تبسيط تفسير أبن كثير للقرآن الكريم ( 9 )
الجزء التاسع
تفسير سورة الأعراف
قال الملأ الذين استكبروا من
قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن فى ملتنا قال أو لو
كنا كارهين * قد افترينا على الله كذبا ان عدنا فى ملتكم بعد اذ نجانا الله منها
وما يكون لنا أن تعود فيها الا أن يشاء الله وسع ربنا كل شىء علما على الله توكلنا
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين 88 - 89
" قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن فى ملتنا " هذا خبر من الله تعالى عما واجهت به الكفار نبيه شعيبا عليه السلام ومن معه من المؤمنين فى توعدهم اياه ومن معه بالنفى عن القرية أو الاكراه على الرجوع فى ملتهم والدخول معهم فيما هم فيه ، " قال أو لو كنا كارهين * قد افترينا على الله كذبا ان عدنا فى ملتكم بعد اذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها الا ان يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شىء علما " لو أنتم فعلتم ما قلتم من اخراجنا ونحن كارهون لذلك ولما تدعونا اليه ، فانا ان رجعنا الى ملتكم ودخلنا معكم فيما أنتم فيه فقد أعظمنا الفرية على الله فى جعل الشركاء معه أندادا بعد أن نجانا من الشرك والكفر، لايمكن أن نعود فى ملتكم أبدا وهذه مشيئة الله وهو الذى يعلم كل شىء وقد أحاط بكل شىء علما وهذا تنفير منه عن اتباعهم ، " على الله توكلنا " اننا نتوكل على الله فى أمورنا ما نأتى منها وما نذر ، " ربنا افتح ننا ربنا احكم بيننا وبين قومنا وانصرنا عليهم فانت خير الحاكمين ، فانك العادل الذى لايجور أبدا .بين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين"
وقال الملأ الذين كفروا من
قومه لئن اتبعتم شعيبا انكم اذا لخاسرون * فأخذتهم الرجفة فأصبحوا فى دارهم جاثمين
* الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين * فتولى
عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين 90 -
92
" وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا انكم اذا لخاسرون " يخبر تعالى عن شدة كفرهم وتمردهم وما هم فيه من ضلال وما جبلت عليه قلوبهم من المخالفة للحق ومعارضة شعيب عليه السلام وقسمهم ان اتباع شعيب وما جاء به من عند الله من دعوة فيه خسران لمن اتبعه ، " فأخذتهم الرجفة فأصبحوا فى دارهم جاثمين " أخبر له تعالى أنهم كعقاب لهم على كفرهم وكذبهم على الله وعلى رسوله أخذتهم الرجفة وذلك كما أرجفوا شعيبا وأصحابه وتوعدوهم بالجلاء كما أخبر عليهم فى سورة هود فقال " ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا فى ديارهم جاثمين " جاءتهم صيحة من السماء ورجة من الأرض شديدة من أسفل منهم فزهقت الأرواح وفاضت النفوس وخمدت الاجساد ،وقال الله " أصابهم عذاب يوم الظلة " وهى سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم ،وما اك الا أنهم قالوا فى سياق القصة " فأسقط علينا كسفا من السماء " ،" الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين" الذين كذبوا شعيبا عليه السلام كأنهم لما أصابتهم النقمة لم يقيموا بديارهم التى أرادوا اجلاء الرسول وصحبه منها وقال تعالى مقابلا لقيلهم " الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين " الذين كذبوا شعيبا عليه السلام خسروا كل شىء فى الدنيا وفى الآخرة استحقوا العذاب فى الدنيا فلحق بهم الصيحة والرجفة ويوم القيامة لهم عذاب جهنم وبئس ا لمصير ، " فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم فكبف آسى على قوم كافرين " فتولى عنهم شعيب عليه السلام بعد ما أصابم من العذاب والنقمة والنكال وقال مقرعا لهم قد أديت اليكم ما أرسلت به فلا آسف عليكم وقد كفرتم بما جئتكم به .
" وما أرسلنا فى قرية من نبى الا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم
يضرعون " يقول تعالى مخبرا عما اختبر به الأمم الماضية الذين أرسل اليهم
الأنبياء بالبأساء والضراء ، يعنى بالبأساء ما يصيبهم فى أبدانهم من أمراض وأسقام
،والضراء ما يصيبهم من فقر وحاجة ونحو ذلك ، الله ابتلاهم بالشدة لعلهم يخشعون
ويبتهلون الى الله تعالى فى كشف ما نزل بهم ، " ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة
" ابتلاهم بالشدة ليتضرعوا فما فعلوا شيئا من الذى أراد منهم فقلب عليهم
الحال الى رخاء ليختبرهم فيه ، حول الله الحال من شدة الى رخاء ومن مرض وسقم الى
صحة وعافية ومن فقر الى غنى ليشكروا على ذلك فما فعلوا ،" حتى عفوا "
حتى كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم يقال عفا الشىء اذا كثر ، "وقالوا قدمس
آباءنا الضراء والسراء فاخذناهم بغتة وهم لا يشعرون " ابتليناهم بهذا وهذا
ليتضرعوا وينيبوا الى الله فما نجع فيهم لا هذا ولا هذا ولا انتبهوا بهذا ، وقالوا
قد مسنا من البأساء والضراء ، ثم بعده من الرخاء ما أصاب آباءنا فى قديم الزما
والدهر ، وانما هو الدهر تارات وتارات ، بل لم يتفطنوا لأمر الله فيهم ولا
استشعروا ابتلاء الله لهم فى الحالين ، وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين يشكرون الله
على السراء والضراء ، كما ثبت فى الصحيحين : " عجبا للمؤمن لا يقضى الله له
قضاء الا كان خيرا له ، ان أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وان أصابته سراء فشكر
فكان خيرا له "، فالمؤمن من يتفطن لما ابتلاه به الله من الضراء والسراء ،
وقد جاء فى الحديث " لايزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نقيا من ذنوبه ،
وابلمنافق مثله كمثل الحمار لايدرى فيم ربطه أهله ولا فيم أرسلوه " ، لهذا
عقب هذه الصفة بقوله " فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون " أخذناهم بالعقوبة
بغتة ، أى على بغتة وعدم شعور منهم أى أخذناهم فجأة كما فى الحديث " موت
الفقجأة رحمة للمؤمن وأخذة أسف للكافر " .
ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا
لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون *
أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون * أو أمن أهل القرى أن يأتيهم
بأسنا ضحى وهم يلعبون * أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون 96
- 99
" ولو أن أهل القرى آمنوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض " يخبر تعالى عن قلة ايمان أهل القرى الذين أرسل اليهم الرسل فلوآمنت قلوبهم بما جاء به الرسل وصدقت به واتبعوهم واتقوا بفعل الطاعات وترك المحرمات لرزقهم الله رزقا واسعا بركات السماء من المطر الذى ينبت به الزروع والثمار وهى بركات الأرض كقوله تعالى " فلولا كانت قرية آمنت فنفعها ايمانها الا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى فى الحياة الدنيا ومتعناهم الى حين " ما آمنت قرية بتمامها الا قوم يونس فانهم آمنوا وذلك بعد ما عاينوا العذاب ، " ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون " لكنهم كذبوا رسلهم فعاقبناهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم والمحارم ، " أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون " يقول تعالى محذرا من مخالفة أوامره والتجرىء على زواجره هل يستطيع احد من أهل القرى الكافرة أن يأمن أن يأتيه عذاب الله ونكاله ليلا وهو نائم جزاءا لكفره ، " أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون " وعكس البيات أى الليل الضحى وهو وسط النهار الملىء بالنشاط والشغل والغفلة فهل أيضا يمكن للكافرين أن يأمنوا أن يقع عليهم العذاب جزاء كفرهم وهم فى النهار غافلون ، " ل يمكنهم أن يأمنوا بأس الله ونقمته وقدرته عليهم وأخذه اياهم فى حال سهوهم وغفلتهم ، " فلا يأمن مكر الله فأمنوا مكر الله " الا القوم الخاسرون " لايأمن من بأس الله وشدته ويغفل عنها الا الفاسق الفاجر الكافر الذى يخسر الدنيا ويخسر الآخرة بسبب معاصيه ، ولهذا قال الحسن البصرى " المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف ، والفاجر يعمل المعاصى وهو آمن .
أو لم يهد للذين يرثون الأرض
من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون 100
" أو لم يهد للذين يرثون الأرض من
بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم " قال أبو جعفر بن جرير فى تفسيرها
يقول تعالى أو لم يتبين للذين يستخلفون فى الأرض من بعد اهلاك آخرين قبلهم كانوا
أهلها فساروا سيرتهم وعملوا أعمالهم وعتوا على ربهم ، , قال أبن عباس أو لم يتبين
لهم أن لونشاء أصبناهم بذنوبهم أى لو نشاء
فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم ، " ونطبع على قلوبهم فهم لايسمعون "
نختم على قلوبهم فلا يسمعون موعظةولا تذكيرا ، كما فى قوله " أفلم يهد لهم كم
أهلكنا قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم ان فى ذلك لآيات لأولى النهى " ،
وقال تعالى " ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به
يستهزؤن " الى غير ذلك من الآيات الدالة على حلول نقمة الله بأعدائه وحصول
نعمه لأوليائه .
تلك القرىنقص عليك من أنبائها
ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله
على قلوب الكافرين * وما وجدنا لأكثرهم من عهد وان وجدنا أكثرهم لفاسقين 101 - 102
" تلك القرى نقص عليك من أنبائها " لما قص الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم خبر قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وما كان من اهلاكه الكافرين وانجائه المؤمنين وأنه تعالى أعذر اليهم بأن بين لهم الحق بالحجج على ألسنة الرسل صلوات الله عليهم أجمعين يقول تعالى يا محمد نقص عليك من أخبار من قبلك من الرسل وما حدث لهم ، " ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات " أتتهم رسلهم بالحجج على صدقهم فيما أخبروهم به ، وهذا كقوله " ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد * وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم " ، " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل " فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم ، " كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين " نتيجة لتكذيبهم ختم الله على قلوبهم جزاء كفرهم ، " وما وجدنا لأكثرهم من عهد وان وجدنا أكثرهم لفاسقين " وما وجدنا لأكثر الأمم الماضية من ثبات على الحق والتمسك بما انزل الله على رسله ولكنهم كانوا فاسقين كافرين خارجين عن طاعة الله والامتثال لأوامره ،والعهد الذى أخذه الله هوما جبلهم عليه وفطرهم عليه وأخذ عليهم فى الأصلاب أنه ربهم ومليكهم وأنه لا اله الا هو وأقروا بذلك وشهدوا على أنفسهم به وخالفوه وتركوه وراء ظهورهم وعبدوا مع الله غيره بلا دليل ولا حجة لا من عقل ولا شرع وفى الفطر السليمة خلاف ذلك وجاءت الرسل الكرام من أولهم الى آخرهم بالنهى عن ذلك ، وفى صحيح مسلم يقول الله تعالى " انى خلقت عبادى حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم" وفى الصحيحين " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه " .
ثم بعثنا من بعدهم موسى
بآياتنا الى فرعون وملئه فظلموا بها فانظركيف كان عاقبة المفسدين 103
وقال موسى يا فرعون انى رسول
من رب العالمين * حقيق على أن لا أقول على الله الا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم
فأرسل معى بنى اسرائيل * قال ان كنت جئت بآية فأت بها ان كنت من الصادقين 104 -
106
" وقال موسى يا فرعون انى رسول من رب العالمين " يخبر تعالى عن مناظرة موسى لفرعون والجامه بالحجة واظهار الآيات البينات بحضرة فرعون وقومه من قبط مصر قال له أرسلنى الذى هو خالق كل شىء وربه ومليكه اليك ، " حقيق على أن لا أقول على الله الا الحق " جدير بما أقول وحرى به أن لا يكون ماأقول الا الحق من عند الله ، وقرأ آخرون من أهل المدينة حقيق على بمعنى واجب وحق على ذلك أن لا أخبر عن الله الا بما هو حق وصدق لما أعلم من عز جلاله وعظيم شأنه ، " قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معى بنى اسرائيل " جئت اليكم بحجة قاطعه من الله أعطانيها دليلا على صدقى فيما جئتكم به ، فاطلق بنى اسرائيل من أسرك وقهرك ودعهم وعبادة ربك وربهم فانهم من سلالة نبى كريم اسرائيل وهو يعقوب بن اسحاق ، " قال ان كنت جئت بآية فأت بها ان كنت من الصادقين" قال فرعون لست بمصدقك فيما قلبت ولا بمطيعك فيما طلبت فان كان معك حجة فأظهرها لنراها ان كنت صادقا فيما ادعيت .
فألقى عصاه فاذا هى ثعبان مبين
* ونزع يده فاذا عى بيضاء للناظرين 107 -
108
"
فألقى عصاه فاذا هى ثعبان مبين "قال أبن عباس الثعبان هى الحية الذكر ألقى
موسى عليه السلام عصاه فتحولت الى حية عظيمة فاغرة فاها مسرعة الى فرعون فلما رآها
فرعون أنها قاصدة اليه اقتحم عن سريره واستغاث بموسى أن يكفها عنه ففعل ، وقال
السدى فى قوله فاذا هى ثعبان مبين الثعبان الذكر من الحيات فاتحة فاها واضعة لحيها
الأسفل فى الأرض والآخر على سور قصر فرعون ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه فلما رآها
ذعر منها ووثب وأحدث ولم يكن يحدث قبل ذلك وصاح يا موسى خذها وأنا أومن بك وأرسل
معك بنى اسرائيل فأخذها موسى عليه السلام فعادت عصا ، " ونزع يده فاذا هى
بيضاء للناظرين " اخرج موسى عليه السلام يده من درعه بعد ما أدخلها فيه فاذا
هى بيضاء تتلألأ من غير برص ولا مرض ، كما قال تعالى " وأدخل يدك فى جيبك
تخرج بيضاء من غير سوء " وقال أبن عباس من غير سوء يعنى من غير برص ثم أعادها
الى كمه فعادت الى لونها الأول .
قال الملأ من قوم فرعون ان هذا
لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون 109 - 110
" قال الملأ من قوم فرعون ان هذا لساحر عليم " قال الملأ وهم الجمهور والسادةمن
قوم فرعون موافقين لقول فرعون فيه وكان فرعون قال بعد ما رجع اليه روعه واستقر على
سرير مملكته " ان هذا لساحر عليم "" يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا
تأمرون " تشاوروا فى أمر موسى عليه السلام كيف يصنعون فى أمره وكيف
تكونحيلتهم فى اطفاء نوره واخماد كلمته وظهور كذبه وافترائه وتخوفوا أن يستميل
الناس بسحره فيما يعتقدون فيكون ذلك سببافى ظهوره عليهم واخراجه اياهم من
ارضهم والذى خافوا منه وقع كقوله تعالى
" ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون .
قالوا أرجه وأخاه وأرسل فى
المدائن حاشرين * يأتوك بكل ساحر عليم 111- 112
"قالوا
أرجه وأخاه وأرسل فى المدائن حاشرين * يأتوك بكل ساحر عليم " لما تشاوروا فى
أمره وائتمروا فيه اتفق رأيهم قال أبن عباس قالوا لفرعون أخره وابعث فى الأقاليم
ومدائن ملكك من يحشر لك السحرة من سائر البلاد ويجمعهم وقد كان السحر فى زمانهم
غالبا كثيرا ظاهرا واعتقد من اعتقد منهم وأوهم من أوهم منهم أن ما جاء موسى به
عليه السلام من قبيل ما تشعبذه سحرتهم فلهذا جمعوا له السحرة ليعارضوه بنظير ما
أراهم من البينات كما قال تعالى عن فرعون " أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا
موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى
* قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى * فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى
" .
وجاء السحرة فرعون قالوا ان
لنا لأجرا ان كنا نحن الغالبين * قال نعم وانكم لمن المقربين 113 - 114
"
وجاء السحرة فرعون قالوا ان لنا لأجرا ان كنا نحن الغالبين * قال نعم وانكم لمن
المقربين " يخبر الله تعالى عما تشارط عليه فرعون والسحرة الذين استدعاهم
لمعارضة موسى عليه السلام ان غلبوا موسى ليثيبنهم وليعطيهم عطاء جزيلا فوعدهم
ومناهم أن يعطيهم ما أرادوا ويجعلهم من جلسائه والمقربين عنده.
قالوا ياموسى اما أن تلقى واما
أن نكون نحن الملقين * قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا
بسحر عظيم 115 - 116
" قالوا يا موسى اما أن تلقى واما أن نكون نحن الملقين " هذه مبارزة من السحرة لموسى عليه السلام أم أن تبدأ وتعرض سحرك على الناس أو نبدأ نحن ونعرض سحرنا عليهم ، " قال ألقوا " طلب موسى عليه السلام من السحرة أن يبدأوا بعرض سحرهم أولا وقيل الحكمة فى هذا والله أعلم ليرى الناس صنيعهم ويتأملوه فاذا فرغوا من بهرجهم ومحالهم جاء الحق الواضح الجلى بعد التطلب له والانتظار منهم لمجيئه فيكون أوقع فى النفوس وكذا كان ، " فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم " خيلوا الى الأبصار أن ما فعلوه له حقيقة فى الخارج ولم يكن الا مجرد صنعة وخيال وخداع بصر كما قال فى آية أخرى " انما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى " فكان أول ما اختطفوه بسحرهم بصر موسى عليه السلام وبصر فرعون ثم أبصار الناس ، ثم ألقى كل رجل منهم ما فى يده من الحبال والعصى فاذا حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادى يركب بعضها بعضا حتى جعل اليه من سحرهم أنها تسعى ولهذا قال تعالى " وجاءوا بسحر عظيم " .
وأوحينا الى موسى أن ألق عصاك
فاذا هى تلقف ما يأفكون * فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون * فغلبوا هنالك وانقلبوا
صاغرين * وألقى السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون 117 - 122
قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم ان هذا
مكر مكرتموه فى المدينة لتخرجوا أهلها فسوف تعلمون * لأقطعن أيديكم وأرجلكم من
خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين * قالوا انا الى ربنا منقلبون * وما تنقم منا الا أن أمنا
بآيات ربنا لما جآءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين 123 - 126
" قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم ان هذا لمكر مكرتموه فى المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون " توعد فرعون السحرة لما آمنوا بموسى عليه السلام وأظهرللناس كيدهومكره فقل ان غلبته لكم فى يومكم هذا انما كان عن تشاور منك ورضا منكم وهذا كقوله " انه لكبيركم الذى علمكم السحر " وفرعون يعلم وكل من له لب أن هذا الذى قاله من أبطل الباطل فان موسى عليه السلام بمجرد ما جاء من مدين دعا فرعون الى الله وأظهر المعجزات الباهرة والحجج القاطعة على صدق ما جاء به فعند ذلك أرسل فرعون فى مدائن ملكه ومعاملة سلطنته فجمع سحرة متفرقين من سائر الأقاليم ببلاد مصر ممن اختار هو والملأ من قومه وأحضرهم عنده ووعدهم بالعطاء الجزيل ولهذا قد كانوا من أحرص الناس على ذلك وعلى الظهور فى مقامهم ذكل والتقدم عند فرعون ، وموسى عليه السلام لا يعرف أحدا منهم ولا رآه ولا اجتمع به وفرعون يعلم ذلك ، وانما قال هذا تسترا وتدليسا على رعاع دولته وجهلتهم كما قال تعالى " فاستخف قومه فأطاعوه " فان قوما صدقوه فى قوله " أنا ربكم الأعلى " من أجهل خلق الله وأضلهم ، " ان هذا لمكر مكرتموه فى المدينة " عن أبن عباس قالالتقى موسى عليه السلام وأمير السحرة فقال له موسى أرأيتك ان غلبتك أتؤمن بى وتشهد أن ما جئت به حق قال الساحر لآتين غدا بسحر لا يغلبه سحر والله لئن غلبتنى لأومنن بك ولأشهدن أنك حق وفرعون ينظر اليهما فلهذا قال ما قال وقوله " لتخرجوا منها أهلها" تجتمعوا أنتم وهو وتكون لكم دولة وصولة وتخرجوا منها الأكابر وتكون الدولة والتصرف لكم ، " فسوف تعلمون " فسوف تعلمون ما أصنع بكم ثم فسر هذا الوعيد بقوله " لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين " يقول أنه سيقطع يد الرجل اليمنى ورجله اليسرى أو بالعكس ثم يصلبنهم أجمعين كما قال فى آية أخرى " ولأصلبنكم فى جذوع النخل " أى على الجذوع ،قال أبن عباس وكان أول من صلب وأول من قطع الأيدى والأرجل من خلاف فرعون ، " قالوا انا الى ربنا منقلبون " قال السحرة قد تحققنا انا راجعون الى ربنا وعذابه أشد من عذابك ونكاله على ما تدعونا اليه اليوم وما أكرهتنا عليه من السحر أعظم من نكالك فلنصبر اليوم على عذابك لنخلص من عذاب الله ، " وما تنقم منا الا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا " انك تنتقم منا لأننا آمن بما شهدناه من آيات الله الحق على يد موسى ، " ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين " لما رأى السحرة بطش فرعون أسلموا أمرهم الى الله وسألوه أن يعمهم بالصب على دينه والثبات عليه وأن يتوفاهم متابعين لنبيه موسى عليه السلام ، وفى آية أخرى " فاقض ما أنت قاض انما تقضى هذه الحياة الدنيا انا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر زالله خير وأبقى " فكانوا فى أول النهار سحرة وفى آخره شهداء .
