الأصطفاء فى اختيار البيئة .
لقد اختار الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم
أن ينشأ فى صحراء مترامية ، عزلت بحكم طبيعتها عن الاختلاط الشديد والاندماج ،
فكان هناك صفاء يبعد عن الفلسفات التى فى الأمم الأخرى ، كما هو الحال فى الصين
والهند وآسيا ومصر وسائر بلاد العالم القديم التى جعلت البشر يرغبون فى العيش فيها
لرغد العيش ، فهذه البيئة صحراء تعتمد على الماء القليل والرزق القليل ، وعندما
اقترب الميعاد واذن أوحى الله الى سيدنا ابراهيم بالرحيل من بلاد النهرين والشام
ليصل الى هذا المكان الذى يتوسط العالم وهو مكة ليشع منه النور الى كل جزء فى
الأرض " ربنا انى أسكنت من ذريتى
بوادى غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى اليهم وأرزقهم من
الثمرات لعلهم يشكرون " ابراهيم 37وقال سبحانه وتعالى " ان الله اصطفى آدم
ونوحا وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم
" آل عمران 33-34 ،
وكان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من ذرية آل ابراهيم ، ذرية أبى الأنبياء ، والآية تشير الى الاصطفاء الترتيبى من ناحية البعد الزمنى ، فذكر آدم ثم نوح ثم آل ابراهيم ثم آل عمران ، وهى ذرية كما قال القرآن بعضها من بعض وليست منفصلة بل هى متصلة ، وفى داخل هذه الذرية اصطفاء ، وكانت أمة العرب أمية لاتعرف القراءة أو الكتابة وكل ما كانت تعرفه من فنون هو الشعر الذى دون تراثها القليل بالحفظ المتوارث حتى عرف بعض منهم فى مرحلة متأخرة الكتابة من بلاد الشام ذات الحضارة ، واستخدموا الحروف الآرامية فى الكتابة وهى التى نقلت عن مصر وتطورت ، ولامجال هنا لتوضيح ذلك ، وهذه الأمة كانت بعيدة عن الفلسفات بخلاف الاغريق والرومان وبلاد فارس ومصر والصين والهند ، فهذه الفلسفات قادت الى الضلال بعد أن اختلت العقائد التى تركها الرسل والأنبياء بعد وفاتهم ، وكانت البشرية تفتقد الى الاتصال السريع فكان لكل شعب فلسفته وثقافته ، وجاء الاتصال بعد أن نشأت الحضارات وعرف الانسان وسائل الاتصال وبخاصة البحرية منها ، وكان انحراف أمة العرب عن دين سيدنا ابراهيم والحنيفية السمحة بسبب هذا الاتصال فدخل اليهم عبادة الأوثان تشبها بغيرهم ، وكان منهم القليل الذى ظل على دين ابراهيم عليه السلام ، وظل يقل بمرور الأيام حتى كان ورقة بن نوفل لوحده أيام البعثة المحمدية ، يقول القرآن الكريم " هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم يتلو عليم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفى ضلال مبين " الجمعة 2 ، وكان لفظ " الأميين " يطلق على العرب ، وفى هذا الوسط تدخلت رعاية الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم فكان هناك اصطفاء آخر وهو
اصطفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم كما أسلفنا من ناحية النسب فنسبه يرجع الى أبى الأنبياءسيدنا ابراهيم خليل الرحمن محطم الأصنام ،فهو " محمد ابن عبد الله ابن عبد المطلب ابن هاشم ابن عبد مناف ابن قصى ابن كلاب ابن مرة ابن كعب ابن لؤى ابن غالب ابن فهر ابن مالك ابن النضر ابن كنانة ابن خزيمة ابن مدركة ابن الياس ابن مضر ابن نزار ابن معد ابن عدنان ابن أد ابن آدد ابن اليسع ابن الهميسع ابن سلامان ابن تيت ابن حمل ابن قيثار ابن اسماعيل ابن ابراهيم " المرجع كتاب " الشجرة النبوية لمؤلفه الامام جمال الدين يوسف بن حسن بن الهادى المقدسى ( ابن المبرد) ، ومن عرف طريق ربه منذ أن كان فتى ، فهو سليل الأنبياء من نسل اسماعيل عليه السلام وابراهيم أبيه عليه السلام ، ومن خير قبائل العرب " قريش " سدنة بيت الله الحرام وسادة العرب وسدنة الكعبة المشرفة ، وعن عمرو بن دينار عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال :" بينما نحن جلوس بفناء رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ مرت امرأة فقال رجل من القوم هذه ابنة محمد فقال