5- ) تبسيط تفسير أبن كثير للقران الكريم
تفسير سورة النساء
الجزء الخامس
هذه الآية ضمن أيات التحريم " والمحصنا من النساء
الا ما ملكت أيمانكم " حرم عليكم من الأجنبيات المحصنات وهن المتزوجات الا ما
ملكت أيمانكم يعنى الا ما ملكتموهن بالسبى فانه يحل لكم وطؤهن اذا استبرأتموهن ،
وعن أبى سعيد الخدرى قال : " أصبنا سبى أوطاس ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن
ولهن أزواج فسألنا النبى صلى الله عليه وسلم فنزلت " والمحصنات من النساء الا
ما ملكت أيمانكم " فاستحللنا فروجهن ، المحصنات من النساء يعنى العفائف حرام
عليكم حتى تملكوا عصمتهن بنكاح وشهود ومهور وولى واحدة أو أثنتين أو ثلاثا أو
أربعا ، " كتاب الله عليكم " هذا التحريم كتاب كتبه الله عليكم فالزموا
كتابه ولا تخرجوه عن حدوده والزموا شرعه وما فرضه ، " وأحل لكم ما وراء ذلكم
" ما عدا من ذكرن من المحارم هن لكم حلال ، " أن تبتغوا بأموالكم محصنين
غير مسافحين " أحل أن تحصلوا بأموالكم من الزوجات الى أربع أو السرارى ما
شئتم بالطريق الشرعى من غير طريق السفاح أى الحرام ، " فما استمتعتم به منهن
فأتوهن أجورهن فريضة " كما تستمتعون بهن فأتوهن مهورهن فى مقابلة ذلك كما قال
" ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئا " ،وقد استدل بعموم هذه
الآية علىنكاح المتعة ولا شك أنهكان مشروعا فى ابتداء الاسلام ثم نسخ بعد ذلك
والعمدة ما ثبت فى الصحيحين عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب قال "نهى رسول
اللهصلى الله عليهوسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر " ،
وفى صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة بن معبد الجهنى عن أبيه أنه غزا مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم يوم فتح مكة فقال : " يا أيها الناس أنى كنت أذنت لكم فى
الاستمتاع من النساء وأن الله قد حرم ذلك الى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن شىء
فليخل سبيله ، ولا تأخذوا مما أتيتموهن شيئا " ، " ولا جناح عليكم فيما
تراضيتم به من بعد الفريضة " التراضى أن يوفيها صداقها ثم يخيرها فى المقام
أوالفراق اذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل وهى منه بريئة وعليها أن تستبرىء ما
فى رحمها وليس بينهما ميراث فلا يرث واحد منهما صاحبه ، ولاجناح عليكم أيها الناس
فيما تراضيتم بهمن بعد الفريضة يعنى ان وضعت لك منه شيئا فهو لك سائغ ، " ان الله كان عليما حكيما " ذكر
هذين الوصفين بعدما شرع هذه المحرمات .
ومن لم يستطع منكم طولا أن
ينكح المحصنات المؤمنات فمن ماملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم
بايمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن باذن أهلهن وأتوهن أجورهن بالمعروف محصنات
غيرمسافحات ولا متخذات أخدان فاذا أحصن فان أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على ا لمحصنات
من العذاب ذلك لمن خشى العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم 25
" ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات
فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات " من ليس لديه سعة وقدرة أن ينكح
الحرائر العفائف يتزوج من الاماء المؤمنات اللاتى يملكهن المؤمنون ، " والله أعلم
بايمانكم بعضكم من بعض " الله هو العالم بحقائق الأمور وسرائرها وانما لكم
أيها الناس الظاهر من الأمور ، " فانكحوهن باذن أهلهن " دل على أن السيد
هو ولى أمته لاتزوج الا باذنه ، وكذلك هو ولى عبده ليس له أن يتزوج بغير اذنه ،
وجاء فى الحديث "لاتزوج المرأة المرأة ولا المرأة نفغسها فان الزانية هى التى
تزوج نفسها " ، " وأتوهن أجورهن
بالمعروف " وادفعوا مهورهن بالمعروف أى عن طيب نفس منكم ولا تبخسوا منه شيئا
استهانة بهن لكونهن اماء مملوكات ، " محصنات " عفائف عن الزنا
لايتعاطينه ، " غير مسافحات " وهن الزوانى اللاتى لايمنعن من أرادهن
بالفاحشة ، " ولا متخذات أخدان
" أى أخلاء جمع خليلة من غير الزوجة يعنى تزويجها ما دامت كذلك وليس بخليلة ،
" فاذا أحصن فان أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب "
المراد بالاحصان الاسلام فعن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : " فاذا أحصن "
قال : " أحصانها وعفافها " ،
والمراد هنا التزويج ، وعنمجاهد أنه قال احصان الأمة أن ينكحها الحر واحصان العبد
أن ينكح الحرة ، فعن أبن عباس قال قال رسول الله صلى الله عنه وسلم : " ليس
على أمة حد حتى تحصن يعنى تزوج فاذا أحصنت
بزوج فعليها نصف ما على المحصنات " ، وعن أبى هريرة قال سمعت رسول اللهصلى
الله عليه وسلم يقول : " اذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا
يثرب عليها ، ثم ان زنت الثانية فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ، ثم ان زنت الثالثة
فتبين زناها فليبعها ولو نحبل من شعر " ، وفى حديث أبى هريرة وزيد بن خالد أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة اذا زنت ولم تحصن ؟ قال : " انزنت
فحدوها ، ثم زنت فاجلدوها ، ثم بيعوها ولو
بضفير " ، قال أبن شهاب لاأدرى بعد الثالثة أو الرابعة ، والمراد من العذاب
الذى يمكن تبعيضه هو الجلد لاالرجم فى حال الاحصان لايقيم الحد عليه الا الامام
ولا يجوز لسيدها اقامة الحد عليها ، فاما قبل الاحصان فله ذلك ، والحد فى كلا
الموضعين نصف حد الحرة ن " ذلك لمن خشى العنت منكم " انما يباح نكاح
الاماء بالشروط المتقدمة لمن خاف على نفسه الوقوع فى الزنا وشق عليه الصبر عن
الجماع وعنت بسبب ذلك كله فله حينئذ أن يتزوج بالأمة وان ترك تزوجها وجاهد نفسه فى
الكف عن الزنا فهو خير له لأنه اذا تزوجها جاء أولاده أرقاء لسيدها الا أن يكون
الزوج غريبا فلا تكون أولاده منها أرقاء ولهذا قال " وان تصبروا خيرلكم والله
غفور رحيم "الصبر على عدم زواج الاماء وهو الأفضل، ومن هذه الآية الكريمة
استدل جمهور العلماء فى جواز نكاح الاماء على أنه لابد من عدم الطول لنكاح الحرائر
ومن خوف العنت لما فى نكاحهن من مفسدة رق ، فقالوا متى لم يكن الرجل مزوجا بحرة جز
له نكاح الأمة المؤمنة والكتابية أيضا سواء كان واجدا لطول حرة أم لا وسواء خاف
العنت أم لا ، وحجتهم فيما ذهبوا اليه قوله تعالى " والمحصنات من الذين أوتوا
الكتاب من قبلكم " أى العفائف وهو يعم الحرائر والاماء .
يريد الله ليبين لكم ويهديكم
سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم * والله يريد أن يتوب عليكم ويريد
الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما * يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان
ضعيف 26- 28
" يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم
ويتوب عليكم والله عليم حكيم " يخبر الله تعالى أنه يريد أن يبين لكم أيها
المؤمنون ما أحل لكم وحرم عليكم مما تقدم ذكره فى هذه السورة وغيرها ويرشدكم
بطرائق الذين من قبلكم الحميدة واتباع شرائعه التى يحبها ويرضاها ، " ويتوب
عليكم " يتوب عليكم من الأثم والمحارم ، " والله عليم حكيم " عليم
وحكيم فى شرعه وقدره وأفعاله وأقواله وقوله ، " والله يريد أن يتوب عليكم
ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما " الله يريد أن يخلص
المؤمنين من الاثم ويقبل توبتهم والسير فى طريق هديه وشرعه بينما يريد أتباع
الشياطين من اليهود والنصارى والزناة أن تميلوا عن الحق الى الباطل ميلا عظيما ،
" يريدالله أن يخفف عنكم " يخفف فى شرائعه وأوامره ونواهيه وما يقدره
لكم ولهذا أباح الاماء بشروط ، " وخلق الانسان ضعيفا "الانسان نسبه
التخفيف لضعفه فى نفسه وضعف عزمه وهمته وقيل وخلق ضعيفا فى أمر النساء ن وفال وكيع
يذهب عقله عندهن ، وقال موسى الكليم عليه السلام لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة
الاسراء حين مر عليه راجعا من عند سدرة المنتهى " ملذا فرض عليكم " فقال
: " أمرنى بخمسين صلاة فى كل يوم وليلة " فقال له : " ارجع الى ربك
فاسأله التخفيف فان أمتك لاتطيق ذلك فانى قد بلوت الناس على ما هو أقل من ذلك
فعجزوا وان أمتك أضعف أسماعا وأبصارا وقلوبا " فرجع فوضع عشرا ثم رجع الى
موسى فلم يزل كذلك حتى بقيت خمسا .
ياأيها الذين آمنوا لاتأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم ان الله
كان بكم رحيما * ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله
يسيرا *ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما 29 -
31
" يا أيها الذين آمنوا لاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " ينهى الله تعالى عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضا بالباطل أى بأنواع المكاسب الغير شرعية كأنواع الربا والقمار وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل وان ظهرت فى غالب الحكم الشرعى مما يعلم الله أن متعاطيها انما يريد الحيلة على الربا وهى آية محكمة ما نسخت ولاتنسخ الى يوم القيامة ، " الا أن تكون تجارة عن تراض منك " لاتتعاطوا الأسباب المحرمة فى كتاب الأموال لكن المتاجر المشروعة التى تكون عن تراض من البائع والمشترى فافعلوها وتسببوا بها فى تحصيل الأموال ، عن ميمون بن مهران قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" البيع عن تراض ، والخيار بعد الصفقة ، ولايحل لمسلم أن يضر مسلما " ، " ولا تقتلوا أنفسكم " أى بارتكاب محارم الله وتعاطى معاصيه وأكل أموالم بينكم بالباطل ، " ان الله كان بكم رحيما " رحيما بكم فيما أمركم به ونهاكم عنه ، وعن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قتل نفسه بحديدة فى يده يجأ بها بطنه يوم القيامة فى نار جهنم مخلدا فيها أبدا ، ومن قتل نفسه بسم تردى به فسمه فى يده يتحساه فى نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا " ، " وعن ثابت بن الضحاك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قتل نفسه بشىء عذب به يوم القيامة " ، " ان الله كان بكم رحيما " رحمة الله واسعة لكل العباد ،" ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا" ومن يتعاطى ما نهاه الله عنه متعديا فيه ظالما فى تعاطيه عالما بتحريمه متجاسرا عليه وعلى انتهاكه "فسوف نصليه نارا " وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد فليحذر منه كل عاقل لبيب ممن ألقى السمع وهو شهيد، " ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئلتكم وندخلكم مدخا كريما " اذا اجتنبتم كبائر الآثام التى نهيتم عنها كفرنا عنكم صغائر الذنوب وادخلناكم الجنة ولهذا قال "وندخلكم مدخلا كريم " المدخل الكريم هو الجنة ونعيمها المقيم ، وعن أبن عمر قال صعد النبى صلى الله عليه سولم المنبر فقال : " لا أقسم لا أقسم ثم نزل فقال : " أبشروا أبشروا من صلى الصلوات الخمس واجتنب الكبائر السبع نودى من أبواب الجنة أدخل " ، " وعن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنبوا السبع الموبقات " قيل يارسول الله وما هن ؟ " قال : " الشرك بالله ، وقتل النفس التى حرم الله الا بالحق ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولى يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " ، والنص على هذه السبع بأنهن كبائر لاينفى ما عداهن ، وعن أنس قال : " ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال " : " الشرك بالله ةقتل النفس ، وعقوق الوالدين - وقال ك" ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ " قلنا : " بلى" قال : " الاشراك بالله وقول الزور - أو شهادة الزور " ، وفى الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : " يارسول الله أى الذنب أعظم وفى رواية أكبر ؟" قال " أن تجعل لله ندا وهوخلقك " قلت : " ثم أى ؟ قال : " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك " قلت : " ثم أى ؟" قال :" أن تزانى خليلة جارك " ، ثم قرأ : " والذين لايدعون مع الله ألها آخر " الى قوله " الا من تاب " ، والحديث عن الكبائر يحتاج الى موضوع مستقل ، وعن أبن عباس فى قوله " ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " قال الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب " ، اختلف الصحابة رضى الله عنهم فيمن بعضهم فى الكبائر وفى الفرق بينها وبين الصغائر ، ولبعض الأصحاب فى تفسير الكبيرة وجوه أحدها أنها المعصية الموجبة للحد ، وذكر القاضى أبو سعيد الهروى أن الكبيرة كل فعل نص الكتاب على تحريمه وكل معصية توجب فى جنسها حدا من قتل وغيره وترك كل فريضة مأمور بها على الفور والكذب فى الشهادة وفى الرواية واليمين .
ولاتتمنوا ما فضل الله به
بعضكم على بعض للرجال نصيب مما أكتسبوا وللنساء نصيب مما أكتسبن واسئلوا الله من
فضله ان الله كان بكل شىء عليما 32
" ولاتتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض "
عن مجاهد قال : " قالت أم سلمة يارسول الله تغزو الرجال ولا نغزو ولنا نصف
الميراث فأنزلت الآية " ، لاتتمنوا فى الأمور الدنيوية وكذا الدينية وهذا نهى
عن تمنى ما لفلان وفى تمنى النساء أن يكن رجالا فيغزون ، " للرجال نصيب مما
أكتسبوا وللنساء نصيب مما أكتسبن " كل اه جزاء على عمله بحسبه انخيرا فخير
وان شرا فشر وقيل المراد فى الميراث كل يرث بحسبه ، " واسئلوا الله منفضله
" لاتتمونا ما فضلنا به بعضكم على بعض فان هذا أمر محتوم والتمنى لايجدى شيئا
ولكن سلونى من فضلى أعطكم فانى كريم وهاب ،وعن عبد الله بن مسعود قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال " سلوا الله من فضله فان الله يحب أن يسأل ، وان
أفضل العبادة انتظار الفرج " ، " ان الله بكل شىء عليما " هو عليم
بمن يستحق الدنيا فيعطيه منها وبمن يستحق الفقر فيفقره وعليم بمن يستحق الآخرة
فيقيضه لأعمالها وبمن يستحق الخذلان فيخذله عن تعاطى الخير وأسبابه .