وقال الملأمن قوم فرعون أتذر
موسى وقومه ليفسدوا فى الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيى نساءهم وانا
فوقهم قاهرون * قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا ان الأرض لله يورثها من
يشآء من عباده والعاقبة للمتقين * قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا
قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم فى الأرض فينظر كيف تعملون 127 - 129
" وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا فى الأرض ويذرك
وآالهتك " يخبر تعالى عما تملأ عليه فرعون وملأه وما أضمروه لموسى عليه
السلام وقومه من الأذى والبغضة قال الملأ لفرعون أتدع موسى وقومه ليفسدوا فى الأرض
أى يفسدوا أهل رعيتك ويدعوهم الى عبادة ربهم دونك ،صار هؤلاء يشفقون من افساد موسى
وقومه ! وهذا يبرزبطانة السوء فى كل مكان وزمان ، " ويذرك وآلهتك" أتذره وقومه يفسدون فى الأرض وقد ترك عبادتك
وقال آخرون أتدعهم يصنعون من الفساد ما قد أقررتهم عليه وعلى ترك آلهتك وقرأ بعضهم
آلهتك أى عبادتك ، " قال سنقتل أبناءهم ونستحيى نساءهم وانا فوقهم قاهرون
" أجابهم فرعون فيما سألوه بقوله سنقتل أبناءهم ونستحيى نساءهم ، وقد كان نكل
بهم قبل ولادة موسى عليه السلام حذرا من وجوده فكان خلاف ماقصده فرعون بعد أن أخبر
أن ملكه سيزول على يد مولود من بنى اسرائيل فقتل أبناءهم فتربى موسى عليه السلام
فى قصره ونفذت كلمة الله ، ، وهكذا عومل فى صنيعه أيضا لما أراد اذلال بنى اسرائيل
وقهرهم فجاء الأمر على خلاف ما أراد : أعزهم الله وأذله وأرغم أنفه وأغرقه وجنوده
، ولما صمم فرعون على ما ذكره من الاساءة لبنى اسرئيل " قال موسى لقومه
استعينوا بالله واصبروا ان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين
" طلب موسى عليه السلام من بنى اسرائيل الاستعانة بالله والصبر وهو ما يفعله
المؤمن فى وقت الأزمات فهووحده الذى له الملك ويحكم ما يريد يؤتى الملك لمن يشاء
وينزع الملك ممن يشاء والجزاء والنصر لمن يتقى ربه فى الدنيا والآخرة ، " قالوا
أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا " قد فعلوا بنا مثل ما رأيت من
الهوان والاذلال من قبل ما جئت يا موسى ومن بعد ذلك فقال منبها لهم على حالهم الحاضر
وما يصيرون اليه فى ثانى الحال ، " قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم فى
الأرض فينظركيف تعملون " رد عليهم موسى عليه السلام بقوله نتيجة الاستعانة
بالله وصبركم يستجيب لكم الله فيهلك عدوكم ويزيل ملكه وتصيرون أنتم الذين تحكمون
على الأرض ويكون هذا ابتلاء من عنده لينظر ماذا ستفعلون هل تفتنون أم تصبروا على
أذى فرعون وتستمروا فى استعانتكم بالله واتباع منهجه .
ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين
ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون * فاذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وان تصبهم سيئة
يطيروا بموسى ومن معه ألا انما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون 130 - 131
"
ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون " ابتلينا قوم
فرعون بالسنين والسنين هى سنى الجوع بسبب قلة الزروع ونقص الثمرات لعلهم يتذكرون
قدرة الله فيؤمنوا ، " فاذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه " واذا جاءهم من
الله الخصب والرزق قالوا هذا لنا بما نستحقه ، " وان تصبهم سيئة يطيروا بموسى
ومن معه " واذا أصابهم جدب وقحط يقولوا أن هذا بسبب موسى ومن معه وما جاءوا
به ، " ألا انما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون " ويرد الله
عليهم فيما زعموا ويقول مصائبهم عند الله أى من قبل الله ومن قدر الله وحكمته ولكن
أغلبهم لايعلمون ولا يفقهون هذه الحقيقة .
وقالوا مهما تأتنا به من آية
لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين * فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع
والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين * ولماوقع عليهم الرجز قالوا
ياموسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بنى
اسرائيل * فلما كشفنا عنهم الرجز الى أجل هم بالغوه اذا هم ينكثون 132 - 135
" وقالوا
مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين " هذا اخبار من الله
تعالى عن قوم فرعون وعتوهم وعنادهم للحق واصرارهم على الباطل يقولون أى آية جئتنا
بها ودلالة وحجة أقمتها رددناها فلا نقبلها منك ولا نؤمن بك ولا بما جئت به ،
" فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات
فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين " نتيجة كفرهم وعنادهم أرسلنا عليهم الأمطار
المغرقة المتلفة للزروع والثمار وأرسل الله عليهم الجراد يلتهم الزروع ويتلفها ولا
يترك منها شيئا ، وعن سلمان قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجراد فقال
: " أكثر جنود الله لا آكله ولا أحرمه " تركه عليه السلام لأنه كان
يعافه كما عافت نفسه الشريفة أكل الضب وأذن فيه ، وعن أبن عباس قال كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم لايأكل الجراد ولا الكلوتين ولا الضب من غير أن يحرمهما ، أما
الجراد فرجز وعذاب ، وأما الكلوتان فلقربهما من البول ، وأما الضب فقال " أتخوف
أن يكون مسخا " ، وعن أبن عباس أن القمل هو السوس الذى يخرج من الحنطة
،والضفادع كثرت وانتشرت فكانت مزعجة وسلط الله عليهم الدم ورغم كل هذه الآيات من العذاب الواضحة المفصلة
التى لا تخفى عن الأعين لم يؤمنوا واستكبروا عن اتباع الحق وما جاءهم به موسى عليه
السلام واستمروا فى اجرامهم فى حق الله بالكفر والعناد ، وعن سعيد بنجبير قال
:" لما أتى موسى عليه السلام فرعون قال له : " أرسل معى بنى اسرائيل
فأرسل عليهم الطوفان ( نتيجة رفضهم ) وهو المطر فصب عليهم منه شيئا خافوا أن يكون
عذابا فقالوا لموسى ادع لنا ربك يكشف عنا المطر فنؤمن لك ونرسل معك بنى اسرائيل ،
فدعا ربه فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بنى اسرائيل ، فانبت لهم فى تلك السنة شيئا لم
ينبته قبل ذلك من الزروع والثمار والكلأ فقالوا هذا ما كنا نتمنى ، فأرسل الله
عليهم الجراد فسلطه على الكلأ ، فلما رأوا أثره فى الكلأ عرفوا أنه لا يبقى الزرع
، فقالوا يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا الجراد فنؤمن لك ونرسل معك بنى اسرائيل فدع
ربه فكشف عنهم الجراد فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بنى اسرائيل فداسوا وأحرزوا فى
البيوت فقالوا قد أحرزنا فأرسل الله عليهم القمل وهو السوس الذى يخرج منه فكان الرجل
يخرج عشرة أجربة الى الرحى فلمفلم يرد منها الا ثلاثة أقفزة فقالوا يا مكوسى ادع
لنا ربك يكشف عنا القمل فنؤمن لك ونرسل معك بنى اسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم فأبوا
أن يرسشلوا معه بنى اسرائيل فبينما هوجالس عند فرعون اذ سمع نقيق ضفدع فقال لفرعون
ما تلقى أنت وقومك من هذا فقال وما عسى أن يكون كيد هذا فما أمسوا حتى كان الرجل
يجلس الى ذقنه فى الضفادع ويهمأن يتكلم فيثب الضفدع فى فيه فقالوا لموسى ادع لنا
ربك سكشف عنا هذه الضفادع فنؤمن لك ونرسل معك بنى اسرائيل فلم يؤمنوا ، وأرسل الله
عليهم الدم فكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار وما كان فى أوعيتهم وجدوه دما
عبيطا فشكوا الى فرعون فقالوا انا قد ابتلينا بالدم وليس لنا شراب فقال : "
انه قد سحركم " فقالوا : " من أين سحرنا ونحن لا نجد فى أوعيتنا شيئا من
الماء الا وجدناه دما عبيطا " فأتوه وقالوا يا موسى ادع لنا ربك سكشف عنا هذا
الدم فنؤمن لك ونرسل معك بنى اسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا ولم يرسلوا
معه بنى اسرائيل ، وقال محمد بن اسحاق بن يسار : " فرجع عدو الله فرعون حين آمنت السحرة مغلوبا
مغلولا ثم أبى الا الاقامة على الكفر والتمادى فى الشر فتابع الله عليه ىلآيات
فأخذه بالسنين وأرسل عليه الطوفان ، ثم الجراد ، ثم القمل ، ثم الضفادع ، ثم الدم
، آيات مفصلات .
وجاوزنا ببنى اسرائيل البحر
فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا الها كما لهم آلهة قال
انكم قوم تجهلون * ان هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون 138 - 139
" وجاوزنا ببنى اسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصناما لهم قالوا يا موسى اجعل لنا الها كما لهم آلهة "يخبر الله تعالى عما قاله جهلة بنى اسرائيل لموسى عليه السلام حين جاوزوا البحر وقد رأوا من آيات الله وعظيم سلطانه ما رأوا فأتوا أى مروا على قوم عا كفين على عبادة الأصنام ، قال بعض المفسرين كانوا من الكنعانيين وقيل كانوا من لخم ، قال أبن جرير كانوا يعبدون أصناما على صور بقر فلهذا أثار ذلك شبهة لهم فى عبادتهم العجل بعد ذلك فطلبوا من موسى عليه السلام أن يجعل لهم أصناما يعبدونها مثلهم كآلهة من دون الله ، " قال انكم قوم تجهلون " فرد عليهم موسى عليه السلام انهم من الجهلاء الذين يجهلون عظمة الله وجلاله وما يجب أن ينزه عنه من الشرك والمثيل ، " ان هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون " فرد عليهم بان هؤلاء الذين يعبدون الأصنام هالك ما هم فيه لايوصل الا للهلكة والبوار وما يصنعونه باطل ، وعن أبى واقد الليثى قال : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أى خرجوا من مكة الى حنين ) قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت : " يا نبى الله اجعل لنا ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها فقال النبى صلى الله عليه وسلم : " الله أكبر هذا كما قال بنو اسرائيل لموسى اجعل لنا الها كما لهم آلهة ، انكم تركبون سنن من قبلكم " .
قال أغير الله أبغيكم الها وهو
فضلكم على العالمين * واذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون
أبناءكم ويستحيون نساءكم وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم 140 - 141
"
ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرنى أنظر اليك قال لن ترانى " يخبر
الله تعالى عن موسى عليه السلام أنه لما جاء لميقات الله تعالى وحصل له التسليم من
الله سأل الله تعالى أن ينظر اليه فرد الله عليه أنه لن يراه ، " ولكن
انظرالى الجبل فان استقر مكانه فسوف ترانى " طلب الله منه أن ينظر الى الجبل
قال مجاهد فانه أكبر منك وأشد خلقا ، فان استطاع هذا الجبل ان يكون فى مكانه اذا
تجلى الله له يمكن أن يراه ، " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا
" قال الربيع بن أنس أن الجبل حين كشف الغطاء ورأى النور صار مثل دك من
الدكاك ،نظرموسى عليه السلام ما يصنع الجبل فخر صعقا والمعروف أن الصعق هو الغشى
كما فسره أبن عباس ، فلما أفاق " وهناك قرينة تدل علىالغشى وهى أن الافاقة
لاتكون الا عن غشى ، " قال سبحانك تبت اليك وأنا أول المؤمنين " قال
موسى عليه السلام تنزهت وتعاليت ربنا تنزيها وتعظيما واجلالا أن يراك أحد فى
الدنيا الا مات ، تبت اليك قال مجاهد أن أسألك الرؤية وأنأ أول المؤمنين عن أبن
عباس أن يراك أحد من خلقك الى يوم القيامة .
قال يا موسى انى أصطفيتك على
الناس برسالاتى وبكلامى فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين * وكتبنا له فى الألواح منكل
شىء موعظة وتفصيلا لكل شىء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأوريكم دار
الفاسقين 144 - 145
" قال يا موسى انى اصطفيتك على الناس برسالاتى وبكلامى فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين " يخاطب الله تعالى موسى عليه السلام أنه ميزه على من حوله من الناس بأن جعله رسولا ونزل عليه التوراة وأنه كليمه فخذ ما آتيتك من الكلام والمناجاة وكن من الشاكرين لله على ذلك ولا تطلب ما لاطاقة لك به ، " وكتبنا له فى الألواح من كل شىء موعظة وتفصيلا لكل شىء " أخبر تعالى أنه كتب لموسى عليه السلام ف الألواح منكل شء موعظةوتفصيلا لكل شىء قيل أن الألواحكانت من جوهر وأن الله تعالى كتب له فيها مواعظ وأحكاما مفصلة مبينة للحلال والحرام وكانت هذه الألواح مشتملة على التوراة ،وقيل الألواح أعطيها موسى عليه السلام قبل التوراة والله أعلم ، وعلى كل تقدير فكانت كالتعويض له عما سأل من الرؤيا ومنع منها ، " فخذها بقوة " فخذها بعزم على الطاعة ، " وأمر قومك يأخذوا بأحسنها " وعن أبن عباس قال أمر موسى عليه السلام أن يأخذ بأشد ما أمر قومه ، " سأوريكم دار الفاسقين " سترون عاقبةمن خالف أمرى وخرج عن طاعتى كيف يصيرالى الهلاك والدمار والتباب وقال أبن جرير وانما قال " سأوريكم دار الفاسقين " كما يقول القائل لمن يخاطبه سأريك غدا الى ما يصير اليه حال من خالف أمرى على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره .
" سأصرف عن آياتى الذين يتكبرون فى الأرض بغير الحق " يقول تعالى
سأمنع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتى وشريعتى وأحكامى قلوب المتكبرين عن طاعتى
ويتكبرواعلى الناس بغير حق أى كما استكبروا بغير حق أذلهم الله بالجهل ، كما قال
تعالى " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " ، وقال بعض السلف لا ينال العلم
حيى ولا مستكبر ، وقال آخر من لم يصبرعلى ذل التعلم ساعة بقى فى ذل الجهل أبدا ،
وقال سفيان بن عيينه فى قوله " سأصرف عن آياتى الذين يتكبرون فى الأرض بغير
الحق " قال أنزع عنهم فهم القرآن وأصرفهم عن آياتى ، وقال أبن جرير وهذا يدل
على أن هذا خطاب لهذه الأمة ، وهذا ليس بلازم انما أراد أن هذا مطرد فى حق كل أمة
ولا فرق بين أحد وأحد ، " وان يروا كل آية لايؤمنوا بها " ختم الله على قلوبهم
فان يروا كل آية دالة على الايمان والى الهداية الى طريق الحق لايؤمنوا بها صرف
الله عنهم الايمان جزاءا لهم ، " وان يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وان
يروا الغى يتخذوه سبيلا " وان ظهر لهم سبيل الرشدأى طريق النجاة لا يسلكوها
وان ظهر لهم طريق الهلاك والضلال يتخذوه سبيلا ثم علل مصيرهم الى هذه الحال بقوله
" ذلك بأنهم كذبوا يآياتنا وكانوا عنها غافلين " هذا جزاء تكذيب قلوبهم
بآيات الله وغفلتهم فهم لايعلمون شيئا مما فيها ، " والذين كذبوا بآياتنا
ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم " من فعل هذا الذى ذكرمن تكذيب وغفلة عن آيات الله
واستمر عليه الى الممات حبط عمله أى فشل وخسر الدنيا وفى الآخرة مصيره الى النار ،
" هل يجزون الا ما كانوا يعملون " انما نجازيهم بحسب أعمالهم التى
أسلفوها ان خيرا فخير وان شرا فشر وكما تدين تدان .
اتخذ قوم
موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لايكلمهم ولا يهديهم سبيلا
اتخذوه وكانوا ظالمين * ولما سقط فى أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم
يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين 148 - 149
" واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار" يخبر الله تعالى عن ضلال من ضل من بنى اسرائيل فى عبادتهم العجل الذى اتخذه لهم السامرى من حلى القبط الذى كانوا استعاروه منهم فشكل لهم منه عجلا ثم ألقى فيه القبضة من التراب التى أخذها من أثر فرس جبريل عليه السلام فصار عجلا جسدا له خوار ، وكان هذا منهم بعد ذهاب موسى لميقات الله تعالى فأعلمه الله بذلك وهو على الطور ، وقد اختلف المفسرون فى هذا العجل هل صار لحما ودما له خوار ، أو استمر على كونه ذهب ، الا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر ، ويقال انهم لما صوت لهم العجل رقصوا وافتتنوا به وقالوا هذا الهكم واله موسى فنسى ، "ألم يروا أنه لايكلمهم ولا يهديهم سبيلا أتخذوه وكانوا ظالمين " ينكر تعالى عليهم فى ضلالهم بالعجل وذهولهم عن خالق السموات والأرض ورب كل شىء ومليكه أن عبدوا معه عجلا جسدا له خوار لايكلمهم ولا يرشدهم الى خير ولكن غطى على أعين بصائرهم عمى الجهل والضلال ، وعن أبى الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حبك الشىء يعمى ويصم " ، " ولما سقط فى أيديهم " أى ندموا على ما فعلوا ، " ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين " ورأوا أنهم قد اتبعوا طريق الضلال طلبوا الرحمة والمغفرة من الله وان لم يقبلها منهم سيكونوا من الهالكين وهذا اعتراف منهم بذنبهم والتجاء الى الله عز وجل .
ولما رجع
موسى الى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتمونى من بعدى أعجلتم أمر ربكم وألقى
الألواح وأخذ برأس أخيه يجره اليه قال ابن أم ان القوم استضعفونى وكادوا يقتلوننى
فلا تشمت بى الأعداء ولا تجعلنى مع القوم الظالمين * قال رب اغفر لى ولأخى وأدخلنا
فى رحمتك وأنت أرحم الراحمين 150 - 151
" ولما رجع موسى الى قومه غضبان
أسفا قال بئسما خلفتمونى من بعدى " يخبر الله تعالى أن موسى عليه
السلام رجع الى قومه من مناجاة الله ربه وهو غضبان أسف قال أبو الدرداء الأسف أشد
الغضب قال لهم بئس ما صنعتم فى عبادة العجل بعد أن ذهبت وتركتكم ، " أعجلتم
أمر ربكم " استعجلتم مجيئى اليكم وهو مقدر من الله تعالى ، " وألقى
الألواح وأخذ برأس أخيه يجره اليه " ألقى الألواح غضبا على قومه وأخذ برأس
أخيه وسحبه اليه من الغضب خوفا أن يكون قد قصر فى نهيهم ، وفى آية أخرى " قال ياهارون ما منعك اذ
رأيتهم ضلوا أن لا تتبعن أفعصيت أمرى * قال يا أبن أم لا تأخذ بلحيتى ولابرأسى * انى
خشيت أ، تقول فرقت بين بنى اسرائيل ولم ترقب قولى ، " قال ابن أم ان القوم استضعفونى وكادوا
يقتلونى فلا تشمت بى الأعداء ولا تجعلنى مع القوم الظالمين " رد هارون عليه
السلام عليه فقال له ياأبن أم وهو شقيقه لأبيه وأمه ليكون أرق وأنجع أن القوم
استضعفوه وكادوا يقتلوه عندما نصحهم ونهاهم كما قال تعالى " ولقد قال لهم
هارون من قبل يا قوم انما فتنتم به وان ربكم الرحمن فاتبعونى وأطيعوا أمرى " فلما
تحقق موسى عليه السلام براءة ساحة هارون عليه السلام "قال رب اغفر لى ولأخى
وأدخلنا فى رحمتك وأنت أرحم الراحمين " سأل موسى عليه السلام المغفرة من الله
له ولأخيه وطلب أن يرحمه الله هو وأخيه فهو أرحم الراحمين ، وعن أبن عباس قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره
ربه عز وجل أن قومه فتنوا بعده فلم يلف الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح
" .
