تبسيط تفسير أبن كثير للقرآن الكريم ( 13 )
تفسير سورة يوسف
وَمَآ أُبَرِّئُ نَفۡسِيٓۚ إِنَّ ٱلنَّفۡسَ
لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوٓءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّيٓۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ٥٣
"
وَمَآ أُبَرِّئُ نَفۡسِيٓۚ إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوٓءِ "
تتحدث امرأة العزيز وهى أمام الملك أنها لا تبرىء نفسها مما حدث ليوسف من مراودتها
له عن نفسه فان النفس تتحدث وتتمنى ولهذا راودته وتأمر بالسوء ، " إِلَّا مَا
رَحِمَ رَبِّيٓۚ " الا من عصمه الله تعالى ، " إِنَّ رَبِّي غَفُورٞ رَّحِيم "
والله غفور يغفر الذلل والذنوب جميعا وهو الرحيم بعباده ويعاملهم برحته .
وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِۦٓ أَسۡتَخۡلِصۡهُ
لِنَفۡسِيۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُۥ قَالَ إِنَّكَ ٱلۡيَوۡمَ لَدَيۡنَا مَكِينٌ أَمِينٞ ٥٤ قَالَ ٱجۡعَلۡنِي
عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٞ ٥٥
يقول تعالى اخبارا عن الملك حين تحقق براءة يوسف عليه
السلام ونزاهة عرضه مما نسب اليه " وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِۦٓ
أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِيۖ " طلب الملك أن يأتوه بيوسف عليه السلام من السجن
ليجعله من خاصته وأهل مشورته ، " فَلَمَّا كَلَّمَهُۥ " فلما كلمه الملك
وعرفه ورأى فضله وبراعته وعلم ما هو عليه من خلق وخلق ، " قَالَ إِنَّكَ
ٱلۡيَوۡمَ لَدَيۡنَا مَكِينٌ أَمِين " قال له انك عندنا قد بقيت ذا مكانة
وأمانة ، " قَالَ ٱجۡعَلۡنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّي حَفِيظٌ
عَلِيم " طاب يوسف عليه السلام من الملك
أن يجعله مسؤولا عن خزائن الأرض وهى التى يجمع فيها الغلات لعلمه بقدرته على ذلك
العمل ولما فيه من المصالح للناس ولما يستقبلونه من السنين التى أخبرهم بشأنها
فيتصرف لهم على الوجه الأحوط والأصلح والأرشد فأجيب الى ذلك رغبة فيه وتكرمة له
وذكر أنه حفيظ أى خازن أمين وعليم أى ذو بصيرة بما يتولاه وعلم ، وقال شيبة بن
نعامة : حفيظ لما أستودعتنى عليم بسنى الجدب .
وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلۡأَرۡضِ
يَتَبَوَّأُ مِنۡهَا حَيۡثُ يَشَآءُۚ نُصِيبُ بِرَحۡمَتِنَا مَن نَّشَآءُۖ وَلَا
نُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٥٦ وَلَأَجۡرُ ٱلۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ
ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ٥٧
يقول تعالى " وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي
ٱلۡأَرۡضِ " بعد أن اختار الملك يوسف عليه السلام ليكون مسؤولا عن الخزائن
وقربه اليه أصبح ذو مكانة فى أرض مصر ، " يَتَبَوَّأُ مِنۡهَا حَيۡثُ
يَشَآءُۚ" قال السدى يتصرف فيها كيف يشاء وقال أبن جرير يتخذ منها منزلا حيث
يشاء بعد الضيق والحبس والاسار ، " نُصِيبُ بِرَحۡمَتِنَا مَن نَّشَآءُۖ وَلَا
نُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ " يقول تعالى أن فضله ورحمته تقع لمن يشاء من
عباده وأنه لم يضع صبر يوسف على أذى اخوته وصبره على الحبس بسبب امرأة العزيز
فلهذا أعقبه الله عز وجل السلام والنصر فهو لايضيع أجر من أحسن عملا ، " وَلَأَجۡرُ
ٱلۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ " يخبر تعالى
أن ما ادخره لنبيه يوسف عليه السلام فى الدار الآخرة أعظم وأكثر وأجل مما خوله من
التصرف والنفوذ فى الدنيا وذلك كقوله فى حق سليمان عليه السلام " هذا عطاؤنا
فامنن أو أمسك بغير حساب وان له عندنا لزلفى وحسن مآب " والله لا يضيع أجر
عمل فى الأخرة آمن به واتقاه فيأتيه خير من الدنيا وما فيها وهو النعيم المقيم فى
الجنة .
وَجَآءَ
إِخۡوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيۡهِ فَعَرَفَهُمۡ وَهُمۡ لَهُۥ مُنكِرُونَ ٥٨
وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمۡ قَالَ ٱئۡتُونِي بِأَخٖ لَّكُم مِّنۡ
أَبِيكُمۡۚ أَلَا تَرَوۡنَ أَنِّيٓ أُوفِي ٱلۡكَيۡلَ وَأَنَا۠ خَيۡرُ
ٱلۡمُنزِلِينَ ٥٩ فَإِن لَّمۡ تَأۡتُونِي بِهِۦ فَلَا كَيۡلَ لَكُمۡ عِندِي وَلَا
تَقۡرَبُونِ ٦٠ قَالُواْ سَنُرَٰوِدُ عَنۡهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَٰعِلُونَ ٦١
وَقَالَ لِفِتۡيَٰنِهِ ٱجۡعَلُواْ بِضَٰعَتَهُمۡ فِي رِحَالِهِمۡ لَعَلَّهُمۡ
يَعۡرِفُونَهَآ إِذَا ٱنقَلَبُوٓاْ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ
٦٢
كان
يوسف قد احتاط فى سنوات الخصب للناس فى غلاتهم وجمعها أحسن جمع وورد عليه الناس من
سائر الأقاليم والمعاملات يمتارون لأنفسهم وعيالهم فكان لايعطى الرجل أكثر من حمل
بعير فى السنة واتمر على ذلك مدة السبع سنين وكان رحمة من الله على أهل مصر ،"
وَجَآءَ إِخۡوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيۡهِ فَعَرَفَهُمۡ وَهُمۡ لَهُۥ
مُنكِرُونَ " بعد أن عم القحط بلاد مصر بكاملها ووصل الى بلاد كنعان وهى التى
فيها يعقوب عليه السلام وأولاده فى جملة من ورد للميرة اخوة يوسف عن أمر أبيهم لهم
فى ذلك فانه بلغهم أن عزيز مصر يعطى الناس الطعام بثمنه فأخذوا معهم بضاعة يعتاضون
بها طعاما وركبوا عشرة نفر واحتبس يعقوب عليه السلام عنده انبه شقيق يوسف وكان أحب
ولده اليه بعد يوسف فلما دخلوا على يوسف عليه السلام وهو جالس فى أبهته ورياسته
وسيادته عرفهم حين نظر اليهم وهم له منكرون أى لايعرفونه لأنهم فارقوه وهو صغير
حدث وباعوه للسيارة ولا كانوا يستشعرون فى أنفسهم أن يصير الى ما صار اليه فلهذا
لم يعرفوه ، " وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمۡ قَالَ ٱئۡتُونِي بِأَخٖ لَّكُم
مِّنۡ أَبِيكُمۡۚ أَلَا تَرَوۡنَ أَنِّيٓ أُوفِي ٱلۡكَيۡلَ وَأَنَا۠ خَيۡرُ
ٱلۡمُنزِلِينَ " لما وفى يوسف عليه السلام كيلهم وحمل لهم أحمالهم قال ائتونى
بأخيكم هذا الذى ذكرتم لأعلم صدقكم فيما ذكرتم ويرغبهم فى الرجوع اليه بأنه يعطى
العطاء الجزيل فيوفى الكيل وأنه خيرمن يعطى فيحسن العطاء ، " فَإِن لَّمۡ تَأۡتُونِي
بِهِۦ فَلَا كَيۡلَ لَكُمۡ عِندِي وَلَا تَقۡرَبُونِ " ان لم تقدموا بأخيكم
المرة القادمة معكم فليس لكم عندى ميرة ولا تأتوا الى ، " قَالُواْ
سَنُرَٰوِدُ عَنۡهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَٰعِلُونَ " قالوا أنهم سيحرصون على
مجيئه اليه بكل ممكن ولا يبقوا مجهودا ليعلم صدقهم فيما قالوا ، " وَقَالَ
لِفِتۡيَٰنِهِ ٱجۡعَلُواْ بِضَٰعَتَهُمۡ فِي رِحَالِهِمۡ لَعَلَّهُمۡ
يَعۡرِفُونَهَآ إِذَا ٱنقَلَبُوٓاْ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ
" وقال يوسف عليه السلام لغلمانه أن يجعلوا البضاعة التى قدموا بها ليمتاروا
عوضا عنها فى أمتعتهم من حيث لايشعرون ويرجعون بها قيل خشى يوسف عليه السلام أن
لايكون عندهم بضاعة أخرى يرجعون للميرة بها وقيل تذمم أن يأخذ من أبيه واخوته عوضا
عن الطعام وقيل أراد أن يردهم اذا وجدوها فى متاعهم تحرجا وتورعا لأنه يعلم ذلك
منهم .
فَلَمَّا رَجَعُوٓاْ إِلَىٰٓ أَبِيهِمۡ قَالُواْ
يَٰٓأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا ٱلۡكَيۡلُ فَأَرۡسِلۡ مَعَنَآ أَخَانَا نَكۡتَلۡ
وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ٦٣ قَالَ هَلۡ ءَامَنُكُمۡ عَلَيۡهِ إِلَّا كَمَآ
أَمِنتُكُمۡ عَلَىٰٓ أَخِيهِ مِن قَبۡلُ فَٱللَّهُ خَيۡرٌ حَٰفِظٗاۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ
ٱلرَّٰحِمِينَ ٦٤
" فَلَمَّا رَجَعُوٓاْ إِلَىٰٓ أَبِيهِمۡ قَالُواْ يَٰٓأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا ٱلۡكَيۡلُ فَأَرۡسِلۡ مَعَنَآ أَخَانَا نَكۡتَلۡ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ " رجعوا الى أبيهم فقالوا له سيمنع منا الكيل المرة القادمة ان لم ترسل معنا أخانا فأرسله معنا نكتل ولا تخف عليه فانه سيرجع اليك وهذا كما قالوا له من قبل فى يوسف " أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وانا له لحافظون " ولهذا قال لهم " قَالَ هَلۡ ءَامَنُكُمۡ عَلَيۡهِ إِلَّا كَمَآ أَمِنتُكُمۡ عَلَىٰٓ أَخِيهِ مِن قَبۡلُ فَٱللَّهُ خَيۡرٌ حَٰفِظٗاۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ "هل لى أن آمنكم عليه كما أمنتكم على أخيه يوسف قبل ذلك فتكونوا صانعين به كما صنعتم بأخيه يوسف من قبل تغيبونه عنى وتحولون بينى وبينه ؟ والله هو من يتولى بحفظه ولدى وهو أرحم الراحمين بى وسيرحم كبرى وضعفى ووجدى بولدى وأرجو من الله أن يرده على ويجمع شملى به انه أرحم الراحمين .
وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَٰعَهُمۡ وَجَدُواْ
بِضَٰعَتَهُمۡ رُدَّتۡ إِلَيۡهِمۡۖ قَالُواْ يَٰٓأَبَانَا مَا نَبۡغِيۖ هَٰذِهِۦ
بِضَٰعَتُنَا رُدَّتۡ إِلَيۡنَاۖ وَنَمِيرُ أَهۡلَنَا وَنَحۡفَظُ أَخَانَا
وَنَزۡدَادُ كَيۡلَ بَعِيرٖۖ ذَٰلِكَ كَيۡلٞ يَسِيرٞ ٦٥ قَالَ لَنۡ أُرۡسِلَهُۥ مَعَكُمۡ حَتَّىٰ تُؤۡتُونِ
مَوۡثِقٗا مِّنَ ٱللَّهِ لَتَأۡتُنَّنِي بِهِۦٓ إِلَّآ أَن
يُحَاطَ بِكُمۡۖ فَلَمَّآ ءَاتَوۡهُ مَوۡثِقَهُمۡ قَالَ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَا
نَقُولُ وَكِيلٞ ٦٦
" وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَٰعَهُمۡ وَجَدُواْ بِضَٰعَتَهُمۡ رُدَّتۡ إِلَيۡهِمۡۖ قَالُواْ يَٰٓأَبَانَا مَا نَبۡغِيۖ هَٰذِهِۦ بِضَٰعَتُنَا رُدَّتۡ إِلَيۡنَاۖ وَنَمِيرُ أَهۡلَنَا وَنَحۡفَظُ أَخَانَا وَنَزۡدَادُ كَيۡلَ بَعِير " لما فتح اخوة يوسف عليه السلام متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت اليهم وهى التى كان أمر يوسف عليه السلام فتيانه بوضعها فى رحالهم قالوا لأبيهم ماذا تريد ولا يمكن لنا أن نتجاوز الحدود وقال قتادة ما نبغى وراء هذا فهذه بضاعتنا التى أخذناها معنا ردت الينا وقد أوفى لنا الكيل واذا أرسلت معنا أخانا نأتى بالميرة الى أهلنا وسنحافظ على أخانا وسنزداد كيل بعير وذلك أن يوسف عليه السلام كان يعطى كل رجل حمل بعير ، " ذَٰلِكَ كَيۡلٞ يَسِير " هذا الأمر يسير فى مقابلة أخذ أخيهم ما يعدل هذا ، " قَالَ لَنۡ أُرۡسِلَهُۥ مَعَكُمۡ حَتَّىٰ تُؤۡتُونِ مَوۡثِقٗا مِّنَ ٱللَّهِ لَتَأۡتُنَّنِي بِهِۦٓ إِلَّآ أَن يُحَاطَ بِكُمۡۖ " قال لهم أبوهم لن أرسله معكم حتى تحلفون بالعهود والمواثيق الا أن تغلبوا كلكم ولا تقدرون على تخليصه ، " فَلَمَّآ ءَاتَوۡهُ مَوۡثِقَهُمۡ قَالَ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيل " عندما عاهدوه رد عليهم أن الله متوكل بقولهم وكلامهم شاهد عليه ،قال أبن اسحاق وانما فعل ذلك من السماح لهم بأخد أخيهم معهم لأنه لم يجد بدا من بعثهم لأجل الميرة التى لا غنى لهم عنها فى وجود القحط .
وَقَالَ يَٰبَنِيَّ لَا تَدۡخُلُواْ مِنۢ بَابٖ وَٰحِدٖ وَٱدۡخُلُواْ مِنۡ
أَبۡوَٰبٖ مُّتَفَرِّقَةٖۖ وَمَآ أُغۡنِي عَنكُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٍۖ
إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُۖ وَعَلَيۡهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ
ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ ٦٧ وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَمَرَهُمۡ أَبُوهُم مَّا
كَانَ يُغۡنِي عَنۡهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٍ إِلَّا حَاجَةٗ فِي نَفۡسِ يَعۡقُوبَ
قَضَىٰهَاۚ وَإِنَّهُۥ لَذُو عِلۡمٖ لِّمَا عَلَّمۡنَٰهُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا
يَعۡلَمُونَ ٦٨
" وَقَالَ يَٰبَنِيَّ لَا
تَدۡخُلُواْ مِنۢ بَابٖ وَٰحِدٖ وَٱدۡخُلُواْ مِنۡ أَبۡوَٰبٖ مُّتَفَرِّقَةٖۖ وَمَآ أُغۡنِي عَنكُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن
شَيۡءٍۖ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُۖ وَعَلَيۡهِ
فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ " أمر يعقوب عليه السلام بنيه لما جهزهم
مه أخيهم الى مصر أن لا يدخلوا كلهم من باب واحد وليدخلوا من أبواب متفرقة فانه
كما قال أبن عباس وغيره انه خشى عليهم العين والحسد وذلك أنهم كانوا ذوى جمال
وهيئة حسنة ومنظر وبهاء فخشى عليهم أن يصيبهم الناس بعيونهم فان العين حق تستنزل
الفارس عن فرسه والاحتراز لا يرد قدر الله وقضاءه فان الله اذا أراد شيئا لا يخالف
ولا يمانع وتوكلت على الله وهو من عليه يتوكل المتوكلون ، " وَلَمَّا
دَخَلُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَمَرَهُمۡ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغۡنِي عَنۡهُم مِّنَ
ٱللَّهِ مِن شَيۡءٍ إِلَّا حَاجَةٗ فِي نَفۡسِ يَعۡقُوبَ
قَضَىٰهَاۚ " ودخلوا من أبواب متفرقة كما أمرهم أبوهم وقضاء الله لايغنى عنه
شىء ولكن فعلوا ذلك تلبية لحاجة فى نفس أبيهم يعقوب عليه السلام وهى دفع اصابة
العين لهم ، " وَإِنَّهُۥ لَذُو عِلۡمٖ لِّمَا عَلَّمۡنَٰهُ "
وقال قتادة ويعقوب لذوعلم يعلمه وقال أبن جرير لذو علم لتعليمنا اياه ،
" وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا
يَعۡلَمُونَ " وأكثر الناس لا يعلمون هذه الحقيقة أن العلم من الله وحده .
وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ ءَاوَىٰٓ إِلَيۡهِ
أَخَاهُۖ قَالَ إِنِّيٓ أَنَا۠ أَخُوكَ فَلَا تَبۡتَئِسۡ بِمَا كَانُواْ
يَعۡمَلُونَ ٦٩
" وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ ءَاوَىٰٓ
إِلَيۡهِ أَخَاهُۖ قَالَ إِنِّيٓ أَنَا۠ أَخُوكَ فَلَا تَبۡتَئِسۡ بِمَا كَانُواْ
يَعۡمَلُونَ " لما قدم أخوة يوسف
عليه ومعهم أخوه شقيقه وأدخلهم دار كرامته ومنزل ضيافته وأفاض عليهم الصلة
والألطاف والاحسان واختلى بأخيه فأطلعه على شأنه وما جرى له وعرفه أنه أخوه وقال
له لا تبتئس أى لا تأسف على ما صنعوه بى وأمره بكتمان ذلك عنهم وان لايطلعهم على
ما أطلعه عليه من أنه أخوه ، وتواطأ معه أنه سيحتال على أن يبقيه عنده معززا مكرما
معظما .
فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمۡ جَعَلَ ٱلسِّقَايَةَ
فِي رَحۡلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا ٱلۡعِيرُ إِنَّكُمۡ
لَسَٰرِقُونَ ٧٠ قَالُواْ وَأَقۡبَلُواْ عَلَيۡهِم مَّاذَا تَفۡقِدُونَ ٧١
قَالُواْ نَفۡقِدُ صُوَاعَ ٱلۡمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِۦ حِمۡلُ بَعِيرٖ وَأَنَا۠ بِهِۦ زَعِيمٞ ٧٢
" فَلَمَّا
جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمۡ جَعَلَ ٱلسِّقَايَةَ فِي رَحۡلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ
مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا ٱلۡعِيرُ إِنَّكُمۡ لَسَٰرِقُونَ " لما جهزهموحمل لهم
أبعرتهم طعاما أمر بعض فتيانه أن يضع السقاية وهى اناء من فضة وقيل من ذهب كان
يشرب فيه ويكيل للناس به من عزة الطعام اذ داك وعن أبن عباس قال صواع الملك كان من
فضة يشربون فيه وكان للعباس مثله فى الجاهلية فوضعها فى متاع أخوه من حيث لا يشعر
أحد ثم نادى بينهم أنهم سارقون ، " قَالُواْ وَأَقۡبَلُواْ عَلَيۡهِم مَّاذَا
تَفۡقِدُونَ " فالتفتوا الى المنادى وسألوه ماذا فقد ، " قَالُواْ
نَفۡقِدُ صُوَاعَ ٱلۡمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِۦ حِمۡلُ بَعِيرٖ
وَأَنَا۠ بِهِۦ زَعِيم " ردوا عليهم أن المفقود هو الصاع الذى يكال به ومعتمد
من الملك ومن يجده سيكافأ بحمل بعير وهذا من باب الجعالة وأنا كفيل بذلك من باب
الضمان والكفالة .
قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدۡ عَلِمۡتُم مَّا جِئۡنَا
لِنُفۡسِدَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا كُنَّا سَٰرِقِينَ ٧٣ قَالُواْ فَمَا جَزَٰٓؤُهُۥٓ
إِن كُنتُمۡ كَٰذِبِينَ ٧٤ قَالُواْ جَزَٰٓؤُهُۥ مَن وُجِدَ فِي رَحۡلِهِۦ فَهُوَ
جَزَٰٓؤُهُۥۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلظَّٰلِمِينَ ٧٥ فَبَدَأَ بِأَوۡعِيَتِهِمۡ
قَبۡلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسۡتَخۡرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِۚ كَذَٰلِكَ
كِدۡنَا لِيُوسُفَۖ مَا كَانَ لِيَأۡخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلۡمَلِكِ إِلَّآ أَن
يَشَآءَ ٱللَّهُۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ ٧٦ ۞
" قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدۡ عَلِمۡتُم مَّا جِئۡنَا لِنُفۡسِدَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا كُنَّا سَٰرِقِينَ " لما أتهمهم الفتيان بالسرقة قال لهم أخوة يوسف لقد تحققتم وعلمتم منذ عرفتمونا لأنهم شاهدوا منهم سيرة حسنة أنا ما جئنا لنفسد فى الأرض وما كنا سارقين أى ليست سجايانا تقتضى هذه الصفة ، " قَالُواْ فَمَا جَزَٰٓؤُهُۥٓ إِن كُنتُمۡ كَٰذِبِينَ " قال الفتيان لأخوة يوسف ما جزاء السارق ان كان فيكم وأى شىء يكون عقوبته ان وجدنا فيكم من أخذه ؟ " قَالُواْ جَزَٰٓؤُهُۥ مَن وُجِدَ فِي رَحۡلِهِۦ فَهُوَ جَزَٰٓؤُهُۥۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلظَّٰلِمِينَ " الجزاء هو أن يدفع السارق الى المسروق منه وهكذا نحاسب كما كانت شريعة ابراهيم عليه السلام ، وهذا هو الذى أراد يوسف عليه السلام ، "فَبَدَأَ بِأَوۡعِيَتِهِمۡ قَبۡلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسۡتَخۡرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِۚ كَذَٰلِكَ كِدۡنَا لِيُوسُفَۖ مَا كَانَ لِيَأۡخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلۡمَلِكِ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ " بدأ يوسف بتفتيش متاعهم قبل متاع أخيه تورية وأستخرج الصواع من متاع أخيه وهذا تدبير الله ليوسف حتى يستبقى أخيه معه لأنه لم يكن له أخذه فى حكم ملك مصر ولكن حسب حكمهم يمكنه ذلك فقيض الله له أن التزم له اخوته بما التزموه وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم ولهذا مدحه الله تعالى فقال " نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيم " والله يرفع بحكمه وتقديره من يشاء درجات كما قال تعالى " يرفع الله الذين آمنوا منكم " وقال الحسن البصرى ليس عالم الا فوقه عالم حتى ينتهى الى الله عز وجل وقال قتادة وفوق كل ذى علم عليم حتى ينتهى العلم الى الله ، منه بدىء وتعلمت العلماء واليه يعود ، وعن سعيد بن جبير قال كنا عند أبن عباس فحدث بحديث عجيب فتعجب رجل فقال : الحمد لله فوق كل ذى علم عليم فقال أبن عباس بئس ما قلت الله العليم فوق كل عالم .