ولكل جعلنا موالى مما ترك
الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فأتوهم نصيبهم ان الله كان على كل شىء
شهيدا 33
" ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان والأقربون "أى ورثة - لكل جعلنا ورثة مما ترك الوالدان والأقربون "والذين عقدت أيمانكم فاتوهم نصيبهم " قال أبن جرير العرب تسمى أبن العم مولى ويعنى بقوله مما ترك الوالدان والأقربون من تركه والديه وأقربيه من الميراث والذين تحالفتم باليمان المؤكدة أنتم وهم فأتوهم نصيبهم من الميراث كما وعدتموهم فى الأيمان المغلظة ان الله شاهد بينكم فى تلك العهود والمعاقدات وكان هذا فى ابتداء الاسلام ثمنسخ بعد ذلك وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا ولاينسوا بعد نزول هذه الآية معاقدة وعن أبن عباس أن المهاجرين لما قدموا المدينة ثرث المهاجرى الأنصارى دون ذوى رحمه للاخوة التى آخى النبى صلى الله عليه وسلم بينهم فلما نزلت الآية نسخت ذلك ، وقال كان الرجل قبل الاسلام يعاقد الرجل ويقول وترثنى وأرثك وكان الأحياء يتحالفون ، عن أبن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لاحلف فى الاسلام وكل حلف كان فى الجاهلية فلم يزده الاسلام الا شدة وما يسرنى أن لى حمر النعم وانى نقضت الحلف الذىكان فى دار الندوة " ، وعن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " شهدت حلف المطيبين وأنا غلام مع عمومتى فما أحب أن لى حمر النعم وأنا أنكثه " ، وعن قيس بن عاصم أنه سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن الحلف فقال : " ما كان من حلف فى الجاهلية فتمسكوا به ولا حلف فى الاسلام " ، كانوا فى ابتداء الاسلام يتوارثون بالحلف ثم نسخ وبفى تأثير الحلف بعد ذلك وان كانوا قد أمروا أن يوفوا بالعهود والعقود والحلف الذى كانوا قد تعاقدوا قبل ذلك ، " والذين عقدت أيمانكم فأتوهم نصيبهم " أى قبل نزول الآية فآتوهم نصيبهم من الميراث فأما حلف عقد بعد ذلك فلا تأثير له وقد نسخت الايةالحلف فى المستقبل ، وهذه الآية منسوخة بقوله " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين الا أن تفعلوا الى أوليائكم معروفا " أولوا الأرحام أى الأقرباء أولى بالميراث فى شره الله من المؤمنين والمهاجرين وفعل المعروف أن تواصوا لهم بوصية فهو لهمجائزة من ثلث المال وهذا هو المعروف ، قال سعيد بن جبير آتوهم نصيبهم من الميراث وعن أبن المسيب أن هذه الآية نزلت فى الذين كانوا يتبنون رجالا غير أبنائهم يورثونهم فأنزل الله فيهم فجعل لهم نصيبا فى الوصية ورد الميراث الى الموالى فى ذى الرحم والعصبية وأبى الله أن يكون للمدعين ميراثا ممن ادعاهم وتبناهم ولكن جعل لهم نصيبا من الوصية وقد نسخت الآية " ان الله كان على كل شىء شهيدا " أى أن الله يشهد على ما سوف تعملون من الوفاء بما أمر به .
الرجال قوامون على النساء بما
فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما
حفظ الله واللاتى تخافون نشوذهن فعظوهن واهجروهن فى المضاجع واضربوهن فان أطعنكم
فلا تبغوا عليهن سبيلا ان الله كان عليا كبيرا 34
" الرجال
قوامون على النساء " يعنى أمراء عليهن أى تطيعه فيما أمرها الله به من طاعته
وطاعته أن تكون محسنة لأهله حافظة لماله ، " بما فضل الله بعضهم على بعض
" الرجل أعطاه الله العقل وشهادة الرجل فى الأمور المالية والياتية تعدل
شهادة أمرأتين وطبيعة المرأة نقص الدين من حيث أنها لاتستطيع اتمام الصيام والصلاة
وغير ذلك لما يصيبها منةدم حيض ونفغاس وغيره فتمتنع عن العبادة حتى تطهر ، وكذلك
منحها الله العاطفة التى تغلب عليها وهذه طبيعتها ومنح الرجل قوة عقلية وجسدية
أكثر من المرأة فكانت له القوامة لقيامه بأعباء الحياة من انفاق وغيره ، فالقوامة
وهى أفضلية كمال الدين والعقل جعلت النبوة مختصة بالرجال وكل سخر لم خلق له ويسر
له ، فالرجل لايمكن أن يقوم بتربية الأطفال من حمل ورضاعة وتربية وهذه مهمة المرأة
وغير مكلفة بالانفاق وكسب الرزق والسعى على الأسرة ولذلك قال " بما فضل الله
بعضهم على بعض " والآية ىدقيقة التعبير حيق قالت بعضهم على بعض بحيث تشير الى
أن كل بصفاته مكمل للآخر لتسير الحياة ، " وبما أنفقوا من أموالهم "
الانفاق مكلف به الرجل من مهور ونفقات على أهله وكلف أوجبها الله عليه لهن فى
كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهذاحسب شرع الله ، فضل الرجل عليها بما كلف
به من واجبات ، وكمالا لما أراده الله قال "فاصالحات " أىمن النساء
"قانتات " قال أبن عباس يعنى مطيعات لأزواجهن وكذلك مطيعات لله لأن
القنوت هو الطاعة والاذعان ، فالقنوت يكون لله ثم للزوج حسن العشرة والقيام بما
فرض الله عليه فالحياة كل متكامل مثل السفينة لابد أن يكون لها ربان يسير بها ،
" حافظات للغيب " تحفظ زوجها فى غيبته فى نفسها وماله وقوله
"بماحفظ الله " أى المحفوظ من حفظه اله ، وعن أبى هررة قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : " خير النساء امرأة اذا نظرت اليها سرتك ، واذا أمرتها
أطاعتك ، واذا غبت ىعنها حفظتك فى نفسها ومالك " ثم قرأ رسول الله صلى الله
عليه وسلم هذه الأية " ، وعن عبد الرحمن بن عوف قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : " اذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها ، وحفظت فرجها ، وأطاعت
زوجها قيل لها أدخلى الجنة من أى الأبواب شئت " " ,اللاتى تخافون نشوزهن
" النساء اللاتى تتخوفون أن ينشزن على أزواجهن والنشوز هو الارتفاع فالمرأة
الناشزهى المرتفعة على زوجها التاركة لأمره المعرضة عنه المبغضة له ، "
فعظوهن " متى ظهر للرجل امارات النشوز فليعظها وليخوفها عقاب الله فى عصيانه
فان الله قد أمجب حق الزوج عليها وطاعته وحرم عليها معصيته لما له عليها من الفضل
والافضال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لوكنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد
لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها " ، وعن أبى هريرة قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اذا دعا الرجل أمرأته الى فراشه فأبت عليه
لعنتها الملائكة حتى تصبح " رواه مسلم ، " واهجروهن فى المضاجع "
قال أبن عباس الهجر هو أن لايجامعها ويضاجعها على فراشها ويوليه ظهره ولايكلمها مع
ذلك ولايحدثها ، وقال أبن عباس يعظها فان هى قبلت والا هجرها فى المضجع ولا يكلمها
من غير أن يرد نكاحها ، وعن معاوية بن حميدة القشيرى أنه قال : " يا رسول
الله ماحق امرأة أحدنا عليه " قال : " أن تطعمها اذا طعمت وتكسوها اذا
أكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر الا فى البيت " ، " واضربوهن
" اذا لم يرتدعن بالموعظة ولا بالهجران فلكم أن تضربوهن ضربا غير مبرح وهو أن
لايكسر فيها عضوا ولايؤثر فيها شيئا فى صحيح مسلم عن جابر عن النبى صلى الله عليه
وسلم أنه قال فى حجة الوداع : " واتقوا الله فى النساء فانهن عندكم عوان ولكم
عليهن أن لايوطئن فراشكم أحدا تكرهونه فان فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن رزقهن
وكسوتهن بالمعروف " ، " فان أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا " اذا
أطاعت المرأة زوجها فىجميع ما يريده منها مما أباحه الله له منها فلا سبيل له
عليها بعد ذلك وليس له ضربها ولاهجرانها ، " ان الله كان عليا كبيرا "
تهديد للرجال اذا بغوا على النساء من غير سبب فان الله العلى الكبير وليهن وهو
منتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن .
وان
خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ان يريدا اصلاحا يوفق الله
بينهما ان الله كان عليما خبيرا 35
" وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها أن يريدا اصلاحا يوفقق الله بينهما ان الله كان عليما خبيرا " الحال الأول وهو النفور والنشوز منالزوجة ، وهذا هو الحال الثانى وهو اذا كان النفور والنشوز من الزوجين اذا وقع الشقاق بين الزوجين أسكنهما الحاكم الى جنب ثقة وفى وقتنا القضاء ينظر فى أمرهما ويمنع الظالم منهما من الظلم ، فان تفاقم أمرهما وطالت خصومتهما بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة وثقة من قوم الرجل أو يتدخل ذوو الرأى كما هو الحال فى زماننا ليجتمعا فينظرا فى أمرهما ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانه ويمكن أن يتدخل أهل الطرفين للصلح أو التوفيق وتشوف الشارع الى التوفيق ولهذا قال " ان يريدا اصلاحا يوفق الله بينهما " ، وعن أبن عباس أمر الله عز وجل أن يبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل ورجلا صالحا مثله من أهل المرأة فينظران ايهما المسىء فان كان الرجل هو المسىء حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة وان كانت المرأة هى المسيئة قصروها على زوجها ومنعوها النفقة فان اجتمع رأيهما على أن يفرقاأو يجمعا فأمرهما جائز ، فان رأيا أن يجمعا فرضى أحد الزوجين وكره الآخر ثم مات أحدهما فان الذى رضى يرث الذى لم يرض ولايرث الكاره الراضى ، "ان يريدا اصلاحا يوفق الله بينهما " ولم يذكر التفريق وأجمع العلماء على أن الحكمين اذا اختلف قولهما فلا عبرة بقول الآخر وأجمعوا على أن قولهما نافذ فى الجمع وان لم يوكلهما الزوجان واختلفوا هل ينفذ قولهما فى التفرقة ثم حكى عن الجمهور أنه ينفذ قولهما فيها أسضا من غير توكيل ، " ان الله كان عليما خبيرا " أى عليم وخبير باحوالكم ويشرع ما يصلح أحوالكم .
واعبدوا الله ولاتشركوا به
شيئا وبالوالدين احسانا وبذى القربى واليتامى والمساكين والجار ذى القربى
والجارالجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم ان الله لايحب من كان
مختالا فخورا 36
" واعبدوا الله ولاتشركوا به لاشيئا " يأمر الله تعالى بعبادته وحده لاشريك له فانه هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه فى جميع الآنات والحالات فهو المستحق أن يوحدوه ولايشركوا به شيئا كما قال النبى صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل : " أتدرى ما حق الله على العباد ؟ " قال : " الله ورسوله أعلم " قال : " أن يعبدوه ولايشركوا به شيئا ، ثم أتدرى ما حق العباد على الله اذا فعلوا ذلك؟ أن لايعذبهم " ، " وبالوالدين احسانا " ثم أوصى الله بالاحسان الى الوالدين وكثيرا ما يقرن الله سبحلنه بين عبادته والاحسان الى الوالدين كقوله " ان اشكر لى ولوالديك " لقمان ،وقال فىسورة الاسراء " وقضى ربك أن لاتعبدوا الا اياه وبالوالدين احسانا " ، " وبذى القربى " ثم عطف على الاحسان للوالدين الاحسان الى القربات من الرجال والنساء ، " واليتامى" الذين فقدوا من يقوم بمصالحهم ومن ينفق عليهم فأمر الله بالاحسان اليهم والحنو عليهم ، " والمساكين " وهم المحاويج من ذوى الحاجات الذين لايجدون من يقوم بكافيتهم فأمر اله سبحانه بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم وتزول به ضرورتهم ، وكما جاء فى الحديث "الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذى الرحم صدقة وصلة " ، " والجار ذى القربى والجار الجنب " عن أبن عباس أن الجار ذى القربى الذى بينك وبينه قرابة " والجار الجنب الذى ليس بينك وبينه قرابة ، وعن نوف البكالى أن الجار ذى القربى هو الجار المسلم والجار الجنب اليهودى والنصرانى ، وقال مجاهد الجار الجنب الرفيق فى السفر ، وأحاديث الوصاية بالجار كثيرة فعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مازال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره " ، وعن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الجيران ثلاثة : جار له حق واحد فجار مشرك لارحم له ، لهحق الجوار ، وأما الجار الذى له حقان فجار مسلم له حق الاسلام وحق الجوار ، وأما الذى له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الجوار وحق الاسلام وحق الرحم " ، " والصاحب بالجنب " قال أبن عباس هو الرفيق فى السفر وكذلك قال الضيف وقال زيد بن أسلم هو جليسك فى الحضر فى الحضر ورفيقك فى السفر ،" وما ملكت ايمانكم"وصية بالأرقاء لأن الرقيق ضعيف الحيلة أسير أيدى الناس ، وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يوصى أمته فى مرض الموت يقول : " الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم " فجعل يرددها حتى ما يفيض بها لسانه ، وعن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : "للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل الا ما يطيق " ، وعنأبى ذر عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " هم أخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فان كلفتموهم فاعينوهم " ، " ان الله لايحب من كان مختالا فخورا " ان الله لايحب من كان متكبرا فخورا بعد ما أعطى وهو لايشكرالله تعالى يفخر على الناس مما أعطاه الله من نعمة وهو قليل الشكر لله على ذلك .
