسَّآئِلِ وَٱلۡمَحۡرُومِ ٢٥ وَٱلَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوۡمِ ٱلدِّينِ ٢٦ وَٱلَّذِينَ هُم مِّنۡ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشۡفِقُونَ ٢٧ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمۡ غَيۡرُ مَأۡمُونٖ ٢٨ وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ ٢٩ إِلَّا عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَيۡرُ مَلُومِينَ ٣٠ فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ ٣١ وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِأَمَٰنَٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَٰعُونَ ٣٢ وَٱلَّذِينَ هُم بِشَهَٰدَٰتِهِمۡ قَآئِمُونَ ٣٣ وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ يُحَافِظُونَ ٣٤ أُوْلَٰٓئِكَ فِي جَنَّٰتٖ مُّكۡرَمُونَ ٣٥

يقول تعالى مخبرا عن الانسان وما هو مجبول عليه من الأخلاق الدنيئة " إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا " الهلع هو الخوف الشديد يتحدث عز وجل عن الانسان ككل وما تميل له خلقته من خوف شديد مما حوله فهو يخاف من الفقر ويخاف أن يمسه ما ينقص شيئا مما بين يديه وليس المقصود بالهلع هنا الذعر اذا حدث ما يدعو الى الخوف من خطر مثل أن يهاجمك حيوان مفترس أو يحدث كارثة فهذا هلع طبيعى لا شىء فيه ويفسر الله عز وجل هذا الهلع بقوله " إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعٗا " أى اذا أصابه الضر كما يراه لم يصبر بل فزع وجزع وانخلع قلبه من شدة الرعب وأيس أن يحصل له بعد ذلك خير ، " وَإِذَا مَسَّهُ ٱلۡخَيۡرُ مَنُوعًا " أى اذا حصلت له نعمة من الله بخل بها على غيره ومنع حق الله تعالى فيها وعن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " شر ما فى رجل شح هالع وجبن خالع " ، " إِلَّا ٱلۡمُصَلِّينَ " يستثنى الله عز وجل من هذه الصفات التى تصيب الانسان صفات الذم من عصمه الله ووفقه وهداه الى الخير ويسر له أسبابه وهم المصلون ، " ٱلَّذِينَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ دَآئِمُونَ " قيل معناه يحافظون على أوقاتها وواجباتها كما قال ابن مسعود وقيل المراد بالدوام هنا السكون والخشوع كقوله تعالى " قد أفلح المؤمنون الذين هم فى صلاتهم خاشعون " وهذا يدل على وجوب الطمأنينة فى الصلاة فان الذى لا يطمئن فى ركوعه وسجوده ليس بدائم على صلاته لأنه لم يسكن فيها ولم يدم بل ينقرها نقر الغراب فلا يفلح فى صلاته ، وقيل المرادبذلك الذين اذا عملوا عملا داوموا عليه وأثبتوه كما جاء فى الصحيح عن عائشة رضى الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " أحب الأعمال الى الله أدومها وان قل ، وفى لفظ - ما داوم عليه صاحبه قالت - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا عمل عملا داوم عليه ، وفى لفظ أثبته ، " وَٱلَّذِينَ فِيٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ حَقّٞ مَّعۡلُوم* لِّلسَّآئِلِ وَٱلۡمَحۡرُومِ " ومن صفات الذين استثناهم الله عز وجل الذين فى أموالهم نصيب مقرر قد أفرزوه للسائل والمحروم ، أما السائل فمعروف وهو الذى يبتدىء بالسؤال وله حق وعن الحسين بن على رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " للسائل حق وانجاء على فرس" وأما المحروم كما قال ابن عباس رضى الله عنهما ومجاهد هو المحارف الذى ليس له فى الاسلام سهم يعنى لا سهم له فى بيت المال ولا كسب له ولا حرفة يتقوت منها وقالت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها هو المحارف الذى لا يكاد يتيسر له مكسبه وقال ابن جرير أن المحروم الذى لا مال له بأى سبب كان وقد ذهب ماله سواء كان لا يقدر على الكسب أو قد هلك ماله أو نحوه بآفة أو نحوها ، "  وَٱلَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوۡمِ ٱلدِّينِ " أى الذين يوقنون بالمعاد والحساب والجزاء فهم يعملون عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب ولهذا قال تعالى " وَٱلَّذِينَ هُم مِّنۡ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشۡفِقُونَ " مشفقون أى خائفون وجلون من عذاب الله ربهم ، " إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمۡ غَيۡرُ مَأۡمُون" وهذا العذاب من الله عز وجل لا يأمنه أحد ممن عقل عن الله أمره الا بأمان من الله تبارك وتعالى ، " وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ " والذين يبتعدون عن الزنا ويكفون فروجهم عن الحرام ويمنعونها أن توضع فى غير ما أذن الله فيه ولهذا قال تعالى " إِلَّا عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَيۡرُ مَلُومِينَ " فهم لا يرتكبون الزنا ويحصنون فروجهم ولا يستخدمونها الا فيما أحل الله لهم من أزواجهم ومن الاماء فليس عليهم لوم فى ذلك أى هم بعيدون عن الحرام ، " فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ " فمن تعدى هذه الحدود من التحريم وتجاوزها الى ما حرم الله عز وجل فقد دخل فى العصاة وارتكب كبيرة الزنا  وقد تقدم تفسير هذا فى أول سورة المؤمنون ،" وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِأَمَٰنَٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَٰعُونَ " أى الذين اذا اؤتمنوا لم يخونوا ، واذا عاهدوا لم يغدروا وهذه صفات المؤمنين وضدها صفات المنافقين كما ورد فى الحديث الصحيح " آية المنافق ثلاث اذا حدث كذب ، واذا وعد أخلف ، واذا اؤتمن خان " وفى رواية " اذا حدث كذب ، واذا عاهد غدر ، واذا خاصم فجر " ، "  وَٱلَّذِينَ هُم بِشَهَٰدَٰتِهِمۡ قَآئِمُونَ " أى الذين هم محافظون على الشهادة لا يزيدون فيها ولا ينقصون منها ولا يكتمونها فهم يؤدونها حق الأداء قوامون عليها ، " وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ يُحَافِظُونَ " ومن صفاتهم ألحفاظ على الصلاة على مواقيتها وأركانها وواجباتها ومستحباتها فافتتح الكلام بذكر الصلاة واختتمه بذكرها فدل على الاعتناء بها والتنويه بشرفها كما تقدم فى سورة المؤمنون ،"  أُوْلَٰٓئِكَ فِي جَنَّٰتٖ مُّكۡرَمُونَ " هؤلاء مكرمون فى الجنة بأنواع الملاذ والمسار ففيها ما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .

فَمَالِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهۡطِعِينَ ٣٦ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ ٣٧ أَيَطۡمَعُ كُلُّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُمۡ أَن يُدۡخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٖ ٣٨ كَلَّآۖ إِنَّا خَلَقۡنَٰهُم مِّمَّا يَعۡلَمُونَ ٣٩ فَلَآ أُقۡسِمُ بِرَبِّ ٱلۡمَشَٰرِقِ وَٱلۡمَغَٰرِبِ إِنَّا لَقَٰدِرُونَ ٤٠ عَلَىٰٓ أَن نُّبَدِّلَ خَيۡرٗا مِّنۡهُمۡ وَمَا نَحۡنُ بِمَسۡبُوقِينَ ٤١ فَذَرۡهُمۡ يَخُوضُواْ وَيَلۡعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَٰقُواْ يَوۡمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ ٤٢ يَوۡمَ يَخۡرُجُونَ مِنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ سِرَاعٗا كَأَنَّهُمۡ إِلَىٰ نُصُبٖ يُوفِضُونَ ٤٣ خَٰشِعَةً أَبۡصَٰرُهُمۡ تَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّةٞۚ ذَٰلِكَ ٱلۡيَوۡمُ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ ٤٤

يقول تعالى منكرا على الكفار الذين كانوا فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم وهم مشاهدون له ولما أرسله الله به من الهدى وما أيده الله به من المعجزات الباهرات ، ثم هم مع هذا كله فارون منه متفرقون عنه ، شاردون يمينا وشمالا فرقا فرقا ،وشيعا شيعا " فَمَالِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهۡطِعِينَ " مهطعين أى مسرعين نافرين منك أى فما لهؤلاء الكفار الذين عندك يا محمد مهطعين أى مسرعين نافرين منك وكما قال الحسن البصرى مهطعين أى منطلقين  كما قال تعالى " فما لهم من التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة " ،" عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ " واحدها عزة أى متفرقين وهو حال مهطعين أى فى حال تفرقهم واختلافهم وعن الحسن قال أى متفرقين يأخذون يمينا وشمالا يقولون ما قال هذا الرجل وقال قتادة " مهطعين " عامدين " عن اليمين وعن الشمال عزين " أى فرقا حول النبى صلى الله عليه وسلم لا يرغبون فى كتاب الله ولا فى نبيه وقال العوفى عن ابن عباس " فما للذين كفروا قبلك مهطعين " قال قبلك ينظرون " عن اليمين وعن الشمال عزين " قال العزين العصب من الناس عن يمين وشمال معرضين يستهزئون به ،" أَيَطۡمَعُ كُلُّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُمۡ أَن يُدۡخَلَ جَنَّةَ نَعِيم كَلَّا"  أى أيطمع هؤلاء والحالة هذه من فرارهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ونفارهم عن الحق أن يدخلوا جنات النعيم ، كلا بل مأواهم جهنم ، قال تعالى مقررا لوقوع يوم المعاد والعذاب بهم الذى أنكروا كونه واستبعدوا وجوده مستدلا عليهم بالبداءة التى الاعادة أهون منها وهم معترفون بها "  إِنَّا خَلَقۡنَٰهُم مِّمَّا يَعۡلَمُونَ " فتحدث تعالى عن خلقهم من المنى الضعيف فهو الذى بيده الخلق والبعث كما قال تعالى " ألم نخلقكم من ماء مهين " وكما قال تعالى " فلينظر الانسان مم خلق * خلق من ماء دافق * يخرج من الصلب والترائب * انه على رجعه لقادر * يوم تبلى السرائر * فما له من قوة ولا ناصر " ، " فَلَآ أُقۡسِمُ " أتى الله عز وجل بلا فى ابتداء القسم ليدل على أن المقسم عليه نفى وهو مضمون الكلام وهو الرد على زعم الكافرين الفاسد فى نفى يوم القيامة  "بِرَبِّ ٱلۡمَشَٰرِقِ وَٱلۡمَغَٰرِبِ " يقسم الله بذاته وهو رب المشارق والمغارب وهى فى صيغة الجمع من شروق وغروب فهو الذى خلق السموات والأرض وجعل مشرقا ومغربا وسخر الكواكب تبدو من مشارقها وتغيب من مغاربها فعلى سبيل المثال الشمس فى حركة كوكب الأرض حولها وكذلك كواكب المجموعة الشمسية التى تدور حول الشمس فى فلك من المشرق الى المغرب ففى حركتها تناسق بحيث لا تصطدم ببعضها فى حركة دقيقة تبرز عظمة الله الخالق وقدرته على كل شىء فى الكون ، " إِنَّا لَقَٰدِرُونَ عَلَىٰٓ أَن نُّبَدِّلَ خَيۡرٗا مِّنۡهُمۡ" هذا جواب القسم أنه تعالى قادر على أن يعيدهم يوم القيامة بأبدان خير من هذه وقال ابن جرير أى أمة تطيعنا ولا تعصينا كقوله تعالى " وان تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم " والمعنى الأول أظهر لدلالة الآيت الأخر عليه  ، " وَمَا نَحۡنُ بِمَسۡبُوقِينَ "أى بعاجزين كما قال تعالى " أيحسب الانسان أن لن نجمع عظامه * بلى قادرين على أن نسوى بنانه " وكما قال تعالى " نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون " ، " فَذَرۡهُمۡ يَخُوضُواْ وَيَلۡعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَٰقُواْ يَوۡمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ "يقول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم فذرهم أى دعهم فى تكذيبهم وكفرهم وعنادهم وتلهيهم بالدنيا عن الآخرة فسيعلمون غب ذلك ويذوقون وباله يوم القيامة وعد الله الحق ،" يَوۡمَ يَخۡرُجُونَ مِنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ سِرَاعٗا كَأَنَّهُمۡ إِلَىٰ نُصُبٖ يُوفِضُونَ " أى يقومون من القبور اذا دعاهم الرب تبارك وتعالى لموقف الحساب ينهضون سراعا وقرأ الحسن البصرى " نصب " بضم النون والصاد وهو الصنم أى كأنهم فى اسراعهم الى الموقف يوم القيامة كما كانوا فى الدنيا يهرعون الى النصب اذا عاينوه يوفضون يبتدرون أيهم يستلمه أولا وقال أبو العالية ويحيى بن أبى كثير الى غاية يسعون اليها ،" خَٰشِعَةً أَبۡصَٰرُهُمۡ" يتحدث الله تعالى عن حال الكفار حين يبعثون تكون أبصارهم خاضعة له ذليلة مذعنة ، "تَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّة" تصيبهم الذلة باعياء شديد وارهاق فى مقابلة ما استكبروا فى الدنيا عن الطاعة ، " ذَٰلِكَ ٱلۡيَوۡمُ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ " يعقب تعالى أن هذا اليوم هو اليوم الذى وعدهم الله وتحقق وقد كانوا يستبعدونه ويكذبون به .

تفسير الجزء التاسع والعشرين

تفسير سورة نوح

سورة نوح عليه السلام سورة مكية ، عدد آياتها 28 آية ، وهى تتحدث عن نوح عليه السلام وما كان من دعوته لقومه للايمان بالله وساق لهم الدلائل والحجج على وجود الله ولكنهمكذبوه فاشتكى الى الله منهم حيث صبر عليه فى دعوته التى استمرت مدة طويلة - ألفا الا خمسين عاما ،ودعا الله عليهم بالهلاك ، استجاب الله له فأهلكهم جميعا بالطوفان الا من اتبعه نجاهم الله فى السفينة .

إِنَّآ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦٓ أَنۡ أَنذِرۡ قَوۡمَكَ مِن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ ١ قَالَ يَٰقَوۡمِ إِنِّي لَكُمۡ نَذِيرٞ مُّبِينٌ ٢ أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ٣ يَغۡفِرۡ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ وَيُؤَخِّرۡكُمۡ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّىۚ إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لَا يُؤَخَّرُۚ لَوۡ كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٤

" إِنَّآ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦٓ أَنۡ أَنذِرۡ قَوۡمَكَ مِن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيم" يتحدث الله عزوجل عن ارساله نوح عليه السلام  الى قومه ليخرجهم من الكفر ومن عبادة غير الله ليحذرهم وينذرهم  قبل أن ينزل بهم عقابه الأليم ونكاله الشديد وقبل أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر حسب قوله "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" فان تابوا وأنابوا رفع عنهم ، " قَالَ يَٰقَوۡمِ إِنِّي لَكُمۡ نَذِيرٞ مُّبِينٌ " يتحدث الله عز وجل عن تبليغ نوح عليه السلام ما أمره به لينذرهم من عذاب الله فابلغهم أنه نذير لهم من الله بين النذارة ظاهر الأمر واضحه ، "  أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ " أمر نوح عليه السلام قومه بعبادة الله وأن يتقوه بترك محارمه واجتناب مآثمه وأن يطيعوه فيما أمرهم به ونهاهم عنه ، " يَغۡفِرۡ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ" أى اذا فعلتم ما آمركم به وصدقتم ما أرسلت به اليكم غفر الله لكم ذنوبكم ومن هنا قيل أن " من " زائدة ولكن القول بزيادتها فى الاثبات قليل ومنه قول بعض العرب " قد كان من مطر "  ،وقيل انها للتبعيض أى يغفر لكم الذنوب العظام التى وعدكم على ارتكابكم اياها الانتقام وقال ابن جرير أنها بمعنى عن تقديره يصفح لكم من ذنوبكم ، " وَيُؤَخِّرۡكُمۡ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّى" أى يمد فى أعماركم ويدرأ عنكم العذاب الذى ان لم تجتنبوا ما نهاكم عنه أوقعه بكم ، وقد يستدل بهذه الآية من يقول أن الطاعة والبر وصلة الرحم يزاد بها فى العمر حقيقة كما ورد فى الحديث " صلة الرحم تزيد العمر " ، " إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لَا يُؤَخَّرُۚ لَوۡ كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ " أى بادروا بالطاعة قبل حلول النقمة فانه اذا أمر تعالى يكون ذلك لا يرد ولا يمانع فانه العظيم الذى قد قهر كل شىء العزيز الذى دانت لعزته جميع المخلوقات .

قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوۡتُ قَوۡمِي لَيۡلٗا وَنَهَارٗا ٥ فَلَمۡ يَزِدۡهُمۡ دُعَآءِيٓ إِلَّا فِرَارٗا ٦ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوۡتُهُمۡ لِتَغۡفِرَ لَهُمۡ جَعَلُوٓاْ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَٱسۡتَغۡشَوۡاْ ثِيَابَهُمۡ وَأَصَرُّواْ وَٱسۡتَكۡبَرُواْ ٱسۡتِكۡبَارٗا ٧ ثُمَّ إِنِّي دَعَوۡتُهُمۡ جِهَارٗا ٨ ثُمَّ إِنِّيٓ أَعۡلَنتُ لَهُمۡ وَأَسۡرَرۡتُ لَهُمۡ إِسۡرَارٗا ٩ فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارٗا ١٠ يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا ١١ وَيُمۡدِدۡكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ جَنَّٰتٖ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ أَنۡهَٰرٗا ١٢ مَّا لَكُمۡ لَا تَرۡجُونَ لِلَّهِ وَقَارٗا ١٣ وَقَدۡ خَلَقَكُمۡ أَطۡوَارًا ١٤ أَلَمۡ تَرَوۡاْ كَيۡفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖ طِبَاقٗا ١٥ وَجَعَلَ ٱلۡقَمَرَ فِيهِنَّ نُورٗا وَجَعَلَ ٱلشَّمۡسَ سِرَاجٗا ١٦ وَٱللَّهُ أَنۢبَتَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ نَبَاتٗا ١٧ ثُمَّ يُعِيدُكُمۡ فِيهَا وَيُخۡرِجُكُمۡ إِخۡرَاجٗا ١٨ وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ بِسَاطٗا ١٩ لِّتَسۡلُكُواْ مِنۡهَا سُبُلٗا فِجَاجٗا ٢٠

يخبر تعالى عن عبده نوح عليه السلام أنه اشتكى الى ربه عزوجل من قومه وما صبر عليهم فى تلك المدة التى هى ألف سنة الا خمسين عاما وما بين لقومه ووضح لهم ودعاهم الى الرشد والسبيل الأقوم فقال"قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوۡتُ قَوۡمِي لَيۡلٗا وَنَهَارٗا " يتحدث نوح عليه السلام قائلا يارب لم أترك دعاءهم فى ليل ولا نهار امتثالا لأمرك وابتغاء لطاعتك ،"  فَلَمۡ يَزِدۡهُمۡ دُعَآءِيٓ إِلَّا فِرَارٗا " أآ كلما دعوتهم ليقتربوا من الحق فروا منه وحادوا عنه ،  "وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوۡتُهُمۡ لِتَغۡفِرَ لَهُمۡ جَعَلُوٓاْ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَٱسۡتَغۡشَوۡاْ ثِيَابَهُمۡ" يشتكى نوح عليه السلام الى الله عز وجل من قومه وكفرهم أنه كلما دعاهم أن يتوبوا ويطلبوا المغفرة من الله سدوا آذانهم لئلا يسمعوا ما أدعوهم اليه وغطوا رءوسهم لئلا يسمعوا وقال ابن جرير عن ابن عباس تنكروا له لئلا يعرفهم ، " وَأَصَرُّواْ وَٱسۡتَكۡبَرُواْ ٱسۡتِكۡبَارٗا "  واستمروا على ما هم فيه وأصروا عليه من الشرك والكفر العظيم الفظيع واستنكفوا عن اتباع الحق والانقياد له ،" ثُمَّ إِنِّي دَعَوۡتُهُمۡ جِهَارٗا " وتحدث نوح عليه السلام عن اسلوب دعوته أنه دعاهم جهرة بين الناس ، " ثُمَّ إِنِّيٓ أَعۡلَنتُ لَهُمۡ" ويتحدث نوح عليه السلام أنه أعلن لقومه كلاما ظاهرا بصوت عال  ، " وَأَسۡرَرۡتُ لَهُمۡ إِسۡرَارٗا " ويتحدث نوح عليه السلام أنه كذلك دعاهم فيما بينه وبينهم فنوع عليهم الدعوة لتكون أنجع فيهم ، " فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارٗا " يقول نوح عليه السلام أنه قال لهم ارجعوا الى الله وارجعوا عما أنتم فيه وتوبوا ايه من قريب فانه من تاب اليه تاب عليه ، ولو كانت ذنوبه مهما كانت فى الكفر والشرك ولهذا قال " يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا " يتحدث نوح عليه السلام مرغبا قومه فى طاعة الله وطلب المغفرة منه فتكون النتيجة أن الله يرزقهم فيرسل عليهم المطر المستمر من السماء وقال ابن عباس وغيره يتبع بعضه بعضا ، ولهذا تستحب قراءة هذه السورة فى صلاة الاستسقاء لأجل هذه الآية ، " وَيُمۡدِدۡكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ جَنَّٰتٖ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ أَنۡهَٰرٗا " أآ اذا تبتم الى الله واستغفرتموه وأطعتموه كثر الرزق عليكم وأسقاكم من بركات السماء وأنبت لكم من بركات الأرض وأنبت لكم الزرع وأدر لكم الضرع وأمدكم باموال وبنين أى أعطاكم الأموال والأولاد وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار وخللها بالأنهار الجارية بينها ، وهذا مقام الدعوة بالترغيب ، ثم عدل بهم الى دعوتهم بالترهيب فقال " مَّا لَكُمۡ لَا تَرۡجُونَ لِلَّهِ وَقَارٗا " قال ابن عباس ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته أى لا تخافون من بأسه ونقمته ، " وَقَدۡ خَلَقَكُمۡ أَطۡوَارًا "يتحدث عن خلق الله للانسان وأطوار هذا الخلق من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ،"  أَلَمۡ تَرَوۡاْ كَيۡفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖ طِبَاقٗا " ويتحدث نوح عليه السلام كذلك للتدليل على قدرة الله عز وجل فى خلق السموات السبع واحدة فوق واحدة ويكون وجود الشمس والقمر جزء يسير من كل كبير وهووجود الشمس والقمر فى كون متسع فيه سبع موات طباقا يعلو بعضها فوق بعض ، ويمكن أن يكون المقصود هو ما يعلو الأرض من طبقات وهى طبقات الغلاف الجوى  فالشمس هى التى تلقى أشعتها وتلقى الضوء والقمر يستمد نوره منها وهما ما ينير ويضيىء الأرض وهذا يؤيده ما بعده "  وَجَعَلَ ٱلۡقَمَرَ فِيهِنَّ نُورٗا وَجَعَلَ ٱلشَّمۡسَ سِرَاجٗا " وهذه آية من آيات الاعجاز العلمى فالقمر يتلقى نوره الذى ينير به من تعرضعه لأشعة الشمس التى يعكسها على الأرض فينيرها والشمس مثل المصباح فهى التى تلقى أشعتها فتضىء وتنير الكون ومثل الضوء المنبعث من المصباح وهنا دقة اللفظ القرآنى فى الفرق بين الضوء والنوروقدر الله للقمر منازل وفاوت نوره فتارة يزداد حتى يتناهى ثم يشرع فى النقص حتى يستتر ليدل على مضى الشهور والأعوام كما قال تعالى " هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك الا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون " ، " وَٱللَّهُ أَنۢبَتَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ نَبَاتٗا " يتحدث الله على خلق الانسان فهو خلق من طين وعناصر جسمه فيها العناصر الموجودة فى الأرض مثل الحديد والكالسيوم والبوتاسيوم والنحاس والزنك وغير ذلك وهى التى تكون جسم الانسان ويستمدها من لبن أمه وهو جنين ويستمدها من طعامه حين يبدأ الأكل والنبات يستمد هذه العناصر من التربة والحيوان كذلك يستمدها من غذائه وهكذا دورة الحياة تعتمد على النبات وكلمة آدم من الأديم وهو طين الأرض ونحن نقول فى المثل   "من الأرض والى الأرض نعود " ولونظرنا الى الآية من الناحية البلاغية فهنا استعارة تمثيلية توضح المعنى وتجليه وهى من بلاغة القرآن الغير مسبوقة أى أنتم مثل النبات الذى يخرج وينبت من الأرض يخرج من البذرة التى تنبت فى الأرض كما ينمو الانسان من الحيوان المنوى الذى يتحد مع البويضة وينمو فى الرحم ويتغذى ويكبر كما يكبر النبات حتى يصبح طفلا يولد كما يصبح النبات محصولا وثمرا ثم ينتهى ويزرع غيره والانسان يتوارث الأرض جيلا من بعد جيل  وفى سورة البقرة تشبيه " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم "  ونحن نعلم أن الحرث بمعنى الزرع كما قال تعالى فى سورة البقرة " واذا تولى سعى فى الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد " البقرة 205 وكذلك عندما تحدث عن بقرة بنى اسرائيل قال " قال انه يقول انها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقى الحرث مسلمة لا شية فيها ----" البقرة 71  وقوله تعالى يكمل الصورة فكما ينتهى الحال بالنبات ينتهى الحال بالانسان فهو تنتهى حياته كما تنتهى حياة النبات "ثُمَّ يُعِيدُكُمۡ فِيهَا" فالانسان يعود الى الأرض لأنه قال " فيها " أى يموت ويدفن فى الأرض "وَيُخۡرِجُكُمۡ إِخۡرَاجٗا " ثم يبعث يوم القيامة أى يعيدكم كما بدأكم أول مرة ، " وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ بِسَاطٗا " يتحدث الله عز وجل عن قدرته فى جعل الأرض ممهدة ميسرة للحياة مسخرة بقدرته فهو سبحانه قد بسطها ومهدها وقررها وثبتها بالجبال الراسيات الشم الشامخات ، " لِّتَسۡلُكُواْ مِنۡهَا سُبُلٗا فِجَاجٗا " أى خلقها سبحانه لكم لتستقروا عليها وتسلكوا فيها أين شئتم من نواحيها وأرجائها وأقطارها طلبا للرزق والسعى فى الحياة وأنشطتها ، كل هذا نبههم به نوح عليه السلام على قدرة الله وعظمته فى خلق السموات والأرض ونعمه عليهم فيما جعل لهم من المنافع السماوية والأرضية فهو الخالق الرازق جعل السماء بناء والأرض مهادا وأوسع على خلقه من رزقه فهو الذى يجب أن يعبد ويوحد ولا يشرك به أحد لأنه لا نظير له ولا ند ولا كفء ولا صاحبة ولا ولد ولا وزير ولا مشير بل هو العلى الكبير .