أبو سفيان :" ان مثل محمد فى بنى هاشم مثل الريحانة فى وسط النتن فانطلقت المرأة فأخبرت النبى صلى الله عليه وسلم فخرج النبى صلى الله عليه وسلم برف الغضب فى وجهه فقال :" ما بال أقوال تبلغنى عن أقوام ! ان الله تبارك وتعالى خلق السموات فاختار العليا فأسكنها من شاءمن خلقه ثم خلق الخلق فاختار من الخلق بنى آدم فاختار من بنى آدم العرب ، واختار من العرب مضر ، واختار من مضر قريشا واختار من قريش بنى هاشم ، فأنا من بنى هاشم من خيار الى خيار ، فمن أحب العرب فبحبى أحبهم ، ومن أبغض العرب فبغضى لأبغضهم " رواه الحاكم فى المستدرك ، وروى الامام مسلم وغيره عن واثلة بن الأسقع قال :" قال رسول الله صلى اللع عليه وسلم :" ان الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى من قريش بنى هاشم ، واصطفانى من بنى هاشم "،وفى حديث آخر :" ان الله اصطفى من ولد ابراهيم بنى اسماعيل ، واصطفى كنانة من بنى اسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى هاشم من قريشا ، واصطفانى من بنى هاشم ، فانا خيار من خيار من خيار " الراوى المحدث ابن تيميه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتسب الى العرب المستعربة ، وهم عرب الشمال من نسل اسماعيل عليه السلام ويقال لهم عرب الحجاز أو العدنانيون ، وقد نشؤوا فى مكة ومنها تفرقوا الى جهات كثيرة فى الحجاز وتهامة فقد اخلط جدهم اسماعيل بجرهموصاهرهم وكان من نسله عدنان ومن عدنان نشأ فرعان عظيمان – ربيعة ومضر وقد جمع لهما من الفضل والمجد ما جعلهما أرومة صالحة انبثقت عنها أطيب الفروع وأزكاها ، وكان ربيعة ومضرعلى ملة ابراهيم عليه السلام ، ففى حديث رواه الزبير بن بكار مرفوعا :" لاتسبوا مضر ولا ربيعة فانهما كانا مسلمين " ، وقد اختار الله من ولد مضر كنانة وهو شيخ جليل كان مطاعا فى قومه مهيبا بين أهله وكانت العرب تحفظ من أخبار كرمه ونبله ما سارت به الكبان حتى نقل الحافظ ابن حجر العسقلانى فى شرح البخارى :" أنهم كانوا يحجون اليه لعلمه وفضله ، وكان على سنة جده ابراهيم الخليل عليه السلام لايأكل وحده ولا يمنع رفدة ، وقد اصطفى الله من كنانة قريشا وهم اولئك الغر الميامين الذين اختارهم لخدمة بيته الحرام وكانوا أصح ولد اسماعيل أنسابا وأشرقهم أحسابا وأعلاهم آدابا وأفصحهم ألسنة ، وفى حديث الزبير بن العوام عند الطبرانى ومثله حديث أم هانىء فى معجمه الأوسط :" فضل الله قريشا بسبع خصال : فضلهم أنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبد الله الا قريش ، وفضلهم بأن نصرهم يوم الفيل وهم مشركون ، وفضلهم بأن أنزل فيهم سورة من القرآن لم يدخل فيها أحدأ من العالمين وهى "لايلاف قريش " ، وفضلهم بأن جعل فيهم النبوة والخلافة والحجابة والسقاية " ، وكانت مائدة هاشم منصوبة دائما لاترفع فى السراء ولا فى الضراء وزاد عليه ولد عبد المطلب فكان يطعم الوحش وطير السماء ، وكان أول من تحنث بغار حراء ، ويروى أنه حرم الخمر على نفسه وجعل ماء زمزم قاصرا على الشرب وحرم على الناس أن يغتسلوا به ، وخلاصة القول أن بنى هاشم كانوا أكرم قريش اطلاقا وأبعدهم عن الكبر والأثرة ، قال أبو جهل فى حسده اياهم على كون الرسول صلى الله عليه وسلم منهم :" تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ، أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى اذا زاحمناهم بالمناكب قالوا : منا نبى يأتيه الوحى من السماء فمتى ندرك هذه ! ، ومن بنى هاشم اختار الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، اختاره الله فأدبه وأحسن تأديبه فكان على خلق عظيم ، وقد ارفق اسم قريش بأعظم بقعة عند الله على الأرض وهى مكة التى أطلق عليها القرآن " هذا البلد الأمين " فى سورة التين ،وأقسم الله بها " لا أقسم بهذا البلد * وأنت حل بهذا البلد " البلد 1-2 ، وولد الرسول صلى الله عليه وسلم فى هذه البقعة فكان اصطفاء لمحل الميلاد والمقام ،