ان الذين
اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة فى الحياة الدنيا وكذلك نجزى المفترين *
والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا ان ربك من بعدها لغفور رحيم 153
" ان الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم
فى الحياة الدنيا وكذلك نجزى المفترين " ان الذين عبدوا العجل وأشركوا من بنى
اسرائيل توعدهم الله بغضبه وذلة فى الحياة الدنيا ، أما الغضب الذى نال بنى
اسرائيل فى عبادة العجل فهو أن الله تعالى لم يقبل لهم توبة حتى قتل بعضهم بعضا كما
تقدم فى سورة البقرة ، كما قال " فتوبوا الى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير
لكم عند بارئكم فتاب عليكم انه هو التواب الرحيم " وأما الذلة فأعقبهم ذلك
ذلة وصغارا فى الحياة الدنيا وأصابهم الشتات ونالهم الذل على يد أعدائهم ، "
وكذلك نجزى المفترين " من افترى بدعة أوافترى على الله كذبا جزاءه هو الغضب
والذلة ، وقال أبو قلابة الجرمى هى والله لكل مفتر الى يوم القيامة ، وقال سفيان
بن عيينه كل صاحب بدعة ذليل ، " والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها
وآمنوا ان ربك من بعدها لغفور رحيم " ينبه الله تعالى عباده ويرشدهم الى أنه
يقبل توبة عباده من أى ذنب كان حتى ولو كان من كفر أو شرك أو نفاق أو شقاق فهو
الغفور الرحيم ، يا محمد يارسول التوبة ونبى الرحمة من عمل سيئات ثم تاب من بعدها
فالله سيقبل توبته فهو الغفور الرحيم .
ولما سكت
عن موسى الغضب أخذ الألواح وفى نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون 154
" ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح " لما
هدأ غضب موسى عليه السلام على قومه أخذ الألواح التى كان ألقاها من شدة الغضب على
عبادتهم العجل غيرة لله وغضبا له ، " وفى نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم
يرهبون " لما ألقاها موسى عليه السلام تكسرت وهى من جوهر الجنة لما أخذها
بعدما ألقاها وجد منسوخا فيها ماهو فيه هدى ورحمة من الله للذين يخشون ربهم أشد
الخشية ولديهم رهبة لله وقال قتادة فى هذه الآية أن موسى عليه السلام قال : "
رب انى أجد فى الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
اجعلهم أمتى" قال الله : " تلك أمة أحمد " ، قال : " رب انى
أجد فى الألواح أمة هم الآخرون أى آخرون فى الخلق سابقون فى دخول الجنة رب اجعلهم
أمتى " قال : " تلك أمة أحمد " ، قال : " رب انى أجد فى الألواح أمة
أناجيلهم فى صدورهم يقرءونها وكان من قبلهم يقرءون كتابهم نظرا حتى اذا رفعوها لم
يحفظوا شيئا ولم يعرفوه وان الله أعطاهم من الحفظ شيئا لم يعطه أحدا من الأمم
" قال : "رب اجعلهم أمتى " قال : " تلك أمة أحمد " ، قال
: " رب انى أجد فى الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ويقاتلون
فصول الضلالة حتى يقاتلون الأعور الكذاب فاجعلهم أمتى " قال : " تلك أمة
أحمد " ، قال : " رب انى أجد فى الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها فى بطونهم
ويؤجرون عليها وكان من قبلهم اذا تصدق بصدقة فقبلت منه بعث الله نارا فأكلتها وان
ردت عليه تركت فتأكلها السباع والطير وان الله أخذ صدقاتهم من غنيهم لفقيرهم
" قال : " رب فاجعلهم أمتى " قال : " تلك أمة أحمد " ،
قال :" رب انى أجد فى الألواح أمة اذا هم أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له
حسنة فان عملها كتبت له عشر أمثالها الى سبعمائة ضعف رب أجعلهم أمتى " قال :
" تلك أمة أحمد " ، قال : " رب انى أجد فى الألواح أمة هم
المشفوعون والمشفوع لهم فاجعلهم أمتى " قال : " تلك أمة أحمد " قال
قتادة فذكر لنا أن نبى الله موسى عليه السلام نبذ الألواح وقال " اللهم
اجعلنى من أمة أحمد " .
واختارموسى قومه سبعين رجلا
لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل واياى أتهلكنا بما فعل
السفهاء منا ان هى الا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا
وارحمنا وأنت خير الغافرين * واكتب لنا فى هذه الدنيا حسنة وفى الآخرة انا هدنا
اليك قال عذابى أصيب به من أشاء ورحمتى وسعت كل شىء فسأكتبا للذين يتقون ويؤتون
الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون 155 - 156
"
واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا " قال أبن عباس فى تفسير هذه الآية كان
الله أمر موسى عليه السلام أن يختار من قومه سبعين رجلا ، فاختار سبعين رجلا
فبرزهم ليدعوا ربهم ، وقال السدى ان الله أمر موسى عليه السلام أن يأتيه فى ثلاثين
من بنى اسرائيل يعتذرمن اليه من عبادة العجل ووعدهم موعدا" واختار موسى قومه
سبعين رجلا " على عينيه ثم ذهب بهم ليعتذروا فلما أتوا ذلك المكان قالوا
" لننؤمن لك " يا موسى " حتى نرى الله جهرة " فانك قد كلمته
فأرناه " فأخذتهم الصاعقة " فقام موسى عليه السلام يبكى ويدعو الله ويقول
رب ماذا أقول لبنى اسرائيل اذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم " رب لو شئت أهلكتهم
من قبل واياى " ، وقال محمد بن اسحاق اختار موسى عليه السلام من بنى اسرائيل
سبعين رجلا الخير فالخير وقال انطلقوا الى الله فتوبوا اليه مما صنعتم وسلوه
التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم صوموا وطهروا ثيابكم فخرج بهم الى طورسيناء
لميقات وقته له ربه وكان لا يأتيه الا باذن منه وعلم فقال السبعون موسى عليه
السلام حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا معه للقاء ربه : " اطلب لنا نسمع كلام
ربنا " فقال أفعل فلما دنا موسى عليه السلام من الجبل وقع عليه عمود الغمام
حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى فدخل فيه وقال للقوم ادنوا وكانموسى عليه السلام اذا
كلم الله وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بنى آدم أن ينظر اليه فضرب دونه
بالحجاب ودنا القوم حتى اذا دخلوا وقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلم يأمره وينهاه افعل
ولا تفعل فلما فرغ اليه من أمره وانكشف عن موسى الغمام فأقبل اليهم فقالوا "
لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الرجفة " وهى الصاعقة فالتقت أرواحهم
فماتوا جميعا فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب اليه ويقول " رب لو شئت أهلكتهم من قبل واياى أتهلكنا
بما فعل السفهاء منا " قد سفهوا أفتهلك من ورائى من بنى اسرائيل ، واستمر فى
دعائه " ان هى الا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا
وارحمنا وأنت خير الغافرين " ان هذا ابتلاؤك واختبارك وامتحانك وان الأمر
أمركوالحكم حكمك تضل من تشاء وتهدىمن تشاء ولا هادى لمن أضللت ولا مضل لمن هديت
ولا معطى لمامنعت ولا ما نع لمن أعطيت فالملك كله لك والحكم كله لك لك الخلق
والأمروطلب من ربه المغفرة والرحمة نوالغفر هو الستر وترك المؤاخذة بالذنب
،والرحمة اذا قرنت مع الغفر يراد بها ألا يوقعه فى مثله فى المستقبل فلا يغفر
الذنوب الا أنت ، الفصل الأول من الدعاء دفع لمحذور " واكتب لنا فى هذه الدنيا حسنة وفى الآخرة
انا هدنا اليك " أوجب لنا وأثبت لنا فى الدنياوالآخرة حسنة وقد تقدم تفسير
الحسنة فى سورة البقرة " انا هدنا اليك " أى تبنا ورجعنا وأنبنا اليك ،
وقال على رضى الله عنه انما سميت اليهود لأنهم قالوا " انا هدنا اليك "
، " قال عذابى أصيب به من أشاء ورحمتى وسعت كل شىء أفعل ما أشاء وأحكم ما
أريد ولى الحكمة والعدل فى كل ذلك ، " ورحمتى وسعت كل شىء" آية عظيمة
الشمول والعموم فرحمة الله واسعةلكل خلقه كقوله "ربناوسعت كل شىء رحمة وعلما"
، وعن سلمان عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " ان الله عز وجل خلق مائة
رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق وبها تعطف الوحوش على أولادها وأخر تسعة وتسعين
الى يوم القيامة " ، وعن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" ان لله مائة رحمة عنده تسعة وتسعون وجعل عندكم واحدة تتراحمون بها بين الجن
والانس وبين الخلق فاذا كان يوم القيامة ضمها اليه " ، " فسأكتبها للذين
يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون " سأجعلها وأوجب حصول رحمتى
للمتقين الذين يتصفون يبعدون عن الشرك والعظائم من الذبوب ويؤتون الزكاة قيل
ألموال وقيل زكاة النفوس ويحتمل أن تكون عامة لهما فان الآية مكية والذين يؤمنون
أى يصدقون بآيات الله وما أنزل على رسله .
الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى
يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل
لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم اصرهم والأغلال التى كانت عليهم فالذين
آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذى أنزل معه أولئك هم المفلحون 157
" الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراةوالانجيل " الله يصف الذين يتبعون الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب بالفلاح فى الدنياوالآخرة وهو مثبوت عندهم بصفاته فى كتبهم ، وصفة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم انه أمى وكذلك أمة العرب يسمون الأميين كما وردت فى كتب الأنبياء قبله وبشروا أممهم ببعثه وأمروهم بمتابعته واتباعه ولم تزل صفاته موجودة فى كتبهم فى التوراة والانجيل ، " يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر " هذه صفة الرسولصلى الله عليه وسلم فى الكتب المتقدمة ،وهكذا كانت حاله عليه الصلاة والسلام لايأمر الا بخير ولا ينهى الا عن شر ، " ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث يحل لهم ما كانوا حرموه على أنفسهم من البحائر والسوائب والوصائل والحام ونحو ذلك مما كانوا ضيقوا على أنفسهم ويحرم عليهم الخبائث قال أبن عباس كلحم الخنزير والربا وما كانوا يستحلنه من المآكل التى حرمها الله تعالى ، " ويضع عنهم اصرهم والأغلال التى كانت عليهم " جاء بالتيسير والسماحة ، وعن رسول الله صلى الله عليهوسلم قال " بعثت بالحنيفية السمحة " ،وقال صلى الله عليه وسلم لأميريه معاذ وأبى موسى الأشعرى لما بعثهما الى اليمن : " بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا وتطاوعا ولا تختلفا " ،وقال أبو بزرة الأسلمى انى صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت تيسيره وقد كانت الأمم التى قبلنا فى شرائعهم ضيق عليهم فوسع الله على هذه الأمة أمورها وسهلها لهم ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ان الله تجاوز لأمتى ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل " وقال : " رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ، " فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذى أنزل معه أولئك هم المفلحون "الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وعظموه ووقروه وأتبعوا النور الذى معه وهو القرآن والوحى الذى جاء به مبلغا للناس فهم المفلحون فى الدنيا والآخرة .
قل يا أيها الناس انى رسول
الله اليكم جميعا الذى له ملك السموات والأرض لآ اله الا هو يحيى ويميت فآمنوا
بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون 158
" قل يا أيها الناس انى رسول الله اليكم جميعا الذى له ملك السموات والأرض لآ اله الا هو يحيى ويميت " يقول الله تعالى لنبيه قل يا محمد للناس جميعا وهذا خطاب للأبيض والأسود والعربى والعجمى انى رسول الله للناس كافة وهذا من شرفه وعظمه صلى الله عليه وسلم أنه خاتم النبيين وأنه مبعوث الى الناس جميعا من الله الذى له ملك السموات والأرض لا اله غيره وهو من يحيى ويميت وهو على كل شىء قدير ، " فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى " يخبر الله أنه رسوله اليهم ثم أمرهم باتباعه والايمان به وهو النبى الأمى الذى وعدتم به وبشرتم به فى الكتب المتقدمة فانه منعوت بذلك فى كتبهم ، " الذى يؤمن بالله وكلماته " وهو الذى يصدق قوله عمله وهو يؤمن بما أنزل اليه من ربه ، " واتبعوه لعلكم تهتدون " اسلكوا طريقه واقتفوا أثره فبهذا تهتدوا الى الطريق والصراط المستقيم .
وقطعناهم اثنتى عشرة أسباطا
أمما وأوحينا الى موسى اذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا
عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم
الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا
ولكن كانوا أنفسهم يظلمون * واذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم
وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين * فبدل الذين
ظلموا منهم قولا غير الذى قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون
160 - 162
ورد كل ذلك فى سورةالبقرة عن نعم الله على بنى
اسرائيل " وقطعناهم اثنتى عشرة أسباطا أمما وأوحينا الى موسى اذ استسقاه قومه
أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم " كان
عدد أسباط بنى اسرائيل اثنى عشر سبطا فلما سألوا موسى عليه السلام السقى سأل الله
ذلك فأرشده الى أن يضرب الحجر بعصاه فتفجر منا اثنى عشرة عينا عدد أسباط بنى
اسرائيل كل سبط كان له عين يعرفها ، " وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم
المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكنكانوا أنفسهم يظلمون "
أنعم الله على بنى اسرائيل بعد اطهاد فرعون لهم وخروجهم الى سيناء بتظليل الغمام
لهم وأنزل عليهم المن كشراب والسلوى كطعام كرزق طيب من الله دون عناء ولكنهم جحدوا
نعمة ربهم فتوجهوا الى موسى عليه السلام استبدال طعامهم بما تنبت الأرض من بقلها
وعدسها وفومها وبصلها استبدلوا الأدنى بما هو خير ، ومن ظلمهم عبادة العجل ،
"واذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا
الباب سجد نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين * فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير
الذى قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون " أمرهم الله بدخول بيت المقدس فعصوا
وقالوا لموسى عليه السلام ان فيها قوما جباين وانا لن ندخلها ما داموا فيها فاذهب
أنت وربك فقاتلا انا ههنا قاعدون ، حرفوا كلام الله وعصوا أوامره فعاقبهم الله
بالعذاب نتيجة ظلمهم .
واسألهم عن القرية التى كانت
حاضرة البحر اذ يعدون فى السبت اذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون
لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون * واذ قالت أمة لم تعظون قوما الله مهلكهم
أو نعذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة الى ربكم ولعلهم يتقون * فلما نسوا ما ذكروا به
أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون *
فلما عتوا عن ما نهو عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين 163- 166
"واسألهم عن القرية التى كانت حاضرة البحر اذ يعدون فى السبت اذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون " يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أسأل هؤلاء اليهود الذين بحضرتك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله ففاجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم فى المخالفة وحذر هؤلاء من كتمان صفتك التى يجدونها فى كتبهم لئلا يحل بهم ما حل باخوانهم وسلفهم والقرية هى أيلة بين مدين والطور ، " اذ يعدون فى السبت " يعتدون يوم السبت ويخالفون أمر الله فيه ، " اذ تاتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم " تأتيهم حيتانهم يوم السبت المحرم عليهم فيه الصيد طافية على الماء ظاهرة وعن أبن عباس قال شرعا من كل مكان وتختفى فى اليوم الحلال لهم فيه الصيد ، " كذلك نبلوهم " وكذلك نختبرهم ، " بما كانوا يفسقون " بفسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها ، وعن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بادنى الحيل " ، : واذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أومعذبهم عذابا شديد " يخبر الله تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا الى ثلاث فرق فرقة ارتكبت المحذور واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت وفرقة نهت عن ذلك واعتزلتهم وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه ولكنها قالت للمنكرة " لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذ بهم عذابا شديدا " لم تنهون هؤلاء وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من الله فلا فائدة فى نهيكم اياهم ؟ قالت لهم المنكرة " معذرة الى ربكم " معذرة فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، " ولعلهم يتقون " ولعل لهذا الانكار يتقون ما هم فيه ويتركونه ويرجعون الى الله تائبين فان تابوا تاب الله عليهم ورحمهم ، " فلما نسوا ما ذكروا به " فلما أبى الفاعلون قبول النصيحة " أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا " انجى الله الذين نهوا عن المنكر والفعل السىء وعاقب الله الذين ارتكبوا المعصية ، " بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون " بعذاب شديد جزاء فسقهم ، فنص على نجاة الناهين وهلاك الظالمين وسكت عن الساكتين لأن الجزاء من جنس العمل فهم لا يستحقون مدحا فيمدحون وارتكبوا عظيما فيذموا ، " فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين " الذين استمروا فى المعصية ولم يتبعوا النصح ويكفوا عن صيد الحيتان مسخهم الله قردة أذلاء حقيرين مهانين ، وقال أبن عباس فى ذلك أن القرية هى قرية على شاطىء البحر بين مصر والمدينة يقال لها ايلة فحرم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم وكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعا فى ساحل البحر فاذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها فمضى على ذلك ما شاء الله ثم ان طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم فنهتهم طائفة وقالوا تأخذونها وقد حرمها الله عليكم يوم سبتكم ؟ فلم يزدادوا الا غيا وعتوا وجعلت طائفة أخرى تنهاهم فلما طال ذلك عليهم قالت طائفة من النهاة تعلمون أن هؤلاء قوم قد حق عليهم العذاب " لم تعظون قوما الله مهلكهم " وكانوا أشد غضبا لله من الطائفة الأخرى فقالوا " معذرة الى ربكم ولعلهم يتقون " وكل قد كانوا ينهون فلما وقع عليهم غضب الله نجت الطائفتان اللتان قالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم والذين قالوا معذرة الى ربكم وأهلك الله أهل المعصية الذين أخذوا الحيتان فجعلهم قردة ، قال أبن عباس كانوا أثلاثا ثلث نهوا وثلث قالوا " لم تعظون قوما الله مهلكهم " وثلث أصحاب الخطيئة فما نجا الا الذين نهوا وهلك سائرهم وهذا رأى ولكن رجوعه الى قول عكرمة فى نجاة الساكتين أولى من القول بهذا .
واذ تأذن ربك ليبعثن عليهم الى
يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ان ربك لسريع العقاب وانه لغفور رحيم 167
" واذ تأذن ربك ليبعثن عليهم الى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب
" تأذن من الأذان أى أعلم وأذن قال
مجاهد وغيره أمر الله واللام فى ليبعثن ما يفيد القسم أن يبعث على اليهود الى يوم
القيامة من يسومهم سوء العذاب بسبب عصيانهم ومخالفتهم أوامر الله وشرعه واحتيالهم
على المحارم ، ويقال أن موسى عليه السلام ضرب عليهم الخراج سبع سنين وقيل ثلاث
عشرة سنة وكان أول من ضرب الخراج ثم كانوا فى قهر الملوك من اليونانيين
والكشدانيين والكلدانيين ثم صاروا الى قهر النصارى واذلالهم اياهم وأخذهم منهم
الجزية والخراج ثمجاء الاسلام ومحمد صلى الله عليه وسلم فكانوا نتيجة خيانتهم لعهده
ومحاولة قتله وتحالفهم عليه مع أعدائه تحت قهره وذمته يؤدون الخراج والجزية ، وقال
أبن عباس فى تفسير هذه الآية هى المسكنة وأخذ الجزية ثم آخر أمرهم أنهم يخرجون
أنصارا للدجال فيقتلهم المسلمون مع عيسى عليه السلام وذلك آخر الزمان ، هذا الذى
يحدث فى عصرنا من تجمعهم فى فلسطين من نبوءآت الرسول صلى الله عليه وسلم فى علامات
الساعة ، " ان ربك لسريع العقاب " ان الله سريع العقاب لمن عصاه وخالف
شرعه فهو يمهل ولا يهمل ، " وانه لفغور رحيم " والله غفور رحيم لمن تاب
اليه وأناب ، وهذا من باب قرن الرحمة مع العقوبة لئلا يحصل اليأس فيقرن الله تعالى
بين الترغيب والترهيب كثيرا لتبقى النفوس بين الرجاء والخوف .