قَالُوٓاْ إِن يَسۡرِقۡ فَقَدۡ سَرَقَ أَخٞ لَّهُۥ مِن قَبۡلُۚ
فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفۡسِهِۦ وَلَمۡ يُبۡدِهَا لَهُمۡۚ قَالَ أَنتُمۡ شَرّٞ مَّكَانٗاۖ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ
بِمَا تَصِفُونَ ٧٧
"
قَالُوٓاْ إِن يَسۡرِقۡ فَقَدۡ سَرَقَ أَخٞ لَّهُۥ مِن قَبۡلُۚ " قال اخوة يوسف لما رأوا الصواع قد
أخرج من متاع أخ يوسف يتنصلون الى العزيز بالتشبيه به وهم لا يعلمون أنه هو يوسف
ويذكرون أنه سرق كما سرق أخوه من قبل ويعنون يوسف عليه السلام " فَأَسَرَّهَا
يُوسُفُ فِي نَفۡسِهِۦ وَلَمۡ يُبۡدِهَا لَهُمۡۚ " أسر يوسف عليه السلام فى نفسه ولم يبد
لهم قوله الذى قاله عنهم "قَالَ أَنتُمۡ شَرّٞ مَّكَانٗاۖ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا تَصِفُونَ " أنتم من أشر
الناس منزلة فيما تقولون وتفعلون والله يعلم كذب وصفكم الذى تصفون به يوسف وأخيه
بالسرقة .
قَالُواْ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡعَزِيزُ إِنَّ لَهُۥٓ أَبٗا شَيۡخٗا كَبِيرٗا فَخُذۡ أَحَدَنَا
مَكَانَهُۥٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٧٨ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ أَن
نَّأۡخُذَ إِلَّا مَن وَجَدۡنَا مَتَٰعَنَا عِندَهُۥٓ إِنَّآ إِذٗا لَّظَٰلِمُونَ ٧٩
لما تعين أخذ أخ يوسف وتقرر تركه عند يوسف بمقتضى اعترافهم شرعوا يترققون له ويستعطفونه عليهم" قَالُواْ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡعَزِيزُ إِنَّ لَهُۥٓ أَبٗا شَيۡخٗا كَبِيرٗا فَخُذۡ أَحَدَنَا مَكَانَهُۥٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ " قالوا له أيها العزيز ان أبوه مسن ويحبه حبا شديدا ويتسلى به عن ولده الذى فقده بدله وخذ أحد منا مكانه فانا نراك من العادلين المنصفين القابلين للخير ، " قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ أَن نَّأۡخُذَ إِلَّا مَن وَجَدۡنَا مَتَٰعَنَا عِندَهُۥٓ إِنَّآ إِذٗا لَّظَٰلِمُونَ "قال يوسف عليه السلام لجوئى الى الله وحده فيما أقول وأفعل ولا يمكن أن أفعل الا كما قلتم واعترفتم ولا نأخذ بريئا بسقيم لا ،لا اخذ الا من وجد الصواع فى متاعه واذا أخذنا بريئا بسقيم فنحن ظالمون ارتكبنا ظلما بينا فى أخذ شخص بجريمة آخر .
فَلَمَّا ٱسۡتَيَۡٔسُواْ
مِنۡهُ خَلَصُواْ نَجِيّٗاۖ قَالَ كَبِيرُهُمۡ أَلَمۡ تَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ
أَبَاكُمۡ قَدۡ أَخَذَ عَلَيۡكُم مَّوۡثِقٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَمِن قَبۡلُ مَا فَرَّطتُمۡ فِي
يُوسُفَۖ فَلَنۡ أَبۡرَحَ ٱلۡأَرۡضَ حَتَّىٰ يَأۡذَنَ لِيٓ أَبِيٓ أَوۡ يَحۡكُمَ
ٱللَّهُ لِيۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلۡحَٰكِمِينَ ٨٠ ٱرۡجِعُوٓاْ إِلَىٰٓ أَبِيكُمۡ
فَقُولُواْ يَٰٓأَبَانَآ إِنَّ ٱبۡنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدۡنَآ إِلَّا بِمَا
عَلِمۡنَا وَمَا كُنَّا لِلۡغَيۡبِ حَٰفِظِينَ ٨١ وَسَۡٔلِ
ٱلۡقَرۡيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا وَٱلۡعِيرَ ٱلَّتِيٓ أَقۡبَلۡنَا فِيهَاۖ
وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ ٨٢
" فَلَمَّا ٱسۡتَيَۡٔسُواْ مِنۡهُ " لما يئس أخوة يوسف من تخليص أخيهم الذى التزموا لأبيهم برده اليه وعاهدوه على ذلك فامتنع عليهم ذلك ، " خَلَصُواْ نَجِيّٗاۖ " انفردوا عن الناس يتناجون فيما بينهم ، " قَالَ كَبِيرُهُمۡ أَلَمۡ تَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ أَبَاكُمۡ قَدۡ أَخَذَ عَلَيۡكُم مَّوۡثِقٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَمِن قَبۡلُ مَا فَرَّطتُمۡ فِي يُوسُفَۖ " قال أخوهم الأكبر أن أباكم وأنت تعلمون ذلك أشد العلم قد أخذ عليكم عهد وميثاق الله لتردن أخ يوسف اليه فقد تعذر عليكم ذلك مع ما تقدم لكم من اضاعة يوسف عنه ، "فَلَنۡ أَبۡرَحَ ٱلۡأَرۡضَ " لن أفارق هذه البلدة ، " حَتَّىٰ يَأۡذَنَ لِيٓ أَبِيٓ"حتى يأذن لى أبى فى الرجوع اليه راضيا عنى ، " أَوۡ يَحۡكُمَ ٱللَّهُ لِيۖ " أو حتى يحكم الله لى بأخذ أخى أو أن يعمل فى السيف " وَهُوَ خَيۡرُ ٱلۡحَٰكِمِينَ " والله هو خير الحاكمين بقضائه ، " ٱرۡجِعُوٓاْ إِلَىٰٓ أَبِيكُمۡ فَقُولُواْ يَٰٓأَبَانَآ إِنَّ ٱبۡنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدۡنَآ إِلَّا بِمَا عَلِمۡنَا " أمرهم أن يخبروا أباهم بصورة ما وقع من سرقة أبنه للصواع وأنهم يقولون ماشهدوا بعلمه حتى يكون عذرا لهم عنده ويتنصلوا اليه ويبرؤا مما وقع بقولهم وقوله " وَمَا كُنَّا لِلۡغَيۡبِ حَٰفِظِينَ " ماكنا لنعلم ويدخل فى علمنا أن ابنك يسرق فنحن لا نحفظ علم الغيب فهو لله وحده ، " وَسَۡٔلِ ٱلۡقَرۡيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا وَٱلۡعِيرَ ٱلَّتِيٓ أَقۡبَلۡنَا فِيهَاۖ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ "واطلبوا منه أن يسأل ويتحرى فى البلد الذى كانوا فيه وهو مصر والعير التى رافقوها عن صدقهم وأمانتهم وحفظهم وحراستهم وأنهم صادقون فيما أخبروه به من أن أبنه سرق وأخذوه بسرقته .
قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗاۖ فَصَبۡرٞ جَمِيلٌۖ عَسَى
ٱللَّهُ أَن يَأۡتِيَنِي بِهِمۡ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ ٨٣
وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ
مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ ٨٤ قَالُواْ تَٱللَّهِ تَفۡتَؤُاْ تَذۡكُرُ يُوسُفَ
حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوۡ تَكُونَ مِنَ ٱلۡهَٰلِكِينَ ٨٥ قَالَ إِنَّمَآ
أَشۡكُواْ بَثِّي وَحُزۡنِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَأَعۡلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا
تَعۡلَمُونَ ٨٦
"
قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗاۖ فَصَبۡرٞ جَمِيلٌۖ " لما قالوا ليعقوب عليه السلام وأخبروه بما
جرى وقالوا ما قالوا قال لهم كما قال حين جاءوا على قميص يوسف بدم كذب اتهمهم فظن
أنها كفعلتهم بيوسف ثم ترجى من الله أن يرد عليه أولاده الثلاثة يوسف وأخيه وابنه
الأكبر الذى استمر فى مصر ينتظر أمرالله فيه فأما يرجع بأخيه الذى أخذ خفية أو أن
يرضى أبوه عنه فيأذن برجوعه اليه ولهذا
قال يعقوب عليه السلام "عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأۡتِيَنِي بِهِمۡ
جَمِيعًاۚ " أى بأولاده الثلاثة ، " إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ
ٱلۡحَكِيمُ " والله عليم بحالى حكيم فى أفعاله وقضائه وقدره ، "
وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ " وأعرض يعقوب
عليه السلام عن بنيه وقال متذكرا حزن يوسف القديم " وَقَالَ يَٰٓأَسَفَىٰ
عَلَىٰ يُوسُفَ " يا حزنى على يوسف فقد جدد له حزن الابنين الحزن الدفين "وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ
فَهُوَ كَظِيم " أصيب يعقوب بسبب حزنه الشديد وبكائه بالمياه البيضاء فى
عينيه وهى اعتام عدسة العين التى تصيب بضعف الابصار وقد تؤدى الى العمى ان لم
تعالج وظل كظيم أى كئيب حزين , " قَالُواْ تَٱللَّهِ تَفۡتَؤُاْ تَذۡكُرُ
يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوۡ تَكُونَ مِنَ ٱلۡهَٰلِكِينَ " رق
ليعقوب بنوه وقالوا له على سبيل الرفق به والشفقة عليه لا تفارق تذكر يوسف حتى
تكون ضعيف القوة أوان استمر بك هذا الحال خشينا عليك الهلاك ، " قَالَ
إِنَّمَآ أَشۡكُواْ بَثِّي وَحُزۡنِيٓ إِلَى ٱللَّهِ " أجابهم عما قالوا أنه
يشكو همه وما هو فيه من الحزن الى الله وحده ، " وَأَعۡلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا
لَا تَعۡلَمُونَ " يعلم أن ما أخبره به يوسف من رؤيا هو صدق حيث روى له رؤياه
له وحده ولا يعلم بها اخوته شيئا وأن الله لابد أن يظهرها .
يَٰبَنِيَّ ٱذۡهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ
وَأَخِيهِ وَلَا تَاْيَۡٔسُواْ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ لَا
يَاْيَۡٔسُ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ
ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨٧ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيۡهِ قَالُواْ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡعَزِيزُ
مَسَّنَا وَأَهۡلَنَا ٱلضُّرُّ وَجِئۡنَا بِبِضَٰعَةٖ مُّزۡجَىٰةٖ فَأَوۡفِ لَنَا
ٱلۡكَيۡلَ وَتَصَدَّقۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَجۡزِي ٱلۡمُتَصَدِّقِينَ ٨٨
" يَٰبَنِيَّ ٱذۡهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَاْيَۡٔسُواْ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ لَا يَاْيَۡٔسُ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ " ندب يعقوب عليه السلام بنيه على الذهاب فى الأرض يستعلمون أخبار يوسف وأخيه ،والتحسس يكون فى الخير والتجسس يكون فى الشر ونهضهم وبشرهم وأمرهم أن لا ييأسوامن روح الله أى لايقطعوا رجاءهم وأملهم من الله فيما يرمونه ويقصدونه فانه لا يقطع الرجاء ولا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون ، " فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيۡهِ " فلما ذهبوا الى مصر ودخلوا على يوسف عليه السلام ، "قَالُواْ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهۡلَنَا ٱلضُّرُّ " قالوا له أيها العزيز أصابنا وأهلنا الضرر بسبب الجدب والقحط وقلة الطعام" وَجِئۡنَا بِبِضَٰعَةٖ مُّزۡجَىٰة" ومعنا ثمن الطعام الذى نمتاره وهو ثمن قليل وقال أبن عباس الردىء وقال الضحاك كاسدة وأصل الازجاء الدفع لضعف الشىء أو للشىء الضعيف ، " فَأَوۡفِ لَنَا ٱلۡكَيۡلَ " اعطنا بهذا الثمن القليل ما كنت تعطينا قبل ذلك ، " وَتَصَدَّقۡ عَلَيۡنَآۖ " تصدق علينا بقبض هذه البضاعة المزجاة قليلة الثمن وتجوز فيها ، " إِنَّ ٱللَّهَ يَجۡزِي ٱلۡمُتَصَدِّقِينَ " فالله يجزى المتصدقين حسن الجزاء من عنده .
قَالَ هَلۡ عَلِمۡتُم مَّا فَعَلۡتُم بِيُوسُفَ
وَأَخِيهِ إِذۡ أَنتُمۡ جَٰهِلُونَ ٨٩ قَالُوٓاْ أَءِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُۖ قَالَ
أَنَا۠ يُوسُفُ وَهَٰذَآ أَخِيۖ قَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَآۖ إِنَّهُۥ مَن
يَتَّقِ وَيَصۡبِرۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٩٠
قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدۡ ءَاثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيۡنَا وَإِن كُنَّا لَخَٰطِِٔينَ ٩١
قَالَ لَا تَثۡرِيبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡيَوۡمَۖ يَغۡفِرُ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَهُوَ
أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ ٩٢
لما ذكر أخوة يوسف عليه السلام ما أصابهم من الجهد والضيق وقلة الطعام وعموم الجدب وتذكر أباه وما هو فيه من الحزن لفقد ولديه مع ما هو فيه من الملك والتصرف والسعة أخذته رقة ورأفة ورحمة وشفقة على أبيه وأخوته وبدره البكاء فتعرف اليهم " قَالَ هَلۡ عَلِمۡتُم مَّا فَعَلۡتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذۡ أَنتُمۡ جَٰهِلُونَ " ذكرهم بما فعلوه من تفريق بينه وبين أخيه وأبيه وانما حملهم على ذلك الجهل بمقدار ما ارتكبوه وقال بعض السلف كل من عصى الله فهو جاهل كقوله " ثم ان ربك للذين عملوا السوء بجهالة " ، " قَالُوٓاْ أَءِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُۖ " تعرفوا عليه من كلامه لهم وتعجبوا والاستفهام يدل على الاستعظام أى أنهم تعجبوا من ذلك أنهم يترددون اليه من سنتين وأكثر وهم لا يعرفونه وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه ولهذا قالوا ما قالوه على سبيل الاستفهام ، " قَالَ أَنَا۠ يُوسُفُ وَهَٰذَآ أَخِيۖ قَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَآۖ " رد عليهم أنه هو يوسف وأن الله قد أعطاه المنة منه بجمعه بينهم بعد التفرقة وبعد المدة ، " لإِنَّهُۥ مَن يَتَّقِ وَيَصۡبِرۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ " فالله لا يضيع أجر من يتق ويصبر من الذين يحسنون الى الناس ، " قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدۡ ءَاثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيۡنَا وَإِن كُنَّا لَخَٰطِِٔينَ " يقولون معترفين له بالفضل والأثرة عليهم فى الخلق والخلق والسعة والملك والتصرف والنبوة وأقروا بأنهم أساءوا اليه وأخطأوا فى حقه ، " قَالَ لَا تَثۡرِيبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡيَوۡمَۖ يَغۡفِرُ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ " لا تأنيب عليكم ولا عتب عليكم اليوم ولا أعيد عليكم ذنبكم فى حقى بعد اليوم أو لا تانيب عليكم اليوم عندى فيما صنعتم ثم زادهم بالدعاء لهم بالمغفرة من الله أى أن يستر عليهم ما فعلوا برحمته فهو أرحم الراحمين .
ٱذۡهَبُواْ بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلۡقُوهُ عَلَىٰ وَجۡهِ أَبِي يَأۡتِ بَصِيرٗا وَأۡتُونِي بِأَهۡلِكُمۡ أَجۡمَعِينَ ٩٣ وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلۡعِيرُ قَالَ أَبُوهُمۡ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَۖ لَوۡلَآ أَن تُفَنِّدُونِ ٩٤ قَالُواْ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَٰلِكَ ٱلۡقَدِيمِ ٩٥
" ٱذۡهَبُواْ
بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلۡقُوهُ عَلَىٰ وَجۡهِ أَبِي يَأۡتِ بَصِيرٗا
وَأۡتُونِي بِأَهۡلِكُمۡ أَجۡمَعِينَ " طلب يوسف عليه السلام من اخوته أن
يتوجهوا الى أبيهم ويأخذوا قميصه ويلقوه على وجه ابيه يرتد اليه بصره وكان قد عمى
من كثرة البكاء وأن يأتوا بجميع بنى يعقوب معهم ، " وَلَمَّا فَصَلَتِ
ٱلۡعِيرُ " لما خرجت العير من مصر ، " قَالَ أَبُوهُمۡ إِنِّي لَأَجِدُ
رِيحَ يُوسُفَۖ " قال أبوهم يعقوب عليه السلام لمن بقى عنده من بنيه قال أبن
عباس : ولما خرجت العير هجت ريح فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف عليه السلام وقال
الحسن وأبن جريج كان بينهما ثمانون فرسخا ، " لَوۡلَآ أَن تُفَنِّدُونِ
" قال أبن عباس وغيره لولا أن تسفهون أى تتهمونى بالسفه وهو ذهاب العقل ،
" قَالُواْ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَٰلِكَ ٱلۡقَدِيمِ " قالوا
لوالدهم كما قال أبن عباس انك لفى خطئك القديم وقال قتادة من حب يوسف لا تنساه ولا
تسلاه ، قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغى لهم أن يقولوها لوالدهم .
فَلَمَّآ أَن جَآءَ ٱلۡبَشِيرُ أَلۡقَىٰهُ عَلَىٰ
وَجۡهِهِۦ فَٱرۡتَدَّ بَصِيرٗاۖ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مِنَ
ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ ٩٦ قَالُواْ يَٰٓأَبَانَا ٱسۡتَغۡفِرۡ لَنَا
ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَٰطِِٔينَ ٩٧
قَالَ سَوۡفَ أَسۡتَغۡفِرُ لَكُمۡ رَبِّيٓۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ
٩٨
" فَلَمَّآ أَن جَآءَ ٱلۡبَشِيرُ
أَلۡقَىٰهُ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ فَٱرۡتَدَّ بَصِيرٗاۖ " قال أبن عباس البشير
البريد أو الذى يأتى بالخير والبشارة فألقاه على وجيه أبيه فرجع بصيرا قيل أن من
جاء بالقميص هم نفسه من حمل قميص يوسف وهو ملطخ بالدم ليكفر عما فعله من قبل ،
" قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا
تَعۡلَمُونَ " قال لهم يعقوب عليه السلام ألم أخبركم انى أعلم من الله ما لم
تعلموه أنتم أن الله سيرده الى ، " قَالُواْ يَٰٓأَبَانَا ٱسۡتَغۡفِرۡ لَنَا
ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَٰطِِٔينَ " طلبوا من أبيهم أن يصفح عنهم ويعفوا عما وقعوا فيه من
خطأ فى حقه وحق يوسف ، " قَالَ سَوۡفَ أَسۡتَغۡفِرُ لَكُمۡ رَبِّيٓۖ إِنَّهُۥ
هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ " طلب لهم المغفرة من الله وهو الغفور الرحيم
.
فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ ءَاوَىٰٓ إِلَيۡهِ أَبَوَيۡهِ
وَقَالَ ٱدۡخُلُواْ مِصۡرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ ٩٩ وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ
عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ وَقَالَ يَٰٓأَبَتِ هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن
قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّٗاۖ وَقَدۡ أَحۡسَنَ بِيٓ إِذۡ أَخۡرَجَنِي مِنَ
ٱلسِّجۡنِ وَجَآءَ بِكُم مِّنَ ٱلۡبَدۡوِ مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّيۡطَٰنُ
بَيۡنِي وَبَيۡنَ إِخۡوَتِيٓۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ
إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ ١٠٠ ۞
يخبر تعالى
عن ورود يعقوب عليه السلام على يوسف عليه السلام وقدومه الى مصر لما كان يوسف قد
تقدم لاخوته أن يأتوه بأهلهم أجمعين فرحلوا عن آخرهم من بلاد كنعان قاصدين مصر ولما
أخبر يوسف عليه السلام باقتراب والده وأهله أجمعين خرج لتلقيهم وأمر الملك أمراء
وأكابر مصر بالخروج مع يوسف عليه السلام لتلقيهم ويقال أن الملك خرج أيضا لتلقيه
وهو الأشبه " فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ ءَاوَىٰٓ إِلَيۡهِ
أَبَوَيۡهِ وَقَالَ ٱدۡخُلُواْ مِصۡرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ " قال
بعض المفسرين هذا من المقدم والمؤخر أى استقبلهم وقال لهم أن يدخلوا مصر وهم فى
أمان من الجوع والخوف باذن الله ، وآوى
اليه أبويه ورفعهما على العرش وقال السدى أن يوسف عليه السلام آوى اليه أبويه لما
تلقاهما ثم لما وصلوا باب البلد وفى هذا نظر لأن الايواء انما يكون فى المنزل "وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ
" قال أبن عباس وغيره يعنى أجلسهما على سريره ، " وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ "
سجد له أبواه واخوته الباقون وكانوا أحد عشر رجلا وكان سائغا فى شرائعهم اذا سلموا
على الكبير يسجدون له ولم يزل هذا جائزا من لدن آدم الى شريعة عيسى عليه السلام
وحرم فى الاسلام وجعل السجود مختصا بجناب الله سبحانه وتعالى وفى حديث أن سلمان
لقى النبى صلى الله عليه وسلم فى بعض طرق مكة وكان سلمان حديث عهد بالاسلام فسجد
للنبى صلى الله عليه وسلم فقال : " لا تسجد لى يا سلمان واسجد للحى الذى لا
يموت " والغرض أن هذا كان جائزا فى شريعتهم ولهذا خروا سجدا فعندها قال يوسف
عليه السلام " وَقَالَ يَٰٓأَبَتِ هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن قَبۡلُ قَدۡ
جَعَلَهَا رَبِّي حَقّٗا " قال يوسف عليه السلام هذه تفسير رؤياى التى أخبرتها
من قبل ذلك " انى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمررأيتهم لى ساجدين " وقد
تحققت والتأويل يطلق على ما يصير اليه الأمر كما قال تعالى " هل ينظرون الا
تأويله يوم يأتى تأوله " أى يوم القيامة يأتيهم ما وعدوا به من خير وشر
،" وَقَدۡ أَحۡسَنَ بِيٓ إِذۡ أَخۡرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجۡنِ وَجَآءَ بِكُم
مِّنَ ٱلۡبَدۡوِ مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بَيۡنِي وَبَيۡنَ
إِخۡوَتِيٓۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيم "
قد أحسن بى ربى وآتانى من فضله حيث أخرجنى من السجن بتوفيقه, اصبحت عزيزا لمصر
والله قد أنعم عليكم بالقدوم الى مصر وخيرها وتركتم حياة البداوة الشاقة وما
أصبحتم فيه من نعمة الآن وذلك بعد أن تدخل الشيطان فى العلاقة ما بينى وبين اخوتى
ففعلوا بى ما فعلوا وفرقوا بينى وبين أهلى والله اذا أراد أمرا قيض له أسبابا
وقدره ويسره وهو العليم بمصالح عباده والحكيم فى أقواله وأفعاله وقضائه وقدره وما
يختاره وما يريده .