الذين يبخلون ويأمرون الناس
بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا * والذين
ينفقون أموالهم رئاء الناس ولايؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له
قرينا فساء قرينا * وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم
الله وكان الله بهم عليما 37 - 39
" الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل
" الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به من بر الوالدين
والاحسان الى الاقارب واليتامى والمسلكين والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب
بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانهم من الرقاء ولا يدفعون حق الله فيها ويأمرون
الناس بالبخل ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اياكم والشح فانه أهلك
من كان قبلكم أمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا " ، "
ويكتمون ما أتاهم الله من فضله " البخيل جحود لنعمة الله ولاتظهر عليه
ولاتبين لافى مأكله ولا فى ملبسه ولا فى اعطائه وبذله ، توعدهم الله بقوله "
واعتدنا للكافرين عذابا مهينا " الكفر هو الستر والتغطية والبخيل يستر نعمة
الله عليه وكتمها ويجحدها فهو كافر لنعمة الله عليه والعذاب المهين هو المذل ، وفى
الحديث "ان الله اذا أنعم نعمة على عبد أحب أن يظهر أثرها عليه " وكما
قال تعالى " وأما بنعمة ربك فحدث " ، " الذين ينفقون أموالهم رئاء
الناس " كما ذكر الله الممسكين المذمومين وهم البخلاء ذكر الباذلين المرائين
الذين يقصدون باعطائهم السمعة وأن يمدحوا بالكرم ولايريدون بذلك وجه الله وفى
الحديث " الثلاثة الذين هم أول من تسجر بهم النار وهم العالم والغازى والمنفق
المراؤون بأعمالهم ، يقول صاحب المال "ما تركت من شىء تحب أن ينفق فيه الا
أنفقت فى سبيلك " فيقول الله "كذبت انما أردت أن يقال جواد فقد قيل
" ولهذا قال تعالى " ولايؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " أى انما
حملهم صنيعهم هذا القبيح وعدولهم عن فعل الطاعة عدم الطاعة لله والايمان به وبأن
هناك حساب على عملهم فى الآخرة بالبخل وعدم الانفاق " الشيطان سول لهم وأملى
لهم وقارنهم وحسن لهم القبائح ولهذا قال " ومن يكن الشيطان له قرينا فساء
قرينا " ، وفى حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن عبد الله بن
جدعان هل ينفعه انفاقه واعتاقه ؟ فقال : "لا : انه لم يقل يوما من الدهر رب
أغفر لى خطيئتى يوم الدين " ، " وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم
الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله " وأى شىء يضرهم لو آمنوا بالله وسلكوا الطريق
الحميدة وعدلوا عن الرياء الى الاخلاص والايمان بالله رجاء موعوده فى الدار الآخرة
لمن يحسن عمله وأنفقوا مما رزقهم الله فى الوجوه التى يحبها الله ويرضاها ، "
وكان الله بهم عليما " الله عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة وعليم بمن يستحق
الخذلان والطرد عن جنابه الأعظم الذى من طرد عن بابه فقد خاب وخسر فى الدنيا
والآخرة .
ان الله لايظلم مثقال ذرة وان
تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما * فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك
على هؤلاء شهيدا * يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لوتسوى بهم الأرض ولا
يكتمون الله حديث 40 - 42
" ان الله لايظلم مثقال ذرة وان تك حسنة
يضاعفها " يقول تعالى انه لايظلم أحدا من خلقه يوم القيامة مثقال ذرة ولا
مثقال حبة خردل بل يوفيها له ويضاعفها له ان كانت حسنة وقال تعالى " فمن يعمل
مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة من شر يره " ، وعن أنس أن رسول الله
صلى الله عليهوسلم قال : " ان الله لايظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق فى
الدنيا ويدجزى بها فى الآخرة واما الكافر فيطعمها فى الدنيا فاذا كان يوم القيامة
لم يكن له حسنة " ، " ويؤت من لدنه أجرا عظيما " الأجر العظيم الذى
يؤتيه الله هو الجنة ونعيمها العظيم المقيم وقال تعالى " من ذا الذى يقرض
الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة " ، " فكيف اذا جثنا من كل أمة
بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " يخبر الله تعالى عن هول يوم القيامة وشدة
أمره وشأنه فكيف يكون الأمر والحال يوم القيامة حين يجىء من كل أمة بشهيد يعنى
الأنبياء عليهم السلام ويجىء الرسول صلى الله عليه وسلم الشهيد على المسلمين وعلى
أمته كما قال تعالى " ويوم نبعث فى كل أمة شهيد عليهم من أنفسهم " ، وعن
عبد الله بن مسعود قال قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرأ على
" فقلت : " يارسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل " قال : " نعم
انى أحب أن أسمعه من غيرى " ، فقرأت سورة النساء حتى أتيت الى هذه الآية
" فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " فقال :
" حسبك الآن " فاذا عيناه تذرفان " ، وعن يونس بن محمد بن فضالة
الانصارى عن أبيه قال وكان أبى ممن صحب النبى صلى الله عليه وسلم أن النبى صلى
الله عليه وسلم أتاهم فى بنى ظفر فجلس على الصخرة التى فى بنى ظفر ومعه أبن مسعود
ومعاذ بن جبل وناس من الصحابة فأمر النبى صلى الله عليه وسلم قارئا فقرأ حتى أتى
على الآية " فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا "
فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ضرب بلحيته وجنبيه فقال : " يارب هذا
شهدت على من أنا بين أظهرهم فكيف بمن لم أ ره " ، " يومئذ يود الذين
كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولايكتمون الله حديثا " فى هذا المشهد
العظيم فى الآخرة يتمنى الذين كفروا وعصوا الرسول بعدم اتباعه أو الذين ارتكبوا
المعاصى وخالفوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لوانشقت الأرض وبلعتهم بما
يرون من أهوال الموقف وما يحل بهم من الخزى والفضيحة والتوبيخ كقوله " يوم
ينظر المرء ما قدمت يداه " ، " ولايكتمون الله حديثا" عندما يرى
الكافرون يوم القيامة أن الله لايغفر الا لأهل الاسلام ولايتعاظمه ذنب أن يغفره
ولايغفر شركا قال المشركون "والله ربنا ما كنا مشركين " فيختم الله على
أفواههم ويستنطق جوارحهم وتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين فعند ذلك يتمنون
لو أن الأرض سويت بهم "ولايكتمون الله حديثا" .
يا أيها الذين آمنوا لاتقربوا
الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولاجنبا الا عابرى سبيل حتى تغتسلوا وان كنتم
مرضى أو على سفر أو جاء أحدكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا
صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ان الله كان عفوا غفورا 43
" يا أيها الذين آمنوا لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون " ينهى الله عباده المؤمنين عن فعل الصلاة فى حال السكر الذى لايدرى معه المصلى ما يقول وقد كان هذا قبل تحريم الخمر فكانوا لايشربون الخمر فى أوقات الصلاة فكان منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا قامت الصلاة ينادى أن لايقربن الصلاة سكران ، وعن على بن أبى طالب قال :" صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ " قل ي أيها الكفرون " فخلط فيها فنزلت الآية " حتى تعلموا ما تقولون " ، حتى فى سكر النوم الذى لايساعد على الخشوع فى الصلاة منهى عنه فعن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اذا نعس أحدكم وهو يصلى فلينصرف ولينم حتى يعلم ما يقول " ، " ولا جنبا الا عابرى سبيل حتى تغتسلوا " ينهى الله عن قربان المساجد للجنب الا أن يكون مجتازا من باب الى باب من غير مكث ويسرى الأمر عل الحائض والنفساء وبعضهم يحرم مرورهما لاحتمال التلوث ، ومنهم من قال ان أمنت كل واحدة منهما التلويث فى حال المرور جاز لهما المرور والا فلا ، وعلى رضى الله عنه قال " ولا جنبا الا عابرى سبيل " لايقرب الصلاة الا أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة فلا يجد الماء فيصلى حين يجده ، فتأويل الآية يا أيها الذين آمنوا لاتقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولاتقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا الا عابرى سبيل والعابر السبيل المجتاز مرا أوقطعا وكأنه تعالى نهى عن تعاطى الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها وعن الدخول الى محلها على هيئة ناقصة وهى الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضا ، " حتى تغتسلوا " دليل لما ذهب اليه الأئمة أبو حنيفة ومالك والشافعى أنه يحرم على الجنب المكث فى المسجد حتى يغتسل أو يتيمم ان عدم الماء أو لم يقدر على استعماله بطريقه ، " وان كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منك من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءا فتيمموا صعيدا طيبا" المرض المبيح للتيمم هو الذى يخاف معه من استعمال الماء فوات عضو أو شينه أو تطويل البرء ، ومن العلماء من جوز التيمم بمجرد المرض لعموم الآية ، وعن مجاهد "وان كنتم مرضى " قال نزلت فى رجل من الانصار كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ولم يكن لهخادم فيناوله فأتى النبى صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك فأنزل الله الآية ، " أوجاء أحد منكم من الغائط "الغائط هو المكان المطمئن من الأرض كنى بذك عن التغوط وهوالحدث الأصغر ، " أو لامستم النساء " عن أبن عباس قال الجماع ، ان اللمس والمس والمباشرة هى الجماع والله يكنى بما شاء ، عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم ثم لايفطرولايحدث وضوءا ، " فان لم تجدوا ماءا فتيمموا صعيد طيبا " التيمم فى اللغة هو القصد تقول العرب تيممك لله يحفظه أى قصدك ، والصعيد قيل هو كل ما صعد على وجه الأرض فيدخل فيه التراب والرمل والشجر والحجر والنبات وهوقولألم نالك ، وقيل ما كان من جنس التراب كالرمل والزرنيخ والنورة ، وهذا مذهب أبى حنيفة ،وقيل هو التراب فقط وهو قول الشافعى وأحمد بنحنبل كم فىقوله "فتصبح صعيدا زلقا " أى تراب أملس ، وعن حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف المىئكة ، وجعلت لنا الآرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا اذا لم نجد الماء " وقال أبن عباس " أطيب الصعيد تراب الحرث " ، " فامسحوا بوجوهكم وأيديكم " يكفى مسح الوجم واليدين فقط بالاجماع ، واختلف فىكيفية التيمم فى مذهب الشافعى يمسح الوجه واليدين الى المرفقين بضربتين ، وعن أبن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين الى المرفقين ، وعن عمار أن رشول الله صلى الله عليه وسلم قال فى التيمم ضربة للوجه والكفين ، " ان الله كان عفوا غفورا " ومن عفوه عنكم وغفرانه لكم ان شرع لكم التيمم وأباح لكم فعل الصلاة به اذا فقدتم الماء توسعة عليكم ورخصة لكم ، عن أبن عباس عن عمار بن ياسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرس بذات الجيش ومعه زوجته عائشة فانقطع عقد لها من جزعظفار فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر وليس مع الناس ماء فأنزل الله على رسوله رخصة التطهير بالصعيد الطيب فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربوا بأيديهم الى الأرض ثم رفعوا أيديهم ولم ينفضوا من التراب شيئا فمسحوا بها وجوههم وأيديهم الى المناكب ومن بطون أيديهم الى الآباط .
ألم تر الى الذين أوتوا تصيبا
من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل * والله أعلم بأعدائكم وكفى
بالله وليا وكفى بالله نصيرا * من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون
سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم
فلا يؤمنون الا قليلا 44 - 46
" ألم تر الى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل " يخبر الله تعالى عن اليهود أنهم يشترون الضلالة بالهدى ويعرضون عما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ويتركون ما بأيديهم من العلم عن الأنبياء الأولين فى صفة محمد صلى الله عليه وسلم ليشتروا به ثمنا قليلا من حطام الدنيا ويودون لو تكفرون بما أنزل عليكم أيها المؤمنون وتتركون ما أنتم عليه من الهدى والعلم النافع ، " والله أعلم بأعدائكم " والله أعلم بهم ويحذركم منهم ، " وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا " كفى بالله وليا لمن لجأ اليه ونصيرا لمن اتنصره ، " من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه " من الذين هادوا يتأولون الكلم على غير تأويله ويفسرونه بغير مراد الله عز وجل قصدا منهم وافتراء ، " ويقولون سمعنا وعصينا " أى سمعنا ما قلته يا محمد ولا نطيعك فيه وهذا أبلغ فى كفرهم وعنادهم أنهم يتولون عن كتاب الله بعدما عقلوه وهم يعلمون ما عليهم فى ذلك من الأثم والعقوبة ،" واسمع غير مسمع " اسمع ما نقوله لاسمعت استهزاء منهم واستهتار ، " وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا فى الدين " يوهمون أنهم يقولون راعنا سمعك ولكن كلمة "راعنا" بلغتهم فيها سب وتمنى هلاك السامع من الرعونة بسبهم النبى صلى الله عليه وسلم وكما سبق وحذر منه القرآن فى سورة البقرة " ياأيها الذين آمنوا لاتقولوا راعنا وقولوا انظرنا " ، ونبه الله وأخبر عن هؤلاء اليهود الذين يريدون بكلامهم خلاف ما يظهرون ليا يألسنتهم وطعنا فى الدين بسبهم النبى صلى الله عليه وسلم بلغتهم ، وصحح الله سبحانه ذلك بقوله " ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرل لهم وأقوم " أى لو أطاعوا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أنزل اليه وبدلوا لغتهم فقالوا واسمع وانظرنا بدلا من قولهم " واسمع غير مسمع وراعنا " ويبتعدون عن لى ألسنتهم لو فعلوا ذلك "لكان خيرا لهم وأقوم " " ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون الا قليلا " نتيجة كفرهم قلوبهم مطرودة من الله عن الخير مبعدة منه فلا يدخلها من الايمان شىء نافع لهم الا القليل منهم الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم وقد تقدم الحديث عنهم .