قَالَ نُوحٞ رَّبِّ إِنَّهُمۡ عَصَوۡنِي وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمۡ يَزِدۡهُ مَالُهُۥ وَوَلَدُهُۥٓ إِلَّا خَسَارٗا ٢١ وَمَكَرُواْ مَكۡرٗا كُبَّارٗا ٢٢ وَقَالُواْ لَا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمۡ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّٗا وَلَا سُوَاعٗا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسۡرٗا ٢٣ وَقَدۡ أَضَلُّواْ كَثِيرٗاۖ وَلَا تَزِدِ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا ضَلَٰلٗا ٢٤

" قَالَ نُوحٞ رَّبِّ إِنَّهُمۡ عَصَوۡنِي وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمۡ يَزِدۡهُ مَالُهُۥ وَوَلَدُهُۥٓ إِلَّا خَسَارٗا " يقول تعالى مخبرا عن نوح عليه السلام أنه أنهى اليه وهو العليم الذى لا يعزب عنه شىء أنه مع البيان المتقدم ذكره والدعوة المتنوعة المشتملة على الترغيب تارة والترهيب اخرى أنهم عصوه وخالفوه وكذبوه واتبعوا أبناء الدنيا ممن غفل عن أمر الله ومتع بمال وأولاد وهى فى نفس الأمر استدراج وانظار لا اكرام ولهذا قال أن هذا المال والولد يزيده خسرانا أى كفرا وبطرا لنعمة الله فيزيد خسارته فى الدنيا والآخرة بالتلهى بما لديه من أموال وأولاد فيبعد عن عبادة الله وطريقه ويغتر بما لديه ويكون الخسارة الأكبر فى الآخرة بدخول جهنم ، " وَمَكَرُواْ مَكۡرٗا كُبَّارٗا " قال محاهد كبارا أى عظيما وقال ابن زيد أى كبير والعرب تقول أمر عجيب وعجاب بالضم وعجاب بالكسر ، ورجل حسان وحسان وجمال وجمال بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد والمعنى أى باتباعهم فى تسويلهم لهم أنهم على الحق والهدى وهو مكرهم وتخطيطهم بتزيين السوء وجعله أنه هو الأمر الحسن كما يقولون لهم يوم القيامة " بل مكر الليل والنهار اذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا " ،"  وَقَالُواْ لَا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمۡ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّٗا وَلَا سُوَاعٗا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسۡرٗا " معن لا تذرن أى لا تتركوا عبادة الأصنام التى تعبدوها من دون الله وسمى أصنامهم التى كانوا يعبدونها من دون الله عز وجل وقال ابن عباس الأوثان التى كانت فى قوم نوح فى العرب بعد : أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل ، وأما سواع فكانت لهذيل ، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبنى غطيف بالجرف عند سبأ ، وأما يعوق فكانت لهمدان ، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذى كلاع وهى أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام فلما هلكوا أوحى الشيطان الى قومهم ان انصبوا الى مجالسهم التى كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى اذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت وقال على بن أبى طلحة عن ابن عباس كانت هذه أصنام تعبد فى زمن نوح عليه السلام وعن محمد بن قيس " ويغوث ويعوق ونسرا " قال كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا وجاء آخرون دب اليهم ابليس وقال ابن عباس انما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر وكان أول ما عبد من دون الله ود الصنم الذى سموه ودا وولد له سواع ويغوث ويعوق ونسر، "   وَقَدۡ أَضَلُّواْ كَثِيرٗاۖ  " يعنى الأصنام التى اتخذوها أضلوا بها خلقا كثيرا فانه استمرت عبادتها فى القرون وحتى فى عصرنا الحالى مازات عبادة الأصنام والأوثان سائدة وبخاصة فى دول شرق وجنوب شرق آسيا مثل الهند والصين وغيرها من قبل الهندوس والبوذيين ولها معابد  وقد قال الخليل عليه السلام فى دعائه " واجنبنى وبنى أن نعبد الأصنام رب انهن أضللن كثيرا من الناس " ، "وَلَا تَزِدِ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا ضَلَٰلٗا " دعاء من نوح عليه السلام على قومه لتمردهم وكفرهم وعنادهم فطلن من الله أن يزيدهم فى الضلال ولم يدعو لهم بالهداية حتى يأخذهم الله بعقابه الأليم لشدة تكذيبهم له وعنادهم واستنفاده كل أساليب الدعوة بالترغيب والترهيب كما دعا موسى عليه السلام على فرعون وملئه فى قوله " ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم " وقد استجاب الله لكل من النبيين فى قومه وأغرق أمته بتكذيبهم لما جاءهم به .

مِّمَّا خَطِيٓـَٰٔتِهِمۡ أُغۡرِقُواْ فَأُدۡخِلُواْ نَارٗا فَلَمۡ يَجِدُواْ لَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَارٗا ٢٥ وَقَالَ نُوحٞ رَّبِّ لَا تَذَرۡ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ دَيَّارًا ٢٦ إِنَّكَ إِن تَذَرۡهُمۡ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوٓاْ إِلَّا فَاجِرٗا كَفَّارٗا ٢٧ رَّبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيۡتِيَ مُؤۡمِنٗا وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۖ وَلَا تَزِدِ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا تَبَارَۢا ٢٨

" مِّمَّا خَطِيٓـَٰٔتِهِمۡ أُغۡرِقُواْ " وقرىء خطاياهم أى من كثرة ذنوبهم وعتوهم واصرارهم على كفرهم ومخافبهم رسولهم أغرقهم الله بالطوفان فلم يبقى منهم أحدا وهلكوا جميعا ، " فَأُدۡخِلُواْ نَارٗا "  دخول النار يكون فى الآخرة أى بعد هلاكهم فى الدنيا الذى لم يبقى منهم أحد سوف يعاجلهم دخول النار لأن يوم القيامة سيكون قريبا ولن يكون بعيدا فجاءت الفاء لتفيد التتابع لتأكيد الخسران الذى عجل لهم فى الدنيا وكذلك سيعجل فى الآخرة فالخسران متتابع متتالى فى الدنيا والآخرة ولا ننسى عذاب القبر كذلك فالعذاب متتابع فى الدنيا هلكوا وهم أحياء وتبعه العذاب الآخر بعد هلاكهم ، "  فَلَمۡ يَجِدُواْ لَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَارٗا " هؤلاء الكفار لم يجدوا ولم يكن لهم معين ولا مغيث ولا مجير من عذاب الله فى الدنيا والآخرة وهذا كقوله تعالى " لا عاصم اليوم من أمر الله الا من رحم " ، " وَقَالَ نُوحٞ رَّبِّ لَا تَذَرۡ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ دَيَّارًا " هذا دعاء نوح على الكافرين فهو يدعو الله الا يترك على مجه الأرض من الكفار أحدا وكلمة " ديارا " من صيغ تأكيد النفى قال الضحاك ديارا واحدا وقال السدى الديار الذى يسكن الدار فاستجاب الله له فأهلك جميع من على وجه الأرض من الكافرين حتى ولد نوح لصلبه الذى اعتزل عن أبيه " قال سآوى الى جبل يعصمنى من الماء قال لا عاصم من أمر الله الا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين " ،   " إِنَّكَ إِن تَذَرۡهُمۡ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ " أى انك ان أبقيت منهم أحدا أضلوا عبادك أى الذين تخلقهم بعدهم ، " وَلَا يَلِدُوٓاْ إِلَّا فَاجِرٗا كَفَّارٗا " أى لا يكون نسلهم من بعدهم الا فاجر فى الأعمال كافر القلب وذلك لخبرته بهم ومكثه بين أظهرهم ألف سنة الا خمسين عاما ، " رَّبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيۡتِيَ مُؤۡمِنٗا" بيتى قال الضحاك يعنى مسجدى ولا مانع من حمل الآية على ظاهرها وهو أنه دعا لكل من دخل منزله وهو مؤمن أن يغفر الله له كما يغفر له الله ولوالديهم ذنوبهم ويصفح عنهم ، " وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ" كما طلب نوح عليه السلام المغفرة من الله لجميع المؤمنين والمؤمنات وهذا دعاء لجميع المؤمنين والمؤمنات وذلك يعم الأحياء والأموات ، ولهذا يستحب مثل هذا الدعاء اقتداء بنوح عليه السلام وبما جاء فى الآثار والأدعية المشهورة المشروعة ،" وَلَا تَزِدِ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا تَبَارَۢا" التبار قال عنه السدى الهلاك وقال مجاهد خسارا يدعو نوح عليه السلام الله ان يزيد ويكثر الهلاك أوالخسارة على الكافرين والمشركين  ونحن نعلم أن القرآن حين يذكر الظالمين يعنى الكافرينوالمشركين ومن كان على شلكلتهم كما فى سورة لقمان " يا بنى لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم " لقمان 13 وكقوله " ان الله لا يهدى القوم الظالمين " وتكرر هذا المعنى كثيرا فى القرآن .

تفسير الجزء التاسع والعشرين

تفسير سورة الجن

سورة الجن سورة مكية ، وعدد آياتها 28 آية وهى من قصار السور ، وهى كما هو واضح من اسمها تتحدث عن الجن حين سمعوا القرآن ويتحدثون عن ما حدث بعد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم حيث كانوا يسترقون السمع ويتلقفون الأخبار ويوحون بها الى البشر بعد أن يزيدوا عليها ممن يتبعهم من الكهنة والسحرة وغيرهممن البشر ، أما عند بعث الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يعد لديهم القدرة على استراق السمع وكما قال السدى لم تكن السماء تحرس ألا أن يكون فى الأرض نبى أو دين لله ظاهر فكانت الشياطين قبل محمد صلى الله عليه وسلم قد اتخذت المقاعد فى السماء الدنيا يستمعون ما يحدث فى السماء من أمر فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم نبيا رسولا رجموا ليلة من الليالى ففزع لذلك أهل الطائف فقالوا هلك أهل السماء لما رأوا من شدة النار فى السماء واختلاف الشهب فجعلوا يعتقون أرقاءهم ويسيبونمواشيهم فقال لهم عبد ياليل بن عمرو بن عمير : ويحكم يا معشر أهل الطائف أمسكوا عن مالكم وانظروا الى معالم النجوم فان رأستموها مستقرة فى أمكنتها فلم يهلك أهل السماء انما هذا من أجل ابن أبى كبشة يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم وان نظرتم فلم تروها فقد هلك أهل السماء فنظروا فرأوها فكفوا عن أموالهم وفزعت الشياطين فى تلك الليلة فأتوا ابلي فحدثوه بالذى كان من أمرهم فقال : ائتونى من كل أرض بقبضة من تراب أشمها فأتوه فشم فقال صاحبكم بمكة فبعث سبعة نفر من جن نصيبين فقدموا مكة فوجدوا نبى الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلى فى المسجد الحرام يقرأ القرآن فدنوا منه حرصا على القرآن حتى كادت كلاكلهم تصيبه ثم أسلموا فأنزل الله تعالى أمرهم على رسوله صلى الله عليه وسلم .

قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا ١ يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلرُّشۡدِ فَ‍َٔامَنَّا بِهِۦۖ وَلَن نُّشۡرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَدٗا ٢ وَأَنَّهُۥ تَعَٰلَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَٰحِبَةٗ وَلَا وَلَدٗا ٣ وَأَنَّهُۥ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطٗا ٤ وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا ٥ وَأَنَّهُۥ كَانَ رِجَالٞ مِّنَ ٱلۡإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٖ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَزَادُوهُمۡ رَهَقٗا ٦ وَأَنَّهُمۡ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمۡ أَن لَّن يَبۡعَثَ ٱللَّهُ أَحَدٗا ٧

" قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ " يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر قومه أن الجن استمعوا القرآن فآمنوا به وصدقوه وانقادوا له ، "  فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا *  يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلرُّشۡدِ فَ‍َٔامَنَّا بِهِۦۖ وَلَن نُّشۡرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَدٗا " يذكر الله عز وجل ما قالته الجن عن القرآن الكريم ومدحهم له أنه عجب أى عجيب أى يعجب من يستمع اليه من حسنه والأمر العجيب الحسن الذى يختلف عن ما حوله من حسنه وهذا القرآن يهدى الى السداد والنجاح فآمنا به وهو منزل من عند الله الواحد الأحد وسوف نتبع ما يدعو اليه من وحدانية الله ونكون بعيدين عن الشرك بالله كما هوحال المشركين فى مكة وهذا المقام شبيه بقوله " واذ صرفنا اليك نفرا من الجن يستمعون القرآن " ، " وَأَنَّهُۥ تَعَٰلَىٰ جَدُّ رَبِّنَا " تعظيم من الجن لله تعالى والجد هنا كما قال ابن عباس أى فعله وأمره وقدرته وفى قول آخر عن ابن عباس جد الله آلاؤه وقدرته ونعمته على خلقه وقال مجاهد وعكرمة جلال ربنا وقال قتادة تعالى جلاله وعظمته وأمره وقال السدى تعالى أمر ربنا وعن أبى الرداء وغيره تعالى ذكره وقال سعيد بن جبير " تعالى جد ربنا " أى تعالى ربنا ، " مَا ٱتَّخَذَ صَٰحِبَةٗ وَلَا وَلَدٗا " أى تعالى وسمى وبعد عن اتخاذ الصاحبة والأولاد  ، أى قالت الجن تنزه الرب جل جلاله حين أسلموا وآمنوا بالقرآن عن اتخاذ الصاحبة والولد ، " وَأَنَّهُۥ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطٗا " قال مجاهد وغيره " سفيهنا " يعنون ابليس وعن أبى مالك " شططا " أى جورا وقال ابنزيد أى ظلما كبيرا ويحتمل أن يكون المراد بقولهم سفيهنا اسم جنس لكل من زعم أن لله صاحبة أو ولدا ولهذا قالوا " وأنه كان يقول سفيهنا " أى قبل اسلامه " على الله شططا " أى باطلا وزورا ولهذا قالوا " وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا " أآ ما حسبنا أن الانس والجن يتمالؤن على الكذب على الله تعالى فى نسبة الصاحبة والولد اليه فلما سمعنا هذا القرآن وآمنا به علمنا أنهمكانوا يكذبون على الله فى ذلك ، "  وَأَنَّهُۥ كَانَ رِجَالٞ مِّنَ ٱلۡإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٖ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَزَادُوهُمۡ رَهَقٗا "قال ابن عباس رهقا أى اثما وقال أبو العالية وغيره أى خوفا وقال مجاهد زاد الكفار طغيانا  أى كنا نرى أن لنا فضلا على الانس لأنهم كانوا يعوذون بنا اذا نزلوا واديا أو مكانا موحشا من البرارى وغيرها كما كانت عادة العرب فى جاهليتها يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشىء يسوءهم كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه فى جوار رجل كبير وذمامه وخفارته ، فلما رأت الجن أن الانس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقا أى خوفا وارهابا وذعرا حتى بقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذا بهم كما قال قتادة " فزادوهم رهقا " أى اثما وازادت الجن عليهم بذلك جراءة ، وعن منصور عن ابراهيم " فزادوهم رهقا " أى ازدادت الجن عليهم جرأة وقال السدى : كان الرجل يخرج باهله فيأتى الأرض فينزلها فيقول : أعوذ بسيد هذا الوادى من الجن أن أضر أنا فيه أومالى أو ولدى أو ماشيتى وقال قتادة : فاذا عاذ بهم من دون الله رهقتهم الجن الأذى عند ذلك ، " وَأَنَّهُمۡ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمۡ أَن لَّن يَبۡعَثَ ٱللَّهُ أَحَدٗا " أى اعتقدوا باطلا ودون تأكد ويقين وهو الظن ويقصدون الانس كما هو الحال بالنسبة للجن أن لن يبعث الله بعد هذه المدة رسولا .

وَأَنَّا لَمَسۡنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدۡنَٰهَا مُلِئَتۡ حَرَسٗا شَدِيدٗا وَشُهُبٗا ٨ وَأَنَّا كُنَّا نَقۡعُدُ مِنۡهَا مَقَٰعِدَ لِلسَّمۡعِۖ فَمَن يَسۡتَمِعِ ٱلۡأٓنَ يَجِدۡ لَهُۥ شِهَابٗا رَّصَدٗا ٩ وَأَنَّا لَا نَدۡرِيٓ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ أَرَادَ بِهِمۡ رَبُّهُمۡ رَشَدٗا ١٠

" وَأَنَّا لَمَسۡنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدۡنَٰهَا مُلِئَتۡ حَرَسٗا شَدِيدٗا وَشُهُبٗا * وَأَنَّا كُنَّا نَقۡعُدُ مِنۡهَا مَقَٰعِدَ لِلسَّمۡعِۖ فَمَن يَسۡتَمِعِ ٱلۡأٓنَ يَجِدۡ لَهُۥ شِهَابٗا رَّصَدٗا " يخبر الله تعالى عن الجن حين بعث رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن وكان من حفظه له أن السماء ملئت حرسا شديد وحفظت من سائر أرجائها وطردت الشياطين عن مقاعدها التى كانت تقعد فيها قبل ذلك لئلا يسترقوا شيئامن القرآن فيلقوه على ألسنة الكهنة فيلتبس الأمر ويختلط ولا يدرى من الصادق ، وهذا من لطف الله تعالى بخلقه ، ورحمته بعباده ، وحفظه لكتابه العزيز ولهذا قال الجن من يروم أن يسترق السمع اليوم يجد له شهابا مرصدا له لا يتخطاه ولا يتعداه بل يمحقه ويهلكه ، " وَأَنَّا لَا نَدۡرِيٓ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ أَرَادَ بِهِمۡ رَبُّهُمۡ رَشَدٗا " أى ما ندرى هذا الأمر الذى قد حدث فى السماء أشر أريد بمن فى الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا أى هداية الى الحق ، وهذا من أدبهم فى العبارة حيث أسندوا الشر الى غير فاعل والخير أضافوه الى الله عز وجل ، ولا شك أنه لما حدث هذا الأمر وهو كثرة الشهب فى السماء والرمى بها هال ذلك الانس والجن وانزعجوا له وارتاعوا لذلك وظنوا أن ذلك لخراب العالم وهذا هو السبب الذى حملهم على تطلب السبب فى ذلك فأخذوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ باصحابه فى الصلاة فعرفوا أن هذا هو الذى حفظت من أجله السماء فآمن من آمن منهم وتمرد فى طغيانه من بقى كما تقدم حديث ابن عباس فى ذلك عند قوله فى سورة الأحقاف " واذ صرفنا اليك نفرا من الجن يستمعون القرآن".

وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّٰلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَۖ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَدٗا ١١ وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعۡجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَن نُّعۡجِزَهُۥ هَرَبٗا ١٢ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعۡنَا ٱلۡهُدَىٰٓ ءَامَنَّا بِهِۦۖ فَمَن يُؤۡمِنۢ بِرَبِّهِۦ فَلَا يَخَافُ بَخۡسٗا وَلَا رَهَقٗا ١٣ وَأَنَّا مِنَّا ٱلۡمُسۡلِمُونَ وَمِنَّا ٱلۡقَٰسِطُونَۖ فَمَنۡ أَسۡلَمَ فَأُوْلَٰٓئِكَ تَحَرَّوۡاْ رَشَدٗا ١٤ وَأَمَّا ٱلۡقَٰسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَبٗا ١٥ وَأَلَّوِ ٱسۡتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسۡقَيۡنَٰهُم مَّآءً غَدَقٗا ١٦ لِّنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَمَن يُعۡرِضۡ عَن ذِكۡرِ رَبِّهِۦ يَسۡلُكۡهُ عَذَابٗا صَعَدٗا ١٧

" وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّٰلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ " يقول تعالى مخبرا عن الجن أنهم قالوا مخبرين عن أنفسهم أن منهم صالحين أى مؤمنين بالله ومنهم غير ذلك من الملل والنحل ، " كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَدٗا " قددا أى طرائق متعددة مختلفة وآراء متفرقة وقال ابن عباس وغيره أى منا المؤمن ومنا الكافر وقال الأعمش : تروح الينا جنى فقلت له ما أحب الطعام اليكم ؟ فقال الأرز قال فأتيناهم به فجعلت أرى اللقم ترفع ولا أرى أحدا فقلت فيكم من هذه الأهواء التى فينا ؟ قال نعم ، فقلت فما الرافضة فيكم ؟ قال شرنا ، " وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعۡجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَن نُّعۡجِزَهُۥ هَرَبٗا " ويتدث الجن كذلك بقولهم انا نعلم أن قدرة الله حاكمة علينا وأنا لا نعجز الله فى الأرض ولو أمعنا فى الهرب فانه علينا قادر لا يعجزه أحد منا ، " وَأَنَّا لَمَّا سَمِعۡنَا ٱلۡهُدَىٰٓ ءَامَنَّا بِهِۦ" يفتخر الجن أنهم لما سمعوا القرآن آمنوا به وهم يفتخرون بذلك وهو مفخر لهم وشرف رفيع وصفة حسنة ، " فَمَن يُؤۡمِنۢ بِرَبِّهِۦ فَلَا يَخَافُ بَخۡسٗا وَلَا رَهَقٗا " البخس هو النقص والرهق هو الزيادة المرهقة قال ابن عباس وقتادة وغيرهما فلا يخاف أن ينقص من حسناته أى يحمل عليه غير سيئاته كما قال تعالى" فلا يخاف ظلما ولا هضما " ، " وَأَنَّا مِنَّا ٱلۡمُسۡلِمُونَ وَمِنَّا ٱلۡقَٰسِطُونَ" أى منا المسلم ومنا القاسط وهو الجائر عن الحق الناكب عنه بخلاف المقسط فانه العادل ، " فَمَنۡ أَسۡلَمَ فَأُوْلَٰٓئِكَ تَحَرَّوۡاْ رَشَدٗا " يتحدث كذلك أن من اسلم فأولئك طلبوا لأنفسهم النجاة ، "  وَأَمَّا ٱلۡقَٰسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَبٗا " وأما الجائرون وهم البعيدون عن الحق سيدخلون جهنم ويكونوا لها وقودا تسعر بهم ،" وَأَلَّوِ ٱسۡتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسۡقَيۡنَٰهُم مَّآءً غَدَقٗا "  اختلف المفسرون فى معنى هذا على قولين  أحدهما وأن لو استقام القاسطون على طريقة الاسلام وعدلوا اليها واستمروا عليها انزلنا عليهم الرزق الكثير من السماء والمراد هنا سعة الرزق من انزال المطر وما يتبعه من انبات الزرع واخراج الثمار ويسقى منه البشر ويكون منه المرعى  فالماء هو عصب الحياة وعصب الرزق كقوله  "وجعلنا من الماء كل شىء حى " ولا حياة ولا رزق بدون ماء ،  "لِّنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ" أى ان هذا الرزق الكثير يكون اختبار لهم كما قال زيد بن أسلم لنفتنهم لنبتليهم من يستمر على الهداية ممن يرتد عن الغعواية وقال ابن عباس " وأـن لو استقاموا على الطريقة " يعنى بالاستقامة الطاعة وقال مجاهد الاسلام وقال قتادة لو آمنوا كلهم لأوسعنا عليهم من الدنيا وقال مجاهد " وأن لو استقاموا على الطريقة " أى طريقة الحق ،وقال مقاتل نزلت فى كفار قريش حين منعوا المطر سبع سنين ، والقول الثانى " وأن لو استقاموا على الطريقة " الطريقة هنا الضلالة " لأسقيناهم ماء غدقا " أى لأوسعنا عليهم الرزق استدراجا كما قال تعالى " فاما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شىء حتى اذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فاذا هم مبلسون " وكقوله " أيحسبون أنما نمدهم به من مال نسارع لهم فى الخيرات بل لا يشعرون " وهذا قول ابنجرير ، "  وَمَن يُعۡرِضۡ عَن ذِكۡرِ رَبِّهِۦ يَسۡلُكۡهُ عَذَابٗا صَعَدٗا " عذابا صعدا أى عذابا مشقا شديدا موجعا مؤلما وقال ابن عباس وغيره  مشقة لا راحة معها أى من يبعد عن ذكر الله وهو اتباع طريق الحق من الله واتباع هدى الله فانه يناله من الله العذاب الشاق الأليم فى الدنيا والآخرة .

وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدٗا ١٨ وَأَنَّهُۥ لَمَّا قَامَ عَبۡدُ ٱللَّهِ يَدۡعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيۡهِ لِبَدٗا ١٩ قُلۡ إِنَّمَآ أَدۡعُواْ رَبِّي وَلَآ أُشۡرِكُ بِهِۦٓ أَحَدٗا ٢٠ قُلۡ إِنِّي لَآ أَمۡلِكُ لَكُمۡ ضَرّٗا وَلَا رَشَدٗا ٢١ قُلۡ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٞ وَلَنۡ أَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدًا ٢٢ إِلَّا بَلَٰغٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَٰلَٰتِهِۦۚ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَإِنَّ لَهُۥ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا ٢٣ حَتَّىٰٓ إِذَا رَأَوۡاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعۡلَمُونَ مَنۡ أَضۡعَفُ نَاصِرٗا وَأَقَلُّ عَدَدٗا ٢٤

قال قتادة كانت اليهود والنصارى اذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوحدوه وحده وقال ابن عباس لم يكن يوم نزلت هذه الآية فى الأرض مسجدا الا المسجد الحرام ومسجد بيت المقدس وقال الأعمش قالت الجن يا رسول الله ائذن لنا فنشهد معك الصلوات فى مسجدك فأنزل الله تعالى" وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدٗا " وقال عكرمة نزلت فى المساجد كلها وقال سعيد بن جبير نزلت فى أعضاء السجود أى هى لله فلا تسجدوا بها لغيره وذكروا عند هذا القول الحديث الصحيح عن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن اسجد على سبعة أعظم على الجبهة - أشار بيده الى أنفه - واليدين والركبتين وأطراف القدمين " ، " وَأَنَّهُۥ لَمَّا قَامَ عَبۡدُ ٱللَّهِ يَدۡعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيۡهِ لِبَدٗا "  لبدا أى كثيرمجتمعون متزاحمون قال ابن عباس لما سمعوا النبى صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه يتلو القرآن ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول فجعل يقرئه " قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا " يستمعون القرآن وفى قول آخر لابن عباس أن الجن لما رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده عجبوا من طواعية أصحابه له فقالوا لقومهم " وَأَنَّهُۥ لَمَّا قَامَ عَبۡدُ ٱللَّهِ يَدۡعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيۡهِ لِبَدٗا " وقال الحسن لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا الهالا الله ويدعو الناس الى ربهم كادت العرب تلبد عليه جميعا وفى قول لقتادة فى قوله "وَأَنَّهُۥ لَمَّا قَامَ عَبۡدُ ٱللَّهِ يَدۡعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيۡهِ لِبَدٗا " قال تلبدت الانس والجن على هذا الأمر ليطفئوه فأبى الله الا أن ينصره ويمضيه ويظهره على من ناوأه وهو قول ابن جرير وهو الأظهر لقوله بعده "  قُلۡ إِنَّمَآ أَدۡعُواْ رَبِّي وَلَآ أُشۡرِكُ بِهِۦٓ أَحَدٗا " أى قال لهم الرسول صلى الله عليهوسلم لما آذوه وخالفوه وكذبوه وتظاهروا عليه ليبطلوا ما جاء به من الحق واجتمعوا على عداوته " انما أدعو ربى أى انما أعبد ربى وحده لا شريك له وأستجير به وأتوكل عليه " ولا اشرك به أحدا " ، "  قُلۡ إِنِّي لَآ أَمۡلِكُ لَكُمۡ ضَرّٗا وَلَا رَشَدٗا " لأى انما أنا بشر مثلكم يوحى الى وعبد من عباد الله ليس الى من الأمر شىء فى هدايتكم ولا غوايتكم بل المرجع فى ذلك كله الى الله عز وجل ، " قُلۡ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٞ وَلَنۡ أَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدًا " ثم أخبر عن نفسه أيضا أنه لا يجيره من الله أحد أى لو عصيته فانه لا يقدر أحد على انقاذى من عذابه وقال قتادة أيضا أى لا نصير ولا ملجأ وفى رواية لا ولى ولا موئل ، "  إِلَّا بَلَٰغٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَٰلَٰتِهِ" قال بعضهم هومستثنى من قوله " قُلۡ إِنِّي لَآ أَمۡلِكُ لَكُمۡ ضَرّٗا وَلَا رَشَدٗا * قُلۡ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٞ وَلَنۡ أَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدًا " إِلَّا بَلَٰغٗا مِّنَ الله " ويحتمل أن يكون اشتثناء من قوله " قُلۡ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَد" أى لا يجيرنى منه ويخلصنى الا ابلاغى الرسالة التى أوجب أداءها على كما قال تعالى " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس " ،" وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَإِنَّ لَهُۥ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا " أى أنا أبلغكم رسالة الله فمن يعص بعد ذلك فله جزاء على ذلك نار جهنم خالدين فيها أبدا ألا لا محيد لهم عنها ولا خروج لهم منها ، "  حَتَّىٰٓ إِذَا رَأَوۡاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعۡلَمُونَ مَنۡ أَضۡعَفُ نَاصِرٗا وَأَقَلُّ عَدَدٗا " أى حتى اذا رأى هؤلاء المشركون من الجن والانس ما يوعدون يوم القيامة فسعلمون يومئذ من أضعف ناصرا وأقل عددا ، هم أم المؤمنون الموحدون لله تعالى ؟ أى بل المشركون لا ناصر لهم بالكلية وهم أقل عددا من جنود الله عز وجل .

قُلۡ إِنۡ أَدۡرِيٓ أَقَرِيبٞ مَّا تُوعَدُونَ أَمۡ يَجۡعَلُ لَهُۥ رَبِّيٓ أَمَدًا ٢٥ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ فَلَا يُظۡهِرُ عَلَىٰ غَيۡبِهِۦٓ أَحَدًا ٢٦ إِلَّا مَنِ ٱرۡتَضَىٰ مِن رَّسُولٖ فَإِنَّهُۥ يَسۡلُكُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ رَصَدٗا ٢٧ لِّيَعۡلَمَ أَن قَدۡ أَبۡلَغُواْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّهِمۡ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيۡهِمۡ وَأَحۡصَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ عَدَدَۢا ٢٨

" قُلۡ إِنۡ أَدۡرِيٓ أَقَرِيبٞ مَّا تُوعَدُونَ أَمۡ يَجۡعَلُ لَهُۥ رَبِّيٓ أَمَدًا * " يقول الله تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس انه لا علم له بوقت الساعة ولا يدرى أقريب أم بعيد وقتها والأمد هو المدة الطويلة وفى هذه الآية الكريمة دليل على عدم علم الرسول صلى الله عليه وسلم بيوم القيامة بالتحديد وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسئل عن وقت الساعة فلا يجيب عنها ولما تبدى له جبريل فى صورة أعرابى كان فيما سأله أن قال يا محمد فأخبرنى عن الساعة ؟ قال " ما المسئول عنها بأعلم من السائل "ولما ناداه ذلك الأعرابى بصوت جهورى فقال يا محمد متى الساعة ؟ قال " ويحك انها كائنة فما أعددت لها ؟ " قال أما انى لم أعد لها كثير صلاة ولا صيام ولكنى أحب الله ورسوله قال " فأنت مع من أحببت " قال فما فرح المسلمون بشىء من فرحهم بهذا الحديث   ، " عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ فَلَا يُظۡهِرُ عَلَىٰ غَيۡبِهِۦٓ أَحَدًا *إِلَّا مَنِ ٱرۡتَضَىٰ مِن رَّسُول" يتحدث الله عزوجل أنه يعلم الغيب والشهادة وأنه لا يطلع أحدا من خلقه على شىء من علمه الا مما أطلعه عليه وهذا يعم الرسول الملكى والبشرى ،"  فَإِنَّهُۥ يَسۡلُكُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ رَصَدٗا " الرصد هو الحفظ أى أن الله تعالى يخصه بمزيد معقبات من الملائكة يحفظونه من أمر الله ويساوقونه على ما معه من وحى ولهذا قال " لِّيَعۡلَمَ أَن قَدۡ أَبۡلَغُواْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّهِمۡ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيۡهِمۡ وَأَحۡصَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ عَدَدَۢا " اختلف المفسرون فى الضمير الذى فى قوله " ليعلم " الى من يعود ؟ فقيل أنه عائد الى النبى صلى الله عليه وسلم فقال ابن جرير أربعة حفظة من الملائكة مع جبريل " ليعلم " محمد صلى الله عليه وسلم " أَن قَدۡ أَبۡلَغُواْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّهِمۡ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيۡهِمۡ وَأَحۡصَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ عَدَدَۢا " وقال أبن عباس فى قوله " ليعلم أَن قَدۡ أَبۡلَغُواْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّهِمۡ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيۡهِمۡ وَأَحۡصَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ عَدَدَۢا " قال هى معقبات من الملائكة يحفظون النبى صلى الله عليه وسلم من الشيطان حتى يتبين الذين أرسل اليهم وذلك حين يقول ليعلم أهل الشرك أن قد أبلغوا رسالات ربهم ليعلم نبى الله صلى الله عليه وسلم أن الرسل قد بلغت عن الله وأن الملائكة حفظتها ورفعتها عن الله وقال قتادة "  ليعلم أَن قَدۡ أَبۡلَغُواْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّهِمۡ " ليعلم نبى الله أن الرسل قد بلغت عن الله وأن الملائكة حفظتها ورفعتها عن الله وقال مجاهد فى هذا ليعلم من كذب الرسل أن قد أبلغوا رسالات ربهم وفى هذا نظر وقال البغوى قرا يعقوب " ليعلم " بالضم أى ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا ، ويحتمل أن يكون الضمير عائد الى الله عز وجل ويكون المعنى فى ذلك أنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته ويحفظ ما ينزله اليهم من الوحى ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ويكون ذلك كقوله تعالى " وما جعلنا القبلة التى كنت عليها الا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه " وكقوله تعالى " وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين " الى أمثال ذلك من العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعا لا محالة ولهذا قال بعد ذلك " وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيۡهِمۡ وَأَحۡصَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ عَدَدَۢا " .

تفسير الجزء التاسع والعشرين

تفسير سورة المزمل

سورة المزمل سورة مكية ، عدد آياتها 20 آية ، وهى سورة مثل السور المكية تتحدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وما حدث معه فعن جابر قال " اجتمعت قريش فى دار الندوة فقالوا سموا هذا الرجل اسما يصدر الناس عنه فقالوا كاهن قالوا ليس بكاهن قالوا مجنون قالوا ليس بمجنون ، قالوا ساحر قالوا ليس بساحر ، فتفرق المشركون على ذلك فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فتزمل فى ثيابه وتدثر فيها ، فأتاه جبريل عليه السلام فقال " يا أيها المزمل " " يا ايها المدثر " ، فى السورة أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بقيام الليل ، وتتحدث عما أعده الله من عذاب للمشركين الذين يعاندون ولا يتبعون ما أرسله الله به ، وتتحدث السورة مثل كثير من السور المكية عن أهوال يوم القيامة ،وكذلك عن ما حاق بالأمم المكذبة للرسل من نكال من الله ، وفيها دعوة الى قراءة القرآن ، وفى حديث عن ابن عباس أنه سأل السيدة عائشة رضى الله عنها قال : قلت يا أم المؤمنين أنبئينى عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت ألست تقرأ القرآن قلت بلى قالت فان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كلن القرآ، فهممت أن أقوم ثم بدا لى قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا أم المؤمنين أنبئينى عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت ألست تقرأ هذه السورة " يا أيها المزمل " قلت بلى قالت فان الله افترض قيام الليل فى أول هذه السورة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم وأمسك الله خاتمتها فى السماء اثنى عشر شهرا ثم أنزل الله التخفيف فى آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة ، فهممت أن أقوم ثم بدا لى وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا أم المؤمنين أنبئينى عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله اما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ثم يتوضأ ثم يصلى ثمانى ركعات لا يجلس فيهن الا عند الثامنة ، فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو ثم ينهض وما يسلم ، ثم يقوم ليصلى التاسعة ثم يقعد فيذكر الله وحده ثم يدعوه ثم يسلم تسليما يسمعنا  ، ثم يصلى ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم فتلك احدى عشرة ركعة يا بنى فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ اللحم أوتر بسبع ثم صلى ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم فتلك تسع يا بنى ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها وكان اذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع أو مرض صلى من النهار ثنتى عشرة ركعة ولا أعلم نبى الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله فى ليلة حتى أصبح ولا صام شهرا كاملا غير رمضان " وعن عائشة رضى الله عنها قالت " كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرا يصلى عليه من الليل فتسامع الناس به فاجتمعوا فخرج كالمغضب وكان بهم رحيما فخشى أن يكتب عليهم قيام الليل فقال " أيها الناس اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فان الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل وخير الأعمال ما ديم عليه " ونزل القرآن" يا أيها المزمل *  قم الليل الا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا *  أوزد عليه " حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق فمكثوا بذلك ثمانية أشهر فرأى الله ما يبتغون من رضوانه فرحمهم فردهم الى الفريضة وترك قيام الليل ،وقال ابن عباس : أول ما نزل أول المزمل كانوا يقومون نحوا من قيامهم فى شهر رمضان وكان بين أولها وآخرها قريب من سنة " وعن أبى عبد الرحمن قال لما نزلت " يا أيها المزمل " قاموا حولا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم حتى نزلت " فاقرءوا ما تيسر منه " فاستراح الناس ، وقال على بن أبى طلحة عن ابن عباس فى قوله تعالى  "  قم الليل الا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا " فشق ذلك على المؤمنين ثم خفف الله تعالى عنهم ورحمهم فأنزل بعد هذا " علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون فى الأرض يبتغون من فضل الله"  الى قوله تعالى " فاقرءوا ما تيسر منه " فوسع الله تعالى وله الحمد ولم يضيق .

يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ ١ قُمِ ٱلَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلٗا ٢ نِّصۡفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِيلًا ٣ أَوۡ زِدۡ عَلَيۡهِ وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا ٤ إِنَّا سَنُلۡقِي عَلَيۡكَ قَوۡلٗا ثَقِيلًا ٥ إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيۡلِ هِيَ أَشَدُّ وَطۡ‍ٔٗا وَأَقۡوَمُ قِيلًا ٦ إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبۡحٗا طَوِيلٗا ٧ وَٱذۡكُرِ ٱسۡمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلۡ إِلَيۡهِ تَبۡتِيلٗا ٨ رَّبُّ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَٱتَّخِذۡهُ وَكِيلٗا ٩

ٰٓ"يأَيُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ *  قُمِ ٱلَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلٗا " يعنى يا أيها النائم وقال قتادة المزمل فى ثيابه وقال ابراهيم النخعى نزلت وهو متزمل بقطيفة يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يترك التزمل وهو التغطى فى الليل أى يترك النوم وينهض الى القيام لربه عز وجل كما قال تعالى " تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهمخوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون " وكذلك كان صلى الله عليه وسلم ممتثلا ما أمره الله تعالى به من قيام الليل وقدكان واجبا عليه وحده كما قال تعالى " ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " وهنا بين له مقدار ما يقوم به ، "  نِّصۡفَهُۥٓ " بدل من الليل ، " أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِيلًا * أَوۡ زِدۡ عَلَيۡهِ " أى أمرناك أن تقوم نصف الليل بزيادة قليلة أو نقصان قليل لا حرج عليك فى ذلك ، " وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا " أى أقرأه على تمهل فانه يكون عونا على فهم القرآن وتدبره ، وكذلك كان يقرأ صلوات الله وسلامه عليه ، قالت عائشة رضى الله عنها كان يقرأ السور فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها ، وفى صحيح البخارى عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقل كانت مدا ثم قرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم ، عن أم سلمة رضى الله عنها أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت كان يقطع قراءته آية آية " بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك سوم الدين " وعن النبى صلى الله عليه وسلم قال " يقال لقارىء القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل فى الدنيا فان منزلتك عند آخر آية تقرؤها " وهناك أحاديث دالة على استحباب الترتيل وتحسين الصوت بالقراءة كما جاء فى الحديث " زينوا القرآن بأصواتكم - وليس منا من لم يتغن بالقرآن ولقد أوتى هذا مزمارا من مزامير آل داود " وعن ابن مسعود أنه قال " لا تنثروه نثر الرمل ولا تهذوه هذ الشعر ، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة " ، " إِنَّا سَنُلۡقِي عَلَيۡكَ قَوۡلٗا ثَقِيلًا " قال الحسن التقيل هو العمل به وهو القرآن وقيل ثقيل وقت نزوله من عظمته كما قال زيد بن ثابت رضى الله عنه وهو من كتاب الوحى أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذى فكادت ترض فخذى " وعن عبد الله بن عمرو قال سألت النبى صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله هل تحس بالوحى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك فما من مرة يوحى الى الا ظننت أن نفسى تقبض " وعن عائشة رضى الله عنها أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحى ؟ فقال " أحيانا يأتينى فى مثل صلصلة الجرس وهو أشده على فيفصم عنى وقد وعيت عنه ما قال ، وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلمنى فأعى ما يقول " قالت عائشة ولقد رأيته ينزل عليه الوحى صلى الله عليه وسلم فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه  وجبينه ليتفصد عرقا " هذا لفظه وعن هشام بن عروة عن أبيه أن النبى صلى الله عليه وسلم كان اذا أوحى اليه وهو على ناقته وضعت جرانها فما تستطيع أن تحرك حتى يسرى عنه ، والجران هو باطن العنق ، وقال ابن جرير أنه ثقيل من الوجهين معا وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم كما ثقل فى الدنيا ثقل يوم القيامة فى الموازين ، "   إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيۡلِ هِيَ أَشَدُّ وَطۡ‍ٔٗا وَأَقۡوَمُ قِيلًا " وعن ابن عباس قال نشأ قام بالحبشية وقال هو وغيره الليل كله ناشئه ، يقال نشأ اذا قام من الليل وفى رواية مجاهد بعد العشاء والغرض أن ناشئة الليل هى ساعاته وأوقاته وكل ساعة منه تسمى ناشئة وهى الآنات والمقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان وأجمع على التلاوة ولهذا قال تعالى " هى أشد وطأ وأقوم قيلا " أى أجمع للخاطر فى أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات وأوقات المعاش ،"  إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبۡحٗا طَوِيلٗا " قال السدى تطوعا كثيرا قال أبو العلية وغيره سبحا طويلا فراغا طويلا وقال قتادة فراغا وبغية ومتقلبا وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال لقضاء حوائجك فأفرغ لدينك الليل وهذا حين كانت صلاة الليل فريضة ثم ان الله تبارك وتعالى من على عباده فخففها ووضعها وقرا " قم الليل الا قليلا " الى آخر الآية ثم قال " ان ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثى الليل ونصفه " حتى يلغ " فاقرءوا ما تيسر منه " وقال تعالى " ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا "  ، " وَٱذۡكُرِ ٱسۡمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلۡ إِلَيۡهِ تَبۡتِيلٗا " التبتل هو الانقطاع لعبادة الله وسميت مريم بالبتول لانقطاعها للعبادة ومعنى تبتل أى انقطع وتفرغ للعبادة وقال ابن جرير يقال للعابد متبتل ومنه الحديث المروى نهى عن التبتل يعنى الانقطاع الى العبادة وترك التزوج  وقال ابن عباس وغيره أخلص له العبادة وقال الحسن اجتهد وأبتل اليه نفسك  أى أكثر من ذكره وانقطع اليه وتفرغ لعبادته اذا فرغت من أشغالك وما تحتاج اليه من أمور دنياك كما قال تعالى " فاذا فرغت فانصب " أى اذا فرغت من مهماتك فانصب فى طاعته لتكون فارغ البال ، "  رَّبُّ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَٱتَّخِذۡهُ وَكِيلٗا " أى هو المالك المتصرف فى المشارق والمغارب لا اله الا هو ، وكما أفردته بالعبادة فأفرده بالتوكل فاتخذه وكيلا كما قال فى الآية الأخرى " فاعبده وتوكل عليه " وكقوله " اياك بعبد واياك نستعين " وآيات كثيرة فى هذا المعنى فيها الأمر بافراد العبادة والطاعة لله وتخصيصه بالتوكل عليه .

وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱهۡجُرۡهُمۡ هَجۡرٗا جَمِيلٗا ١٠ وَذَرۡنِي وَٱلۡمُكَذِّبِينَ أُوْلِي ٱلنَّعۡمَةِ وَمَهِّلۡهُمۡ قَلِيلًا ١١ إِنَّ لَدَيۡنَآ أَنكَالٗا وَجَحِيمٗا ١٢ وَطَعَامٗا ذَا غُصَّةٖ وَعَذَابًا أَلِيمٗا ١٣ يَوۡمَ تَرۡجُفُ ٱلۡأَرۡضُ وَٱلۡجِبَالُ وَكَانَتِ ٱلۡجِبَالُ كَثِيبٗا مَّهِيلًا ١٤ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ رَسُولٗا شَٰهِدًا عَلَيۡكُمۡ كَمَآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ رَسُولٗا ١٥ فَعَصَىٰ فِرۡعَوۡنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذۡنَٰهُ أَخۡذٗا وَبِيلٗا ١٦ فَكَيۡفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرۡتُمۡ يَوۡمٗا يَجۡعَلُ ٱلۡوِلۡدَٰنَ شِيبًا ١٧ ٱلسَّمَآءُ مُنفَطِرُۢ بِهِۦۚ كَانَ وَعۡدُهُۥ مَفۡعُولًا ١٨

" وٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱهۡجُرۡهُمۡ هَجۡرٗا جَمِيلٗا " يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يقوله من كذبه من سفهاء قومه وأن يهجرهم هجرا جميلا وهو الذى لا عتاب معه ، "وَذَرۡنِي وَٱلۡمُكَذِّبِينَ أُوْلِي ٱلنَّعۡمَةِ " يقول الله تعالى متهددا كفار مكة ومتوعدا وهو العظيم الذى لا يقوم لغضبه شىء دعنى والمكذبين المترفين أصحاب الأموال فانهم على الطاعة أقدر من غيرهم وهم يطالبون من الحق بما ليس عند غيرهم ، " وَمَهِّلۡهُمۡ قَلِيلًا " أى أمهلهم رويدا كما قال تعالى " نمتعهم قليلا ثم نضطرهم الى عذاب غليظ " وكما قال فى سورة الطارق " فمهل الكافرين أمهلهم رويدا " ولهذا قال هنا " إِنَّ لَدَيۡنَآ أَنكَالٗا وَجَحِيمٗا *  وَطَعَامٗا ذَا غُصَّةٖ وَعَذَابًا أَلِيمٗا " يتحدث الله تعالى عن ما سوف يحل بالكافرين من عذاب فى جهنم أنه عز وجل أعد لهم الأنكال وهى القيود كما قال ابن عباس وغيره والجحيم وهى السعير المضطرمة وطعام ذا غصة قال ابن عباس ينشب فى الحلق فلا يدخل ولا يخرج وأعد لهم العذاب الأليم ، " يَوۡمَ تَرۡجُفُ ٱلۡأَرۡضُ وَٱلۡجِبَالُ وَكَانَتِ ٱلۡجِبَالُ كَثِيبٗا مَّهِيلًا " يتحدث الله عز وجل عن ما يحدث يوم القيامة من هول فالجبال تزلزل وتصير ككثبان الرمل بعد ما كانت حجارة صماء ثم أنها تنسف نسفا فلا يبقى منها شىء الا ذهب حتى تصير الأرض قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا أى واديا ولا أمتا أى رابية ومعناه لا شىء ينخفض ولا شىء يرتفع ، " إِنَّآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ رَسُولٗا شَٰهِدًا عَلَيۡكُمۡ " يقول تعالى مخاطبا لكفار قريش والمراد سائر الناس أرسلنا أى بعثنا لكم رسولا شاهدا عليكم أى بأعمالكم وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، " كَمَآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ رَسُولٗا * فَعَصَىٰ فِرۡعَوۡنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذۡنَٰهُ أَخۡذٗا وَبِيلٗا"  الأخذ الوبيل أى الشديد أى فاحذروا أنتم تكذبون هذا الرسول صلى الله عليه وسلم فيصيبكم ما أصاب فرعون حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر كما قال تعالى " فأخذه الله نكال الآخرة والأولى " وأنتم أولى بالهلاك والدمار ان كذبتم رسولكم لأن رسولكم أشرف وأعظم من موسى بن عمران ، " فَكَيۡفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرۡتُمۡ يَوۡمٗا يَجۡعَلُ ٱلۡوِلۡدَٰنَ شِيبًا " يحتمل أن يكون يوما معمولا لتتقون كما قال ابن جرير عن قراءة ابن مسعود فكيف لا تخافون أيها الناس يوما يجعل الولدان شيبا من أهواله وزلازله  تشيب منه الأولاد الصغار وهم الشباب ان كفرتم بالله ولم تصدقوا به ؟ ويحتمل أن يكون معمولا لكفرتم فعلى الأول كيف يحصل لكم أمان من يوم هذا الفزع العظيم ان كفرتم وعلى الثانى كيف يحصل لكم تقوى وحماية ان كفرتم يوم القيامة وجحدتموه وكلاهما معنى حسن وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ  "يوما يجعل الولدان شيبا " قال " ذلك يوم القيامة وذلك يوم يقول الله لآدم قم فابعث من ذريتك بعثا الى النار ، قال من كم يارب ؟ قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون وينجو واحد " فاشتد ذلك على المسلمين وعرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال حين أبصر ذلك فى وجوههم " ان بنى آدم كثير ، وان يأجوج ومأجوج من ولد آدم وانه لا يموت منهم رجل حتى ينتشر لصلبه ألف رجل ففيهم وفى أشباههم جنة لكم " وهذا حديث غريب ،" ٱلسَّمَآءُ مُنفَطِرُۢ بِهِۦ" قال الحسن وقتادة بسبب هذا اليوم من شدته وهوله تنفطر السماء أى تتشق وتتصدع وتزول ، ومنهم من يعيد الضمير على الله تعالى ولكن ليس بقوى ، "  كَانَ وَعۡدُهُۥ مَفۡعُولًا " أى كان وعد هذا اليوم مفعولا أى واقعا لا محالة وكائنا لا محيد عنه  .

إِنَّ هَٰذِهِۦ تَذۡكِرَةٞۖ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِيلًا ١٩ ۞إِنَّ رَبَّكَ يَعۡلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدۡنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيۡلِ وَنِصۡفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَۚ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحۡصُوهُ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرۡضَىٰ وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنۡهُۚ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗاۚ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيۡرٗا وَأَعۡظَمَ أَجۡرٗاۚ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمُۢ ٢٠

" إِنَّ هَٰذِهِ" يقول تعالى أن هذه السورة ، " تَذۡكِرَة" أى يتذكر بها أولوا الألباب ولهذا قال تعالى " فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِيلًا " أى فمن شاء الله تعالى هدايته كما قال فى سورة أخرى " وما تشاءون الا أن يشاء الله ان الله كان عليما حكيما " ،  "إِنَّ رَبَّكَ يَعۡلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدۡنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيۡلِ وَنِصۡفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَۚ" يتحدث الله تعالى عن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كانوا معه من الصحابة فى صلاة قيام الليل فتارة كانت أقل من ثلتى الليل وتارة نصفه وتارة ثلثه وذلك كله من غير قصد منكم ولكن لا تقدرون على المواظبة على ما أمركم به من قيام الليل لأنه يشق عليكم ولهذا قال " وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ" أى الله عز وجل هو الذى يحدد طول الليل والنهار فتارة يعتدلان وتارة يأخذ هذا من هذا وهذا من هذا ففى الصيف يقصر الليل ويطول النهار وفى الشتاء يطول الليل ويقصر النهار وبذك كان يحكم صلاة الليل أو التهجدج من حيث الطول والقصر هوطول الليل نفسه وهما أى الليل والنهار فى طولهما وقصرهما من تدبير الله عز وجل وهو الذى يقدرهما ، "عَلِمَ أَن لَّن تُحۡصُوهُ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۖ " الله عز وجل علم أن الفرض الذى أوجبه عليكم لن تستطيعوا أن تقوموا به لأنه يشق عليكم فقبل منكم التوبة أى الرجوع فى هذا الأمر وعدم فرضه عليكم وتركه تطوعا ، " فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِۚ" أى من غير تحديد بوقت أى ولكن قوموا من الليل ما تيسر ، وعبر عن الصلاة بالقراءة كما قال تعالى فى سورة الاسراء " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها  " أى بقراءتك وقد استدل أصحاب الامام أبى حنيفة بهذه الآية وهى قوله تعالى " فاقرءوا ما تيسر من القرآن " على أنه لا تتعين قراءة الفاتحة فى الصلاة بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن ولو بآية أجزأه ولكن الجمهور أجاب بحديث عبادة بن الصامت وهو فى الصحيحين أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " وعن أبى هريرة فى صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهى خداج فهى خداج فهى خداج غير تمام " ، " عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرۡضَىٰ وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ" أى علم الله تعالى أن سيكون من هذه الأمة ذوو أعذار فى ترك قيام الليل من مرضى لا يستطيعون ذلك ومسافرين فى الأرض يبتغون من فضل الله فى المكاسب والمتاجر وآخرين مشغولين بما هو الأهم فى حقهم من الغزو فى سبيل الله ، وهذه الآية بل السورة كلها مكية ولم يكن القتال شرع بعد فهى من أكبر دلائل النبوة لأنه من باب الاخبار بالمغيبات المستقبلة ولهذا قال تعالى "فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنۡهُۚ" أى قوموا الى الصلاة وأدوها بما تيسر عليكم من القرآن قال أبو سعيد ولو خمس آيات  ، "وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ " أى أقيموا صلاتكم الواجبة عليكم وآتوا الزكاة المفروضة ، وهذا بدل لمن قال بأن فرض الزكاة نزل بمكة لكن مقادير النصب والمخرج لم تبين الا بالمدينة والله أعلم ، وقال ابن عباس وغيره أن هذه الآية نسخت الذى كان الله قد أوجبه على المسلمين أولا من قيام الليل ، واختلفوا فى المدة التى بينهما على أقوال كما تقدم وقد ثبت فى الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لذلك الرجل " خمس صلوات فى اليوم والليلة " قال هل على غيرها ؟ قال " لا الا أن تطوع " ، " وَأَقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا "  يعنى من الصدقات يقول عز وجل مشبها ما يقدم من الصدقات بالقرض الحسن أى الذى يقدم العبد يرده الله له والحسنة بعشرة أمثالها الى سبعمائة ضعف فهو كالقرض المال الذى يؤخذ ويرد الى صاحبه والله بكرمه وسخائه يرده للعبد وهو الغنى عن عباده وهو الرزاق أضعافا مضاعفة كما قال تعالى " من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة " وقوله تعالى " وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيۡرٗا وَأَعۡظَمَ أَجۡرٗا" أى جميع ما تقدموه بين أيديكم فهو لكم حاصل وهو خير مما أبقيتموه لأنفسكم فى الدنيا ، " وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمُۢ " أى أكثروا من ذكر الله تعالى واستغفاره فى أموركم كلها فانه غفور لمن استغفره يقبل منه التوبة برحمته .

تفسير الجزء التاسع والعشرين

تفسير سورة المدثر

سورة المدثر سورةمكية ، عدد آياتها 65 آية ، وآياتها قصيرة مثل السور المكية ، وتتحدث عن ما حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم من زول المحى قال جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " جاورت بحراء فلما قضيت جوارى هبطت فنوديت فنظرت عن يمينى فلم أر شيئا ونظرت عن شمالى فلم أر شيئا ونظرت أمامى فلم أر شيئا ونظرت خلفى فلم أر شيئا فرفعت رأسى فرأيت شيئا فأتيت خديجة فقلت دثرونى وسبوا على ماء باردا فدثرونى وصبوا على ماءا باردا فنزلت " يا أيها المدثر * قم فأنزر * وربك فكبر " وفى قول آخر عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحى فقال فى حديثه " فبينا أنا أمشى اذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصرى قبل السماء فاذا الملك الذى جاءنى بحراء قاعد على كرسى بين السماء والأرض فجثيت منه حتى هويت الى الأرض فجئت الى أهلى فقلت زملونى زملونى فدثرونى فأنزل الله تعالى " يا أيها المدثر * قم فأنزر " الى " فاهجر " وهو يقتضى ـنه نزل الوحى قبل هذا لقوله" فاذا الملك الذى جاءنى بحراء " وهوجبريل حين أتاه بقوله " اقرأ باسم ربك الذى خلق خلق الانسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذى علم بالقلم * علم الانسان ما لم يعلم " ثم انه حصل بعد هذا فترة ثم نزل الملك بعد هذا ، ووجه لجمع أن أول شىء نزل بعد فترة الوحى هذه السورة وفى قول آخر عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ثم فتر الوحى عنى فترة فبينا أنا أمشى سمعت صوتا من السماء فرفعت بصرى قبل السماء فاذا الملك الذى جاءنى قاعد على كرسى بين السماء والأرض فجثيت منه فرقا حتى هويت الى الأرض فجئت أهلى فقلت لهم زملونى زملونى فزملونى فأنزل الله تعالى " يا أيها المدثر * قم فأنزر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر " ثم حمى الوحى وتتابع . وعن ابن أبى مليكة يقول سمعت ابن عباس يقول ان الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما فلما أكلوا منه قال ما تقولون فى هذا الرجل ؟ فقال بعضهم ساحر ، وقل بعضهم ليس بساحر ، وقال بعضهم كاهن ، وقال بعضهم ليس بكاهن ، وقال بعضهم شاعر ، وقال بعضهم ليس بشاعر ، وقال بعضهم بل سحر يؤثر فأجمع رايهم على أنه سحر يؤثر فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فحزن وقنع راسه وتدثر فأنزل الله تعالى " يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر " ، وتتحدث السورة عن أهوال يوم القيامة وما يحدث فيه .

يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ ١ قُمۡ فَأَنذِرۡ ٢ وَرَبَّكَ فَكَبِّرۡ ٣ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرۡ ٤ وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ ٥ وَلَا تَمۡنُن تَسۡتَكۡثِرُ ٦ وَلِرَبِّكَ فَٱصۡبِرۡ ٧ فَإِذَا نُقِرَ فِي ٱلنَّاقُورِ ٨ فَذَٰلِكَ يَوۡمَئِذٖ يَوۡمٌ عَسِيرٌ ٩ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ غَيۡرُ يَسِيرٖ ١٠

الحديث للرسول صلى الله عليه وسلمَٰ والخطاب له " ٓيأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ * قُمۡ فَأَنذِر أى المتغطى دعوة له للنهوض حتى يقوم بما يأمره الله ويكلفه به من بلاغ وانذار لقومه من كفار قريش ومعناه أى شمر عن ساق العزم وأنذر الناس وبهذا حصل الارسال كما حصل الأول بالنبوة ، " وَرَبَّكَ فَكَبِّرۡ " أى عظم الله سبحانه وتعالى ، "  وَثِيَابَكَ فَطَهِّرۡ " قال محمد بن سيرين أى اغسلها بالماء ، وقال ابن زيد كان المشركون لا يتطهرون فأمره الله أن يتطهر وأن يطهر ثيابه وقد تشمل الاية جميع الطهارة بما فى ذلك طهارة القلب وقال سعيد بنجبير وقلبكونيتك فطهر وقال الحسنالبصرى وخلقك فحسن وقال ابن عباس من الاثم وقال مجاهد طهر نفسك وليس ثيابك وكذلك قال أى عملك فأصلح وقال قتادة أى طهرها من المعاصى وكانت العرب تسمى الرجل اذا نكث ولم يف بعهد الله انه لدنس الثياب واذا وفى وأصلح انه لمطهر الثياب وقال ابن عباس فى كلام العرب نقى الثياب وفى رواية فطهر من الذنوب ،" وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ " قال ابن عباس الرجز هو الأصنام وقال مجاهد وغيره انها الأوثان فهو عز وجل يأمره بترك الأوثان والأصنام وقال ابراهيم والضحاك أى اترك المعصية كقوله تعالى " يا أيها النبى اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين " وكقوله " وقال موسى لأخيه هارون اخلفنى فى قومى وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين " ، " وَلَا تَمۡنُن تَسۡتَكۡثِرُ " قال ابن عباس لا تعط العطية تلتمس أكثر منها  وقال الحسن البصرى لا تمتن بعملك على ربك تستكثره وقال مجاهد لا تضعف أن تستكثر من الخير قال تمنن فى لغة العرب تضعف وقال ابنة زيد لا تمنن بالنبوة على الناس تسنكثرهم بها تأخذ عليه عوضا من الدنيا فهذه أربعة أقوال والأظهر القول الأول والله أعلم ، " وَلِرَبِّكَ فَٱصۡبِرۡ " أى اجعل صبرك على أذى المشركين والكفار وغيرهم وعلى ما تتحمله فى سبيل الدعوة لوجه الله تبارك وتعالى وقال ابراهيم النخعى اصبر عطيتك لله عز وجل ، " فَإِذَا نُقِرَ فِي ٱلنَّاقُورِ "  قال ابن عباس وغيره الناقور الصور وقال مجاهد وهو كهيئة القرن وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحتى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ ؟ فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال " قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا " ،"  فَذَٰلِكَ يَوۡمَئِذٖ يَوۡمٌ عَسِيرٌ " اليوم هو يوم القيامة يصفه الله عز وجل بأنه يوم عسير أى شديد ، " عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ غَيۡرُ يَسِير" يوم غير سهل على الكافرين كما قال تعالى " يقول الكافرون هذا يوم عسر " .

ذَرۡنِي وَمَنۡ خَلَقۡتُ وَحِيدٗا ١١ وَجَعَلۡتُ لَهُۥ مَالٗا مَّمۡدُودٗا ١٢ وَبَنِينَ شُهُودٗا ١٣ وَمَهَّدتُّ لَهُۥ تَمۡهِيدٗا ١٤ ثُمَّ يَطۡمَعُ أَنۡ أَزِيدَ ١٥ كَلَّآۖ إِنَّهُۥ كَانَ لِأٓيَٰتِنَا عَنِيدٗا ١٦ سَأُرۡهِقُهُۥ صَعُودًا ١٧ إِنَّهُۥ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ١٨ فَقُتِلَ كَيۡفَ قَدَّرَ ١٩ ثُمَّ قُتِلَ كَيۡفَ قَدَّرَ ٢٠ ثُمَّ نَظَرَ ٢١ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ٢٢ ثُمَّ أَدۡبَرَ وَٱسۡتَكۡبَرَ ٢٣ فَقَالَ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ يُؤۡثَرُ ٢٤ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا قَوۡلُ ٱلۡبَشَرِ ٢٥ سَأُصۡلِيهِ سَقَرَ ٢٦ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا سَقَرُ ٢٧ لَا تُبۡقِي وَلَا تَذَرُ ٢٨ لَوَّاحَةٞ لِّلۡبَشَرِ ٢٩ عَلَيۡهَا تِسۡعَةَ عَشَرَ ٣٠