رَبِّ قَدۡ ءَاتَيۡتَنِي مِنَ ٱلۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِي
مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِۚ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَنتَ وَلِيِّۦ
فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا وَأَلۡحِقۡنِي
بِٱلصَّٰلِحِينَ ١٠١
" رَبِّ قَدۡ ءَاتَيۡتَنِي مِنَ ٱلۡمُلۡكِ
وَعَلَّمۡتَنِي مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِۚ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ
أَنتَ وَلِيِّۦ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا
وَأَلۡحِقۡنِي بِٱلصَّٰلِحِينَ " هذا دعاء من يوسف الصديق دعا به ربه عز وجل
لما تمت نعمة الله عليه باجتماعه بأبويه واخوته وما من الله به عليه من النبوة
والملك ومن تفسير الرؤيا و سأل ربه عز وجل كما أتم نعمته عليه فى الدنيا أن يستمر
بها عليه فى الآخرة وأن يتوفاه مسلما حين يتوفاه وأن يلحقه بالصالحين وهم اخوانه
من النبيين والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم ، وهذا الدعاء يحتمل أن يوسف عليه
السلام قاله عند احتضاره كما ثبت فى الصحيحين أن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم جعل يرفع أصبعه عند الموت ويقول " اللهم فى الرفيق الأعلى
" ثلاثا ، وعن محمود بن لبيد مرفوعا أن النبى صلى الله عليه وسلم قال :
" اثنتان يكرههما أبن آدم : يكره الموت والموت خير للمؤمن من الفتن ، ويكره
قلة المال وقلة المال أقل للحساب " فعند حلول الفتن فى الدين يجوز سؤال الموت
، وفى الحديث " ان الرجل ليمر بالقبر - أى فى زمن الدجال - فيقول يا ليتنى
مكانك " لما يرى من الفتن والزلازل والأمور الهائلة التى هى فتنة لكل مفتون .
ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡغَيۡبِ نُوحِيهِ إِلَيۡكَۖ
وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ أَجۡمَعُوٓاْ أَمۡرَهُمۡ وَهُمۡ يَمۡكُرُونَ ١٠٢
وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣ وَمَا تَسَۡٔلُهُمۡ
عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ ١٠٤
" ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡغَيۡبِ نُوحِيهِ إِلَيۡكَۖ " يقول تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم لما قص عليه نبأ اخوة يوسف عليه السلام وكيف رفعه الله عليهم وجعل له العاقبة والنصر والملك والحكم مع ما أرادوا به من السوء والهلاك وهذا وأمثاله من أخبار الغيوب السابقة نوحيه اليك ونعلمك به لما فيه من العبرة لك الاتعاظ لمن خالفك ، " وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ " وماكنت حاضرا عندهم مشاهدا لهم ، " إِذۡ أَجۡمَعُوٓاْ أَمۡرَهُمۡ وَهُمۡ يَمۡكُرُونَ " اذ أجمعوا أمرهم أن يلقوا يوسف عليه السلام فى البئر ولكنا أعلمناك به وحيا اليك وانزالا عليك كقوله " وماكنت لديهم اذ يلقون أقلامهم " وكقوله " وما كنت بجانب الغربى اذ قضينا الى موسى الأمر " ، " وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ " يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم انه قد أطلعه على أنباء ما قد سبق مما فيه عبرة للناس ونجاة لهم فى دينهم ودنياهم ومع هذا ما آمن أكثر الناس ، " وَمَا تَسَۡٔلُهُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٍۚ " ما نسألهم يا محمد على هذا النصح والدعاء الى الخير والرشد من أجر بل تفعله ابتغاء وجه الله ونصحا لخلقه ، " إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ " هذا الذى قصصناه عليك ما هو الا تذكرة يتذكرون به ويهتدون به وينجحون فى الدنيا والآخرة .
وَكَأَيِّن
مِّنۡ ءَايَةٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ يَمُرُّونَ عَلَيۡهَا
وَهُمۡ عَنۡهَا مُعۡرِضُونَ ١٠٥ وَمَا يُؤۡمِنُ أَكۡثَرُهُم بِٱللَّهِ إِلَّا
وَهُم مُّشۡرِكُونَ ١٠٦ أَفَأَمِنُوٓاْ أَن تَأۡتِيَهُمۡ غَٰشِيَةٞ مِّنۡ عَذَابِ ٱللَّهِ
أَوۡ تَأۡتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغۡتَةٗ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ ١٠٧
" وَكَأَيِّن مِّنۡ ءَايَةٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ يَمُرُّونَ عَلَيۡهَا وَهُمۡ عَنۡهَا مُعۡرِضُون " يخبر الله تعالى عن غفلة أكثر الناس عت التفكر فى آيات الله ودلائل توحيده بما خلقه الله فى السموات والأرض من كواكب َ وحدائق وجنات وجبال وبحار وأنهار وحيوانات ونباتات فسبحان الله الواحد الأحد له الدوام ، " وَمَا يُؤۡمِنُ أَكۡثَرُهُم بِٱللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشۡرِكُونَ " وكثير من الناس يؤمن بالله وهو مشرك أى يعترف أن الله هو الخالق للسموات والأرض ومع ذلك يشركون الأصنام والأوثان ويعبدونها من دون الله وقال أبن عباس : من ايمانهم أنهم اذا قيل لهم من خلق السموات ومن خلق الأرض ومن خلق الجبال ؟ قالوا الله وهم مشركون به وقال الحسن البصرى ذلك المنافق يعمل اذا عمل رياء الناس وهو مشرك بعمله ذلك ، وفى الصحيحين ان المشركين كانوا يقولون فىتلبيتهم : لبيك لا شريك لك الا شريك هو لك ، تملكه وما نلك " وقال تعالى " ان الشرك لظلم عظيم" والشرك الأعظم أن يعبد مع الله غيره وفى الصحيحين عن أبن مسعود قلت يا رسول أى الذنب أعظم ؟ " قال : " أن تجعل مع الله ندا وهو خلقك " وثمشرك آخر خفى لا يشعر به غالبا فاعله ففى الحديث " من حلف بغير الله فقد أشرك " وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله علسيه وسلك :" ان الرقى والتمائم والتولة شرك " ، وعن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ان أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال "الرياء " يقول الله تعالى يوم القيامة اذا جازى الناس بأعمالهم اذهبوا الى الذين كنتم تراؤن فى الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ؟ " ، وعن أبى بكر رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الشرك أخفى فى أمتى من دبيب النمل على الصفا " فقال أبو بكر : يارسول الله فكيف النجاة والمخرج من ذلك ؟ " فقال : " ألا أخبرك بشىء اذا قلته برئت من قليله وكثيره وصغيره وكبيره ؟ " قال : بلى يا رسول الله " قال :" قل اللهم انى أعوذ بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم " ، " أَفَأَمِنُوٓاْ أَن تَأۡتِيَهُمۡ غَٰشِيَةٞ مِّنۡ عَذَابِ ٱللَّهِ أَوۡ تَأۡتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغۡتَةٗ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ " أفأمن هؤلاء المشركون بالله أن يأتيهم أمر يغشاهم من عذاب الله أو تحل الساعة بغتة من حيث لا يشعرون وهذا كقوله " أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون " .
قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ
عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠
مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٠٨
" قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ
أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ "
يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم الى الثقلين النس والجن أمرا له أن
يخبرالناس أن هذه سبيله أى طريقته ومسلكه وسنته وهى الدعوة الى شهادة أن لا اله
الا الله وحده لا شريك له يدعو الى الله على بصيرة من ذلك ويقين وبرهان هو وكل من
اتبعه يدعوا الى ما دعا اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بصيرة وبرهان عقلى
وشرعى . ، " وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ "
أى وأنزه الله وأجله وأعظمه وأقدسه عن أن يكون له شريك أو نظير أو عديل أو ند أو
ولد أو صاحبة تبارك وتقدس وتنزه وتعالى عن ذلك كله علوا كبيرا .
وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِم
مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰٓۗ أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ
كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۗ وَلَدَارُ ٱلۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ
ٱتَّقَوۡاْۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ ١٠٩
" وَمَآ
أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِم " يخبر تعالى أنه انما أرسل رسله
من الرجال لا من النساء كما دل عليه سياق هذه الآية وقال أبن عباس رجالا أى ليسوا
من أهل السماء وكقوله " وما أرسلنا قبلك من المرسلين الا انهم ليأكلون الطعام
ويمشون فى الأسواق " ، والذى عليه
أهل السنة والجماعة أنه ليس فى النساء نبية وانما فيهن صديقات كما قال تعالى عن
مريم بنت عمران " ما المسيح أبن مريم الا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه
صديقة كانا يأكلان الطعام " فوصفها فى أشرف مقاماتها بالصديقة فلو كانت نبية
لذكر ذلك فى مقام التشريف والاعظام فهى صديقة بنص القرآن ، " مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰٓۗ " المراد بالقرى
المدن لا أنهم من أهل البوادى الذين هم من أجفى الناس طبعا وأخلاقا وهذا هو
المعهود المعروف أن أهل المدن أرق طبعا وألطف من أهل بواديهم وأهل الريف والسواد
أقرب حالا من الذين يسكنون فى البوادى ، "فَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ
" هؤلاء المكذبين لك يا محمد فى الأرض ألم يسيروا فيها ، " فَيَنظُرُواْ
كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۗ " فينظروا ويفكروا ويتدبروا كيف كانت عاقبة
المكذبين من هذه الأمم السابقة كيف دمر الله عليهم ، " وَلَدَارُ ٱلۡأٓخِرَةِ
خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ
ٱتَّقَوۡاْۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ " وكما نجينا المؤمنين فى الدنيا كذلك كتبنا
لهم النجاة فى الدار الآخرة وهى خير لهم من الدنيا بكثير ويتوجه الله بالخطاب الذى
يدعو الى التفكر والتعقل لما يقوله الله .
حَتَّىٰٓ إِذَا ٱسۡتَيَۡٔسَ
ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ جَآءَهُمۡ نَصۡرُنَا فَنُجِّيَ
مَن نَّشَآءُۖ وَلَا يُرَدُّ بَأۡسُنَا عَنِ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ ١١٠
يذكر
الله تعالى أن نصره ينزل على رسله صلوات الله وسلامه عليهم عند ضيق الحال وانتظار
الفرج من الله فى أحوج الأوقات وذلك كقوله
" وزلزلوا حتى يقوا الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله " حَتَّىٰٓ
إِذَا ٱسۡتَيَۡٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ
كُذِبُواْ " عند ضيق الحال بالرسل بسبب تكذيب قومهم لهم قالت عائشة رضى الله عنها كذبوا أى استيقنوا أن
قومهم كذبوهم وقال أبن عباس كذلك لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم وظن قومهم أن
الرسل قد كذبوا وكقوله " حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا
ان نصر الله قريب " ، " جَآءَهُمۡ نَصۡرُنَا " حينئذ يأتى نصر
الله ، " فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُۖ وَلَا يُرَدُّ بَأۡسُنَا عَنِ ٱلۡقَوۡمِ
ٱلۡمُجۡرِمِينَ " فينجى بمشيئته الرسل وينصرهم وينزل بأسه بمن كفروا بهم واذا
قضى الله أمره فلا يرد جزاء على اجرامهم فى حق الله بالكفر والشرك .
لَقَدۡ كَانَ فِي قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةٞ لِّأُوْلِي
ٱلۡأَلۡبَٰبِۗ مَا كَانَ حَدِيثٗا يُفۡتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصۡدِيقَ ٱلَّذِي بَيۡنَ
يَدَيۡهِ وَتَفۡصِيلَ كُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ ١١١
" لَقَدۡ
كَانَ فِي قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةٞ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِۗ " يقول تعالى لقد كان فى خبر
المرسلين مع قومهم وكيف نجينا المؤمنين وأهلكنا الكافرين من العبر والدروس
المستفادة وذلك لأصحاب العقول ، " مَا كَانَ حَدِيثٗا
يُفۡتَرَىٰ" ما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله أى يكذب ويختلق ، "
وَلَٰكِن تَصۡدِيقَ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ " القرآن يصدق مافى الكتب
السابقة المنزلة من عند الله من الصحيح وينفى ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير
ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير ، " وَتَفۡصِيلَ كُلِّ شَيۡء" وبه تفصيل
كل شىء من تحليل وتحريم ومحبوب ومكروه وغير ذلك من الأمر بالطاعات الواجبات
والمستحبات والنهى عن المحرمات وما شاكلها من المكروهات والاخبار عن الأمور
الجبلية وعن الغيوب المستقبلية المجملة والتفصيلية والاخبار عن الرب تبارك وتعالى
بالأسماء والصفات وتنزهه عن مماثلة المخلوقات فلهذا كان " وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ " هدى تهتدى به القلوب من الغى الى الرشاد
ومن الضلال الى الرشاد ويبتغون به الرحمة من رب العباد وفى هذه الحياة الدنيا ويوم
المعاد وهذا لمن يؤمنون بالله .
الجزء الثالث عشر
تفسير سورة الرعد
هى سورة مكية بها من الآيات الكونية التى أنزلها الله
ومنها الرعد الظاهرة الكونية الآلهية التى سميت به السورة وككل السور المكية فى
دليل على قدرة الله ووحدانية ودعوة لمشركى مكة للايمان بالله .
الٓمٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِۗ وَٱلَّذِيٓ أُنزِلَ
إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ ١
" الٓمٓرۚ " تقدم الحديث فى سورة البقرة عن الحروف
المقطعة فى أوائل السور ، " تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِۗ " هذه آيات الكتاب وهو القرآن ، " وَٱلَّذِيٓ
أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ " الواو عطف صفات وهذا القرآن الذى أنزل اليك
من ربك ، " ٱلۡحَقُّ " هو الحق
الذى لا ريب فيه ولا شك فيه ، " وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا
يُؤۡمِنُونَ " ومع هذا البيان والجلاء والوضوح فان أكثر الناس لايؤمنون لما
فيهم من الشقاق والعناد والنفاق .
ٱللَّهُ
ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ
ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ
يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ ٢
يخبر الله تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه "
ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَاۖ " أنه
الذى باذنه وأمره رفع السموات بغير عمد ترى وهذه من آيات الاعجاز العلمى وهى
الجاذبية التى هى من قدرة الله رفع السماء بعدا لايدرك مداها وفى تفسير أبن كثير
انعكاس لما فى عصره ولكن فى العصر الحديث هناك آيات الاعجاز العلمى ولا يعرف أحد
عدد السموات لابتعاد المسافات التى تقاس بآلاف الملايين من السنوات الضوئية وهذا
موضوع يحتاج كتب ومناقشة لو حده فى علم الفلك ونشير هنا الى لجنة الاعجاز العلمى
التى يترأسها الدكتور زغلول النجار ، " ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ
" ورد ذكر العرش فى الآية 54 من سورة الأعراف وفى هذا المقام مقالات كثيرة
ولكن مذهب السلف الصالح من أئمة المسلمين امرارها كماجاءت من غير تكييف ولا تشبيه
فالله لا يشبهه شىء من خلقه وليس كمثله شىء ومن ضمن الأقوال قول نعيم بن حماد
الخزاعى شيخ البخارى قال من شبه الله بخلقه كفر ومنجحد ماوصف الله بهنفسه فقد كفر
وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات
الصريحة على الوجه الذى يليق بجلال الله ونفى عن الله النقائص فقد سلك سبيل الهدى
، " وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ" والمراد أنهما يجريان الى انقطاعهما بقيام الساعة وهما من
آيات الله فى الكون " يُدَبِّرُ
ٱلۡأَمۡرَ " الله يدبر الأمور كلها بتدبيره فى هذا الكون الفسيح ويسيرها وحده
، " يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ "
الله يوضح الآيات والدلالات الدالة على أنه لا اله الا هو وأنه يعيد الخلق اذا شاء
كما
بدأه .
وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ فِيهَا
رَوَٰسِيَ وَأَنۡهَٰرٗاۖ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ جَعَلَ فِيهَا زَوۡجَيۡنِ
ٱثۡنَيۡنِۖ يُغۡشِي ٱلَّيۡلَ ٱلنَّهَارَۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ ٣
وَفِي ٱلۡأَرۡضِ قِطَعٞ مُّتَجَٰوِرَٰتٞ وَجَنَّٰتٞ مِّنۡ أَعۡنَٰبٖ وَزَرۡعٞ وَنَخِيلٞ صِنۡوَانٞ وَغَيۡرُ صِنۡوَانٖ يُسۡقَىٰ بِمَآءٖ وَٰحِدٖ وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا
عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلۡأُكُلِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ ٤ ۞
"
وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۡهَٰرٗاۖ وَمِن
كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ جَعَلَ فِيهَا زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِۖ يُغۡشِي ٱلَّيۡلَ
ٱلنَّهَارَۚ " يذكر الله تعالىقدرته الكونية فى الخلق ومن خلقه تهيأة الأرض
للحياة فهو الذى بسط الأرض وخلق فيها الجبال وسماها روسى وهى التى تحفظ توازن
الأرض وجعل فى الأرض الأنهار وأنبت فى الأرض من الثمرات المختلفة والنباتات التى
فى خلقها نمن الاعجاز ما فيه وجعل من نبات زوجين أى ذكر وأنثى وكل هذا الذى ذكر
يحتاج الى تفصيل كبير وكلت به لجنة الاعجاز العلمى فى الكتاب والسنة وكذلك تعاقب
الليل والنهار فاذا ذهب هذا غشيه هذا واذا انقضى هذا جاء الآخر ، " إِنَّ فِي
ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ " فى كل هذه الآيات الكونية وحكم الله
دلائله على قدرة الله ووحدانيته وعظمته لمن هم يتفكرون ويتدبرون ويعرفون خلقه وهم
العلماء المفكرون والعلم الحديث يوما بعد يوم يكشف لنا ما جاء به القرآن من أدلة
أنه منزل من رب العالمين ، " وَفِي ٱلۡأَرۡضِ قِطَعٞ مُّتَجَٰوِرَٰت"
أراضى يجاور بعضها بعضا ويدخل فى هذه الآية اختلاف بقاع الأرض المتجاورة فى أشياء
كثيرة واختلاف أنواع التربة مما يدل على قدرة وصنعة الخالق فهذه أرض طيبة خصبة
تنبت الزروع والثمار وهذه أرض طينية وهذه أرض رملية وهذه أرض حجرية وهذه باردة
وهذه حارة تنوع الأقاليم وهذا ما يختص به علوم كثيرة تدرس الأرض مثل الجغرافية
والجيولوجيا والتعدين وغيرها فتنوع قطع الأرض المتجاورة اعجاز من الله فى خلق
الأرض مما يدل على الفاعل المختار لا اله الا هو ولا رب سواه ، " وَجَنَّٰتٞ مِّنۡ أَعۡنَٰبٖ وَزَرۡعٞ وَنَخِيل" من قدرة الله تعالى اخراجه الثمار من الأرض بأنواعها المختلفة ويوجد على
الأرض من فصائل النباتات الآلاف التى تحتاج الى دراسة وتختص بها علوم مختلفة منها
علوم النبات التى تدرس فى تخصصات فى كليات وأقسام " صِنۡوَانٞ وَغَيۡرُ
صِنۡوَان" الصنوان هو الأصول المجتمعة فى منبت واحد كالرمان والتين وبعض
النخيل ونحو ذلك وغير الصنوان ما كان على أصل واحد كسائر الأشجار ومنه سمى عم
الرجل صنو أبيه ، ( فى تفسير هذه الأيات من آيات الاعجاز العلمى نحتاج الى تفسير
لوحده لأنها سبقت عصرها وتخضع حاليا للدراسة من جانب لجنة أو هيئة الاعجاز العلمى
فى الكتاب والسنة ويرأسها الدكتور زغلول النجار لمن أراد الاستزادة ) ، "
يُسۡقَىٰ بِمَآءٖ وَٰحِد" هذه الثمار تسقى بماء
واحد أما ماء عذب أو ماء مالح ونفس الماء ينبت الزروع المختلفة وكلها تستمد من
طبيعة واحدة وهو الماء مع هذا الاختلاف الكثير الذى لا ينحصر ولا ينضبط ،
" وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَىٰ
بَعۡضٖ فِي ٱلۡأُكُلِۚ "
هذه الثمار والزروع يفضل بعضها بعضا حتى فى الثمرة الواحدة وكذلك فى الطعم منها
الجيد ومنها الأقل جودة ومنها الحلو ومنها الحامض ومنها المر ومنها السام ومنها
المفيد وهكذا من اعجاز الله فى خلقه مما يحتاج الى دراسات وعلوم ، " إِنَّ
فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ " فى
خلق الله سبحانه وتعالى آيات لمن كان واعيا وله عقل ولب يدرس ويفكر ويتأمل وهذا من
أعظم الدلالات على الفاعل المختار الذى بقدرته فاوت بين الأشياء وخلقها على ما
يريد .
وَإِن تَعۡجَبۡ فَعَجَبٞ قَوۡلُهُمۡ أَءِذَا
كُنَّا تُرَٰبًا أَءِنَّا لَفِي خَلۡقٖ جَدِيدٍۗ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ
بِرَبِّهِمۡۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ ٱلۡأَغۡلَٰلُ فِيٓ أَعۡنَاقِهِمۡۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ
أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٥
"وَإِن تَعۡجَبۡ فَعَجَبٞ قَوۡلُهُمۡ "يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ان تعجب من تكذيب هؤلاء المشركين بالمعاد مع ما يشاهدونه من آيات الله سبحانه ودلائله فى خلقه على أنه القادر على ما يشاء ومع ما يعترفون به من أنه ابتدأ خلق الأشياء فكونها بعد أن لم تكن شيئا مذكورا ثم هم بعد ذلك يكذبون خبره فى أنه سيعيد العالم خلقا جديدا وقد اعترفوا وشاهدوا ما هو أعجب مما كذبوا به فالعجب فى قولهم ،" أَءِذَا كُنَّا تُرَٰبًا أَءِنَّا لَفِي خَلۡقٖ جَدِيدٍۗ " قول الكافرين الذى يثير العجب هو البعث بعد الموت والبلى والفناء بعد أن تصبح الأجساد ترابا وقد وردت آيات كثيرة فى ذلك كقوله " أو لم يروا أن الله الذى خلق السموات والأرض ولم يعى بخلقهن بقادر على أن يحيى الموتى بلى انه على كل شىء قدير " ، " أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ ٱلۡأَغۡلَٰلُ فِيٓ أَعۡنَاقِهِمۡۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ " هؤلاء الكفار بربهم الذين ينكرون يوم المعاد والبعث يبعثون يوم القيامة وتضع الأغلال فى أعناقهم ويسحبون فى نار جهنم ماكثون فى النار أبدا لا يحولون عنها ولا يزالون .
وَيَسۡتَعۡجِلُونَكَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبۡلَ ٱلۡحَسَنَةِ
وَقَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِمُ ٱلۡمَثُلَٰتُۗ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغۡفِرَةٖ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ
ظُلۡمِهِمۡۖ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٦
" وَيَسۡتَعۡجِلُونَكَ " يخاطب الله رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء المكذبون يستعجلونه ،" بِٱلسَّيِّئَةِ قَبۡلَ ٱلۡحَسَنَةِ " بالعقوبة من شدة تكذيبهم وعنادهم وكفرهم يطلبون أن يأتيهم بعذاب الله كقوله " ويستعجلونك بالعذاب " وكقوله " وقالوا ربنا عجل لنا قطنا " أى عقابنا وحسابنا ، " وَقَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِمُ ٱلۡمَثُلَٰتُۗ " يقول تعالى أوقعنا نقمنا بالأمم الخالية وجعلناهم عبرة وعظة لمن اتعظ بهم ، " وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغۡفِرَةٖ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلۡمِهِمۡۖ " الله تعالى ذو عفو وصفح وستر للناس مع أنهم يظلمون ويخطئون بالليل والنهار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدا العيش ، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل واحد " " وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ " قرن الله هذا الحكم بأنه شديد العقاب ليعتدل الرجاء والخوف وهناك آيات كثيرة تجمع الرجاء والخوف كقوله "نبىء عبادى أنى أنا الغفور الرحيم * وأن عذابى هو العذاب الأليم "وكقوله "ان ربك لسريع العقاب وانه لغفور رحيم".
وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ
عَلَيۡهِ ءَايَةٞ مِّن رَّبِّهِۦٓۗ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٞۖ وَلِكُلِّ قَوۡمٍ
هَادٍ ٧
"
وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ ءَايَةٞ مِّن
رَّبِّهِۦٓۗ " يقول الله
تعالى اخبارا عن المشركين أنهم يقولون كفرا وعنادا لولا يأتينا بآية من ربه كما
أرسل الأولون كما تعنتوا عليه أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن يزيح عنهم الجبال ويجعل
مكانها مروجا وأنهارا ، " إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِر " انما عليك أن تبلغ
رسالة الله التى أمرك بها ، " ۖ وَلِكُلِّ قَوۡمٍ هَادٍ " وقال أبن عباس
لكل قوم داع وقال العوفى عن أبن عباس فى الآية يقول تعالى أنت يا محمد منذر وأنا
هادى كل قوم وقال مجاهد " وَلِكُلِّ قَوۡمٍ هَادٍ " أى نبى كقوله "
وان من أمة الا خلا فيها نذير " وقال مالك " وَلِكُلِّ قَوۡمٍ هَادٍ
" يدعوهم الى الله عز وجل .
ٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَحۡمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا
تَغِيضُ ٱلۡأَرۡحَامُ وَمَا تَزۡدَادُۚ وَكُلُّ شَيۡءٍ عِندَهُۥ بِمِقۡدَارٍ ٨
عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلۡكَبِيرُ ٱلۡمُتَعَالِ ٩
" ٱللَّهُ
يَعۡلَمُ مَا تَحۡمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ " يخبر الله تعالى عن تمام علمه الذى لا
يخفى عليه شىء وأنه محيط بما تحمله الحوامل من كل اناث الحيوانات كما قال تعالى
" ويعلم ما فى الأرحام " وكقوله " هو أعلم بكم اذ أنشأكم من الأرض
واذ أنت أجنة " وفى الصحيحين عن أبن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : " ان خلق أحدكم يجمع فى بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل
ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات : يكتب رزقه
وعمره وعمله وشقى أو سعيد " وفى الحديث الآخر فيقول الملك " أى رب أذكر
أم أنثى ؟ أى رب أشقى أم سعيد ؟ فما الرزق ؟ فما الأجل ؟ فيقول الله ويكتب الملك
" ، " وَمَا تَغِيضُ ٱلۡأَرۡحَامُ وَمَا تَزۡدَادُۚ " قال أبن عباس
ما نقصت عن تسعة وما زاد عليها ، وقال البخارى عن أبن عمر أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : " مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن الا الله ، لا يعلم ما فى غد
الا الله ، ولا يعلم ما تغيض الأرحام الا الله ، ولا يعلم متى يأتى المطر أحد الا
الله ، ولا تدرى نفس بأى أرض تموت ، ولا يعلم متى تقوم الساعة الا الله " ،
" وَكُلُّ شَيۡءٍ عِندَهُۥ بِمِقۡدَارٍ " قال قتادة كل شىء عنده بمقدار
أى بأجل ، حفظ أرزاق خلقه وآجالهم وجعل لذلك أجلا معلوما ، "عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ "
يعلم كل شىء مما يشاهده العباد ومما يغيب عنهم ولا يخفى عليه منه شىء " ٱلۡكَبِيرُ
" الذى هو أكبر من كل شىء والكل يصغر ويتضاءل أما عظمته وجلاله ، " ٱلۡمُتَعَالِ
" وهو المتعال على كل شىء فكل شىء ما دون الله قهر كل شىء فخضعت له الرقاب
ودان له العباد طوعا وكرها .
سَوَآءٞ مِّنكُم مَّنۡ أَسَرَّ ٱلۡقَوۡلَ وَمَن جَهَرَ بِهِۦ
وَمَنۡ هُوَ مُسۡتَخۡفِۢ بِٱلَّيۡلِ وَسَارِبُۢ بِٱلنَّهَارِ ١٠ لَهُۥ مُعَقِّبَٰتٞ مِّنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ
وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ يَحۡفَظُونَهُۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا
يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ وَإِذَآ أَرَادَ
ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ سُوٓءٗا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن
وَالٍ ١١
" سَوَآءٞ مِّنكُم مَّنۡ أَسَرَّ ٱلۡقَوۡلَ وَمَن جَهَرَ بِهِۦ" يخبر تعالى عن احاطة علمه بجميع خلقه وأنه سواء منهم من أسر بقوله أوجهر به فانه يسمعه لا يخفى عليه شىء كقوله " ويعلم ما تخفون وما تعلنون " وكقوله " وان تجهر بالقول فانه يعلم السر وأخفى "وَمَنۡ هُوَ مُسۡتَخۡفِۢ بِٱلَّيۡلِ "يعلم من هو مختف فى قعر بيته أو فى أى مكان فى ظلام الليل ويعلم ما هو عليه وما حاله ، " وَسَارِبُۢ بِٱلنَّهَارِ" ومن هو ماش يسعى فى بياض النهار وضيائه فان كلا هما فى علم الله على السواء من هو فى جنح الليل ومن هو فى بياض النهار ، " لَهُۥ مُعَقِّبَٰتٞ مِّنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ " للعبد ملائكة يتعاقبون عليه حرس بالليل وحرس بالنهار يحفظونه من الأسواء والحادثات ، كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ الأعمال من خير أو شر ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، فاثنان عن اليمين والشمال يكتبان الأعمال صاحب اليمين يكتب الحسنات ، وصاحب الشمال يكتب السيآت وكقوله تعالى " ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد "، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه واحد من ورائه وآخر من أمامه فهو بين أربعة أملاك بالنهار وأربعة آخرين بالليل بدلا حافظان زكاتبان كما جاء فى الصحيح " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون فى صلاة الصبح وصلاة العصر فيصعد اليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بكم كيف تركتم عبادى ؟ فيقولون أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون" وفى الحديث الآخر " ان معكم من لا يفارقكم الا عند الخلاء وعند الجماع فاستحيوهم وأكرموهم" وعن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما منكم من أحد الا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة " قالوا : واياك يارسول الله ؟ " قال " واياى ولكن الله أعاننى عليه فلا يأمرنى الا بخير " ، " يَحۡفَظُونَهُۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۗ " قال بعضهم بأمر الله كما جاء فى الحديث أنهم قالوا : يارسول الله أرايت رقيا نسترقى بها هل ترد من قدر الله شيئا ؟ فقال " هى من قدر الله " ،" إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ " الله سبحانه وتعالى يطلب من عباده أن يستمروا على الصلاح وهو يجازى على الفعال صالحها وسيئها فان استمروا على الصلاح كافأهم وان تحولوا الى الأسوأ عاقبهم والعكس أى ان كانوا على سوء وأصلحوا أحوالهم قبل توبتهم وأبدلهم حسنا ، وفى حديث غريب ولا يعرف اسناده يقول عمير بن عبد الملك خطبنا على بن أبى طالب على منبر الكوفة ومن ضمن ما قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه عن رب العزة قال " قال الرب وعزتى وجلالى وارتفاعى فوق عرشى ما من قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهت من معصيتى ثم تحولوا عنها الى ما أحببت من طاعتى الا تحولت لهم عما يكرهون من عذابى الى ما يحبون من رحمتى " ، " وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ سُوٓءٗا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ " اذا أراد الله سبحانه وتعالى معاقبة قوم بعملهم فلا يستطيع أحد أن يرد قضائه وارادته وليس له من الله من مؤيد ولا ناصر ينصره .
هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمُ ٱلۡبَرۡقَ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَيُنشِئُ ٱلسَّحَابَ
ٱلثِّقَالَ ١٢ وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعۡدُ بِحَمۡدِهِۦ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ مِنۡ
خِيفَتِهِۦ وَيُرۡسِلُ ٱلصَّوَٰعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمۡ
يُجَٰدِلُونَ فِي ٱللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ ٱلۡمِحَالِ ١٣
"
هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمُ ٱلۡبَرۡقَ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا " يخبر الله تعالى أنه هو الذى يسخر البرق وهو ما يرى
من النور الساطع من خلال السحب (عند ارتطام سحابتين لسقوط المطر وهو يتولد من شحنات كهربية
عالية وهو من آيات الله ويمكن الاستزادة فى دراسة الاعجاز العلمى وقدرة الله فى
تكون البرق والرعد فلم تكن فى عصر أبن كثير دراسات لذلك وهو يقول ما يعرف ولهذا
جاءت الآية البرق فيه خوف حيث يمكن أن ينتج منه الصواعق المدمرة وفيه طمع أى خير
حيث يرتبط بسقوط المطر وما يأتى به من خير ) عن سالم عن أبيه قال كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم اذا سمع الرعد والصواعق قال : " اللهم لا تقتلنا بغضبك
ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل دلك " ،" وَيُنشِئُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ "
وقال مجاهد السحاب الثقال الذى فيه الماء أى ويخلقها منشأة جديدة وهى لكثرة مائها
ثقيلة قريبة الى الأرض ( هذا تفسير أبن كثير لذلك حسب علم عصره )السحاب الثقال اى
المحملة ببخار الماء التى ينزل منها المطر وكما نعلم والقرآن به الكثير من الآيات
التى يعلم تأويلها الله ولا يتعارض القرآن أبدا ما أتى به العلم ، " وَيُسَبِّحُ
ٱلرَّعۡدُ بِحَمۡدِهِۦ" كل شىء خلقه الله يسبح له بطريقته من ظواهر وبشر وحجر
وكل الخلائق مما يعجز البشر عن فهمه كقوله " وان من شىء الا يسبح بحمده
" ، " وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ مِنۡ خِيفَتِهِۦ" الملائكة تسبح لله خشية
له طاعة كما قال الله تعالى " انما يخشى الله من عباده العلماء "
والخشية هنا الخوف من عقابه والطمع فى ثوابه ، " وَيُرۡسِلُ ٱلصَّوَٰعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ " يرسل الله
الصواعق نقمة ينتقم بها ممن يشاء ولهذا تكثر فى آخر الزمان وروى فى سبب نزولها ما
روى عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا مرة الى رجل من فراعنة العرب
فقال : " اذهب فادعه لى " فذهب اليه فقال يدعوك رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال له : من رسول الله ؟ وما الله أمن ذهب هو أم من فضة هو أم من نحاس هو ؟
فرجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال يارسول الله قد أخبرتك أنه
أغنى من ذلك قال لى كذا وكذا ، فقال لى : ارجع اليه الثانية " أراه فذهب فقال
له مثلها فرجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله قد أخبرتك
أنه أغنى من ذلك ، فقال : ارجع اليه فادعه " فرجع اليه الثالثة فأعاد عليه
ذلك الكلام فبينما هو يكلمه اذ بعث الله عز وجل سحابة حيال رأسه فرعدت فوقعت منها
صاعقة فذهبت بقحف رأسه فأنزل الله عز وجل " وَيُرۡسِلُ ٱلصَّوَٰعِقَ
فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمۡ يُجَٰدِلُونَ فِي ٱللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ
ٱلۡمِحَالِ ، " وَهُمۡ يُجَٰدِلُونَ فِي ٱللَّهِ " أى
يشككون فى عظمته وأنه لا اله الا هو ، " وَهُوَ شَدِيدُ ٱلۡمِحَالِ "
قال أبن جرير شدته فى عقوبة منطغى عليه وتمادى فى كفره وعن على رضى الله عنه لأى
شديد الأخذ وقال مجاهد شديد القوة.
لَهُۥ دَعۡوَةُ ٱلۡحَقِّۚ وَٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن
دُونِهِۦ لَا يَسۡتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيۡءٍ إِلَّا كَبَٰسِطِ كَفَّيۡهِ إِلَى
ٱلۡمَآءِ لِيَبۡلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَٰلِغِهِۦۚ وَمَا دُعَآءُ
ٱلۡكَٰفِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ ١٤
"لَهُۥ
دَعۡوَةُ ٱلۡحَقِّۚ " قال على بن طالب رضى الله عنه الحق هو التوحيد أى لله
دعوة التوحيد وقال أبن عباس وغيره دعوة الحق هى لا اله الا الله ، " وَٱلَّذِينَ
يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا يَسۡتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيۡءٍ " ومثل الذين
يعبدون آلهة غير الله هذه الآلهة والأصنام والأوثان لا تضر و لا تنفع ولا تستجيب
لمن يدعوها بشىء ، " إِلَّا كَبَٰسِطِ كَفَّيۡهِ إِلَى ٱلۡمَآءِ لِيَبۡلُغَ
فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَٰلِغِهِۦ" مثل هؤلاء الذين يدعون آلهة من دون الله كمن
يبسط يده الى الماء كقابض عليه فانه لا يحكم منه على شىء أو يمد يده ليتناول الماء
عن بعد فلا يأتيه أبدا فلا ينتفع بالماء لأنه لن يبلغ فاه ليشرب فكذلك هؤلاء
الكفار المشركون الذين يعبدون مع الله الهة آخرى لا ينتفعون بهم أبدا فى الدنيا
ولا فى الآخرة ولهذا قال " وَمَا دُعَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَٰل
" وهكذا فان ما يدعيه الكافرون لا يوصلهم الى هدى أبدا كما لم يصلوا الى
الماء فهم فى ضلال وتشبيه الدعوة والتوحيد كالماء الذى هو فيه الحياة تشبيه بليغ
وكذلك دعوة التوحيد تحيا بها النفوس والقلوب وتتعطش اليها وتسعى فى طلبها وفيها
حياة النفوس .
وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ
وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعٗا وَكَرۡهٗا وَظِلَٰلُهُم بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ۩ ١٥
"
وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعٗا وَكَرۡهٗا
وَظِلَٰلُهُم بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ " يخبر تعالى عن عظمته وسلطانه الذى
قهر على شىء ودان له كل شىء وله يسجد كل شىء طوعا من المؤمنين وكرها من الكافرين
وفى كل الأوقات فى بكرات النهار وأوله وفى أوقات الآصال جمع أصيل وهو آخر النهار وهذا
كقوله فى سورة فصلت " ثم استوى الى السماء وهى دخان فقال لها وللأرض أئتيا
طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " كل تحت سلطانه سبحانه وتعالى خالقه ومسخر
له طائعا أو مسخرا كرها أى بارادة الله وليس بارادته هو وكلمة "ظلالهم "
جمع ظل وهو الذى يظهرعند سقوط الضوء ويتبع له أينما تحرك أو وقف وقدرة الله واضحة
فى تسخير كل شىء حتى الظل كقوله " هل يستوى الظلمات والنور والظل والحرور
" وكقوله " أو لم يروا الى ما خلق الله من شىء يتفيؤ ظلاله " .
قُلۡ مَن
رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ قُلِ ٱللَّهُۚ قُلۡ أَفَٱتَّخَذۡتُم مِّن
دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ لَا يَمۡلِكُونَ لِأَنفُسِهِمۡ نَفۡعٗا وَلَا ضَرّٗاۚ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي
ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ أَمۡ هَلۡ تَسۡتَوِي ٱلظُّلُمَٰتُ وَٱلنُّورُۗ أَمۡ
جَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلۡقِهِۦ فَتَشَٰبَهَ ٱلۡخَلۡقُ
عَلَيۡهِمۡۚ قُلِ ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ وَهُوَ ٱلۡوَٰحِدُ
ٱلۡقَهَّٰرُ ١٦
" قُلۡ
مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ قُلِ ٱللَّهُۚ " يقرر تعالى أنه لا اله
الا هو الذى خلق السموات والأرض وهو ربها ومدبرها والأمر هنا للاقرار بذلك ،
" قُلۡ أَفَٱتَّخَذۡتُم مِّن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ لَا يَمۡلِكُونَ
لِأَنفُسِهِمۡ نَفۡعٗا وَلَا ضَرّٗاۚ " وهم مع هذا قد اتخذوا من دون الله أولياء يعبدونهم
وأولئك الآلهة لا تملك لأنفسها ولا لعابديها بطريق الأولى نفعا ولا ضرا أى لاتحصل
لهم منفعة ولا تدفع عنهم مضرة ، " قُلۡ
هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ أَمۡ هَلۡ تَسۡتَوِي ٱلظُّلُمَٰتُ
وَٱلنُّورُۗ" هل يستوى من عبد هذه الآلهة مع الله ومن عبد الله وحده لا شريك
له فهو على نور من ربه ؟ ويشبه الله تعالى من يشرك به بالأعمى فانها لا تعمى
الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور ويشبه المؤمن به الذى هو على هدى من الله
بالبصير الذى يبصر الحق فيتبعه ويشبه الشرك والكفر والجهل به وبطريقه بالظلمات
التى يتخبط فيها الكافر والمشرك ويشبه الايمان والهدى بالنور الذى يهتدى به صاحبه
الى الطريق الصحيح فيوصله الى بر الأمان والسلامة ، " أَمۡ جَعَلُواْ لِلَّهِ
شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلۡقِهِۦ فَتَشَٰبَهَ ٱلۡخَلۡقُ عَلَيۡهِمۡۚ قُلِ ٱللَّهُ
خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ وَهُوَ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّٰرُ " أجعل هؤلاء المشركون
مع الله آلهة تناظر الرب وثماثله فى الخلق فخلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم فلا يدرون
أنها مخلوقة من مخلوق غيره أى ليس الأمر كذلك فانه لا يشابهه شىء ولا يماثله ولا
ند له ولا عدل له ولا ولد له ولا صاحبة فهو الواحد ذو القوة والقهر لمن خالفه
وعصاه " تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا "، وقال فى سورة مريم " ان
كل من فى السموات والأرض الا آتى الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه
يوم القيامة فردا " فاذا كان الجميع عبيدا فلم يعبد بعضهم بعضا بلا دليل ولا
برهان بل بمجرد الرأى والاختراع والابتداع
ثم قد أرسل رسله تزجرهم عن ذلك وتنهاهم عن عبادة من سوى الله فكذبوهم وخالفوهم
فحقت عليهم كلمة العذاب لا محالة .
أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَسَالَتۡ أَوۡدِيَةُۢ
بِقَدَرِهَا فَٱحۡتَمَلَ ٱلسَّيۡلُ زَبَدٗا رَّابِيٗاۖ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيۡهِ فِي ٱلنَّارِ
ٱبۡتِغَآءَ حِلۡيَةٍ أَوۡ مَتَٰعٖ زَبَدٞ مِّثۡلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ
وَٱلۡبَٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ
ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ ١٧
اشتملت هذه الآية الكريمة على مثلين مضروبين للحق فى ثباته وبقائه والباطل فى اضمحلاله وفنائه فقال تعالى " أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَسَالَتۡ أَوۡدِيَةُۢ بِقَدَرِهَا فَٱحۡتَمَلَ ٱلسَّيۡلُ زَبَدٗا رَّابِيٗاۖ " شبه تعالى القلوب بالوديان التى أنزل عليها المطر من السماء فجاء على وجه الماء الذى سال فى هذه الأودية زبد عال عليه فسال هذا الماء من المطر فى الأودية فأخذ منها كل وادى بحسب سعته منها أو بقدر ما يسع هذا كبير يسع الكثير وهذا صغير ضيق لا يسع الكثير أو يسع القليل فكذلك القلوب وتفاوتها فى العلم وفى الايمان فمنها ما يسع أيمانا أوعلما كثيرا ومنها ما لايتسع لكثير من الايمان والعلم بل يضيق عنها ، ، " وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيۡهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبۡتِغَآءَ حِلۡيَةٍ أَوۡ مَتَٰعٖ زَبَدٞ مِّثۡلُهُۥۚ" هذا هو المثل الثانى وهو ما يسبك فى النار من ذهب أو فضة ابتغاء حلية أى ليجعل حلية أى حلى فيجعل متاعا فانه يعلوه زبد منه نتيجة الصهر فجعل الله مثل خبثه كزبد الماء فأما ما ينفع الناس فالذهب والفضة وكذلك الحديد لا يستطاع أن يعمل منه سكين ولا سيف حتى يدخل فى النار فتأكل خبثه ويخرج جيده فينتفع به فكذلك يضمحل الباطل ، " كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ " كذلك الحق والباطل فانه لا ثبات للباطل ولا دوام مثل الزبد الذى يأتى فوق الماء والزبد الذى يكون فوق المعدن نتيجة صهره كلاهما لانفع له وما يستمر هو الذى ينتفع به من ماء يروى الأرض فيخرج الزرع ويشرب منه الناس وينتفعون ويستمر المعدن النفيس الذى ينتفع به كحلى وكاستخدام للنفع والزبد الذى يعلو المنصهر من المعدن ينتزع منه ،" كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ " وهكذا يضرب الله لنا الأمثال التى توضح الفرق بين الحق واليقين الذى ينفع فيمكث ويدوم والزبد الذى لا ينتفع به يذهب جفاء فكذلك اليقين والشك وكما يجعل الحلى فى النار فيؤخذ خالصه ويترك خبثه فى النار فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك ، ما ينفع الأرض ما شربت من ماء فأنبتت فجعل ذلك مثل العمل الصالح يبقى لأهله والعمل السىء يضمحل عن أهله كما يذهب هذا الزبد وكذلك الهدى والحق جاء من عند الله فمن عمل بالحق كان له وبقى كما بقى ما ينفع الناس فى الأرض فاذا كان يوم القيامة وأقيم الناس وعرضت الأعمال فيزيغ الباطل ويهلك وينتفع أهل الحق بالحق وفى الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ان مثل ما بعثنى الله من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا وأصابت طائفة منها أخرى انما هى قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه فى دين الله ونفعه الله بما بعثنى ونفع به فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذى أرسلت به " و فى الصحيحين عن أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مثلى ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التى يقعن فى النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها فذلكم مثلى ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار فتغلبونى فتقتحمون فيها " .
لِلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ
وَٱلَّذِينَ لَمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَهُۥ لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ
جَمِيعٗا وَمِثۡلَهُۥ مَعَهُۥ
لَٱفۡتَدَوۡاْ بِهِۦٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ سُوٓءُ ٱلۡحِسَابِ وَمَأۡوَىٰهُمۡ
جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ ١٨ ۞
" لِلَّذِينَ
ٱسۡتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ " للذين أطاعوا ربهم ورسوله وانقادوا لأوامره
وصدقوا أخباره الماضية والآتية ،
"
ٱلۡحُسۡنَىٰۚ " لهم الجزاء الحسن وكما جاء فى سورة الكهف عن ذى القرنين"
أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد الى ربه فيعذبه عذابا نكرا * وأما من آمن وعمل صالحا
فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا" وقال تعالى" للذين أحسنوا
الحسنى وزيادة " ، " وَٱلَّذِينَ لَمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَهُۥ" الذين
لم يطيعوا ربهم ويستجيبوا لما أنزل من الهدى، " لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا
وَمِثۡلَهُۥ مَعَهُۥ لَٱفۡتَدَوۡاْ بِهِۦ " لو أن لهم ما فى الأرض ومثله معه
ذهبا لا فتدوا به من عذاب الله فى الآخرة ولكن لا يتقبل منهم لأنه تعالى لا يقبل
منهم صرفا ولا عدلا ، " أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ سُوٓءُ ٱلۡحِسَابِ وَمَأۡوَىٰهُمۡ
جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ " هؤلاء حسابهم فى الآخرة شديد وسىء عليهم
لأنهم يناقشون على النقير والقطمير والجليل والحقير ومن نوقش الحساب عذب ، ومصيرهم
الدائم ومثواهم البائس هوجهنم .
أَفَمَن يَعۡلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن
رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰٓۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ
ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٩
" أَفَمَن يَعۡلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ
مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰٓۚ " يقول تعالى لا يستوى من يعلم
من الناس أن الذى أنزل الى محمد صلى الله عليه وسلم من ربه هو الحق لا شك فيه ولا
مرية ولا لبس فيه ولا اختلاف فيه بل هو كله حق يصدق بعضه بعضا لا يضاد شىء منه
شيئا آخر فأخباره كلها حق وأوامره ونواهيه عدل كما قال تعالى " وتمت كلمة ربك
صدقا وعدلا " كمن هو أعمى لا يهتدى الى خير لا يفهمه ولو فهمه ما انقاد له
ولا صدقه ولا اتبعه أفهذا كهذا ؟ لا استواء كقوله فى سورة الحشر " لايستوى أصحاب النا
وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون " ، " إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ
أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ " انما يتعظ ويعتبر ويعقل أولى أى أصحاب العقول
السليمة الصحيحة .
ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ
ٱلۡمِيثَٰقَ ٢٠ وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ
وَيَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ وَيَخَافُونَ سُوٓءَ ٱلۡحِسَابِ ٢١ وَٱلَّذِينَ صَبَرُواْ
ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ رَبِّهِمۡ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا
رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ
أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ ٢٢ جَنَّٰتُ عَدۡنٖ يَدۡخُلُونَهَا وَمَن
صَلَحَ مِنۡ ءَابَآئِهِمۡ وَأَزۡوَٰجِهِمۡ وَذُرِّيَّٰتِهِمۡۖ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ
يَدۡخُلُونَ عَلَيۡهِم مِّن كُلِّ بَابٖ ٢٣ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُم بِمَا صَبَرۡتُمۡۚ فَنِعۡمَ
عُقۡبَى ٱلدَّارِ ٢٤
الذين يتصفون بالصفات الحميدة التى وردت فى الآيات وهى"
ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ ٱلۡمِيثَٰقَ" الذين يوفون بعهد الله وهو السيرعلى طريقه
واتباع هديه وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة وهذا كقوله
" من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه" ولا ينقضون هذا العهد
وميثاق ربهم الذين واثقوا وليسوا كلمنافقين الذين اذا عاهد أحدهم غدر واذا خاصم
فجر واذا حدث كذب واذا ائتمن خان ، " وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ
ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ " الذين يصلون ما أمر به أن يوصل من صلة الأرحام
والاحسان اليهم والى الفقراء والمحاويج وبذل المعروف ، " وَيَخۡشَوۡنَ
رَبَّهُمۡ " يخافون ربهم فيما يأتون وما يذرون من أعمال يراقبون الله فى ذلك
، " وَيَخَافُونَ سُوٓءَ ٱلۡحِسَابِ " يخافون سوء الحساب فى الدار
الآخرة فلهذا أمرهم على السداد والاستقامة فى جميع حركاتهم وسكناتهم وجميع أحوالهم
، " وَٱلَّذِينَ صَبَرُواْ
ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ رَبِّهِمۡ " الذين صبروا على المحارم والمآثم ففطموا
أنفسهم عنها وصبروا على فعل الخيرات كما قال " أقم الصلاة واصطبر عليها
" لله عز وجل ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه ، " وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ
" أقاموا الصلاة بحدودها ومواقيتها وركوعها وسجودها وخشوعها على الوجه الشرعى
المرضى ، " وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَة" وأنفقوا مما رزقهم الله
على الذين يجب عليهم الانفاق لهم من الزوجات والأولاد والقربات والأجانب من فقراء
ومحاويج ومساكين فى السر والعلن أو الجهر لم يمنعهم من ذلك حال من الأحوال آناء
الليل وأطراف النهار ، " وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ "
يدفعون القبيح بالحسن ، فاذا آذاهم أحد قابلوه بالجميل صبرا واحتمالا وصفحا وعفوا
كقوله " ادفع بالتى هى أحسن فاذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم وما
يلقاها الا الذين صبروا وما يلقاها الا ذو حظ عظيم " ، " أُوْلَٰٓئِكَ
لَهُمۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ " أولئك الذين يتصفون بهذه الصفات لهم عقبى الدار أى
الجنة أو العاقبة الحسنة ، " جَنَّٰتُ عَدۡن" فسر الله تعالى عقبى الدار
بجنات عدن أى الاقامة جنات اقامة يخلدون فيها وقال الضحاك مدينة الجنة فيها الرسل
والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى والناس
حولهم بعد والجنات حولها وعن عبد الله بن عمرو أنه قال ان فى الجنة قصرا يقال له
عدن حوله البروج والمروج فيه خمسة آلاف حبرة لا يدخله الا نبى أو صديق أو شهيد ،
" يَدۡخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَآئِهِمۡ وَأَزۡوَٰجِهِمۡ
وَذُرِّيَّٰتِهِمۡۖ " يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين
والأنبياء ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين لتقر أعينهم بها حتى أنه ترفع درجة
الأدنى الى درجدة الأعلى امتنانا من الله واحسانا من غير نقيض للأعلى على درجته
كما قال تعالى " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان ألحقنا بهم ذريتهم
" ، "وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَدۡخُلُونَ عَلَيۡهِم مِّن كُلِّ بَاب سَلَٰمٌ
عَلَيۡكُم بِمَا صَبَرۡتُمۡۚ فَنِعۡمَ عُقۡبَى ٱلدَّارِ " وتدخل عليهم
الملائكة للتهمئة بدخول الجنة من هنا وهنا من كل أبواب الجنة ، فعند دخولهم اياها
تفد الملائكة عليهم مسلمين مهنئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والانعام
والاقامة فى دار السلام فى جوار الصديقين والأنبياء والرسل الكرام ، وعن عبد الله
بن عمرو عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " أول ثلة يدخلون الجنة فقراء
المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره واذا أمروا سمعوا وأطاعوا وان كانت لرجل منهم
حاجة الى سلطان لم تقض حتى يموت وهى فى صدره وان الله يدعو يوم القيامة الجنة
فتأتى بزخرفها وزينتها فيقول أين عبادى الذين قاتلوا فى سبيلى وأوذوا فى سبيلى
وجاهدوا فى سبيلى ؟ أدخلوا الجنة بغير عذاب ولا حساب وتأتى الملائكة فيسجدون
ويقولون ربنا نحن نسبح بحمدك الليل والنهار ونقدس لك من هؤلاء الذين آثرتهم علينا
؟ فيقول الرب عزوجل هؤلاء عبادى الذين جاهدوا فى سبيلى وأوذوا فى سبيلى فتدخل
عليهم الملائكة من كل باب : سلام عليكم بماصبرتم فنهمعقبى الدار " وقد جاء فى
الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قبور الشهداء فى راس كل حول
فيقول لهم :" سَلَٰمٌ عَلَيۡكُم بِمَا صَبَرۡتُمۡۚ فَنِعۡمَ عُقۡبَى ٱلدَّارِ
" .
وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ
مِيثَٰقِهِۦ وَيَقۡطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيُفۡسِدُونَ
فِي ٱلۡأَرۡضِ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱللَّعۡنَةُ وَلَهُمۡ سُوٓءُ ٱلدَّارِ ٢٥
بعد أن وصف الله تعالى حال الذين يتصفون بالصفات الحميدة من أصحاب الجنة وصف حال الأشقياء وصفاتهم وذكر ما لهم فى الآخرة وهم عكس المؤمنين فى صفاتهم " وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِيثَٰقِهِ" فهم ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه لاعهد لهم ولا ميثاق ،"وَيَقۡطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ "يقطعون ما أمر الله به من صلة الأرحام والاحسان اليهم والى الفقراء والمحاويج ، " وَيُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ" يفسدون فى الأرض يرتكبون أنواع الفساد وهى كثيرة متعددة لا تعد ولا تحصى ، " أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱللَّعۡنَةُ وَلَهُمۡ سُوٓءُ ٱلدَّارِ " الله يلعنهم أى يطردهم من رحمته وسوء الدار هى جهنم التى يقيمون فيها مخلدين انها ساءت مستقرا ومقاما .
ٱللَّهُ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُۚ
وَفَرِحُواْ بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا فِي
ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا مَتَٰعٞ ٢٦ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ
عَلَيۡهِ ءَايَةٞ مِّن رَّبِّهِۦۚ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن
يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَنۡ أَنَابَ ٢٧
" ٱللَّهُ يَبۡسُطُ
ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُۚ " يذكر الله تعالى أنه هو الذى يوسع
الرزق على من يشاء ويقترعلى من يشاء لما له من الحكمة والعدل ، " وَفَرِحُواْ
بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا " وفرح هؤلاء الكفار بما أوتوا من الحياة الدنيا
استدراجا لهم وامهالا كما قال " أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع
لهم فى الخيرات بل لا يشعرون " ،" وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا فِي
ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا مَتَٰع " حقر الله الحياة الدنيا بالنسبة الى ما ادخره
تعالى لعباده المؤمنين فى الدار الآخرة فالحياة الدنيا متاع قليل وحقير بالمقارنة
بالدار الآخرة دار البقاء والخلود مقارنة مع دار الفناء كما فى قوله" قل متاع
الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا " ، وعن المستورد أخى بنى
فهر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما الدنيا فى الآخرة الا كما
يجعل أحدكم أصبعه هذه فى اليم فلينظر بم يرجع " وأشار بالسبابة رواه مسلم فى
صحيحه ،وفى الحديث الآخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بجدى أسك ميت والأسك
الصغير الأذنين فقال :" والله للدنيا أهون على الله من هذا على أهله حين
ألقوه " ، " وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ
ءَايَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ" يخبر الله عن
المشركين الذين طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم آية من ربه تدل
على صدق ما جاء به وفى الحديث ان الله أوحى الى رسوله صلى الله عليه وسلم لما
سألوه أن يحول لهم الصفا ذهبا وأن يجرى لهم ينبوعا وأن يزيح الجبال من حول مكة
فيصير مكانها مروج وبساتين : ان شئت يا محمد أعطيتهم ذلك فان كفروا أعذبهم عذابا
لا أعذبه أحدا من العالمين وان شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة فقال : "
بل تفتح لهم باب التوبة والرحمة " ، "قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن
يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَنۡ أَنَابَ" الله هو
المضل لمن يستحق الضلالة ويهدى اليه من أناب الى الله ورجع اليه واستعان به وتضرع
لديه وهوالمضل والهادى سواء يعث الرسل بآية على وفق ما اقترحوا أو لم يجبهم الى
سؤالهم فان الهداية والاضلال ليس منوطا بذلك ولا عدمه وهذا كقوله " ان الذين
حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم"
وكقوله " وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون " وكقوله " ولو
أننا نزلنا اليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شىء قبلا ما كانوا
ليؤمنوا الا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون " .
ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم
بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ ٢٨ ٱلَّذِينَ
ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ طُوبَىٰ لَهُمۡ وَحُسۡنُ مََٔابٖ ٢٩
" ٱلَّذِينَ
ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ " الذين آمنوا بربهم
وتمكن منهم الايمان وتطيب قلوبهم وتركن الى جانب الله وتسكن عند ذكره وترضى به
مولى ونصيرا ، "أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ " تتحقق
طمأنينة القلوب فقط وحسب بذكر الله وحده وهذا للتأكيد باستخدام ألا ،"
ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ طُوبَىٰ لَهُمۡ" الذين آمنوا بالله وصدقوا ايمانهم بالعمل الصالح
والقول الصالح ينالهم فرح وقرة عين كما قال أبن عباس وقال قتادة طوبى هى كلمة
عربية يقول الرجل طوبى لك أى أصبت خيرا وقال فى رواية طوبى لهم حسنى لهم وقال
عكرمة نعم ما لهم وعن عكرمة أيضا أى لهم الجنة ، " وَحُسۡنُ مََٔاب " أى
حسن مرجعهم حيث خلقهم الله ثم أماتهم ثم يبعثهم ويأوبوا اليه أى ويرجعهم اليه يوم
القيامة الى مآبهم الأخير ومثواهم الدائم وهو الجنة وعن أبى سعيد الخدرى عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال يارسول الله طوبى لمن رآك وآمن بك " قال
: " طوبى لمن رآنى وآمن بى ، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بى ولم
يرانى" قال رجل : " وما طوبى ؟ " قال : " شجرة فى الجنة
مسيرتها مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها " وقال أبا أمامة الباهلى
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما منكم من أحد يدخل الجنة الا انطلق
به الى طوبى فتفتح له أكمامها فيأخذ من أى ذلك شاء ، ان شاء أبيض وان شاء أحمر وان
شاء أصفر وان شاء أسود مثل شقائق النعمان وأرق وأحسن " ، وفى صحيح مسلم عن
أبى ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل " ياعبادى لو أن
أولكم وآخركم وانسكم وجنكم قاموا فى صعيد واحد فسألونى فاعطيت كل انسان منهم
مسألته ما نقص ذلك من ملكى شيئا الا كما ينقص المخيط اذا أدخل فى البحر " .
كَذَٰلِكَ أَرۡسَلۡنَٰكَ فِيٓ أُمَّةٖ قَدۡ خَلَتۡ مِن
قَبۡلِهَآ أُمَمٞ لِّتَتۡلُوَاْ عَلَيۡهِمُ ٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ
إِلَيۡكَ وَهُمۡ يَكۡفُرُونَ بِٱلرَّحۡمَٰنِۚ قُلۡ هُوَ رَبِّي لَآ إِلَٰهَ
إِلَّا هُوَ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ مَتَابِ ٣٠
" كَذَٰلِكَ أَرۡسَلۡنَٰكَ
فِيٓ أُمَّةٖ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهَآ أُمَمٞ لِّتَتۡلُوَاْ عَلَيۡهِمُ ٱلَّذِيٓ
أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَهُمۡ يَكۡفُرُونَ بِٱلرَّحۡمَٰنِۚ
" يقول تعالى وكما أرسلناك يا محمد فى هذه الأمة لتبلغهم رسالة الله اليهم
كذلك أرسلنا فى الأمم الماضية الكافرة بالله وقد كذب الرسل من قبلك فلك بهم أسوة ،
وكما أوقعنا بأسنا ونقمتنا بأولئك فيحذر هؤلاء من حلول النقم بهم فان تكذيبهم لك
أشد من تكذيب غيرك من المرسلين كقوله
تعالى " ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا
ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين " ، " قُلۡ هُوَ رَبِّي
لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ " هذا الذى تكفرون به أنا مؤمن به معترف مقر له
بالربوبية والألوهية هو ربى لا اله الا هو ، " عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ "
عليه توكلت فى جميع أمورى ، " وَإِلَيۡهِ مَتَابِ " واليه أرجع وأنيب
فانه لا يستحق ذلك أحد سواه .
وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانٗا سُيِّرَتۡ بِهِ
ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ
ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ أَفَلَمۡ يَاْيَۡٔسِ
ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۗ وَلَا يَزَالُ
ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبٗا مِّن دَارِهِمۡ
حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ ٣١
" وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانٗا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ
قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ " يقول تعالى مادحا
القرآن الذى نزله على محمد صلى الله عليه وسلم فيقول لو كان فى الكتب الماضية كتاب
تسير به الجبال عن أماكنها أو تقطع به الأرض وتنشق أو تكلم به الموتى فى قبورها
لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره أو بطريق أولى أن يكون كذلك لما فيه من الاعجاز
الذى لا يستطيع الانسان والجن عن آخرهم اذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله ولا بسورة من
مثله ومع هذا فهؤلاء المشركون كافرون به جاحدون له وثبت فى الصحيح أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال : " ما من نبى الا وقد أوتى ما آمن على مثله البشر
وانما كان الذى أوتيته وحيا أوحاه الله الى فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعا يوم
القيامة " معناه أن معجزة كل نبى انقرضت بموته وهذا القرآن حجة باقية على
الآباد لا تنقضى عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد ولا يشبع منه العلماء هو الفصل ليس
بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله ، " بَل
لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ " مرجع الأمور كلها الى الله عز وجل ما شاء
الله كان ولم يشأ لم يكن ومن يهد الله فما له من مضل ومن يضلل الله فما له من هادى
وعن عطية العوفى قال قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم لو سيرت لنا جبال مكة حتى
تتسع فنحرث فيها أو قطعت بنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح أو أحييت لنا
الموتى كما كان عيسى يحيى الموتى لقومه فأنزل الله هذه الآية ، " أَفَلَمۡ
يَاْيَۡٔسِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى
ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۗ" ييأس الذين آمنوا أى يعلموا
ويتبينوا وقال أبو العالية قد يئس الذين آمنوا أن يهدوا الناس ولو يشاء الله لهدى
الناس جميعا ، " وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا
صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبٗا مِّن دَارِهِمۡ " الذين
كفروا بسبب تكذيبهم لا تزال القوارع تصيبهم فى الدنيا أو تصيب من حولهم ليتعظوا
ويعتبروا كما قال " ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم
يرجعون " ، " حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ " وقال أبن عباس
وغيره وعد الله هو فتح مكة وقال الحسن البصرى يوم القيامة ، " إِنَّ ٱللَّهَ
لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ" الله لا ينقض وعده لرسله بالنصرة لهم ولأتباعهم فى
الدنيا والآخرة وهذا كقوله " فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ان الله عزيز ذو
انتقام " .
وَلَقَدِ ٱسۡتُهۡزِئَ بِرُسُلٖ مِّن قَبۡلِكَ
فَأَمۡلَيۡتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذۡتُهُمۡۖ فَكَيۡفَ كَانَ عِقَابِ ٣٢
"
وَلَقَدِ ٱسۡتُهۡزِئَ بِرُسُلٖ مِّن قَبۡلِكَ
فَأَمۡلَيۡتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذۡتُهُمۡۖ فَكَيۡفَ كَانَ عِقَابِ
" يقول الله تعالى مسليا لرسوله صلى الله عليه وسلم فى تكذيب من كذبه من قومه
لك أسوة فى الرسل من قبلك فقد استهزىء بهم فانظرت وأجلت للذين كفروا ثم أخذتهم أخذا
شديدا وكان هذا عقابى لهم على ما فعلوا مع رسلى وفى الصحيحين " ان الله ليملى
للظالم حتى اذا أخذه لمةيفلته ثم قرأ رسول اللهصلى اللهعليسهوسلم " وكذلك أخذ
ربك اذا أخذ القرى وهى ظالمة ان أخذه أليم شديد " .
أَفَمَنۡ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفۡسِۢ بِمَا
كَسَبَتۡۗ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلۡ سَمُّوهُمۡۚ أَمۡ تُنَبُِّٔونَهُۥ
بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَم بِظَٰهِرٖ مِّنَ ٱلۡقَوۡلِۗ بَلۡ
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكۡرُهُمۡ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِۗ وَمَن
يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٖ ٣٣
"أَفَمَنۡ
هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡۗ " يقول تعالى هل هناك من
هو حفيظ عليم رقيب على كل نفس منفوسة يعلم ما يعمل العاملون من خير وشر ولا يخفى
عليه خافية الا الله وهذا كقوله " وما تسقط من ورقة الا يعلمها " وكقوله
" وما تسقط من ورقة الا يعلمها " وقال " يعلم السر وأخفى " ،
"وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ " جعلوا شركاء لله عبدوها معه من أصنام
وأنداد وأوثان ، أفمن هو كذلك كالأصنام التى يعبدونها لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل
ولا تملك نفعا لأنفسها ولا لعابديها ولا كشف ضرعنها ولا عن عابديها ؟ وحذف هذا
الجواب اكتفاء بدلالة السياق عليه ، " قُلۡ سَمُّوهُمۡۚ " أعلمونا بهم
واكشفوا عنهم حتى يعرفوا فانهم لا حقيقة لهم لهذا قال " أَمۡ تُنَبُِّٔونَهُۥ بِمَا
لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلۡأَرۡضِ " لا وجود لمن تدعون لأنه لو كان لهم وجود فى
الأرض لعلمها الله لأنه لا تخفى عليه خافية ، " أَم بِظَٰهِرٖ مِّنَ
ٱلۡقَوۡلِۗ " قال مجاهد بظن من القول ،وقال الضحاك وقتادة بباطل من القول أى
انما عبدتم هذه الأصنام بظن منكم أنها تنفع وتضر وسميتموها آلهة وهذا كقوله "
ان هى الا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان * ان يتبعون الا
الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى " ، " بَلۡ زُيِّنَ
لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكۡرُهُمۡ " قال مجاهد زين للكافرين قولهم أى ما هم
عليه من الضلال والدعوة اليه آناء الليل وأطراف النهار ، "وَصُدُّواْ عَنِ
ٱلسَّبِيلِۗ" بفتح الصاد لما زين لهم ما هم فيه وأنه حق دعوا اليه وصدوا
الناس عن اتباع طريق الرسل وفى قول آخر بضم الصاد أى بما زين لهم من صحة ما هم
عليه صدوا به عن سبيل الله ولهذا قال " وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ
مِنۡ هَاد " ومن يريد الله اضلاله ويصرفه عن الهدى والحق لايستطيع أحد هدايته
كقوله " ان تحرص على هداهم فان الله لا يهدى من يضل وما لهم من ناصرين " .
لَّهُمۡ عَذَابٞ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ
أَشَقُّۖ وَمَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٖ ٣٤ ۞مَّثَلُ
ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ
أُكُلُهَا دَآئِمٞ وَظِلُّهَاۚ تِلۡكَ عُقۡبَى ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْۚ
وَّعُقۡبَى ٱلۡكَٰفِرِينَ ٱلنَّارُ ٣٥
" لَّهُمۡ عَذَابٞ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ " ذكر الله تعالى عقاب الكافرين - لهم عذاب فى الحياة الدنيا بأيدى المؤمنين قتلا وأسرا ، " وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَشَقُّۖ " عذاب الآخرة المدخر مع هذا الخزى فى الدنيا أشق من هذا بكثير كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين " ان عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وهو كما قال صلوات الله وسلامه عليه فان عذاب الدنيا له انقضاء وذاك دائم أبدا فى نار هى بالنسبة الى هذه سبعون ضعفا ووثاق لا يتصور كثافته وشدته كقوله " فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد " وَمَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاق " ليس لهم من نصير يقيهم عذاب النار ويدفعه عنهم ، قرن الله قوله بالنقيض " مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ " صفة الجنة التى وعدها الله المتقين ونعتها ، " تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ" الأنهار سارحة فى أرجائها وجوانبها وحيث شاء أهلها يفجرونها تفجيرا أى يصرفونها كيف وأين شاءوا ، " أُكُلُهَا دَآئِم وَظِلُّهَاۚ " أكل الجنة من فواكه ومطاعم ومشارب وظلالها دائم لا انقطاع ولا فناء وقد تقدم فى الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ان فى الجنة شجرة يسير الراكب المجد الجواد المضمر السريع فى ظلها مائة عام لا يقطعها " ثم قرأ " وظل ممدود " ،" تِلۡكَ عُقۡبَى ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْۚ " هذا هو مصير وعاقبة المتقين الجنة ونعيمها ، "وَّعُقۡبَى ٱلۡكَٰفِرِينَ ٱلنَّارُ " أما عاقبة الكافرين ومصيرهم هو النار ، كثيرا ما يقرن الله تعالى بين صفة الجنة وصفة النار ليرغب فى الجنة ويحذر من النار ولهذا لما ذكر صفة الجنة بما ذكر قال بعده " تِلۡكَ عُقۡبَى ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْۚ وَّعُقۡبَى ٱلۡكَٰفِرِينَ ٱلنَّارُ " كما قال " لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة ، أصحاب الجنة هم الفائزون " .
وَٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَفۡرَحُونَ
بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَۖ وَمِنَ ٱلۡأَحۡزَابِ مَن يُنكِرُ بَعۡضَهُۥۚ قُلۡ
إِنَّمَآ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ ٱللَّهَ وَلَآ أُشۡرِكَ بِهِۦٓۚ إِلَيۡهِ
أَدۡعُواْ وَإِلَيۡهِ مََٔابِ ٣٦ وَكَذَٰلِكَ أَنزَلۡنَٰهُ حُكۡمًا
عَرَبِيّٗاۚ وَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم بَعۡدَ مَا
جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا وَاقٖ ٣٧
" وَٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ " الذين آتاهم الله الكتاب وهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى والذين هم قائمون بمقتضاه " يَفۡرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَۖ " يفرحون بما أنزل الى الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن لما فى كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به كما قال تعالى " الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته " وَمِنَ ٱلۡأَحۡزَابِ مَن يُنكِرُ بَعۡضَهُۥۚ" قال مجاهد الأحزاب أى من اليهود والنصارى ينكر بعض ما أنزل اليك يا محمد من الحق كما قال تعالى " وان من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله " ، " قُلۡ إِنَّمَآ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ ٱللَّهَ وَلَآ أُشۡرِكَ بِهِۦ" قل لهم يا محمد انما بعثت بعبادة الله وحده لا شريك له كما أرسل الأنبياء من قبلى ، " إِلَيۡهِ أَدۡعُواْ "الى سبيل الله أدعو الناس ، " وَإِلَيۡهِ مََٔابِ " اليه المرجع والمصير ، " وَكَذَٰلِكَ أَنزَلۡنَٰهُ حُكۡمًا عَرَبِيّٗاۚ " وكما أرسلنا قبلك من المرسلين وأنزلنا عليهم الكتب من السماء كذلك أنزلنا عليك القرآن محكما معربا شرفناك به وفضلناك على من سواك بهذا الكتاب المبين الواضح الجلى ، " وَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم " ولئن اتبعت آراءهم أى آراء أهل الكتاب ، " بَعۡدَ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ " بعد الذى أنزله الله عليك وما آتاك من كتاب وسنة ، " مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا وَاق " ليس لك من غير الله من نصير ولا منقذ وهذا وعيد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة بعد ما صاروا اليه من سلوك السنة النبوية والمحجة المحمدية على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام .
وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ
وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَذُرِّيَّةٗۚ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بَِٔايَةٍ
إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ لِكُلِّ أَجَلٖ كِتَابٞ ٣٨ يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ
وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ ٣٩
" وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَذُرِّيَّة" يقول تعالى وكما أرسلناك يا محمد رسولا بشريا كذلك قد بعثنا المرسلين قبلك بشرا يأكلون الطعام ويمشون فى الأسواق ويأتون الزوجات ويولد لهم وجعۚلنا لهم أزواجا وذرية كما قال " قل انما أنا بشر مثلكم يوحى الى " وفى الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام وآكل اللحم وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى " وقال أبو أيوب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أربع من سنن المرسلين : التعطر والنكاح والسواك والحناء " ، " وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بَِٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ " لم يكن لرسول أن يأتى قومه بخارق الا اذا أذن له فيه ليس ذلك اليه بل الى الله عز وجل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد " لِكُلِّ أَجَلٖ كِتَاب " لكل مدة مضروبة كتاب مكتوب بها وكل شىء عنده بمقدار وهذا كقوله " ألم تعلم أن الله يعلم ما فى السماء والأرض ان ذلك فى كتاب ان ذلك على الله يسير " ، وكان الضحاك بن مزاحم يقول فى قوله " لِكُلِّ أَجَلٖ كِتَاب " لكل كتاب أجل يعنى لكل كتاب أنزله الله من السماء مدة مضروبة عند الله ومقدار معين فلهذا " يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ " يمحو الله ما يشاء " منها " ويثبت " يعنى حتى نسخت كلها بالقرآن الذى أنزله الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، اختلف المفسرون فى قوله " يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ " فعن أبن عباس قال : يدبر أمر السنة فيمحو الله ما يشاء الا الشقاء والسعادة والحياة والموت وفى رواية قال كل شىء الا الموت والحياة والشقاء والسعادة فانهما قد فرغ منهما ، ومعنى هذه الأقوال أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء فعن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ان الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ولا يرد القدر الا الدعاء ولا يزيد فى العمر الا البر "وثبت فى الصحيح أن صلة الرحم تزيد فى العمر ، " وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ " وجملة ذلك كله عنده فى أم الكتاب الناسخ وما يبدل وما يثبت كل ذلك فى كتاب وهذا كقوله " ما ننسخ من آية أو ننسها " ، وقال الحسن البصرى " يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ " من جاء أجله يذهب ويثبت الذى هو حى حتى يجرى الى أجله وقال فى " وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ " الحلال والحرام وقال قتادة لأى جملة الكتاب وأصله وقال أبن عباس الذكر .
وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعۡضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمۡ أَوۡ
نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيۡكَ ٱلۡبَلَٰغُ وَعَلَيۡنَا ٱلۡحِسَابُ ٤٠ أَوَ
لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا نَأۡتِي ٱلۡأَرۡضَ نَنقُصُهَا مِنۡ أَطۡرَافِهَاۚ وَٱللَّهُ
يَحۡكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكۡمِهِۦۚ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ ٤١
" وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعۡضَ ٱلَّذِي
نَعِدُهُمۡ أَوۡ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيۡكَ ٱلۡبَلَٰغُ وَعَلَيۡنَا
ٱلۡحِسَابُ " يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم اذا نريك بعض الذى
نعد أعداءك من الخزى والنكال فى الدنيا أو نتوفاك قبل ذلك انما أرسلناك لتبلغهم
رسالة الله وقد فعلت ما أمرت به وجزاءهم وحسابهم عند الله هو الذى يجازى على
الأعمال هذا كقوله " فذكر انما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر * الا من تولى
وكفر * فيعذبه الله العذاب الأكبر * لن الينا ايابهم * ثم ان علينا حسابهم " ،
" أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا نَأۡتِي ٱلۡأَرۡضَ نَنقُصُهَا مِنۡ
أَطۡرَافِهَاۚ" هذه الآية من آيات الاعجاز العلمى التى سبقت عصرها والتفسير
فيها اجتهادى ونحن فى عصرنا نعلم أن الأرض فى باطنها معادن منصهرة تخرج عند حدوث
البراكين فتنكمش من الداخل فتقل أطرافها ويمكن مراجعة الاعجاز العلمى لتفسير الآية
أما ما قاله أبن كثير فهو حسب عصره وما سبقه من عصور قال مجاهد ننقصها من أطرافها
خرابها كما قال نقصان الأنفس والثمرات وخراب الأرض وقال أبن عباس أيضا فى رواية
خرابها بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير وقال العوفى عن أبن عباس نقصان أهلها
وبركتها "وَٱللَّهُ يَحۡكُمُ لَا
مُعَقِّبَ لِحُكۡمِهِۦۚ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ " الحكم كله فى الأمور
كلها لله وحده لا يستطيع أحد أن ينقص أو يزيد والله سريع الحساب فى الدنيا والآخرة
فهو يمهل ولا يهمل .
وَقَدۡ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ فَلِلَّهِ
ٱلۡمَكۡرُ جَمِيعٗاۖ يَعۡلَمُ مَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡسٖۗ وَسَيَعۡلَمُ
ٱلۡكُفَّٰرُ لِمَنۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ ٤٢
"
وَقَدۡ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ فَلِلَّهِ ٱلۡمَكۡرُ جَمِيعٗا
" مكر الذين كفروا قبل المشركين والكفار فى مكة برسلهم وأرادوا اخراجهم من
بلادهم فمكر الله بهم وجعل العاقبة للمتقين كقوله " واذ يمكر بك الذين كفروا
ليثبتوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " وكقوله تعالى
" ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا
دمرناهم وقومهم أجمعين * فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا " ۖ "يَعۡلَمُ مَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡس" الله
تعالى عالم بجميع السرائر والضمائر وسيجزى كل عامل بعمله ، " وَسَيَعۡلَمُ
ٱلۡكُفَّٰرُ لِمَنۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ " سيعلم الكافرون لمن تكون الدائرة
والعاقبة هل هى لهم أم لأتباع الرسل كلا فانها لن تكون لهم بل هى لأتباع الرسل فى
الدنيا والآخرة .
وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسۡتَ مُرۡسَلٗاۚ قُلۡ كَفَىٰ
بِٱللَّهِ شَهِيدَۢا بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡ وَمَنۡ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلۡكِتَٰبِ ٤٣
" وَيَقُولُ
ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسۡتَ مُرۡسَلٗاۚ " يكذب الكافرون الرسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولوا ما أرسلك الله ، " قُلۡ كَفَىٰ
بِٱللَّهِ شَهِيدَۢا بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡ " قل لهم حسبى الله هو الشاهد على
وعليكم : شاهد على فيما بلغت عنه من الرسالة وشاهد عليكم أيها المكذبون فيما
تفترونه من البهتان ، " وَمَنۡ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلۡكِتَٰبِ"قال أبن عباس
هم من اليهود والنصارى والصحيح أنه يشمل علماء أهل الكتاب الذين يجدون صفة محمد صلى
الله عليه وسلم ونعته فى كتبهم المتقدمة من بشارات الأنبياء به كما قال تعالى "
ورحمتى وسعت كل شىء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون
الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والانجيل
" وقال تعالى " أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بنى اسرائيل "
وأمثال ذلك مما فيه من الأخبارعن علماء بنى اسرائيل أنهم يعلمون ذلك من كتبهم
المنزلة .
الجزء الثالث عشر
تفسير سورة ابراهيم
سورة مكية وهى كالسور المكية تحمل من أنباء الرسل ما
يثبت الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ومن الآيات الكونية الدالة علىقدرة الله .
الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ
ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ
ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ ١ ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي
ٱلۡأَرۡضِۗ وَوَيۡلٞ لِّلۡكَٰفِرِينَ مِنۡ عَذَابٖ شَدِيدٍ ٢ ٱلَّذِينَ
يَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا عَلَى ٱلۡأٓخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن
سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبۡغُونَهَا عِوَجًاۚ أُوْلَٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلِۢ بَعِيدٖ ٣
" الٓرۚ" الحروف
المقطعة فى أول السور ورد شرحها فى أول سورة البقرة ، "كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ
إِلَيۡكَ " هذا كتاب أنزلناه اليك يا محمد وهو القرآن العظيم الذى هو أشرف
كتاب أنزله الله من السماء على أشرف رسول بعثه صلى الله عليه وسلم فى الأرض الى
جميع أهلها عربهم وعجمهم ، " لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى
ٱلنُّورِ" انما بعثناك يا محمد بهذا الكتاب لتخرج الناس مما هم فيه من الضلال
والغى الى الهدى والرشد كما قال تعالى " الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من
الظلمات الى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات
" وكقوله " هو الذى ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات الى
النور " "بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ
" هو الهادى لمن قدر له الهداية على يدى رسوله المبعوث عن أمره يهديهم ،
" إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ " الى طريق الله العزيز الذى لا
يمانع ولا يغالب بل هو القاهر لكل ما سواه والمحمود فى جميع أفعاله وأقواله وشرعه
وأمره ونهيه الصادق فى خبره وقوله ، " ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي
ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ " الله هو الذى له ملك السموات والأرض
وما فيهن يسيرهم كيف يشاء وله الخلق والبعث يعز من يشاء ويذل من يشاء كقوله "
قل يا أيها الناس انى رسول الله اليكم جميعا الذى له ملك السموات والأرض " ،
" وَوَيۡلٞ لِّلۡكَٰفِرِينَ مِنۡ عَذَابٖ شَدِيدٍ " يتوعد الله الكافرين بعذاب
شديد فى الآخرة فيقول ويل لهم يوم القيامة اذ خالفوك يا محمد وكذبوك ، "
ٱلَّذِينَ يَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا عَلَى ٱلۡأٓخِرَةِ " الذين
يحبون الحياة الدنيا ويؤثرونها ويقدمونها على الحياة الآخرة ويعملون للدنيا ونسوا
الآخرة وتركوها وراء ظهورهم ،" وَيَصُدُّونَ
عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ " ويبعدون أنفسهم ويبعدون الناس عن اتباع الرسل ، "وَيَبۡغُونَهَا
عِوَجًاۚ " ويحبون أن تكون سبيل الله أى الطريق اليه باتياع الرسل مائلة
عائلة معوجة صعبة بكفرهم وعنادهم وصدهم عن الحق وهى مستقيمة فى نفسها لا يضرها من
خالفها ولا من خذلها ، " أُوْلَٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلِۢ بَعِيد " وهم فى
ابتغائهم مقصدهم فى جهل وضلال بعيد عن الحق لا يرجى لهم والحالة هذه صلاح .
وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ
قَوۡمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُمۡۖ فَيُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن
يَشَآءُۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ٤
" وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ
قَوۡمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُمۡۖ " من لطف الله بخلقه أنه يرسل اليهم رسلا منهم
بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به اليهم وعن أبى ذر قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : " لم يبعث الله عز وجل نبيا الا بلغة قومه " ،
" فَيُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ " بعد البيان
والحجة عليهم يضل الله من يشاء عن وجه الهدى ويهدى من يشاء الى الحق ، "
وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ " العزيز الذى ما شاء كان ولم يشأ لم يكن ، "
ٱلۡحَكِيمُ " فى أفعاله فيضل من يستحق الاضلال ويهدى من هو أهل لذلك ، كانت
هذه سنة الله فى خلقه أنه ما بعث نبيا فى أمة الا أن يكون بلغتهم فاختص كل نبى
بابلاغ رسالته الى أمته دون غيرهم واختص محمد صلى الله عله وسلم بعموم الرسالة الى
سائر الناس كما ثبت فى الصحيحين عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء
من قبلى : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا ، وأحلت لى
الغنائم ولم تحل لأحد قبلى ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبى يبعث الى قومه خاصة
وبعثت الى الناس عامة " وقال تعالى " قل يا أيها الناس انى رسول الله
اليكم جميعا " .
وَلَقَدۡ
أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بَِٔايَٰتِنَآ أَنۡ أَخۡرِجۡ قَوۡمَكَ مِنَ
ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَذَكِّرۡهُم بِأَيَّىٰمِ ٱللَّهِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ
لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ ٥
" وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بَِٔايَٰتِنَآ
" يقول تعالى وكما أرسلناك يا محمد وأنزلنا عليك الكتاب لتخرج الناس كلهم من
الظلمات الى النور كذلك أرسلنا موسى عليه السلام الى بنى اسرائيل بآياتنا ، "
أَنۡ أَخۡرِجۡ قَوۡمَكَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ " يقول الله كذلك أمرنا موسى عليه السلام أن يدعهم الى الخير
ليخرجوا من ظلمات ما كانوا فيه من الجهل والضلال الى نور الهدى وبصيرة الايمان
، وَذَكِّرۡهُم بِأَيَّىٰمِ ٱللَّهِۚ " ,امره
أن يذكر بنى اسرائيل بأياديه ونعمه عليهم فى اخراجه اياهم من أسر فرعون وقهره
وظلمه وغشمه وانجائه اياهم من عدوهم وفلقه لهم البحر وتظليله اياهم بالغمام
وانزاله عليهم المن والسلوى الى غير ذلك من النعم ، " إِنَّ فِي ذَٰلِكَ
لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُور " فيم صنع
الله بأوليائه من بنى اسرائيل حين أنقذهم من فرعون وأنجاهم من العذاب المهين لعبرة
لكل صبار أى شديد الصبر فى الضراء شكور كثير الشكر فى السراء وفى الصحيح عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ان أمر المؤمن كله عجب لا يقضى الله له
قضاء الا كان خيرا له ، ان أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وان أصابته سراء شكر فكان
خيرا له " .
وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ
ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ أَنجَىٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ
ٱلۡعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي
ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ ٦ وَإِذۡ تَأَذَّنَ
رَبُّكُمۡ لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ وَلَئِن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِي
لَشَدِيدٞ ٧ وَقَالَ مُوسَىٰٓ إِن تَكۡفُرُوٓاْ أَنتُمۡ وَمَن
فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا فَإِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ٨
" وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ أَنجَىٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ " يقول الله تعالى مخبرا عن موسى عليه السلام حين ذكر قومه بأيام الله عندهم ونعمه عليهم اذ أنجاهم من آل فرعون وما كانوا يسومونهم به من العذاب والاذلال حيث كانوا يذبحون من وجد من أبنائهم ويتركون اناثهم ويستذلون نسائهم ويهدرونهن الحياء بكل سبله فأنقذهم الله من ذلك ، " وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيم " وهذه نعمة عظيمة من الله عليكم فى ذلك أنتم عاجزون عن القيام بشكرها وقيل : وفيما يصنعه فرعون من تلك الأفاعيل وبلاء أى اختبار عظيم كقوله تعالى " وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون " ، " وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ " أى آذنكم وأعلمكم بوعده لكم ويمكن أن يكون المعنى واذ أقسم بكم وآلى بعزته وجلاله وكبريائه كقوله تعالى " واذ تأذن ربك ليبعثن عليهم الى يوم القيامة " ، وقوله " لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ " لئن شكرتم نعمتى عليكم لأزيدنكم منها ، " وَلَئِن كَفَرۡتُمۡ"أى كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها ، "إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد " عذاب الله شديدعلى جحود النعمة وذلك بسلبها والعقاب على كفرها وقد جاء فى الحديث " ان العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه " ، " وَقَالَ مُوسَىٰٓ إِن تَكۡفُرُوٓاْ أَنتُمۡ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا فَإِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ " وقال موسى عليه السلام لقومه انكم بكفركم وكفر من فى الأرض جميعا لن تضروا الله شيئا فالله غنى عن شكر عباده وهو الحميد المحمود وان كفره من كفره كقوله " ان تكفروا فان الله غنى عنكم " وكقوله " فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غنى حميد"وفى صحيح مسلم عن أبى ذرعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال : " يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك فى ملكى شيئا ، يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك فى ملكى شيئا ، يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم قاموا فى صعيد فسألونى فأعطيت كل انسان مسألته ما نقص ذلك من ملكى شيئا الا كما ينقص المخيط اذا دخل البحر " .
أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ نَبَؤُاْ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ
قَوۡمِ نُوحٖ وَعَادٖ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَا
يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا ٱللَّهُۚ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَرَدُّوٓاْ
أَيۡدِيَهُمۡ فِيٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَقَالُوٓاْ إِنَّا كَفَرۡنَا بِمَآ أُرۡسِلۡتُم
بِهِۦ وَإِنَّا لَفِي شَكّٖ مِّمَّا تَدۡعُونَنَآ إِلَيۡهِ مُرِيبٖ ٩ ۞
"أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ نَبَؤُاْ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ قَوۡمِ نُوحٖ وَعَادٖ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا ٱللَّهُۚ " قال أبن جرير هذا من تمام قول موسى عليه السلام لقومه وتذكيره اياهم بأيام الله بانتقامه من الأمم المكذبة بالرسل وكلامه فيه نظر والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة فانه قد قيل ان قصة عاد وثمود ليست فى التوراة وبالجملة فالله تعالى قص علينا خبر قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل مما لا يحصى عددهم الا الله عز وجل ،" جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ " جاءتهم رسلهم بالحجج والدلائل الواضحات الباهرات القاطعات ، " فَرَدُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ فِيٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ " اختلف المفسرون فى المعنى قيل معناه أنهم أشاروا الى أفواه الرسل يأمرونهم بالسكوت عنهم لما دعوهم الى الله عز وجل وقيل بل وضعوا أيديهم على أفواههم تكذيبا لهم وقال قتادة وغيره أنهم كذبوهم وردوا عليهم قولهم بأفواههم وعن عبد الله قال عضوا على أيديهم غيظا وهذا كقوله فى المنافقين " واذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ " ، " وَقَالُوٓاْ إِنَّا كَفَرۡنَا بِمَآ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ وَإِنَّا لَفِي شَكّٖ مِّمَّا تَدۡعُونَنَآ إِلَيۡهِ مُرِيب " قال أبن عباس لما سمعوا كلام الله عجبوا ورجعوا بأيديهم الى افواههم وقالوا للرسل انا كفرنا بما أرسلتم به ولا نصدقكم فيما جئتم به فان عندنا فيه شكا قويا.
قَالَتۡ رُسُلُهُمۡ أَفِي ٱللَّهِ شَكّٞ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ
وَٱلۡأَرۡضِۖ يَدۡعُوكُمۡ لِيَغۡفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ وَيُؤَخِّرَكُمۡ
إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ قَالُوٓاْ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُنَا تُرِيدُونَ
أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأۡتُونَا بِسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٖ ١٠ قَالَتۡ لَهُمۡ
رُسُلُهُمۡ إِن نَّحۡنُ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن
يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأۡتِيَكُم بِسُلۡطَٰنٍ
إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١١
وَمَا لَنَآ أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى ٱللَّهِ وَقَدۡ هَدَىٰنَا سُبُلَنَاۚ
وَلَنَصۡبِرَنَّ عَلَىٰ مَآ ءَاذَيۡتُمُونَاۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ
١٢
"قَالَتۡ رُسُلُهُمۡ أَفِي ٱللَّهِ شَكّ " يخبر الله تعالى عما دار بين الكفار وبين رسلهم من المجادلة لما واجهوهم أممهم بالشك فيما جاءوهم به من عبادة الله وحده لا شريك له قالت الرسل ردا على الكافرين المشككين فيما أرسلوا به من عند الله أتشكون فى وجود الله " أَفِي ٱللَّهِ شَكّ " هذا يحتمل أمرين أحدهما أفى وجود الله شك فان الفطر شاهدة بوجوده ومجبولة على الاقرار به فان الاعتراف به ضرورى فى الفطر السليمة ولكن قد يعرض لبعضها شك واضطراب فتحتاج الى النظر فى الدليل الى وجوده والمعنى الثانى أفى الهيته وتفرده بوجوب العبادة له شك وهو الخالق لجميع الموجودات ولا يستحق العبادة الا هو وحده لا شريك له فان غالب الأمم مقرة بالصانع ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التى يظنونها تنفعهم أو تقربهم من الله زلفى ، " فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ " ترشد الرسل الى طريق معرفة الله فهو خالق السموات والأرض مبتدعهما على غير مثال سبق فان شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهرعليهما فلابد لهما من صانع وهو الله لا اله الا هو خالق كل شىء والهه ومليكه ، " يَدۡعُوكُمۡ لِيَغۡفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ " وقالت لهم رسلهم أيضا الله يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم فهو الغفار لمن تاب اليه وهو الذى يغفر الذنوب فى الآخرة ،" وَيُؤَخِّرَكُمۡ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ " يمهلكم ربكم فى الدنيا حتى تنتهى آجالكم المكتوبة عنده كما قال تعالى" وأن استغفروا ربكم ثم توبوا اليه يمتعكم متاعا حسنا الى أجل مسمى ويؤت كل ذى فضل فضله " ، " قَالُوٓاْ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَا " قالوا لرسلهم كيف نتبعكم بمجرد قولكم فأنتم مثلنا بشر وهدفكم أن تصرفونا عما كان يعبده آباؤنا من أصنام وأوثان ولم نر منكم معجزة ،" فَأۡتُونَا بِسُلۡطَٰنٖ مُّبِين " أأتونا بخارق واضح نقترحه عليكم ،" قَالَتۡ لَهُمۡ رُسُلُهُمۡ إِن نَّحۡنُ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ " ردت عليهم الرسل على ما أثاروه من أنهم بشر مثلهم فأقرتهم أنهم صحيح أنهم بشر مثلهم ، " وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ" ولكن الله وحده هو الذى يختار الرسل من عباده بمشيئته ويصطفى بالرسالة والنبوة من يريد بحكمته ، " وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأۡتِيَكُم بِسُلۡطَٰنٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ" لايمكن أن نأتيكم بخارق على وفق ما سألتم الا باذن الله أى بعد سؤالنا اياه واذنه لنا فى ذلك ، " وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ " فالله هو الذى يتوكل عليه المؤمنون به فى جميع أمورهم ، " وَمَا لَنَآ أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى ٱللَّهِ وَقَدۡ هَدَىٰنَا سُبُلَنَاۚ وَلَنَصۡبِرَنَّ عَلَىٰ مَآ ءَاذَيۡتُمُونَاۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ " قالت الرسل للكفار لا شىء يمنعنا من التوكل على الله وقد هدانا لأقوم الطرق وأوضحها وأبينها ونحن سنحتمل ونصبر على أذاكم لنا من الكلام السىء والأفعال السخيفة فعلى الله وحده التوكل لمن يريد أن يتوكل وتكرر لفظ التوكل وخص به المؤمنون والمتوكلون الذين يعرفون الله ولا يكلون أمورهم لأحد سواه نعم المولى ونعم النصير .
وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمۡ
لَنُخۡرِجَنَّكُم مِّنۡ أَرۡضِنَآ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَاۖ فَأَوۡحَىٰٓ
إِلَيۡهِمۡ رَبُّهُمۡ لَنُهۡلِكَنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٣ وَلَنُسۡكِنَنَّكُمُ
ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ١٤
وَٱسۡتَفۡتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٖ ١٥ مِّن وَرَآئِهِۦ
جَهَنَّمُ وَيُسۡقَىٰ مِن مَّآءٖ صَدِيدٖ ١٦ يَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُۥ
وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖۖ وَمِن وَرَآئِهِۦ
عَذَابٌ غَلِيظٞ ١٧
" وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمۡ
لَنُخۡرِجَنَّكُم مِّنۡ أَرۡضِنَآ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَاۖ " يخبر
تعالى عما توعدت به الأمم الكافرة رسلهم من الاخراج من أرضهم والنفى بين أظهرهم أو
العودة الى طريقهم من الكفر وترك الدعوة الى الله كما قال قوم شعيب له ولم آمن به
" لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا " وكما قال قوم لوط"
أخرجواآل لوط من قريتكم" وقال تعالى عن كفار قريش " واذ يمكربك الذين
كفروا ليثبتوك أويقتلوك أويخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ، " فَأَوۡحَىٰٓ
إِلَيۡهِمۡ رَبُّهُمۡ لَنُهۡلِكَنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ " أوحى الله الى الرسل أنه
سيهلك من كفروا برسالته من القوم الظالمين ، " وَلَنُسۡكِنَنَّكُمُ ٱلۡأَرۡضَ
مِنۢ بَعۡدِهِمۡۚ " ووعد الله رسله أنه سيمكنهم فى الأرض وينصرهم بعد اهلاك
الكافرين ويورثهم الأرض من بعدهم كما قال " وقال موسى لقومه استعينوا بالله
واصبروا ان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " وكقوله
" كتب الله لأغلبن أنا ورسلى ان الله قوى عزيز " وكقوله" ولقد سبقت
كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون " ،
" ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ " يقول الله وعيدى هذا
لمن خاف مقامى بين يدى يوم القيامة وخشى من وعيدى وهو تخويفى وعذابى كما قال تعالى
" ولمن خاف مقام ربه جنتان " ، " وَٱسۡتَفۡتَحُواْ " استنصرت
الرسل ربها على قومها ، " وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيد " كل متجبر فى
نفسه معاند للحق لن يصيبه الا الخيبة والخسران كقوله تعالى " ألقيا فى جهنم كل كفار عنيد
* مناع للخير معتد مريب * الذى جعل مع الله الها آخر فألقياه فى العذاب الشديد
" وفى الحديث " انه يؤتى بجهنم يوم القيامة فتنادى الخلائق فتقول انى
وكلت بكل جبارعنيد " ، " مِّن وَرَآئِهِۦ جَهَنَّمُ " من وراء
الجبار العنيد جهنم هى له بالمرصاد يسكنها مخلدا يوم المعاد ويعرض عليها غدوا
وعشيا الى يوم التناد ، " وَيُسۡقَىٰ مِن مَّآءٖ صَدِيد " فى
النار ليس له شراب الا الصديد وقال مجاهد وعكرمة : الصديد من القيح والدم وقال
قتادة هو ما يسيل من لحمه وجلده وفى رواية عنه الصديد ما يخرج من جوف الكافر قد
خالط القيح والدم ، وعن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت قلت يارسول الله ما طينة
الخبال ؟ " قال : " صديد أهل النار " وفى رواية " عصارة أهل
النار " ، عن أبى أمامه رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم فى قوله
" وَيُسۡقَىٰ مِن مَّآءٖ صَدِيد يَتَجَرَّعُهُۥ " قال :" يقرب اليه فيتكرهه فاذا
أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فاذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره "
كقوله" وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم" وكما قال " وان يستغيثوا
يغاثوا بماء يشوى الوجوه " ، " يَتَجَرَّعُهُۥ" يتغصصه ويتكرهه أو
يشربه قهرا وقسرا لا يضعه فى فمه حتى يضربه الملك بمطراق من حديد ، " وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُۥ " يردده لسوء طعمه ولونه
وريحه وحرارته أو برده الذى لا يستطاع ، " وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ
مَكَان وَمَا هُوَ بِمَيِّت " قال أبن جرير من أمامه وخلفه وفى رواية عن
يمينه وشماله ومن فوقه ومن تحت أرجله ومن سائر أعضاء جسده وقال أبن عباس أنواع
العذاب الذى يعذبه الله بها يوم القيامة فى نار جهنم ليس منها نوع الا يأتيه الموت
منه لوكان يموت ولكن لا يموت لأن الله تعالى قال " لايقضى عليهم فيموتوا ولا
يخفف عنهم من عذابها " ومعنى كلام أبن عباس أنه ما من نوع من العذاب والنكال
الا اذا ورد عليه اقتضى أن يموت منه لو كان يموت ولكنه لا يموت ليخلد فى دوام
العذاب والنكال ،" وَمِن وَرَآئِهِۦ
عَذَابٌ غَلِيظ " وله من بعد هذه الحال عذاب آخر غليظ أى مؤلم صعب أغلظ من
الذى قبله وأدهى وأمر وهذا كقوله عن شجرة الزقوم " انها شجرة تخرج فى أصل
الجحيم * طلعها كأنه رؤوس الشياطين * فانهم لآكلون منها فمالئون منها البطون * ثم
ان لهم عليها لشوبا من حميم * ثم ان مرجعهم لالى الجحيم " فأخبر أنهم تارة
يكونون فى أكل زقوم وتارة فى شرب حميم وتارة يردون الى جحيم كما قال تعالى "
هذه جهنم التى يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن " الى غير ذلك من
الآيات الدالة على تنوع العذاب الأليم عليهم وتكراره وأنواعه وأشكاله مما لا يحصيه
الا الله عز وجل .
مَّثَلُ
ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡۖ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَرَمَادٍ ٱشۡتَدَّتۡ بِهِ
ٱلرِّيحُ فِي يَوۡمٍ عَاصِفٖۖ لَّا يَقۡدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيۡءٖۚ ذَٰلِكَ هُوَ
ٱلضَّلَٰلُ ٱلۡبَعِيدُ ١٨
هذا مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكفار الذين عبدوا معه
غيره وكذبوا رسله وبنو أعمالهم على غير اساس صحيح فانهارت وعدموها أحوج ما كانوا
اليها " مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ
بِرَبِّهِمۡۖ أَعۡمَٰلُهُمۡ " أعمال الذين كفروا بربهم يوم القيامة اذا طلبوا
ثوابها من الله تعالى لأنهم كانوا يحسبون أنهم على شىء فلم يجدوا شيئا ولا ألفوا
حاصلا ، " كَرَمَادٍ ٱشۡتَدَّتۡ بِهِ
ٱلرِّيحُ فِي يَوۡمٍ عَاصِف"مثل الرماد أعمالهم لايمكن أن يتحصلوا عليها كما
يتحصل من الرماد اذا اشتدت به الريح العاصفة فى يوم عاصف ،" ۖ لَّا
يَقۡدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيۡء" لم يقدروا على التحصل على أعمالهم التى أصبحت كرماد
تذروه الرياح الشديدة العاصفة فى يوم شديد الريح لايمكن جمعه ، وهذا كقوله "
يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذى ينفق ماله رئاء الناس
ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا
لا يقدرون على شىء مما كسبوا والله لا يهدى القوم الكافرين " ، " ذَٰلِكَ
هُوَ ٱلضَّلَٰلُ ٱلۡبَعِيدُ " سعيهم وعملهم على غير أساس ولا استقامة حتى
فقددوا ثوابهم أحوج ما كانوا اليه .
أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ
وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۚ إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ وَيَأۡتِ بِخَلۡقٖ جَدِيدٖ ١٩ وَمَا ذَٰلِكَ
عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٖ ٢٠
"
أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۚ " يقول
الله تعالى مخبرا عن قدرته على معاد الأبدان يوم القيامة والبعث بعد الموت بأنه
خلق السموات والأرض التى هى أكبر من خلق الناس الذى قدر على خلق السموات فى
ارتفاعها واتساعها وعظمتها وما فيها والأرض بما فيها من جبال وصحارى وأنهار
ومحيطات وحيوان ونبات على اختلاف الأصناف والأشكال والألوان ، " إِن يَشَأۡ
يُذۡهِبۡكُمۡ وَيَأۡتِ بِخَلۡق جَدِيد "
أليس بفادر أى بعظيم ولا ممتنع عليه بل هو سهل عليه اذا خالفتم أمره أن
يذهبكم وبأت بآخرين على غير صفتكم ، " وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيز
"وليس ذلك على الله بصعب ويعز تحققه بل هو سهل عليه يسير كما قال " وان تتولوا يستبدل قوما
غيركم * ثم لا يكونوا أمثالكم " وكقوله" ان يشأ يذهبكم ويأت بآخرين وكان
الله على ذلك قديرا " وكقوله " يا أيها الناس أنتم الفقراء الى الله
والله هو الغنى الحميد * ان يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز
" .
وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعٗا فَقَالَ
ٱلضُّعَفَٰٓؤُاْ لِلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُوٓاْ إِنَّا كُنَّا لَكُمۡ تَبَعٗا فَهَلۡ أَنتُم
مُّغۡنُونَ عَنَّا مِنۡ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۚ قَالُواْ لَوۡ
هَدَىٰنَا ٱللَّهُ لَهَدَيۡنَٰكُمۡۖ سَوَآءٌ عَلَيۡنَآ أَجَزِعۡنَآ أَمۡ
صَبَرۡنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٖ ٢١
" وَبَرَزُواْ لِلَّهِ
جَمِيعٗا " برزت الخلائق كلها برها وفاجرها
لله الواحد القهار أى اجتمعوا له فى مكان ليس فيه شىء يستر أحد وهو البراز ،
" فَقَالَ ٱلضُّعَفَٰٓؤُاْ لِلَّذِينَ
ٱسۡتَكۡبَرُوٓاْ " وهم الأتباع قالوا لقادتهم وسادتهم وكبرائهم الذين
استكبروا عن عبادة الله وحده لا شريك له وعن موافقة الرسل ، " إِنَّا كُنَّا
لَكُمۡ تَبَعٗا " كنا نتبعكم ومهما أمرتمونا
ائتمرنا وفعلنا ، " فَهَلۡ أَنتُم مُّغۡنُونَ عَنَّا مِنۡ عَذَابِ ٱللَّهِ
مِن شَيۡء" فهل تدفعون عنا شيئا من عذاب الله كما كنتم
تعدوننا وتمنوننا ، " ۚ قَالُواْ لَوۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ لَهَدَيۡنَٰكُمۡۖ "
قال القادة لمن اتبعوهم يتنصلون منهم لو كان الله هدانا لكنا هديناكم ولكن حق
علينا قول ربنا وسبق فينا وفيكم قدر الله وحقت كلمة العذاب على الكافرين ، " سَوَآءٌ
عَلَيۡنَآ أَجَزِعۡنَآ أَمۡ صَبَرۡنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيص " ليس لنا
خلاص مما نحن فيه ان صبرنا عليه أوجزعنا عنه والظاهر أن هذه المراجعة فى النار بعد
دخولهم اليها كما قال تعالى " واذ يتحاجون فى النار فيقول الضعفاء للذين
استكبروا انا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا
انا كل فيها ان الله قد حكم بين العباد " وأما تخاصمهم يوم المحشر قال عنه
تعالى " ولو ترى اذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم الى بعض القول يقول
الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين
استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد اذ جاءكم بل كنتم مجرمين * وقال الذين استضعفوا
للذين استكبروا بل مكرالليل والنهار اذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا
وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال فى أعناق الذين كفروا هل يجزون الا
ما كانوا يعملون " .
وَقَالَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ إِنَّ
ٱللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ ٱلۡحَقِّ وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡۖ وَمَا كَانَ
لِيَ عَلَيۡكُم مِّن سُلۡطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِيۖ
فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوٓاْ أَنفُسَكُمۖ مَّآ أَنَا۠ بِمُصۡرِخِكُمۡ وَمَآ
أَنتُم بِمُصۡرِخِيَّ إِنِّي كَفَرۡتُ بِمَآ أَشۡرَكۡتُمُونِ مِن قَبۡلُۗ إِنَّ
ٱلظَّٰلِمِينَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ ٢٢ وَأُدۡخِلَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ
ٱلصَّٰلِحَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا
بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡۖ تَحِيَّتُهُمۡ فِيهَا سَلَٰمٌ ٢٣
يخبر الله تعالى عما خاطب به ابليس أتباعه بعدما قضى الله بين عباده فأدخل المؤمنين الجنات وأسكن الكافرين الدركات فقام فيهم ابليس لعنه الله يومئذ خطيبا ليزيدهم حزنا الى حزنهم وغبنا الى غبنهم وحسرة الى حسرتهم " وَقَالَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ " قال الشيطان يوم القيامة عندما حسمت الأمور وجاء يوم الحساب وعرف أهل النار من أهل الجنة فيخاطب الشيطان أصحاب النار ممن تبعوا طريقه ، " إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ ٱلۡحَقِّ وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡۖ " اعترف أن الله سبحانه وتعالى وما أنزله على رسله ووعد فى اتباعهم النجاة والسلامة وكان وعدا حقا وخبرا صدقا وأما أنا فوعدتكم فأخلفتكم كما قال تعالى " يعدهم الشيطان ويمنيهم وما يعدهم الشيطان الا غرورا " ، " وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيۡكُم مِّن سُلۡطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِيۖ " ما كان لى دليل فيما دعوتكم اليه ولا حجة فيما وعدتكم به بمجرد أن دعوتكم الى سبيلى وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاءوكم به فخالفتموهم فصرتم الى ما أنتم فيه ، " فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوٓاْ أَنفُسَكُمۖ " يوبخ الشيطان من اتبعوه ويلقى عليهم باللوم فهم الذين اتبعوه بارادتهم فان الذنب لهم لكونهم خالفوا الحجج وأتبعوه بمجرد ما دعاهم الى الباطل ، " مَّآ أَنَا۠ بِمُصۡرِخِكُمۡ " يقول لمن اتبعوه ما أنا بنافعكم ومنقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه ، " وَمَآ أَنتُم بِمُصۡرِخِيَّ " ما أنتم بنافعى بانقاذى مما أنا فيه نمن العذاب والنكال ، " إِنِّي كَفَرۡتُ بِمَآ أَشۡرَكۡتُمُونِ مِن قَبۡلُۗ " قال أبن جرير يقول الشيطان انى جحدت أن أكون شريكا لله عز وجل ويتنصل ممن اتخذوه شريكا من دون الله فى الحياة الدنياوهذا كقوله " ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له الى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون واذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " ، " إِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيم "ان الظالمين فى اعراضهم عن الحق واتباعهم الباطل لهم عذاب أليم ، والظاهر من سياق الآيات أن هذه الخطبة تكون من ابليس بعد دخولهم النار ، وعن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اذا جمع الله الأولين والآخرين فقضى بينهم ففرغ من القضاء قال المؤمنون قد قضى بيننا ربنا فمن يشفع لنا ؟ ؟ فيقولون انطلقوا بنا الى آدم وذكر نوحا وابراهيم وموسى وعيسى فيقول عيسى أدلكم على النبى الأمى فيأتونى فيأذن الله لى أن أقوم اليه فيثور من مجلسى من أطيب ريح شمها أحد قط حتى آتى ربى فيشفعنى ويجعل لى نورا من شعر رأسى الى ظفر قدمى ثم يقول الكافرون هذا قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ؟ ما هو الا ابليس هو الذى أضلنا ، فيأتون ابليس فيقولون قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا فانك أنت أضللتنا فيقوم فيثور من مجلسه من أنتن ريح شمها أحد قط ثم يعظم نحيبهم " ، لما ذكر تعالى مآل الأشقياء وما صاروا اليه من خزىونكال وأن خطيبهم ابليس عطف لمآل السعداء وأين ساروا " وَأُدۡخِلَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ " الذين آمنوا وعملوا الصالحات جزاءهم الجنات التى تجرى تحتها الأنهار ، " خَٰلِدِينَ فِيهَا " ماكثين أبدا لا يحولون ولا يزولون ، " بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡۖ تَحِيَّتُهُمۡ فِيهَا سَلَٰمٌ " يدخلون الجنة باذن الله يحييهم الله وتحييهم الملائكة كما قال " ويلقون فيها تحية وسلاما " وكقوله " دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين " .
أَلَمۡ تَرَ
كَيۡفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا كَلِمَةٗ طَيِّبَةٗ كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ أَصۡلُهَا ثَابِتٞ وَفَرۡعُهَا فِي
ٱلسَّمَآءِ ٢٤ تُؤۡتِيٓ أُكُلَهَا كُلَّ حِينِۢ بِإِذۡنِ رَبِّهَاۗ وَيَضۡرِبُ
ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ ٢٥ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ
خَبِيثَةٖ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجۡتُثَّتۡ مِن فَوۡقِ ٱلۡأَرۡضِ
مَا لَهَا مِن قَرَارٖ ٢٦
يوضح الله تعالى آياته بضرب ألأمثال " أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا " تدبر فى ضرب الله هذا المثل وما يدل عليه ، " مَثَلٗا كَلِمَةٗ طَيِّبَة" قال أبن عباس الكلمة الطيبة شهادة أن لا اله الا الله "كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ" الشجرة الطيبة هوالمؤمن ، " أَصۡلُهَا ثَابِت" قول لا اله الا الله فى قلب المؤمن وايمانه المستقر فى نفسه ، " وَفَرۡعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ "يرفع بها عمل المؤمن الى السماء وقال الضحاك ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وغيرهم ان ذلك المثل عبارة عن عمل المؤمن الصالح وقوله الطيب وان المؤمن كشجرة من النخل لا يزال يرفع له عمل صالح فى كل حين ووقت صباح ومساء ،وقال أبن عباس هى شجرة فى الجنة وقال البخارى عن أبن عمر قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" أخبرونى عن شجرة تشبه - أو - كالرجل المسلم لا يتحات ورقها صيفا ولا شتاء وتؤتى أكلها كل حين باذن ربها " قال أبن عمر فوقع فى نفسى أنها النخلة ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم فلما لم يقولا شيئا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هى النخلة " فلما قمنا قلت لعمر : " يا أبتاه والله لقد كان وقع فى نفسى أنها النخلة ، قال ما منعك أن تتكلم ؟ " قلت : لم أركم تتكلمون فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئا " قال عمر:لأن تكون قلتها أحب الى من كذا وكذا" " تُؤۡتِيٓ أُكُلَهَا كُلَّ حِينِۢ بِإِذۡنِ رَبِّهَا " قيل غدوة وعشيا والظاهر من السياق أن المؤمن مثله كمثل شجرة لايزال يوجد منها ثمر فى كل وقت من صيف أو شتاء أو ليل أو نهار كذلك المؤمن لايزال يرفع له عمل صالح آناء الليل وأطراف النهار فى كل وقت وحين والأكل الكلام والعمل الحسن الكثير الطيب وهذا كله بتوفيق الله واذنه اذا قال لشىء كن فيكون فكل شىء يعمله المؤمن أو يقوله بتوفيق من الله وهدى منه ،" وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ " يوضح الله للناس آياته بضرب الأمثال كتذكير لهم وعبرة " وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٖ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ " وضرب الله عكس المثل الأول الكلمة الطيبة وانتقل لضرب مثلا للكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة وعن أنس رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٖ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ " هى الحنظلة " وهى الكافر لا اصل الله ولا ثبات ، " ٱجۡتُثَّتۡ " أستؤصلت ، "مِن فَوۡقِ ٱلۡأَرۡضِ مَا لَهَا مِن قَرَار"لا أصل لها ولا ثبات كذلك الكفر لا أصل له ولا فرع ولا يصعد للكافر عمل ولا يتقبل منه شىء عمله خبيث مجتث .
يُثَبِّتُ
ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي
ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ
٢٧ ۞
" يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ " عن البراء قال عذاب القبر ، وقال أبن طاوس عن أبيه " يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا " قال لا اله الا الله " وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ " المسئلة فى القبر ، قال البخارى عن البراء بن عازب رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المسلم اذا سئل فى القبر شهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله " يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ " وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ان العبد اذا وضع فى قبره وتولى عنه أصحابه وانه ليسمع قرع نعالهم فيأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له ما كنت تقول فى هذا الرجل ؟ فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال له أنظر الى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة " قال النبى صلى الله عليه وسلم : " فيراهما جميعا " وقال قتادة وذكر لنا أنه يفسح له فى قبره سبعون ذراعا ويملأ عليه خضرا الى يوم القيامة " رواه مسلم وقال جابر سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول : " يبعث كل عبد فى القبر على ما مات ، المؤمن على ايمانه والمنافق على نفاقه " وعن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ " قال : " ذلك اذا قيل له فى القبر من ربك وما دينك ومن نبيك ؟ فيقول : ربى الله ، ودينى الاسلام ، ونبيى محمد جاءنا بالبينات من عند الله فآمنت به وصدقت ، فيقال له صدقت ، على هذا عشت وعليه مت ، وعليه تبعث " وعن عثمان رضى الله عنه قال كان النبى صلى الله عليه وسلم اذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال " استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فانه الآن يسئل " ، " وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّٰلِمِينَۚ " الظالمين الذين هم أصحاب النار وقال أبن عباس فى هذه الآية : ان المؤمن اذا حضره الموت شهدته الملائكة فسلموا عليه وبشروه بالجنة ، فاذا مات مشوا مع جنازته ثم صلوا عليه مع الناس ، فاذا دفن أجلس فى قبره فيقال له من ربك ؟ فيقول ربى الله ، فيقال له من رسولك ؟ فيقول محمد صلى الله عليه وسلم فيقال له ما شهادتك ؟ فيقول أشهد أن لا اله الا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، فيوسع له فى قبره مد بصره ، وأما الكافر فتنزل عليه الملائكة فيبسطوا أيديهم والبسط هو الضرب " يضربون وجوههم وأدبارهم " عند الموت ، فاذا أدخل قبره أقعد فقيل له من ؟ فلم يرجع اليهم شيئا وأنساه الله ذكر ذلك ، واذا قيل من الرسول الذى بعث اليك ؟ لم يهتد له ولم يرجع اليهم شيئا " كذلك يضل الله الظالمين " ، " وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ " الفعل لله وحده هو الذى يسير الأمور بحكمته يهدى من يشاء ويضل من يشاء .