يا أيها الذين أوتوا الكتاب
آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو
نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمرا مفعولا
* ان الله لايغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد
أفترى اثما عظيما 47 - 48
" ياأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما أنزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها "يأمر الله تعالى أهل الكتاب بالايمان بما نزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب العظيم الذى فيه تصديق الأخبار التى بأيديهم من البشارات ومتهدد لهم ان لم يفعلوا بقوله " من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها " نرجعها كفارا ونردهم قردة ، وعن أبن عباس أن طمسها أن تعمى ونجعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى ونجعل لأحدهم عينين فى قفاه كما جعل منهم القردة كما فى أصحاب السبت "فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين "، مثل ضربة الله فى تقهقرهم عن الحق والرجوع فيه ينكس الله خلقهم كما ينكسون الحق وينصرفون عنه ورجوعهم عن المحجة البيضاء الى سبيل الضلالة يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم ، هذا مثل سوء ضربه الله لهم فى ضلالهم ومنعهم الهدى ، وذكر أنكعب الأحبار أيام عمر بن الخطاب أقبل من اليمن يريد يت المقدس فمر على المدينة فخرج اليه عمر فقال يا كعب أسلم فقال ألبستم تقولون فى كتابكم " مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها مثل الحمار يحمل أسفارا " وأنا قد حملت التوراة فتركه عمر ثم خرج ، وفى رواية أن أبو مسلم الجليلى معلم كعب كان يلومه فى ابطائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثه اليه فى الرواية الأولى انتهى الى حمص فسمع رجلا من أهلها وهو يقول الآية ، وفى الثانية أنه ركب حتى أتى المدينة فاذا تال يقرأ القرآن ويتلو الآية فأسلم ثم رجع الى ادأهله فى اليمن ثمجاء بهم مسلمين ، وفى الروايتين أنه أسلم عند سماع الآية ، " أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت " الذين أعتدوا فى سبتهم بالحيلة على الاصطياد كما ذكر فى سورة البقرة قد مسخوا قردة وخنازير ، " وكان أمر الله مفعولا " اذ أمرالله بأمر فانه لايخالف ولايمانع ، " ان الله لايغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " يخبر تعالى أنه لايغفر لعبد لقيه وهومشرك به ويغفر من النوب لمن يشاء من عباده فهو أخبر وأعلم بهم وبنياتهم ، وعن عائشة رضى الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الدواوين عند الله ثلاثة : ديوان لايعبأ الله به شيئا ، وديوان لايترك الله منه شيئا ، وديوان لايغفره الله ، فأما الديوان الذى لايغفره الله فالشرك بالله ، قال عز وجل " ان الله لايغفرأن يشرك به " وقال " انه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة " ، وأما الديوان الذى لايعبأ الله به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله من صوم يوم تركه أو صلاة فان الله يغفر ذلك ويتجاوز ان شاء ، وأما اليوات الذى لايترك الله منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا القصاص لامحلة " ، وعن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كلذنب عسى الله أن يغفره الا الرجل يموت كافرا ، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا " ، وعن أبن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله عز وجل " من علم أنى ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالى ما لم يشرك بى شيئا ، وعن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أخبركم بأكبر الكبائر الاشراك بالله ثم قرأ " ومن يشرك بالله فقد أفترى اثما عظيما " ، وعقوق الوالدين ثم قرأ " أن اشكر لى ولوالديك الى المصير" .
ألم تر الى الذين يزكون أنفسهم
بل الله يزكى من يشاء ولا يظلمون فتيلا * أنظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به
اثما مبينا * ألم تر الى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت
ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا * أولئك الذين لعنهم الله
ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا 49 - 52
" ألم تر الى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكى من يشاء ولا يظلمون فتيلا " نزلت ألاية فى اليهود والنصارى حين قالوا "نحن أبناء الله وأحباؤه " وفى قولهم " لن يدخل الجنة الا من كان هودا أونصارى " ، وعن أبن عباس كان اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم ، ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لاخطايا لهم ولا ذنوب وكذبوا قال الله أنى لا أطهر ذا ذنب بآخر لاذنب له وأنزل الله الآية ، وقال الضحاك قالوا ليس لنا ذنوب كما ليس لأبنائنا ذنوب فأنزل الله الآية ، وقيل نزلت فى ذم التمادح والتزكية ، وفى الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبى بكرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يثنى على رجل فقال : " ويحك قطعت عنق صاحبك ثم قال : " انكان أحدكم مادحا صاحبه لامحالة فليقل أحسبهكذلك ولايزكى على الله أحدا " ، وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه : " ان أخوف ما أخاف عليكم اعجاب المرء برأيه ، فمن قال أنا مؤمن فهو كافر ، ومن قال هو عالم فهوجاهل ، ومن قال هو فى الجنة فهو فى النار " ، " بل الله يزكى من يشاء " المرجع فى التزكية هو الله عز وجل لأنه أعلم بحقائق الأمور وغوامضها وينهى عن ذلك بقوله " فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن أتقى " ، " ولايظلمون فتيلا " الله لايترك لأحد من الأجر ما يوازى مقدار فتيل وهو ما يكون فى شق النواة ، " انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به اثما مبينا " تزكيتهم أنفسهم ودعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه وقولهم " لن يدخل الجنة الا من كان هودا أو نصارى " وقولهم " لن تمسنا النار الا أياما معدودات " " واتكالهم على أعمال آبائهم الصالحةافتراء الكذب اثم واضح لايخفى على الله وافترائ ظاهر ، " ألم تر الى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت " ألا ترى أن الذين أوتوا الكتاب يؤمنون بالجبت ، عن عمر بن الخطاب قال الجبت السحر والطاغوت الشيطان ، وعن أبن عباس الجبت الشرك وكذلك الصنام ، وفى كتاب الصحاح للعلامة أبو نصر بن اسماعيل الجبت كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحوذلك ونحو ذلك ، وقال الامام مالك الطاغوت هو كل ما يعبد من دون الله ، وفى الحديث " الطيرة والعيافة والطرق من الجبت " ، " ويقولون ااذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا " يفضلون الكفار على المسلمين بجهلهم وقلة دينهم وكفرهم بكتاب الله الذى بايديهم ، وعن عكرمة قال جائ حيى بن أخطب وكعب بن الاشرف الى أهل مكة فقالوا لهم : " أنتم أهل الكتاب وأهل العلم فأخبرونا عنا وعن محمد ط فقالوا : " ما أنتم وما محمد " فقالوا : " نحن نصل الأرحام ، وننحر الكوماء ، ونسقى الماء على اللبن ، ونفك العانى ، ونسقى الحجيج ، ومحد صنبور قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج من غفار فنحن خير أم هو؟ " فقالوا : " أنتم خير وأهدى سبيلا " فأنزل الله " ألم تر الى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا " ، " أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا " هؤلاء الذين أصابتهم لعنة الله أى الطرد من رحمته وهذا اللعن لهم واخبار بأنهم لاناصر لهم فى الدنيا ولا فى الآخرة لأنهم ذهبوا يستنصرون بالمشركين وانما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم الى نصرهم وقد أجابوهم وجاؤا معهم يوم الأحزاب .
أم لهم نصيب من الملك فاذا
لايؤتون الناس نقيرا * أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل
ابراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما * فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه
وكفى بجهنم سعيرا 53- 55
" أم لهم نصيب من الملك " هذا
استفهام انكار أى ليس لهم نصيب من الملك ، " فاذا لايؤتون الناس نقيرا "
وصفهم الله بالبخل لأنهم لو كان لهم نصيب فى الملك والتصرف لما أعطوا أحدا من
الناس ولاسيما محمد صلى الله عليه وسلم شيئا ولا ما يملأ النقير وهى النقطة التى
فى النواة كما فى قوله " قل لو تملكون خزائن رحمة ربى اذا لأمسكتم خشية
الانفاق " ، " أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله " حسدهم
النبى صلى الله عليه وسلم على ما رزقه الله من النبوة العظيمة ومنعهم من تصديقهم
أياه حسدهم لكونه من العرب وليس من بنى اسرائيل ، " فقد آتينا آل ابراهيم
الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما " جعلنا فى أسباط بنى اسرائيل الذين هم
من ذرية ابراهيم النبوة وأنزلنا عليهم الكتاب وحكموا فيهم بالسنين وهى الحكمة
وجعلنا منهم الملوك ، " فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه " مع هذا الايتاء
منهم من آمن به أى بالكتاب والحكمة وبما أنزل الى النبيين ومنه من صد عنه أى كفر
به وأعالناس عنه ، وهو منهم ومن جنسهم من بنى اسرائيل فقد اختلفوا عليهم فكيف بك
يا محمد ولست من بنى اسرائيل ؟ ، وقال مجاهد فمنهممن آمن به أى بمحمد صلى الله
عليه وسلم ومنهم من صد عنه ، فالكفرة منهم أشد تكذيبا لك ، وأبعد عما جئتم به من
الهدى والحق المبين ولهذا قال الله متوعدا " وكفى بجهنم سعيرا " وكفى
بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب الله ورسله .
ان الذين كفروا بآياتنا سوف
نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ان الله كان
عزيزا حكيما * والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار
خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا 56 - 57
" ان الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ان الله كان عزيزا حكيما " يخبر الله عما يعاقب به فى نار جهنم وهو الكفر بآياته ، والكافرين يدخلهم جهنم دخولا يحيط بجميع أجرامهم وأجزائهم ويخبر عن دوام عقوبتهم ونكالهم اذا احترقت جلودهم بدلوا جلودا غيرها وهم خالدون فيها أبدا لايحولون ولايزولون ، وهذا من اعجاز القرآن حيث أن الجلد هو الذى يحس به الانسان فيتألم وينتقل الحس الى العصب والمخ والا لانهار الجسم اذا فقد الاحساس اذا لم يحس بالألم فيسرع ويتصرف لو أصابته النار ولم يكن يحس لقضت وحرقت كل جسده ، " ان الله كان عزيزا حكيما"ان الله ذو عزة وجلال ولايضيره من كفر وذوحكمة يسير الكون بحكمته ويحكممابين العباد وهو أعلم بمن كفر ومن آمن ، " والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا " وعلىنقيض الذين كفروا فان الذين آمنوا وصدق ايمانهم العمل الصالح فىجنات عدن التى تجرى فيها الأنهر من كل صنف من عسل مصفى ومنماء غير آست ومخمر لذة للشاربين غير خمر الدنيا التى تذهب لتاعقول وغير ذلك تجرى فى جنات عدن فى جميع فجاجها ومحالها وأرجائها حيث شاؤا وأين أرادوا وهم خالدون فيها أبدا ولهم فيها أزواج مطهرة من الحيض والنفاس والأذى والأخلاق الرذيلة والصفات الناقصة وليس فى الجنة حرا ولازمهريرا بل ظلعميق كثير غزير ، وعن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال :" ان فى الجنة لشجرة يسير الراكب فى ظلها مائة عام لايقطعها - شجرة الخلد " .
ان الله يأمركن أن تؤدوا
الأمانات الى أهلها واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ان الله نعما يعظكم به
ان الله كان سميعا بصيرا 57 - 58
" ان الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى أهلها
" يأمر الله تعالى بأداء الأمانات الى أهلها وهى المانات فيما بينك وبين
الناس ونزلت فى شأن عثمان بن طلحة حاجب الكعبة المعظمة وحامل مفاتيحها وهو شيبانى
من بنى شيبة ولازالت مفاتيح الكعبة حتى الآن فيهم ، ون أبن جريح قال نزلت فى عثمان
بن طلحة قبض منه رسولتااه صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة فدخل البيت يوم الفتح
فخرج يتلو الآية فدعا عثمان اليه فدفع اليه المفتاح وسواء كانت نزلت فى ذلك أو لا
فحكمها عام هى للبر والفاجر أمر لكل أحد ، " واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل
" أمر منه تعالى بالعدل بين الناس فى الحكم ، وقال محمد بنكعب وغيره ان هذه
الآية نزلت فى الأمراء يعنى الحكام بين الناس ، وفى الحديث " ان الله مع
الحاكم ما لم يجر ، فاذا جار وكله الى نفسه " ، " ان الله نعما يعظكم به
" ان ما يأمركم به الله من أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس وغير ذلك
من أوامره وشرائعه الكاملة العظيمة الشاملة شىء ممدوح ينصحكم بادائه ، " ان
الله كان سميعا بصيرا " والله بصير سميع يسمع ويبصر ما تفعلونه وهو ينصحكم
لما فيه خيركم من أداء الأمانة والعدل فى الحكم دون ظلم ، وقال رسول الله صلى الله
عليه سلم : " أد الأمانة الى من ائتمنك ولا تخن من خانك " ، أمر الله
بأداء كل الأمانات من حقوق الله عز وجل من عبادات وغيرها من حقوق العباد بعضهم الى
بعض كالودائع وغير ذلك فمن لم يفعل ذلك فى الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة كما ثبت
فى الحديث الصحيح أن رسول الله صلى اللع عليه وسلم قال :" لتؤدن الحقوق الى
أهلها حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء .
يآيها الذين آمنوا اطيعوا الله
واطيعوا الرسول واولى الأمر منكم فان تنازعتم فى شىء فردوه الى الله والرسول ان
كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا 59
"طيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم " عن أبن عباس أن الآية نزلت فى عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدى اذ بعثه رأسول الله صلى الله عليه وسلم فى سرية فلما خرجوا وجد عليهم فى شىء فقال لهم أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعونى ؟ قالوا بلى ، قال : فاجمعوا لى حطبا ، ثم دعا بنار فأضرمها فيه ، ثم قال : عزمت عليكم لتدخلنها ، فقال له شاب منهم انما فررتم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار فلا تعجلوا حتى تلاقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فان أمركم أن تدخلوها فادخلوها ، فرجعوا الى رسول الله صلى الله عليهوسلم فاخبروه فقال لهم : لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا ، انما الطاعة فى المعروف "، وعن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ، ما لم يؤمر بمعصية ، فاذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " ، وعن ابى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : سيليكم ولاة بعدى فيليكم البر ببره والفاجر بفجوره ، فاسمعوا لهم وأطيعوا فى كل ما وافق الحق ، وصلوا وراءهم ، فان أحسنوا فلكم ولهم وان أساءوا فلكم وعليهم "، قال أبن عباس " وأولى الأمر منكم " أهل الفقه والدين والظاهر أنها عامة فى كل أولى الأمر من الأمراء والعلماء ،" أطيعوا الله " أى اتبعوا كتابه "وأطيعوا الرسول" أى خذوا بسنته "وأولى الأمر منكم " أى فيما أمروا به من طاعة الله لا فى معصية الله ، فانه لا طاعة لمخلوق فى معصية الله ، "ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " ردوا الخصومات والجهالات الى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا اليهما فيما شجر بينكم ، "ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " يدل على أن من لم يتحاكم فى محل النزاع الى الكتاب والسنة ولا يرجع اليهما فى فصل النزاع فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر ، "ذلك خير " التحاكم الى كتاب الله وسنة رسوله ، والرجوع اليهما فى فصل النزاع خير ، " وأحسن تأويلا" وأحسن عاقبة ومآلا وأحسن جزاء .
