Grammar American & British

Tuesday, March 9, 2021

تبسيط تفسييرأبن كثير للقرآن الكريم ( 2 )

تبسيط تفسير أبن كثير للقرآ ن الكريم ( 2 )

الجزء الثانى

تفسير سورة البقرة

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)

" سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا " السفهاء هم مشركوا العرب وقيل أحبار يهود وقيل المنافقون والآية عامة فى هؤلاء كلهم ، وعن البراء رضى الله عنه أن رسول الله صلى الى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت الحرام ، وصلى صلاة العصر وصلى معه قوم آخرون عندما أتاه أمر الله ، " قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ " فقال رجال من المسلمين وددنا لو علمنا من مات منا قبل أن نصرف الى القبلة وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس فأنزل الله " وما كان الله ليضيع ايمانكم " وقال السفهاء من الناس وهم أهل الكتاب ما ولاهم عن قبلتهم التىالتى كانوا عليها " فأنزل الله الآية" سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا " وقال السفهاء هم اليهود فأنزل الله" قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " ، وعن أبن عباس أن رسول الله لما هاجر الى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله بضعة عشر شهرا وكان رسول الله يحب قبلة ابراهيم فكان يدعو الله وينظر الى السماء فأنزل الله عز وجل " فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ " أى نحوه فارتاب من ذلك اليهود وقالوا " مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا " فأنزل الله " قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " ، كان رسول الله يصلى لين الركنين وهو مستقبل صخرة بيت المقدس فلما هاجر الى المدينة تعذر الجمع بينهما فأمره الله بالتوجه الى البيت العتيق فخطب رسول الله الناس وأعلمهم بذلك وكان أول صلاة صلاها اليها صلاة العصر ولما وقع هذا حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود ارتياب وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك وقالوا " مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا " فأنزل الله جوابه " قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ " أى الحكم والتصرف والأمر كله لله " فأينما تولوا فثم وجه الله " وقال تعالى " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله " أى الشأن كله فى امتثال أمره ولو وجهنا فى كل يوم مرات الى جهات متعددة فنحن عبيده وفى تصرفه وخدامه حيثما وجهنا توجهنا وهو تعالى ، " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا " يقول تعالى انما حولناكم الى قبلة ابراهيم عليه السلام واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم لأن الجميع معترفون لكم بالفضل ، كما ثبت فى الصحاح وغيرها ولما جعل الله هذه الأمة وسطا خصها باكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب كما قال تعالى " هو اجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج ملة أبيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفى هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس " ،" وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا " عن النبى قال عدلا ، وعن النبى قال : " أنا وأمتى يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق ما من الناس أحد الا ود أنه منا وما من نبى كذبه قومه الا ونحن نشهد أنه قد بلغ رسالة ربه عز وجل " ، " وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ " يقول تعالى انما شرعنا لك يا محمد التوجه أولا الى بيت المقدس ثم صرفناك عنه الى الكعبة ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه أى مرتد عن دينه  ، وان كانت لكبيرة أى هذه الفعلة وهو صرف التوجه عن بيت المقدس الى الكعبة ، أى وان كان هذا الأمر عظيما فى النفوس الا على الذين هدى الله قلوبهم وأيقنوا بتصديق الرسول وان كان ما جاء به فهو الحق الذى لا مرية فيه وان الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء وله الحكمة التامة والحجة البالغة فى جميع ذلك بخلاف الذين فى قلوبهم مرض فانه كلما حدث أمرا حدث لهم شكا كما يحصل للذين آمنوا ايقان وتصديق وقال تعالى " واذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه ايمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم ايمانا وهم يستبشرون وأما الذين فى قلوبهم مرض فزادتهم رجسا الى رجسهم  ، " وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ " وما كان الله يضيع ايمانكم أى صلاتكم الى بيت المقدس قبا ذلك ما كان يضيع ثوابها عند الله ، وعن أبن عباس قال " وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ "أى بالقبلة الأولى وتصديقكم بنبيكم واتباعه الى القبلة الأخرى أى ليعطيكم أجرهما جميعا "إ نَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ " أى ان واسع الرأفة والرحمة بعباده فيما يفعلون .

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)

" َدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ" عن أبن عباس أن أول ما نسخ من القرآن القبلة وذلك أن الرسول لما هاجر الى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله بضعة عشر شهرا وكان يحب قبلة ابراهيم فكان يدعو الى الله وينظر الى السماء فأنزل الله الآية ، أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض ولا يستثنى من ذلك سوى النافلة فى حال السفر فانه يصليها حيثما توجه قالبه وقلبه نحو الكعبة ، ومن جهل القبلة يصلى باجتهاده وان كان مخطئا فى نفس الأمر لأن الله لا يكلف نفسا الا وسعها ، " وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ " أى اليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس يعلمون أن الله تعالى سيوجهك اليها بما فى كتبهم عن انبيائهم من النعت والفة لرسول الله وأمته وما خصه الله تعالى به وشرفه من الشريعة الكاملة العظيمة ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسدا وكفرا وعنادا ولهذا تهددهم الله تعالى بقوله " وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ " فالله عالم بأفعالهم ليس غافلا عنها وسيجزيهم بها .

 وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ

قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)

" وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ "يخبر الله عن كفر اليهود وعنادهم ومخالفتهم ما يعرفونه من شأن رسول الله وأنه لو أقام عليهم كل دليل على صحة ما جاء به لما اتبعوه وتركوا أهواءهم كما قال " ان الذين حقت عليهم كلمة ربك لايؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم " ولهذا قال " وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ " ، " وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ "اخبار عن شدة متابعة الرسول لما أمره الله تعالى به وأنه كما هم مستمسكون بآرائهم وأهوائهم فهو أيضا مستمسك بأمر الله وطاعته واتباع مرضاته وأنه لا يتبع أهواءهم فى جميع أحواله ولا كونه متوجها الى بيت المقدس لكونها قبلة اليهود وانما ذلك عن أمر الله تعالى ، وَمَا َبعضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ "أهل الكتاب من اليهود والنصارى لايتبع بعضهم قبلة بعض كما قال " وقالت اليهود ليست النصارى على شىء وقالت النصارى ليست اليهود على شىء وهم يتلون الكتاب "، " وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ " حذر الله تعالى من مخالفة الحق الذى يعلمه الى الهوى فخاطب الله الرسول والمراد به الأمة من اتباع أهواء اليهود بعد ما أتاه من الله من العلم فان فعل ذلك فهو من الظالمين .  

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)

" الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ " يخبر تعالى أن العلماء من أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاء به الرسول كما يعرف أحدهم ولده ، والعرب كانت تضرب المثل فى صحة الشىء بهذا ، قال القرطبىويروى عن عمر أنه قال لعبد الله بن سلام : " أتعرف محمدا كما تعرف ولدك ؟ " قال :" نعم وأكثر " ، " وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ " أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقيق والاتقان العلمى يكتمون الناس ما فى كتبهم من صفة النبى وهم يعلمون ذلك ، " الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ" ثبت الله تعالى نبيه وأخبرهم بأن ما جاء به الرسول هو الحق الذى لا مرية فيه ولاشك .

وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)

" وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا " عن أبن عباس قال يعنى ذلك أهل الأديان يقول لكل قبيلة قبلة يرضونها ووجهه الله حيث توجه المؤمنون ، وقال أبو العالية لليهودى وجهة هو موليها وللنصرانى وجهة هو موليها ، وهداكم أنتم أيتها الأمة الى القبلة التى هى القبلة التى أنتم عليها وكما قال " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات الى الله مرجعكم جميعا " ، " أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " الله قادر على جمعكم من الأرض وان تفرقت أجسادكم وأبدانكم وهو على كل شىء قدير .

وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)

" وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ " هذا أمر ثالث من الله تعالى باستقبال المسجد الحرام من جميع أقطار الأرض وقد اختلفوا فى حكمة التكرار فقال أبن عباس تأكيد لأنه أول ناسخ وقع فى الاسلام ، وقال فخر الرازى بل هو منزل على أحوال الأول "وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ "لمن هو مشاهد الكعبة والثانى لمن هو فى مكة غائب عنها " وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ " والثالث " وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ " لمن هو فى بقية البلاد وقال القرطبى الأول لمن فى مكة والثانى لمن هو فى الامصار والثالث لمن خرج من الأسفار ، أولا "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ " فى هذا المقام اجابة الى طلب الرسول وأمره بالقبلة التى كان يود التوجه اليها ويرضاها ، وفى الثانى " وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تعملون " أكد أنه الحق من الله وارتقاء الأمر الأول وأن الله يحبه ويرتضيه ، "وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ " وهو التالث وفى الثالث حكمة قطع حجة المخالف من اليهود الذين كانوا يتحججون باستقبال الرسول الى قبلتهم وقد كانوا يعلمون بما فى كتبهم أنه سيصرف الى قبلة ابراهيم عليه السلام التى هى أشرف  " لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ " أى أهل الكتاب فهم يعلمون من صفة هذه الأمة التوجه الى الكعبة ولئلا يحنجوا بموافقة المسلمين اياهم فى التوجه الى بيت المقدس ، وقال أبو العالية أهل الكتاب حين قالوا صرف محمد الى الكعبة اشتاق الى بيت أبيه ودين قومه وكان حجتهم أنه سيرجع الى ديننا كما رجع الى قبيلتنا حينما كان يستقبل بيت المقدس ، " إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ " يعنى مشركى قريش فقد قالوا هذا الرجل يزعم أنه على دين ابراهيم فان كان توجه الى بيت المقدس على ملة ابراهيم فلم رجع عنه والجواب أن الله تعالى اختار له التوجه الى بيت المقدس أولا لما له فى ذلك من حكمة فاطاع ربه تعالى فى ذلك ، ثم صرفه الى قبلة ابراهيم وهى الكعبة فامتثل أمر ربه قى ذلك أيضا فهو مطيع لله فى جميع أحواله لا يخرج عن أمر الله طرفة عين وأمته تبع له ، " فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي " أى لا تخشوا الظلمة المتعنتين وأفردوا الخشية لى فانه تعالى هو أهل من يخشى منه ، " وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ " أى لأتم نعمتى عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها ، " وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ " أى الى ما ضلت عنه الأمم هديناكم اليه وخصصناكم به ولهذا كانت هذه الأمة أشرف الأمم وأفضلها .

كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)

" َكمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوعَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ " يذكر الله تعالى عباده المؤمنين بما أنعم عليهم من بعثة الرسول اليهم يتلو عليهم آيات الله مبينات يزكيهم أى يطهرهم من رذائل الأخلاق ودنس النفوس وأفعال الجاهلية ويخرجهم من الظلمات الى النور ويعلمهم الكتاب وهو القرآن والحمة هى السنة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون فانتقلوا ببركة رسالته فصاروا أعمق الناس علما وأبرهم قلوبا وأقلهم تكافا وأصدقهم لهجة قال تعالى " لقد من الله على المؤمنين اذ بعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم " ، " فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ " قال سعيد بن جبير أذكرونى بطاعتى أذكركم بمغفرتى ، وفى الحديث الصحيح يقول تعالى " من ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى ومن ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منه " ، وعن أنس قال قال رسول الله قال الله عز وجل : " يا أبن آدم ان ذكرتنى فى نفسك ذكرتك فى نفسى وان ذكرتنى فى ملأ ذكرتك فى ملأ من الملائكة " أو قال " فى ملأ خير منه " وان دنوت منى شبرا دنوت منك ذراعا ، وان دنوت منى ذراعا دنوت منك باعا ، وان أتيتنى تمشى أتيتك هرولة " صحيح الاسناد وأهرجه البخارى ، " وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ " أمر الله بشكره ووعد على شكره بمزيد الخير وقال تعالى" واذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم ان عذابى لشديد".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ " لما فرغ الله تعالىمن بيان الأمر بالشكر شرع فى بيان الصبر والارشاد والاستعانة بالصبر والصلاة اما أن يكون العبد فى نعمة فيشكر عليها أو فى نقمة فيصبر عليها كما جاء فى الحديث " عجبا للمؤمن لا يقضى الله له قضاء الا كان خيرا له كما قال " واستعينوا بالصبر والصلاة وانها لكبيرة الا على الخاشعين " ، وفى الحديث أن رسول الله اذا حزبه أمر صلى ، والصبر صبران على ترك المحارم والمآثم وصبر على فعل الطاعات والقربات ، وهناك صبر ثالث الصبر على المصائب والنوائب ، وقال سعيد بن جبير الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب منه واختسابه عند الله رجاء ثوابه ، " وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ "يخبر تعالى أن الشهداء فى برزخهم أحياء يرزقون كما جاء فى صحيح مسلم " ان أرواح الشهداء فى حواصل طيور خضر تسرح فى الجنة حيث شاءت ثم تأوى الى قناديل معلقة تحت العرش " ، وقال رسول الله : " نسمة المؤمن طائر تعلق فى شجر الجنة حتى يرجعه الله الى جسده يوم يبعثه " .

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

" وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ " أخبرنا تعالى أنه يبتلى عباده أى يختبرهم ويمتحنهم كما قال " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم " تارة بالسراء وتارة بالضراء من خوف وجوع كما قال " فاذاقها لباس الجوع والخوف " والخائف والجائع يظهر ذلك عليه " بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ " أى بقليل من ذلك ، " وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ " أى ذهاب بعضها "وَالْأَنْفُسِ " كموت الأقارب والأصحاب والأحباب  "وَالثَّمَرَاتِ " أى لا تغل الحدائق والمزارع كعادتها ، كل هذا وأمثاله يختبر الله به عباده فمن صبر أصابه ومن قنط أحل به عقابه ، " وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ " وقال تعالى " الذين اذا أصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا اليه راجعون " أى تسلوا بقولهم هذا عما أصابهم وعلموا أنهم ملك لله يتصرف فى عبيده بما شاء ، وعلموا أنه لا يضيع لديه مثقال ذرة يوم القيامة أحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده وأنهم اليه راجعون فى الدار الآخرة ، وورد فى الاسترجاع " انا لله وانا اليه راجعون " أحاديث كثيرة قالت أم سلمة سمعت رسول الله يقول : " ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول "انا لله وانا اليه راجعون اللهم أجرنى فى مصيبتى واخلف لى خيرا منها الا آجره الله فى مصيبته وأخلف له خيرا منها " وأخبر تعالى عما أعطاهم على ذلك " أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ " أى ثناء من الله عليهم ، قال سعيد بن جبير أى أمنة من العذاب ، " وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ " من يفعلون ذلك فهم الذين يتبعون هدى الله .

 إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)

" إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ "كان أساف على الصفا وكانت نائلة على المروة وكانوا فى الجاهلية يستلمونهما فتحرجوا بعد الاسلام من الطواف بينهما فنزلت الاية ، وذكر محمد بن اسحاق فى كتاب السيرة أن أسافا ونائلة كانا بشرين فزنيا داخل الكعبة فمسخا حجرين فنصبتهما قريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس فلما طال عهدهما عبدا ثم حولا الى الصفاوالمروة فنصبا هنالك فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما والسعى بين الصفا والمروة ركن فى الحج عند الشافعى وعند مالك واجب فمن تركه عمدا وسهوا جبره بدم ، وذهب أبو حنيفة أنه تطوه لقوله " وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا " ولكن القول الأول أرجح حيث أن الرسول طاف بهما وقال " خذوا عنى مناسكم " ، من شعائر الله أى من شرع الله تعالى مما شرع لابراهيم فى مناسك الحج وذلك من طواف هاجر وترددها بين الصفا والمروة فى طلب الماء لولدها ، " وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا " فى سائر العبادات ، "فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ " أى يثيب بالكثير على القليل عليم بقدر الجزاء فلا يبخس أحدا ثوابه " لايظلم مثقال ذرة وان تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما " .

 إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)

" إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ " هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل من الدلالات البينة والهدى النافع للقلوب من بعد ما بينه الله تعالى لعباده فى كتبه التى أنزلهع على رسله ، قال أبو العالية نزلت فى أهل الكتاب كتموا من صفة محمد ثم أخبر التهم يلعنهم كل شىء على صنيعهم ذلك فهؤلاء يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ، عن أبى هريرة أن رسول الله قال : " من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار " ، وعن البراء بن عازب قال كنا مع رسول الله فى جنازة فقال : " ان الكافر يضرب ضربة بين عينيه يسمعها كل دابة غير الثقلين فتلعنه كل دابة سمعت صوته فذلك قول الله تعالى " أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ" يعنى دواب الأرض ، وقال قتادة " وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ" يعنى تلعنهم الملائكة والمؤمنون استثنى " إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا " أى رجعهوا عما كانوا فيه وأصلحوا أعمالهم وبينوا للناس ما كانوا يكتمونه "،" فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" وفى هذا دلالة على أن الداعية الى كفر أو بدعة اذا تاب الى الله تاب الله عليه ، وقد ورد أن الأمم السابقة لم تكن التوبة تقبل من مثل هؤلاء منهم ، ثم أخبر تعالى عمن كفر واستمر به الحال الى مماته بأن "  إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ  * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ " عليهم لعنة الله أى الطرد من رحمته وكذلك تلعنهم الملائكة والناس جزاء كفرهم بالله وهم خالدين فى اللعنة لهم الى يوم القيامة ثم المصاحبة لهم فى نار جهنم لاينقص العذاب عما هم فيه ولا يغير عنهم ساعة واحدة بل هو متواصل دائم فنعوذ بالله من ذلك ، قال أبو العالية وقتادة ان الكافريوقف يوم القيامة فيلعنه الله ثم تلعنه الملائكة ثم يلعنه الناس أجمعون ، لاخلاف فى جواز لعن الكفار .

وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)

" وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ " يخبر تعالى عن تفرده بالآلهية وأنه لا شريك له ولا عديل له بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذى لا اله الا هو الرحمن الرحيم .

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ " ذكر الله على تفرده بالآلهية بخلق السموات والأرض وما فيهما من المخلوقات الدالة على وحدانيته السموات فى ارتفاعها واتساعها وكواكبها السيارة ودوران فلكها والأرض فى جبالها وبحارها وقفارها ووهادها وما فيها من المنافع واختلاف الليل والنهار هذا يجىء ثم يذهب ويخلفه الآخر ويعقبه لا يتأخر عنه لحظة والسفن التى تسير فى البحار تنفع الناس من نقل للركاب والتجارة البحرية وغيرها ، " وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا "كما قال من أيات قدرة الله نزول المطر من السماء فأخرج الزروع والثمار ، " وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ" وما خلق على الأرض من مخلوقات تعيش عليها على اختلاف اشكالها والوانها ومنافعها وهو يعلم ذلك ويرزقه لا يخفى عليه شىء ، " وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ " أى فتارة تأتى بالرحمة وتارة تأتى بالعذاب وتارة تأتى مبشرة "وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ " أى السحاب السائر بين السماء والأرض سخر الى ما يشاء الله ، " لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ " أى أن هذه الأشياء دلالات بينة على وحدانية الله تعالى وفى آية أخرى " ان فى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب " .

 وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)

" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ " يذكر تعالى حال المشركين به فى الدنيا حيث جعلوا له أندادا أى أمثالا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه وهو الله لا آله الا هو ولا ضد له ولا ند له ولا شريك له ، وفى الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال قلت : يارسول الله أى الذنب أعظم ؟ " قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " ، " وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ " والذين آمنوا لحبهم لله وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم له لا يشركون به شيئا بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه ويلجأون فى جميع أمورهم اليه ، " وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ " قال بعضهم لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعا أى أن الحكم له وحده لا شريك له وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطاته ، " وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ " كما قال " فيومئذ لا يعذب عذابه أحد * ولا يوثق وثاقه أحد " يقول لو يعلمون ما يعاينونه هنالك وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم لانتهوا عما هم فيه من الضلال ثم أخبرعن كفرهم بأوثانهم وتبرىء المتبوعين من التابعين فقال " إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ" هذا موقف يحدث يوم القيامة حيث يقف الجميع ليوم الحساب الذين أضلوا والذين اتبعوهم فضلوا عندما يعاينون عذاب الله وتتقطع بهم الحيل وأسباب الخلاص ولم يجدوا عن النار معدلا ولا مصرفا يتبرا الذين أتبعوا من الذين أتبعوهم ، " وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا " وهنا يصاب الذين اتبعوا بالحسرة ويقولون لو أن لنا عودة الى الدنيا حتى نتبرأ من هؤلاء ومن عبادتهم فلا نلتفت اليهم بل نوحد الله وحده بالعبادة ، وهم كاذبون فى هذا بل لو ردوا لعادوا لما نهوعنه وانهم لكاذبون ، " كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ" أعمالهم تذهب وتضمحل ولن يكون الا الحسرة فهم مخلدون فى النار كما قال " وقدمنا الى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)

" يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا " يبين الله أنه الرازق لجميع خلقه فذكر فى مقام الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما فى الأرض فى حال كونه حلالا من الله طيبا أى مستطابا فى نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول ، " وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ " نهاهم الله عن اتباع خطوات الشيطان أى خطاياه فهو عدو واضح وشديد العداوة ، وعندما تليت هذه الآية كما قال أبن عباس عن النبى قام سعد بن أبى وقاص فقال : يارسول الله ادع الله أن يجعلنى مستجاب الدعوة فقال : " ياسعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة والذى نفسى بيده ان الرجل ليقذف اللقمة الحرام فى جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به " ، وقوله " إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ " تنفير عنه وتحذير منه كما قال " ان الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا انما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير " وكل معصية لله فهى من خطوات الشيطان ، " إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ " أى انما يأمركم عدوكم الشيطان بالأفعال السيئة وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه وأغلظ من ذهو القول على الله بلا علم فيدخل فى هذا كل كافر وكل مبتدع أيضا .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)

" وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا " يقول تعالى واذا قيل لهؤلاء الكفرة من المشركين اتبعوا ما أنزل الله على رسوله واتركوا ما أنتم عليه من الضلال والجهل قالوا فى جواب ذلك بل نتبع ما ألفينا أى وجدنا عليه آباءنا أى عبادة الأصنام والأنداد قال تعالى منكرا عليهم " أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ " أى الذين يقتدون بهم ويقتفون أثرهم ، " لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ " أى ليس لهم فهم ولا هداية ، قال أبن عباس انها نزلت فى طائفة من اليهود دعاهم رسول الله الى الاسلام فقالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ، " وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً " مثل الذين كفروا فيما هم فيه من الغى والضلال والجهل كالدواب السارحة التى لا تفقه ما يقال لها بل اذا نعق بها راعيها أى دعاها الى ما يرشدها لا تفقه ما يقول ولا تفهمه بل انما تسمع صوته فقط ،وقيل هذا مثل ضرب لهم فى دعائهم الأصنام التى لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل شيئا " صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ " أى صم عن سماع الحق بكم لا يتفوهون به وعمى عن رؤية طريقه ومسلكه ، " فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ " أى لا يعقلون شيئا ولا يفهمونه كما قال " والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم فى الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم " .

 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ " يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى وأن يشكروه على ذلك ان كانوا عبيده والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة ، فعن أبى هريرة قال رسول الله : " أيها الناس ان الله طيب لا يقبل الا طيبا وان الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال " أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا انى بما تعملون عليم " ، وقال " يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم " ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه الى السماء يارب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فأنى يستجاب لذلك ؟" رواه مسلم فى صحيحه والترمذى ، " ِانَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ"ذكر الله أنه لم يحرم عليهم من ذلك الا الميتة وهى التى تموت حتف أنفها من غير تذكية وسواء أكانت منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو عدا عليها السبع ، " فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " فمن اضطر فى غير بغى ولا عدوان وهو تجاوز الحد قلا اثم عليه أى فى أكل ذلك ،" إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " الله غفور لمن اضطر أن يأكل الميتة رحيم به ، وقال سعيد غير باغ يعنى غير مستحله ويحمل معه ما يبلغه الحلال فاذا بلغه الحلال ألقاه وهو قوله " ولا عاد " وقال لا يعدو به الحلال وعن أبن عباس لا يشبع منها ، وحكى القرطبى عن مجاهد فمن اضطر أى أكره فيما أكل من اضطرار أو لما أكل من الحرام على ذلك بغير اختياره " فلا اثم عليه " " ان الله غفور رحيم "الله غفور يغفر له لاكله من المحرم ورحيم اذ أحل له الحرام فى الاضطرار ، وعن مسروق قال من اضطر فلم يأكل ولم يشرب ثم مات دخل النار وهذا يقتضى أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة .

 إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)

" إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ " يعنى اليهود الذين كتموا صفة محمد فى كتبهم التى بأيديهم مما تشهد له بالرسالة فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من العرب على تعظيمهم آباءهم فخشوا ان أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم فكتموا ذلك ، " وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا " وهو عرض الدنيا ، " أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ " أى انما يأكلون ما يأكلونه فى مقابلة كتمان الحق نارا تأجج فى بطونهم يوم القيامة كما قال " ان الذين يأكلون أموال اليتامى انما يأكلون فى بطونهم نارا وسيصلون سعيرا " ، وعن رسول الله فى الحديث الصحيح قال : " ان الذى يأكل أو يشرب فى آنية الذهب والفضة فانما يجرجر فى بطنه نار جهنم " ،" وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " ذلك لأنه غضبان عليهم لأنهم كتموا ما أنزل الله وقد علموا فاستحقوا الغضب فلا ينظر اليهم ولا يزكيهم أى يثنى عليهم ويمدحهم بل يعذبهم عذابا أليما ، وعن أبى هريرة قال رسول الله : " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر اليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر " ،" أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى "أى اعتاضوا عن الهدى وهو نشر ما فى كتبهم من صفة الرسول وذكر مبعثه والبشارة به من كتب الأنبياء واتباعه وتصديقه استبدلوا ذلك واعتاضوا عنه الضلالة وهو تكذيبه والكفر به وكتمان صفاته فى كتبهم ، " وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ " أى اعتاضوا عن المغفرة بالعذاب ،" فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ" يخبر الله أنهم فى عذاب شديد هائل يتعجب من رآهم فيها من صبرهم على ذلك مع شدة ما هم فيه من العذاب والنكال والأغلال ، " ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ " أى انما استحقوا هذا العذاب الشديد لأن الله تعالى أنزل على رسوله محمد وعلى الأنبياء قبله كتبه بنحقيق الحق وابطال الباطل وهؤلاء أتخذوا آيات الله هزوا فكتابهم يأمرهم باظهار العلم ونشره فخالفوه وكذبوه وهذا الرسول الخاتم يدعوهم الى الله يكذبونه فلهذا استحقوا العذاب والنكال ولهذا قال " وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ " .

 لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

" لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ " ان الله تعالى لما أمر المؤمنين أولا بالتوجه الى بيت المقدس ثم حولهم الى الكعبة شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين فأنزل الله تعالى بيان حكمته فى ذلك وهو أن المراد انما هو طاعة الله وامتثال أوامره والتوجه حيثما وجه واتباع ما شرع فهذا هو البر والتقوى والايمان الكامل وليس فى لزوم التوجه الى جهة من المشرق أو المغرب بر ولا طاعة ان لم يكن عن أمر الله وشرعه وكما قال فى الأضاحى " لن ينال الله لحومها ولادماؤها ولكن يناله التقوى منكم " ،  "وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابَِوالنَّبِيِّينَ " وقال الثورى هذه أنواع البر كلها ومن اتصف بهذه الآية فقد دخل فى عرى الاسلام كلها وأخذ بمجاميع الخير كله وهو الايمان بالله والتصديق بوجود الملائكة " والكتاب " وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء حتى ختمت بأشرفها وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب الذى انتهى اليه كل خير واشتمل على كل سعادة فى الدنيا والآخرة ونسخ به كل من سواه من الكتب قبله وآمن بانبياء الله كلهم من أولهم الى خاتمهم محمد ﷺ     "وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ " أى أخرجه وهو محب له راغب فيه ، وعن أبن مسعود قال قال رسول الله ﷺ " وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ " أن تعطيه وأنت صحيح تأمل العيش ةتخشى الفقر " وقال تعالى " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما نحبون " ، " ذَوِي الْقُرْبَى " وهم القربات وهم أولى من يعطى الصدقة ، "وَالْيَتَامَى  " هم الذين لا كاسب لهم وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على الكسب " وَالْمَسَاكِينَ " وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم فى قوتهم وكسوتهم وسكناهم فيعطون ما تسد به حاجتهم " وَابْنَ السَّبِيلِ " وهو المسافر المجتاز الذى فرغت نفقته فيعطى ما يكفيه فى ذهابه وايابه ويدخل فى ذلك الضيف " وَالسَّائِلِينَ " وهم الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات " وَفِي الرِّقَابِ " وهم المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه فى كتابتهم " وَأَقَامَ الصَّلَاةَ " أى وأتم أفعال الصلاة فى أوقاتها بركوعها وسجودها وخشوعها على الوجه الشرعى المرضى " وَآتَى الزَّكَاةَ  " يحتمل أن يكون المراد به زكاة النفس وتخليصها من الأخلاق الدنيئة الرزيلة كقوله " قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها " ، "َالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا " كقوله " والموفون بعهدهم اذا عاهدوا " وقوله " الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق "  ، :وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ " والصابرين فى حال الفقر وهو البأساء وفى خال المرض والأسقام وهو الضراء وحين البأس أى فى حال القتال والتقاء الأعداء ، "أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا " أى هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا فى ايمانهم لأنهم حققوا الايمان القلبى بالأقوال والأفعال فهؤلاء هم الذين صدقوا ، " وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ " لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى " يقول تعالى كتب الله عليكم العدل فى القصاص أيها المؤمنون حركم بحركم وعبدكم بعبدكم وأنثاكم بانثاكم ولا تتجاوزا وتعتدوا كما اعتدى من قبلكم وغيروا حكم الله فيهم ، وسبب ذلك قريظة والنضير كانت بنو النضير قد غزت قريظة فى الجاهلية وقهروهم ، فكان اذا قتل النضرى القرظى لا يقتل به بل يفادى بمائة وسق من التمر واذا قتل القرظى النضرى قتل وان فادوه بمائتى وسق من التمر ضعف دية القرظى فأمر الله بالعدل فى القصاص ، وقال سعيد بن جبير أن حيين من العرب اقتتلوا فى الجاهلية قبل الاسلام بقليل فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء فلم يأخذ بعضهم من بعض ختى أسلموا فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر فى العدة والأموال فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل بالعبد الحر منهم والمرأة منا الرجل منهم فنزل" الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى " ، والآية منسوخة بقوله " النفس بالنفس " ، وذهب أبو حنيفة الى أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة ، ولقوله عليه السلام " المسلمون تتكافا دماؤهم " ،" فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ " قال أبن عباس العفو أن تقبل الديه فى العمد " فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ " فعلى الطالب اتباع بالمعروف اذا قبل الدية ، " وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ " يعنى من القاتل من غير ضرر ولا معك يعنى المدافعة ، وقال أبن عباس يؤدى المطلوب باحسان ، " ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ " يقول تعالى انما شرع لكم أخذ الدية فى العمد تخفيفا من الله عليكم ورحمة بكم مما كان محتوما على الأمم قبلكم ، وقال أبن عباس كتب على بنى اسرائيل القصاص فى القتلى ولم يكن فيهم العفو وذلك تخفيف مما كتب على بنى اسرائيل من كان قبلكم فاتباع بالمعروف وأداء اليه باحسان ، قال قتادة رحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية ولم تحل لأحد قبلهم فكان أهل التوراة انما هو القصاص وعفو ليس بينهم ارش  ، وكان أهل الانجيل انما هو عفو أمروابه ، وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش ، " فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ "يقول تعالى فمن قاتل بعد أخذ الدية أو قبولها فله عذاب من الله أليم موجع شديد ، وعن أبى شريح الخزاعى أن النبى قال : " من أصيب بقتل أو خبل فانه يختار احدى ثلاث اما أن يقتص واما أن يعفو واما أن يأخذ الدية فاذا أراد الرابعة فخذوا على يديه ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدا فيها " رواه أحمد ، " وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ " يقول تعالى وفى شرع القصاص لكم وهو قتل القاتل حكمة عظيمة وهى بقاء المهج وصونها لأنه اذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعه فكان فى ذلك حياة للنفوس، " يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " يا أولى العقول والأفهام زالنهى لعلكم تنزجرون وتتركون محارم الله ، والتقوى اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات .

 كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

" كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ" اشتملت هذه الآية على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين وقد كان ذلك واجبا على أصح القولين قبل نزول آية المواريث فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله يأخذها أهلوها حتما من غير وصية ، وعن عمربن خارجه قال سمعت رسول الله يقول : "ان الله قد أعطى كل ذى حق حقه فلا وصية لوارث ، وقال أبن عباس نسخت هذه الآية بقوله " للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا " النساء " بالمعروف " بالرفق والاحسان " ، " فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " فمن بدل الوصية وحرفها فغير حكمها وزاد فيها أو نقص ويدخل فى ذلك الكتمان لها ،" فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ " قال أبن عباس وقع أجر الميت على الله وتعلق الاثم بالذين بدلوا ذلك ،" إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " أى قد اطلع على ما أوصى به الميت وهو عليم بذلك وبما بدله الموصى اليهم ،" فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " قال أبن عباس وغيره الجنف الخطأ ويشمل أنواع الخطأ كلها بأن زادوا وارثا مثلا أو مخطئا غير عامد بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر أو متعمدا آثما فى ذلك فللوصى أن يصلح القضية ويعدل فى الوصية على الوجه الشرعى .

 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ " يقول تعالى مخاطبا للمؤمنين وآمرالم بالصيام بنية خالصة لله عز وجل وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم فلهم فيه أسوة حسنة وليجتهد هؤلاء فى أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك ، " أياما معدودات "أى عددا معلوما ، وعن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله : " صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم" ، " كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"  قال أبن عباس يعنى بذلك أهل الكتاب ، " فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ " تبين الآية حكم الصيام المريض والمسافر لايصومان لما فى ذلك من المشقة عليهما بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أخر وأما الصحيح المقيم الذى يطيق الصيام فقد كان مخيرا بين الصيام وبين الاطعام ان شاء صام وان شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا فان أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم فهو خير وان صام فهو أفضل من الاطعام ، " فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ " وأحوال الصيام فان رسوا الله قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وصام عاشوراء ثم ان الله فرض الصيام فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكينافأجزأ ذلك عنه ، ثم ان الله عز وجل أنزل الآية الاخرى" شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ -----َفلْيَصُمْهُ" فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ورخص للمريض والمسافر وثبت الاطعام للكبير الذى لا يستطيع الصيام ، " وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ" كان من يريد أن يفطر يفتدى حتى نزلت الآية التى بعدها فنسختها والذين يكيقونه أى يتجشمونه " فَمَنْ تَطَوَّعَ " أى أطعم مسكينا آخر فهو خير له حتى نسختها " فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ " وقال أبن عباس " وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ" ليست منسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لايستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا ، ومما يلتحق بهذا المعنى الحامل والمرضع ان خافتا على أنفسهما أو ولديهما .

 شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

" شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ " يمدح تعالى شهر رمضان من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لانزال القرآن العظيم كما اختصه بذلك ، وقد ورد الحديث بأنه الشهر الذى كانت الكتب الآلهية تنزل فيه على الأنبياء ، قال رسول أـنزلت صحف ابراهيم فى أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان والانجيل لثرث عشرة خلت من رمضان وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان وروى من حديث جابر بن عبد الله أن الزبور أنزل لأثنتى عشرة خلت من رمضان والانجيل لثمانى عشرة والباقى كما تقدم ، وأما الصحف والتوراة والزبور والانجيل فنزل كل منها على النبى الذى أنزل عليه جملة واحدة وأما القرآن فأنما نزل جملة واحدة الى بيت العزة من السماء الدنيا وكان ذلك فى شهر رمضان فى ليلة القدر كما ورد " انا أنزلناه فى ليلة القدر " وقال " انا أنزلناه فى ليلة مباركة " ثم نزل بعده مفرقا بحسب الوقائع على رسول الله ، قال أبن عباس أنزل القرآنفى شهر رمضان فى ليلة القدر الى هذه السماء الدنيا جملة واحدة وكان الله يحدث لنبيه ما يشاء ولا يجىء المشركون بمثل يخاصمون به الا جاءهم الله بجوابه وذلك قوله " وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جماة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا * ولايأتونك بمثل الا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا " ،" هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ " هذا مدح للقرآن الذى أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه ، " وَبَيِّنَاتٍ  " أى دلائل وحجج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافى للضلال والرشد المخالف للغى ومفرقا بين الحق والباطل والحلال والحرام ، " مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ " فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ " هذا ايجاب حتم على من شهد استهلال الشهر أى كان مقيما فى البلد حين دخل شهر رمضان وهو صحيح فى بدئه أن يصوم لا محالة ، " وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ " أى ومن كان به مرض فى بدنه يشق عليه الصيام أو يؤذيه أو كان على سفر أى فى حال السفر فله أن يفطر فاذا أفطر فعليه عدة ما أفطره فى السفر من الأيام ، ولهذا قال " يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ "أى انما رخص لكم فى الفطر فى حال المرض وفى السفر مع تحتمه فى حق المقيم الصحيح عليكم ورحمة بكم ، قال رسول الله : " يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا " وفى الصحيحين أن رسول الله قال لمعاذ وأبى موسى حين بعثهما الى اليمن : " بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا وتطاوعا ولا تختلفا " وفى السنن والمسانيد أن رسول الله قال: " بعثت بالحنيفية السمحة "" وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ " وانما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم ، " وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ " أى ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم كما قال " فاذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا "ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير فى عيد الفطر ، " وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " أى اذا قمتم بما أمركم الله من طاعته بأداء فرائضه وترك محارمه وحفظ حدوده فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك .

 وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)

" وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ " وعن حيدة القشيرى عن أبيه عن جده أن أعرابيا قال يارسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه ؟ فسكت النبى فأنزل الله الآية أى اذا أمرتهم أن يدعونى فدعونى استجبت ، وعن أنس رضى الله عنه أن النبى قال : " يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدى بى وأنا معه اذا دعانى " ، وعن سليمان الفارسى رضى الله عنه أن النبى قال : " ان الله تعالى ليستحيى أن يبسط العبد اليه يديه يساله فيهما خيرا فيردهما خائبتين " ، وعن أبى سعيد أن النبى قال :" ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها اثم ولا قطيعة رحم الا أعطاه الله بها احدى ثلاث خصال اما أن يعجل له دعوته واما أن يدخرها له الآخرة واما أن يصرف عنه من السوء مثلها " ، وعن أبى هريرة أن رسول الله قال : " يستجاب لأخدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لى " ، وعن أبن عباس حدثنى جابر بن عبد الله أن النبى قرأ " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ " فقال رسول الله " اللهم أمرت بالدعاء وتوكلت بالاجابة لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ، فرد أحد صمد ، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، وأشهد أن وعدك حق ولقاءك حق والساعة آتية لا ريب فيها وأنت يبعث من فى القبور " ، وفى ذكر هذه الآية الباعثة على الدعاء  متخللة بين أحكام الصيام ارشاد الى الاجتهاد فى الدعاءعند اكمال العدة بل وعند كل فطر ، قال رسول الله : " للصائم عند افطاره دعوة مستجابة " وعن أبى هريرة قال رسول الله : " ثلاث لا ترد دعوتهم الامام العادل والصائم حتى يفطر ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة وتفتح لها أبواب السماء ويقول بعزتى لأنصرنك ولو بعد حين " .
 أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

" أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ " هذه رخصة من الله تعالى للمسلمين ورفع لما كان عليه الأمر فى ابتداء الاسلام فانه كان اذا أفطرأحدهم انما يحل له الأكل والشرب والجماع الى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك فمن نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع الى الليلة القابلة فوجدوا فى ذلك مشقة كبيرة والفث هنا هو الجماع ، " هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ " يعنى هن سكن لكم وأنتم سكن لهن وقال الربيع بن أنس هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن وحاصله أن الرجل والمرأة كل منهما يخالط الآخر ويماسه ويضاجعه فتناسب أن يرخص لهم فى المجامعة فى ليل رمضان لئلا يشق ذلك عليهم ويحرجوا ، قال أبن عباس كان المسلمون فى شهر رمضان اذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام الى مثلها من القابلة ثم ان أناسا من المسلمين أصابوا من النساء والطعام فى شهر رمضان بعد العشاء منهم عمر بن الخطاب فشكو ذلك الى رسول الله فأنزل الله تعالى " عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ " " باشروهن " يعنى جامعوهن الله العليم بالأنفس علم أنكم تحملون أنفسكم ما لاتطيق فتاب عليكم مما وقع منكم من مجامعة أناسا من المسلمين النساء فأحل لهم الجماع فى ليلة الصيام فكان ذلك عفوا من الله ورحمة ، " وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ " يعنى الولد قال قتادة ابتغوا الرخصة التى كتب الله لكم أو ما أحل الله لكم ، " َ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ " أباح الله الجماع والطعام و الشراب فى جميع الليل رحمة ورخصة ورفقا ، أباح الله ذلك فى أى الليل شاء الصائم الى أن يتبين ضياء الصباح من سواد الليل وعبر عن ذلك بالخيط الأبيض من الخيط الأسود ورفع اللبس بقوله " من الفجر " وكان رجال اذا أرادوا الصوم ربط أحدهم فى رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله " من الفجر " فعلموا انما يعنى الليل والنهار ، وفى اباحته تعالى جواز الأكل الى طلوع الفجر دليل على استحباب السحور لأنه من باب الرخصة ووردت السنة الثانية عن رسول الله بالحث على السحور فعن أنس فى الصحيحين قال رسول الله : " تسحروا فان فى السحور بركة " ، وعن أبى ذر قال قال رسول الله : " لا تزال أمتى بخير ما عجلوا الافطار وأخروا السحور " ، " ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ " يقتضى الافطار عند غروب الشمس حكما شرعيا ، " عن أبى هريرة عن النبى يقول الله عز وجل " ان أحب عبادى الى أعجلهم فطرا " ، " وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ " قال أبن عباس هذا فى الرجل يعتكف فى المسجد فى رمضان أو فى غير رمضان فحرم الله عليه أن ينكح النساء ليلا أو نهارا حتى يقضى اعتكافه والمتفق عليه عند العلماء أن المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفا فى مسجده ولو ذهب الى منزله لحاجة لا بد منها فلا يحل له أن يثبت الا بمقدار مات يفرغ من حاجته تلك من قضاء الغائط أو الأكل وليس له أن يقبل امرأته ولا أن يضمها اليه ولا يشتغل بشىء سوى اعتكافه ولا يعود المريض لمن يسأل عنه وهو فى طريقه ، " تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا "أى هذا الذى بيناه وفرضناه وحددناه من الصيام واحكامه وما أبحنا فيه وما حرمنا وذكرنا غايته ورخصه وعزائمه حدود الله أى شرعها الله وبينها بنفسه فلا تقربوها أى لا تجاوزوها وتتعدوها ، " كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ " أى كما بين الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله كذلك يبين سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد ، " لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ " أى يعرفون كيف يهتدون وكيف يطيعون كما قال " هو الذى ينزل على عبده آيات بيناتن ليخرجكم من الظلمات الى النور وان الله بكم لرؤوف رحيم " .

 وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

" وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" قال أبن عباس هذا فى الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة فيجحد المال ويخاصم الى الحكام وهو يعرف أن الحق عليه وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام ، وعن أم سلمة أن رسول الله قال: " أنما أنا بشر وانما يأتينى الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له فمن قضيت له بحق مسلم فانما هى قطعة من نار فليحملها أو ليذرها " ويدل ذلك على أن حكم الحاكم لا يغير الشىء فى نفس الأمر فلا يحل فى نفس الأمرحراما وهو حرام ولا يحرم حلالا هو حلال وانما هو ملزم فى الظاهر فان طابق فى نفس الأمر فذاك والا فللحاكم أجره وعلى المحتال وزره ويقضى القاضى بنحو ما يرى وتشهد به الشهود والقاضى بشر يخطىء ويصيب وأعلموا أن من قضى له بباطل أن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة فيقضى على المبطل للمحق بأجود مما قضى به للمبطل على المحق فى الدنيا .

 يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

عن أبن عباس أن الناس سألوا رسول الله عن الأهلة فنزلت هذه الآية " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ " يعلمون بها حل دينهم وعدة نسائهم ووقت صيامهم وحجهم ، وعن أبن عمر قال قال رسول الله : " جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته فان غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما " ، " وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " قال البخارى عن البراء كانوا اذا أحرموا فى الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله الآية ، وقال الحسن البصرى كان أقوام من أهل الجاهلية اذا أراد أحدهم سفرا أو خرج من بيته يريد سفره الذى خرج له ثم بدا له بعد خروجه أن يقيم ويدع سفره لم يدخل البيت من بابه ولكن يتسوره من قبل ظهره فأنزل الله الآية ، وقال محمد بن كعب كان الرجل اذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت ولا يرون أن ذلك أدنى الى البر ، " وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا " فقال الله أن البر الحقيقى ليس ما يفعلون ولكن فى تقوى الله والبر هو اسم جامع للخير وأمرهم باتيان البيوت من الأبواب وليس من الظهور ، " وَاتَّقُوا اللَّهَ " أى اتقوا الله فافعلوا ما أمركم به واتركوا ما نهاكم عنه ، " لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " عنا اذا وقفتم بين يديه فيجازيكم على التمام والكمال وهذا هو الفلاح .

 وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)

" وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ " قال أبو العالية هذه أول آية نزلت فى القتال بالمدينة فلما نزلت كان رسول الله يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه حتى نزلت سورة براءة فنسختها بقوله ´فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " وقوله " الذين يقاتلونكم " انما هو اغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الاسلام وأهله كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم كما قال " وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة " ولهذا قال " وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ " أى لتكون همتكم منبعثة على قتالهم كما أن همتهم منبعثة على قتالكم وعلى اخراجهم من بلادهم التى أخرجوكم منها قصاصا ، " وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ " أى قاتلوا فى سبيل الله ولا تعتدوا فى ذلك ويدخل فى ذلك ارتكاب المناهى من المثلة والغلول وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأى لهم ولا قتال فيهم والرهبان وأصحاب الصوامع وتحريق الاشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة ، وفى صحيح مسلم عن بريده أن رسول الله كان يقول:" اغزوا فى سبيل الله قاتلوا من كفر بالله أغزوا ولا تغلوا ولا تغدوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع " رواه الامام أحمد ، وعن عباس قال " كان رسول الله اذا بعث جيوشه قال اخرجوا بسم الله قاتلوا فى سبيل الله من كفر بالله ولا تعتدوا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع " رواه الامام أحمد ، ولما كان الجهاد فيه ازهاق النفوس وقتل الرجال نبه تعالى على أن ماهم مشتملون عليه من الكفر بالله والشرك به والصد عن سبيله أبلغ وأشد وأعظم وأطم من القتل فقال" وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ "أى الشرك أشد من القتل ، " وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ " نهى عن القتال فى مكة كما جاء فى الصحيحين " امن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله الى يوم القيامة ولم يحل الا ساعة من نهار وانها ساعتى هذه حرام بحرمة الله الى يوم القيامة لا يعضد شجره ولا يختلى خلاه فان أحد ترخص بقتل رسول الله فقولوا ان الله اذن لرسوله ولم يأذن لكم " يعنى بذلك قتاله أهله يوم فتح مكة ، " حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ " يقول تعالى ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام الا أن يبدأوكم بالقتال فيه فلكم يومئذ قتالهم وقتلهم دفعا للصائل ،" فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " أى فان تركوا القتال فى الحرم وأنابوا الى الاسلام والتوبة فان الله يغفر ذنوبهم ولو كانوا قد قتلوا المسلمين فى حرم الله فانه تعالى لايتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب منه اليه ثم أمر الله تعالى بقتال الكفار " وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ " أى شرك وقالتلوهم حتى لا يكون هناك شرك "وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ  " أى يكون دين الله هو الظاهر العالى على سائر الأديان ، وفى الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى قال سئل النبى عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أى ذلك فى سبيل الله ؟ " فقال من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله "  ، "فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ " يقول تعالى فان انتهوا عما هم فيه من الشرك وقتال المؤمنين فكفوا عنهم فان من قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ولا عدوان الا على الظالمين .

الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)

" الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ " عن أبن عباس وآخرين أنه لما سار رسول الله معتمرا فى سنة ست من الهجرة وحبسه المشركون عن الدخول والوصول الى البيت الحرام وصدوه بمن معه من المسلمين فى ذى القعدة وهو شهر حرام حتى قاضاهم على الدخول من قابل فدخلها فى السنة التالية هو ومن معه من المسلمين وأقصه الله منهم فنزلت الآية ، ولم يكن رسول الله يغزو فى الشهر الحرام الا أن يغزى ، كان رسول الله مخيم بالحديبية فبعث عثمان فى رسالة للمشركين فبلغه أن عثمان قتل فبايع أصحابه وكانوا 1400 تحت الشجرة على قتال المشركين فلما بلغه أن عثمان لم يقتل  كف عن ذلك وجنح الى المسالمة والمصالحة ، " فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا  اعْتَدَى عَلَيْكُمْ " أمر بالعدل حتى فى المشركين ، وقال أبن عباس أنها نزلت بمكة حيث لا شوكة ولا جهاد ثم نسخ بآية القتال بالمدينة ورد أبن جرير وقال بل الآية مدنية بعد عمرة القضية ، " وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ " أمر لهم بطاعة الله وتقواه واخبار بأنه تعالى مع الذين اثقوا بالنصر والتأييد فى الدنيا والآخرة .

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)

" وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ " قال أبو أيوب نحن أعلم بهذه الآية انما نزلت فينا ، صحبنا رسول الله وشهدنا معه المشاهد ونصرناه فلما فشا الاسلام وظهر اجتمعنا معشر الانصار تحببا فقلنا قد أكرمنا الله بصحبة نبيه ونصره حتى فشا الاسلام وكثر أهله وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد وقد وضعت الحرب أوزارها فنرجع الى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما فنزلت الآية ، فكانت التهلكة فى الاقامة فى الأهل والمال وترك الجهاد " رواه أبو داود والترمذى والنسائى وآخرون وقال الترمذى حسن صحيح ، وعن أبن عباس قال ليس ذلك فى القتال انما هو فى النفقة أن تمسك بيدك عن النفقة فى سبيل الله ، وقال الحسن البصرى هو البخل وقال أبن عباس التهلكة عذاب الله ، " وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"ومضمون الآية الأمر بالانفاق فى سبيل الله فى سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات وخاصة صرف الأموال فى قتال الأعداء وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم والاخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار لمن لزمه واعتاده ثم عطف بالأمر بالاحسان وهو أعلى مقامات الطاعة فقال " وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ " يطالب الله بالاحسان وهو تقوى الله والله يحب أهل الاحسان .

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)

" وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ " لما ذكر الله تعالى أحكام الصيام وعطف بذكر الجهاد شرع فى بيان المناسك فأمر باتمام الحج والعمرة وظاهر السياق اكمال لأفعالهما بعد الشروع فيهما ، ولهذا قال بعده " فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ " أى صددتم عن الوصول الى البيت ومنعتم من اتمامهما ، ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع فى الحج والعمرة ملزم سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها ، والتمام أن تخرج له ولا تخرج لغيره ، وثبت أن رسول الله اعتمر أربع عمر كلها فى ذى القعدة عمرة الحديبية فى ذى القعدة سنة ست وعمرة القضاء فى ذى القعدة سنة سبع وعمرة الجعرانه فى ذى القعدة سنة ثمان وعمرته التى مع حجته أحرم بهما معا فى ذى القعدة سنة عشر ، " فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ"ذكر أن هذه الاية نزلت فى سنة ست أى عام الحديبية حين حال المشركون بين رسول الله بين رسول الله وبين الوصول الى البيت وأنزل الله فى ذلك سورة الفتح بكاملها وأنزل لهم رخصة أن يذبحوا ما معهم من الهدى وكان سبعين بدنة وأن يحلقوا رؤسهم وأن يتحللوا من احرامهم فعند ذلك أمرهم عليه السلام بأن يحلقوا رؤسهم وأن يتحللوا فلم يفعلوا انتظارا للنسخ حتى خرج فحلق رأسه ففعل الناس وكان منهم من قصر رأسه ولم يحلقه فلذلك قال : " رحم الله المحلقين " قالوا والمقصرين يا رسول الله فقال فى الثالثة "والمقصرين " وقد كانوا اشتركوا فى هديهم ذلك كل سبعة فى بدنه وكانوا ألفا وربعمائة وكان منزلهم بالحديبية خارج الحرم وقيل بل كانوا على طرف الحرم ، " فَإِنْ أُحْصِرْتمْ " اختلف العلماء فى الحصرفعن أبن عباس قال لا حصر الا حصر العدو فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال طريق فليس عليه شىء انما قال تعالى " َفإِذَاَمِنْتُمْ" فليس الأمن حصرا ، والقول الثانى أن الحصر أعم من أن يكون بعدو أو مرض أو ضلال طريق ، وعن حجاج بن عمرو الأنصارى قال سمعت رسول الله يقول " من كسر أو وجع أو عرج فقد وحل وعليه حجة أخرى " ، وقال الثورى الاحصار من كل شىء آذاه ، " فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ " عن على بن أبى طالب قال شاة وقال أبن عباس الهدى من الأزواج الثمانية من الابل والبقر والمعز والضأن " وعن جابر قال أمر رسول الله أن نشترك فى الابل والبقر كما سبعة منا فى بقرة ، وقال أبن عباس بقدر يسارته ان كان موسرا فمن الابل والا فمن البقر والا فمن الغنم ، " وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ "  فلا يجوز الحلق حتى يبلغ " الهدى محله " ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة ان كان قارنا أو من فعل أحدهما ان كان مفردا أو متمتعا ، " فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ " عن كعب بن عجرة قال : أتى على النبى وأنا أوقد تحت قدر والقمل يتناثر على وجهى أو قال حاجبى فقال " يؤذيك هوام رأسك ؟ " قلت "نعم " قال : " فاحلقه وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو أنسك نسيكة " ، وعن أبن عباس قال قال رسول الله : "النسك شاة والصيام ثلاثة أيام والطعام فرق بين ستة " لما أمر النبى كعب بن عجرة أرشده الى الأفضل فالأفضل والقرآن فى بيان الرخصة بالاسهل فالأسهل " فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ " ، فاذا كان بالمحرم أذى من رأسه حلق وافتدى ، وعن عطاء أننه كان يقول ما كان من دم فبمكة وما كان من طعام وصيام فحيث يشاء ، " فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ " أى فاذا تمكنتم من أداء المناسك فمن كان منكم متمتعا بالعمرة الى الحج وهو يشمل من أحرم بهما أو أحرم بالعمرة أولا فلما فرغ منها أحرم بالحج وهذا هو التمتع الخاص أى فليذبح ما قدر عليه من الهدى وأقله شاة وله أن يذبح البقر لأن رسول الله ذبح البقر عن نسائه وكن متمتعات وهذا دليل على مشروعية التمتع ، " فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ " يقول تعالى فمن لم يجد هديا يصم ثلاثة أيام فى الخج أى فى أيام المناسك قال العلماء والأولى أن يصومها قبل يوم عرفة فى العشر وسبعة اذا رجع الى أهله ، وقيل معنى كاملة أى مجزئة عن الهدى وقال الحسن البصرى من الهدى ، " ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ " قال أبن جرير أن أهل الحرم معنيون به وأنه لا متعة لهم ، وعن عطاء قال من كان أهله دون المواقيت فهو كأهل مكة لا يتمتع وقال عرفة ومزدلفة وعرنة والرجيع واختار أبن جرير مذهب الشافعى أنهم أهل الحرم ومن كان منه كل مسافة لا يقصر فيها الصلاة لأن من كان كذلك يعد حاضرا لا مسافرا ،" وَاتَّقُوا اللَّهَ " أى فيما أمركم ونهاكم " وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ "  أى لمن خالف أمره وارتكب ما زجر عنه .

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا من خير يعلمه الله وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)

" الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ " عن أبن عباس أنه لايصح الاحرام بالحج الا فى أشهره ولا يصح قبلها كميقات الصلاة ، وعن جابر عن النبى أنه قال : " لا ينبغى لأحد أن يحرم بالخج الا فى أشهر الحج " وقال البخارى قال أبن عمر هى شوال وذو القعدة وعشر من ذى الحجة ، " فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ "  أى أوجب باحرامه حجا " "  فَلَا رَفَثَ " أى من أحرم بالحج أو العمرة فليتجنب الرفث وهو الجماع كما قال تعالى " أحل لكم ليلة الصيام الرفث الى نسائكم " وكذلك يحرم تعاطى دواعيه من المباشرة والتقبيل ونحو ذلك وكذلك التكلم به بحضرة النساء ، وكان عبد الله بن عمر يقول " الرفث اتيان النساء والتكلم بذلك للرجال والنسائ اذا ذكروا ذلك بأفواههم ، " وَلَا فُسُوقَ " قال أبن عباس هى المعاصى وقال عبد الله بن عمر الفسوق اتيان معاصى الله فى الحرم ةقيل السباب استنادا لحديث النبى : " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " ، " وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ " أشهر الخج ليس فيها جدال بين الناس وعن عكرمة قال الجدال الغضب أن تغضب عليك مسلما ، قال رسول الله : " من قضى نسكه وسلم المسلمون من لسانه ويده غفر ما تقدم من ذنبه " ، " وَمَا تَفْعَلُوا من خير يعلمه الله " لما نهاهم عن القبيح قولا وفعلا حثهم على فعل الجميل وأخبرهم أنه عالم به وسيجزيهم عليه أوفر الجزاء يوم القيامة ، " وَتَزَوَّدُوا " عن أبن عباس أن ناسا كانوا يحجون بغير زاد فأنزل الله الآية فنهو عن ذلك وأمروا أن يتزودوا زاد مثل الدقيق والسويق والكعك ، " فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى " لما أمرهم بالزاد للسفر فى الدنيا أرشدهم الى زاد الآخرة وهو استصحاب التقوى وعن جرير بن عبد الله قال عن النبى قال : " من يتزود فى الدنيا ينفعه فى الآخرة ، " وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ " واتقوا عقابى ونكالى وعذابى لمن خالفنى ولم يأتمر بأمرى ياذوى العقول والأفهام .

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)

" لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ " عن أبن عباس قال كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا فى الجاهلية فتأثموا أن يتجروا فى موسم الحج فنزلت الآية فى مواسم الحج ، كانوا يتقون البيوع والتجارة فى الموسم والحج يقولون أيام ذكر فنزلت الآية ، وقال أبن عباس أيضا لا حرج عليكم فى الشراء والبيع قبل الاحرام وبعده ، " فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ " قال رسول الله : " الحج عرفات ثلاثا فمن أدرك عرفه قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك ، وأيام منى ثلاثة فمن تعجل فى يومين فلا اثم عليه ومن تأخر فلا اثم عليه " ووقت الوقوف من الزوال يوم عرفة الى طلوع الفجر الثانى من يوم النحر ، والوقفة بعرفة حتى تغرب الشمس ةتبدو الصفرة قليلا حتى يغيب قرص الشمس يأتى المزدلفة فيصلى بها المغرب والعشاء بأذآن واحد واقامتين ويبيت حتى يطلع الفجر فيصلى ثم يتوجه الى المشعر الحرام ،" فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ " وهى الصلاتين ، وقال أبن عمر المشعر الحرام المزدلفة كلها ،والمشاعر هى المعالم الظاهرة وانما سميت المزدلفة المشعر الحرام لأنها داخل الحرم قال رسول الله : " عرفة كلها موقف وارفعوا عن عرنة وجمع كاها موقف الا محسرا " وقال : " عرفة كلها موقف وارفعوا عن عرنة وكل مزدلفة موقف وارفعوا عن بطن محسر وكل فجاج منى منحر وكل أيام التشريق ذبح " ، " وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ " تنبيه لهم على ما أنعم الله به عليهم من الهداية والبيان والارشاد الى مشاعر الحج على ما كان عليه من الهداية ابراهيم عليه السلام ولهذا قال " وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ " قيل من قبل هذا الهدى وقيل القرآن وقيل الرسول والكل متقارب ومتلازم وصحيح .

 ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)

" ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ " أمر تعالى الواقف بعرفات أن يتوجه الى المزدلفة ليذكر الله عند المشعر الحرام وأمره أن يكون وقوفه مع جمهور الناس بعرفات كما كان جمهور الناس يصنعون يقفون بها الا قريشا فانهم لم يكونوا يخرجون من الحرم فيقفون فى طرف الحرم  عند أدنى الحل ويقولون نحن أهل الله فى بلدته وقطان بيته ، وعن عائشة رضى الله عنها قالت كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس وسائر العرب يقفون بعرفات فلما جاء الاسلام أمر الله نبيه محمد أن يأتى عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها ، وعن أبن عباس أن المراد الافاضة من المزدلفة الى منى لرمى الجمار ، " وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " كثيرا ما يأمر الله بذكره بعد قضاء العبادات فقد ثبت فى الصحيح أن رسول الله كان اذا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثلاثا وأحاديث الاستغفار كثيرة ففى البخارى عن شداد بن أوس قال قال رسول الله سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربى لا اله الا أنت خلقتنى وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبى فاغفر لى فانه لا يغفر الذنوب الا أنت " .

 فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)

" فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا " يأمر الله تعالى بذكره والاكثار منه بعد قضاء المناسك " كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ " وعن أبن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يقفون فى الموسم فيقول الرجل منهم كان أبى يطعم ويحمل الحمالات ويحمل الديات ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم فأنزل الله الآية والمقصود منه الحث على كثرة الذكر لله عز وجل ، وقوله أشد ذكرا على التمييز ولتحقيق المماثلة فى الخبر كقوله " فهى كالحجارة أو أشد قسوة " وقوله " فكان قوسين أو أدنى " ، وذم الله من لا يسأله الا فى دنياه وهو معرض عن أخراه فقال " فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ " أى من نصيب وتضمن هذا الذم والتنفير عن التشبه بمن هو كذلك أى من الناس من يريد أن يتنعم بالدنيا ويكون له نصيب كبير فيها من نعيمها وليس لهم فى الآخرة من نصيب الا جهنم عكس المؤمنين فيقولون " وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " المؤمنون يريدون حسنة الدنيا التى شرعها الله وحسنة الآخرة وهى الجنة ونعيمها فجمعت هذه الدعوة كل خير فى الدنيا وصرفت كل شر فان كل حسنة فى الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوى من عافية ودار رحبة وزوجة حسنة ورزق واسع وعلم نافع وعمل صالح الى غير ذلك وأما الحسنة فى الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر وتيسير الحساب والنجاة من النار ، " أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ " أولئك أى من يريد الدنيا ويعمل لها ولا يعمل للآخرة والمؤمنون الذين يتوازنون بين الدنيا والآخرة كل له نصيبه حسب عمله ويكون الحساب من الله وهو سريع الحساب  حسابه عاجل فى الدنيا والآخرة .

 وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

" وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ " قال أبن عباس الأيام المعدودات أيام التشريق والأيام المعلومات أيام العشر والذكر التكبير فى أيام التشريق بعد الصلوات المكتوبات ، وقال رسول الله : " يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الاسلام وهى أيام أكل وشرب وذكر الله " ، وعن عائشة رضى الله عنها قالت : نهى رسول الله عن صوم أيام التشريق قال " وهى أيام أكل وشرب وذكر الله " ، الأيام المعدودات أيام التشريق أربعة أيام – يوم النحر وثلاثة بعده " ذكر الله على الاضاحى ومذهب الشافعى أن وقت الاضحية من يوم النحر الى آخر أيام التشريق ، ويتعلق به أيضا الذكر المؤقت خلف الصلوات والمطلق فى سائر الأحوال وفى وقته ، ويتعلق بذلك التكبير وذكر الله عند رمى الجمرات كل يوم من أيام التشريق ، وجاء فى الحديث الذى رواه أبو داود وغيره انما جعل الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة ورمى الجمار لاقامة ذكر الله عز وجل ، ولما ذكر الله تعالى تفرق الناس من موسم الحج ، " فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ِلمَنِ اتَّقَى " الى سائر الأقاليم والآفاق بعد اجتماعهم فى المشاعر والمواقف وطالبهم بالتقوى والحشر فى الآخرة " وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ " .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)

" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ " قال السدى نزلت فى الأخنس بن شريق الثقفى جاء الى رسول الله وأظهر الاسلام وفى باطنه خلاف ذلك وقال أبن عباس نزلت فى نفر من المنافقين تكلموا فى خبيب وأصحابه الذين قتلوا بالرجيع وعابوهم فأنزل الله فى ذم المنافقين ومح خبيب وأصحابه " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ "والمعنى "ُيعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " أى يظهر للناس الاسلام ، " وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ " ويبارز الله بما فى قلبه من الكفر والنفاق ، " وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ " وهو من أشد المعاندين لله وطاعته، الألد فى اللغة الأعوج كما قال " وتنذر به قوما لدا " أى عوجا وهكذا المنافق فى حال خصومته يكذب ويزور عن الحق ولا يستقيم معه بل بفترى ويفجر وعن عائشة عن النبى قال : " ان أبغض الرجال الى الله الألد الخصم " ، " وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ "أى هو أعوج المقال سىء الفعال كلامه كذب واعتقاده فاسد وأفعاله قبيحة والسعى هنا هو القصد كما قال فرعون " ثم أدبر يسعى فحشر فنادى " وقوله " فاسعوا الى ذكر الله " أى اقصدوا واعمدوا ناوين الصلاة ، فهذا المنافق ليس له همة الا الفساد فى الأرض واهلاك الحرث وهو محل نماء الزروع والثمار والنسل وهو نتاج الحيوانات الذين لا قوام للناس الا بهما ، " وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ " أى لا يحب من هذه صفته ولا من يصدر منه ذلك ، " وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ " أى اذا وعظ هذا الفاجر فى مقاله وفعاله وقيل له اتق الله وأنزع عن قولك وفعلك وارجع الى الحق امتنع وأبى وأخذته الحمية والغضب بالاثم وهذا شبيه بقوله " ةاذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف فى وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا ---" ، " فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ " أى أن جهنم هى كافيته فى ذلك ، " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ " قال أبن عباس نزلت فى صهيب بن سنان الرومى ذلك أنه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة الى المدينة منعه الكفار من ذلك من أن يهاجر بماله وان أحب أن يتجرد منه ويهاجر فأعطاهم ماله وتخلص منهم فأنزل الله فيه هذه الآية فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة فقالوا له ربح البيع وأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية ، وكان نفر من قريش قد تبعه فنزل عن راحلته وانثل ما فى كنانته وقال لهم : يا معشر قريش قد علمتم أنى من أرماكم رجلا وأنتم والله لا تصلون الى حتى أرمى بكل سهم فى كنانتى ثم أضرب بسيفى ما بقى فى يدى منه شىء ثن افعلوا ما شئتم وان شئتم دللتكم على مالى وقنيتى بمكة وخليتم سبيلى قالوا نعم فلما قدم على النبى " ربح البيع " ، والأكثرون قالوا أنها نزلت فى كل مجاهد فى سبيل الله كم قال " ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا فى التوراة والانجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم " .

 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ " يقول الله تعالى آمرا عباده المؤمنين به المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى للاسلام وشرائعه والعمل بجميع أوامره وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك وعن أبن عباس قال " أدخلوا فى السلم " يعنى الاسلام وقال كذلك يعنى الطاعة " كافة " أى بجميع الأعمال وو جوه البر أى اعملوا بذلك ، " وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ " أى اعملوا بالطاعات واجتنبوا ما يأمركم به الشيطان فانما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ، وانما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ولهذا قال " إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ" ، " فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ " أى عدلتم عن الحق بعدما قامت عليكم الحجج " فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " فاعلموا أن الله عزيز أى فى انتقامه لا يفوته هارب ولا يغلبه غالب حكيم فى أحكامه ونقضه وابرامه .

 هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)

" هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ " يقول تعالى مهددا الكافرين بيوم القيامة وعن عبد الله بن عمر قال يهبط الله وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب منها النور والظلمة والماء وعن مجاهد قالهو غير السحاب ولم يكن قط الا لبنى اسرائيل فى تيههم حين تاهوا ، وعن أبى العالية يقول والملائكة يجيئون فى ظلل من الغمام والله تعالى يجىء فيما يشاء وكقوله " ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا " وذلك يوم القيامة لفصل القضاء بين الأولين والآخرين فيجزى كل عامل بعمله ان خيرا فخير وان شرا فشر ولهذا قال تعالى " وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ" كما قال " كلا اذا دكت الأرض دكا دكا * وجاء ربك والملائكةو صفا صفا * وجىء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الانسان وأنى له الذكرى " وذكر الامام أبو جعفربن جرير حديث طويل عن أبى هريرة عن رسول الله وهو حديث مشهور – أن الناس اذا اهتموا لموقفهم فى العرصات تشفعوا الى ربهم بالأنبياء واحدا واحدا من من آدم فمن بعده فكلهم يحيد عنها حتى ينتهوا الى محمد فاذا جاءوا اليه قال " أنا لها أنا لها " فيذهب فيسجد لله تحت العرش ويشفع عند الله فى أن يأتى لفصل القضاء بين العباد فيشفعه الله ويأتى فى ظل من الغمام بعد ما تنشق السماء الدنيا وينزل من فيها من الملائكة ثم الثانية ثم الثالثة الى السابعة وينزل حملة العرش والكروييون قال وينزل الجبار عز وجل فى ظلل من الغمام والملائكة ولهم زجل من تسبيحهم يقولون " سبحان ذى الملك والملكوت سبحان ذى العزة والجبروت ، سبحان الحى الذى لايموت ، سبحان الذى يميت الخلائق ولا يموت ، سبوح قدوس ، رب الملائكة والروح ، سبوح قدوس سبحان ربنا الأعلى ، سبحان ذى السلطان والعظمة سبحانه سبحانه أبا أبدا .

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)

" سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ" يقول تعالى مخبرا عن بنى اسرائيل كم شاهدوا مع موسى عليه النظام من آية بينة أى حجة قاطعة بصدقه فيما جاءهم به كيده وعصاة وفلقه البحروما كان من تظليل الغمام عليهم فى شدة الحر ومن انزال المن والسلوى وغيرذلك من الآيات الدالات على وجود الفاعل المختار وصدق من هذه الخوارق على يديه ، "وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ "ومه هذا أعرض كثير منهم وبدلوا نعمة الله كفرا أى استبدلوا بالايمان بها الكفر بها والاعراض عنها ولذلك على فعلهم هذا يتعرضون لعقاب الله الشديد وبخاصة فى الآخرة كما قال عن كفار قريش " ألم تر الى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار " ، " زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا " أخبر تعالى عن تزيينه الحياة الدنيا للكافرين الذين رضوا بها ولطوأنوا اليها وجمعوا الأموال ومنعوها عن مصارفها التى أمروا بها ، "  وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا " وسخروا من الذين آمنوا الذين أعرضوا عنها وأنفقوا ما حصل لهم منها فى طاعة ربهم وبذلوه ابتغاء وجه الله ، " وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " ولهذا فازوا بالمقام الأسعد والحظ الأوفر يوم معادهم فكانوا فوق أوائك فى محشرهم ومنشرهم ومسيرهم ومأواهم فاستقروا فى الدرجات فى أعلى عليين وخلد أولئك الكفار فى الدركات فى أسفل سافلين ولهذا قال تعالى " وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ " أى يرزق من يشاء من خلقه ويعطيه عطاءا كثيرا جزيلا بلا حصر ولا تعداد فى الدنيا والآخرة ، فى مسند أحمد عن النبى أنه قال " الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له " .

 كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

" كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً " قال أبن جرير عن أبن عباس قال بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام فبعث الله اليهم نوحا عليه السلام فكان أول رسول بعثه الله الى أهل الأرض ، " فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا َيْنَهُمْ " بعث الله النبيين مبشرين بما أعده الله من جنة لمن اتبع نهجه ومنذرين من عذاب النار لمن خالف شرع الله وكفر بما أنزل الله وأنزل الله الكتب مع النبيين لهداية البشر والكتاب اسم عين وتكون حكما للخلاف بين الناس لأن شرع الله واحد والأنبياء شرعهم واحد ولكن الناس اختلفوا وما حملهم على ذلك الا البغى من بعضهم على بعض فاختلفوا فى يوم الجمعة فاتخذ اليهود يوم السبت والنصارى يوم الأحد واختلفوا فى الصلاة فمنهم من يركع ولا يسجد ومنهم من يسجد ولا يركع ومنهم من يصلى وهو يتكلم ومنهم من يصلى وهو يمشى واختلفوا فى الصيام فمنهم من يصوم بعض النهار ومنهم من يصوم عن بعض الطعام واختلفوا فى ابراهيم عليه السلام فقالت اليهود كان يهوديا وقالت النصارى كان نصرانيا واختلفوا فى عيسى عليه السلام فكذبت به اليهود وقالوا لأمه بهتانا عظيما وجعلته النصارى الها وولدا ، " فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " قال النبى : " نحن الآخرون الأولون يوم القيامة نحن أول الناس دخولا الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق باذنه فهذا اليوم الذى اختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع فغدا لليهود وبعد غد للنصارى ، وقال أبن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه فى قوله " فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ " فاختلفوا فى يوم الجمعة فاتخذ اليهود يوم السبت والنصارى يوم الأحد فهدى الله أمة محمد ليوم الجمعة وقال الربيع بن أنس فى ذلك أى عند الاختلاف أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف أقاموا على الاخلاص لله عز وجل وحده وعبادته لا شريك له واقام الصلاة وايتاء الزكاة فأقاموا على الأمر الأول الذى كان قبل الاختلاف وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة شهداء على قوم نوح وهود وصالح وشعيب وآل فرعون أن رسلهم قد بلغوهم وأنهم قد كذبوا رسلهم ، " وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ " أى من خلقه " إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " أى وله الحكمة والحجة البالغة وعن عائشة أن رسول الله كان اذا قام من الليل يصلى يقول : " اللهم رب جبريل وميكائيل واسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا يختلفون اهدنى لما اختلف فيه من الحق باذنك انك تهدى من تشاء الى صراط مستقيم " .

 أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)

" أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ " أى حسبتم أن تدخلوا الجنة قبل أن تبتلوا وتختبروا وتمتحنوا " وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ " كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم أو سنتهم كما قال تعالى " فاهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين "، " مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ " وهى الأمراض والأسقام والآلام والمصائب والنوائب وقال أبن عباس وآخرون " البأساء " الفقر و"الضراء"السقم ، " وَزُلْزِلُوا " خوفا من الأعداء زلزالا شديدا وامتحنوا امتحانا عظيما ، " حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ " أى يستفتحون على أعدائهم ويدعون بالفرج والمخرج عند ضيق الحال وقد حصل من هذا جانب عظيم للصحابة رضى الله عنهم فى يوم الأحزاب ، وعن خباب بن الأ رت قال : قلنا يا رسول الله ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا فقال : " ان من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص الى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ويمشط أمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه " .

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

" يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ " يسألونك كيف ينفقون ؟ ، " قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ" قال أبن عباس فبين لهم تعالى أن يصرفوها للوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وهذه مواضع النفقة كما جاء فى الحديث " أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك " وقال السدى نسختها الزكاة ، " وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ " أى مهما صار منكم من فعل معروف فان الله يعلمه وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء فانه لا يظلم أحدا مثقال ذرة .

 كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)

" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ " هذا ايجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين أن يكفوا شر الأعداء عن حوزة الاسلام ، وثبت فى الصحيح " من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بغزو مات ميتة جاهلية " ، " وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ " أى شديد عليكم ومشقة وهو كذلك فانه اما أن يقتل أو يجرح مع مشقة السفر ومجالة الأعداء ،" وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ " أى لأن القتال يعقبه النصر والظفر على الأعداء والاستيلاء عليهم ، " وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ " وهذا عام فى الأمور كلها قد يحب المرء شيئا وليس فيه خيرة ولا مصلحة ومن ذلك القعود عن القتال قد يعقبه استيلاء العدو على البلاد والحكم ، " وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " أى هو أعلم بعواقب الأمور منكم وأخبر بما فيه صلاحكم فى دنياكم وأخراكم فاستجيبوا له وانقادوا لأسره لعلكم ترشدون  .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

" يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ " عن أبن عباس أن رسول الله بعث سرية وكانوا سبعة نفر عليهم عبد الله بن جحش الأسدى وكتب له كتابا وأمره أن لا بقرأه حتى ينزل بطن نخلة فسار الى بطن نخلة فلقوا أبن الحضرمى فقتلوه ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب فقال المشركون للمسلمين قتلتم فى الشهر الحرام فأنزل الله الآية ورد على الكافرين بقوله وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل فى الشهر الحرام حين كفرتم بالله وصددتم عن محمد ﷺ وأصحابه واخراج أهل المسجد الحرام منه حين أخرجوا محمد ﷺ وأصحابه أكبر من القتل عند الله فقال " قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ " أى قد كانوا يفتنون المسلم فى دينه حتى يردوه الى الكفر بعد ايمانه فذلك أكبر عند الله من القتل ، " وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " لما مضى عبد الله بن جحش الأسدى فى طريقه تخلف عنه سعد بن أبى وقاص وعتبه بن غزوان السلمى أضلا راحلة لهما يطلبانها بنجران بالحجاز وكانا يتعقبانه فتخلفا فى طلبه ونزل عبد الله نخلة فمرت به عير لقريش تحمل زيتا وأدما وتجارة من قريش فيها عمرو بن الحضرمى تشجع المسلمون وأقدموا عليهم فرمى وافد بن عبد الله التيمى عمرو بن الحضرمى بسهم فقتله واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان وافلت القوم وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله ﷺ ولم يكونوا يدرون أن ذلك اليوم من رجب وعنفهم المسلمون فيما صنعوا وقالت قريش أن محمد ﷺ قد استحل الشهر الحرام وسفكوا الدم وأخذوا الأموال وأسروا الرجال فلما نزلت الآية وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشدة قبض الرسول ﷺ العير والأسيرين وبعثت قريش فى فداء عثمان بن عبد الله والحكم بن الكيسان فقال رسول الله ﷺ لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا يعنى سعد وعتبه فانا نخشاكم عليهما أن تقتلوهما نقتل صاحبكم " فقدما ففداهما لكن الحكم بن كيسان أسلم وأقام عند رسول الله ﷺ حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافرا ، قال أبن اسحاق : لما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كان حين نزل القرآن طمعوا فى الأجر فقالوا يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين فأنزل الله عز وجل " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ".

 يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

" يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا " قال أبن عمر وآخرون أن هذه أول آية نزلت فى الخمر ثم نزلت الآية فى سورة النساء " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " ثم نزلت الآية فى سورة النساء " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " ثم نزلت الآية التى فى المائدة فحرمت الخمر " انما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون " والخمر كما قال عمر رضى الله عنه كل ما خامر العقل والميسر وهو القمار ، قال الامام أحمد أن عمر رضى الله عنه قال اللهم بين لنا فى الخمر بيانا شافيا فنزلت هذه الآية التى فى سورة البقرة " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا " فدعى عمر فقرئت عليه فقال اللهم بين لنا فى الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التى فى النساء" يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" فكان منادى رسول الله اذا أقام الصلاة نادى أن لا يقربن الصلاة سكران فدعى عمر فقرئت عليه فقال : " اللهم بين لنا فى الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التى فى المائدة " انما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعاكم تفلحون " فدعى عمر فقرئت عليه فلما بلغ " فهل أنتم منتهون ؟ " قال عمر انتهينا انتهينا ، وزاد أبن أبى حاتم" انها تذهب المال وتذهب العقل ، " قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ " أما اثمهما فهو فى الدين وأما المنافع فدنيوية من حيث بيع الخمر والانتفاع بثمنها وما كان يقمشه بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله ولكن هذه المصالح لا توازى مضرته ومفسدته الراجحة لتعلقها بالعقل والدين ، " وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا" ولهذا كانت هذه الآية ممهدة لتحريم الخمرعلى البتات ولم تكن مصرحة بل معرضة ولهذا قال عمر رضى الله عنه لما قرئت عليه : اللهم بين لنا فى الخمر بيانا شافيا حتى نزل التصريح بتحريمها فى سورة المائدة " يا أيها الذين آمنوا انما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * انما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون " ، " وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ " أتى معاذ بن جبل وثعلبة رسول الله فقالا : يارسول الله ان لنا أرقاء وأهلين من أموالنا فأنزل الله " وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ" " قُلِ الْعَفْوَ " يعنى الفضل أو ما يفضل عن أهلك ، وعن الربيع هو أفضل مالك وأطيبه ، وعن الحسن قال لايجهد مالك ثم تقعد تسأل الناس ، وعن جابر أن رسول الله قال لرجل : " ابدأ بنفسك فتصدق عليها فان فضل شىء فلأهلك فان فضل شىء من أهلك فلذى قرابتك فان فضل عن ذى قرابتك شىء فهكذا وهكذا " وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله : " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى واليد العليا خير من السفلى وابدأ بمن تعول " ، وقيل أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة ،" كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ " أى كما فصل لكم هذه الأحكام وبينها وأوضحها كذلك يبين لكم سائر الآيات فى أحكامه ووعده ووعيده لعلكم تتفكرون فى الدنيا والآخرة ، وقال الحسن هى والله كمن تفكر فيها ليعلم أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء ويعلم أن الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء ، " وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " قال جريرعن أبن عباس قال لما نزلت " ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتى هى أحسن " و"ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما انما يأكلون فى بطونهم نارا وسيصلون سعيرا" انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضله له الشىء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله فأنزل الله الآية فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم ، " قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ " تركه على حدة أى ترك مالهم على حدة ، " وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ " أى وان خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم فلا بأس عليكم لأنهم اخوانكم فى الدين ولهذا قال " وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"أى ولو شاء الله لضيق عليكم وأحرجكم ولكنه وسع عليكم وخفف عنكم وأباح لكم مخالطتهم بالتى هى أحسن فالله له العزة وله الحكمة.  

 وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

" وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ " هذا تحريم من الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوجوا من المشركات من عبدة الأوثان ويدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب واستثنى من ذلك نساء أهل الكتاب المراد بذلك المشركون من عبدة الأوثان وقد نكح طلحة بن عبد الله يهودية ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية فغضب عمر بن الخطاب وقال : لا أزعم أنها حرام ولكنى أخاف أن تعاطوا المؤمنات منهن ، وكره عمر ذلك لئلا يزهد الناس فى المسلمات ، وقال رسول الله : " نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا " ، " وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ " قال السدى نزلت فى عبد الله بن رواحة كانت له أمة سوداء فغضب عليها فلطمها ثم فزع فأتى رسول الله فأخبره خبرهما فقال له : " ما هى " قال : تصوم وتصلى وتحسن الوضوء وتشهد أن لا اله الا الله وأنك رسول الله " فقال : يا أبا عبد الله هذه مؤمنة " فقال : والذى بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها " ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا : نكح أمته وكانوا يريدون أن ينكحوا الى المشركين وينكحوهم رغبة فى أحسابهم فأنزل الله " وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ " وعن عبد الله بن عمر عن النبى قال : " لا تنكحوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن ولا تنكحوهن على أمواهن فعسى أموالهن أن تطغيهن وانكحوهن على الدين فلأمة سوداء جرداء ذات دين أفضل " ، وقال : " تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك " ، " وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ "ينهى الله المسلمين عن أن يزوجوا المشركين النساء المؤمنات  لحسبهم حتى يسلموا وفضل الله العبد المؤمن خير من المشرك ولو كان له حسب ونسب ولرجل مؤمن ولو كان عبدا حبشيا خير من مشرك وان كان رئيسا ، " أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ " أى معاشرتهم ومخالطتهم تبعث على حب الدنيا واقتنائها وايثارها على الدار الآخرة وعاقبة ذلك وخيمة "وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ " أى بشرعه وما أمر به ونهى عنه ، " وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ " الله يوضح الآيات للناس حتى يتذكرون ما أمر به ونهى عنه " وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين " .

 وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ 222) ِنسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

" وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ " قال الامام أحمد عن أنس أن اليهود كانت اذا حاضت المرأة منهن لم يواكلوها ولم يجامعوها فى البيوت فسأل أصحاب النبى النبى فأنزل الله عز وجل الآية ، " قال رسول الله : " اصنعوا كل شىء الا النكاح " ،" فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ "يعنى النكاح فى الفرج ، يجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج ، وعن معاذ بن جبل قال سألت رسول الله عما يحل لى من امرأتى وهى حائض قال : ما فوق الازار والتعفف عن ذلك أفضل " ، " فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ " ونهى عن قربانهن بالجماع ما دام الحيض موجودا ومفهومه حله اذا انقطع ، " فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ " فيه ندب وارشاد الى غشيانهن بعد الاغتسال وذهب أبن حزم الى وجوب الجماع بعد كل حيضة وقد اتفق العلماء على أن المرأة اذا انقطع حيضها لا تحل حتى تغتسل بالماء أن تتيمم ان تعذر ذلك عليها بشرطه ، "حَتَّى يَطْهُرْنَ " أى من الدم ، " فَإِذَا تَطَهَّرْنَ " أى بالماء ، " فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ " أى أأتوهن من الفرج ولا تعدوه الى غيره فمن فعل شيئا من ذلك فقد اعتدى وفيه دلالة على تحريم الوظء فى الدبر ،" إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ  " أى من الذنب وان تكرر غشيانه ، " وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ " المتنزهينعن الأقذار والأذى وهو ما نهوا عنه من اتيان الحائض أو فى غير المأتى ، " ِنسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ"قال أبن عباس الحرث موضع الولد ، "  فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ " أى كيف شئتم مقبلة ومدبرة فى صمام واحد ، قال رسول الله : " استحيوا ان الله لا يستحيى من الحق لا يحل أن ـاتوا النساء فى حشوشهن " أى فى الدبر ، وعن خزيمة أن رسول الله نهى أن يأتى الرجل امرأته فى دبرها ، وقال الامام أحمد عن خزيمة أن رسول الله قال : " استحيوا ان الله لا يستحيى من الحق لا تأتوا النساء فى اعجازهن " رواه النسائى وأبن ماجه ، وعن أبن عباس قال قال رسول الله : " لا ينظر الله الى رجل أتى رجلا أو امرأة فى الدبر " ، وعن أبى هريرة قال قال رسول الله : " ملعون من أتى امرأة فى دبرها " ، وعن أبن مسعود عن النبى قال : " محاش النساء حرام ، "  وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ " أى من فعل الطاعات مع امتثال ما أنهاكم عنه من ترك المحرمات ولهذا قال " وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ " واتقوا الله واعلموا أنه سيخاسبكم على أعمالكم جميعها ، " وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ " أى وبشر المؤمنين المطيعين لله فيما أمرهم التاركين ما عنه زجرهم .

 وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)

" وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " لاتستمروا على اليمين واخرجوا منها بالتكفير وعن أبن عباس قال لا تجعلن عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير وما ثبت فى الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه قال قال رسول الله : " انى والله ان شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خير منها الا أتيت الذى هو خير وتحللتها " ، وروى مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله قال : " من حلف على يمين فرأى غيرها خير منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذى هو خير " ، وعن عائشة رضى الله عنها قالت قال رسول الله : " من حلف على يمين قطيعة رحم أو معصية فبره أن يحنث فيها ويرجع عن يمينه " ، " لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ" أى لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من الايمان اللاغية وهى التى لا يقصدها الحالف بل تجرى على لسانه عادة من غير تفقيد وتأكيد " وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ " الله يحاسبكم على اليمين المتعمد ،وفى أخرى " بما عقدتم الايمان " ، وعن عائشة رضى الله عنها قالت هم القوم يتدارؤون فى الأمر فيقول هذا لا واله وبلى والله وكلا والله يتدارؤن فى الأمر لا تعقد عليه قلوبهم ، وعن عروة قال كانت عائشة تقول انما اللغو فى المزاحة والهزل وهو قول الرجل لا والله وبلى والله فذاك لا كفارة فيه انما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله ثم لا يفعله ، " وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ" هو أن يحلف على الشىء وهو يعلم أنه كاذب كما فى قوله " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان " ، " وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ " أى غفور لعباده حليم عليهم .

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)

" لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ  " الايلاء الحلف فاذا حلف الرجل أن لا يجامع زوجته مدة فلا يخلو اما أن يكون أقل من أربعة أشهر أو أكثر منها فان كانت أقل فله أن ينتظر انقضاء المدة ثم يجامع امرأته وعليها أن تصبر وليس لها مطالبته بالفيئة فى هذه المدة وهذا كما ثبت فى الصحيحين الايلاء الحلف على ترك الجماع ، " تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ" أى ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف ثم يوقف ويطالب بالفيئة أى الجماع ، " فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " لما سلف من التقصير فى حقهن بسبب اليمين ، " وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " عن عبد الله بن عمر قال اذا آلى الرجل من امرأته لم يقع عليها طلاق وان مضت أربعة أشهر حتى يوقف فاما أن يطلق واما أن يفىء " وأخرجه البخارى ، ويقول أبن عباس وكثير من الصحابة والفقهاء ان لم يفىء ألزم بالطلاق فان لم يطلق طلق عليه الحاكم والطلقة تكون رجعية له رجعتها فى العدة .

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)

" وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ " هذا أمر من الله سبحانه وتعالى للمطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء بأن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ثم تتزوج ان شاءت وقال أبن أبى حاتم أن أسماء بنت يزيد أبن السكن الأنصارية قالت طلقت على عهد رسول الله ولم يكن للمطلقة عدة فأنزل الله عز وجل حين طلقت أسماء العدة  للطلاق فكانت أول من نزلت فيها العدة للطلاق بمنى ، " وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ " قيل الاقراء هو الاطهار واستدلوا بقوله تعالى " فطلقوهن لعدتهن " أى فى الاطهار ، وقال أبن جرير أصل القرء فى كلام العرب الوقت لمجىء الشىء المعتاد مجيئه فى وقت معلوم ، وقال أبو عمرو بن العلاء العرب تسمى الحيض قرأ ، " وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ " أى من حبل أو حيض ، " إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ " تهديد لهن لأن المرجع فى هذا اليهن لأنه أمر لا يعلم الا من جهتهن ويتعذر اقامة البينة غالبا على ذلك فرد الأمر اليهن وتوعدن فيه لئلا يخبرن بغير الحق اما استعجالا منها لانقضاء العدة أو رغبة منها فى تطويلها لما لها فى ذلك من المقاصد فأمرت أن تخبر بالحق فى ذلك من غير زيادةأو نقصان ، " وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا " أى وزوجها الذى طلقها أحق بردها مل دامت فى عدتها اذا كان مراده بردها الاصلاح والخير وهذا فى الرجعيات فأما المطلقات البوائن فلم يكن حال نزول هذه الآية مطلقة بائن وانما كان ذلك لما حصروا فى الطلاق الثلاث فأما حال نزول هذه الآية فكان الرجل أحق برجعة امرأته وان طلقها مائة مرة فلما قصروا فى الآية التى بعدها على ثلاث تطليقات صار للناس مطلقة بائن وغير بائن ، " وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ " أى ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن فليؤد كل واحد منهما الى الآخر ما يجب عليه بالمعروف " وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ  " أى فى الفضيلة والخلق والمنزلة وطاعة الأمر والانفاق والقيام بالمصالح والفضل فى الدنيا والآخرة كما قال " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم " ، "وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " أى عزيز فى انتقامه ممن عصاه وخالف أمره حكيم فى أمره وشرعه وقدره .

الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)

" الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ " هذه الآية دافعة لما كان عليه الأمر فى ابتداء الاسلام من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وان طلقها مائة مرة فى العدة فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم الله على ثلاث طلقات وأباح الرجعة فى المرة ةالثنتين وأبانها بالكلية فى الثالثة ، وقال أبن حاتم عن هشام بن عروة عن أبيه أن رجلا قال لأمرأته لا أطلقك أبدا قالت : وكيف ذلك ؟ قال : أطلق حتى اذا دنا أجلك راجعتك " فأتت رسول الله فذكرت ذلك فأنزل الله " الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ " ، عن عائشة قالت : " لم يكن للطلاق وقت ، يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة وكان بين رجل من الانصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس فقال : " والله لأتركنك لا أيما ولا ذات زوج فجعل يطلقها حتى اذا كادت العدة أن تنقضى راجعها ففعل ذلك مرارا فأنزل الله الآية " الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ " فوقت الطلاق ثلاثا لارجعة فيه بعد الثالثة حتى تنكح زوجا غيره ،" فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ " أى اذا طلقها واحدة أم أثنتين فهو مخير فيها ما دامت عدتها باقية بين أن تردها اليك ناويا الاصلاح بها والاحسان اليها وبين أن تتركها حتى تنقضى عدتها فتبين منك وتطلق سراحها محسنا اليها لا تظلمها من حقها شيئا ولا تضار بها " ، " وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا " أى لايحل لكمأن تضاجروهن وتضيقوا عليهن ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من الأصدقة أو ببعضه ، " إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ "فأما اذا لم يكن لها عذر وسألت الافتداء منه ، قال رسول الله : " أيما امرأة سألت زوجها طلاقها فى غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة " ، قال رسول الله المختلعات هن المنافقات " وعن أبن عباس أن رسول الله قال : " لا تسأل امرأة زوجها الطلاق فى غير كنهة فتجد ريح الجنة وان ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما " ، وقال طائفة كثيرة من السلف وأئمة الخلف أنه لا يجوز الخلع الا أن يكون الشقاق والنشوذ من جانب المرأة فيجوز للرجل حينئذ قبول الفدية واحتجوا بقوله تعالى " وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ " وذهب الشافعى الى أنه يجوز الخلع فى حال الشقاق وعند الاتفاق ، قال الامام مالك ان هذه الآية نزلت فى شأن ثابت بن قيس بن شماس وامرأته حبيبة بنت عبد الله بن أبى بن سلول قالت أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس فضربها فانكسر بعضها وأن رسول الله خرج الى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه فى الغلس فقال رسول الله : من هذه ؟ قلت : أنا حبيبة بنت سهل " فقال رسول الله : ما شأنك " فقالت : لا أنا ولا ثابت بن قيس " فلما جاء ثابت بن قيس قال له رسول الله : هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر " فقالت حبيبة : " يا رسول الله كل ما أ‘طانى عندى " فقال رسول الله : خذ منها " فأخذ منها وجلست فى أهلها " ، وعن عائشة رضى الله عنها أن حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس فضربها فانكسر بعضها فأتت رسول الله بعد الصبح فاشتكته اليه فدعا رسول الله ثابتا فقال :" خذ بعض مالها وفارقها " قال : " ويصلح ذلك يا رسوا الله ؟ " قال : " نعم " قال : " انى أصدقتها حديقتين فهما بيدها " فقال النبى : " خذهما وفارقها " ففعل " وفى رواية أخرى لأبن جرير أن جميلة بنت عبد الله ابن أبى بن سلول كانت تحت ثابت بن قيس فنشزت عليه فأرسل اليها النبى فأرسا اليها النبى فقال : " يا جميلة ما كرهت من ثابت ؟ " قالت : والله ما كرهت منه دينا ولا خلقا الا أنى كرهت دمامته " فقال لها : " أتردين عليه الحديقة ؟ " قالت : " نعم " فردت الحديقة وفرق بينهما " ، " فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ " قال أصحاب أبى حنيفة ان كان الاضرار من قبلها جاز أن يأخذ منها ما أعطاها ولا يجوز الزيادة عليه فان ازداد جاز فى القضاء وان كان الاضرار من جهته لم يجز أن يأخذ منها شيئا فان أخذ جاز فى القضاء ، ذهب أبن عباس الى أن الخلع ليس بطلاق وانما هو فسخ ، وللشافعى قول آ×ر فى الخلع وهو أنه متى لم يكن بلفظ الطلاق وعرى عن البينة فليس هو بشىء بالكلية ، ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعى وأحمد واسحاق بن راهويه الى أن المختلعة عدتها عدو المطلقة بثلاثة قروء ان كانت ممن تحيض وليس للمخالع أن يراجع المختلعة فى العدة بغير رضاها عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء لأنها قد ملكت نفسها بمابذلت له من العطاء ، " تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ " أى هذه الشرائع التى شرعها لكم الله هى حدوده فلا تتجاوزوها ، وورد فى الحديث الصحيح " ان الله حد حدود فلا تعتدوها  وفرض قرائض فلا تضيعوها وحرم محارم فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها " ويستدل بهذه الآية من ذهب الى أن جمع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة حرام كما هو مذهب المالكية وانما السنة أن يطلق واحدة لقوله " الطلاق مرتان " ثم قال تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ " أى أنه اذا طلق الرجل امرأته طلقة ثالثة بعد ما أرسل عليها الطلاق مرتين فانها تحرم عليه " حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ " أى حتى يطأها زوج آخر فى نكاح صحيح ولو تزوجت ولكن لم يدخل بها الزوج لم تحل للأول والمقصود من الزوج الثانى أن يكون ذاعنا فى المرأة  قاصدا دوام عشرتها كما هو المشروع من التزويج ، عن أبن مسعود رضى الله عنه قال : لعن رسول الله الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة والمحلل والمحلل له وآكل الربا وموكله " ،  وعن عقبة بن عامر رضى الله عنه قالرسول الله : ألا أخبركم بالتيس المستعار " قالوا : " بلى يا رسول الله" قال : " هو المحلل ، لعن الله المحلل والمحلل له " ، عن أبى هريرة رضى الله عنه قال لعن رسول الله المحلل والمحلل له ، " فَإِنْ طَلَّقَهَا  " أى الزوج الثانى بعد الدخول بها ، " فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا " أى المرأة والزوج الأول ،" إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ" أى يتعاشرا بالمعروف ، "وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ  " شرائعه وأحكامه " يُبَيِّنُهَا " أى يوضحها  "لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ " للذين يريدون العلم بأحكامه وشرائعه .   

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

(231)

" وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ "هذا أمر من الله عز وجل للرجال اذا طلق أحدهم امرأة طلاقا له فيه رجعة أن يحسن فى أمرها اذا انقضت عدتها ولم يبق منها الا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها ، فأما أن يمسكها أى يرتجعها الى عصمة نكاحه بمعروف وهو أن يشهد على رجعتها أو ينوى عشرتها بالمعروف أو يسرحها أى يتركها حتى تنقضى عدتها ويخرجها من منزله بالتى هى أحسن من غير شقاق ولا مخاصمة ولا تقابح قال الله تعالى " وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا " قال أبن عباس كان الرجل يطلق المرأة فاذا قاربت انقضاء العدة راجعها ضرارا لئلا تذهب الى غيره ثم يطلقها فتعتد فاذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة فنهاهم الله عن ذلك وتوعدهم عليه فقال " وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ " أى بمخالفته أمر الله تعالى ، " وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا " قال الحسن وآخرون هو الرجل يطلق ويقول كنت لاعبا أو يعتق أو ينكح ويقول كنت لاعبا فأنزل الله الآية ، وعن أبن عباس قال طلق رجل امرأته وهو يلعب لايريد الطلاق فأنزل الله " وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا " فألزمه رسول الله الطلاق ، وقال رسول الله : " من طلق أو أعتق أو نكح أو أنكح جادا أو لاعبا فقد جاز عليه " وقال رسول الله : " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : النكاح والطلاق والرجعة " ، " وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ" أى فى ارساله لرسوله بالهدى والبينات اليكم ، " وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ " وما أنزل عليكم من الكتاب هو القرآن والحكمة هى السنة ، " يَعِظُكُمْ بِهِ " أى يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على ارتكاب المحارم ، " وَاتَّقُوا اللَّهَ " أى فيما تأتون وفيما تذرون ، " وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " أى فلا يخفى عليه شىء من أموركم السرية والجهرية وسيجازيكم على ذلك .

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ ِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)

" وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ ِالْمَعْرُوفِ " قال على بن أبى طلحة  رضى الله عنه عن أبن عباس نزلت هذه الآية فى الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين فتنقضى عدتها ثم يبدو له أن يتزوجها وأن يراجعها وتريد المرأة ذلك فيمنعها أولياؤها من ذلك فنهى الله أن يمنعوها ، وفيها دلالة على أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها وأنه لابد فى النكاح من ولى ، وفى الحديث : " لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها فان الزانية هى التى تزوج نفسها " ، روى أن هذه الآية نزلت فى معقل بن يسار المزنى وأخته أنه زوج أخته رجلا من المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت عدتها فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطاب فقال له : " يا لكع بن لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها والله لا ترجع اليك أبدا " قال " فعلم الله حاجته اليها وحاجتها الى بعلها فأنزل الآية فلما سمعها معقل قال " سمع لربى وطاعة " ثم دعاه فقال " أزوجك وأكرمك وكفرت عن يمينى " ، وروى أبن جرير أنها هى جميلة بنت يسار كانت تحت أبى البداح ، " ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر " أى هذا الذى نهيناكم عنه من منع الولايا أن يتزوجن أزواجهن اذا تراضوا بينهم بالمعروف يأتمر به ويتعظ به وينفعل له من كان منكم أيها الناي يؤمن بالله واليوا الآخر أى يؤمن بشرع الله ويخاف وعيد الله وعذابه فى الدار الآخرة وما فيها من الجزاء ، " ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ " أى اتباعكم شرع الله فى رد الموليات الى أزواجهن وترك الحمية فى ذلك أزكى لكم وأطهر لقلوبكم ، " وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " أى الخيرة فيما تأتون ولا فيما تذرون .

 وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

" وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ " هذا ارشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة وهى سنتان فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك ولهذا قال لمن أراد أن يتم الرضاعة ، " وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا " وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف أى بما جرت به عادة أمثالهن فى بلدهن من غير اسراف ولا اقتار بحسب قدرته فى يساره وتوسطه واقتاره ، " لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا " وذلك بحسب قدرته كما قال تعالى " لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا الا ما أتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا " ، قال الضحاك : اذا طلق زوجته وله منها ولد فأرضعت له ولده وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف ، " لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا  " أى بأن تدفعه عنها لتضر أباه بتربيته ولكن ليس لها دفعه اذا ولدته حتى تسقيه اللبن الذى لا يعيش بدون تناوله غالبا كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضرار لها ولهذا قال "وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ " أى بأن يريد أن ينتزع الولد منها اضرارا بها ، " وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ " قيل فى عدم الضرار لقريبه عليه مثل ما على والد الطفل من الانفاق على والدة الطفل والقيام بحقوقها وعدم الاضرار بها ، " فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا "أى فان اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين ورأيا فى ذلك مصلحة له وتشاورا فى ذلك وأجمعا عليه فلا جناح عليهما فى ذلك ، " وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ " أى اذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يستلم منها الولد أما لعذر منها أو لعذر له فلا جناح عليهما فى بذله ولا عليه فى قبوله منها اذا سلمها أجرتها الماضية واسترضع لولده غيرها بالأجرة المعروفة ، "وَاتَّقُوا اللَّهَ " أى فى جميع أحوالكم ، " وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ " أى فلا يخفى عليه شىء من أحوالكم وأقوالكم .  

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)

" وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا " هذا أمر من الله للنساء اللاتى يتوفى عنهن أزواجهن أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالاجماع ، ولا يخرج من ذلك الا المتوفى عنها زوجها وهى حامل فان عدتها بوضع الحمل ولو لم تمكث بعدة سوى لحظة لقوله " وأولات الأحمل أجلهن أن يضعن حملهن " ، ويرى أبن عباس أن عليها أن تتربص بأبعد الأجلين من الوضع أو أربعة أشهر وعشر للجمع بين الآيتين ويستثنى من ذلك الزوجة اذا كانت أمة فان عدتها على النصف من عدة الحرة شهران وخمس ليال لأنها لما كانت على النصف من الحرة فى الحد فكذلك فلتكن على النصف منها فى العدة ، ومن العلماء كمحمد بن سيرين من يسوى بين الزوجات الحرائر والاماء فى هذا المقام لعموم الآية لأن العدة من باب الأمور الجبلية الت تسوى فيها الخليقة ، وذكر سعيد بن المسيب وأبو العالية وغيرهما أن الحكمة فى جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا لأحتمال اشتمال الرحم على حمل كما جاء فى حديث أبن مسعود ، فى الصحيحين وغيرهما" ان خلق أحدكم يجمع فى بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث اليه الملك فينفخ فيه الروح " فهذه ثلاث أربعينيات بأربعة أشهر والاحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح ، " فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ " يستفاد من هذا وجوب الاحداد على المتوفى عنها زوجها مدة عدتها وعن أم حبيبة وزينب بنت جحش أن رسول الله قال : " لا يحل لأمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث الا على زوج بعد أربعة أشهر وعشرا " وذهب كثير من العلماء الى أن هذه الآية ناسخة للآية التى بعدها وهى قوله " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا الى الحول غير اخراج ، والاحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب ولبس الحلى والثياب الأخرى وغير ذلك وهو واجب فى عدة الوفاة ، ويجب الأحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن سواء فى ذلك الصغيرة والآيسة والحرة والأمة والمسلمة وغيرها لعموم الآية والخحة هى قول الرسول :" لايحل لأمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث الا على زوج أربعة أشهر وعشرا " ، " فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ " أى انقضت عدتهن ، "فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ  " أى على أوليائها "فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ " يعنى النساء الاتى انقضت عدتهن وعن أبن عباس اذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها فاذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنع وتتعرض للتزويج ، وقال مجاهد النكاح الحلال الطيب ،" وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ " الله عليم وخبير بأعمالكم وأفعالكم .

 وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

" وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ " أى لا ذنب أو معصية أن تعرضوا بخطبة النساء فى عدتهن من وفاة أزواجهن من غير تصريح والتعريض أن يقول انى أريد التزويج وانى أحب امرأة من أمرها يعرض لها بالقول بالمعروف وهكذا حكم المطلقة المبتوتة يجوز التعريض لها فأما المطلقة فلا خلاف فى أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها ولا للتعريض لها ، " أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ " أى أضمرتم فى أنفسكم من خطبتهن كقوله " وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون " ولهذا قال " عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ " أى فى أنفسكم فرفع الحرج عنكم فى ذلك ثم قال " وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا " لاتقل لها انى عاشق وعاهدينى أن لا تتزوجى غيرى ونحو هذا وعن سعيد بن جبير وآخرون أن يأخذ ميثاقها أن لا تتزوج غيره وقال قتادة هو أن يأخذ غهد المرأة وهى فى عدتها أن لا تنكح غيره فنهى الله عن ذلك ، وأحل الحطبة والقول بالمعروف ، " وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا " هو أن يتزوجها فى العدة سرا فاذا أحلت أظهر ذلك وقد يحتمل أن تكون الآية فى جميع ذلك ولهذا قال " إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا " يعنى به ما تقدم من اباحة التغعريض ، " وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ " يعنى ولا تعقدوا العقدة بالنكاح حتة تنقضى العدة وأجمع العلماء أنه لا يصح العقد فى مدة العدة ، " وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ" توعدهم على ما يقع فى ضمائرهم من أمور النساء وأرشدهم الى اضمار الخير دون الشر ثم لم يؤيسهم من رحمته ولم يقنطهم من مائدته فقال " وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ " .

 لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)

" لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً " أباح تعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها وقبل الدخول بها وقال أبن عباس وآخرون أن المس هو النكاح بل ويجوز أن يطلقها قبل الدخول بها والفرض لها ان كانت مفوضة وان كان فى هذا انكسار لقلبها ولهذا أمر تعالى بامتاعها وهو تعويضها عما فاتها بشىء تعطاه من زوجها بحسب حاله على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ،" وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ " اختلف العلماء هل تجب المتعة لكل مطلقة أو انما لغير المدخول بها التى لم يفرض لها ، أحد الأقوال تجب المتعة لكل مطلقة لعموم قوله " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين " ، وقوله " يا أيها النبى قل لأزواجك ان كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا " وقد كن مفروضا لهن ومدخولا بهن ، والقول الثانى أنها تجب للمطلقة اذا طلقت قبا المسيس بها وان كانت مفروضا لها لقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا اذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتوهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا " ، وعن سعيد بن المسيب قال نسخت هذه الآية التى فى الأحزاب الآية التى فى البقرة ، والقول الثالث أن المتعة انما تجب للمطلقة اذا لم يدخل بها ولم يفرض لها فان كان قد دخل بها وجب لها مهر مثلها اذا كانت مفوضة فان كان قد فرض لها وطلقها قبل الدخول وجب لها عليه شطره فان دخل بها استقر الجميع وكان ذلك عوضا لها عن المتعة وانما المصابة التى لم يفرض لها ولم يدخل بها فهذه التى دلت هذه الآية الكريمة على وجوب متعتها ، ومن العلماء من يقول أنها مستحبة ولو كانت واجبة لحبس فيها القضاة " عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ " .

وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

" وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ " أوجبت هذه الآية نصف المهر المفروض اذا طلق الزوج قبل الدخول وتشطير الصداق أمر مجمع عليه بين العلماء فانه متى كان قد سمى لها صداقا ثم فارقها قبل دخوله بها فانه يجب نصف ما سمى من الصداق الا أن عند الثلاثة أنه يجب جميع الصداق اذا خلا بها الزوج وان لم يدخل بها وهو مذهب الشافعى فى القديم ولكن قال الشافعى عن أبن عباس أنه قال فى الرجل يتزوج المرأة فيخلو بها ولا يمسها ثم يطلقها ليس لها الا نصف الصداق كقوله تعالى " وان طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ،" إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ " أى النساء عما وجب لها على زوجها فلا يجب لها عليه شىء " أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ " ، قال النبى : " ولى عقدة النكاح الزوج " ، ومذهب أبى حنيفة والثورى والأوزاعى أن الذى بيده عقدة النكاح حقيقة الزوج فان بيده عقدها وابرامها ونقضها وانهدامها " وعن أبن عباس قال ذلك أبوها أو أخوها أو من لا تنكح الا باذنه ، وقال أبن جرير أذن الله فى العفو وأمر به فأى امرأة عفت جاز عفوها فان شحت وضنت وعفا وليها جاز عفوه وهذا يقتضى صحة عفو الولى وان كانت رشيدة ولكن الشعبى أنكر عليه وصار الى أنه الزوج ، " وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى " قال ابن جرير خوطب به الرجال والنساء أن تعفو عن شعارها أو اتمام الرجل الصداق لها ولهذا قال " وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ " أى الاحسان أى لا تهملوه بينكم ، وعن على أبى طالب رضى الله عنه أن رسول الله قال : " ليأتين على الناس زمان عضوض يعض المؤمن على ما فى يديه وينسى الفضل " وقد قال الله تعالى " وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ "  شرار يبايغون كل مضطر " وقد نهى رسول الله عن بيع المضطر وعن بيع الغر فان كان عندك خير فعد به على أخيك ولا تزده هلاكا الى هلاكه فان المسلم أخو المسلم لا يحزنه ولا يحمه ،" إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ " أى لا يخفى عليه شىء من أموركم وأحوالكم وسيجزى كل عامل بعمله .

 حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)

" حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى " يأمر الله تعالى بالمحافظة على الصلوات فى أوقاتها وحفظ حدودها وأدائها ، وعن أبن مسعود قال سألت رسول الله أى العمل أفضل ؟ " قال : الصلاة فى وقتها " قلت : ثم أى ؟ " قال : الجهاد فى سبيل الله " قلت : ثم أى " قال : بر الوالدين " واختلف فى الصلاة الوسطى قيل أنها صلاة العصر وهو قول أكثر علماء الصحابة وغيرهم وقول أكثر أهل الأثر وقول جمهور الناس وقال الامام أحمد عن على قال قال رسول الله يوم الاحزاب : " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا " ثم صلاها بين العشاءين المغرب والعشاء وكذا رواه مسلم والنسائى ، وعن زر قال قلت لعبيدة سل عليا عن الصلاة الوسطى فسأله فقال : كنا نراها الفجر أو الصبح حتى سمعت رسول الله يقول يوم الاحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قبورهم وأجوافهم وبيوتهم نارا " رواه أبن جرير ، وعن سمرة أن رسول الله  قال : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ، وسماها لنا انها هى صلاة العصر " ، " وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ"أى خاشعين ذليلين مستكينين بين يديه ، " فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا " لما أمر تعالى عباده بالمحافظة على الصلوات والقيام بحدودها وشدد الأمر بتأكيدها ذكر الحال الذى يشغل الشخص فيه عن أدائها على الوجه الأكمل وهى حال القتال والتحام الحرب فقال " فان خفتم فرجالا أو ركبانا " أى فصلوا على أى حال كان رجالا أو ركبانا يعنى مستقبلى القبلة وغير مستقبليها ، وقد ذهب الامام أحمد فيما نص عليه الى أن صلاة الخوف تفعل فى بعض الأحيان ركعة واحدة اذا تلاحم الجيشان ، فعن أبن عباس قال فرض الله الصلاة على لسان نبيكم فى الحضر أربعا وفى السفر ركعتين وفى الخوف ركعة ، " فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ " أى أقيموا صلاتكم كما أمرتم فأتموا ركوعها وسجودها وقيامها وقعودها وخشوعها وهجودها ، " كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون " أى مثل ما أنعم عليكم وهداكم الايمان وعلمكم ما ينفعكم فى الدنيا والآخرة فقابلوه بالشكر والذكر كقوله بعد ذكر صلاة الخوف " فاذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة ان الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا " .

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)

" وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ " قال الأكثرون هذه الآية منسوخة بالتى قبلها وهو قوله " وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا " فكان للمتوفى عنها زوجها نفقتها وسكناها فى الدار سنة فنسختها آية المواريث فجعل لهن الثمن أو الربع مما ترك الزوج والآية منسوخة وروى عن أبن عباس قال : كان الرجل اذا مات وترك امرأته اعتدت سنة فى بيته ينفق عليها من ماله ثم أنزل الله " " وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا " فهذه عدة المتوفى عنها زوجها الا أن تكون حاملا فعدتها أن تضع ما فى بطنها وقال " ولهن الربع مما تركتم ان لم يكن لكم ولد فان كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم " فبين ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة ، " فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " ان شاءت سكنت فى وصيتها وان شاءت خرجت وهو قول الله " غَيْرَ إِخْرَاجٍ  فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ "قال أبن عباس نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها فتعتد حيث شاءت ، وقال عطاء ان شاءت اعتدن عند أهلها وسكنت فى وصيتها وان شاءت خرجت ، " وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ " ذهب العلماء الى وجوب المتعة لكل مطلقة سواء أكانت مفوضة أو مفوضا لها أو مطلقة قبل المسيس أو مدخولا بها ، " كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ  " أى فى احلاله وتحريمه وفروضه وحدوده فيما أمركم به ونهاكم عنه بينه ووضحه وفسره ولم يتركه مجملا فى وقت احتياجكم اليه "لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " أى تفهمون وتتدبرون .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)

" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ " ذكر غير واحد من السلف أن هؤلاء القوم كانوا أهل بلدة فى زمان بنى اسرائيل أصابهم بها وباء شديد وقال أبن عباس كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون فخرجوا فرارا من الموت هاربين الى البرية فنزلوا واديا ، " فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ " فأرسل الله اليهم ملكين أحدهما من أسفل الوادى والآخر من أعلاه فصاحا صيحة واحدة فماتوا عن آخرقم موتة رجل واحد ، " ثُمَّ أَحْيَاهُمْ " فلما كان بعد دهر مر بهم نبى من أنبياء بنى اسرائيل يقال له حزقيل فسأل الله أن يحييهم على يديه فأجابه الى ذلك فقاموا أحياء وينظرون قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة وهم يقولون سبحانك لا اله الا انت وكان فى احيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسمانى يوم القيامة ولهذا قال " إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ " أى فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة والدلالات الدامغة ، " وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ " أى لايقومون بشكر ما أنعم به عليهم فى دينهم ودنياهم ، فى هذه القصة عبرة أنه لن يغنى حذر من قدر وأن لا ملجأ من الله الا اليه ، وعن النبى قال : " ان هذا السقم عذب به الأمم من قبلكم فاذا سمعتم به فى أرض فلا تدخلوها واذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا " ، " وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ "أى كما أن الحذر لا يغنى من القدر كذلك الفرار من الجهاد وتجنبه لا يقرب أجلا ولا يبعده بل الأجل المحتوم والرزق المقسوم مقدر مقنن لا يزاد فيه ولا ينقص منه ، كما قال تعالى " الذين قالوا لأخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤا عن أنفسكم الموت ان كنتم صادقين " ، " مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " يحث تعالى عباده على الانفاق فى سبيل الله ، وعن عبد الله بن مسعود قال لما نزلت هذه الآية قال أبو الحداح الانصارى : يارسول الله وان الله عز وجل ليريد منا القرض ؟ " قال :" نعم يا أبا الحداح قال : أرنى يدك يا رسول الله " فناوله يده قال : فانى قد أقرضت ربى عز وجل حائطى " قال وحائط له فيه ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها قال فجاء أبو الدحداح فنادها يا أم الدحداح قالت : لبيك قال : اخرجى فقد أقرضته ربى عز وجل "، " قَرْضًا حَسَنًا " هو النفقة فى سبيل الله ، " فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً " قال أبو هريرة سمعت رسول الله يقول : " ان الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة "وعن أبن عمر قال لما أنزلت " مثل الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل " فقال رسول الله : رب زد أمتى " فنزلت " مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً " قال ك رب زد أمتى " فنزلت " انما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " ، فالكثير من الله لا يحصى" وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ " أىانفقوا ولا تبالوا فالله هو الرزاق يضيق على من يشاء من عباده فى الرزق ويوسعه على آخرين له الحكمة البالغة فى ذلك ، " اوَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " أى يوم القيامة .

 أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)

" أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ " كان هذا بعد موسى عليه السلام بدهر طويل وكان ذلك فى زمان داود عليه السلام كما هو مصرح به فى القصة وقد كان بين بين داود وموسى عليهما السلام ما ينيف عن ألف سنة والله أعلم ، وقال وهب بن منبه وغيره كان بنو اسرائيل بعد موسى عليه السلام على طريق الاستقامة مدة من الزمان ثم أحدثوا الأحداث وعبد بعضهم الأصنام ولم يزل بين أظهرهم من الأنبياء من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويقيمهم على منهج التوراة الى أن فعلوا ما فعلوا فسلط الله عليهم اعداءهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وكان عندهم التوراة والتابوت الذى كان فى قديم الزمان موروثا لخلفهم عن سلفهم فلم يزل بهم تماديهم على الضلال حتى استلبه منهم بعض الملوك وأخذ التوراة من أيديهم ولم يبق من يحفظها الا القليل وانقطعت النبوة من أسباطهم ولم يبق من سبط لاوى الذى يكون فيه الانبياء الا امرأة حامل ودعت الله أن يرزقها غلاما فسمع الله لها فشب ونشأ فيهم وأنبته الله نباتا حسنا حتى بلغ سن الأنبياء أوحى الله اليه وأمره بالعودة اليه وتوحيده فدعا بنى اسرائيل فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكا يقاتلون معه أعداءهم وكان الملك قد انتهى منهم فقال لهم النبى : فهل عسيتم أن أقام الله لكم ملكا ألا تقاتلوا وتفوا بما التزمتم من القتال معه " قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا " أى كيف لا نقاتل وقد أخذت منا البلاد وسبيت الأولاد ، قال الله تعالى " فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ " أى ما وفوا بما وعدوا بكل نكل عن الجهاد أكثرهم والله عليم بهم.

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)

" وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا " أى لما طلبوا من نبيهم أن يعين لهم ملكا منهم فعين لهم طالوت وكان رجلا من أحبارهم قالوا " قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ " أنى يكون له الملك عليهم ولم يكن من بيت الملك فيهم لأن الملك كان فى سبط يهوذا أى وكيف يكون ملكا علينا ،" وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ " ثم هو مع هذا فقير لا مال له وهذا اعتراض منهم على نبيهم وتعنت وكان الأولى بهم طاعة وقول معروف وأجابهم النبى قائلا " قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ " أى ان الله اختارع لكم من بينكم والله أعلم به منكم يقول لست أنا الذى عينته من تلقاء نفسى بل الله أمرنى به لما طلبتم منى ذلك ، " وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ " وهو مع هذا أعلم منكم وأنبل وأشكل منكم وأشد قوة وصبرا فى الحرب ومعرفة بها أى أتم علما وقامة منكم ومن هنا ينبغى أن يكون الملك ذا علم وشكل حسن وقوة شديدة فى بدنه ونفسه ، " وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ " أى هو الحاكم الذى ما شاء فعل ولا يسئل عما يفعل وهم يسئلون لعلمه وحكمته ورأفته بخلقه ولهذا قال " وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " أى هو واسع الفضل يختص برحمته من يشاء عليم بمن يستحق الملك ممن لا يستحقه .

 وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)

" َقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ " يقول لهم نبيهم ان علامة بركة ملك طالوت عليكم ان يرد الله عليكم التابوت الذى كان أخذ منكم ، " فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ " أى فيه وقار وجلالة وقال عطاء ما تعرفون من آيات الله فتسكنون اليه ، " وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ " قال أبن عباس يعنى عصا موسى ورضاض الألواح والتوراة وقال عطية بن سعد عصا موسى وعصا هارون وثياب موسى وثياب هارون ورضاض الألواح ، " تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ " قال أبن عباس جاءت الملائكة بحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدى طالوت والناس ينظرون وأطاعوا طالوت " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ " أى على صدقى فيما جئتكم به من النبوة وفيما أمرتكم به من طاعة طالوت ، " إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " أى ان كنتم مؤمنين بالله واليوم الآخر .

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)

" َلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ " حين خرج طالوت ملك بنى اسرائيل فى جنوده ومن أطاعه من ملأ بنى اسرائيل قال " قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ " أى مختبركم بنهر ، " فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي " فمن شرب منه فلا يصحبنى اليوم فى هذا الوجه ، " وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ " من لم يشرب من النهر يصحبنى ومن اغترف غرفة فلا بأس عليه ، " فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ " وعن أبن عباس قال كان الجيش ثمانين ألفا فشربوا وتبقى معه أربعة آلاف ، " فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ " بعد أن جاوز طالوت والذين آمنوا النهر استقلوا أنفسهم عن لقاء عدوهم لكثرتهم  ، " قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ " فشجعهم علماؤهم العالمون بأن وعد الله حق فان النصر من عند الله ليس عن كثرة عدد ولا عدة والنصر من عند الله والنصر مع الصبرولهذا قالوا " كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ " .

وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

" وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ " أى لما واجه حزب الايمان وهم قليل من أصحاب طالوت لعدوهم أصحاب جالوت وهم عدد كثير " قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا" أى أنزل علينا صبرا من عندك ، " وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا"ثبت أقدامنا فى لقاء الاعداء وجنبنا الفرار والعجز ، "  وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ " طلبوا من الله النصر على عدوهم من الكافرين ، " فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ " أى غلبوهم وقهروهم بنصر الله لهم ، " وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ "  كان طالوت قد وعد داود ان قتل جالوت أن يزوجه ابنته ويشاطره نعمته ويشركه فى أمره فوفى له ثم آل الملك الى داود عليه السلام مع ما منحه الله به من النبوة العظيمة ولهذا قال تعالى " وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ " الذى كان بيد طالوت ، " وَالْحِكْمَةَ " أى النبوة ، " وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ " أى مما يشاء الله من العلم الذى اختصه به ، " وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ " أى لولا يدفع الله يدفع عن قوم بآخرين كما دفع عن بنى اسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة داود لهلكوا كما قال تعالى " ولولا دفع الله الناس  بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا " وعن أبن عمر قال قال رسول الله : " ان الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء ، " وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ "أى من عليهم ورحمة بهم يدفع عنهم ببعضهم بعضا وله الحكم والحكمة والحجة على خلقه فى جميع أفعاله وأقواله ، " تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ا" أى هذه آيات الله التى قصصناها عليك من أمر الذين ذكرناهم بالحق أى بالواقع الذى كان عليه الأمر المطابق لما بأيدى أهل الكتاب من الحق الذى يعلمه علماء بنى اسرائيل ، "  وَإِنَّكَ " أى يا محمد "  لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ " وهذا توكيد وتوطئة للقسم .

No comments:

209-] English Literature

209-] English Literature Charles Dickens  Posted By lifeisart in Dickens, Charles || 23 Replies What do you think about Dickens realism? ...