ألم تر الى
الذين بدلوانِعۡمَتَ ٱللَّهِ كُفۡرٗا وَأَحَلُّواْ قَوۡمَهُمۡ دَارَ ٱلۡبَوَارِ ٢٨
جَهَنَّمَ يَصۡلَوۡنَهَاۖ وَبِئۡسَ ٱلۡقَرَارُ ٢٩ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا لِّيُضِلُّواْ عَن
سَبِيلِهِۦۗ قُلۡ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمۡ إِلَى ٱلنَّارِ ٣٠
"
ألم تر " تفكر وتدبر فيما يحدث ويقع " الى الذين بدلوانِعۡمَتَ ٱللَّهِ
كُفۡرٗا وَأَحَلُّواْ
قَوۡمَهُمۡ دَارَ ٱلۡبَوَارِ " قال أبن عباس هم كفار مكة وقال العوفى عن أبن عباس
هوجبلة بن الأيهم والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم وان كان المعنى يعم جميع
الكفار فان الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ونعمة للناس
فمن قبلها وقام بشكرها دخل الجنة ، ومن ردها وكفردخل النار ، والبوار هو الهلاك - بار يبور بورا وقوما بورا
هالكين وسأل أبن الكواء عليا رضى الله عنه عن الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا
قومهم دار البوار قال هم كفار قريش يوم بدر وفى قول آخر قال مشركو قريش أتتهم نعمة
الله الايمان فبدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ، وقال السدى عن على
أنه قال هم الأفجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة ، فأما بنو المغيرة فأحلوا
قومهم دار البوار يوم بدر ، وأما بنو أمية فأحلوا قومهم دار البوار يوم أحد ، وكان
أبو جهل يوم بدر ، وأبو سفيان يوم أحد ، وأما دار البوار فهى جهنم ، "
جَهَنَّمَ يَصۡلَوۡنَهَاۖ وَبِئۡسَ ٱلۡقَرَارُ" أوضح الله دار البوار أنها
جهنم يصلى فيها الذين بدلوا الايمان بالكفر العذاب الأليم ،" وَجَعَلُواْ
لِلَّهِ أَندَادٗا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِۦ" جعلوا لله شركاء عبدوهم
معه من أصنام وأوثان ودعوا الناس الى ذلك " قُلۡ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ
مَصِيرَكُمۡ إِلَى ٱلنَّارِ" قال الله مهددا للكفار ومتوعدا لهم على لسان
نبيه صلى الله عليه وسلم مهما قدرتم عليه فى الدنيا فافعلوا فمهما يكن من شىء من
متاع الدنيا فان مرجعكم وموئلكم الى النار وهذا كقوله " نمتعهم قليلا ثم
نضطرهم الى عذاب غليظ " وقال تعالى " متاع فى الدنيا ثم الينا مرجعهم ثم
نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون " .
قُل لِّعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقِيمُواْ
ٱلصَّلَوٰةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ مِّن قَبۡلِ أَن
يَأۡتِيَ يَوۡمٞ لَّا بَيۡعٞ فِيهِ وَلَا خِلَٰلٌ ٣١
" قُل
لِّعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا
رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ يَوۡمٞ لَّا بَيۡعٞ فِيهِ "
يقول تعالى آمرا عباده بطاعته والقيام بحقه والاحسان الى خلقه بأن يقيموا الصلاة
وهى عبادة لله وحده لا شريك له وأن ينفقوا مما رزقهم الله بأداء الزكوات والنفقة
على القربات والاحسان الى الأجانب والمراد باقامة الصلاة هو المحافظة على وقتها
وحدودها وركوعها وخشوعها وسجودها وأمر الله تعالى بالانفاق فى السر أى فى الخفية
والعلانية وهى الجهر وليبادروا الى ذلك لخلاص أنفسهم قبل يوم القيامة يوم لا يقبل
من أحد فيه فدية أن تباع نفسه وقوله " وَلَا خِلَٰلٌ " الخلال مصدر من
قول القائل خاللت فلانا فأنا أخاله مخالة وخلالا وقال أبن جرير يقول الله تعالى
ليس هناك مخالة خليل فيصفح عمن استوجب العقوبة عن العقاب لمخالته بل هناك العدل
والقسط ، وقال قتادة ان الله قد علم أن فى
الدنيا بيوعا وخلالا يتخالون بها فى الدنيا فينظر الرجل من يخالل وعلام يصاحب ،
فان كان لله فليداوم ، وان كان لغير الله فسيقطع عنه ، والمراد من هذا أنه يخبر
تعالى أنه لا ينفع أحد بيع ولا فدية ، ولو افتدى بملء الأرض ذهبا لو وجده ، ولا
تنفعه صداقة أحد اذا لقى الله كافرا كما قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا
أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتى يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم
الظالمون " وكقوله " واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها
عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون " .
ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ
وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ
ٱلۡفُلۡكَ لِتَجۡرِيَ فِي ٱلۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِۦۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡأَنۡهَٰرَ
٣٢ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ دَآئِبَيۡنِۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ
ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ ٣٣ وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ وَإِن
تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَظَلُومٞ كَفَّارٞ ٣٤
يعدد اله تعالى نعمه على خلقه " ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ " فهو الذى خلق لهم السموات والأرض ، " وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡق ا لَّكُمۡۖ " وأنزل الله المطر من السماء فأنبت به ما بين ثمار وزروع مختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح والمنافع ، " وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ لِتَجۡرِيَ فِي ٱلۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِ " وسخر السفن التى تسير وتمخر البحار باذن الله وسخر البحر والريح لحملها وتسييرها فلا تغرقها ، "وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡأَنۡهَٰرَ " سخر الأنهار التى تمتلىء بالماء العذب رزقا للعباد من شرب وزرع وغيره والتى يمكن أن تجف فيهلك البشر والزرع والضرع وأكبر دليل على ذلك الأنهار التى تجرى فى الصحارى وتعتمد عليها دول مثل نهر النيل والفرات ودجلة فى العالم العربى وقامت الحضارات على ضفاف الأنهار ، " وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ دَآئِبَيۡنِۖ " وسخر الله للناس الشمس والقمر يسيران لا يفتران ليلا ولا نهارا لأجل يعلمه الله ونحن نعلم أن الحياة على الأرض كلها قائمة على دورة الحياة التى تتم بوجود الشمس والقمر مسخر كذلك لو اقترب من الأرض لغرقت بلاد كثيرة بجاذبيته وظاهرة المد والجزر التى تتم فى البحار والأنهار والدورة الت يتم بها حساب الأيام والسنوات وكل ذلك الذى يجعل الحياة على الأرض تستمر " الشمس والقمر بحسبان " " وهذا كقوله " لا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل فى فلك يسبحون " وكقوله " يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين " ، " وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ " سخر الله كذلك الليل والنهار فالليل للنوم والراحة والنهار للسعى والرزق " وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا " والآيات الكونية الدالة على قدرة الله تكررت وذكرت كثيرا فى القرآن ، " وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ " هيأ الله لكم كل ما تحتاجون اليه فى جميع أحوالكم مما تسألونه بحالكم وقال بعض السلف كل ما سألتموه وما لم تسألوه ، " وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ " ذعم اللهكثيرة على عباده وذكر هنا لفظ نعمة بالمفرد لأننا لا نستطيع حتى أن نحصى فضل نعمة واحدة منها نعمة حاسة واحدة من الحواس من سمع وبصر وتذوق وحس وسمع وعقل وادراك وغيرها فى الجسم البشرى وحده فيخبر الله تعالى عن عجز العباد عن تعداد اللنعم فضلا عن القيام بشكرها وفى صحيح البخارى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اللهم لك الحمد غير مكفى ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا " ، " إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَظَلُومٞ كَفَّار " الانسان كثير الظلم بعدم شكر نعمة الله عليه ودائما يقول هل من مزيد ولا يملأ عينه الا التراب فهو كفار أى كثير الكفر بنعمة ربه جاحد لها ولا يؤدى شكرها ومعظم أهل الأرض ليسوا من المؤمنين فالأرض مليئة من الكفار فى العالم والملحدين وعدد المسلمين الموحدين كالشعرة فى بدن الثور .
وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا
ٱلۡبَلَدَ ءَامِنٗا وَٱجۡنُبۡنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعۡبُدَ ٱلۡأَصۡنَامَ
٣٥ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضۡلَلۡنَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِۖ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُۥ مِنِّيۖ
وَمَنۡ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٣٦
يذكر
تعالىفى هذا المقام محتجا على مشركى العرب بأن البلد الحرام مكة انما وضعت أول ما
وضعت على عبادة الله وحده لا شريك له وأنابراهيم عليه السلام الذى كانت عامرة
بسببه آهلة تبرأ ممن عبد غير الله وأنه دعا لمكة بالأمن " وَإِذۡ قَالَ
إِبۡرَٰهِيمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا ٱلۡبَلَدَ ءَامِنٗا " هذه
دعوة ابراهيم عليه السلام لمكة بعد أن بناها بالأمن فقال تعالى " أو لم يروا
أنا جعلنا حرما آمنا " وقال " ان أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا
وهدى للعالمين " ، " وَٱجۡنُبۡنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعۡبُدَ ٱلۡأَصۡنَامَ
" ودعا ابراهيم عليه السلام كذلك ربه أن يجنبه هو وذريته من بعده عبادة
الأصنام من دون الله وحده وينبغى لكل داع
أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته ، " رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضۡلَلۡنَ كَثِيرٗا مِّنَ
ٱلنَّاسِۖ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُۥ مِنِّيۖ وَمَنۡ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٞ رَّحِيم
" ذكر ابراهيم عليه السلام أنه أفتتن بالأصنام خلائق كثيرة من الناس وأنه
تبرأ ممن عبدها ورد أمرهم الى الله ان شاء عذبهم وان شاء غفر لهم كقول عيسى عليه
السلام " ان تعذبهم فانهم عبادك وان تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم "
وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول ابراهيم عليه
السلام " رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضۡلَلۡنَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِۖ " وقول عيسى أبن مريم " ان
تعذبهم فانهم عبادك " ثم رفع يديه ثم قال : " اللهم أمتى اللهم أمتى
" وبكى فقال الله " اذهب يا جبريل الى محمد وربك أعلم وسله ما يبكيك ؟
" فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال
فقال الله " اذهب الى محمد فقل له انا سنرضيك فى أمتك ولا نسوؤك "
.
رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ
غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ
فَٱجۡعَلۡ أَفِۡٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم
مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ ٣٧
هذا استكمال لدعاء ابراهيم عليه السلام " رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ" هذا الدعاء تأكيد ورغبة الى الله عز وجل دعا به ربه وسأل الله من فضله له ولذريته بعد أن استوطن هذا المكان الذى لا زرع فيه عند بيته المحرم وهو الكعبة بمكة ، " رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ " وجعله الله لاقامة الصلاة والعبادة لله ، " فَٱجۡعَلۡ أَفِۡٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ " قال أبن عباس وغيره قال أفئدة من الناس فاختص به المسلمون ولو قال أفئدة الناس لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم من العالم كله ، " وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ " وطلب من الله أن يرزقهم من الثمرات ليكون ذلك عونا لهمعلى طاعته وكما أنه واد غير ذى زرع فاجعل لهم ثمارا يأكلونها " لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ " لعل ذلك يستوجب منهم شكر النعمة فالنعمة من الله تستوجب الشكر وقد استجاب الله ذلك كما قال " أو لم نمكن لهمحرما آمنا يجبى اليه ثمرات كلشىء رزقا من لدنا " وهذا من لطفه تعالى ورحمتهوبركته أنه ليس فى البلد الحرام مكة شجرةمثمرة وهى بين جبال وهى تجبى اليها ثمرات ما حولها استجابة لدعاء الخليل عليه السلام فلوكانت تركت بدون حضوره لها واقامة البيت الحرام لما كانت على ما هى فيه.
رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعۡلَمُ مَا نُخۡفِي وَمَا
نُعۡلِنُۗ وَمَا يَخۡفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا
فِي ٱلسَّمَآءِ ٣٨ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى ٱلۡكِبَرِ
إِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ ٣٩ رَبِّ
ٱجۡعَلۡنِي مُقِيمَ ٱلصَّلَوٰةِ وَمِن ذُرِّيَّتِيۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلۡ دُعَآءِ
٤٠ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيَّ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ يَوۡمَ يَقُومُ
ٱلۡحِسَابُ ٤١
استمرار
لدعاء ابراهيم عليه السلام " رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعۡلَمُ مَا نُخۡفِي وَمَا
نُعۡلِنُۗ وَمَا يَخۡفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ " يقول ابراهيم
عليه السلام ربنا انك تعلم قصدى فى دعائى وما أردت بدعائى لأهل هذا البلد وانما
هوالقصد الى رضاك والاخلاص لك فانك تعلم الأشياء كلها ظاهرها وباطنها لا يخفى عليك
منها شىء فى الأرض ولا فى السماء ، " ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي وَهَبَ لِي
عَلَى ٱلۡكِبَرِ إِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ
" حمد ابراهيم عليه السلام ربه عز وجل على ما رزقه من الولد بعد الكبر وهو
الذى يستجيب لمن دعاه ، " رَبِّ ٱجۡعَلۡنِي مُقِيمَ ٱلصَّلَوٰةِ وَمِن ذُرِّيَّتِيۚ
" دعا ابراهيم ربه أن يجعله محافظا على الصلاة مقيما لحدودها وأن يجعل ذريته
كذلك مقيمين لها ، " رَبَّنَا وَتَقَبَّلۡ دُعَآءِ " سأل ابراهيمعليه
السلام ربه أن يتقبل دعائه ، " رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيَّ
وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ يَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡحِسَابُ " سأل ابراهيم عليه السلام أن
يغفر له ولوالديه وكان هذا قبل أن يتبرأ من أبيه لما تبين له عداوته لله عز وجل
وأن يغفر للمؤمنين كلهم يوم يحاسب عباده يوم القيامة فيجازيهم بأعمالهم ان خيرا
فخير وان شرا فشر .
وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعۡمَلُ
ٱلظَّٰلِمُونَۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمۡ لِيَوۡمٖ تَشۡخَصُ فِيهِ
ٱلۡأَبۡصَٰرُ ٤٢ مُهۡطِعِينَ مُقۡنِعِي رُءُوسِهِمۡ لَا يَرۡتَدُّ إِلَيۡهِمۡ
طَرۡفُهُمۡۖ وَأَفِۡٔدَتُهُمۡ هَوَآءٞ ٤٣
"وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعۡمَلُ ٱلظَّٰلِمُونَۚ " يقول الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم لاتحسب أن الله اذا أنظر الظالمين وأجلهم أنه غافل عنهم مهمل لهم لا يعاقبهم على صنعهم ، " إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمۡ لِيَوۡمٖ تَشۡخَصُ فِيهِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ" بل الله يحصى ذلك على الظالمين ويعده عليهم عدا ويؤخرهم الى يوم القيامة اليوم الذى من شدة هوله يصاب الناس بالخوف والهلع حتى تبرز أبصارهم ولا تتحرك من شدته ، ذكر الله كيفية قيام الناس من القبور " مُهۡطِعِينَ " يقومون من القبور مسرعين كما قال " مهطعين الى الداع " وكما قال " يومئذ يتبعون الداعى لا عوج له " وكما قال " يوم يخرجون من الأجداث سراعا " الأجداث هى القبور،" مُقۡنِعِي رُءُوسِهِمۡ " قال أبن عباس وغيره رافعى رؤسهم من هول الموقف تظل الرؤوس مرفوعة والعيون شاخصة لا تحول ولا تزول ، " لَا يَرۡتَدُّ إِلَيۡهِمۡ طَرۡفُهُمۡ " أبصارهم ظاهرة شاخصة مديمون النظر لا يطوفون لحظة لكثرة ما هم فيه من الهول والفكرة والمخافة لما يحل بهم ، " ۖ وَأَفِۡٔدَتُهُمۡ هَوَآء " أفئدتهم أى قلوبهم خاوية خالية ليس فيها شىء حتى الهواء لكثرة الوجل والخوف وقال قتادة ان أمكنة أفئدتهم خالية لأن القلوب لدى الحناجر قد خرجت من أماكنها من شدة الخوف.
وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوۡمَ يَأۡتِيهِمُ ٱلۡعَذَابُ
فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَآ أَخِّرۡنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ نُّجِبۡ دَعۡوَتَكَ
وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَۗ أَوَ لَمۡ تَكُونُوٓاْ أَقۡسَمۡتُم مِّن قَبۡلُ مَا لَكُم
مِّن زَوَالٖ ٤٤ وَسَكَنتُمۡ فِي مَسَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ
أَنفُسَهُمۡ وَتَبَيَّنَ لَكُمۡ كَيۡفَ فَعَلۡنَا بِهِمۡ وَضَرَبۡنَا لَكُمُ
ٱلۡأَمۡثَالَ ٤٥ وَقَدۡ مَكَرُواْ مَكۡرَهُمۡ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكۡرُهُمۡ وَإِن
كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ مِنۡهُ ٱلۡجِبَالُ ٤٦
" وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوۡمَ يَأۡتِيهِمُ ٱلۡعَذَابُ " يبلغ الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر الناس كلهم من يوم عذاب - يوم القيامة فهو البشير النذير أرسله الله الى الناس كافة ، " فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَآ أَخِّرۡنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ نُّجِبۡ دَعۡوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَۗ" فى هذا اليوم يتحدث الذين ظلموا أنفسهم عند معاينة العذاب فيرجون الله ويتوسلون اليه أن يردهم الى الدنيا ليستجيبوا الى ما أرسل الله به رسله ويتبعوه وهذا من باب الحسرة والندامة لأنه لا رجوع بعد يوم القيامة كقوله " حتى اذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون "،" أَوَ لَمۡ تَكُونُوٓاْ أَقۡسَمۡتُم مِّن قَبۡلُ مَا لَكُم مِّن زَوَال " يزجرهم الله ويعنفهم على ما كانوا قالوه من قبل فى الحياة الدنيا وأكدوه لأن كلمة أقسمتم تفيد الاصرار على الفعل أى أو لم تكونوا تحلفون من قبل هذه الحالة أنه لا زوال لكم عما أنتم فيه وأنه لا معاد ولا جزاء فذوقوا هذا بذلك وقال مجاهد " مَا لَكُم مِّن زَوَال " أى ما لكم من انتقال من الدنيا الى الآخرة كقوله " وأقسموا بالله جهدأيمانهم لا يبعث الله من يموت "،" وَسَكَنتُمۡ فِي مَسَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَتَبَيَّنَ لَكُمۡ كَيۡفَ فَعَلۡنَا بِهِمۡ وَضَرَبۡنَا لَكُمُ ٱلۡأَمۡثَالَ " قد رأيتم وبلغكم ما أحللنا بالأمم المكذبة قبلكم ومع هذا لم يكن لكم فيهم معتبر ولم يكن فيما أوقعنا بهم لكم مزدجر ، " وَقَدۡ مَكَرُواْ مَكۡرَهُمۡ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكۡرُهُمۡ وَإِن كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ مِنۡهُ ٱلۡجِبَالُ " يتحدث الله عن الذين كفروا وهم الذين ظلموا لأن الكفر والشرك لظلم عظيم قال أبن جرير بأن هذا الذى فعلوه بأنفسهم من شركهم بالله وكفرهم به ما ضر ذلك من الجبال ولا غيرها وانما عاد وبال ذلك عليهم وقال أبن عباس عن مكرهم أى شركهم كما قال ما كان مكرهم لتزول منه الجبال أى لا يصنع شيئا كما لاتهدم الرياح الجبل ولا تحركه من مكانه .
فَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخۡلِفَ وَعۡدِهِۦ
رُسُلَهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٖ ٤٧ يَوۡمَ تُبَدَّلُ ٱلۡأَرۡضُ غَيۡرَ ٱلۡأَرۡضِ
وَٱلسَّمَٰوَٰتُۖ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ ٤٨
" فَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخۡلِفَ وَعۡدِهِۦ رُسُلَهُۥٓۚ " يقول تعالى مقررا لوعده ومؤكدا لا يصل الى اعتقادك وحسابك وظنك أن الله يخلف وعده لنصرة رسله فى الحياة الدنيا ويوم القيامة ، " إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَام " الله تعالى ذو عزة لا يمتنع عليه شىء أراده ولا يغالب وذو انتقام ممن كفر به وجحده ، " يَوۡمَ تُبَدَّلُ ٱلۡأَرۡضُ غَيۡرَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُۖ " وعد الله حاصل وواقع يوم تبدل الأرض وهى هذه على غير الصفة المألوفة المعروفة فى الحديث المشهور المروى عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال :" يبدل الله الأرض غير الأرض والسموات فيبسطها ويمدها مد الأدم لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ثم يزجر الله الخلق زجرة فاذا هم فى هذه المبدلة " وكما جاء فى الصحيحين عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصه النفى ليس فيها معلم لأحد " وعن عبد الله عن النبى صلى الله عليه وسلم فى قول الله عز وجل " يَوۡمَ تُبَدَّلُ ٱلۡأَرۡضُ غَيۡرَ ٱلۡأَرۡضِ " قال " أرض بيضاء لم يسفك عليها دم ولم يعمل عليها خطيئة " ، " وَبَرَزُواْ لِلَّهِ " خرجت الخلائق جميعها من قبورهم لله " ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ " الله الذى قهر كل شىء وغلبه ودانت له الرقاب وخضعت له الألباب .
وَتَرَى
ٱلۡمُجۡرِمِينَ يَوۡمَئِذٖ مُّقَرَّنِينَ فِي ٱلۡأَصۡفَادِ ٤٩ سَرَابِيلُهُم مِّن
قَطِرَانٖ وَتَغۡشَىٰ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ ٥٠ لِيَجۡزِيَ
ٱللَّهُ كُلَّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ ٥١
" وَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ يَوۡمَئِذٖ مُّقَرَّنِينَ فِي ٱلۡأَصۡفَادِ " بعد أن تبدل الأرض والسموات وتبرز الخلائق لديانها ويأتى يوم الحساب يحاسب الله الكفار والمشركين الذين أجرموا فى جناب الله بكفرهم فيحكم عليهم بدخول النار ترى والخطاب الى الرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين من بعده يومئذ الذين أجرموا بكفرهم وشركهم وفسادهم فى السلاسل والقيود وهى الأصفاد مقرنين أى بعضهم الى بعض قد جمع بين النظراء أو الأشكال منهم كل صنف الى صنف كما قال تعالى " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم " وقال " واذا النفوس زوجت " وكما قال " واذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا " وكما قال " والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين فى الأصفاد " ، " سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَان" السرابيل هى الثياب التى تلبس والقطران هو الذى تطلى به الابل قال قتادة وهو ألصق شىء بالنار أى تكون ثيابهم التى عليهم من القطران المشتعل ، " وَتَغۡشَىٰ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ " يغشى بمعنى يصيب ويغطى وجوههم النار كما فى قوله " تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون " وعن أبى أمامة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" النائحة اذا لم تتب توقف فى طريق بين الجنة والنار وسرابيلها من قطران وتغشى وجهها النار " ، " لِيَجۡزِيَ ٱللَّهُ كُلَّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡۚ " يوم القيامة توفى كل نفس ما كسبت ان خيرا فخير وان شرا فشر " كقوله " ليجزى الذين أساءوا بما عملوا " ، " إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ " الله فى محاسبته لعباده سريع النجاز لأنه يعلم كل شىء ولا يخفى عليه خافية وان جميع الخلق بالنسبة الى قدرته كالواحد كقوله تعالى " ما خلقكم ولا بعثكم الا كنفس واحدة " أو يمكن أن يكون المعنى أن حساب الله يأتى سريعا والناس فى غفلة عنه حتى تنقضى آجالهم سريع كقوله " اقترب للناس حسابهم وهم فى غفلة معرضون " .
هَٰذَا بَلَٰغٞ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِۦ وَلِيَعۡلَمُوٓاْ
أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٥٢
" هَٰذَا بَلَٰغٞ لِّلنَّاسِ " يقول تعالى هذا اشارة الى القرآن أو ما جاء فيه بلاغ لجميع الخلق من انس وجن"وَلِيُنذَرُواْ بِهِۦ " ليتعظوا به وبما جاء فيه ، " وَلِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِد" ليستدلوا بما فيه من الحجج والدلالات على أنه اله واحد لا اله الا هو ، " وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ " ليكون تذكير لذوى العقول والأفهام .
No comments:
Post a Comment