ألم تر الى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيد*واذا قيل لهم تعالوا الى ما أنزل الله والى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا *فكيف اذا أصابتهم مصيبةبما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله ان أردنا الا احسانا وتوفيقا* أولئك الذين يعلم الله ما فى قلوبهم فأعرض عنهم وقل لهم فى أنفسهم قولا بليغا 60 - 63
" ألم تر الى الذين يزعمون أنهم أمنوا بما أنزل
اليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به
ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا" هذا انكار من الله تعالى على من يدعى
الايمان بما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء الأقدمين ومع
ذلك يريد أن يتحاكم فى فصل الخصومات الى غير سنة الله ورسوله ، وسبب نزول هذه
الآية أنها فى رجل من الأنصار ، ورجل من اليهود تخاصما فجعل اليهودى يقول بينى
وبينك محمد ، وذلك يقول بينى وبينك كعب بن الأشرف
، وقيل فى جماعة من المنافقين ممن أظهروا الاسلام أرادوا أن يتحاكموا الى
حكام الجاهلية ، والآية أعم من ذلك كله فانها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة ،
وتحاكموا الى ما سواهما من الباطل وهو المراد من الطاغوت الذى أمرهم الله أن
يكفروا به وما يفعلوه هو من الشيطان الذى يريد بهم الابتعاد عم ما انزل الله وعن
سنة رسوله ، " واذا قيل لهم تعالوا الى ما أنزل الله والى الرسول رأيت
المنافقين يصدون عنك صدودا "يعرضون عنك اذا دعوتهم للتحاكم الىكتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم يعرضون عنك
اعراضا كالمستكبرين عن ذلك كما قال عن المشركين " واذا قيل لهم اتبعوا ما
أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا" وهؤلاء بخلاف المؤمنين الذين
قال الله فيهم " انما كان قول المؤمنين اذا دعوا الى الله ورسوله ليحكم بينهم
أن يقولوا سمعنا وأطعنا " " فكيف اذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم
" قال تعالى فى ذم المنافقين فكيف بهم اذا ساقتهم المقادير اليك فى مصائب
تطرقهم بسبب ذنوبهم ،واحتاجوا اليك فى ذلك " ثم جهؤك يحلفون بالله ان أردنا
الا احسانا وتوفيقا" يعتذرون اليك ويحلفون ما أردنا بذهابنا الى غيرك ،
وتحاكمنا الى أعدائك الا الاحسان والتوفيق أى المداراة والمصانعة لا اعتقادا منا
صحة تلك الحكومة ، "أولئك الذين يعلم الله ما فى قلوبهم " هذا الضرب من
الناس هم المنافقون والله يعلم ما فى قلوبهم وسيجزيهم على ذلك فانه لا تخفى عليه
خافية فاكتف به يا محمد فيهم فانه عالم بظواهرهم وبواطنهم ، "فاعرض عنهم
" لاتعنفهم على ما فى قلوبهم واتركهم "وعظهم" وانههم عما فى قلوبهم
من النفاق وسرائر الشر ، "وقل لهم فى أنفسهم قولا بليغا " وانصحهم فيما
بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم .
وما أرسلنامن رسول الا ليطاع
باذن الله ولو أنهم اذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول
لوجدوا الله توابا رحيما * فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم
لايجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما 64 - 65
" وما ارسلنا من رسول الا ليطاع باذن الله "
فرض الله طاعته على من أرسل اليهم لايطيع أحد الا باذن الله ولايطيعه الا من وفقه ،
" ولو أنهم اذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا
الله توابا رحيما "يرشد تعالى العصاة والمذنبين اذا وقع منهم الخطأ والعصيان
أن يأتوا الى الرسول صلى الله عليهوسلم فيستغفروا الله عنده ويسألوه أن يغفر لهم
فانهم اذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم ولهذا قال "لوجدوا الله
توابا رحيما " ، "فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم
لايجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " يقسم تعالى بنفسه الكريمة
المقدسة أنه لايؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فى جميع الأمور فما
حكم به فهو الحق الذى يجب الانقياد له باطنا وظاهرا ولهذا قال "تم لايجدوا فى
أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما" أى اذا حكموك يطيعونك فى بواطنهم فلا
يجدون فى أنفسهم حرجا مما حكمت به وينقادون له فى الظاهروالباطن فيسلمون لذلك
تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة كما ورد فى الحديث " والذى
نفسى بيده لايؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " ، وعن سعيد بن
المسيب فى قوله " فلاوربك لايؤمنون " قال نزلت فى الزبير بن العوام
وحاطب بن أبى بلتعة اختصما فى ماء فقضى رسول الله صلى الله عليهوسلم أن يسقى
الأعلى ثم الأسفل ، وعن عمرو بن دينار عن سلمة رجل من آل أبى سلمة قال : خاصم
الزبير رجلا الى النبى صلى الله عليهوسلم فقضى للزبير فقال الرجل له : انما قضى له
لأنه ابن عمته فنزلت الآية .
ولوأنا كتبنا عليهم أن اقتلوا
أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه الا قليلا منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به
لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا * واذا لأتيناهم من لدنا أجرا عظيما * ولهديناهم صراطا
مستقيما * ومن يطع الله والرسول فاؤلئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا * ذلك الفضل من الله وكفى بالله
عليما 66 - 70
"ولو أنا كتبنا عليهم أن أقتلوا أنفسكم أو اخرجوا
من دياركم ما فعلوه الا قليلا منهم "
يخبر تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بما هم مرتكبوه من المناهى لما فعلوه لأن
طباعهم الرديئة مجبولة على مخالفة الأمر وهذا من علمه تبارك وتعالى بما لم يكن أو
كان يكون لما نزلت الآية قال أناس من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم :" لو فعل ربنا
لفعلنا " فبلغ النبى صلى الله عليه وسلم فقال : :للايمان أثبت فى قلوب أهله
من الجبال الرواسى " ، وعن شريح بن عبيد قال : لما تلا رسول الله صلى الله
عليهوسلم هذه الآية ، أشار رسول الله صلى الله عليهوسلم بيده الى عبد الله بن
رواحة فقال : "لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل " ، "
ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا " ولو أنهم فعلوا ما
يأمرون به وتركوا ما ينهون عنه لكان خيرا لهم من مخالفة الأمر وارتكاب النهى وكان
أشد تصديقا " واذا لأتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما
" اذا فعلوا ذلك سيكون جزاءهم من عند الله عظيما وهو الجنة ولهدوا الى الصراط
المستقيم فى الدنيا والآخرة ، " ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم
الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا "من
عمل بما أمره الله به ورسوله ، وترك ما نهاه عنه الله ورسوله فان الله يسكنه دار
كرامته ويجعله مرافقا للأنبياء ، ثم لمن بعدهم فى الرتبة وهم الصديقون ، ثم
الشهداء ثم عموم المؤمنين وهم الصالحون الذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم والذين أثنى
الله عليهم أنهم نعم الرفيق ، عن أبن عباس أن رجلا أتى النبى صلى الله عليه وسلم
فقال : " يارسول الله انى لأحبك حتى أنى لأذكرك فى المنزل فيشق ذلك على وأحب
أن أكون معك فى الدرجة فلم يرد عليه النبى صلى الله عليه وسلم شيئا فأنزل الله عز
وجل هذه الآية ، وعن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ان
أهل الجنة ليتراءون فى الجنة كما تراءون أو ترون الكوكب الدرى الغابر فى الأفق
الطالع فى تفاضل الدرجات " قالوا : " يارسول الله أولئك النبيون "
قال " بلى ، والذى نفسى بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " ،
" ذلك الفضل من الله " هذا فضل ومنة من عند الله برحمته وهو الذى أهلهم
لذلك لا بأعمالهم ، " وكفى بالله عليما " اله عليم بمن يستحق الهداية
والتوفيق .
يآيها الذين آمنوا خذوا حذركم
فانفروا ثبات أو انفروا جميعا * وان منكم لمن ليبطئن فان أصابتكم مصيبة قال قد
أنعم الله على اذ لم أكن معهم شهيدا * ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن
بينكم وبينه مودة ياليتنى كنت معهم فأفوز فوزا عظيما * فليقاتل فى سبيل الله الذين
يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل فى سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه
أجرا عظيما 71 - 74
" ياأيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو
انفروا جميعا "يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوهم وهذا
يستلزم التأهب لهم باعداد الأسلحة والعدد وتكثير العدد بالنفير فى سبيل الله جماعة
بعد جماعة وفرقة بعد فرقة وسرية بعد سرية والثبات جمع ثبة وقد تجمع الثبة على ثبين
، قال أبن عباس "فانفروا ثبات " أى عصبا يعنى سرايا متفرقين " أو
انفروا جميعا " يعنى كلكم ، " وان منكم لمن ليبطئن" نزلت فى
المنافقين وتعنى أن منكم من يتخلفن عن الجهاد أو أنه يتباطأ هو نفسه ويبطىء غيره
عن الجهاد كما كان عبد الله بن أبى سلول يفعل يتأخر عن الجهاد ويثبط الناس عن
الخروج فيه ، " فان أصابتكم مصيبة " فان أصابكم قتل وشهادة وغلب العدو
لكم لما لله فى ذلك من الحكمة " قال قد أنعم الله على اذ لم أكن معهم
شهيدا" لم أحضر معهم القتال فاقتل وهذا من نعم الله على ، ولم يدر ما فاته من
الأجر فى الصبر أو الشهادة ان قتل شهيدا فى سبيل الله ، " ولئن أصابكم فضل من
الله " اذا تحقق لكم نصر من عند الله وظفر وغنيمة " ليقولن كأن لم تكن
بينكم وبينه مودة "يقول كأنه ليس من أهل دينكم " ياليتنى كنت معهم فأفوز
فوزا عظيما " يقول متمنيا أن يكون مشاركا حتى يضرب له بسهم معكم فيحصل عليه ،
وهو أكبر قصده وغاية مراده الغنيمة ، " فليقاتل فى سبيل الله الذين يشرون
الحياة الدنيا بالآخرة " بقاتل فى سبيل الله الذين يبيعون عرض الحياة الدنيا
الزائلة ليشتروا الآخرة ، " ومن يقاتل فى سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه
أجرا عظيما " كل من قاتل فى سبيل الله سواء قتل أو غلب فله عند الله مثوبة
عظيمة وأجر جزيل كمل ثبت فى الصحيحين وتكفل الله للمجاهد فى سبيله ان توفاه أن
يدخله الجنة أو يرجعه الى مسكنه الى خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة .
وما لكم لاتقاتلون فى سبيل
الله والمستضعفين من الرجال والنساء الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية
الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا * الذين آمنوا
يقاتلون فى سبيل الله والذين كفروا يقاتلون فى سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء
الشيطان ان كيد الشيطان كان ضعيفا 75 - 76
" وما لكم لاتقاتلون فى سبيل الله والمستضعفين من
الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها
واجعل لنا من لدنك نصيرا " يحرض الله تعالى عباده المؤمنين على الجهاد فى
سبيله وعلى السعى فى استنقاذ المستضعفين بمكة من الرجال والنساء والصبيان
المتبرمين من المقام بها وصفها بقوله الظالم أهلها كما قال عنها " وكأين من
قرية هى أشد قوةمن قريتك التى أخرجتك " يقولون ربنا سخر لنا من عندك وليا
ناصرا ، قال أبن عباس : " كنت أنا وأمى من المستضعفين " ، " الذين آمنوا
يقاتلون فى سبيل الله والذين كفروا يقاتلون فى سبيل الطاغوت " المؤمنون
يقاتلون فى سبيل اللهوالذين كفروا يقاتلون فى سبيل الطاغوت " المؤمنون
يقاتلون فى طاعة الله ورضوانه ،والكافرون يقاتلون فى طاعة الشيطان ، "
فقاتلوا أولياء الشيطان ان كيد الشيطان كان ضعيفا " حث الله تعالى المؤمنين
على قتال أعدائه وهم أولياء الشيطان الذين يسيرون فى طاعته ، وتدبير الشيطان ضعيف
فى ظل تأييد الله للمؤمنين .