المذكور فى هذا السياق هو الوليد بن المغيرة المخزومى أحد رؤساء قريش وكان فى خبره ما روى عن ابن عباس قال دخل الوليد بن المغيرة على أبى بكر بن أبى قحافة فساله عن القرآن فلما أخبره خرج على قريش فقال يا عجبا لما يقول ابن أبى كبشة ( يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم ) فو الله ما هو بشعر ولا بسحر ولا بهذى من الجنون وان قوله لمن كلام الله فلما سمع بذلك النفر من قريش ائتمروا وقالوا والله لئن صبأ الوليد لتصبون قريش فلما سمع بذلك أبوجهل بن هشام قال أنا والله أكفيكم شأنه فانطلق حتى دخل عليه بيته فقال الوليد ألم تر الى قومك قد جمعوا لك الصدقة ؟ فقال ألست بأكثرهم مالا وولدا ؟ فقال له أبو جهل يتحدثون أنك انما تدخل على ابن أبى قحافة لتصيب من طعامه فقال الوليد أقد تحدث به عشيرتى ؟ فلا والله لا أقرب ابن أبى قحافة ولا عمر ولا ابن أبى كبشة وما قوله الا سحر يؤثر فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم الآيات الى قوله " لا تبقى ولا تذر " وعن عكرمة أن الوليد بن المغيرة جاء الى النبى صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام فأتاه فقال أى عم ات قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ، قال لم ؟ قال يعطونكه فانك أتيت محمدا تتعرض لما قبله ، قال قد علمت قريش أنى أكثرهم مالا ، قال فقيل فيه قولا يعلم قومك أنك منكر لما قال وانك كاره له ، قال فماذا أقول فيه ؟ فو الله ما منكم رجل أعلم بالأشعار منى ولا أعلم برجزه ور بقصيده ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذى يقوله شيئا من هذا ، والله ان لقوله الذى يقوله لحلاوة ، وانه ليحطم ما تحته وانه ليعلو وما يعلى ، وقال والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه ، قال فدعنى حتى أفكر فيه ، فلما فكر قال : ان هذا الا سحر يؤثره عن غيره فنزلت " ذرنى ومن خلقت وحيدا " حتى بلغ " تسعة عشر " ، وقد زعم السدى أنهم لما اجتمعوا فى دار الندوة ليجمعوا رأيهم على قول يقولونه فيه قبل أن يقدم عليهم وفود العرب للحج ليصدوهم عنه فقال قائلون شاعر وقال آخرون ساحر وقال آخرون كاهن وقال آخرون كجنون كما قال تعالى " انظركيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " كل هذا والوليد يفكر فيما يقوله فيه ففكر وقدر ونظر وعبس وبسر فقال ان هذا الا سحر يؤثر ان هذا الا قول البشر قال الله تعالى " سأصليه سقر " أى سأغمره فيها من جميع جهاته ثم قال تعالى " وما أدراك ما سقر " وهذا تهويل لأمره وتفخيم ثم فسر ذلك بقوله تعالى " لا تبقى ولا تذر " أى تأكل لحومهم وعروقهم وعصبهم وجلودهم ثم تبدل ذير ذلك وهم فى ذلك لا يموتون ولا يحيون  ، يقول تعالى متوعدا لهذا الخبيث الذى أنعم عليه بنعم الدنيا فكفر بأنعم الله وبدلها كفرا وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها وجعلها من قول البشر وقد عدد الله عليه نعمه حيث قال تعالى  " ذَرۡنِي وَمَنۡ خَلَقۡتُ وَحِيدٗا " يقول الله عز وجل مهددا المغيرة فيما قال دع أمره لى وحدىلمن خرج من بطن أمه وحده لا مال له ولا ولد ثم رزقه الله تعالى  وكان يقال أن الوليد لم يكن له أخوة وكان وحيدا ، "  وَجَعَلۡتُ لَهُۥ مَالٗا مَّمۡدُودٗا " أى جعلت له مالا واسعا كثيرا قيل ألف دينار وقيل مائة ألف دينار وقيل أرضا يستغلها وقيل غير ذلك وجعل له " وَبَنِينَ شُهُودٗا " قال مجاهد لا يغيبون أى حضورا عنده لا يسافرون بالتجارات بل مواليهم وأجراؤهم يتولون ذلك عنهم وهم قعود عند أبيهم يتمتع بهم ويتملى بهم وكان فيما ذكره السدى وغيره ثلاثة عشر وقال ابن عباس ومجاهد كانوا عشرة وهذا أبلغ فى النعمة وهو اقامتهم عنده وفى عصرنا الحالى نعانى من هذه المشكلة فالأولاد يكبرون وينفصلون عن آبائهم وهم فى سن الشيخوخة وفى أمس الحاجة اليهم ولا يتواصلون معهم ولو بالمشاهدة لهم من قريب أو بعيد بل هناك من يدع أبويه دار مسنين حتى يستريح منهم وهم فى سن الشيخوخة وقد استغنى عنهم فكان الوليد كثير المال  والأولاد تحيطه نعمة المال والبنون وهى زينة الحياة الدنيا كما قال تعالى " المال والبنون زينة الحياة الدنيا " ، " وَمَهَّدتُّ لَهُۥ تَمۡهِيدٗا " يقول الله عز وجل عن الوليد أنى مكنته من صنوف المال والأثاث وغير ذلك فأصبحت حياته ممهدة ميسرة واستخدم التوكيد لتأكيد هذه النعمة التى كان فيها ، " ثُمَّ يَطۡمَعُ أَنۡ أَزِيدَ " وهو مثل غيره من البشر اذا أوتى من نعيم الدنيا يقول هل من مزيد فهو لايشبع وبخاصة اذا كان كافرا والدنيا هى مبتغاة فهو لا يؤمن بالآخرة ولا يقدم لها وكل ما أعطى من الدنيا تمنى المزيد لأن ذلك يكسبه الجاه والسلطان ، " كَلَّآۖ إِنَّهُۥ كَانَ لِأٓيَٰتِنَا عَنِيدٗا " يعقب الله تعالى على ذلك بالنفى أنه سيلقى ما يستحقه من ربه لأنه كان معاند وهو الكفر على نعمه بعد العلم وفصل الله تعالى ذلك بقوله "  سَأُرۡهِقُهُۥ صَعُودًا " الارهاق هو المشقة التى سوف يلاقيها من العذاب فهو سيكون فى عذاب شاق من تصعده فى نار جهنم وقال مجاهد " سأرهقه صعودا " أى مشقة من العذاب وقال قتادة عذابا لا راحة فيه وعن أبى سعيد عن النبى صلى الله عليه وسلم " سأرهقه صعودا " قال " هو جبل فى النار يكلف أن يصعده فاذا وضع يده ذابت ، واذا رفعها عادت فاذا وضع رجله ذابت واذا رفعها عادت " وقال قتادة عن ابن عبايس صعودا صخرة فى جهنم يسحب عليها الكافر على وجهه وقال السدى صعودا صخرة ملساء فى جهنم يكلف أن يصعدها ونحن نعلم أن السقوط عندما يكون من أعلى يكون أشد ألما حين يصعد الشخص مكان مرتفع ثم يتردى منه ويسقط ويستمر فى السقوط فهذا أشد فى العذاب فالعذاب هنا مضاعف عذاب مشقة الصعود والعذاب من التردى والسقوط من أعلى فما قاله القرآن أبلغ ، " إِنَّهُۥ فَكَّرَ " أى انما أرهقناه صعودا أى قربناه من العذاب الشاق لبعده عن الايمان لأنه فكر وقد رأى تروى ماذا يقول فى القرآن حين سئل عن القرآن ففكر ماذا يخلق من المقال ، " وَقَدَّرَ " أى تروى  تتحدث الآية عن ما فعله الوليد حينا سأل عن ما قاله فى القرآن وتراجع عن قوله ففكر ما يقوله واستغرق فى التفكير وقال قتادة : زعموا أنه قال والله لقد نظرت فيما قال الرجل فاذا هو ليس بشعر وان له لحلاوة ، وان عليه لطلاوة ، وانه ليعلوا وما يعلى عليه وما أشك أنه سحر فانزل الله " فَقُتِلَ كَيۡفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيۡفَ قَدَّرَ " دعاء عليه من الله عز وجل مضاعف له بالهلاك لتفكيره السىء وكيف كان هذا التفكير من بحث عن السوء الذى يرمى به القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم من صفة يبرر بها ما قال ويتراجع عما قاله من قبل وهذا يبرز عناد الكافر وهو يعرف الحق ولكنه يؤثر منافع الدنيا وينكص عن قول الحق ، "  ثُمَّ نَظَرَ ، " أى أعاد النظرة والتروى  "ثُمَّ عَبَسَ "  قبض ما بين عينيه وقطب ، " وَبَسَرَ " أى كلح وكره ، "   ثُمَّ أَدۡبَرَ وَٱسۡتَكۡبَرَ " أى صرف عن الحق ورجع القهقرى مستكبرا عن الانقياد للقرآن ، " فَقَالَ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ يُؤۡثَرُ " ينقل الله تعالى ما قاله الوليد عن القرآن أن هذا سحر ينقله محمد عن غيره عمن قبله ويحكيه عنهم ولهذا قال " إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا قَوۡلُ ٱلۡبَشَرِ " أى ليس بكلام الله ،" سَأُصۡلِيهِ سَقَرَ " سقر هو اسم من أسماء النار يقول عز وجل سأغمره فيها من جميع جهاته ثم قال تعالى " وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا سَقَرُ " هذا تهويل لأمرها وتفخيم من هولها ثم فسر تعالى ذلك بقوله " لَا تُبۡقِي وَلَا تَذَرُ " أى أنها تأكل لحوم من يلقون فيها وعروقهم وعصبهم وجلودهم ثم تبدل غير ذلك وهم فى ذلك لا يموتون ولا يحيون ، "  لَوَّاحَةٞ لِّلۡبَشَرِ " قال قتادة لواحة أى حراقة للجلد للبشر قال مجاهد أى الجلد وقال ابن عباس تحرق بشرة الانسان وقال أبو رزين : تلفح الجلد لفحة فتدعه أسود من الليل ، " عَلَيۡهَا تِسۡعَةَ عَشَرَ " أى من القدمى الزبانية عظيم خلقهم غليظ خلقهم وهم خزنة جهنم وعن البراء فى قوله تعالى " عليها تسعة عشر " قال ان رهطا من اليهود سألوا رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم فقال الله ورسوله أعلم فجاء رجل فأخبر النبى صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى عليه ساعتئذ " عليها تسعة عشر " فأخبر أصحابه .

وَمَا جَعَلۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَٰٓئِكَةٗۖ وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسۡتَيۡقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَيَزۡدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِيمَٰنٗا وَلَا يَرۡتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ ٣١ كَلَّا وَٱلۡقَمَرِ ٣٢ وَٱلَّيۡلِ إِذۡ أَدۡبَرَ ٣٣ وَٱلصُّبۡحِ إِذَآ أَسۡفَرَ ٣٤ إِنَّهَا لَإِحۡدَى ٱلۡكُبَرِ ٣٥ نَذِيرٗا لِّلۡبَشَرِ ٣٦ لِمَن شَآءَ مِنكُمۡ أَن يَتَقَدَّمَ أَوۡ يَتَأَخَّرَ ٣٧

ذلك رد على مشركى قريش حين ذكروا عدد الخزنة فقال أبوجهل يا معشر قريش أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم ؟ فقال الله تعالى " وَمَا جَعَلۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلنَّارِ " أى شديدى الخلق لا يقاومون ولا يغالبون يقول تعالى ما جعلنا أصحاب جهنم أى خزانها ، " إِلَّا مَلَٰٓئِكَة" أى زبانية غلاظا شدادا  وقد قيل أن ابا الأشدين واسمه كلدة بن أسيد بن خلف قال : يا معشر قريش اكفونى منهم اثنين وأنا أكفيكم منهم سبعة عشر اعجابا منه بنفسه ، وكان قد بلغ من القوة فيما يزعمون أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينزعوه من تحت قدميه فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه ، قال السهيلى وهو الذى دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الى مصارعته وقال ان صرعتنى آمنت بك فصرعه النبى صلى الله عليه وسلم مرارا فلم يؤمن ، وقد نسب ابن اسحاق خبر المصارعة الى ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب ولا منافاة بين ما ذكراه ، " وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ " يتحدث الله عز وجل انما ذكرنا عدتهم أنهم تسعة عشر اختبارا منا للناس ،" لِيَسۡتَيۡقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ " أى ليعلم أهل الكتاب أن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم حق فانه نطق بمطابقة ما بأيديهم من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء قبله ، "وَيَزۡدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِيمَٰنٗا" أى يزداد المؤمنون ايمانا الى ايمانهم بما يشهدون من صدق اخبار نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، " وَلَا يَرۡتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۚ" يعقب الله تعالى كذلك أن هذا الذى ذكره عن الملائكة حتى يمنع الريبة والشك من أهل الكتاب ومن المؤمنين وحتى لا يقول الذين فى قلوبهم مرض من المنافقين والكافرين ما الحكمة فى ذكر هذا هنا ؟ وقال تعالى معقبا " كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُ" أى من مثل هذا الموقف وأشباهه يتأكد الايمان فى قلوب أقوام ويتزلزل عند آخرين وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة ، " وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ" ويقول عز وجل معقبا كذلك أنه ما يعلم عدد جنود ربك أى ملائكته وكثرتهم الا هو تعالى لئلا يتوهم متوهم أنهم تسعة عشر فقط كما قد قاله طائفة من أهل الضلالة والجهالة من الفلاسفة اليونانيين ومن شايعهم من الملتين الذين سمعوا هذه الآية فأرادوا تنزيلها على العقول العشرة والنفوس التسعة التى اخترعوا دعواها وعجزوا عن اقامة الدلالة على مقتضاها ، فأفهموا صدر هذه الآية وقد كفروا بآخرها وهو قوله " وما يعلم جنود ربك الا هو "  وقد ثبت فى حديث الاسراء المروى فى الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فى صفة البيت المعمور الذى فى السماء السابعة " فاذا هو يدخله فى كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون اليه آخر ما عليهم " وعن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما فى السموات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف الا وفيه ملك قائم أوملك ساجد أوملك راكع فاذا كان يوم القيامة قالوا جميعا سبحانك ما عبدناك حق عبادتك الا أنا لم نشرك بك شيئا"  ،"وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ " قال مجاهد وغيره " وما هى " أى النار التى وصفت ما هى الا تذكرة للبشر وعبرة لمن يعتبر ويوقن ويعقب عز وجل مؤكدا ذلك بالقسم فيما بعدها " كَلَّا وَٱلۡقَمَرِ * وَٱلَّيۡلِ إِذۡ أَدۡبَرَ * وَٱلصُّبۡحِ إِذَآ أَسۡفَرَ"  يقسم الله عز وجل وله الحق فيما يقسم عليه من آياته من حركة القمر والليل وحلوله وتوليه وذهابه  وظهور الصبح واشراقه وهذه آية من آيات الله التى تبرز قدرته فيما يصير فى الكون وقدرته عليه على أن النار حق فقال "  إِنَّهَا لَإِحۡدَى ٱلۡكُبَرِ " يقسم عز وجل أن النار هى واحدة من العظائم والأمور الكبيرة وهذا تهديد من الله تعالى وتوعد لمن كفر من البشر ، " نَذِيرٗا لِّلۡبَشَرِ * لِمَن شَآءَ مِنكُمۡ أَن يَتَقَدَّمَ أَوۡ يَتَأَخَّرَ " هذه النار انذار من الله تعالى بسوء العاقبة لمن شاء أن يتقدم أى يقبل النذارة ويهتدى للحق أو يتأخر عنه ويولى ويردها .

كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡ رَهِينَةٌ ٣٨ إِلَّآ أَصۡحَٰبَ ٱلۡيَمِينِ ٣٩ فِي جَنَّٰتٖ يَتَسَآءَلُونَ ٤٠ عَنِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ ٤١ مَا سَلَكَكُمۡ فِي سَقَرَ ٤٢ قَالُواْ لَمۡ نَكُ مِنَ ٱلۡمُصَلِّينَ ٤٣ وَلَمۡ نَكُ نُطۡعِمُ ٱلۡمِسۡكِينَ ٤٤ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلۡخَآئِضِينَ ٤٥ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوۡمِ ٱلدِّينِ ٤٦ حَتَّىٰٓ أَتَىٰنَا ٱلۡيَقِينُ ٤٧ فَمَا تَنفَعُهُمۡ شَفَٰعَةُ ٱلشَّٰفِعِينَ ٤٨ فَمَا لَهُمۡ عَنِ ٱلتَّذۡكِرَةِ مُعۡرِضِينَ ٤٩ كَأَنَّهُمۡ حُمُرٞ مُّسۡتَنفِرَةٞ ٥٠ فَرَّتۡ مِن قَسۡوَرَةِۢ ٥١ بَلۡ يُرِيدُ كُلُّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُمۡ أَن يُؤۡتَىٰ صُحُفٗا مُّنَشَّرَةٗ ٥٢ كَلَّاۖ بَل لَّا يَخَافُونَ ٱلۡأٓخِرَةَ ٥٣ كَلَّآ إِنَّهُۥ تَذۡكِرَةٞ ٥٤ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُۥ ٥٥ وَمَا يَذۡكُرُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ هُوَ أَهۡلُ ٱلتَّقۡوَىٰ وَأَهۡلُ ٱلۡمَغۡفِرَةِ ٥٦

" كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡ رَهِينَةٌ " يقول الله عزوجل أن كل نفس معتقلة بعملها يوم القيامة رهن به ، " إِلَّآ أَصۡحَٰبَ ٱلۡيَمِينِ * فِي جَنَّٰتٖ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ " أصحاب اليمين هم من يدخلون الجنة وهم فى الغرفات مكرمين يسألون المجرمين وهم من دخلوا النار فيقولون لهم " مَا سَلَكَكُمۡ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمۡ نَكُ مِنَ ٱلۡمُصَلِّينَ *  وَلَمۡ نَكُ نُطۡعِمُ ٱلۡمِسۡكِينَ " أى ما الذى أدخلكم النار لأن سقر اسم من أسماء النار فيردون بقولهم أى لم نكن نصلى ولم نعطى الذين يستحقون حقهم من الذى أنعم الله به علينا فنمنع من يستحق الاطعام وهو المسكين وهو أقل درجة من الفقير فهو الذى لا يجد حتى قوت يومه وهذا تخصيص من تعميم فهم يبخلون على الجميع وحتى من لا يجد طعامه والسورة مكية لم تكن قد فرضت الزكاة  وهذا ابلاغ من الله تعالى وسبق بما سيفرض ، " وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلۡخَآئِضِينَ " ومن صفاتهم أنهم كانوا يتكلمون فيما لا يعلمون وقال قتادة : كلما غوى غاو غوينا معه ، " وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوۡمِ ٱلدِّينِ * حَتَّىٰٓ أَتَىٰنَا ٱلۡيَقِينُ " ومن صفاتهم أنهم كانوا يكذبون بالبعث وبيوم القيامة حتى دهمهم الموت أى لآخر لحظة فى حياتهم وهذا كقوله " واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عثمان بن مظعون بعد استشهاده " أما هو - يعنى عثمان بن مظعون - فقد جاءه اليقين من ربه " ، " فَمَا تَنفَعُهُمۡ شَفَٰعَةُ ٱلشَّٰفِعِينَ"  أى من كان متصفا بمثل هذه الصفات فانه لا تنفعه يوم القيامة شفاعة شافع لأن الشفاعة انما تنجع اذا كان المحل قابلا فأما من وافى الله كافرا يوم القيامة فان له نار جهنم لا محالة خالدا فيها ، "  فَمَا لَهُمۡ عَنِ ٱلتَّذۡكِرَةِ مُعۡرِضِينَ " أى فما لهؤلاء الكفرة الذين قبلك مما تدعوهم اليه وتذكرهم به معرضين ،  "كَأَنَّهُمۡ حُمُرٞ مُّسۡتَنفِرَة* فَرَّتۡ مِن قَسۡوَرَةِۢ " قسورة اسم من أسماء الأسد وقال ابن عباس الأسد بالعربية ويقال له بالحبشية قسورة وبالفارسية شير وبالنبطية أويا وهذا تشبيه للكفار واعراضهم عن الحق كأنهم فى نفارهم عن الحق واعراضهم عنه حمر من حمر الوحش اذا فرت ممن يريد صيدها من أسد ، "  بَلۡ يُرِيدُ كُلُّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُمۡ أَن يُؤۡتَىٰ صُحُفٗا مُّنَشَّرَة" أى بل يريد كل واحد من هؤلاء المشركين أن ينزل عليه كتاب كما أنزل على النبى صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى " واذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته " وقال قتادة يريدون أن يؤتوا براءة بغير عمل ، " كَلَّاۖ بَل لَّا يَخَافُونَ ٱلۡأٓخِرَةَ " أى ان ما أفسدهم عدم ايمانهم بالآخرة وتكذيبهم بوقوعها ، " كَلَّآ إِنَّهُۥ تَذۡكِرَة" ويقول عز وجل حقا ان القرآن تذكرة ، " فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُۥ * وَمَا يَذۡكُرُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ" يتحدث الله عز وجل انه حسب مشيئته هو يهدى الى هذا الذكر وما جاء به من هدى وهو القرآن وأكد ذلك ان ليس لأحد مشيئة الا بتقدير الله وحده فهو يهدى من يشاء  كقوله تعالى " وما تشاءون الا أن يشاء الله " ، "هُوَ أَهۡلُ ٱلتَّقۡوَىٰ وَأَهۡلُ ٱلۡمَغۡفِرَةِ " يتحدث الله عز وجل أنه هو أهل أى مستحق أن يخاف منه وهو أهل أى قادر على أن يغفر ذنب من تاب اليه وأناب .

تفسير الجزء التاسع والعشرين

تفسير سورة القيامة

سورة القيامة سورة مكية ، وهى من اسمها تتحدث عن يوم القيامة وما يحدث فيه ، وعدد آياتها 40 آية ، وهى من قصار السور ، وفيها من سمات السور المكية التى تتحدث عن ما يحدث فى يوم القيامة لأن المشركين كانوا ينكرون البعث .

لَآ أُقۡسِمُ بِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ ١ وَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلنَّفۡسِ ٱللَّوَّامَةِ ٢ أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَلَّن نَّجۡمَعَ عِظَامَهُۥ ٣ بَلَىٰ قَٰدِرِينَ عَلَىٰٓ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُۥ ٤ بَلۡ يُرِيدُ ٱلۡإِنسَٰنُ لِيَفۡجُرَ أَمَامَهُۥ ٥ يَسۡ‍َٔلُ أَيَّانَ يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ ٦ فَإِذَا بَرِقَ ٱلۡبَصَرُ ٧ وَخَسَفَ ٱلۡقَمَرُ ٨ وَجُمِعَ ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ ٩ يَقُولُ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذٍ أَيۡنَ ٱلۡمَفَرُّ ١٠ كَلَّا لَا وَزَرَ ١١ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡمُسۡتَقَرُّ ١٢ يُنَبَّؤُاْ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذِۢ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ١٣ بَلِ ٱلۡإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ بَصِيرَةٞ ١٤ وَلَوۡ أَلۡقَىٰ مَعَاذِيرَهُۥ ١٥

" لَآ أُقۡسِمُ بِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ *  وَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلنَّفۡسِ ٱللَّوَّامَةِ " تقدم غير مرة أن المقسم عليه اذا كان منفيا جاز الاتيان بلا قبل القسم لتأكيد النفى ، والمقسم عليه هنا هو اثبات المعاد والرد على ما يزعمه الجهلة من العباد ومن عدم بعث الأجساد ولهذا أقسم تعالى بهذا اليوم يوم القيامة تأكيدا لوقوعه وأقسم كذلك بالنفس اللوامة فأما يوم القيامة فمعروف وأما النفس اللوامة هى التى تلوم صاحبها على الخير والشر وتندم على ما فات وقال الحسن البصرى فى هذه الآية أن المؤمن والله ما نراه الا يلوم نفسه : ما أردت بكلمتى ، ما أردت بأكلتى ، ما أردت بحديث نفسى ، وأما الفاجر يمضى قدما ما يعاتب نفسه وقال الحسن ليس أحد من أهل السموات والأرضين الا يلومنفسه يوم القيامة وقال عكرمة يلوم على الخير والشر لو فعلت كذا وكذا وعن سعيد بن جبير قال تلوم على الخير والشر وقال مجاهد تندم على ما فات وتلوم عليه وكل هذه الأقوال متقاربة المعنى ،" أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَلَّن نَّجۡمَعَ عِظَامَهُۥ " يتحدث الله عز وجل عن الانسان المكذب بيوم القيامة أيظن أنا لا نقدر على اعادة عظامه وجمعها من أماكنها المتفرقة يوم القيامة ، " بَلَىٰ قَٰدِرِينَ عَلَىٰٓ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُۥ " البنان هى أطراف الأصابع وهذه الآية من معجزات القرآن التى سبقت عصرها فكان التفسير فيها مختلفا فى الحاضر عن الماضى فما أثبته العلم الحديث أن من معجزات خلق الله هو خلق أصابع اليد وما بها من بصمات تختلف من شخص الى آخر فى مجموع البشرية ولذلك أخذت بصمات الأصابع للتعرف على الشخص وهويته وأصبحت علما وتأخذ فى المعاملات السرية الخاصة فيكون التفسير من الله تعالى أن من قدرتنا التى تبرز حدوث يوم القيامة هو خلق البنان والتسوية هى الخلق السوى كقوله " الذى خلق فسوى " الأعلى -2  وكذلك يبرز الله تعالى قدرته على جمع هذه الأصابع بعد أن تتحلل وفى التفسير القديم أن الله يظهر قدرته على بعث الانسان وعظامه المتفرقة واعادتها الى ما كانت عليه بما فى ذلك أصغر شىء فيها وهى الأصابع أى قدرتنا صالحة لجمها ولو شئنا لبعثناه أزيد مما كان فنجعل بنانه وهى أطراف أصابعه مستوية وهذا ما قاله ابن قتيبية والزجاج ،" بَلۡ يُرِيدُ ٱلۡإِنسَٰنُ لِيَفۡجُرَ أَمَامَهُۥ " يعقب الله عز وجل عن معصية الانسان لربه قال ابن عباس يعنى الأمل يقول الانسان أعمل ثم أتوب قبل يوم القيامة ويقال هو الكفر بالحق بين يدى القيامة وقال مجاهد ليمضى أمامه فى المعصية راكبا رأسه وقال الحسن لا يلقى ابن آدم الا تنزع نفسه الى معصية الله قدما قدما الا من عصمه الله تعالى وقال عكرمة وغيره هو الذى يعجل الذنوب ويسوف التوبة وقال ابن عباس هو الكافر يكذب بيوم الحساب وهذا هو الأظهر من المراد ولهذا قال بعده "  يَسۡ‍َٔلُ أَيَّانَ يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ " أى يقول متى يكون يوم القيامة وانما سؤاله سؤال استبعاد لوقوعه وتكذيب لوجوده كما قال تعالى " ويقولون متى هذا الوعد ان كنتم صادقين * قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون " ، "  فَإِذَا بَرِقَ ٱلۡبَصَرُ " أى لا يستقر لهم بصر على شىء من شدة الرعب والمقصود أن الأبصار تنبهر يوم القيامة وتخشع وتحار وتذل من شدة الأهوال ومن عظم ما تشاهده يوم القيامة من الأمور وهذا شبيه بقوله تعالى " لا يرتد اليهم طرفهم " ، " وَخَسَفَ ٱلۡقَمَرُ"  ومن علامات يوم القيامة أن يخسف القمر أى يذهب ضوؤه ويتلاشى ، " وَجُمِعَ ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ " جمع الشمس والقمر أن الشمس تسحب القمر بجاذبيتها وتقربه فيكونا شيئا واحد لأن الجمع هو الضم ونحن نعلم أن هذا الكون مسير بقدرة الله بحساب دقيق اذا حدث أدنى خلل زال هذا الكون " لا الشمس ينبغى  لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل فى فلك يسبحون " ياسين 40 والله أعلم بمراده ،"يَقُولُ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذٍ أَيۡنَ ٱلۡمَفَرّ" أى اذا عاين ابن آدم هذه الأهوال يوم القيامة حينئذ يريد أن يفر ويقول أين المفر أى هل من ملجأ أو موئل فيرد الله تعالى "ُ  كَلَّا " تفيد أن يحدث هذا الأمر وهو " لَا وَزَرَ " أى ليس لكم مكان تعتصمون فيه وقال ابن مسعود وابن عباس وغيرها أى لا نجاة وهذه الآية كقوله تعالى  "ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير " أى ليس لكم مكان تتنكرون فيه ولهذا قال "   إِلَىٰ رَبِّكَ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡمُسۡتَقَرُّ " المستقر هو المرجع والمصير الى الله عز وجل ربك ورب كل شىء وربيبه ، "  يُنَبَّؤُاْ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذِۢ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ " أى فى هذا اليوم يوم القيامة يخبر الانسان بجميع أعماله قديمها وحديثها ، أولها وآخرها ، صغيرها وكبيرها كما قال تعالى " ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا " ، " بَلِ ٱلۡإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ بَصِيرَة* وَلَوۡ أَلۡقَىٰ مَعَاذِيرَهُۥ " يخبر الله تعالى أن كل انسان شهيد على نفسه عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر كما قال تعالى " اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " وقال ابن عباس " بل الانسان على نفسه بصيرة " يقول سمعه وبصره ويديه ورجليه وجوارحه تشهد عليه وقال قتادة شاهد على نفسه وقال قتادة اذا شئت والله رأيته بصيرا بعيوب الناس وذنوبهم غافلا عن ذنوبه ، وقال مجاهد " ولو أقى معاذيره " ولو جادل عنها فهو بصير عليها كقوله تعالى " ثم لم تكن فتنتهم الا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين " وكقوله تعالى " يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شىء ألا انهم هم الكاذبون "  وقال قتادة ولو اعتذر يومئذ بباطل لا يقبل منه وقال السدى معازيره حجته وقال الضحاك ولو ألقى ستوره وأهل اليمن يسمون الستر العذار وقال ابن عباس " ولو ألقى معذيره " هى الاعتذار ألم تسمع أنه قال " لا ينفع الظالمين معذرتهم " وقال " وألقوا الى الله يومئذ السلم ما كنا نعمل من سوء " وقولهم " والله ربنا ما كنا مشركين " .

لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ ١٦ إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ١٧ فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ ١٨ ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ ١٩ كَلَّا بَلۡ تُحِبُّونَ ٱلۡعَاجِلَةَ ٢٠ وَتَذَرُونَ ٱلۡأٓخِرَةَ ٢١ وُجُوهٞ يَوۡمَئِذٖ نَّاضِرَةٌ ٢٢ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ ٢٣ وَوُجُوهٞ يَوۡمَئِذِۢ بَاسِرَةٞ ٢٤ تَظُنُّ أَن يُفۡعَلَ بِهَا فَاقِرَةٞ ٢٥

هذا تعليم من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلمةفى كيفية تلقيه الوحى من الملك فانه كان يبادر الى أخذه ويسابق الملك فى قراءته فأمره الله عز وجل اذا جاءه الملك بالوحى أن يستمع له وتكفل الله له أن يجمعه فى صدره وأن ييسره لأدائه على الوجه الذى ألقاه اليه وأن يبينه له ويفسره ويوضحه ، فالحالة الأولى جمعه فى صدره والثانية تلاوته والثالثة تفسيره وايضاح معناه ولهذا قال  " لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ " أى لا تحرك لسانك بالقرآن وتسابق الملك فى قراءته كما قال تعالى " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى اليك وحيه وقل رب زدنى علما " ثم قال تعالى "  إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ" أى تكفل الله عز وجل بجمع القرآن فى صدرك ، " وَقُرۡءَانَهُۥ " أى أن تقرأه ، "  فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ " أى اذا تلاه الملك عليك عن الله تعالى فاستمع له ثم اقرأه كما أقرأك ، "  ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ  أى بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونوضحه ونلهمكمعناه على ما أردنا وشرعنا وعن سعد بن جبير عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلج من التنزيل شدة فكان يحرك شفتيه قال فقال لى ابن عباس أنا أحرك شفتى كما كان رسول الله صلى الله عليهوسلم يحرك شفتيه وقال سعيد وأنا أحرك شفتى كما رأيت ابن عباس يحرك شفتيه فأنزل الله تعالى عز وجل " لا تحرك به لسانك لتعجل به ان علينا جمعه وقرآنه " قال جمعه فى صدرك ثم تقرأه " فاذا قرأناه فاتبع قرآنه " أى فاستمع له وأنصت " ثم ان علينا بيانه " فكان بعد ذلك اذا انطلق جبريل قرأه كما أفرأه جبريل ، فكان اذا أتاه جبريل أطرق فاذا ذهب قرأه كما وعده الله عز وجل ، وفى قول آخر عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا أنزل عليه الوحى يلقى منه شدة وكان اذا نزل عليه عرف فى تحريكه شفتيه يتلقى أوله ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره فأنزل الله تعالى " لا تحرك لسانك لتعجل به " وقال ابن عباس كان لا يفتر من القراءة مخافة أن ينساه فقال الله تعالى " لا تحرك به لسانك لتعجل به ان علينا جمعه " أى نجمعه لك " وقرآنه " أن نقرئك فلا تنسى وقال ابن عباس " ثم ان علينا بيانه " تبيين حلاله وحرامه ، "  كَلَّا بَلۡ تُحِبُّونَ ٱلۡعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ ٱلۡأٓخِرَةَ " أى انما يحملهم أى الكفار فى مكة على التكذيب بيوم القيامة ومخالفة ما أنزله الله عز وجل عن رسوله صلى الله عليه وسلم من الوحى الحق والقرآ، العظيم انهم انما همتهم الى الدار الدنيا العاجلة وهم لاهون متشاغلون عن الآخرة ، "  وُجُوهٞ يَوۡمَئِذٖ نَّاضِرَةٌ " من النضارة أى حسنة بهية مشرقة مسرورة عن الحسن " وجوه يومئذ ناضرة " قال حسنة " الى ربها ناظرة " قال تنظر الى الخالق وحق لها أن تتضرع وهى تنظر الى الخالق  ، " إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَة" أى تراه عيانا كما رواه البخارى فى صحيحه " انكم لترون ربكم عيانا " وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما دل عليه سياق الآية الكريمة لحديث أبى سعيد وأبى هريرة وهما فى الصحيحين أن ناسا قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال " هل تضارون فى رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب ؟ قالوا لا قال " فانكم ترون ربكمكذلك " وفى الصحيحين عنجرير قال نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى القمر ليلة البدر فقال " انكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر ، فان استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا " ، "  وَوُجُوهٞ يَوۡمَئِذِۢ بَاسِرَة *  تَظُنُّ أَن يُفۡعَلَ بِهَا فَاقِرَة " هذه وجوه الفجار تكون يوم القيامة باسرة قال قتادةكالحة وقال السدى تغير ألوانها وقال زيد " باسرة " أى عابسة وتستيقن أنها هالكة وقال ابن زيد تظن أن ستدخل النار كقوله تعالى " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " وكقوله " وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة * أولئك هم الكفرة الفجرة وكقوله تعالى " وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية " الى قوله " وجوه يومئذ ناعمة * لسعيها راضية * فى جنة عالية " .

كَلَّآ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ ٢٦ وَقِيلَ مَنۡۜ رَاقٖ ٢٧ وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلۡفِرَاقُ ٢٨ وَٱلۡتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ ٢٩ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡمَسَاقُ ٣٠ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ ٣١ وَلَٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ٣٢ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ يَتَمَطَّىٰٓ ٣٣ أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰ ٣٤ ثُمَّ أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰٓ ٣٥ أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى ٣٦ أَلَمۡ يَكُ نُطۡفَةٗ مِّن مَّنِيّٖ يُمۡنَىٰ ٣٧ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةٗ فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ ٣٨ فَجَعَلَ مِنۡهُ ٱلزَّوۡجَيۡنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰٓ ٣٩ أَلَيۡسَ ذَٰلِكَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يُحۡـِۧيَ ٱلۡمَوۡتَىٰ ٤٠

يخبر الله تعالى عن حالة الاحتضار وما عندها من الأهوال وخروج الروح من الجسد " كَلَّآ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ" ان كانت كلا رادعة فمعناها لست يا ابن آدم يمكن أن تكذب بما أخبرت به بل صار ذلك عندك عيانا ، وان كانت بمعنى حقا فيكون المعنى حقا اذا بلغت التراقى والتراقى جمع ترقوة وهى قريبة من الحلقوم  وهى العظام التى بين ثغرة النحر والعاتق أى اذا انتزعت روحك من جسدك وبلغت تراقيك كقوله تعالى"فلولا اذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب اليه منكم ولكن لا تبصرون * فلولا ان كنتم غير مدينين * ترجعونها ان كنتم صادقين " الواقعة 83 - 87 ، "  وَقِيلَ مَنۡۜ رَاق" الراقى من راق يرقى كما قال ابن عباس ونحن نعلم الرقية الشرعية التى تستخدم فى العلاج من الحسد والسحر أو التحصين منهما وقال قتادة وغيره أى من طبيب شاف فيكون المعنى من يمنع عنه ويحميه من خروج روحه من جسده ،وفى معنى آخر عن ابن عباس من يرقى بروحه ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب ؟ ويرقى أى يصعد بها الى السماء اذا خرجت ، " وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلۡفِرَاقُ " ظن هنا أى تحق الفراق وهو مفارقة الحياة وفراق من حوله ، " وَٱلۡتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ " تعدد المعنى هنا قال الحسن البصرى هما ساقاك اذا التفتا وفى رواية عنه ماتت رجلاه فلم تحملاه وقد كان عليها جوالا وفى روايه أخرى عنه : هو لفها فى الكفن ، وقال ابن عباس التفت عليه الدنيا والآخرة آخر يوم من لدنيا وأول يوم من أيام الآخرة فتلتقى الشدة بالشدة الا من رحمه الله ، وقال عكرمة الأمر العظيم بالأمر العظيم ، وقال مجاهد بلاء ببلاء ، وقال الضحاك اجتمع عليه أمران : الناس يجهزون جسده والملائكة يجهزون روحه  " إِلَىٰ رَبِّكَ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡمَسَاقُ " المساق هو المرجع والمآب أى أن المرجع والمآب فى هذا الوقت بعد خروج الروح الى ربك وحده وذلك أن الروح ترفع الى السموات فيقول الله عز وجل ردوا عبدى الى الأرض فانى منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنا أخرجهم تارة أخرى كما ورد فى حديث البراء الطويل كقوله تعالى " وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى اذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون * ثم ردوا الى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين " ، هذا اخبار عن الكافر الذى كان فى الدنيا مكذبا للحق بقلبه متوليا عن العمل بقالبه فلا خير فيه باطنا ولا ظاهرا " فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ * وَلَٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ " هذا الكافر لم يصدق بالحق وتولى عنه وامتنع عن الصلاة وهذا اختصاص للصلاة فهى رأس العبادات وفعل العكس من ذلك ولكن التكذيب بالحق والاعراض عنه والبعد ، " ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ يَتَمَطَّىٰٓ " يتمطى أى يختال كما قال ابن عباس وقال قتادة وغيره يتبختر والمقصود بأهله أما أهل بيته أو من شابهه أى أنه جدلانا أشرا بطرا كسلانا لا همة له ولا عمل تصيبه الخيلاء كما قال تعالى " واذا انقلبوا الى أهلهم انقلبوا فكهين " وكقوله تعالى " انه كان فى أهله مسرورا * انه ظن أن لن يحور ( أى يرجع الى ربه ) بلى انه كان به بصيرا " ، " أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰ *  ثُمَّ أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰٓ " هذا تهديد ووعيد أكيد من الله تعالى للكافر به المتبختر فى مشيه وعنم قتادة قال وعيد على أثر وعيد  أى هل يحق لك أن تمشى هكذا وقدكفرت بخالقك وبارئك كما يقال فى المثل هذا على سبيل التهكم والتهديد كقوله تعالى " ذق انك أنت العزيز الكريم " وكقوله تعالى " كلوا وتمتعوا قليلا انكم مجرمون " وكقوله تعالى " فاعبدوا ما شئتم من دونه " وكقوله تعالى " اعملوا ما شئتم " الى غير ذلك وعن سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس " أولى لك فأولى * ثم أولى لك فأولى " قال قاله رسول الله لأبى جهل ثم أنزله الله عز جل قال قتادة : أن عدو الله أبا جهل أخذ نبى الله صلى الله عليه وسلم بمجامع ثيابه فقاله النبى لأبى جهل ثم نزل به القرآن كما قال سعيد بن جبير " أولى لك فأولى * ثم أولى لك فأولى " فقال عدو الله أبوجهل أتوعدنى يا محمد ؟ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئا وانى لأعز من مشى بين جبليها ( يقصد أعز واحد فى مكة ) ، "  أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى "قال السدى يعنى أن يترك ولا يبعث وقال مجاهد والشافعى وعبد الرحمن بن أسلم يعنى لا يؤمر ولا ينهى ، والظاهر أن الآية تعم الحالين أى ليس يترك فى هذه الدنيا مهملا لا يؤمر ولا ينهى ولا يترك فى قبره سدى لا يبعث بل هو مأمور منهى فى الدنيا محشور الى الله فى الدار الآخرة ، والمقصود هنا اثبا المعاد والحساب والرد على من أنكره من أهل الزيغ والجهل والعناد ولهذا قال تعالى مستدلا على الاعادة بالبداءة عن الانسان وخلقه وقدرته على خلقه أى كما خلقه يمكن أن يعيده " أَلَمۡ يَكُ نُطۡفَةٗ مِّن مَّنِيّٖ يُمۡنَىٰ " يتحدث الله عز وجل عن خلق الانسان من مرحلة النطفة من منى الرجل تقذف فى رحم المرأة فتتحد مع البويضة فهذا الانسان من نطفة ضعيفة من ماء مهين يمنى أى يراق من الاصلاب فى الأرحام ، " ثُمَّ كَانَ عَلَقَةٗ فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ * فَجَعَلَ مِنۡهُ ٱلزَّوۡجَيۡنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰٓ " أى فصار علقة ثم مضغة ثم شكل ونفخ فيه الروح فصار خلقا آخر سويا سليم الأعضاء ذكرا أو أنثى باذن الله وتقديره ، " أَلَيۡسَ ذَٰلِكَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يُحۡـِۧيَ ٱلۡمَوۡتَىٰ " أما هذا الذى أنشأ هذا الخلق السوى من هذه النطفة الضعيفة بقادر على أن يعيده كما بدأه ؟ وتناول القدرة للاعادة واحياء الموتى بطريق أولى أيسر من البداءة وهذا كقوله تعالى " وهو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه " وعن أبى هريرة قال رسول الله صلى " من قرأ منكم بالتين والزيتون فانتهى الى آخرها " أليس الله بأحكم الحاكمين " فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين  ، ومنقرا " لا أقسم بيوم القيامة فانتهى الى قوله " أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى " فليقل بلى ، ومن قرأ "والمرسلات" فبلغ " فبأى حديث بعده يؤمنون " فليقل آمنا بالله وعن قتادة فى قوله تعالى " أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى " ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اذا قرأها قال " سبحانك وبلى " .

تفسير الجزء التاسع والعشرين

تفسير سورة الانسان

سورة الانسان سورة مكية ، آياتها 31 آية ، وهى من قصار السور ، وتتميز بقصر الآيات ، وتتحدث عن قدرة الله فى خلق الانسان وفى الخلق والبعث ، وتتحدث عن الجنة والنار ، وفيها تثبيت للرسول صلى الله عليه وسلم من الله فى مواجهة معاندة المشركين له ، وتقدم فى صحيح مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فى صلاة الصبح يوم الجمعة السجدة والانسان .

هَلۡ أَتَىٰ عَلَى ٱلۡإِنسَٰنِ حِينٞ مِّنَ ٱلدَّهۡرِ لَمۡ يَكُن شَيۡ‍ٔٗا مَّذۡكُورًا ١ إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا ٢ إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا ٣

" هَلۡ أَتَىٰ عَلَى ٱلۡإِنسَٰنِ حِينٞ مِّنَ ٱلدَّهۡرِ لَمۡ يَكُن شَيۡ‍ٔٗا مَّذۡكُورًا " هل فى بداية السورة تفيد التحقق والتوكيد بمعنى نعم أتى فالاستفهام للتأكيد أن هذا قد حدث ، بمعنى نعم أتى على الانسان وقت لم يكن قد خلق ووجد فقد خلقه الله وأوجده بعد أن لم يكن شيئا يذكر لحقارته وضعفه وبين تعالى هذا بقوله "  إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاج" الأمشاج هى خلايا الصفات الوراثية التى يحملها الانسان والأمشاج تعنى أخلاط والمشج الشىء المختلط بعضه فى بعض وقال ابن عباس " من نطفة أمشاج " يعنى ماء الرجل وماء المرأة اذا اجتمعا واختلطا ثم ينتقل بعد من طور الى طور وحال الى حال وكون الى كون وقال عكرمة وغيره الأمشاج هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة والانسان يخلق من اتحاد الصفات الوراثية من الأب والأم ، " نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا " الابتلاء هو الاختبار فالهدف من الوجود فى الحياة الدنيا هو الابتلاء قبل يوم الحساب والدنيا هى دار ابتلاء واختبار والآخرة دار حساب كقوله تعالى " ليبلوكم أيكم أحسن عملا " وبعد ذلك يتحدث عزوجل عن ما منحه للانسان من سمع وبصر وهى حواس الادراك والفهم التى يعيش بها ويميز الخير من الشر والحق من الباطل وقد خصها الله بالذكر فهى اداة الفهم الذى يسير بها فى ابتلائه أى جعلنا له سمعا وبصرا يتمكن بهما من الطاعة والمعصية يستخدمهما فى هذا الابتلاء فالله عزوجل يمنح ثم يحاسب ، " إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا " ثم يتحدث عز وجل بالتفصيل عن ذلك بقوله انا بينا للانسان طريقه ووضحناه وبصرناه فهو اما سعيد باتباع سبيل الحق وموافاة نعمة ربه حق الشكر بالطاعة واما شقى جاحد بعيد عن الحق يكفر بالله ويجحد نعمته عليه وكما جاء فى الحديث الذى رواه مسلم عن أبى مالك الأشعرى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها " وقد تقدم فى سورة الروم عند قوله عز وجل " فطرت الله التى فطر الناس عليها " من رواية جابر رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه اما شاكرا واما كفورا " وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال " ما من خارج الا ببابه رايتان : راية بيد ملك وراية بيد شيطان فان خرج لما يحب الله اتبعه الملك برايته فلم يزل تحت راية الملك حتى يرجع الى بيته ، وان خرج لما يسخط الله اتبعه الشيطان برايته فلم يزل تحت راية الشيطان حتى يرجع الى بيته " وعن جابر بن عبد الله أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة " أعاذك الله من امارة السفهاء " قال : وما امارة السفهاء ؟ قال " أمراء يكونون من بعدى لا يهتدون بهداى ، ولا يستنون بسنتى فمن صدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك منى وأنا منهم وسيردون على حوضى ، يا كعب بن عجرة : الصوم جنة ، والصدقة تطفىء الخطيئة ، والصلاة قربان - أو قال برهان - يا كعب بن عجرة : انه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت ، النار أولى به ، يا كعب : الناس غاديان فمتاع نفسه فمعتقها ، وبائع نفسه فموبقها "

إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ سَلَٰسِلَاْ وَأَغۡلَٰلٗا وَسَعِيرًا ٤ إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ يَشۡرَبُونَ مِن كَأۡسٖ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ٥ عَيۡنٗا يَشۡرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفۡجِيرٗا ٦ يُوفُونَ بِٱلنَّذۡرِ وَيَخَافُونَ يَوۡمٗا كَانَ شَرُّهُۥ مُسۡتَطِيرٗا ٧ وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينٗا وَيَتِيمٗا وَأَسِيرًا ٨ إِنَّمَا نُطۡعِمُكُمۡ لِوَجۡهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمۡ جَزَآءٗ وَلَا شُكُورًا ٩ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوۡمًا عَبُوسٗا قَمۡطَرِيرٗا ١٠ فَوَقَىٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ ٱلۡيَوۡمِ وَلَقَّىٰهُمۡ نَضۡرَةٗ وَسُرُورٗا ١١ وَجَزَىٰهُم بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةٗ وَحَرِيرٗا ١٢

" إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ سَلَٰسِلَاْ وَأَغۡلَٰلٗا وَسَعِيرًا " يخبر الله تعالى عما أرصده الكافرين كم خلقه به من السلاسل والأغلال والسعير وهو اللهب والحريق فى نار جهنم كما قال تعالى " اذ الأغلال فى اعناقهم والسلاسل يسحبون * فى الحميم ثم فى النار يسجرون " ، " إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ يَشۡرَبُونَ مِن كَأۡسٖ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا  *عَيۡنٗا يَشۡرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفۡجِيرٗا " يتحدث الله عز وجل عن ما أعده للأبرار وهم من أبروا أى أوفوا حق ربهم من اتباع الحق والطاعة له ونحن نعلم البار بوالديه هومن يطيعهما ويوفيهما حقهما والأبرار جمع بار أو من البر وهو فعل الخير لأن البر اسم جامع لكل أفعال الخير أى من يفعلون الخير يدخلون الجنة ويسقون فيها ويتمتعون بألذ الشراب ومنه الكافور الذى يكون فى كؤوس الشراب وعلم أن الكافور من التبريد والرائحة الطيبة مع ما يضاف الى ذلك من اللذاذة فى الجنة وقال الحسن برد الكافور فى طيب الزنجبيل ولهذا قال " عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا " التفجير هو الانباع كما قال تعالى " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " وقال " وفجرنا خلالهما نهرا " وقال مجاهد يفجرونها تفجيرا " يقودونها حيث شاءوا وقال الثورى يصرفونها حيث شاءوا  أى هذا الذى مزج لهؤلاء الأبرار من الكافور هو عين يشرب بها المقربون من عباد الله صرفا بلا مزج ويروون بها ولهذا ضمن يشرب معنى يروى حتى عداه بالباء ونصب عينا على التمييز ، وقال بعضهم هذا الشراب فى طيبه كالكافور ، وقال بعضهم هو من عين كافور وقال بعضهم يجوز أن يكون منصوبا بيشرب ، حكى هذه الأقوال الثلاثة ابن جرير ، وقوله تعالى " يفجرونها تفجيرا " أى يتصرفون فيها حيث شاءوا وأين شاءوا من قصورهم ودورهم ومجالسهم ومحالهم ، " يُوفُونَ بِٱلنَّذۡرِ وَيَخَافُونَ يَوۡمٗا كَانَ شَرُّهُۥ مُسۡتَطِيرٗا " الشر المستطار المنتشر العام على الناس الا من رحم الله ويعنى ممتدا فاشيا  وقال ابن عباس فاشيا وقال ابن جرير : ومنه قولهم استطار الصدع فى الزجاجة واستطال  وقال قتادة استطار الله شر ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض أى يتعبدون الله فيما أوجبه عليهم من فعل الطاعات الواجبة بأصل الشرع وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه " ويتركون المحرمات التى نهاهم الله عنها خيفة من سوء الحساب يوم المعاد وهو اليوم الذى شره مستطير أى منتشر عام على الناس الا من رحم الله ويخشون مما يحدث فيه من أهوال تقشعر لها الأبدان فهم يقدمون الخير ليتقوا به ما يحدث فى هذا اليوم ، " وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينٗا وَيَتِيمٗا وَأَسِيرًا " أى يقدمون الطعام على حب الله تعالى وجعلوا الضمير عائدا الى الله عز وجل لدلالة السياق عليه ، والأظهر أن الضمير عائد على الطعام أى ويعمون الطعام فى حال محبتهم وشهوتهم له كما قال مجاهد وغيره كقوله تعالى " وآتى المال على حبه " وكقوله تعالى " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " وفى الصحيح " أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر " أى فى حال محبتك للمال وحرصك عليه وحاجتك اليه ولهذا قال تعالى " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا " أما المسكين فهو من لا يجد قوت يومه واليتيم هو من فقد أبوه العائل له وهو صغير لا يقدر على الكسب وقد تقدم بيانهما وصفتهما وأما ألسير فهممن يؤسرون فى الحرب وقال ابن عباس كان أسرؤهم يومئذ مشركين ويشهد لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء وقال عكرمة هم العبيد لعموم الآية للمسلم والمشرك وقد وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاحسان الى الأرقاء فى غير ما حيث حتى أنه كان آخر ما وصى به أن جعل يقول الصلاة وما ملكت أيمانكم وقال مجاهد هو المحبوس أى يطعمون الطعام لهؤلاء وهم يشتهونه ويحبونه قائلين بلسان الحال "  إِنَّمَا نُطۡعِمُكُمۡ لِوَجۡهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمۡ جَزَآءٗ وَلَا شُكُورًا " أى أن ما نقدمه لكم من طعام هو رجاء ثواب الله ورضاه ولا نطلب منكم مجازاة تكافئوننا بها ولا أن تشكروننا عند الناس وقال مجاهد وغيره أما والله ما قالوه بألسنتهم ولكن علم الله به من قلوبهم فأثنى عليهم به ليرغب فى ذلك راغب ، " إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوۡمًا عَبُوسٗا قَمۡطَرِيرٗا " قال ابن جرير القمطرير هو الشديد يقال هو يوم قمطرير ويوم قماطر ويوم عصيب وعصبصب وقد اقمطر اليوم يقمطر اقمطرارا وذلك أشد الأيام وأطولها فى البلاء والشدة  أى انما نفعل هذا لعل الله أن يرحمنا ويتلقانا بلطفه فى اليوم العبوس القمطرير وقال ابن عباس عبوسا ضيقا قمطريرا طويلا وقال عكرمة وغيره يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران وقال مجاهد " عبوسا " العابس الشفتين " قمطريرا " قال تقبض الوجه بالبسور وقال سعيد بن جبير وقتادة تعبس فيه الوجوه من الهول قمطريرا يتقلص فيه الجبين وما بين العينين من الهول وقال ابن زيد العبوس الشر والقمطرير هو الشديد،" فَوَقَىٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ ٱلۡيَوۡمِ وَلَقَّىٰهُمۡ نَضۡرَةٗ وَسُرُورٗا " هذا من باب التجانس البليغ أى آمنهم الله بما خافوا منه والوقاية هى الحماية والتأمين أى جعل فى وجوههم النضارة أى الحيوية والحسن وفى قلوبهم السرور وقال الحسن البصرى وغيره هذا كقوله تعالى " وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة " وذلك أن القلب اذا سر استنار الوجه وقال كعب بن مالك فى حديثه الطويل " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا سر استنار وجهه حتى كأنه فلقة قمر " وقالت عائشة رضى الله عنها دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورا تبرق أسارير وجهه الحديث ، " وَجَزَىٰهُم بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةٗ وَحَرِيرٗا " أى بسبب صبرهم أعطاهم الله عز وجل ونولهم وبوأهم جنة وحريرا أى منزلا رحبا وعيشا رغدا ولباسا حسنا بما صبروا على ترك الشهوات فى الدنيا .

مُّتَّكِ‍ِٔينَ فِيهَا عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِۖ لَا يَرَوۡنَ فِيهَا شَمۡسٗا وَلَا زَمۡهَرِيرٗا ١٣ وَدَانِيَةً عَلَيۡهِمۡ ظِلَٰلُهَا وَذُلِّلَتۡ قُطُوفُهَا تَذۡلِيلٗا ١٤ وَيُطَافُ عَلَيۡهِم بِ‍َٔانِيَةٖ مِّن فِضَّةٖ وَأَكۡوَابٖ كَانَتۡ قَوَارِيرَا۠ ١٥ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٖ قَدَّرُوهَا تَقۡدِيرٗا ١٦ وَيُسۡقَوۡنَ فِيهَا كَأۡسٗا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا ١٧ عَيۡنٗا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلۡسَبِيلٗا ١٨ ۞وَيَطُوفُ عَلَيۡهِمۡ وِلۡدَٰنٞ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيۡتَهُمۡ حَسِبۡتَهُمۡ لُؤۡلُؤٗا مَّنثُورٗا ١٩ وَإِذَا رَأَيۡتَ ثَمَّ رَأَيۡتَ نَعِيمٗا وَمُلۡكٗا كَبِيرًا ٢٠ عَٰلِيَهُمۡ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضۡرٞ وَإِسۡتَبۡرَقٞۖ وَحُلُّوٓاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٖ وَسَقَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡ شَرَابٗا طَهُورًا ٢١ إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمۡ جَزَآءٗ وَكَانَ سَعۡيُكُم مَّشۡكُورًا ٢٢

يخبر الله تعالى عن أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم وما أسبغ عليهم من الفضل العميم فقال تعالى " مُّتَّكِ‍ِٔينَ فِيهَا عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِۖ لَا يَرَوۡنَ فِيهَا شَمۡسٗا وَلَا زَمۡهَرِيرٗا " الأرائك هى السرر تحت الحجال والاتكاء هو الاضطجاع أو التمرفق أو التربع أو التمكن فى الجلوس فأهل الجنة يتمكنون فى الجلوس مستريحين على السرر ليس عندهم حر مزعج ولا برد مؤلم بل هى مزاج واحد دائم سرمدى لا يبغون عنها حولا ، "وَدَانِيَةً عَلَيۡهِمۡ ظِلَٰلُهَا وَذُلِّلَتۡ قُطُوفُهَا تَذۡلِيلٗا " الظلال هنا هى الأغصان أى قريبة اليهم أغصانها وسخرت لهم ثمار هذه الأغصان حسب ما يشتهون أى متى تعاطاه دنا القطف اليه وتدلى من أعلى غصنه كأنه سامع طائع وقال مجاهد ان قام ارتفعت معه بقدر وان قعد تذللت له حتى ينالها وان اضطجع تذللت له حتى ينالها وقال قتادة لا يرد أيديهم عنها شوك ولا بعد  كما قال تعالى " وجنى الجنتين دان " وكما قال  "قطوفها دانية " ، " وَيُطَافُ عَلَيۡهِم بِ‍َٔانِيَةٖ مِّن فِضَّةٖ وَأَكۡوَابٖ كَانَتۡ قَوَارِيرَا۠ * قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّة" يطوف عليهم الخدم من سخرهم الله لخدمة أهل الجنة من الغلمان المخلدون الذين هم كاللؤلؤ المنثور فهم لا يتكلفون حتى عناء الحركة فى طلب ما يشتهون بل يأتيهم كما نجلس نحن فى الحيااة الدنيا فى المطاعم وغيرها أو كما هو فى ضيافة الطائرات   ونحن نختار وتقدم لنا الطلبات ولكنهم فى وضع أفضل فأصناف الطعام موجودة يطوف بها عليهم من هم مكلفون وهم يختارون وهى متوافرة طوال الوقت وهذه الأطعمة مقدمة لهم فى أوانى من فضة والشراب يقدم لهم فى قوارير أى زجاجات أو هى كيزان لا عرى لها ولا خراطيم وقال ابن عباس وغيره بياض الفضة فى صفاء الزجاج والقوارير لا تكون الا من زجاج فهذه الأكواب هى من فضة وهى مع هذا شفافة يرى ما فى باطنها من ظاهرها وهذا مما لا نظير له فى الدنيا وقال ابن عباس كذلك : ليس فى الجنة شىء الا قد أعطيتم فى الدنيا شبهه الا قوارير من فضة ، "قَدَّرُوهَا تَقۡدِيرٗا " أى على قدر ريهم لا تزيد عنه ولا تنقص بل هى معدة لذلك مقدرة بحسب رى صاحبها وهذا أبلغ فى الاعتناء والشرف والكرامة وقال ابن عباس كذلك قدرت للكف وقال الضحاك على قدر كف الخادم وهذا لا ينافى القول الأول فانها مقدرة فى القدر والرى ، " وَيُسۡقَوۡنَ فِيهَا كَأۡسٗا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيۡنٗا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلۡسَبِيلٗا " فتارة يمزج لهم الشراب بالكافور وهو بارد ، وتارة بالزنجبيل وهو حار ليعتدل الأمر وهؤلاء يمزج لهم من هذا تارة ومن هذا تارة ، وأما المقربون فانهم يشربون من كل منهما صرفا كما قال قتادة وغيره ، " أى الزنجبيل من عين فى الجنة تسمى سلسبيلا قال عكرمة اسم عين فى الجنة وقال مجاهد سميت بذلك لسلاسة سيلها وحدة جريها وقال قتادة عين فيها تسمى سلسبيلا عين سلسلة مستنفذ ماؤها  وحكى ابن جرير عن بعضهم أنها سميت بذلك لسلاستها فى الحلق واختار أنها تعم ذلك كله وهذا كقوله تعالى " عينا يشرب بها عباد الله "  ، " وَيَطُوفُ عَلَيۡهِمۡ وِلۡدَٰنٞ مُّخَلَّدُونَ " أى يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان الجنة " مخلدون " أى على حالة واحدة مخلدون عليها لا يتغيرون عنها لا تزيد أعمارهم عن تلك السن ، " إِذَا رَأَيۡتَهُمۡ حَسِبۡتَهُمۡ لُؤۡلُؤٗا مَّنثُورٗا " أى اذا رأيتهم فى انتشارهم فى قضاء حوائج السادة وكثرتهم وصباحة وجوههم وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم حسبتهم لؤلؤا منثورا ولا يكون فى التشبيه أحسن من هذا ولا فى المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن  ، "وَإِذَا رَأَيۡتَ ثَمَّ رَأَيۡتَ نَعِيمٗا وَمُلۡكٗا كَبِيرًا " يخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم اذا رأيت "ثم " أى هناك فى الجنةونعيمها وسعتها وارتفاعها وما فيها من الحبرة والسرور رأيت مملكة لله هناك عظيمة وسلطانا باهرا وثبت فى الصحيح أن الله تعالى يقول لآخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا اليها ان لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها وعن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر فى ملكه مسيرة ألفى سنة ينظر الى أقصاه كما ينظر الى أدناه " ، " عَٰلِيَهُمۡ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضۡرٞ وَإِسۡتَبۡرَق" أى لباس أهل الجنة فيها الحرير ومنه سندس وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها مما يلى أبدانهم والاستبرق منه ما فيه بريق ولمعان وهو مما يلى الظاهر كما هو المعهود فى اللباس ،"وَحُلُّوٓاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّة" صفة الأبرار أنهم يحلون بأساور من فضة وأما المقربون فكما قال تعالى " يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير" ولما ذكر الله زينة الظاهر بالحرير والحلى قال بعده "وَسَقَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡ شَرَابٗا طَهُورًا " روى عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال : اذا انتهى أهل الجنة الى باب الجنة وجدوا هنالك عينين فكأنما ألهموا ذلك فشربوا من احداها فأذهب الله ما فى بطونهم من أذى ثم اغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فأخبر سبحانه وتعالى بحالهم الظاهر وجمالهم الباطن أى طهر بواطنهم من الحسد والحقد والغل والأذى وسائر الأخلاق الرديئة ، " إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمۡ جَزَآء" أى يقال لهم ذلك تكريما لهم واحسانا اليهم كما قال تعالى " كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم فى الأيام الخالية " وكقوله تعالى " ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون " ،" وَكَانَ سَعۡيُكُم مَّشۡكُورًا " أى جزاكم الله تعالى على القليل بالكثير .

إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ تَنزِيلٗا ٢٣ فَٱصۡبِرۡ لِحُكۡمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعۡ مِنۡهُمۡ ءَاثِمًا أَوۡ كَفُورٗا ٢٤ وَٱذۡكُرِ ٱسۡمَ رَبِّكَ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلٗا ٢٥ وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَٱسۡجُدۡ لَهُۥ وَسَبِّحۡهُ لَيۡلٗا طَوِيلًا ٢٦ إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ يُحِبُّونَ ٱلۡعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمۡ يَوۡمٗا ثَقِيلٗا ٢٧ نَّحۡنُ خَلَقۡنَٰهُمۡ وَشَدَدۡنَآ أَسۡرَهُمۡۖ وَإِذَا شِئۡنَا بَدَّلۡنَآ أَمۡثَٰلَهُمۡ تَبۡدِيلًا ٢٨ إِنَّ هَٰذِهِۦ تَذۡكِرَةٞۖ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِيلٗا ٢٩ وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا ٣٠ يُدۡخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحۡمَتِهِۦۚ وَٱلظَّٰلِمِينَ أَعَدَّ لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمَۢا ٣١

" إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ تَنزِيلٗا * فَٱصۡبِرۡ لِحُكۡمِ رَبِّكَ " يقول تعالى ممتنا على رسوله صلى الله عليه وسلم بما أنزله عليه من القرآن العظيم تنزيلا أى كما أكرمك الله عز وجل بما أنزل عليك فاصبر على قضائه وقدره واعلم أنه سيدبرك بحسن تدبيره ، " وَلَا تُطِعۡ مِنۡهُمۡ ءَاثِمًا أَوۡ كَفُورٗا " فالآثم هو الفاجر فى أفعاله والكفور هو الكافر قلبه ويخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يطع الكافرين والمنافقين ان أرادوا صده عما أنزل اليه بل يبلغ ما أنزل اليه من ربه ويتوكل على الله فان الله يعصمه من الناس ،"وَٱذۡكُر  ٱسۡمَ رَبِّكَ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلٗا " يأمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بالذكر فى أول النهار وآخره بما يتضمنه الذكر من معانى شاملة وبكل السبل من صلاة ودعاء وتسبيح وقراءة قرآن وغير ذلك  ، "وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَٱسۡجُدۡ لَهُۥ وَسَبِّحۡهُ لَيۡلٗا طَوِيلًا " المقصود من السجود والتسبيح هو الصلاة صلاة قيام الليل أو التهجد معظم فترات الليل كقوله تعالى " ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " وكقوله " يا أيها المزمل قم الليل الا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا " ، " إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ يُحِبُّونَ ٱلۡعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمۡ يَوۡمٗا ثَقِيلٗا " العاجلة هى الدنيا واليوم الثقيل هو يوم القيامة والآخرة يتحدث الله عزوجل منكرا على الكفار ومن أشبههم فى حب الدنيا والاقبال عليها والانصباب اليها وترك الدار الآخرة وراء ظهورهم وقد عبر القرآن عن الدنيا بأنها العاجلة ليدلل على قصرها وأنها شىء طارىء غير دائم ووصف يوم القيامة باليوم الثقيل وهذا تعبير بليغ يمكن أن يكون ثقيلا على النفوس لما فيه من أهوال وحساب وهو كذلك ثقيل على الكافر شاق عليه ، " نَّحۡنُ خَلَقۡنَٰهُمۡ وَشَدَدۡنَآ أَسۡرَهُمۡ" يتحدث الله عز وجل عن خلقه للبشر وقال ابن عباس أسرهم يعنى خلقهم أى أن الله خلق البشر وأحسن خلقهم وأحكمه كما قال " لقد خلقنا الانسان فى أحسن تقويم " ، " وَإِذَا شِئۡنَا بَدَّلۡنَآ أَمۡثَٰلَهُمۡ تَبۡدِيلًا "قال ابن زيد وابن جرير أن الله عز وجل يقول واذا شئنا أتينا بقوم آخرين غيرهم كقوله " ان يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا " وكقوله " ان يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز " وقال ابن عباس وغيره واذا شئنا بعثناهم يوم القيامة وبدلناهم فأعدناهم خلقا جديدا ، وهذا استدلال بالبداءة على الرجعة ، " إِنَّ هَٰذِهِۦ تَذۡكِرَة" يعنى هذه السورة تذكرة لما جاء فيها من أمور تذكر بقدرة الله والدعوة الى ذكره ، " فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِيلٗا " السبيل هو الطريق والمسلك أى من شاء اهتدى بهذا القرآن كقوله تعالى " وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر " ، " وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ" أى لا يقدر أحد أن يهدى نفسه ولا يدخل فى الايمان ولا يجر لنفسه نفعا الا بمشيئة الله وتقديره لمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلال ، "إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا " يعقب الله تعالى على ما ذكره بأنه هو العليم بمن يستحق الهداية فييسرها له ويقيض له أسبابها ومن يستحق الغواية فيصرفه عن الهدى وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة ، " يُدۡخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحۡمَتِهِۦ" أى أن الله عز وجل يهدى من يشاء ويضل من يشاء فمن يهده فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له ، " وَٱلظَّٰلِمِينَ أَعَدَّ لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمَۢا " يتوعد الله تعالى الكافرين بالعذاب الأليم يوم القيامة .

تفسير الجزء التاسع والعشرين

تفسير سورة المرسلات

سورة المرسلات سورة مكية ، وهى من قصار السور ، عدد آياتها 50 آية ، وآياتها قصيرة كذلك ، وهى تتحدث عو أهوال يوم القيامة وما ينتظر الكفار من عذاب وما ينتظر المؤمنين من نعيم  ، وتتحدث عن قدرة الله فى الخلق وأنه هو وحده الخالق للكون القادر على البعث وهذا لمواجهة كفار قريش وعنادهم ورفضهم للدعوة ومقاومتهم لها ، وينذرهم بما حل بالأمم المكذبة من قبلهم .

 (ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ويل يومئذ للمكذبين )قوله تعالى(ألم نجعل الأرض كفاتا أحياءوأمواتا وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ويل يومئذ للمكذبين )

اعلم أن هذا هو النوع الرابع من تخويف الكفار ، وذلك لأنه ذكرهم بالنعم التي له عليهم في الأنفس ، وفي هذه الآية ذكرهم بالنعم التي له عليهم في الآفاق ، ثم قال في آخر الآية : ( ويل يومئذ للمكذبين) ، والسبب فيه ما قدمنا أن النعم كلما كانت أكثر كانت الجناية أقبح ، فكان استحقاق الذم عاجلا والعقاب آجلا أشد ، وإنما قدم تلك الآية على هذه الآية ؛ لأن النعم التي في الأنفس كالأصل للنعم التي في الآفاق ، فإنه لولا الحياة والسمع والبصر والأعضاء السليمة لما كان الانتفاع بشيء من المخلوق ممكنا .

واعلم أنه تعالى ذكر ههنا ثلاثة أشياء :

أولها : الأرض ، وإنما قدمها لأن أقرب الأشياء إلينا من الأمور الخارجية هو الأرض ، ومعنى الكفات في اللغة الضم والجمع ، يقال : كفت الشيء أي ضممته ، ويقال : جراب كفيت وكفت إذا كان لا يضيع شيئا مما يجعل فيه ، ويقال للقدر : كفت . قال صاحب الكشاف : هو اسم ما يكفت ، كقولهم : الضمام والجماع لما يضم ويجمع ، ويقال : هذا الباب جماع الأبواب ، وتقول : شددت الشيء ، ثم تسمي الخيط الذي تشدد به الشيء شدادا ، وبه انتصب ( أحياءوأمواتا ) كأنه قيل : كافتة أحياء وأمواتا ، أو بفعل مضمر يدل عليه ، وهو نكفت ، ويكون المعنى نكفتكم أحياء وأمواتا ، فينصبان على الحال من الضمير ، هذا هو اللغة ، ثم في المعنى وجوه :

أحدها : أنها تكفت أحياء على ظهرها وأمواتا في بطنها ، والمعنى أن الأحياء يسكنون في منازلهم والأموات يدفنون في قبورهم ، ولهذا كانوا يسمون الأرض أما ؛ لأنها في ضمها للناس كالأم التي تضم ولدها وتكفله ، ولما كانوا يضمون إليها ، جعلت كأنها تضمهم .

وثانيها : أنها كفات الأحياء ، بمعنى أنها تكفت ما ينفصل عن الأحياء من الأمور المستقذرة ، فأما أنها تكفت [ الأحياء ] حال كونهم على ظهرها فلا .

وثالثها : أنها كفات الأحياء بمعنى أنها جامعة لما يحتاج الإنسان إليه في حاجاته من مأكل ومشرب ؛ لأن كل ذلك يخرج من الأرض ، والأبنية الجامعة للمصالح الدافعة للمضار مبنية منها .

ورابعها : أن قوله : ( أحياءوأمواتا ) معناه راجع إلى الأرض ، والحي ما أنبت ، والميت ما لم ينبت . بقي في الآية سؤالان :

الأول : لم قيل : ( أحياءوأمواتا ) على التنكير ، وهي كفات الأحياء والأموات جميعا ؟ الجواب : هو من [ ص: 242 ] تنكير التفخيم ، كأنه قيل : تكفت أحياء لا يعدون ، وأمواتا لا يحصرون .

السؤال الثاني : هل تدل هذه الآية على وجوب قطع النباش ؟ الجواب : نقل القفال أن ربيعة قال : دلت الآية على أن الأرض كفات الميت فتكون حرزا له ، والسارق من الحرز يجب عليه القطع .

النوع الثاني من النعم المذكورة في هذه الآية قوله تعالى : ( وجعلنا فيها رواسي شامخات ) ، فقوله : (رواسي ) أي : ثوابت على ظهر الأرض لا تزول ، و ( شامخات ) أي عاليات ، وكل عال فهو شامخ ، ويقال للمتكبر : شامخ بأنفه . ومنافع خلقة الجبال قد تقدمت في هذا الكتاب .

النوع الثالث من النعم : قوله تعالى : ( وأسقيناكم ماء فراتا ) ، الفرات هو الغاية في العذوبة ، وقد تقدم تفسيره في قوله : ( هذا عذب فرات ) [ الفرقان : 53 ] .

القرطبى : أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا

قوله تعالى : ألم نجعل الأرض كفاتا أي ضامة تضم الأحياء على ظهورها والأموات في بطنها . وهذا يدل على وجوب مواراة الميت ودفنه ، ودفن شعره وسائر ما يزيله عنه . وقوله - عليه السلام - : قصوا أظافركم وادفنوا قلاماتكم وقد مضى في ( البقرة ) بيانه يقال : كفت الشيء أكفته : إذا جمعته وضممته ، والكفت : الضم والجمع ; وأنشد سيبويه :

كرام حين تنكفت الأفاعي إلى أحجارهن من الصقيع

وقال أبو عبيد : كفاتا أوعية . ويقال للنحي : كفت وكفيت ; لأنه يحوي اللبن ويضمه قال :

فأنت اليوم فوق الأرض حي وأنت غدا تضمك في كفات

وخرج الشعبي في جنازة فنظر إلى الجبان فقال : هذه كفات الأموات ، ثم نظر إلى البيوت فقال : هذه كفات الأحياء .

والثانية : روي عن ربيعة في النباش قال تقطع يده فقيل له : لم قلت ذلك ؟ قال : إن الله - عز وجل - يقول : ألم نجعل الأرض كفاتا أحياءوأمواتا فالأرض حرز . وقد مضى هذا في سورة ( المائدة ) . وكانوا يسمون بقيع الغرقد كفتة ، لأنه مقبرة تضم الموتى ، فالأرض تضم الأحياء إلى منازلهم والأموات في قبورهم . وأيضا استقرار الناس على وجه الأرض ، ثم اضطجاعهم عليها ، انضمام منهم إليها . وقيل : هي كفات للأحياء يعني دفن ما يخرج من الإنسان من الفضلات في الأرض ; إذ لا ضم في كون الناس عليها ، والضم يشير إلى الاحتفاف من جميع الوجوه .