وقطعناهم فى الأرض أمما منهم
الصالحونت ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون * فخلف من بعدهم
خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وان يأتهم عرض مثله
يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله الا الحق ودرسوا ما فيه
والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون * والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا
الصلاة انا لا نضيع أجر المصلحين 168 - 170
" وقطعناهم
فى الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك " يذكر الله تعالى أنه فرق اليهود
فى الأرض أمما أى طوائف وفرقا كما قال " وقلنا من بعده لبنى اسرائيل اسكنوا
الأرض فاذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا " ، " منهم الصالحون ومنهم
دون ذلك " فيهم الصالح وغير ذلك كقول الجن " وانا منا الصالحون ومنا دون
ذلك كنا طرائق قددا " ، " وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون
" اختبرناهم بالرخاء والشدة والرغبة والرهبة والعافية والبلاء لعلهم يتوبون ،
" فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب " فخلف من بعد ذلك الجيل الذين فيهم
الصالح والطالح خلف آخر لا خير فيهم وقدورثوا دراسة الكتاب وهوالتوراة وقال مجاهد
هم النصارى وقد يكون أعم من ذلك ،" يأخذون عرض هذا الأدنى " يعتاضون عن
بذل الحق ونشره بعرض الحياة الدنيا ويسوفون أنفسهم ويعدونها بالتوبة وكلما لاح مثل
الأول وقعوا فيه ، وقال مجاهد لا يشرف لهم شىء من الدنيا الا أخذوه حلالا كان
أوحراما ويتمنون المغفرة " ويقولون سيغفر لنا وان يأتهم عرض مثله يأخذوه
" ،وقال قتادة فى الآية والله لخلف سوء " ورثوا الكتاب " بعد
أنبيائهم ورسلهم أو ورثهم الله وعهد اليهم كما قال تعالى " فخلف من بعدهم خلف
أضاعوا الصلاة " وقال السدى فى قوله " فخلف من بعدهم خلف " الى
قوله " ودرسوا ما فيه " كانت بنواسرائيل لا يستقضون قاضيا الا ارتشى فى
الحكم وان خيارهم اجتمعوا فأخذ بعضهم على بعض العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا فجعل
الرجل منهم اذا استقضى ارتشى فيقال له ما شأنك ترتشى فى الحكم ؟ فيقول سيغفر لى ،
فتطعن عليه البقية الآخرون من بنى اسرائيل فيما صنع فاذا مات أو نزع وجعل مكانه
رجل ممن كان يطعن عليه فيرتشى ، يقول وان يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه قال تعالى
" ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لايقولوا على الله الا الحق " يقول تعالى
منكرا عليهم فى صنيعهم هذا مع ما أخذ عليهم الميثاق ليبينن الحق للناس ولايكتمونه
كقوله " واذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه
فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون " ، وقال أبن عباس
فى الآية " ألم بؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لايقولوا على الله الا الحق
" قال فيما يتمنون على الله من غفران ذنوبهم التى لا يزالون يعودون فيها ولا
يتوبون منها ، " والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون " يرغبهم
الله فى جزيل ثوابه ويحذرهم من وبيل عقابه أى وثوابى وما عندى خير لمن اتقى
المحارم وترك هوى نفسه وأقبل على طاعة ربه أفليس لهؤلاء الذين اعتاضوا بعرض الدنيا
عما عندى عقل يردعهم عما هم فيه من السفه ، " والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا
الصلاة انا لا نضيع أجر المصلحين " أثنى الله على من تمسك بكتابه الذى يقوده
الى اتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما هومكتوب فيه وأعتصم به واقتدى
بأوامره وترك زواجره وأقام الصلاة فالله
لن يضيع عمله الصالح فى الدنيا والآخرة .
واذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه
ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون 171
" واذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة
وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكرواما فيه لعلكم تتقون " يتحدث
الله عن بنى اسرئيل وعن رفع الجبل فوقهم فوق رؤوسهم وهو قوله " ورفعنا فوقهم
الطور بميثاقهم " قال أبن عباس رفعته الملائكة فوق رؤسهم ، وقال سار بهم موسى
عليه السلام الى الأرض المقدسة وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب وأمرهم بالذى
أمر الله أن يبلغهم من الوظائف فثقلت عليهم وأبوا أن يقروا بها حتى نتق الله الجبل
فوقهم ، وعن أبى بكر بن عبد الله قال هذا كتاب أتقبلونه بما فيه فان فيه بيان ما
أحل لكم وما حرم عليكم وما أمركم وما نهاكم ؟ قالوا انشر علينا ما فيها فان كانت
فرائضها وحدودها يسيرة قبلناها قال اقبلوها بما فيها قالوا لا حتى نعلم ما فيها
كيف حدودها وفرائضها فراجعوه مرارافأوحى الله الى الجبل فانقلع فارتفع فى السماء
حتى اذا كان بين رءوسهم وبين السماء قال لهم موسى عليه السلام ألا ترون ما يقول
ربى عز وجل لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها لأرمينكم بهذا الخيط ، وقال الحسن
البصرى لما نظروا الى الجبل خر كل رجل ساجدا على حاجبه الأيسر ونظر بعينه اليمنى
الى الجبل فرقا من أن يسقط عليه فكذلك ليس اليوم فى الأرض يهودى يسجد الا على
حاجبه الأيسر يقولون هذه السجدة التى رفعت بها العقوبة .
واذ أخذ الله من بنى آدم من
ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم
القيامة انا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا انما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من
بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون * وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون 172 - 174
" واذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم " يخبر الله تعالى
انه استخرج ذرية بنى آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه
لا اله الا هو كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه ، وقد وردت أحاديث فى أخذ
الذرية من صلب آدم عليه السلام وتمييزهم الى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، وفى
بعضها الاستشهاد عليهم بأن الله ربهم ،
" وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة انا
كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا انما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم
أفتهلكنا بما فعل المبطلون" عن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم سئل عنها أى الآية فقال : " ان الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح
ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية قال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح
ظهره فاستخرج منه ذرية قال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون " فقال
رجل يارسول الله ففيم العمل ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اذا خلق
الله العبد للجنة استعمله بأعمال أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة
فيدخله به الجنة ، واذا خلق العبد للنار استعمله بأعمال أهل النار حتى يموت على
عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار " ، وعن أنس بن مالك عن النبى صلى
الله عليه وسلم قال : " يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك
ما على الأرض من شىء أكنت مفتديا به فيقول نعم فيقول قد أردت منك أهون من ذلك قد
أخذت عليك فى ظهر آدم أن لا تشرك بى شيئا فأبيت الا أن تشرك بى " ، وفى الصحيحين
عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على
الفطرة " ، كما قال تعالى " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التى فطر
الناس عليها لا تبديل لخلق الله " ، وفى صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله انى خلقت عبادى حنفاء فجاءتهم
الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم " ، وعن الأسود بن
سريع من بنى سعد قال غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع غزوات فتناول
القوم الذرية بعد ما قاتلوا المقاتلة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتد
عليه ثم قال : " ما بال أقوام يتناولون الذرية " فقال رجل : " يا
رسول الله أليسوا أبناء المشركين " فقال : " ان خياركم أبناء المشركين
ألا انها ليست نسمة تولد الا ولدت على الفطرة فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها
فأبواها يهودانها وينصرانها " ، والأحاديث دالة على أن الله عز وجل استخرج
ذرية آدم من صلبه وميز بين أهل الجنة وأهل النار ، وأما الاشهاد انما فطرهم على
التوحيد وقد فسر الحسن البصرى الآية بذلك ولهذا قال " واذ أخذ ربك من بنى آدم
" ولم يقل من آدم " من ظهورهم " ولم يقل من ظهره " ذرياتهم
" أى جعل نسلهم جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن كقوله تعالى " وهو الذى
جعلكم خلائف الأرض " وقال " كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين " ثم قال
" وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى " أى أوجدهم شاهدين بذلك
قائلين له حالا وقال والشهادة تارة تكون بالقول كقوله " قالوا شهدنا على
أنفسنا " وتارة تكون حالا كقوله " ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله
شاهدين على أنفسهم بالكفر " أى حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك كما
أن السؤال تارة بالمقال وتارة يكون بالحال كقوله " وآتاكم من كل ما سألتموه
" والله جعل هذا الاشهاد حجة عليهم فى الاشراك ، فالمكذبين من المشركين
يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل فجعل الله هذا الاشهاد حجة عليهم فى الاشراك ،
وهذا جعل حجة مستقلة عليهم فدل على أنه الفطرة التى فطروا عليها من الاقرار
بالتوحيد ولهذا قال " أن تقولوا " أى لئلا تقولوا يوم القيامة "
انا كنا عن هذا " اىكنا عن التوحيد "غافلين أو تقولوا انما أشرك آباؤنا
من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون " كنا غافلين عن
التوحيد أى لا نعرفه أو تقولوا أيها المشركون اتبعنا ما وجدنا عليه آبائنا عليه
وأورثونا الشرك كأبناء لهم فكيف يهلكنا ربنا بسبب هؤلاء المتبعون للباطل ،هذه حجة
باطلة .
واتل عليهم نبأ الذى آتيناه آياتنا
فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولوشئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد الى
الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم
الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون * سآء مثلا القوم الذين كذبوا
بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون 175 - 177
"
واتل عليهم نبأ الذى آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين
" المشهور فى سبب نزول هذه الآية الكريمة هو رجل من المتقدمين فى زمن بنى
اسرائيل كما قال أبن مسعود وغيره وقال أبن عباس هو رجل من مدينة الجبارين يقال له
بلعام بن باعوراء من أهل البلقاء وكان يعلم الأسم الأكبر وكان مقيما ببيت المقدس
مع الجبارين وقال مالك بن دينار كان من علماء بنى اسرائيل وكان مجاب الدعوة
يقدمونه فى الشدائد بعثه نبى الله موسى عليه السلام الى ملك مدين يدعوه الى الله
فأقطعه وأعطاه فتبع دينه وترك دين موسى عليه السلام ، وقال السدى لما انقضت
الأربعون سنة التى قال الله " فانها محرمة عليهم أربعين سنة " بعث يوشع
بن نون نبيا فدعا بنى اسرائيل فأخبرهم أنه نبى وأن الله أمره أن يقاتل الجبارين فبايعوه
وصدقوه وانطلق رجل من بنى اسرائيل يقال له بلعام فكان عالما يعلم الاسم الأعظم
فكفر وأتى الجبارين وقال لهم لا ترهبوا بنى اسرائيل فانى اذا خرجتم تقاتلونهم أدعو
عليهم فيهلكون وكان عندهم فيما شاء من الدنيا غير أنه كان لا يستطيع أن يأتى
النساء لعظمهن فكان ينكح أتانا له وهو الذى قال الله تعالى " فانسلخ منها
" وقوله تعالى " فأتبعه الشيطان " أى استحوذ عليه وعلى أمره امتثل
وأطاعه ولهذا قال " فكان من الغاوين" أى من الهالكين الحائرين البائرين
، وقد ورد فى معنى هذه الآية حديث عن حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : " ان مما أخاف عليكم رجل قرأ القرآن حتى اذا رؤيت بهجته عليه
وكان رداؤه الاسلام اعتراه الى ما شاء الله انسلخ منه ونبذه وراء ظهره وسعى على
جاره بالسيف ورماه بالشرك " قلت : " يا نبى الله أيهما أولى بالشرك
المرمى أو الرامى ؟ " قال : " بل الرامى " ، " ولوشئنا
لرفعناه بها ولكنه أخلد الى الأرض واتبع هواه " يقول تعالى انه لو أراد
بمشيئته لرفعه عن قاذورات الدنيا بالآيات التى أتاه ايها ولكنه مال الى زينة
الحياة الدنيا وزهرتها وأقبل على لذاتها ونعيمها وغرته كما غرت غيره من أولى
البصائر والنهى ، " فمثله كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث وان تتركه يلهث ذلك
مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا "اختلف المفسرون فى المعنى فقيل معناه فصار
مثله فى ضلاله واستمراره فيه وعدم انتفاعه بالدعاء الى الايمان وعدم الدعاء كالكلب
فى لهيثه فى حالتيه ان حملت وان تركته هو يلهث فى الحالتين فكذلك هذا لا ينتفع
بالموعظة والدعوة الى الايمان ولا عدمه كما قال تعالى " سواء عليهم أأنذرتهم
أم لم تنذرهم لا يؤمنون * استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مرة
فلن يغفر الله لهم " ، وقيل معناه أن قلب الكافر والمنافق والضال ضعيف فارغ
من الهدى فهو كثير الوجيب فعبر عن هذا بهذا ، " فاقصص القصص لعلهم يتفكرون
" يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أقصص على بنى اسرائيل القصص لعل
العالمين منهم بحال بلعام وما جرى له فى اضلال الله اياه وابعاده من رحمته بسبب
أنه استعمل نعمة الله عليه فى تعليمه الاسم الأعظم الذى اذا سئل به اعطى واذا دعى
به أجاب فى غير طاعة ربه بل دعا به على حزب الرحمن وشعب الايمان ، أتباع عبده
ورسوله فى ذلك الزمان كليم الله موسى عليه السلام ولهذا قال " لعلهم يتفكرون
" لعلهم يتدبرون ويفكرون فيحذروا أن يكونوا مثله فان الله قد أعطاهم علما
وميزهم على من عداهم من الأعراب وجعل بأيديهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم
يعرفونها كما يعرفون أبناءهم فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه ومناصرته كما أخبرتهم
أنبياؤهم بذلك وأمرتهم به ولهذا من خالف منهم ما فى كتابه وكتمه فلم يعلم به عباده
أحل الله به ذلا فى الدنيا موصولا بذل الآخرة ، " ساء مثلا القوم الذين كذبوا
بآياتنا " ساء مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا أى ساء مثلهم أن شبهوا بالكلاب
التى لا همة لها الا فى تحصيل أكلة أو شهوة فمن خرج عن حيز العلم والهدى وأقبل على
شهوة نفسه واتبع هواه صار شبيها بالكلب وبئس المثل مثله ، وهذا ثبت فى الصحيح أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" ليس لنا مثل مثل ا لسوء العائد فى هبته كالكلب يعود فى تيئه " ،
" وأنفسهم كانوا يظلمون " ما ظلمهم الله ولكن هم ظلموا أنفسهم باعراضهم
عن اتباع الهدى وطاعة المولى الى الركون الى دار البلى والاقبال على تحصيل اللذات
وموافقة الهوى .
من يهد الله فهو المهتدى ومن
يضلل فأولئك هم الخاسرون 178
" من يهد
الله فهو المهتدى ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون " يقول تعالى من هداه الله
فانه لا مضل له ومن أضله فقد خاب وخسر وضل لا محالة فانه تعالى ما شاء يكن وما لم
يشأ لم يكن .
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من
الجن والانس لهم قلوب لايفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم اذان لا يسمعون
بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون 179
" ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس " خلقنا وجعلنا لجهنم وهيأنا كثيرامن الجن والانس يعملون بعمل أهلها ، فانه تعالى لما أراد أن يخلق الخلق علم ما هم عاملون قبل كونهم فكتب ذلك عنده فى الكتاب قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما ورد فى صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ان الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء " ، وفى صحيح مسلم عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت دعى النبى صلى الله عليه وسلم الى جنازة صبى من الأنصار فقلت : " يارسول الله طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أوغير ذلك يا عائشة ان الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم فى أصلاب آبائهم ، وخلق النار وخلق لها أهلا وهم فى أصلاب آبائهم " وفى الصحيحين من حديث أبن مسعود " ثم يبعث الله اليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وشقى أم سعيد " ، وتقدم أن الله لما استخرج ذرية آدم من صلبه وجعلهم فريقين أصحاب اليمين وأصحاب الشمال قال "هؤلاء للجنة ولا أبالى ، وهؤلاء للنار ولا أبالى " والأحاديث فى ذلك كتيرة ، " لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم اذان لا يسمعون بها " هؤلاء الذين من أهل جهنم لا ينتفعون بشىء من جوارحهم التى جعلها الله سببا للهداية لا قلوب ولا أعين ولا اذان ، وذلك كقوله" وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شىء اذا كانوا يجحدون بآيات الله " وكما قال " صم بكم عمى فهم لا يرجعون " هذا فى حق المنافقين ، وقال فى حق الكافرين " صم بكم عمى فهم لا يعقلون " ولم يكونوا صما ولا بكما ولا عميانا الا عن الهدى كما قال تعالى " فانها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور " ، " أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون " هؤلاء الذين لا يسمعون الحق ولا يعونه ولا يبصرون الهدى كالأنعام السارحة التى لا تنتفع بهذه الحواس منها الا فى الذى يقيتها من ظاهر الحياة الدنيا كقوله " ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع الا دعاء ونداء " وأى ومثلهم فى حال دعائهم الى الايمان كمثل الأنعام اذا دعاها راعيها لا تسمع الا صوته ولا تفقه ما يقول ، ولهذا قال فى هؤلاء " بل هم أضل " أى أضل من الدواب لأنها قد تستجيب مع ذلك لراعيها اذا أيس بها وان لم تفقه كلامه بخلاف هؤلاء ، ولأنها تفعل ما خلقت له اما بطبعها واما بتسخيرها بخلاف الكافر فانه خلق ليعبد الله ويوحده فكفر بالله وأشرك به ، ولهذا من أطاع الله من البشر كان أشرف من مثله من الملائكة فى معاده ، ومن كفر من البشر كانت الدواب أتم منه ولهذا قال تعالى " أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون " .
ولله الأسماء الحسنى فادعوه
بها وذروا الذين يلحدون فى أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون 180
" ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها
" عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ان لله تسعا
ةتسعين اسما مائة الا واحدا من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر " ،وعن
عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما أصاب أحدا
قط هم ولا حزن فقال اللهم انى عبدك أبن عبدك أبن أمتك ناصيتى بيدك ماض فى حكمك عدل
فى قضاؤك أسأ لك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته فى كتابك أو علمته أحدا من
خلقك أو استأثرت به فى علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبى ، ونور صدرى
، وجلاء حزنى ، وذهاب همى ، الا أذهب الله حزنه وهمه وأبدل مكانه فرحا " فقيل
يا رسول الله أفلا نتعلمها ؟" فقال : " بلى ينبغى لكل من سمعها أن
يتعلمها " ، " وذروا الذين يلحدون فى أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون
" قال قتادة يلحدون يشركون فى أسمائه ، وقال أبن عباس الالحاد التكذيب ، وأصل
الالحاد فى كلام العرب العدول عن القصد ، والميل والجوار والانحراف ، ومنه اللحد
فى القبر لانحرافه الى جهة القبلة عن سمت الحفر ، وقال مجاهد اشتقوا اللات من الله
، والعزى من العزيز ، ، وقال أبن عباس الحاد الملحدين أن دعوا اللات فى أسماء الله
، والله سيجزيهم جزاء ما يفعلون من الانحراف والتحريف فى أسمائه الحسنى .
وممن خلقنا أمة يهدون بالحق
وبه يعدلون 181
" وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه
يعدلون " من خلق الله طائفة قائمة بالحق قولا وعملا يقولون بالحق ويدعون اليه
ويعملون به ويقضون ، وقد جاء فى الآثار أن المراد بهذه الأمة المذكورة فى الآية
الأمة المحمدية وعن الربيع بن أنس قال فى الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: " ان من أمتى قوما على الحق حتى ينزل عيسى أبن مريم متى ما نزل " ،
وفى الصحيحين عنمعاوية بن سفيان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
لاتزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لايضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم
الساعة "وفىرواية " حتى يأتى أمر الله وهم على ذلك " ، وقال قتادة
فى تفسير هذه الآية بلغنا أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقول اذا قرأ هذه الآية
: " هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها " " ومن قوم موسى أمة
يهدون بالحق وبه يعدلون " ، يفهم من هذا الحديث أنه الأمة هى الطائفة التى
تهدى الى الحق والعدل منذ أن خلق الله البشر مستمرة لاتنقطع ، حتى جاءت الأمة
المحمدية وهى آخر الأمم ورسولها خاتم النبيين وستظل قائمة على الحق حتى يوم
القيامة .
والذين كذبوا بآياتنا
سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملى لهم ان كيدى متين 182 - 183
" والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون " الذين
كذبوا وكفروا بما أنزل الله على رسله يستدرجهم الله بأن يفتح لهم الرزق ووجوه
المعاش فى الدنياحتى يغتروا بما هم فيه ويعتقدوا أنهم على شىء ، " وأملى لهم
ان كيدى متين " يطول الله لهم ما هم
فيه حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدرولم يفلتهم من بطشه القوى الشديد ، كما فى قوله
" فلمانسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شىء حتى اذا فرحوا بما أوتوا
أخذناهم بغتة فاذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا ولحمد لله رب العالمين
".
أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من
جنة ان هو الا نذير مبين 184
" أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة
ان هو الا نذير مبين " هؤلاء المكذبون بآيات الله ليس بفكرهم واعتقادهم أن
محمدا صلى الله عليه وسلم وهو منهم لذا سماه " صاحبهم " ليس بمجنون كما
كانوا يدعون أنه مسه جن بل هو رسول الله حقا دعا الى حق ، " ان هو الا نذير
مبين " فقد جاء لينذرهم من عذاب الله جزاء كفرهم كما يبشرهم بجنته لمن آمن
منهم فهو النذير البشير وهو فى دعوته ظاهر واضح لمن كان له لب وقلب يعقل به ويعى
كما قال تعالى " وما صاحبكم بمجنون " ، وكما قال " قل انما أعظكم
بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة ان هو الا نذير
لكم بين يدى عذاب شديد " ، وقال قتادة بن دعامة ذكر لنا أن نبى الله صلى الله
عليه وسلم كان على الصفا فدعا قريشا فجعل بفخذهم فخذا فخذا يا بنى فلان يا بن فلان
فحذرهم بأس الله ووقائع الله فقال قائلهم ان صاحبكم هذا لمجنون بات يصوت الى الصباح
أو حتى الأصبح فأنزل الله الآية " أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة ان هو الا
نذير " .
أو لم ينظروا فى ملكوت السموات
والأرض وما خلق الله من شىء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأى حديث بعده يؤمنون
185
" أو لم ينظروا فى ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شىء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم" يقول تالى أولم ينظر هؤلاء المكذبون بآياتنا فى ملك الله وسلطانه فى السموات والأرض وفيما خلق من شىء فيهما فيتدبروا ذلك ويعتبروا به ويعلموا أن ذلك لا نظير له ولا شبيه من لا ينبغى أن تكون العبادة والدين الخالص الا له فيؤمنوا به ويصدقوا رسوله وينيبوا الى طاعته ويخلعوا الأنداد والأوثان ويحذروا أن تكون آجالهم قد اقتربت فيهلكوا على كفرهم ويصيروا الى عذاب الله وأليم عقابه ، " فبأى حديث بعده يؤمنون " فبأى تخويف وتحذير وترهيب بعد تحذير محمد صلى الله عليه وسلم وترهيبه الذى أتاهم به من عند الله فىآى كتابه يصدقون ان لم يصدقوا بهذا الحديث الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله عز وجل ؟ ، وعن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت ليلة أسرى بى كذا فلما انتهينا الى السماء السابعة فنظرت فوقى فاذا برعد وبرق وصواعق وأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم قلت منهؤلاء يا جبريل ؟ قال هؤلاء أكلة الربا ، فلما نزلت الىالسماء الدنيا فنظرت الى أسفل منى فاذا أنا برهج ودخان وأصوات فقلت ماهذا يا جبريل ؟ قال هؤلاء الشياطين يحومون على أعين بنى آدم أن لا يتفكروا فى ملكوت السموات والآرض ولولا ذلك لرأوا العجائب " .
من يضلل الله فلا هادى له
ويذرهم فى طغيانهم يعمهون 186
" من يضلل
الله فلا هادى له ويذرهم فى طغيانهم يعمهون " يقول الله تعالى من كتب عليه ا
لضلالة فانه لا يهديه أحد ويتركه الله يتخبط فى الضلال ويتيه فيه ويصاب بالعمه كما
قال " ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا " .
يسألونك عن الساعة أيان مرساها
قل انما علمها عند ربى لا يجليها الا هو ثقلت فى السموات والأرض لا تأتيكم الا
بغتة يسألونك كأنك حفى عنها قل انما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لايعلمون 187
" يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل انما علمها عند ربى لا يجليها الا هو " قيل أنزلت فى قريش وقيل فى نفر من اليهود والأول أصح لأن الآية مكية وكانول يسألون عن وقت الساعة اتبعادا لوقوعها وتكذيبا بوجودها كما قال تعالى " ويقولون متى هذا الوعد ان كنتم صادقين " وقال تعالى" يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقين منها ويعلمون أنها الحق ألا ان الذين يمارون فى الساعة لفى ضلال بعيد" ، " أيان مرساها " قال أبن عباس منتهاها أى متى محطها وأيان آخر مدة الدنيا الذى هو أول وقت الساعة ، " قل انما علمها عند ربى لا يجليها لوقتها الا هو " الجواب أن وقت الساعة لا يعلمه الا الله ، أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم اذا سئل عن وقت الساعة أن يرد علمها الى الله تعالى فانه هو الذى يجليها لةقتها أى يعلم جلية أمرها ومتى تكون بالتحديد لايعلم ذلك الا هو تعالى ولهذا قال " ثقلت فى السموات والأرض " قال قتادة ثقل علمها على أهل السموات والأرض أنهم لايعلمون ، وقال الحسن اذا جاءت ثقلت على أهل السموات والأرض يقول كبرت عليهم وقال أبن عباس ليس شىء من الخلق الا يصيبه من ضرر يوم القيامة ، " قل انما علمها عند ربى لا يجليها لوقتها الا هو " الجواب أن وقت الساعة لا يعلمه الا الله ، أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم اذا سئل عن وقت الساعة أن يرد علمها الى الله تعالى فانه هو الذى يجليها لةقتها أى يعلم جلية أمرها ومتى تكون بالتحديد لايعلم ذلك الا هو تعالى ولهذا قال " ثقلت فى السموات والأرض " قال قتادة ثقل علمها على أهل السموات والأرض أنهم لايعلمون ، وقال الحسن اذا جاءت ثقلت على أهل السموات والأرض يقول كبرت عليهم وقال أبن عباس ليس شىء من الخلق الا يصيبه من ضرر يوم القيامة وقال السدى خفيت فى السموات والأرض فلا يعلم قيامها حين تقوم ملك مقرب ولا نبى مرسل ، وقال أبن جريج اذا جاءت انشقت السماء ، وانتثرت النجوم ، وكورت الشمس ، وسيرت الجبال وكان ما قاله الله عز وجل فذلك ثقلها ، " لا ـاتيكم الا بغتة " وقضى الله أن الساعة لا تكون الا بغتة أى فجأة وقال قتادة وذكر لنا أن نبى الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " ان الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقى ماشيته والرجل يقيم سلعته فى السوق ويخفض ميزانه ويرفعه " ، قال مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة يبلغ به قال " تقوم الساعة والرجل يحلب لقحته فما يصل الاناء الى فيه حتى تقوم الساعة ، والرجلان يتبايعان الثوب فما يتبايعانه حتى تقوم الساعة ، والرجل يلوط حوضه فما يصدر حتى تقوم " ، " يسألونك كأنك حفى عنها "أختلف المفسرون فى معناه فقيل عن أبن عباس سيألونك كأن بينك وبينهم مودة كأنك صديق لهم وقال لما سأل الناس النبى صلى الله عليه وسلم عن الساعة سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمدا حفى بهم فأوحى الله اليه انما علمها عنده استأثر يه فلم يطلع الله عليها ملكامقربا ولا رسولا ، وقال قتادة قألت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم : " ان بيننا وبينك قرابة فأسر الينا متى الساعة فقال الله عز وجل " يسألونك كأنك حفى عنها " وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يسألونك كأنك عالم بها وقد أخفى الله علمها على خلقه وقرأ " ان الله عنده علم الساعة " ولهذا قال " قل انما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لايعلمون " ، ولهذا لما جاء جبريل عليه السلام فى صورة أعرابى ليعلم الناس أمر دينهم فجلس من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس السائل المسترشد وسأله عن الاسلام ، ثم عن الايمان ، ثم عن الاحسان ، ثم قال فمتى الساعة ؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " أى لست أعلم بها منك ولا أحد أعلم بها من أحد ثم قرأ النبى صلى الله عليه وسلم " ان الله عنده علم الساعة " وفى هذا كله يقول له بعد كل جواب صدقت ولهذا عجب الصحابة من هذا السائل يسأله ويصدقه ، ثم انصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " ، أمره الله أن يرد علم وقت الساعة اليه اذا سئل عنها فقال " قل انما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون " .
قل لا أملك لنفسى نفعا ولا ضرا
الا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء ان أنا الا
نذير وبشير لقوم يؤمنون 188
" قل لا أملك لنفسى نفعا ولا ضرا الا ما
شاء الله " أمر الله رسوله صلى الله
عليه وسلم أن يفوض الأمور اليه فهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا انما كل شىء يرجع
الى الله ومشيئته ، " ولوكنت أعلم
الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء " لو كنت أعلم متى أموت لعملت عملا
صالحا وهذا فيه نظر لأن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ديمة ، وفى رواية
كان اذا عمل عملا أثبته فجميع عمله كان على منوال واحد كأنه ينظر الى الله عز وجل
فى جميع أحواله اللهم الا أن يكون المراد أن يرشد غير الى الاستعداد لذلك ، وقال
أبن عباس استكثرت من المال ، وقال أبن جرير لوكنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة
ولوقت الغلاء من الرخص فاستعددت له ، " ومامسنى السوء " لاجتنبت ما يكون
من الشر قبل أن يكون واتقيته ، " ان أنا الا نذير وبشير لقوم يؤمنون " أخبر
الله أن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم انما هو نذير وبشير أى نذير من العذاب
وبشير للمؤمنين بالجنات كما فى قوله " فانما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين
وتنذر به قوما لدا " .
هو الذى خلقكم من نفس واحدة
وجعل منها زوجها ليسكن اليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا
الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين * فلما آتاهما صالحا جعلا له
شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون " 189 - 190
" هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن اليها " ينبه الله تعالى أنه خلق جميع الناس من آدم عليه السلام وأنه خلق منه زوجته حواء ليألفها ويسكن بها وهكذا جميع ذرية آدم عليه السلام , كما قال " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زرجها " ، وكقوله " ومن آياته أنخلق لكم من أنسكم أزواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة " ، " فلما تغشاها حملت حملا خفيفا" أى وطئها حملت حملا خفيفا وذلك أول الحمل لا تجد المرأة له ألما انما هى النطفة ثم العلقة ثم المضغة ، " فمرت به " قال مجاهد استمرت بحمله ، " فلما أثقلت " أى صارت ذات ثقل بحملها ، وقال السدى كبر الولد فى بطنها ، " دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين " يدعوا الله أن يكون بشرا سويا وقال الحسن البصرى لئن آتيتنا غلاما لك يا الله الشكر على ذلك العطاء ، " فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما " عن قتادة قال كان الحسن يقول هم اليهود والنصارى ان رزقهم الله أولادا فهودوا ونصروا والمراد من ذلك المشركون من ذرية آدم ، " فتعالى الله عما يشركون " تنزه الله عن هذا الشرك الذى يقع من هؤلاء ومن ذريهم ونذكر دعوة نوح عليه السلام "وقال نوح رب لاتذر على الأرض من الكافرين ديارا *انك ان تذرهم يضلوا عبادك ولايلدوا الا فاجرا كفارا" .
أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون * ولا
يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون * وان تدعوهم الى الهدى لا يتبعوكم سواء
عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون * ان الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم
فادعوهم فليستجيبوا لكم ان كنتم صادقين * ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون
بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم اذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا
تنظرون * ان وليى الله الذى نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين * والذين تدعوهم من
دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون* وان تدعوهم الى الهدى لا يسمعوا وتراهم
ينظرون اليك وهم لا يبصرون 191 - 198
هذا
انكار من الله على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأنداد والأصنام
والأوثان وهى مخلوقة لله مربوبة مصنوعة لا تملك شيئا من الأمر ولا تضر ولا تنفع
ولا تبصر ولا تنتصر لعابديها بل هى جماد لا تتحرك ولا تسمع ولا تبصر وعابدوها أكمل
منها بسمعهم وبصرهم وبطشهم " أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون "
أتشركون به من معبودات ما لا يخلق شيئا ولا يستطيع ذلك بل هم مخلوقون مصنوعون ،
كما قال الخليل " أتعبدون ما تنحتون " ، " ولا يستطيعون لهم نصرا ولا
أنفسهم ينصرون " هذه الأصنام والأوثان لا تستطيع نصر عابديها ولا تستطيع نصر
أنفسهم ممن أرادهم بسوء كما كان الخليل عليه السلام يكسر أصنام قومه ويهينها غاية
الاهانة كما فى قوله " فراغ عليهم ضربا باليمين " وقال تعالى "
فجعلهم جذاذا الا كبيرا لهم لعلهم اليه يرجعون " ، وكما كان معاذ بن عمرو بن
الجموح ومعاذ بن جبل رضى الله عنهما وكانا شابين قد أسلما لما قدم رسول الله صلى الله
عليه وسلم الى المدينة فكانا يعدوان فى الليل على أصنام المشركين يكسرانها
ويتلفانها ويتخذانها حطبا الأرامل ليعتبر قومهما بذلك ويرتؤا لأنفسهم فكان لعمرو
بن الجموح وكان سيدا فى قومه صنم يعبده ويطيبه فكانا يجيئان فى الليل فينكسانه على
رأسه ويلطخانه بالعذرة فيجىء عمرو بن الجموح فيرى ما صنع به فيغسله ويطيبه ويضع
عنده سيفا ويقول له انتصر ثم يعودان لمثل ذلك ويعود الى صنيعه أيضا حتى أخذاه مرة
فقرناه مع كلب ميت ولياه فى حبل فى بئر هناك فلما جعء عمرو بن الجموح ورأى ذلك
نظرفعلم أن ما كان عليه من ثم أ سلم فحسن اسلامه وقتل يوم أحد شهيدا ، "* وان تدعوهم الى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم
صامتون يبطشون* ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم اذان يسمعون بها "أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها وسواء لديها من دعاها ومن
دحاها كما قال ابراهيم عليه السلام يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى
عنك شيئا ، " ان الذين تدعون من دون الله
عبادا أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم ان كنتم صادقين
" ذكر الله تعالى أنها عبيد مثل عابديها أى مخلوقات مثلهم بل الاناس
أكمل منها لأنها تسمع وتبصر وتبطش وتلك لا تفعل شيئا من ذلك ، " قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون "
استنصروا بها على فلا تؤخرونى طرفة عين واجهدوا جهدكم ، " ان وليى الله الذى نزل الكتاب وهو
يتولى الصالحين " الله حسبى وكافينى وهو نصيرى وعليه متوكلى واليه ألجأ وهو وليى
فى الدنيا والآخرة وهو ولى كل صالح بعدى ، " والذين تدعوهم من دونه لا
يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون "وهذه الأصنام الذين تدعون من دون الله
لايمكن أن ينفعوكم اذا أصابكم مكروه أو ينفعوا أنفسهم اذا تعرذوا لمكروه من أحد فى
لاتضر ولا تنفع ، " وان تدعوهم الى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون اليك وهم
لا يبصرون " هذه الأصنام ان تدعوهم لايسمعوا فهى جماد ويقابلونك بعيون مصورة
كأنها ناظرة وهى جماد ولهذل عاملهم معاملة من يعقل لأنها مصورة كالانسان وتراهم
ينظرون اليك فعبر عنها بضمير من يعقل ، وقال السدى المراد بهذا المشركون .
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين * واما ينزغنك
من الشيطان نزع فاستعذ بالله انه سميع عليم 199 - 200
" خذ
العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " عن أبى قال لما أنزل الله عز وجل على
نبيه صلى الله عليه وسلم الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما هذا
يا جبريل ؟" قال : " ان الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطى من حرمك وتصل
من قطعك " ، وعن عقبة بن عامر رضى الله عنه قال لقيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم فابتدأته فأخذت بيده فقلت : " يارسول الله أخبرنى بفواضل الأعمال فقال :
" يا عقبة صل من قطعك وأعط من حرمك وأعرض عمن ظلمك " ، وقال البخارى
العرف المعروف ، وحكى أبن جرير أنه يقال أوليته معروفا وعارفا وعارفة كل ذلك بمعنى
المعروف وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمرعباده بالمعروف ويدخل فى ذلك
جميع الطاعات وبالاعراض عن الجاهلين وذلك وان كان أمرا لنبيه صلى الله عليه وسلم
فانه تأديب لخلقه باحتمال من ظلمهم واعتدى عليهم لا بالأعراض عمن جهل الحق والواجب
من حق الله ولا بالصفح عمن كفر بالله وجهل وحدانيته وهو للمسلمين حرب ، وقال قتادة
هذه أخلاق أمر الله بها نبيه محمد صلى الله عليه وسلم و دل عليها ، وقال بعض
العلماء الناس رجلان فرجل محسن فخذ ما عفا لك من احسانه ولا تكلفه فوق طاقته ولا
ما يحرجه واما مسىء فمره بالمعروف فان تمادى على ضلاله واستعصى عليك واستمر فى
جهله فأعرض عنه لعل ذلك أن يرد كيده كما قال تعالى " ادفع بالتى هى أحسن ا لسيئة
نحن أعلم بما يصفون * وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك أن يحضرون "
، وكما قال " ولا تستوى الحسنة ولا السيئة أدفع بالتى هى أحسن فاذا الذى بينك
وبينه عداوة كأنه ولى حميم * وما يلقاها الا الذين صبروا وما يلقاهاالا ذو حظ عظيم
" ، " واما ينزغنك من الشيطان نزع فاستعذ بالله انه سميع عليم "
يرشد الله تعالى الى معاملة العاصى من الانس بالمعروف بالتى هى أحسن فان ذلك يكفه
عن ما هو فيه من التمرد باذنه تعالى ، قال أبن جرير واما يغضبنك من الشيطان غضب
يصدك عن الاعراض عن الجهل ويحملك على مجازاته فاستجر بالله من نزعه فالله سميع
لجهل الجاهل عليك والاستعاذة به من نزعه ولغير ذلك من كلام خلقه لا يخفى عليه منه
شىء عليم بما يذهب عنك نزغ الشيطان وغير ذلك من أمور خلقه ،وأصل النزغ الفساد اما
بالغضب أوغيره قال تعالى " وقل لعبادى يقولوا التى هى أحسن ان الشيطان ينزغ
بينهم " والعياذ الالتجاء والاستناد والاستجارة من الشر ، وأما الملاذ ففى
طلب الخير .
ان الذين اتقوا اذا مسهم طآئف من الشيطان تذكروا فاذا هم
مبصرون * واخوانهم يمدونهم فى الغى ثم لا يقصرون 201 - 202
" ان الذين اتقوا اذا مسهم طآئف
من الشيطان " يخبر الله تعالى عن المتقين من عباده الذين أطاعوه فيما أمر
وتركوا ما عنه زجر أنهم اذا أصابهم طيف وقرأ آخرون طائف من فسر ذلك بالغضب ومن
فسره بمس الشيطان بالصرع ومن فسر بالهم بالذنب ومن فسره باصابة الذنب وقوله "
تذكروا " أى عقاب الله وجزيل ثوابه ووعده ووعيده فتابوا وأنابوا واستعاذوا
بالله ورجعوا اليه من قريب ، " فاذا هم مبصرون " أى قد استقاموا وصحوا
مما كانوا فيه ، وعن أبى هريرة قال جاءت امرأة الى النبى صلى الله عليه وسلم وبها
طيف فقالت " يا رسول الله أدع الله أن يشفينى" فقال : " ان شئت
دعوت الله فشفاك وان شئت فاصبرى ولا حساب عليك " فقالت : " بل أصبر ولا
حساب على " ، ورواه غير واحد من أهل السنن وعندهم قالت : " يا رسول الله
انى أصرع وأتكشف فادع الله أن يشفينى " فقال :" ان شئت دعوت الله أن
يشفيك وان شئت صبرت ولك الجنة " فقالت : " بل أصبر ولى الجنة ولكن أدع
الله أن لا أتكشف " فدعا الله لها فكانت لا تتكشف " ، " واخوانهم
يمدونهم فى الغى " واخوانهم الشياطين من الانس كقوله " ان المبذرين
كانوا اخوان الشياطين " وهم أتباعهم والمستمعون لهم القابلون لأوامرهم
يمدونهم فى الغى أى تساعدهم الشياطين على المعاصى وتسهلها عليهم وتحسنها لهم وقال
أبن كثير المد الزيادة يعنى يزيدونهم فى الغى يعنى الجهل والسفه ، " ثم لا
يقصرون " قيل معناه أن الشياطين تمد الانس لا تقصر فى أعمالهم بذلك ، وقال
أبن عباس هم الجن يوحون الى أوليائهم من الانس ولا تسأم من امدادهم فى الشر لأن
ذلك طبيعة لهم وسجية " لايقصرون " لا تفتر فيه ولا تبطل عنه كما قال
تعالى " ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا " قال أبن
عباس وغير تزعجهم الى المعاصى ازعاجا .
واذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجبيتها قل انما أتبع ما
يوحى الى من ربى هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون 203
" واذا لم تأتهم بآية " اذا لم تانيهم بمعجزة وخارق كقوله " ان نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين " ، " قالوا لولا أجتبيتها " يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم ألا تجهد نفسك فى طلب الآيات والخوارق من الله حتى تراها وتؤمن بها ، " قل انما أتبع ما يوحى الى من ربى " أنا لا أتقدم اليه تعالى فى شىء وانما أتبع ما أمرنى به فأمتثل ما يوحيه الى فان بعث آية قبلتها وان منعها لم أساله ابتداء اياها الا أن يأذن لى فى ذلك فانه حكيم عليم ، " هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون " أرشدهم الى أن هذا القرآن هو أعظم المعجزات وأبين الدلالات وأصدق الحجج والبينات وهو هدى ورحمة من الله لمن هم مؤمنون بالله .
واذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون 204
"
واذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون " ذكر تعالى أن القرآن
بصائر للناس وهدى ورحمة أمر تعالى الاستماع والانصات عند تلاوته اعظاما واحتراما
لا كما كان يتعمده كفار قريش المشركون فى قولهم " لا تسمعوا لهذا القرآن
والغوا فيه " ، وعن الزهرى قال نزلت هذه الآية فى فتى من الأنصار كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم كلما قرأ شيئا قرأه ، وعن أبى هريرة أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : " من استمع الى آية من كتاب الله كتبت له حسنة مضاعفة ،
ومن تلاها كانت له نورا يوم القبامة " تفرد به الامام أحمد ، ، قال أبن جرير
أن المراد من ذلك الانصات فى الصلاة وفى الخطبة كما جاء بالانصات خلف الامام وحال
الخطبة ، وعن الحسن اذا جلست الى القرآن فأنصت له , ، وقال أبو حنيفة وأحمد بن
حنبل لايجب على المأموم قراءة أصلا فى السرية ولا فى الجهرية بما ورد فى الحديث
" من كان له امام فقراءته قراءة له " ، ويتأكد ذلك فى الصلاة المكتوبة
اذا جهر الامام بالقراءة فعن أبى موسى ألشعرى قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : " انما جعل الامام ليؤتم به فاذا كبر فكبروا واذا قرأ فأنصتوا "
، وعن أبن عباس قال يعنى فى الصلاة المفروضة .
واذكر ربك فى نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول
بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين * ان الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته
ويسبحونه وله يسجدون 205 - 206
" واذكر ربك فى نفسك تضرعا
وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين " امر الله تعالى
بذكره أول النهار وآخره كثيرا كما أمر بعبادتة فى هذين الةقتين فى قوله "
فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب " وقد كان هذا قبل أن تفرض الصلوات
الخمس ليلة الاسراء وهذه للآية مكية وقال هنا بالغدو وهو أول النهار والآصال جمع
أصيل وهو وقت قبل الغروب ، " تضرعا وخيفة " أذكر ربك فى نفسك رغبة ورهبة
وبالقوى لا جهرا ولهذا قال " ودون
الجهر من القول " وهكذا يستحب أن يكون الذكر لايكون ندأ وجهرا بليغا ، ولهذا
لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : " أقريب ربنا فنناجيه أم
بعيد فنناديه ؟ " فأنزل الله عز وجل " واذا سألك عبادى عنى فانى قريب
أجيب دعوة الداع اذا دعان " ، وفى الصحيحين عن أبى موسى ألشعرى رضى الله عنه
قال : " رفع الناس أصواتهم فى بعض الأسفار فقال لهم النبى صلى الله عليه وسلم
: " يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فانكم لا تدعون أصم ولا غائبا ان الذى
تدعونه سميع قريب أقرب الى أحدكم من عنق راحلته " كما قال " ولا تجهر
بصلاتك ولا تخافت بهل وأبتغ بين ذلك سبيلا " فان المشركين كانوا اذا سمعوا
القرآن سبوه وسبوا من أنزله وسبوا من جاء به فأمره الله تعالى أن لا يجهر به لئلا
ينال منه المشركون ولا يخافت به عن أصحابه فلا يسمعهم ، وليتخذ سبيلا بين الجهر
والاسرار ، " ان الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون
" ، المراد الحض على كثرة الذكر من العباد بالغدو الآصال لئلا يكونوا من
الغافلين ، ولهذا مدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لايفترون وانما ذكرهم
بهذا ليقتدى بهم فى كثبرة طاعتهم وعبادتهم ،ولهذا شرع لنا السجود هنا لما ذكر
سجودهم لله عز وجل كما جاء فى الحديث " ألا تصفونكما تصف الملائكة عند ربها
يتمون الصف الأول فالأول ويتراصون فى الصف " وهذه أول سجدة فى القرآن مما
يشرع لتاليها ومستنعها السجود بالاجماع .
تفسير الجزء التاسع
تفسير سورة الأنفال
الأنفال سورة مدنية آياتها سبعون وست آيات .
ٔ يَسَۡلُونَكَ عَنِ
ٱلۡأَنفَالِۖ قُلِ ٱلۡأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۥ وَأَصۡلِحُواْ
ذَاتَ بَيۡنِكُمۡۖ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ ٓوَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١
"
يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول " قال أبن عباس الأنفال الغنائم ،
وعن سعيد بن جبير قال : " قلت لأبن عباس رضى الله عنهما سورة الأنفال "
قال : " نزلت فى بدر " ، وقال أبن عباس الأنفال الغنائم كانت لرسول الله
صلى الله عليه وسلم خاصة ليس لأحد منها
شىء ،عن أبى أمامة قال سألت عبادة عن الأنفال فقال فينا أصحاب بدر نزلت حين
اختلفنا فى النفل وساءت فيه أخلاقنا فانتزعه الله من أيدينا وجعله الى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقسمه بين المسلمين عن بواء يقول عن سواء ، وعن سعد بن مالك
قال : " قلت يا رسول الله قد شفانى الله اليوم من المشركين فهب لى هذا السيف
" فقال : " ان هذا السيف لا لك ولا لى ، ضعه " قال فوضعته ثم رجعت فقلت عسى أن يعطى هذا السيف من
لا يبلى بلائى " قال فاذا رجل يدعونى من ورائى قلت قد أنزل الله فى شيئا ؟
" قال : " كنت سألتنى السيف وليس هو لى وانه قد وهب لى فهو لك "
قال وأنزل الله الآية ، وقال الامام أبو عبيد الله القاسم بن سلام فى كتاب الأموال
الشرعية وبيان جهاتهات ومصارفها : " أما الأنفال فهى المغانم وكل نيل ناله
المسلمون من أموال الحرب ، فكانت الأنفال الأولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول الله تعالى " يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول " فقسمها
يوم بدر على ما أراه الله من غير أن يخمسها ثم نزلت بعد ذلك آية الخمس فنسخت
الأولى ، وألنفال أصلها جماع الغنائم الا أن الخمس منها مخصوص لأهله على ما نزل به
الكتاب وجرت به السنة ، ومعنى الأنفال فى كلام العرب كل احسان فعله فاعل تفضلا من
غير أن يجب ذلك عليه ، فذلك النفل الذى أحله الله للمؤمنين من أموال عدوهم وانما
هو شىء خصهم به الله تطولا منه عليهم بعد أن كانت الغنائم محرمة على الأمم قبلهم
فنفلها الله تعالى هذه الأمة فهذا أصل النفل ، وعن جابر أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلى - فذكر الحديث الى أن قال -
وأحلت لى الغنائم ولم تحل لأحد قبلى " ، " فاتقوا الله وأصلحوا ذات
بينكم " وأتقوا الله فى أموركم وأصلحوا فيما بينكم ولا تظلموا ولا تخاصموا
ولا تشاجروا فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه ، " وأطيعوا
الله ورسوله ان كنتم مؤمنين "وأطيعوا الله ورسوله فى قسمة بينك على ما أراده
الله ، فانه انما يقسمه كما أمره الله من العدل والانصاف ، وقال أبن عباس هذا
تحريج من الله ورسوله أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم.
إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ
ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَإِذَا تُلِيَتۡ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُهُۥ
زَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ ٢ ٱلَّذِينَ
يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ٣ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ
ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّاٗاۚ لَّهُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَمَغۡفِرَةٞ
وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ ٤
" إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ " وصف الله المؤمنين قال السدى هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فيقال له الله فيجل قلبه ، وعن الثورى عن أم الدرداء قال الوجل فى القلب كاحتراق السعفة أما تجد له قشعريرة ؟ قال بلى قالت اذا وجدت ذلك فادع الله عند ذلك فان الدعاء يذهب ذلك ،وهذه صفة المؤمن حق المؤمن الذى اذا كر الله وجل قلبه أآ خاف منه ففعل أوامره وترك زواجره ، كقوله نعالى " والذين اذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب الا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " وكقوله تعالى " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هى المأوى " ، " واذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا " اذا تليت آيات الله زادتهم تصديقا بما أنزل كقوله " واذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه ايمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم ايمانا وهم يستبشرون " وقد استدل البخارى وغيره من الأئمة بهذه الآية وأشباهها على زيادة الاسمان وتفاضله فى القلوب ، " وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُون " َوهم لايرجون غير الله فى كل أعمالهم ولا يقصدون الا اياه ولا يلوذون الا بجنابه ولا يكلبون الحوائج الا منه ولا يرغبون الا اليه ويعلمون أنه ما شاء كان ولم يشأ لم يكن وأنه المتصرف فى الملك لا شريك له ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب ولهذا قال سعيد بن جبير التوكل على الله جماع الايمان ، " ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ "تنبه الله على أعما المؤمنين بعد ما ذكر اعتقادهم وهذه الأعمال تشمل أنواع الخير كلها ، وهو اقامة الصلاة وهو حق الله تعالى ، وقال قتادة اقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها ، وقال مقاتل بن حيان اقامتها المحافظة على مواقيتها واسباغ الطهور فيها وتمام ركوعها وسجودها وتلاوة القرآن فيها والتشهد والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم هذه اقامتها ، والانفاق مما رزقهم الله يشمل اخراج الزكاة وسائر الحقوق للعباد من واجب ومستحب ، والخلق كلهم عيال الله فأحبهم الى الله أنفعهم لخلقه ، " أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّا " المتصفون بهذه الصفات هم المؤمنون حق الايمان ، وعن الحارث بن مالك الأنصارى أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقثال له : " كيف أصبحت يا حارث ؟ " قال : " أصبحت مؤمنا حقا " قال : " أنظر ما تقول فان لكل شىء حقيقة فما حقيقة ايمانك ؟ " فقال : " عزفتنفسى عن الدنيا فأسهرت ليلى وأظمأت نهارى، وكأنى أنظر الى عرش ربى بارزا وكأنى أنظر الى أهل الجنة يتزاورون فيها ،وكأنى أنظر الى أهل النار يتضاغون فيها " فقال : " ياحارث عرفت فألزم " ثلاثا " ، " لَّهُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَمَغۡفِرَة وَرِزۡق كَرِيم "أىلهم منازل ومقامات ودرجات فى الجنة كما قال تعالى " هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون " ويغفر لهم السيئات ويشكر لهم الحسنات ، وقال الضحاك أهل الجنة بعضهم فوق بعض فيرى الذى هو فوق فضله على الذى هو أسفل منه ، ولا يرى الذى هو أسفل منه أنه فضل عليه أحد ، ولهذا جاء فى الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ان أهل عليين ليراهم من أسفل منهم كما ترون الكوكب الغابر فى أفق من آفاق السماء " قالوا : " يارسول الله تلك منازل الأنبياء لا ينالها غيرهم فقال : " بلى والذى نفسى بيسده لرجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " ، وعن أبى سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ان أهل الجنة ليتراءون أهل الدرجات العلى كما ترون الكوكب الغابر فى أفق السماء وان أبا بكر وعمر منهم وأنعما " .
كَمَآ
أَخۡرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَيۡتِكَ بِٱلۡحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقٗا
مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ ٥ يُجَٰدِلُونَكَ فِي ٱلۡحَقِّ بَعۡدَ مَا
تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلۡمَوۡتِ وَهُمۡ يَنظُرُونَ ٦ وَإِذۡ
يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحۡدَى ٱلطَّآئِفَتَيۡنِ أَنَّهَا لَكُمۡ وَتَوَدُّونَ أَنَّ
غَيۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ ٱلۡحَقَّ
بِكَلِمَٰتِهِۦ وَيَقۡطَعَ دَابِرَ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٧ لِيُحِقَّ ٱلۡحَقَّ وَيُبۡطِلَ
ٱلۡبَٰطِلَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ ٨
" كَمَآ أَخۡرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَيۡتِكَ بِٱلۡحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقٗا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ "أنزل الله فى خروج الرسول صلى الله عليه وسلم الى بدر ومجادلتهم اياه قال أبو أيوب الأنصارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة : " انى أخبرت عن عير أبى سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير اعل الله أن يغنمناها ؟ " فقلنا : " نهم " فخرج وخرجنا فلما سرنا يوما أو يومين قال لنا : " ما ترون فى قتال القوم انهم قد أخبروا بخروجكم ؟ " فقلنا : "لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو ولكنا أردنا العير " ثم قال : " ما ترون فى قتال القوم ؟ " فقلنا مثل ذلك فقال المقداد بن عمرو : "واذا لا نقول لك يارسول الله كما قال قوم موسى لموسى " اذهب أنت وربك فقاتلا انا ههنا قاعدون " قال فتمنينا معشر الأنصار أن لو قلنا كما قال المقداد أحب ألينا من أن يكون لنا مال عظيم فأنزل الله الآية ، " يُجَٰدِلُونَكَ فِي ٱلۡحَقِّ بَعۡدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلۡمَوۡتِ وَهُمۡ يَنظُرُونَ " وقال أبن عباس لما شاور النبى صلى الله عليه وسلم فى لقاء العدو وقال له سعد بن عبادة ما قال وذلك يوم بدر أمر الناس أن يتهيئوا للقتال وأمرهم بالشوكة فكره ذلك أهل الايمان فانزل الله " كَمَآ أَخۡرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَيۡتِكَ بِٱلۡحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقٗا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ ٥ يُجَٰدِلُونَكَ فِي ٱلۡحَقِّ بَعۡدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلۡمَوۡتِ وَهُمۡ يَنظُرُونَ " وقال مجاهد يجادلونك فى الحق فى القتال ، وقال محمد بن اسحاق كراهية للقاء المشركين وانكارا لمسير قريش حين ذكروا له ، وقال السدى أى بعد ما تبين لهم أنك لا تفعل الا ما أمرك الله به ، " وَإِذۡ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحۡدَى ٱلطَّآئِفَتَيۡنِ أَنَّهَا لَكُمۡ " عن أبن عباس قال : " قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر عليك بالعير ليس دونها شىء فناداه العباس أبن عبد المطلب وهو أسير فى وثاقه انه لايصلح لك قال ولم؟ " قال لأن الله عز وجل انما وعدك احدى الطائفتين وقد أعطاك الله ما وعدك " ، " وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيۡرَ ذ َاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ "أى يحبون أن الطائفة التى لا حد لها ولا منعة ولا قتال تكون لهم وهى العير ، " وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِ وَيَقۡطَعَ دَابِرَ ٱلۡكَٰفِرِينَ * لِيُحِقَّ ٱلۡحَقَّ وَيُبۡطِلَ ٱلۡبَٰطِلَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ "الله يريدأن يجمع بينكم وبين الطائفة التى لها شوكة والقتال ليظفركم بهم وينصركم عليهم ويظهر دينه ويرفع كلمة الاسلام ويجعله غالبا على ألديان وهو أعلم بعواقب الأمور وهو الذى يدبركم بحسن تدبيره وان كان العباد يحبون خلاف ذلك فيما يظهر لهم كقوله " كتب عليكم القتال وهوكره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم " ، وعن أبن عباس قال عن حديث بدر " لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبى سفيان مقبلا من الشام ندب المسلمين اليهم وقال : " هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا اليها لعل الله أن ينفلكموها فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز يجسس الأخبار ويسأل من لقى من الركبان تخوفا على أمر الناس حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا قد اسنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفارى فبعثه الى أهل مكة وأمره أن يأتى قريشا فيستنفرهم الى أموالهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها فى أصحابه فخرج ضمضم بن عمرو سريعا الى مكة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أصحابه حتى بلغ واديا يقال له ذفران فخرج به حتى اذا كان ببعضه نزل وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر رضى الله عنه فقال فأحسن ، ثم قام عمر رضى الله عنه فقال فأحسن ثم قام المقداد أبن عمرو فقال : " يارسول الله أمض لما أمرك الله به فنحن معك والله لا نقول كما قالت بنو اسرائيل لموسى " اذهب أنت وربك فقاتلا انا ههنا قاعدون " ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا انا معكما مقاتلون فو الذى بعثك بالحق لو سرت بنا الى "برك الغماد " يعنى مدينة الحبشة لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه " فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أشيروا على أيها الناس " وانما يريد الأنصار ، وذلك أنهم كانوا عدد الناس وذلم أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا " يا رسول الله انا براء من ذمامك حتى تصل الى دارنا فاذا وصلت الينا فأنت فى ذمامنا بمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا " وكا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تمكون الأنصار ترى عليها نصرته الا ممن دهمه بالمدينة من عدوه وأن ليس عليهم أن يسير بهم الى عدو من بلادهم فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال له سعد بن معاذ : " والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ " قال : " أجل " فقبال : " فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فأمض يا رسول الله لما أمرك الله فو الذى بعثك بالحق ان استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما يتخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا انا لصبر عند الحرب ، صدق عند اللقاء ، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على يركة الله " ، فسر رسول
إِذۡ تَسۡتَغِيثُونَ رَبَّكُمۡ فَٱسۡتَجَابَ لَكُمۡ
أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلۡفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ مُرۡدِفِينَ ٩ وَمَا جَعَلَهُ
ٱللَّهُ إِلَّا بُشۡرَىٰ وَلِتَطۡمَئِنَّ بِهِۦ قُلُوبُكُمۡۚ وَمَا ٱلنَّصۡرُ
إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ١٠
" إِذۡ تَسۡتَغِيثُونَ رَبَّكُمۡ فَٱسۡتَجَابَ لَكُمۡ أَنِّي مُمِدُّكُم
بِأَلۡف مِّنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ مُرۡدِفِينَ" استغاث رسول الله صلى الله عليه
وسلم ربه لينصره على المشركين الذين عدده ثلاثة أضعاف عدد المسلمين وأكثر منهم عدة
فاستجاب الله له وأمده بألف من الملائكة مردفين أى يردف بعضهم بعضا أى يتبع أى
متتابعين ويحتمل مردفين لكم أى نجدة لكم كما قال أبن عباس وكا قال وراء كل ملك ملك
، وفى رواية بعضهم على أثر بعض ، وعن أبن عباس قال وأمد الله نبيه صلى الله عليه
وسلم والمؤمنين بالف من الملائكة فكان جبريل فى خمسمائة من الملائكة مجنبة ،
وميكائيا فى خمسمائة مجنبة ، عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال لما كان يوم بدر
نظر النبى صلى الله عليه وسلم الى أصحابه وهم ثلثمائة ونيف ونظر الى المشركين فاذا
هم ألف وزيادة فاستقبل النبى صلى الله عليه وسلم القبلة وعليه رداؤه وازاره ثم قال
: " اللهم أنجز لى ما وعدتنى ، اللهم ان تهلك هذه العصابة من أهل الاسلام فلا
تعبد فى الأرض أبدا " فمازال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبيه
فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه ثم التزمه من ورائه ثم قال : " يا نبى الله كفاك
مناشدتك ربك فانه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عز وجل الآية ، فلما كان يومئذ
التقوا فهزم الله المشركين فقتل منهم سبعون رجلا وأسر منهم سبعون رجلا ، " وَمَا
جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلَّا بُشۡرَىٰ " وما جعل الله بعث الملائكة واعلامه اياكم
بهم الا بشرى ، " وَلِتَطۡمَئِنَّ بِهِۦ قُلُوبُكُمۡۚ "وليطمئن قلوبكم بهذه البشرى أن الله
تعالى قادر على نصركم على أعدائكم ، " وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ
ٱللَّهِۚ " والله وحده الذى يأتى من عنده النصر وحكم شرع الله جهاد الكافرين
بأيدى المؤمنين كما قال " وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين "
وكما قال " فاذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى اذا أثخنتموهم فشدوا
الوثاق فاما منا بعد واما فداءا حتى تضع الحرب أوزارها * ذلك ولو يشاء الله لأنتصر
منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا فى سبيل الله فلن يضل أعمالهم * سيهديهم
ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها لهم " وكان تعالى يعاقب الأمم السابقة
السالفة المكذبة للرسل بالقوارع كما أهلك قوم نوح بالطوفان وثمود بالصيحة وقوم لوط
بالخسف والقلب وحجارة السجيل وفرعون وقومه بالغرق ، ثم أنزل التوراة على موسى عليه
السلام شرع فيها قتال الكفار واستمر الحكم فى بقية الشرائع بعده على ذلك ، وقتل
المؤمنين للكافرين أشد اهانة للكافرين وأشفى لصدور المؤمنين كما قال تعالى
للمؤمنين من هذه الأمة " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم
ويشف صدور قوم مؤمنين " ولهذا كان قتل صناديد قريش بأيدى أعدائهم الذين
ينظرون اليهم بأعين ازدرائهم أنكى لهم وأشفى لصدور حزب الايمان ، فقتل أبى جهل
فىمعركة القتال وحومة الوغى أشد اهانة له من موته على فراشه بقارعة أو صاعقة أو
نحو ذلك كما مات أبو لهب بالعدسة بحيث لم يقربه أحد من أقاربه ، وانما غسلوه
بالماء قذفا من بعيد ، ورجموه حتى دفنوه ، " إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"
الله له العزة ولرسوله وللمؤمنين بهما فى الدنيا والآخرة كقوله " انا لننصر
رسلنا والذين آمنوا فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد " وهو حكيم فيما شرعه
من قتال الكفار مع القدرة على دمارهم واهلاكهم بحوله وقوته سبحانه وتعالى .