ألم تر الى الذين قيل لهم كفوا
أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال اذا فريق منهم يخشون
الناس كخشية الله أو اشد خشية الله وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا
الى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن أتقى ولا تظلمون فتيلا * أينما
تكونوا يدركم الموت ولو كنتم فى بروج مشيدة وان تصبهم حسنة يقولوا هذهمن عند الله
وان تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لايكادون
يفقهون حديثا * ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك
للناس رسولا وكفى بالله شهيدا 77 - 79
" ألم تر الى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " كان المؤمنون فى ابتداء الاسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة وان لم تكن ذات النصب ، وكانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم ، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر الى حين ، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم ولم يكن الحال اذ ذاك مناسبا لأسباب كثيرة منها قلة عددهم بالنسبة الى كثرة عدد عدوهم ، ومنها كونهم فى بلدهم وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء كما يقال فلهذا لم يؤمر بالجهاد الا بالمدينة لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار ، " فلما كتب عليهم القتال اذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا الى أجل قريب " لما أمروا بما كانوا يودونه جزع بعضهم منه وخافوا من مواجهة الناس خوفا شديدا وقالوا ربنا لولا أخرت فرض القتال الى مدة أخرى فان فيه سفك الدماء ، ويتم الأولاد ، وتأيم النساء ، وعن أبن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبى صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا :" يا نبى الله كنا فى عزة ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة " قال :" انى أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم " ، فلما حوله الله الى المدينة أمره بالقتال فكفوا فأنزل الله هذه الآية " ,وقال السدى لميكن عليهم الا الصلاة والزكاة ، فسألوا الله أن يفرض عليه القتال ولما فرض فى المدينة " اذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لمكتبت علينا القتال لولا أخرتنا الى أجل قريب " وهو الموت ورد الله عليهم " قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن أتقى ولا تظلمون فتيلا " هذه الدنيا متاعها قليل وهى زائلة والحياة الابدية فى الآخرة فى الحنة دار النعيم المقيم جزاءا للمتقين المطيعين لربهم آخرة المتقى خير من دنياه ولن تنقصوا شيئا من أعمالكم وحتى لو كان مقدار ضئيلا بل توفونها أتم الجزاء ، وهذه تسلية لهم عن الدنيا ،وترغيب لهم فى الآخرة ، وتحرض على الجهاد ، " أينما تكونوا يدركم الموت ولو كنتم فى بروج مشيدة"يا من تخافون من الجها خشية الموت أنتم صائرون الى الموت لا محالة ولا ينجومنه أحد منكم كما قال " كل من عليها فان " وقال تعالى " كل نفس ذائقة الموت "كل أحد صائر الى الموت لا محالة ، ولا ينجيه من ذلك شىء سواء جاهد أم لم يجاهد فان له أجلا محتوما ، ومقاما مقسوما " ولوكنتم فى بروج مشيدة "أى حصينة منيعة رفيعة , أى لايغنى حذر وتحصن من ا لموت ، وقيل المسيدة هى المشيدة كما قال وقصر مشيد ، وقيل بل بينهما فرق وهو أن المسيدة بالتشديد هى المطواة ، وبالتخفيف هى المزينة بالشيد وهو الجص ، "وان تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وان تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك " ان يصبهم خصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحوذلك يقولوا هذا خير من عند الله " وان تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك " اذا أصابهم قحط وجدب ونقص الثمار والزروع أو موت أولاد أو نتاج أو غير ذلك من الضرر هذا الذى أصبنا به من قبلك وبسب أتباعنا لك واقتدائنا بدينك ، كما قال تعالى عن قوم فرعون " فاذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه ، وان تصبهم السيئة يطيروا بموسى ومن معه " ، وكما قال " ومن الناس من يعبد الله على حرف " ، وهكذا قال هؤلاء المنافقون الذين دخلوا الاسلام ظاهرا وهمكارهون له فى نفس الأمر ، وهذا اذا أصابهم شر انما يسندونه الى اتباعهم للنبى صلى الله عليه وسلم ،وقال السدى وان تصبهم حسنة وهى الخصب تنتج مواشيهم وخيولهم ويحسن حالهم وتلد نساؤهم الغلمان قالوا هذه من عند الله ، وان أصابهم السيئة وهى الجدب والضرر فى أموالهم تشاءموا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقالوا هذه من عندك يقولون بتركنا ديننا واتباعنا محمد أصابنا هذا البلاء فأنزل الله " قل كل من عند الله"أى الجميع بقضاء الله وقدره وهو نافذ فى البر والفاجر والمؤمن والكافر ، " فمال هؤلاء القوم لايكادون يفقهون حديثا " هذه المقالة الصادرة صادرة عن شك وريب وقلة فهم وكثرةجهل وظلم ، " ما أصابك منحسنة فمن الله " ما اصابكمنحسنة من فضل الله ومنته ولطفه ورحمته ، " وما أصابك من سيئة فمن نفسك " اى بذنبك وأنا الذى قدرتها عليك عقوبة لك يا أبن آدم بذنبك , كما قال تعالى " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير " ، " وأرسلناك للناس رسولا" ارسلناك رسولا للناس كافة تبلغهم شرائع الله ومل يحبه ويرضاه وما يكرهه وياباه " وكفى بالله شهيدا " الله شهيدا بينك وبينهم على أنه أرسلك ،وعالم بما تبلغهم اياه وبما يردون عليك من الحق كفرا وعنادا .
من يطع الرسول فقد أطاع الله
ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا * ويقولون طاعة فاذا برزوا من عندك بيت طائفة
منهم غير الذى تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله
وكيلا 80 - 81
" من يطع الرسول فقد أطاع الله" يخبر تعالى عن
عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأن من أطاعه فقد أطاع الله ، ومن عصاه فقد
عصى الله ، وما ذلك الا لأنه ما ينطق عن الهوى ان هو الا وحى يوحى ، " ومن
تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا " ومن عصاك ما عليك منه ان عليك من أمره شىء ، عن
أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من أـطاعنى فقد أطاع
الله ، ومن عصانى فقد عصى الله ، ومن أطاع الأمير فقد أطاعنى ، ومنعصى الأمير فقد
عصانى " ، وكما جاء فى الحديث " من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصى
الله ورسوله فانه لايضر الا نفسه " ، " ويقولن طاعة " يخبر تعالى
عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة والطاعة ، " فاذا برزوا من عندك بيت
طائفة منهم غير الذى تقول " اذا خرجوا وتواروا عنك أستسروا ليلا فيما بينهم
بغير ما أظهروه لك فقال " والله يكتب ما يبيتون " الله يعلم ما يبيتون
ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين الذين هم موكلون بالعباد ، والمعنى فى
هذا التهديد أنه تعالى يخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم وما يتفقون
عليه ليلا من مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصيانه وان كانوا قد أظهروا له
الطاعة و الموافقة ، وسجزيهم على ذلك ، " فاعرض عنهم " اصفح عنهم واحلم
عليهم ولا تؤاخذهم ولا تكشف أمورهم للناس ، ولا تخف منهم أيضا ، " وتوكل على
الله وكفى باللهوكيلا " توكل على الله وكفى به وليا وناصرا ومعينا لمن توكل
عليه وأناب اليه .
أفلا يتدبرون القرآن ولوكان من
عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا * واذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا
به ولو ردوه الى الرسول والى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل
الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان الا قليلا 83
" أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله
لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " يأمر الله سبحانه وتعالى بتدبر القرآن وتفهم
معانيه المحكمة وألفاظه البليغة وينهى عن الاعراض عنه ، ويخبر أنه لاأختلاف فيه
ولا اضطراب ، ولا تعارض لأنه تنزيل من حكيم حميد فهو حق من حق ، كما قال "
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" ، لو كان هذا القرآن مفتعلا مختلقا
كما يقول جهلة المشركين والمنافقين فى بواطنهم وليس من عند الله لوجدوا فيه
اختلافا أى اضطرابا وتضادا كثيرا ، فهو سالم من الاختلاف فهو من عند الله ، أما
الراسخون فى العلم يقولوا " آمنا به كل من عند ربنا " محكمه ومتشابهه حق
، يردون المتشابه الى المحكم فاهتدوا ، والذين فى قلوبهم زيغردوا المحكم الى
المتشابه فغووا ، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : لقد جلست أنا وأخى مجلسا
ما أحب أن لى به حمر النعم أقبلت أنا وأخى واذا مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم على باب من أبوابه فكرهنا أن نفرق بينهم فجلسنا حجزة اذ ذكروا آية من
القرآن فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا
حتى احمر وجهه يرميهم بالتراب ويقول : "مهلا يا قوم بهذا أهلكت الأمم من
قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم المتب بعضها ببعض ان القرآن لم ينزل ليكذب
بعضه بعضا ، انما نزل يصدق بعضه بعضا ، فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم منه
فردوه الى عالمه " ، وعن عبد الله بن عمرو قال : " هاجرت الى رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوما فانا لجلوس اذ اختلف اثنان فى آية فارتفعت أصواتهما فقال
: " انما هلكت الأمم قبلكم باختلافهم فى الكتاب " ، " واذا جاءهم
أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به " انكار على من يبادر الى الأمور قبل تحققها
فيخبر بها ويفشيها وينشرها ، وقد لايكون لها صحة ، وعن أبى هريرة عن النبى صلى
الله عليه وسلم قال :" كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع " ،وفى الصحيح
" من حدث بحديث وهو يرى أنهكذب فهو أحد الكاذبين " ، ، ولنذكر هنا حديث
عمر بن الخطاب المتفق على صحته حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق
نساءه فجاء من منزله حتى دخل المسجدفوجد الناس يقولون ذلك فلم يصبر حتى استأذن على
النبى صلى الله عليه وسلم فاستفهمه" أطلقت نساءك ؟ " فقال :
"لا" فقلت : "الله أكبر ط وعند مسلم فقلت : "أطلقتهن "
فقال :"لا " فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتى "لم يطلق رسول
الله صلى الله عليه وسلم نساءه " ونزلت الآية " واذا جاءهم أمر من الأمن
أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه الى الرسول والى أولى الأمر منهم لعلمه الذين
يستنبطونه منهم " فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر ومعنى يستنبطونه أى يستخرجونه
من معادنه يقال استنبط الرجل العين اذا حفرها واستخرجها من قعورها ، " ولولا
فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان الا قليلا "لولا نعمة الله عليكم
ورحمته بكم لسرتم كلكم فى طريق الشيطان الا من رحم الله .
فقاتل فى سبيل الله لاتكلف الا
نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا *
من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان
الله على كل شىء مقيتا * واذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أوردوها ان الله كان
على كل شىء حسيبا * الله لا آله الا هو ليجمعنكم الى يوم القيامة لا ريب فيه ومن
أصدق من الله حديثا 84 - 87
" فقاتل فى سبيل الله لا تكلف الا نفسك " يأمر الله تعالى محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن يباشر القتال بنفسه ومن نكل عنه فلا عليه منه ، " وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا" لما نزلت الآية قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " قد أمرنى ربى بالقتال فقاتلوا " وتحرض المؤمنين على القتال وترغيبهم فيه وتشجيعهم عليه ووردت أحاديث كثيرة فى الترغيب فى ذلك ، عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليهوسلم :" من آمن باللهورسوله ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وصام رمضان ،كانحقا على الله أن يدخله الجنة هاجر فى سبيل الله أو جلس فى أرضه التى ولد فيها " قالوا: "يا رسول الله أفلا نبشر الناس بذلك ؟ " فقال :" ان فى الجنة مائةدرجة أعدها الله للمجاهدين فى سبيل الله بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، فاذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فانه وسط الجنة ،وأعلى الجنة ،وفوق عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة " ، " عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا " بتحرضك اياهمعلى القتال تنبعث هممهم على مناجزة الأعداء ،ومدافعتهم عنحوزة الاسلام وأهله ،ومقاومتهم ومصابرتهم ، " والله أشد بأسا وأشد تنكيلا "الله قادر عليهم فى الدنيا والآخرة وان ينكل بهم كما قال تعالى " ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض " ، " من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها " من يسعى فى أمر فيترتب عليه خير كان له نصيب من ذلك ، " ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها " من يسعى فى أمر يترتب عليه أمر سىء عليه وزر من ذلك الأمر الذى ترتب على سعيه ونيته ، ، كمت ثبت فى الحديث الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال :" اشفعوا تؤجروا ، ويقضى الله على لسان نبيه ما شاء " ، " وكان الله على كل شىء مقيتا "مقيتا قال أبن عباس أى حفيظا وقال مجاهد شهيدا أو حسيبا وعن عبد الله بن رواحة مقيت لكل انسان بقدر عمله ، " واذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها " اذا سلم عليكم المسلم فردوا عليه أفضل مما سلم ، أو ردوا عليه بمثل ما سلم عليكم فالزيادة مندوبة ،والمماثلة مرفوضة ، عن سلمان الفارسى قال جاء رجل الى النبى صلى الله عليه وسلم فقال :" السلام عليك يا رسول الله " فقال : " وعليكم السلام ورحمة الله " ثم جاء آخر فقال : " السلام عليك يارسول الله ورحمة الله " ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" وعليك السلام ورحمة الله وبركاته " ، ثم جاء آخر فقال :" السلام عليك يارسول الله ورحمة الله وبركاته " فقال له :" وعليك " فقال له الجل :" يا نبى الله بأبى أنت وأمى أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت على " ، فقال :" انك لم تدع لنا شيئا قال الله تعالى " واذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منه أو ردوها " فرددناها عليك " ، وفى الحديث دلالة على أنه لازيادة فى السلام على هذه الصفة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، اذ لو شرع أكثر من ذلك لزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن عمران بن حصين أن رجلا جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " السلام عليكم يا رسول الله فرد عليه السلام ثم جلس فقال : "عشر" ، ثم جاء آخر فقال : " السلام عليكم ورحمة الله يا رسول الله " فرد عليه السلام ثم جلس فقال : " عشرون " ، ثم جاء آخر فقال : " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " فرد عليه السلام ، ثم جلس فقال : " ثلاثون " ، وعن أبن عباس قال : " من سلم عليك منخلق الله فاردد عليه وان كان مجوسيا ذلك بأن الله يقول فحيوا بأحسن منها أو ردوها " ، فأما أهل الذمة فلا يبدؤن بالسلام ولا يزادون بل يرد عليهم بما ثبت فى الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال اذا سلم عليكم اليهود فانما يقول أحدهم السلام عليكم فقل وعليك " ، وعن الحسن البصرى قال " السلام تطوع والرد فريضة " ، وقول العلماء قاطبة أن الرد واجب على من سلم عليه فيأثم ان لم يفعل لأنه خالف أمر الله فى قوله فحيوا بأحسن منها أو ردوها ، وعن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذى نفسى بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على أمر اذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم " ، " ان الله كان على كل شىء حسيبا " الله يحاسب على كل شىء " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " ، " الله لا آله الا هو ليجمعنكم الى يوم القيامة لا ريب فيه "اخبار بتوحيد الله وتفرده بالالهية لجميع المخلوقات والم فى ليجمعنكم موطئة للقسم فقوله الله لا آله الا هو خبر وقسم أنه سيجمع الأولين والآخرين فى صعيد واحد فيجازى كل عامل بعمله ، " ومن أصدق من الله حديثا " لا أحد أصدق من الله فى حديثه ووعده ووعيده فلا آاله الا هو ولا رب سواه.