وقال الأخفش وأبو عبيدة ومجاهد في أحد قوليه : الأحياء والأموات ترجع إلى الأرض ، أي الأرض منقسمة إلى حي وهو الذي ينبت ، وإلى ميت وهو الذي لا ينبت . وقال الفراء : انتصب أحياء وأمواتا بوقوع الكفات عليه ; أي ألم نجعل الأرض كفات أحياء وأموات . فإذا نونت نصبت ; كقوله تعالى : أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما . وقيل : نصب على الحال من الأرض ، أي منها كذا ومنها كذا . وقال الأخفش : كفاتا جمع كافتة والأرض يراد بها الجمع فنعتت بالجمع . وقال الخليل : التكفيت : تقليب الشيء ظهرا لبطن أو بطنا لظهر . ويقال : انكفت القوم إلى منازلهم أي انقلبوا . فمعنى الكفات أنهم يتصرفون على ظهرها وينقلبون إليها ويدفنون فيها .

الطبرى : أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا

يقول تعالى ذكره: منبها عباده على نعمه عليهم: ( أَلَمْ نَجْعَلِ ) أيها الناس ( الأَرْضَ ) لكم ( كِفَاتًا ) يقول: وعاء، تقول: هذا كفت هذا وكفيته، إذا كان وعاءه.

وإنما معنى الكلام: ألم نجعل الأرض كِفاتَ أحيائكم وأمواتكم، تكْفِت أحياءكم في المساكن والمنازل، فتضمهم فيها وتجمعهم، وأمواتَكم في بطونها في القبور، فيُدفَنون فيها.

ابن عاشور : أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا

أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) جاء هذا التقرير على سنن سابقيه في عدم العطف لأنه على طريقة التكرير للتوبيخ ، وهو تقرير لهم بما أنعم الله به عليهم من خلق الأرض لهم بما فيها مما فيه منافعهم كما قال تعالى : { مَتاعاً لكم ولأنعامكم } [ النازعات : 33 ] .

إعراب القرآن : أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا

«أَلَمْ نَجْعَلِ» الهمزة حرف استفهام ومضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر و«الْأَرْضَ» مفعول به أول و«كِفاتاً» مفعول به ثان والجملة مستأنفة

وَٱلۡمُرۡسَلَٰتِ عُرۡفٗا ١ فَٱلۡعَٰصِفَٰتِ عَصۡفٗا ٢ وَٱلنَّٰشِرَٰتِ نَشۡرٗا ٣ فَٱلۡفَٰرِقَٰتِ فَرۡقٗا ٤ فَٱلۡمُلۡقِيَٰتِ ذِكۡرًا ٥ عُذۡرًا أَوۡ نُذۡرًا ٦ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَٰقِعٞ ٧ فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتۡ ٨ وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ فُرِجَتۡ ٩ وَإِذَا ٱلۡجِبَالُ نُسِفَتۡ ١٠ وَإِذَا ٱلرُّسُلُ أُقِّتَتۡ ١١ لِأَيِّ يَوۡمٍ أُجِّلَتۡ ١٢ لِيَوۡمِ ٱلۡفَصۡلِ ١٣ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا يَوۡمُ ٱلۡفَصۡلِ ١٤ وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ ١٥

" وَٱلۡمُرۡسَلَٰتِ عُرۡفٗا " عن أبى هريرة قال الملائكة وروى عن أبى صالح أنه قال هى الرسل وفى رواية عنه أنها الملائكة وهكذا قال أبو صالح فى العاصفات والناشرات والفارقات والملقيات أنها الملائكة وهذا لأن الله تعالى جعل الملائكة موكلين يأتمرون بأمره وقال ابن جرير يمكن أن تكون الملائكة اذا أرسلت بالعرف أو كعرف الفرس يتبع بعضهم بعضا أو هى الرياح اذا هبت شيئا فشيئا ؟ وقال ابن مسعود الريح ، " فَٱلۡعَٰصِفَٰتِ عَصۡفٗا " قطع ابن جرير أن العاصفات عصفا الرياح كما يقال عصفت الرياح اذا هبت بتصويت ، " وَٱلنَّٰشِرَٰتِ نَشۡرٗا " وكذا الناشرات هى الرياح التى تنشر السحاب فى آفاق السماء كما يشاء الرب عز وجل وعن أبى صالح أن الناشرات نشر هو المطر الذى تنشره الريح  وقال ابن مسعود ومن تابعه هى الرياح وممن قال ذلك فى العاصفات عصفا أيضا على بن أبى طالب والسدى وتوقف فى الناشرات نشرا هل هى الملائكة أو الريح والأظهر أن المرسلات هى الرياح كما قال تعالى " وأرسلنا الرياح لواقح " وقال تعالى " وهو الذى يرسل الرياح بشرا بين يدى رحمته " ، "  فَٱلۡفَٰرِقَٰتِ فَرۡقٗا *  فَٱلۡمُلۡقِيَٰتِ ذِكۡرًا * عُذۡرًا أَوۡ نُذۡرًا " يعنى الملائكة قال ابن مسعود وابن عباس وقتدة وغيرهم ذلك ولا خلاف هنا فانها تنزل بأمر الله على الرسل تفرق بين الحق والباطل والهدى والغى والحلال والحرام ، وتلقى الى الرسل وحيا فيه اعذار الى الحق وانذار به من قيام الساعة والنفخ فى الصور وبعث الأجساد وجمع الأولين والآخرين فى صعيد واحد ومجازاة كل عامل بعمله ان خيرا فخير وان شرا فشر،  " إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَٰقِع "  ان هذا كله لواقع أى لكائن لا محالة ،  يتحدث الله عز وجل عن أهوال يوم القيامة وما يقع فيه فيقول " فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتۡ " فى هذا اليوم تطمس النجوم أى يهب ضوؤها كقوله تعالى " واذا النجون انكدرت " وكقوله تعالى " واذا الكواكب انتثرت " ، "  وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ فُرِجَتۡ " أى اذا السماء انفطرت وانشقت وتدلت أرجاؤها ووهت أطرافها ، " وَإِذَا ٱلۡجِبَالُ نُسِفَتۡ " أى اذا الجبال ذهبت وتحطمت فلا يبقى لها عين ولا أثر كقوله تعالى " ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفا " وكقوله تعالى " ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا " ، " وَإِذَا ٱلرُّسُلُ أُقِّتَتۡ " قال ابن عباس جمعت أى أن الرسل جمعت للوقت الذى حدده الله وهذا كقوله " يوم يجمع الله الرسل " وقال مجاهد " أقتت " أجلت أى لأجل محدد وعن ابراهيم " أقتت " أوعدت وكأنه يجعلها كقوله تعالى " واشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجىء بالنبيين والشهداء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون " ثم قال تعالى "  لِأَيِّ يَوۡمٍ أُجِّلَتۡ * لِيَوۡمِ ٱلۡفَصۡلِ " يقول تعالى لأى يوم أجلت الرسل وأرجىء أمرها حتى تقوم الساعة ويوم الفصل هو اسم من أسماء يوم القيامة لأنه يفصل فيه بين الناس ويحكم الله بينهم بحسابه ويقضى بينهم بعدله ويفصل فيه بين جميع الأمور وتحسم أما الى الجنة أو النار ووضح ذلك بقوله " وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا يَوۡمُ ٱلۡفَصۡلِ " هذا تهويل مما يحدث فى هذا اليوم مما لا يمكن أن يدرى أحد بما سيقع  فيه ويدرى ما يحدث من هول ، " وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ " أى ويل لمن كذب الرسل وكفر وكذب بيوم البعث ويل لهم من عذاب الله غدا وقد تقدم القول فى الحديث أن ويل واد فى جهنم .

أَلَمۡ نُهۡلِكِ ٱلۡأَوَّلِينَ ١٦ ثُمَّ نُتۡبِعُهُمُ ٱلۡأٓخِرِينَ ١٧ كَذَٰلِكَ نَفۡعَلُ بِٱلۡمُجۡرِمِينَ ١٨ وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ ١٩ أَلَمۡ نَخۡلُقكُّم مِّن مَّآءٖ مَّهِينٖ ٢٠ فَجَعَلۡنَٰهُ فِي قَرَارٖ مَّكِينٍ ٢١ إِلَىٰ قَدَرٖ مَّعۡلُومٖ ٢٢ فَقَدَرۡنَا فَنِعۡمَ ٱلۡقَٰدِرُونَ ٢٣ وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ ٢٤ أَلَمۡ نَجۡعَلِ ٱلۡأَرۡضَ كِفَاتًا ٢٥ أَحۡيَآءٗ وَأَمۡوَٰتٗا ٢٦ وَجَعَلۡنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ شَٰمِخَٰتٖ وَأَسۡقَيۡنَٰكُم مَّآءٗ فُرَاتٗا ٢٧ وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ ٢٨

" أَلَمۡ نُهۡلِكِ ٱلۡأَوَّلِينَ " يتحدث الله عز وجل محذرا ومنذرا للمشركين من قريش أن يتعظوا بما حل من الأمم المكذبة بالرسل من قبلهم من المكذبين للرسل المخالفين لما جاءوهم به من هلاك ، " ثُمَّ نُتۡبِعُهُمُ ٱلۡأٓخِرِينَ" وكذلك أهلك الله من أشبههم واتبعهم بهم فى الهلاك ولهذا قال تعالى "  كَذَٰلِكَ نَفۡعَلُ بِٱلۡمُجۡرِمِينَ " يعقب الله عزوجل ان ما وقع من هلاك هو جزاء مستحق منه لمن كفر وكذب وأجرم فى حق الله باتباع الكفر ، " وَيۡل ٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ " أى ويل لمن كذب الرسل وكفر وكذب بيوم البعث ويل لهم من عذاب الله غدا وقد تقدم القول فى الحديث أن ويل واد فى جهنم ،  ثم قال تعالى ممتنا على خلقه ومحتجا على الاعادة بالبداءة  "  أَلَمۡ نَخۡلُقكُّم مِّن مَّآءٖ مَّهِين" يتحدث الله عن خلق الانسان  من ماء ضعيف حقير وهو المنى ماء الرجل وماء المرأة بالنسبة الى قدرة البارىء عزوجل كما تقدم فى سورة يس فى حديث بشر بن جحاش " ابن آدم أنى تعجزنى وقد خلقتك من مثل هذا ؟ " ، " فَجَعَلۡنَٰهُ فِي قَرَارٖ مَّكِينٍ " يعنى جمعناه فى الرحم وهو قرار الماء من الرجل والمرأة والرحم معد لذلك حافظ لما أودع فيه من الماء وهو مهيأ لنمو الجنين ورعايته من حيث تركيبه ووجوده واتصاله بالأم والجنين ، " إِلَىٰ قَدَرٖ مَّعۡلُوم" يعنى الى مدة معينة وهى فترة الحمل من ستة أشهر الى تسعة أشهر ولذا قال تعالى " فَقَدَرۡنَا فَنِعۡمَ ٱلۡقَٰدِرُونَ " يثنى الله على نفسه وعلى قدرته فى الخلق أى قدرنا على فعل هذا الأمر الذى لا يستطيعه أحد غيرنا فنستحق الثناء على هذه القدرة على الخلق فالله وحده هو الخالق البارىء المصور المتفرد بالملك ، بعد ابراز قدرة الله عقب بالتهديد والوعيد لمن كفر به وكذب الرسل قال " وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ "  أى ويل لمن كذب الرسل وكفر وكذب بيوم البعث ويل لهم من عذاب الله غدا وقد تقدم القول فى الحديث أن ويل واد فى جهنم ، " أَلَمۡ نَجۡعَلِ ٱلۡأَرۡضَ كِفَاتًا * أَحۡيَآءٗ وَأَمۡوَٰتٗا " قال مجاهد يكفت الميت فلا يرى منه شىء وقال ابن عباس كفاتا كنا وقال الشعبى بطنها لأمواتكم وظهرها لأحيائكم وقيل كفاتا أى تكفل وتسع من فيها من أموات وأحياء وتتكفل بهم الى يوم القيامة وهذا وعد من الله عكس ما يقوله البعض من حدوث مجاعات بسبب تزايد السكان فلا تكفيهم الأرض وقد قال مالتس من قبل نظريته وتنبأ بحدوث هلاك ومجاعات بحلول عام 1975 حسب نظريته بتضاعف سكان الأرض مع قلة مواردها ولكن المشكلة هى عدم العدالة فى التوزيع للثروات على الأرض فالله جعل الأرض كفيلة بحياة البشر توفر لهم الستر فى الحياة وفى الممات فيها يعيشون وفيها يتوارون فى اللحود ومنها يبعثون ،" وَجَعَلۡنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ شَٰمِخَٰت" يتحدث الله عن قدرته فى خلق الجبال وسماها رواسى شامخات أى عالية فوق سطح الأرض يعنى الجبال رسى بها الأرض لئلا تميد وتضطرب فهى كالأوتاد التى تمسك بالخيمة وتثبتها كقوله " والجال أوتادا " ، "وَأَسۡقَيۡنَٰكُم مَّآءٗ فُرَاتٗا"  ومن قدرة الله عز وجل ونعمه على عباده انزال الماء العذب الزلال وهو الفرات من السحاب أو مما أنبعه من عيون الأرض وما أجراه فيها من أنهار وبحيرات عذبة وغير ذلك يسير فيها الماء فيسقى البشر والزروع والثمار والأنعام وهو أساس الحياة وخص السقى لأنها الأعم فى الاستخدام للماء وهو الذى تقوم عليه حياة الكائنات الحية كلها ، " وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ " يتكرر التهديد والوعيد من الله للكافرين أى ويل لمن كذب الرسل وكفر وكذب بيوم البعث ويل لهم من عذاب الله غدا وقد تقدم القول فى الحديث أن ويل واد فى جهنم . 

ٱنطَلِقُوٓاْ إِلَىٰ مَا كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَ ٢٩ ٱنطَلِقُوٓاْ إِلَىٰ ظِلّٖ ذِي ثَلَٰثِ شُعَبٖ ٣٠ لَّا ظَلِيلٖ وَلَا يُغۡنِي مِنَ ٱللَّهَبِ ٣١ إِنَّهَا تَرۡمِي بِشَرَرٖ كَٱلۡقَصۡرِ ٣٢ كَأَنَّهُۥ جِمَٰلَتٞ صُفۡرٞ ٣٣ وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ ٣٤ هَٰذَا يَوۡمُ لَا يَنطِقُونَ ٣٥ وَلَا يُؤۡذَنُ لَهُمۡ فَيَعۡتَذِرُونَ ٣٦ وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ ٣٧ هَٰذَا يَوۡمُ ٱلۡفَصۡلِۖ جَمَعۡنَٰكُمۡ وَٱلۡأَوَّلِينَ ٣٨ فَإِن كَانَ لَكُمۡ كَيۡدٞ فَكِيدُونِ ٣٩ وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ ٤٠

يقول تعالى مخبرا عن الكفار المكذبين بالمعاد والجزاء والجنة والنار أنهم يقال لهم يوم القيامة  " ٱنطَلِقُوٓاْ إِلَىٰ مَا كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَ * ٱنطَلِقُوٓاْ إِلَىٰ ظِلّٖ ذِي ثَلَٰثِ شُعَب* لَّا ظَلِيلٖ وَلَا يُغۡنِي مِنَ ٱللَّهَبِ " يقول الله موبخا لهم اسرعوا منطلقين الى ما كنتم تكذبون به من النار ويقول لهم سخرية منهم توجهوا الى ظل أى استظلوا والظل هو ما تحمى به نفسك من الحر ولكنهم لا ظل لهم فالنار محيطة بهم ويكون ظلهم الدخان من لهب النار الذى تصاعد منه هذا الدخان ومن شدته وقوته أن له ثلاث شعب أى متشعب ممتد فهذا الظل الذى يستظلون به من حر النار وهودخان جهنم لا ظليل هو فى نفسه ولا يغنى من اللهب أى لا يقيهم حر اللهب فى جهنم وهذا تبشيع للعذاب حتى تتحق الخشية منه والخوف والرهبة وتتحق الخشية من الله وعذابه والاتجاه الى رحمته وثوابه ، " إِنَّهَا تَرۡمِي بِشَرَرٖ كَٱلۡقَصۡرِ "   يتحدث الله عز وجل عن جهنم يتطاير الشرر من لهبها كالقصر قال ابن مسعود كالحصون  وقال ابن عباس يعنى أصول الشجر وقال ابن عباس كنا نعمد الى الخشبة ثلاثة أذرع وفوق ذلك فنرفعه للبناء فنسميه القصر  ، " كَأَنَّهُۥ جِمَٰلَتٞ صُفۡر" الجمالة كما قال مجاهد وابن جرير وقتادة وغيرهم هى الابل ولكن اللون هنا أصفر وهو لون للهب الشديد فالنار حسب درجة شدتها لها لون يميزها فالنار لهبها مرتفع ارتفاع الجمال وقال ابن عباس صفر قطع نحاس ويقدم القرآن للمشركين تصوير من البيئة التى يعيشون فيها فذكر كلمة القصر وكلمة الجمالة وهم يعرفون ذلك لتقريب الصورة لفهمهم ولكن كل هذه التشبيهات لتيسير الفهم وتوضيح الصورة بالأمثلة والتشبيهات ، " وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ" ويتكرر التهديد من الله للمكذبين لتأكيد ما يقوله عز وجل حتى يرجعون عن ما هم فيه أى ويل لمن كذب الرسل وكفر وكذب بيوم البعث ويل لهم من عذاب الله غدا وقد تقدم القول فى الحديث أن ويل واد فى جهنم ، " هَٰذَا يَوۡمُ لَا يَنطِقُونَ * وَلَا يُؤۡذَنُ لَهُمۡ فَيَعۡتَذِرُونَ " يتحدث الله عزوجل عن يوم القيامة  فيقول أن الكافرين لايقدرون على الكلام فى هذا اليوم ولا يؤذن لهم فيه ليعتذروا بل قد قامت عليهم الحجة ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ، وعرصات القيامة حالات والرب تعالى يخبر عن هذه الحالة تارة وعن هذه الحال تارة ليدل على شدة الأهوال والزلازل يومئذ ولهذا يقول بعد كل فصل من هذا الكلام " وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ "  أى ويل لمن كذب الرسل وكفر وكذب بيوم البعث ويل لهم من عذاب الله غدا وقد تقدم القول فى الحديث أن ويل واد فى جهنم ، " هَٰذَا يَوۡمُ ٱلۡفَصۡلِۖ جَمَعۡنَٰكُمۡ وَٱلۡأَوَّلِينَ " هذه مخاطبة من الخالق تعالى لعباده يقول لهم هذا هو اليوم الذى جمعناكم فيه جميعا السابقين واللاحقين بقدرتنا فى صعيد واحد وسماه الله يوم الفصل وتكرر ذكر تلك التسمية فى هذه السورة ، " فَإِن كَانَ لَكُمۡ كَيۡدٞ فَكِيدُونِ " تهديد شديد ووعيد أكيد أى ان قدرتم على أن تتخلصوا من قبضتى وتنجوا من حكمى فافعلوا فانكم لا تقدرون على ذلك وقد قال تعالى " ولا تضرونه شيئا " وفى الحديث " يا عبادى انكم لن تبلغوا نفعى فتنفعونى ولن تبلغوا ضرى فتضرونى " وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ " يكرر الله هذه الآية معقبا أى ويل لمن كذب الرسل وكفر وكذب بيوم البعث ويل لهم من عذاب الله غدا وقد تقدم القول فى الحديث أن ويل واد فى جهنم . 

اِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي ظِلَٰلٖ وَعُيُونٖ ٤١ وَفَوَٰكِهَ مِمَّا يَشۡتَهُونَ ٤٢ كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ هَنِيٓ‍َٔۢا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٤٣ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٤٤ وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ ٤٥ كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلًا إِنَّكُم مُّجۡرِمُونَ ٤٦ وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ ٤٧ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱرۡكَعُواْ لَا يَرۡكَعُونَ ٤٨ وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ ٤٩ فَبِأَيِّ حَدِيثِۢ بَعۡدَهُۥ يُؤۡمِنُونَ ٥٠

يقول تعالى مخبرا عن عباده المتقين الذين عبدوه بأداء الواجبات وترك المحرمات " إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي ظِلَٰلٖ وَعُيُونٖ * وَفَوَٰكِهَ مِمَّا يَشۡتَهُونَ " يقول الله تعالى عن المتقين وحالهم يوم القيامة وهم فى الجنة أنهم يكونون فى جنات يستظلون بظل شجرها وعيون ولهم فيها سائر أنواع الثمار مهما طلبوا وجدوا ،" كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ هَنِيٓ‍َٔۢا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ " ويقال لهم على سبيل الاحسان اليهم هنيئا لكم ما تتمعون به من مأكل ومشرب جزاءا لما قدمتموه فى الحياة الدنيا من عمل ، " إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ " أى هذا جزاؤنا لمن أحسن العمل ، " وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ " بعد أن تحدث الله عن حال المتقين كرر سوء ما ينتظر المكذبين من عاقبة َ أى ويل لمن كذب الرسل وكفر وكذب بيوم البعث ويل لهم من عذاب الله غدا وقد تقدم القول فى الحديث أن ويل واد فى جهنم   ، " كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلًا إِنَّكُم مُّجۡرِمُونَ " هذا خطاب من الله عز وجل للمكذبين بيوم الدين فأمرهم أمر تهديد ووعيد تمتعوا بالأكل وملذات الحياة الدنيا فمتاع الدنيا قليل مدته قليلة قصيرة وخص الأكل لأنه هو أساس الحياة والسعى فيها وهو أساس المتعة ثم تحدث عن التمتع بالملذات الأخرى باستخدام فعل تمتعوا فمهما تمتعتم به فأنتم كافرون مكذبون سوف تساقون بعد هذه المتع فى الحياة الدنيا الى نار جهنم التى تقدم ذكرها ، "وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ " أى ويل لمن كذب الرسل وكفر وكذب بيوم البعث ويل لهم من عذاب الله غدا وقد تقدم القول فى الحديث أن ويل واد فى جهنم كما قال تعالى " نمتعهم قليلا ثم نضطرهم الى عذاب غليظ " وكما قال تعالى " ان الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع فى الدنيا ثم الينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون " ، " وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱرۡكَعُواْ لَا يَرۡكَعُونَ " يتحدث الله تعالى عن الكفار فيقول اذا أمر هؤلاء الجهلة من الكفار أن يكونوا من المصلين مع الجماعة امتنعوا من ذلك واستكبروا عنه ولهذا قال تعالى " وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ أى ويل لمن كذب الرسل وكفر وكذب بيوم البعث ويل لهم من عذاب الله غدا وقد تقدم القول فى الحديث أن ويل واد فى جهنم . " فَبِأَيِّ حَدِيثِۢ بَعۡدَهُۥ يُؤۡمِنُونَ " أى اذا لم يؤمنوا بهذا القرآن فبأى كلام يؤمنون به ؟ كقوله تعالى " فبأى حديث بعد الله وآياته يؤمنون " وعن اسماعيل بن أمية سمعت رجلا أعرابيا بدويا يقول سمعت حديث أبا هريرة يرويه  اذا قرأ والمرسلات عرفا - فقرأ - " فبأى حديث بعده يؤمنون " فليقل آمنت بالله وبما أنزل ، وقد تقدم هذا الحديث فى سورة القيامة .

150-] English Literature

150-] English Literature Letitia Elizabeth Landon     List of works In addition to the works listed below, Landon was responsible for nume...