إِذۡ
يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةٗ مِّنۡهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ
مَآءٗ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ
ٱلشَّيۡطَٰنِ وَلِيَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ ١١
إِذۡ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمۡ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ
ءَامَنُواْۚ سَأُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ فَٱضۡرِبُواْ
فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانٖ
١٢ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ وَمَن يُشَاقِقِ ٱللَّهَ
وَرَسُولَهُۥ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ١٣ ذَٰلِكُمۡ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ
لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابَ ٱلنَّارِ ١٤
" إِذۡ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةٗ مِّنۡهُ " يذكر الله تعالى بما أنعم به على المؤمنين من القائه النعاس عليهم أمانا أمنهم به من خوفهم الذى حصل لهم من كثرة عدوهم وقلة عددهم ،وهذا يوم بدر ، وقد فعل تعالى بهم يوم أحد كما قال " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم " ، وعن على رضى الله عنه قال : " ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ولقد رأيتنا وما فينا الا نائم الا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى تحت شجرة ويبكى حتى أصبح " ، وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : " النعاس فى القتال أمنة من الله ، وفى الصلاة من الشيطان " ، قال قتادة النعاس فى الرأس والنوم فى القلب ، أما النعاس فقد أصابهم يوم أحد وأمر ذلك مشهور جدا ، وأما الآية الشريفة انما هى فى سياق قصة بدر ، وهى دالة على وقوع ذلك أيضا وكأن ذلك كائن للمؤمنين عند شدة اليأس لتكون قلوبهم آمنة مطمئنة بنصر الله وهذا من فضل الله ورحمته بهم ونعمته عليهم ، جاء فى الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر فى العريش مع الصديق رضى الله عنه وهما يدعوان أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنةمن النوم ثم استيقظ مبتسما فقال : " أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع " ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قوله تعالى " سيهزم الجمع ويولون الدبر " ، " وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآء" عن أبن عباس قال : " نزل النبى صلى الله عليه وسلم حين سار الى بدر والمشركون بينهم وبين الماء زملة دعصة وأصاب المسلمين ضعف شديد وألقى الشيطان فى قلوبهم الغيظ يوسوس بينهم تزعمون أنكم أولياءالله تعالى وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون مجنبين فأمطر الله عليهم مطرا شديدا فشرب المسلمون وتطهروا وأذهب الله عنهم رجز الشيطان وثبت الرمل حين أصابه المطر ومشى الناس عليه والدواب فساروا الى القوم وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة فكان جبريل فى خمسمائة مجنبة وميكائيل فى خمسمائة مجنبة "، والمعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار الى بدر نزل على أدنى ماء هناك أى أول ماء وجده فتقدم اليه الحباب بن المنذر فقال : " يارسول الله هذا المنزل الذى نزلته أنزلك الله اياه فليس لنا أن نجاوزه أو منزل نزلته للحرب والمكيدة " فقال : " بل منزل نزلته للحرب والمكيدة " فقال : " يا رسول الله ان هذا ليس بمنزل ولكن سر بنا حتى ننزل على أدنى ماء يلى القوم ونغور ما وراءه من القلب ونستقى الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل ذلك " لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ" أى من حدث أصغر أو أكبر وهو تطهير الظاهر ، " وَيُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّيۡطَٰن " ويذهب عنكم أى وسوسة أو خاطر سىء من الشيطان وهو تطهير الباطن ، " وَلِيَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ " ويجعل فى قلوبكم الصبر والاقدام على مجالدة الأعداء وهو شجاعة الباطن ، " وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ" يثبت الأقدام أثناء القتال لتثبيت الماء الرمال تحت أقدامهم وهوشجاعة الظاهر ، " إِذۡ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمۡ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ"هذه نعمة خفية أظهرها الله تعالى ليشكروه عليها وهو أنه تعالى أوحى الى الملائكة الذين أنزلهم لنصرة نبيه ودينه وحزبه المؤمنين يوحى اليهم فيما بينه وبينهم أن يثبتوا الذين آمنوا ، " سَأُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ " أمر الله أن يثبت الملائكة حزبه المؤمنين ويقوا أنفسهم على أعدائهم والله يلقى الرعب والذلة والصغار على من خالف أمره وكذب رسوله ، " فَٱضۡرِبُواْ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَان " أختلف المفسرون فى "فوق الأعناق " فقيل معناه اضربوا الرءوس وقيل على الأعناق وهى الرقاب فيكون المعنى اضربوا الهام ففلقوها واحتزوا الرقاب فقطعوها وقطعوا الأطراف منهم وهى أيديهم وأرجلهم ، وقال أبن جرير أضربوا من عدوكم أيها المؤمنون كل طرف ومفصل من أطراف أيديهم وأرجلهم والبنان جمع بنانة ،وعن القاسم قال قال النبى صلى الله عليه وسلم :" انى لم أبعث لأعذب بعذاب الله انما بعثت لضرب الرقاب وشد الوثاق " ،وقال الربيع بن أنس كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به " ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ " خالفوا الله ورسوله فساروا فى شق وتركوا الشرع والايمان به واتباعه فى شق ، ومأخوذ أيضا من شق العصا وهو جعلها فرقتين ، " وَمَن يُشَاقِقِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ " ينذر الله من يخالف الله ورسوله بالعقاب لشديد فى الآخرة ، " ذَٰلِكُمۡ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابَ ٱلنَّارِ " هذا خطاب للكفار أى ذوقوا هذا العذاب والنكال فى الدنيا واعلموا أيضا أن للكافرين عذاب النار فى الآخرة .
يَٰٓأَيُّهَا
ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحۡفٗا
فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ ١٥ وَمَن يُوَلِّهِمۡ يَوۡمَئِذٖ
دُبُرَهُۥٓ إِلَّا مُتَحَرِّفٗا لِّقِتَالٍ أَوۡ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٖ
فَقَدۡ بَآءَ بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأۡوَاٰهُ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ
ٱلۡمَصِيرُ ١٦
" يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحۡفٗا فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ " يقول الله تعالى متوعدا على الفرار من الزحف بالنار لمن فعل ذلك فيوجه خطابه للمؤمنين اذا تقاربوا ودنوا من الكفار فلا يفروا ويتركوهم ، " وَمَن يُوَلِّهِمۡ يَوۡمَئِذ دُبُرَهُۥٓ إِلَّا مُتَحَرِّفا لِّقِتَالٍ " من يفر بين يدى من يقاتله ليريه أنه قد خاف منه فيتبعه ثم يكر عليه فيقتله فلا بأس عليه فى ذلك ، " أَوۡ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَة " أى فر من هنا الى فئة أخرى من المسلمين يعاونهم ويعاونونه فيجوز له ذلك ، قال عمر رضى الله عنه فى أبى عبيدة لما قتل على الجسر بأرض فارس لكثرة الجيش من ناحية المجوس فقال عمر لو تحيز الى لكنت له فئة هكذا ، وقال الضحاك المتحيز الفار الى النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وكذلك من فر اليوم الى أميره وأصحابه فان كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب فانه حرام وكبيرة من الكبائر لما رواه البخارى فى الصحيحين عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجتنبوا السبع الموبقات " قيل : "يارسول الله وما هن ؟ " قال : " الشرك بالله والسحر وقتل النفس التى حرم الله الا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولى يوم الزحف وقذف المحصنات الغالفلات المؤمنات " ، " فَقَدۡ بَآءَ بِغَضَب مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأۡوَهُ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ" فقد باء أى رجع أو سيكون مصيره ومنقلبه يوم ميعاده جهنم وبئس المصير ، وعن ثوبان مرفوعا عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة لاينفع معهن عمل : الشرك بالله وعقوق الوالدين والفرار من الزحف " ، الفرار من الزحف حرام على غير أهل بدر وان كان سبب نزول الآية فى أهل بدر كما دل حديث أبى هريرة من أن الفرار من الزحف من الموبقات كما هو مذهب الجماهير .
فَلَمۡ
تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ
وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبۡلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡهُ بَلَآءً حَسَنًاۚ
إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ ١٧ ذَٰلِكُمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيۡدِ
ٱلۡكَٰفِرِينَ ١٨
" فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡ " ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعداءكم مع كثرة عددهم وعدتهم وقلة عددكم وعدتكم بل الله هو الذى أظفركم عليهم كما قال " ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة " وكما قال تعالى " لقد نصركم الله فى مواطن كثيرة ويموم حنين اذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين " كما قال " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله والله مع الصابرين " يعلم الله تبارك وتعالى أن النصر ليس على كثرة العدد ولا بلبس اللامة والعدد وانما النصر من عنده تعالى ، " وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَى " قال السدى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى رضى الله عنه يوم بدر : " أعطنى حصبا من الأرض " فناوله حصبا عليه تراب فرمى به فى وجوه القوم فلم يبق مشرك الا دخل فى عينيه من ذلك التراب شىء ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم فأنزل الله الآية ،وعن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظى قال لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فرمى بها فى وجوه القوم وقال " شاهت الوجوه " فدخلت فى أعينهم كلهم وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم ويأسرونهم وكانت هزيمة فى رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هذا يوم بدر أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حصبات فرمى بحصبات ميمنة القوم ، وحصبات فى ميسرة القوم وحصبات بين أظهرهم وقال " شاهت الوجوه " فانهزموا وروى فى هذه القصة عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة أنها نزلت فى رمية النبى صلى الله عليه وسلم يوم بدر وان كان قد فعل ذلك فى يوم حنين أيضا ، " ٰ وَلِيُبۡلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡهُ بَلَآءً حَسَنًاۚ " وليعرف المؤمنون نعمته عليهم من اظهارهم على عدوهم مع كثرة عددهم ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا بذلك نعمته عليهم ، وفى الحديث " وكل بلاء حسن أبلانا " ، " إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيم " الله سميع الدعاء عليم بمن يستحق النصر والغلب ، " ذَٰلِكُمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيۡدِ ٱلۡكَٰفِرِينَ " هذه بشارة أخرى مع ما حصل من النصر أنه أعلمهم تعالى بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل مصغر أمرهم وأنهم كل ما لهم تبار ودمار ولله الحمد والمنة .
إِن تَسۡتَفۡتِحُواْ فَقَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡفَتۡحُۖ وَإِن
تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدۡ وَلَن تُغۡنِيَ
عَنكُمۡ فِئَتُكُمۡ شَيۡ وَلَوۡ كَثُرَتۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ١٩
" إِن
تَسۡتَفۡتِحُواْ فَقَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡفَتۡحُ" عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير
أن أبا جهل قال يوم بدر : " اللهم أينا كان أقطع للرحم وآتانا بما لايعرف
فأحنه الغداة وكان استفتاحا منه فنزلت الآية ،
يقول تعالى للكفاران تستنصروا وتستقضوا الله وتستحكموه أن يفصل بينكم وبين
أعدائكم المؤمنين فقد جاءكم ما سألتم ، وقال السدى كان المشركون حين خرجوا من مكة
الى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا اللهم انصر أعلى الجندين وأكرم
الفئتين وخير القبيلتين فأنزل الله الآية يقول قد نصرت ما قلتم وهو محمد صلى الله
عليه وسلم ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو قوله تعالى اخبارا عنهم " واذ
قالوا اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك " ، " وَإِن
تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيۡر لَّكُمۡۖ " ان تنتهوا عما
أنتم فيه من الكفر بالله والتكذيب لرسوله صلى الله عليه وسلم فذلك خير لكم فى
الدنيا والآخرة ، " وَإِن تَعُودُواْ نَعُدۡ " وذلك كقوله " وان
عدتمعدنا " وان عدتم الى ما كنتم فيه من الكفر والضلالة نعد لكم بمثل هذه
الواقعة ، وقال السدى أى الى الاستفتاح ونعد الى الفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم
واتلنصر له وتظفيره على أعدائه والأول أقوى ،
" وَلَن تُغۡنِيَ
عَنكُمۡ فِئَتُكُمۡ شَيۡ وَلَوۡ كَثُرَتۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ
" ولو جمعتم من الجموع ما عسى أن تجمعوا فان من كان الله معه فلا غالب له
والله مؤيد للمؤمنين وهم الحزب النبوى والجناب المصطفوى .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ
وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَوَلَّوۡاْ عَنۡهُ وَأَنتُمۡ تَسۡمَعُونَ ٢٠ وَلَا تَكُونُواْ
كَٱلَّذِينَ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَهُمۡ لَا يَسۡمَعُونَ ٢١ ۞إِنَّ شَرَّ
ٱلدَّوَآبِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلۡبُكۡمُ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡقِلُونَ ٢٢
وَلَوۡ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمۡ خَيۡرٗا لَّأَسۡمَعَهُمۡۖ وَلَوۡ أَسۡمَعَهُمۡ لَتَوَلَّواْ
وَّهُم مُّعۡرِضُونَ ٢٣
"يَٰٓأَيُّهَا
ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ" يأمر الله تعالى
عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، " وَلَا تَوَلَّوۡاْ
عَنۡهُ وَأَنتُمۡ تَسۡمَعُونَ " يزجر الله عباده المؤمنين عن مخالفته ومخالفة
رسوله صلى الله عليه وسلم والتشبه بالكافرين به المعاندين له فقال لهم أن لايتركوا
طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره بعد ما علموا ما دعاهم اليه ، " وَلَا
تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَهُمۡ لَا يَسۡمَعُونَ " لاتكونوا
كالمشركين كما قال أبن جرير وقال أبن أسحاق المنافقين الذين يظهرون أنهم قد سمعوا
واستجابوا وليسوا كذلك ، " إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَآبِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ
ٱلۡبُكۡمُ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡقِلُونَ " أخبر تعالى أن هذا الضرب من بنى آدم
سىء الخلق والخليقة فهؤلاء هم شر البرية لأن كل دابة مما سواهم مطيعة لله فيما
خلقها له وهؤلاء خلقوا للعبادة فكفروا ولهذا شبههم بالأنعام فهم صم عن سماع الحق
وبكم عن فهمه وليس لهم عقول يفهمون بها ، وهذا كقوله " ومثل الذين كفروا كمثل
الذى ينعق بما لايسمع الا دعاء ونداء " وفى آية أخرى " أولئك كالأنعام
بل هم أضل أولئك هم الغافلون " ، " وَلَوۡ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمۡ
خَيۡرا لَّأَسۡمَعَهُمۡۖ وَلَوۡ أَسۡمَعَهُمۡ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ
" لكن لا خير فيهم فليس لهم فهم صحيح ولا قصد لهم صحيح لو فرض أن لهم فهما
فلوعلم الله أن لهم ذلك لأفهمهم وهو يعلم أنه لو أفهمهم لأعرضوا عن ذلك قصدا
وعنادا بعد فهمهم ذلك .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ
لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ
ٱللَّهَ يَحُولُ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ
٢٤
" يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُم" يخاطب الله المؤمنين أن يستجيبوا لما يصلحهم من تنزيل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من كتاب وسنة فهو الذى فيه صلاحهم وحياتهم الحقيقية فى الدنيا والآخرة وقد أختلفت الأرآء " فيما يحييكم " قال مجاه لما يحييكم للحق ، وقال قتادة هذا القرآن فيه النجاة والبقاء والحياة وقال السدى ففى الاسلام احياؤهم بعد موتهم بالكفر ، " وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ " قال أبن عباس أعلموا أن الله يحول بين المؤمن وبين الكافر وبين الكافر وبين الايمان ،وقال السدى يحول بين الانسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر الا باذنه ، وقال قتادة هوكقوله " ونحن أقرب اليه من حبل الوريد " ، وقد وردت الأحاديث بما يناسب هذه الآية فعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : " يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك " فقلنا :" يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا ؟ " قال : " نعم ان القلوب بين أصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها " ، وعن بلال رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يدعو " يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك " ، وقالت عائشة رضى الله عنها دعوات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بها " يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك" ، قالت فقلت: " يا رسول الله انك تكثر أن تدعو بهذا الدعاء " فقال : " ان قلب الآدمى بين أصبعين من أصابع الرحمن فاذا شاء أزاغه واذا شاء أقامه " ، " وَأَنَّهُۥٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ" لابد أن يؤمن المؤمنون بيوم الحشر وهو يوم القيامة يوم يحشرون أى يجمعون ويأتون الى يوم الحساب وهو يوم الحشر يوم القيامة .
وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ
لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٢٥
" وَٱتَّقُواْ فِتۡنَة لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ
مِنكُمۡ خَآصَّة وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ " يحذرتعالى عباده المؤمنين فتنة أى
اختبارا ومحنة يعم بها المسىء وغيره ويخص بها أهل المعاصى ، وقال أبن عباس أمر
الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين ظهرانيهم فيعمهم بالعذاب ، وقال الضحاك
وغيره كذلك ،وقال أبن مسعود ما منكم من أحد الا وهو مشتمل على فتنة ان الله تعالى
يقول " انما أموالكم وأولادكم فتنة " فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من
مضلات الفتن ، والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم وان كان الخطاب معهم هو
الصحيح ويدل عليه الأحاديث الواردة فى التحذير من الفتن ، وعن عدى بن عميرة قال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ان الله عز وجل لا يعذب العامة
بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرون ،
فاذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة " ، وعن حذيفة بن اليمان أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : " والذى نفسى بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن
المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم
" ، وعن أم سلمة زوج النبى صلى الله عليه وسلم قالت سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول : " اذا ظهرت المعاصى فى أمتى عمهم الله بعذاب من عنده "
فقلت : " يارسول الله أما فيهم أناس صالحون ؟ " قال : " بلى "
قالت : " فكيف يصنع أولئك ؟ قال : " يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون الى
مغفرة من الله ورضوان " .
وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ أَنتُمۡ قَلِيلٞ
مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاس فََاوَاٰكُم
وَأَيَّدَكُم ُ بِنَصۡرِهِ ۦ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ لَعَلَّكُمۡ
تَشۡكُرُونَ٢٦
" وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ أَنتُمۡ قَلِيلٞ مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ
تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاس فََاوَاٰكُم وَأَيَّدَكُم ُ بِنَصۡرِهِ ۦ وَرَزَقَكُم
مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ " ينبه تعالى عباده المؤمنين
على نعمة الله عليهم واحسانه اليهم حين كانوا قليلين فكثرهم ومستضعفين خائفين
فقواهم ونصرهم ،وفقراء عالة فرزقهم واستشكرهم فأطاعوه وامتثلوا جميع ما أمرهم وهذا
كان حال المؤمنين حال مقامهم بمكة قليلين مستخفين مضطهدين يخافون أن يتخطفهم الناس
من سائر بلاد الله من مشرك ومجوسى ورومى كلهم أعداء لهم لقلتهم وعدم قومتهم ، فلم
يزل ذلك دأبهم حتى أذن الله لهم فى الهجرة الى المدينة فآواهم اليها وقيض لهم
أهلها آووا ونصروا يوم بدر وغيره وواسوا بأموالهم وبذلوا مهجهم فى طاعة الله وطاعة
رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال قتادة بن دعامة السدوسى كان هذا الحى من العرب أذل
الناس ذلا ، وأشقاه عيشا ، وأجوعه بطونا ، وأعراه جلودا وأبينه ضلالا ، من عاش
منهم عاش شقيا ومن مات منهم ردى فى النار يؤكلون ولا يأكلون والله ما نعلم فبيلا
من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلا منهم حتى جاء الله بالاسلام فمكن به فى
البلاد ووسعه به فى الرزق وجعلهم به ملوكا على رقاب الناس وبالاسلام أعطى الله ما
رأيتم فاشكروا الله على نعمه فان ربكم منعم يحب الشكر ، وأهل الشكر فى مزيد من
الله .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ
ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٢٧
وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَآ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَأَوۡلَٰدُكُمۡ فِتۡنَةٞ
وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥٓ أَجۡرٌ عَظِيمٞ ٢٨
"ٰيا ٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا
تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ
تَعۡلَمُونَ " قال عبد
الرزاق بن أبى قتادة والزهرى أنزلت فى أبى لبابة بن عبد المنذ حين بعثه رسول الله
صلى الله عليه وسلم الى بنى قريظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاستشاروه فى ذلك فأشار عليهم بذلك وأشار بيده الى حلقه أى أنه الذبح ثم فطن أبو
لبابة ورأى أنه خان الله ورسوله فحلف لا يذوق ذوقا حتى يموت أو يتوب الله عليه
وانطلق الى مسجد المدينة فربط نفسه فى سارية منه فمكث كذلك تسعة أيام حتى كان يخر
مغشيا عليه من الجهد حتى أنزل الله توبته على رسوله صلى الله عليه وسلم فجاء الناس
يبشرونه بتوبة الله عليه وأرادوا أن يحلوه من السارية فحلف لايحله منها الا رسول
الله صلى الله عليه وسلم بيده فحله فقال يارسول الله انى كنت نذرت أن أنخلع من
مالى صدقة فقال " يجزيك الثلث أن تصدق به " ، والصحيح أن الآية عامة والصح
أنها وردت على سبب خاص فالأخذ بعموم اللفظ لابخصوص السبب عند الجماهير من العلماء ،
وعن تفسير هذه الآية قال عروة بن الزبير لاتظهروا للرسول صلى الله عليه وسلم من
الحق ما يرضى به منكم ثم تخالفوه فى السر الى غيره فان ذلك هلاك لأماناتكم وخيانة
لأنفسكم ،ووقال السدى اذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم وقال أيضا كانوا
يسمعون من النبى صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين ، وقال عبد
الرحمن بن زيد نهاكم أن تخونوا الله والرسول كما صنع المنافقون ، "
وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَآ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَأَوۡلَٰدُكُمۡ فِتۡنَة " الأموال
والأولاد اختبار وامتحان من الله منه لكم أذ أعطاكموها ليعلم أتشكرونه عليها
وتطيعونه فيها أو تشتغلون بها عنه وتعتاضون بها منه ، كما قال تعالى " انما
أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم " وقال " ونبلوكم بالشر
والخير فتنة " ، " وَأَنَّ ٱللَّهَ
عِندَهُۥٓ أَجۡرٌعَظِيم "ثواب الله وعطاؤه وجناته خير لكم من الأموال
والأولاد فانه قد يوجد منهم عدو وأكثرهم لا يغنى عنك شيئا والله هو المتصرف المالك
للدنيا والآخرة ولديه الثواب الجزيل يوم القيامة ، وفى الصحيح عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال : " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان : من كان الله
ورسوله أحب اليه مما سواهما ، ومن كان يحب المرء لايحبه الا لله ، ومن كان أن يلقى
فى النار أحب اليه من أن يرجع الى الكفر بعد اذ أنقذه الله منه " بل حب
الرسول صلى الله عليه وسلم مقدم على الأولاد والأموال والنفوس كما ثبت فى الصحيح أنه
صلى الله عليه وسلم قال : " والذى نفسى بيده لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه
من نفسه وأهله وماله والناس أجمعين " .
يَٰٓأَيُّهَا
ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّكُمۡ فُرۡقَانٗا
وَيُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَيَّاتِكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو ٔ ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ ٢٩
" يَٰٓأَيُّهَا
ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّكُمۡ فُرۡقَانٗا
وَيُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَيَّاتِكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۗ " ٔ
" الخطاب موجه للذين آمنوا من أتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره وفق لمعرفة
الحق من الباطل فكان ذلك سبب نصره ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا وسعادته يوم
القيامة وتكفير ذنوبه ومحوها وغفرها سترها عن الناس وسببا لنيل ثواب الله الجزيل
وقال أبن عباس وغيره فرقانا مخرجا زاد مجاهد فى الدنيا والآخرة وقال أبن عباس نجاة
وفى رواية عنه نصرا وقال محمد بن اسحاق فصلا بين الحق والباطل وهذا أعم مما تقدم ،
وهذا كقوله " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من
رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم " ، " وَٱللَّهُ
ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيم " والله فضله على الناس ونعمته ِكبير وعظيم فالفضل
والنعمة منه .
وَإِذۡ
يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ
يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ
٣٠
" وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ " أنزل الله على الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية يذكره بنعمة الله عليه وبلاءه عنده وماكان من تآمر الكفار عليه قال أبن عباس " ليثبتوك " ليقيدوك وقال عطاء أبن زيد ليحبسوك وقال السدى الاثبات هو الحبس والوثاق ، ويقول عبيد بن عمير " لما ائتمروا بالنبى صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه قال له عمه أبوطالب : " هل تدرى ما ائتمروا بك ؟ " قال : " يريدون أن يسجنونى أو يقتلونى أو يخرجونى " فقال : " من أخبرك بهذا ؟ " قال : " ربى " قال : " نعم الرب ربك أستوص به خيرا " قال : " أنا أستوصى به ؟ بل هو يستوصى بى " ،والآية مدنية وهذا قول غريب جدا بل منكر ، ثم ان هذه القصة واجتماع قريش على هذا الائتمار والمشاورة على الاثبات أو النفى أو القتل انما كان ليلة الهجرة وكان ذلك بعد موت أبى طالب بنحو من ثلاث سنين لما تمكنوا منه واجترءوا عليه بسبب موت عمه أبى طالب الذى كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه ، وقال أبن عباس فى تفسير الآية تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهماذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبى صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم بل اقتلوه فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فبات على رضى الله عته على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج النبى صلى الله عليهوسلم حتى لحق بالغار وبات المشركون يحرسونه عليها يحسبونه النبى صلى الله عليه وسلم فلما أصبحوا ثاروا اليه فلما رأوا عليا رد الله تعالى مكرهم فقالوا أين صاحبك هذا " قال لا أدرى فاقتصوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا فى الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال ، وقال عروة بن الزبير فى قوله " ۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ " فمكرت بهم بكيدى المتين حتى خلصتك منهم .
وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا قَالُواْ قَدۡ
سَمِعۡنَا لَوۡ نَشَآءُ لَقُلۡنَا مِثۡلَ هَٰذَآ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّآ
أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ ٣١ وَإِذۡ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ
ٱلۡحَقَّ مِنۡ عِندِكَ فَأَمۡطِرۡ عَلَيۡنَا حِجَارَةٗ
مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئۡتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٖ
٣٢ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ
مُعَذِّبَهُمۡ وَهُمۡ يَسۡتَغۡفِرُونَ ٣٣
" وَإِذَا
تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا قَالُواْ قَدۡ سَمِعۡنَا لَوۡ نَشَآءُ لَقُلۡنَا
مِثۡلَ هَٰذَآ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ" يخبر تعالى
عن
كفر قريش وعتوهم
وتمردهم وعنادهم ودعواهم الباطل عند سماع آياته اذا تتلى عليهم وهذا القول منهم
يغرون به أنفسهم ومن تبعهم على باطلهم وأساطير الأولين جمع أسطورة أى كتبهم
أقتبسها فهو يتعلم منها ويتلوها على الناس وهذا هو الكذب البحت كما أخبر الله
عليهم فى آية أخرى " وقالوا أساطير
الأولين أكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلا * قل أنزله الذى يعلم السر فى السمةات
والأرض انه كان غفورا رحيما " ، " ، وقيل ان القائل لذلك هو النضر بن
الحارث كما قال سعيد بن جبير والسدى وأبن جريج وغيرهم فقد كان ذهب الى بلاد فارس
وتعلم من أخبار ملوكهم رستم واسفنديار ولما قدم وجد رسول الله صلى الله عليهوسلم
قد بعثه الله وهو يتلو على الناس القرآن فكان عليه الصلاة والسلام اذا قام من مجلس
جلس فيه النضر فحدثهم من أخبار أولئك ثم يقول " بالله أينا أحسن قصصا أنا أو
محمد ؟ " ولهذا لما أمكن الله منه يوم بدر ووقع فى الأسارى أمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن تضرب رقبته صبرا بين يديه ففعل ذلك ، وكان الذى أسره المقداد بن
الأسود رضى الله عنه , كما قال أبن جرير عن سعيد بن جبير قال قتل النبى صلى الله
عليه وسلم يوم بدر صبرا عقبة بن أبى معيط وطعيمة بن عدى والنضر بن الحارث وكان
المقداد أسر النضر فلما أمر بقتله قال المقداد " يا رسول الله أسيرى فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " انه كان يقول فى كتاب الله عز وجل ما يقول
فأمر الرسول صلى الله عليه وسام بقتله فقال المقداد : " يارسول الله أسيرى
" فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " اللهم أعن المقداد من فضلك "
فقال المقداد : " هذا الذى أردت وفيه أنزلت الآية ،" وَإِذۡ قَالُواْ
ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ ٱلۡحَقَّ مِنۡ عِندِكَ فَأَمۡطِرۡ عَلَيۡنَا
حِجَارَةٗ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئۡتِنَا
بِعَذَابٍ أَلِيم " هذا من كثرة جهلهم وشدة تكذيبهم وعنادهم وعتوهم يرجوا من
الله العذاب باسقاط الحجارة عليهم أى الرجم من السماء أو أن يتزل عليهم أى صنف من
العذاب كما توعدهم الله ورسوله ولكن الله أنزل ، " وَمَا كَانَ ٱللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمۡ وَهُمۡ
يَسۡتَغۡفِرُونَ " ، وكان الأولى لهم أن يقولوا اللهم ان كان هذا
هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه ولكن استفتحوا على أنفسهم واستعجلوا
العذاب وتقديم العقوبة كقوله تعالى " يستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاء العذاب
وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون " وكذلك قال الجهلة من الأمم السابقة كما قال
قوم شعيب " فأسقط علينا كسفا من السماء ان كنت من الصادقين " ، وقال أبن
عباس هو النضر بن الحارث بن كلدة قال ما قال فأنزل الله " سأل سائل بعذاب
واقع * للكافرين ليس له دافع " ، وقال عطاء ولقد أنزل الله فيه بضع عشرة آية
من كتاب الله عز وجل منها أيضا " وقالوا رببنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب
" كما قال " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة " ، وَمَا
كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ
مُعَذِّبَهُمۡ وَهُمۡ يَسۡتَغۡفِرُونَ " قال أبن عباس كان المشركون يطوفون
بالبيت ويقولون " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك " فيقول النبى صلى
الله عليه وسلم : " قد قد " ويقولون " لبيك اللهم لبيك لا شريك لك
، الا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ،فأنزل الله الآية ، قال أبن عباس كان فيهم
أمانان النبى صلى الله عليه وسلم والاستغفار فذهب النبى صلى الله عليه وسلم وبقى
الاستغفار ، وقال أبن عباس فى قوله " " وَمَا كَانَ ٱللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡۚ " ما كان الله ليعذب قوما وأنبياؤهم بين
أظهرهم حتى يخرجهم ثم قال " وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمۡ وَهُمۡ يَسۡتَغۡفِرُونَ
" يقول وفيهم من قد سبق له من الله الدخول فى الايمان وهو الاستغفار يستغفرون
يعنى يصلون يعنى بهذا أهل مكة ، وقال الضحاك وغيره يعنى المؤمنين الذين كانوا بمكة
، وعن أبى موسى عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنزل الله
على أمانين " وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡۚ وَمَا
كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمۡ وَهُمۡ يَسۡتَغۡفِرُونَ "فاذا مضيت تركت فيهم
الاستغفار الى يوم القيامة" ، وعن فضالة بن عبيد عن النبى صلى الله عليه وسلم
أنه قال : " العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله عز وجل " .
وَمَا لَهُمۡ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمۡ
يَصُدُّونَ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَمَا كَانُوٓاْ أَوۡلِيَآءَهُۥٓۚ إِنۡ
أَوۡلِيَآؤُهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُتَّقُونَ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ
٣٤ وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمۡ عِندَ ٱلۡبَيۡتِ إِلَّا مُكَآءٗ
وَتَصۡدِيَةٗۚ
فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ ٣٥
"وَمَا لَهُمۡ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمۡ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَمَا كَانُوٓاْ أَوۡلِيَآءَهُ إِنۡ أَوۡلِيَآؤُهُۥ إِلَّا ٱلۡمُتَّقُونَ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ " يخبر الله أنهم أهل لأن يعذبهم ولكن لم يوقع ذلك بهم لبركة مقام الرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ولهذا لما خرج من بين أظهرهم أوقع الله بهم بأسه يوم بدر فقتل صناديدهم وأسر سراتهم وقال أبن جرير فلولا ما كان بين أظهرهم من المستضعفين من المؤمنين المستغفرين لوقع بهم البأس الذى لايرد ولكن دفع عنهم بسبب أولئك كما قال تعالى يوم الحديبية " هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدىمعكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله فى رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما" ، وعن أبن أبزى قال كان النبى صلى الله عليه وسلم بمكة فأنزل الله " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " فخرج النبى صلى الله عليه وسلم الى المدينة فأنزل الله " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " وكان أولئك البقية من المسلمين الذين بقوا فيها مستضعفين يعنى بمكة يستغفرون فلما خرجوا أنزل الله الآية " وَمَا لَهُمۡ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمۡ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَمَا كَانُوٓاْ أَوۡلِيَآءَهُ إِنۡ أَوۡلِيَآؤُهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُتَّقُونَ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ"فأذن الله فى فتح مكة فهو العذاب الذى وعدهم ، وتفسير الاية وكيف لايعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام بمكة المؤمنين الذين هم أهله عن الصلاة فيه والطواف به وهم ليسوا أهل المسجد الحرام ،وانما أهله النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من آلك ؟ قال كل تقى " وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " إِنۡ أَوۡلِيَآؤُهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُتَّقُونَ " ، كما قال تعالى " ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفى النار هم خالدون * انما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش الا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين" وعن عكرمة والحسن البصرى قاللا " وَمَا كَانَ ٱللَّهُ يُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمۡ وَهُمۡ يَسۡتَغۡفِرُونَ"نسختها الآية التى تلتها " وَمَا لَهُمۡ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمۡ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَمَا كَانُوٓاْ أَوۡلِيَآءَهُۥٓۚ إِنۡ أَوۡلِيَآؤُهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُتَّقُونَ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ٣٤ وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمۡ عِندَ ٱلۡبَيۡتِ إِلَّا مُكَآءٗ وَتَصۡدِيَةٗۚ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ ٣٥ فقاتلوا بمكة فأصابهم فيها الجوع والضر ، " وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمۡ عِندَ ٱلۡبَيۡتِ إِلَّا مُكَآءٗ وَتَصۡدِيَة " قال السدى المكاء الصفير على نحو طير أبيض يقال له المكاء ويكون بأرض الحجاز ، وعن أبن عباس قال كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق ، والمكاء الصفير والتصدية التصفيق ، وعن أبن عمر قال انهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفقون ويصفرون ، " فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ " قال الضحاك وغيره ما أصابهم يوم بدر من القتل والسبى .
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ
لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيۡهِمۡ
حَسۡرَةٗ ثُمَّ يُغۡلَبُونَۗ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ
جَهَنَّمَ يُحۡشَرُونَ ٣٦ لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ
وَيَجۡعَلَ ٱلۡخَبِيثَ بَعۡضَهُۥ عَلَىٰ بَعۡضٖ
فَيَرۡكُمَهُۥ جَمِيعٗا فَيَجۡعَلَهُۥ فِي جَهَنَّمَۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ
ٱلۡخَٰسِرُونَ ٣٧
" إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ
لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيۡهِمۡ
حَسۡرَةٗ ثُمَّ يُغۡلَبُونَۗ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ
يُحۡشَرُونَ " وعن الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعيد بن معلذ وغيره قالول
لما أصيبت قريش يوم بدر ورجع فلهم الى مكة ورجع أبو سفيان بعيره مشى عبد لله بن
أبى ربقيعة وعكرمة بن أبى جهل وصفوان بن أمية فى رجال من قريش أصيب آباؤهم
وأبناؤهم واخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له فى تلك العير من قريش
تجارة فقالوا يا معشر قريش ان محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على
حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرا بمن أصيب منا ففعلوا ففيهم أنزل الله الآية ، وقال
قتادة وغيره أنهل نزلت فى أبى سفيان ونفقة الأموال فى أحد لقتال رسول الله صلى
الله عليه وسلم وعلى كل تقدير فهى عامة وان كان سبب نزولها خاصا فقد أخبر تعالى أن
الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن اتباع طريق الحق فسفعلون ذلك ثم تذهب أموالهم ثم
تكون عليهم حسرة أى ندامة حيث لم تجد شيئا لأنهم أرادوا اطفاء نور الله وظهور
كلمتهم على كلمة الحق والله متم نوره ولو كره الكافرون وناصر دينه ومعلن كلمته
ومظهر دينه على كل دين فهذا الخزر لهم فى
الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب النار فمن عاش منهم رأى بعينه وسمع بأذنه ما يسوءه ومن
قتل منهم أو مات فالى الخزى الأبدى والعذاب السرمدى " لِيَمِيزَ ٱللَّهُ
ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ " قال أبن عباس فيميز أهل السعادة من أهل الشقاء
، وقال السدى يميز المؤمن من الكافر وهذا يحتمل أن يكون هذا التمييز فى الآخرة ،
وفى قول آخر ليميز من يطيعه بقتال أعدائه الكافرين أو يعصيه بالنكول عن ذلك كما
قال " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب
وما كان الله ليطلعكم على الغيب ، فمعنى الآية على هذا انما ابتليناكم بالكفار
يقاتلونكم وأقدرناهم على انفاق المال لهذا الغرض ، " وَيَجۡعَلَ ٱلۡخَبِيثَ بَعۡضَهُۥ عَلَىٰ بَعۡضٖ فَيَرۡكُمَهُۥ جَمِيعٗا فَيَجۡعَلَهُۥ فِي
جَهَنَّمَۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ "يجمع الله الخبيث كله بعضه على
بعض ثم يجعله متراكما متراكبا كقوله عن السحاب " يجعله ركاما " ويجعله
فى جهنم فى الآخرة وسكون الكافرين هم الخاسرون فى الدنيا والآخرة .
قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِن يَنتَهُواْ يُغۡفَرۡ
لَهُم مَّا قَدۡ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ فَقَدۡ مَضَتۡ سُنَّتُ ٱلۡأَوَّلِينَ ٣٨
وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ
وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِمَا
يَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ ٣٩ وَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ
مَوۡلَى كُمۡۚ نِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ ٤٠ ۞
" قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِن يَنتَهُواْ يُغۡفَرۡ لَهُم مَّا قَدۡ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ فَقَدۡ مَضَتۡ سُنَّتُ ٱلۡأَوَّلِينَ" يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الذين كفروا ان ينتهوا عما هم فيه من الكفر والمشاقة والعناد ويدخلوا فى الاسلام والطاعة والانابة يغفر لهم ماقد سلف أى من كفرهم وذنوبهم وخطاياهم وان يستمروا على ما هم فيه فقد مضت سنة الله فى الأولين: أنهم اذا كذبوا واستمروا على عنادهم فان الله يعالجهم بالعقوبة وبالعذاب ، وعن أبن مسعود رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أحسن فى الاسلام لم يؤخذ بما عمل فى الجاهلية ، ومن أساء فى الاسلام أخذ بالأول والآخر " وفى الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" الاسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما كان قبلها " ، " فَقَدۡ مَضَتۡ سُنَّتُ ٱلۡأَوَّلِينَ" قال مجاهد أى فى قريش يوم بدر وغيرها من الأمم ، " وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ " قال أبن عباس قاتلوهم حتى لايكون شرك وعن عروة بن الزبير وغيره حتى لا يفتن مسلم عن دينه ويخلص التوحيد لله وقال الحسن وقتادة وأبن جرير أن يقال لا اله الا الله ويكون التوحيد خالصا لله ليس فيه شرك ويخلع ما دونه من الأنداد ،وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لايكون مع دينكم كفر ويشهد لهذا ما ثبت فى الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله فاذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم بحقها وحسابها على الله عز وجل " ، وعن أبى موسى الأشعرى قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أى ذلك فى سبيل الله عز وجل ؟ فقال :" من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله عزوجل " ،" فَإِنِ ٱنتَهَوۡافَإِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ بَصِير "ْأى بقتالكم وعما هم فيه من الكفر فكفوا عنه وان لم تعلموا بواطنهم فان الله يعلم وهو بصير بما يعملون ،كقوله " فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم " وفى آية أخرى "فاخوانكم فى الدين " ، وكقوله " وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ فَإِنِ ٱنتَهَوۡ فلا عدوان الا على الظالمين " ، وفى الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسامة لما علا ذلك الرجل بالسيف فقال لا اله الا الله فضربه فقتله فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأسامة : " أقتلته بعد ما قال لا اله الا الله ؟ كيف تصنع بلا اله الا الله يوم القيامة ؟ " فقال :" يا رسول الله انما قالها تعوذا " قال : " هلا شققت عن قلبه ؟ " وجعل يقول ويكرر عليه " من لك بلا اله الا الله يوم القيامة ؟ " قال أسامة حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت الا يومئذ " ، " وَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَوۡلَى كُمۡۚ نِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ" وان استمروا على خلافكم ومحاربتكم فاعلموا أن الله مولاكم وسيدكم وناصركم على أعدائكم فنعم المولى ونعم النصير،