فما لكم فى المنافقين فئتين
والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له
سبيلا * ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا *
الا الذين يصلون الى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو
يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فان اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا اليكم
السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا * ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا
قومهم كل ما ردوا الى الفتنة أركسوا فيها فان لم يعتزلوكم ويلقوا اليكم السلم
ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا
88 - 91
" فما لكم فى المنافقين فئتين " تقول الله تعالى منكرا على المؤمنين فى اختلافهم فى المنافقين على قولين وعن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج الى أحد فرجع ناس خرجوا معه فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين فرقة تقول نقتلهم وفرقة تقول لا هم المؤمنون فانزل الله ذلك ،" والله أركسهم بما كسبوا " قال أبن عباس أوقعهم وقال قتادة أهلكهم وقال السدى أضلهم بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول واتباعهم الباطل ، " أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا " الهدى بيد الله سبحانه وتعالى ولا طريق لمن يضل الله الى الهدى ولا مخلص له اليه فلا يستطيع أحد أن يهدى من لايريد الله له الهدى ، " ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء " والمنافقين يودون لكم الضلالة لتستووا أنتم واياهم فيها وما ذلك الا لشدة عداوتهم وبغضهم لكم ، ولهذا قال " فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا فى سبيل الله " لاتتخذوا من المنافقين أولياء حتى تكون هجرتهم الى الله ورسوله ، " فان تولوا فخذوهم واتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا " اذا تركوا الهجرة الى الله أى أظهروا كفرهم فخذوهم واقتلوهم و لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على اعداء الله ما داموا كذلك ، " الا الذين يصلون الى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم الا الذين لجأوا وتحيزوا الى قوم وبينهم مهادنة أو عقد ذمة فاجعلوا حكمهم كحكمهم ، والقوم الآخرون المستثنين من الأمر بقتالهم هم الذين يجيؤن الى المصاف وهم حصرة صدورهم مبغضين أن يقاتلوكم ، ولا يهون عليهم أيضا أن يقاتلوا قومهم معكم بل هم لالكم ولا عليكم ، " ولو شاء لسلطهم عليكم فلقاتلوكم " من لطف الله بكم أن كفه عنكم " ، " فان أعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا اليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا " اذا لم يقاتلوكم وقدموا اليكم المسالمة فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك وهؤلاءكالذين خرجوا يوم بدر من بنى هاشم مع المشركين فحضروا القتال وهم كارهون كالعباس ونحوه ولهذا نهى النبى صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العباس وأمر بأسره ، "ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومعم " هؤلاء فى الصورة الظاهرة كمن تقدمهم ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك فان هؤلاء قوم منافقون يظهرون للنبى صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الاسلام ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذريلتهم ويصانعون الكفار فى الباطن فيعبدون معهم ما يعبدون ليأمنوا بذلك عندهم وهم فى الباطن مع أولئك كما قال تعالى " واذا خلوا الى شياطينهمقالوا انا معكم " كلما ردوا الى الفتنة أركسوا فيها "قال السدى الفتنة هنا الشرك أى كلما رجعوا الى الشرك انهمكوا فيه ، وعن مجاهد أنها نزلت فى قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبى صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياءا ثم يرجعون الى قريش فيرتكسون فى الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا فأمر بقتلهم فقال " فخذوهم " أى أسرى " واقتلوهم حيث ثقفتموهم "اقلوهم حيث وجتموهم ، " وأولئك جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا " أولئك جعلنا لكم فيهم بيانا واضحا ,امرا بينا .
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا
الا خطئا ومن قتل مؤمنا خطأفتحريررقبة مؤمنة ودية مسلمة الى أهله الا أن يصدقوا
فان كان من قوم عدو لكم وهومؤمن فتحريررقبة مؤمنة وان كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق
فدية مسلمة الى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من
الله وكان الله عليما حكيما * ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب
الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما 92 - 93
" وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ " يقول تعالى ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بوجه من الوجوه الا بطريق الخطأ وليس العمد ، عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لايحل دم امرىء مسلم يشهد أن لاآله الا الله وأنى رسول الله ، الا با حدى ثلاث : النفس بالنفس ،والثيب الزانى ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " ، ثم اذا وقع شىء من هذه الثلاث فليس لأحد من آحاذ الرعية أن يقتله وانما ذلك الى الامام أو نائبه ، قال عبد الرحمن بنزيد بن أسلم : نزلت فى أبى الرداء لأنه قتل رجلا وقد قال كلمة الايمان حين رفع عليه السيف فأهوىبه فقال كلمته فلما ذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم قال انما قالها متعوذا فقال له : " هل شققت عن قلبه " وهذه القصة فى الصحيح لأبى الدرداء ، " ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة الى أهله " هذان واجبان فى قتل الخطأ أحدهما الكفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم وان كان خطأ ومن شرطها أن تكون عتق رقبة مؤمنة لاتجزىء الكافرة ولا يجزىء فيها الصبى ،واختار أبن جرير أنه ان كان مولودا بين أبوين مسلمين أجزأ والا فلا ،والذى عليه الجمهور أنه متى كان مسلما صح عتقه عن الكفارة سواء كان صغيرا أو كبيرا ، عن عبد الله بن عبد الله عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمة سوداء فقال يا رسول الله ان على عتق رقبة مؤمنة فان كنت ترى هذه مؤمنة أعتقها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أتشهدين أن لا آله الا الله ؟ قالت :" نعم " قال :" أتشهدين أنى رسول الله ؟ " قالت : " نعم " قال :" أتؤمنين بالبعث بعد الموت " قالت : " نعم " قال : " أعتقها " " ودية مسلمة الى أهله " هو الواجب الثانى فيما بين القاتل وأهل القتيل عوضا لهم عما فاتهم من قتيلهم ، وهذه الدية انما تجب أخماسا وقيل تجب أرباعا وهذه الدية انما تجب على عاقلة القاتل ،وما ثبت فى الصحيحين عن أبى هريرة قال :" أقتتلت امرأتان من هذيل فرمت احداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما فى بطنها فاختصموا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو أمة وقضى بدية المرأة على عاقلتها ، وهذا يقتضى أن حكم عمد الخطأ حكم الخطأ المحض فو وجوب الدية لكن هذا تجب فيه الدية أثلاثا لشبه العمد ، وفى صحيح البخارى عن عبد الله بن عمر قال بعث رسول الله صلى الله عليهوسلم خالد بن الوليد الى بنىجزيمة فدعاهم الى الاسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا فجعل خالد يقتلهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يديه وقال : " الهم انى أبرأ اليك مما صنع خالد " وبعث عليا فودى قتلاهم وما أتلف من أموالهم حتى ميلغة الكلب ،وهذا الحديث يؤخذ منه أنخطأ الامام أو نائبه يكون فى بيت المال ، " الا أن يصدقوا " فتجب فيه الية مسلمة الى أهله الا أن يتصدقوابها فلا تجب ، " فان كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة " اذا كان القتيل مؤمنا ولكن أولياؤه من الكفار أهلحرب فلا دية لهم وعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير ، " وان كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة الى أهله وتحرير رقبة مؤمنة " فانكان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة فلهم دية قتيلهم فانكانمؤمنا فدية كاملة وكذا ان كان كافرا أيضا عند طائفة من العلماءوقيل يجب فى الكافر نصف دية المسلم وقيل ثلثها ، ويجب على القاتل تحرير رقبة مؤمنة ، " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين " فمن لم يجد الدية أو يملك تحرير رقبة مؤمنة فعليه صيام شهرين لا افطار بينهما بل يسرد صومهما الى آخرهما فان أفطر من غير عذر من مرض أوحيض أو نفاس استأنف واختلفوا فى السفر هل يقطع أم لا ، " توبة من الله وكان الله عليما حكيما " هذه توبة القاتل الخطأ اذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين ، واختلفوا فيمن لا يستطيع الصيام هل يجب عليه اطعام ستين مسكينا كما فى كفارة الظهار على قولين أحدهما نعم كما فىكفارة الظهار والقول الثانى لايعد الىالطعام لأنه لو كان واجبا لما أخر بيانه عن وقت الحاجة ، " وكان الله عليما حكيما " الله يعلم كل شىء من أمور عباده وأحوالهم وهو الحكيم فى تشريعه ،" ومنيقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما " لما بين تعالى حكم القتل الخطأ شرع فى بيان حكم القتل العمد وفيه تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم الذى هو مقرون بالشرك بالله فى غير ما آية فى كتاب الله ففى سورة الفرقان " والذين لا يدعونمع الله آله آخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله الا بالحق " ، والآيات والأحاديث فى تحريم القتل كثيرةجدا ، ففى الحديث " لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم " ،وفى الحديث الآخر " لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل رجل مسل لأكبهم الله فى النار " ، وفىحديث آخر " من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله " ، وقال أبن عباس ما نسخها شىء ، عن عبد الله بن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " يجىء المقتول متعلقا بقاتله يوم القيامة آخذا رأسه بيده الأخرى فيقول يا رب سل فيم قتلنى ؟ فيقول : " قتلته لتكون العزة لك " فيقول : " فانها لى " ويجىء آخر متعلقا بقاتله فيقول : " رب سل هذا فيم قتلنى ؟ " فيقول : " قتلته لتكون العزة لفلان " قال : " فانها ليست له " بوء باثمه فيهوى فى النار سبعين خريفا " ، وعن معاوية قال : سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ذنب عسى الله أن يغفره الا الرجل يموت كافرا ، أو الجل يقتل مؤمنا متعمدا " ، وعن أبى الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ذنب عسى الله أن يغفره الا من مات مشركا ، أو من قتل مؤمنا متعمدا " ، والذى عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله عز وجل ، فان تاب وأناب ، وخشع وخضع ، وعمل عملا صالحا بدل الله سيآتهحسنات ، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عنطلابته قال تعالى " قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " وهذا عام فى جميع الذنوب من كفر وشرك ، وشك ونفاق وقتل وفسق وغير ذلك كل من تاب من ذلك تاب الله عليه ، وقال تعالى " ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " فهذه الآية عامة فى جميع الذنوب ما عدا الشرك ، فأما الآية الكريمة " ومن يقتل مؤمنا متعمدا " فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف هذا جزاؤه ان جازاه أو جزاءه ان جوزى عليه ، وكذا كل وعيد على ذنب لكن قد يكون ذلك معارضا من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك اليه ،وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فانهحق من حقوق الآدميين وهى لاتسقط بالتوبة ،ولكن لابد من ردها اليهم ولا فرق بين المقتول والمسروق منه ، والمغصوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين ، فان الاجماع منعقد على أنها لاتسقط بالتوبة،ولكن لابد منردها اليهم فى صحةالتوبة ، فان تعذر ذلك فلابد من المطالبة يوم القيامة ، لكن لايلزم منوقوع المطالبة وقوع المجازاة ، اذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف الى المقتول أو بعضها ، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة ، أو يعوض الله المقتول بما يشاء من فضله من قصور الجنة ونعيمها ، ورفع درجته فيها ، وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنه يخرجمن النار منكان فىقلبه أدنى مثقال ذرة من ايمان " .
يأيها الذين آمنوا اذا ضربتم
فى سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى اليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض
الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا ان
الله كان بما تعملون خبيرا 94
" يا أيها الذين آمنوا اذا ضربتم فى سبيل الله
فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى اليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الدنيا " الذى
نزلت فيه هذه الآية مختلف فيه فقال بعضهم نزلت فى محلم بن جثامة وقال بعضهم أسامة
بن زيد وقيل غير ذلك ، عن ابن عباس قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية
فيها المقداد ابن الأسود فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا وبقى رجل له مال كثير
لم يبرح فقال أشهد أن لا آله الا الله وأهوى اليه المقداد فقتله فقال له رجل من
أصحابه أقتلت رجلا شهد لا آله الا الله ؟ والله لأذكرن ذلك الى النبى صلى الله
عليه وسلم ، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : " يا رسول
الله ان رجلا شهد أن لا آله الا الله فقتله المقداد " فقال : " ادعوا لى
المقداد " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد : " اذا كان رجل
مؤمن يخفى ايمانه مع قوم كفار فأظهر ايمانه فقتلته فكذلك كنت تخفى ايمانك بمكة من
قبل " وفى قول آخر " يا مقداد أقتلت رجلا يقول لاآله الا الله فكيف لك
بلا آله الا الله غدا قال فأنزل الله الآية ، " فعند الله مغانم كثيرة "
عند الله خير مما رغبتم فيه من عرض الدنيا الذى حملكم على قتل مثا هذا الذى ألقى
اليكم السلام ، وأظهر لكم الايمان فتغافلتم عنه واتهمتموه بالمصانعة والتقية
لتبتغوا عرض الحياة الدنيا فما عند الله من الرزق الحلال خير لكم من مال ، "
كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم " كنتم من قبل هذه الحال التى أنتم عليها
نمن الايمان كهذا الذى يسر ايمانه ويخفيه من قومه ، كما قال الله فى آية أخرى
" واذكروا اذ كنتم قليل مستضعفون فى الأرض "وعن سعيد بن جبير قال تخفون
ايمانكم فى المشركين "فتبينوا" تأكدوا من الأمور الصحيحة دون اندفاع
،" ان الله كان بما تعملون خبيرا"
قال سعيد بن جبير هذا تهديد ووعيد أن اللهمطلع وخبير بكل أفعالكم فاتقوه .
لا يستوى القاعدون من المؤمنين
غير أولى الضرر والمجاهدون فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين
بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على
القاعدين أجرا عظيما * درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما 96
" لايستوى القاعدون من المؤمنين " عن البراء قال لما نزلت دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا فكتبها فجاء ابن أم مكتوم وكان رجلا أعمى فقال حين سمعها فشكا ضرارته فأنزل الله "غير أولى الضرر" وعن أبن عباس ان ذلك كان عن بدر والخارجون الى بدر ، وفى رواية أخرى أن عن زيد بن ثابت أن الرسول أخبره أن يكتب " لايستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون فىسبيل الله " فكتبت ذلك فى كتف فقام حين سمعها أبن أم مكتوم وكان رجلا أعمى فقال حين سمع فضيلة المجاهدين : " يارسول الله وكيف بمن لايستطيع الجهاد ومن هوأعمى وأشباه ذلك فنزلت مكانها " لايستوى القاعدون من المؤمنين من غير أولى الضرر والمجاهدون فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم " ، فقوله " لايستوى القاعدون من المؤمنين "كان مطلقا فلما نزل بوحى سريع "غير أولى الضرر" صار ذلك مخرجا لذوى الأعذار المبيحة لترك الجهاد من العمى والعرج والمرضى عن مساواتهم للمجاهدين فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ،وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ان بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير ولاقطعتم من واد الا وهم معكم فيه قالوا : " وهم بالمدينة يا رسول الله ؟ " قال : " نعم حبسهم العذر "،" فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة " اخبر تعالى بفضيلة المجاهدين على القاعدين قال أبن عباس, وهؤلاء من المؤمنين من غير أولى الضرر ، " وكلا وعد الله الحسنى " أى وعد الطرفين الجنة والجزاء الجزيل القاعدين والمجاهدين فى سبيل الله ، وفيه دلالة على أن الجهاد ليس بفرض عين بل هو فرض على الكفاية ، " وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما " أخبر سبحانه المجاهدين بما فضلهم به من الدرجات فى غرف الجنان العاليات ، ومغفرة الذنوب والزلات وأحوال الرحمة والبركات احسانا منه وتكريما ولهذا قال " درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما " ، وعن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ان فى الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين فى سبيله ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض " .
ان الذين توفاهم الملائكة
ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين فى الأرض قالوا ألم تكن أرض الله
واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا * الا المستضعفين من الرجال
والنساء والولدان لايستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأولئك عسى الله أن يعفو
عنهم وكان الله عفوا غفورا * ومن يهاجر فى سبيل الله يجد فى الأرض مراغما كثيرا
وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا الى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على
الله وكان الله غفورا رحيما 97 - 100
" ان الذين توافهم الملائكة ظالمى أنفسهم "قال
عكرمة نزلت هذه الآية فى شباب من قريش كانوا تكلموا بالاسلام بمكة منهم على بن
أمية بن خلف وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة وأبومنصور بن الحجاج والحارث بن زمعة ،
وقال الضحا كنزلت فى ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بمكةوخرجوا مع المشركين يوم بدر فأصيبوا فيمن أصيب ، فنزلت هذه الآية الكريمة عامة
فى كلمن أقام بين ظهرانى المشركين وهوقادر على الهجرة وليس متمكنا من اقامة الدين
فهوظالم لنفسه مرتكب حراما بالاجماع ، " قالوا فيم كنتم " لم مكثتم ها
هنا وتركتم الهجرة ، " قالوا كنا مستضعفين فى الأرض " قالوا لانقدر على
الخروج من البلد ولا الذهاب فى الأرض فكان الرد ، " قالوا ألم تكن أرض الله
واسعة فتهاجروا فيها " قال السدى : " لما أسر العباس وعقيل ونوفل قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس : " افد نفسك وابن أخيك " فقال :
" يارسول الله ألم نصل الى قبلتك ، ونشهد شهادتك قال : " يا عباس انكم
خاصمتم فخصمتم " ثم تلا عليه " ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها
" ، " فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا " هؤلاء جزاءهم جهنم وبئس
المصير ، " الا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لايستطيعون حيلة
ولايهتدون سبيلا " العذر لمن ترك الهجرة وهم من لبم يقدروا على التخلص من
أيدى المشركين ولو قدروا ما عرفوا الطريق من الرجال والنساء والولدان ، وعن أبى
هريرة قال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى العشاء اذ قال سمع
الله لمن حمده ، ثم قال قبل أن يسجد :" اللهم أنج عياش بن أبى ربيعة ، اللهم
أنج سلمة بن هشام ، اللهم أنج الوليد بن الوليد ، اللهم أنج المستضعفين من
المؤمنين ، اللهم أشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف " ،
وعن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يده بعد ما سلم وهومستقبل
القبلة فقال : " اللهم خلص الوليد بن الوليد ، وعياش بن أبى ربيعة ، وسلمة بن
هشام ، وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعونحيلة ولا يهتدون سبيلا من أيدى الكفار
" ، " فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله غفورا رحيما " هؤلاء
يمكن أن يتجاوز الله عنهم بترك الهجرة فهو واسع المغفرة وواسع الرحمة ، " ومن
يهاجر فى سبيل الله يجد فى الأرض مراغما كثيرا وسعة " هذا تحريض على الهجرة ، وترغيب فى مفارقة المشركين
، وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة ، وملجأ يتحصن فيه ، والمراغم مصدر تقوا
تاعرب راغم فلان قومه مراغما ومراغمة ، وقال أبن عباس المراغم التحول من أرض الى
أرض ، وقال مجاهد متزحزحا عما يكره ، أو أنه المنع الذى يتخلص به ، ويراغم به
الأعداء ، " وسعة " يعنى الرزق او سعة أى من الضلالة الى الهدى ، ومن
القلة الى الغنى ، " ومن يخرج من بيته مهاجرا الى الله ورسوله ثم يدركه الموت
فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما " ومن يخرج من منزله بنية
الهجرة فما أثناء الطريق فقد حصل له عند الله ثواب من هاجر ، فعن عمر بن الخطاب
رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " انما الأعمال
بالنيات وانما لكب أمرىء ما نوى ، فمن كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى
اللهورسوله ، ومنكانت هجرته الىدنيا يصيبها ، أو أمرأة يتنوجها فهجرته الى ما هاجر
اليه " وهذا عام فى الهجرة وفى جميع الأعمال ، وعن عبد الله بن عتيك قال :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من خرج من بيته مجاهدا فى سبيل
الله ، ثم قال " وأين المجاهدون فى سبيل الله" فخر عن دابته فمات فقد
وقع أجره على الله ، أو لدغته دابة فمات فقد وقع أجره على الله ، أومات حتف أنفه
فقد وقع أجره على الله " يعنى بحتف أنفه على فراشه والله انها لكلمة ما
سمعتها من أحد منالعرب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن قتل قعصا فقد
أستوجب الجنة " ، وعن الزبير بن العوام قال : " هاجر خالد بن حزام الى
أرض الحبشة فنهشته حية فى الطريق فمات فنزلت الآية ، هذا الأثر غريب جدا ، فان هذه
القصة مكية ونزول هذه الآية مدنى ، فلعله أراد أنها تعم حكمه مع غيره ، وان لم يكن
ذلك سبب النزول ، وقال أبن عباس خرج ضمرة بن جندب الى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فمات فى الطريق قبل أن يصل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية .
واذا ضربتم فى الأرض فليس
عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ان خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ان الكافرين كانوا
لكم عدوا مبينا 101
" واذا ضربتم فى الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا
من الصلاة ان خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ان الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا "ذلكعند
القتال يصلى الرجل لراكب تكبيرتين حيث كانوجهه وقثال السدىان الصلاة اذا صليت
ركعتين فى السفر فهى تمام التقصير لايحل الا أن يخاف من الذين كفروا أن يفتنوه عن
الصلاة فالتقصير ركعة ،وعن سماك الحنفى قال : سألت أبن عمر عن صلاة السفر فقال :
ركعتان تمام غير قصر ، انما القصر فى صلاة المخافة ، فقلت وما صلاة المخافة ؟ فقال
: يصلى الامام ركعةثم يجىء هؤلاء الى مكان هؤلاء وهؤلاء الى مكنا هؤلاء فيصلى بهم
ركعة فيكون للامام ركعتان ولكل طائفة ركعة ، وعن عبد الله بنعباس قال : فرض الله
الصلاة على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم فى الحضر أربعا وفى السفر ركعتين ،
وفى الخوف ركعة ، فكما يصلى فى الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلى فى السفر ، صلاة
الحضر أى عدم السفر أو المقيم اربع ركعات .
واذا كنت فيهم فأقمت لهم
الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فاذا سجدوا فليكونوا منورائكم ولتأت
طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو
تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم ان كان بكم
أذى من مطر أوكنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم ان الله أعد للكافلاين عذابا
مهينا 102
صلاة الخوف أنواع كثيرة ، فان العدو تارة يكون تجاه
القبلة ، وتارة يكون فى غير صوابها ، والصلاة تكون رباعية ، وتارة تكون ثلاثية
كالمغرب : وتارة تكون ثنائية كالصبح وصلاة السفر ، ثم تارة يصلون جماعة ، وتارة
يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة ، بل يصلون فرادى مستقبلى القبلة وغير
مستقبليها ، ورجالا وركبانا ، ولهم أن يمشوا والحالة هذه ويضربون الضرب المتتابع
فى متن الصلاة ، ومن العلماء من قال يصلون والحالة هذه ركعة واحدة ، وعنمحمد بن
نصر المروزى أنه يرى رد الصبح الى ركعة واحدة فى الخوف و ، وقال اسحاق بن راهويه :
أما عند المسابقة فيجزيك ركعة تومىء بها ايماء ، فان لم تقدر فسجدة واحدة لأنها
ذكر الله ، وقال آخرون يكفى تكبيرة واحدة فلعله أراد ركعة واحدة كما قال الامام
أحمد بن حنبل ، قال الأوزاعى ان كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا ايماء
كل أمرىء لنفسه ، فاذا لم يقدروا على الايماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال أو
يأمنوا فيصلوا ركعتين ، فان لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين ، فان لم يقدروا
فلايجزيهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا " واذا كنت فيهم فأقمت الصلاة " اذا
صليت بهم اماما فى صلاة الخوف فان تلك قصرها الى ركعة كما دل عليه الحديث - فرادى
ورجالا وركبانا مستقبلى القبلة وغير مستقبليها ، واستدل على وجوب الجماعة من هذه
الآية الكريمة حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة فلولا أنها واجبة ما ساغ ذلك ،
عن أبى عياش الزرقى قال : " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان
فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد بيننا وبين القبلة فصلى بنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم الظهر فقالوا لقد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم ، ثم قالوا
يأتى عليه الآن صلاة هى احب اليهم من أبنائهم وأنفسهم قال فنزل جبريل بهذه الآيات
بين الظهر والعصر " واذا كنت فيهم فأقمت الصلاة " قال فحضرت فأمرهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح فصففنا خلفه صفين ، ثم ركع فركعنا جميعا،
ثم سجد النبى صل الله عليه وسلم بالصف الذى يليه والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما
سجدوا فى مكانهم ثم تقدم هؤلاء الى مصاف هؤلاء ، ثم هؤلاء الى مصاف هؤلاء ثم فركع
فركعوا جميعا ، ثم رفع فرفعوا جميعا ، ثم سجد النبى صلى الله عليه وسلم والصف الذى
يليه والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا ، ثم سلم عليهم ، ثم
انصرف ، قال فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرة بعسفان ومرة بأرض بنى
سليم ، وعن أبن عباس قال : " قام
النبى صلى الله عليه وسلم وقام الناس معه ، فكبر وكبروا معه ، وركع وركعناس منهم ،
ثم سجد وسجدوامعه ثم قام للثانية فقام الذين سجدوا وحرسوا أخوانهم وأتت الطائفة
الأخرى فركعوا وسجدوا معه والناس كلهم فى الصلاة ،ولكن يحرس بعضهم بعضا ، عن سالم
عن أبيه قال هى صلاة الخوف : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحدى الطائفتين
ركعة والطائفة الأخرى مقبلة على العدو ، وأقبلت الطائفة الأخرى التى كانت مقبلة
على العدو فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة أخرى ثم سلم بهم ، ثم قامت
كل طائفة منهم فصلت ركعة ركعة ، وأما الأمر بحما السلاح فى صلاة الخوف فمحمول عند
كائفة من العلماء على الوجوب لظاهر الآية ويدل عليه قوله تعالى " ولا جناح
عليكم ان كان بكم أذى من مطر أوكنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم " أى
بحيث تكونون على أهبة اذا احتجتم اليه لبستموها بلا كلفة، " ان الله أعد
للكافرين عذابا مهينا " الكافرين الذين تقاتلهم سيجازيهم بالله بالعذاب
المهين فى جهنم فى الآخرة .
فاذا قضيتم الصلاة فاذكروا
الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فاذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة ان الصلاة كانت على
المؤمنين كتابا موقوقتا * ولا تهنوا فى ابتغاء القوم ان تكونوا تألمون فانهم
يألمنون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما 103 - 104
" فاذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قيما وقعودا وعلى
جنوبكم " يأمر الله تعالى بكثرة الذكر عقب صلاة الخوف وان كانمشروعا مرنبا
فيه ايضا وأكد ما وقع من التخفيف فى أركانها ، ومن الخصة فى الذهاب والاياب اذكروا
الله فى سائر أحوالكم ، " فاذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة " فاذا أمنتم
وذهب الخوف ،وحصلت الطمأنينة فأتموا الصلاة وأقيموها كما أمرتم بحدودها ،وخشوعها ،
وركوعها , وسجودها ،وجميع شؤنها ، " ان الصلاة كانت على المؤمنين كتابا
موقوتا " الصلاة لها وقتا مفروضا كوقت الحج ، كلما مضى وقت جاء وقت ، "
ولا تهنوا فى ابتغاء القوم " لاتضعفوا فى طلب عدوكم ، بل جدوا فيهم ،
وقاتلوهم ، واقعدوا لهم كل مرصد ، " ان تكونوا تألمون فانهم يألمونكما تألمون
" كما يصيبكم الجراح والقتل كذلك يحصل لهم ، كما قال تعالى " ان يمسسكم
قرح فقدمس القوم قرح مثله " ، " وترجون من الله مالايرجون " أنتم
وأياهم سواء فيما يصيبكم ، واياهم من الجراح والآلام ، ولكن أنتم ترجون من الله
المثوبة والنصر والتأييد كما وعدكم اياه فى كتابه وعلى لسان رسوله محمد صلى الله
علبه وسلم وهووعد حق ،وخبر صدق ، وهم لايرجون شيئا من ذلك فأنتم أولى بالجهاد منهم
،وأشد رغبة فيه ، وفى اقامة كلمة الله واعلائها ، " وكان الله عليما حكيما
" هو أعلم فيما يقدره ويقضيه وينفذه ويمضيه من أحكامه الكونية والشرعية وهم
المحمود على كل حال .
انا أنزلنا اليك الكتاب بالحق
لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما * واستغفر الله ان الله كان
غفورا رحيما * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ان الله لايحب من كان خوانا
أثيما * يستخفون من الناس ولايستخفون من الله وهو معهم اذ يبيتون مالايرضى من
القول وكان الله بما يعملون محيطا * ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم فى الحياة الدنيا
فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليه وكيلا 106 - 109
" انا أنزلنا اليك الكتاب با لحق " يقول الله
تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم انا أنزلنا عليك القرآن وهوحق من الله
ويتضمن الحق فى خبره وطلبه ، " لتحكم بين الناس بما أراك الله " احتج به
من ذهب من علماء الأصول ا لى أنه كان صلى الله عليه وسلم له أن يحكم بالاجتهاد ،
وعن أبن عباس أن نفرا من الأنصار غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض
غزواته فسرقت درع لأحدهم فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
:" ان طعمة بن أبيرق سرق درعى ، فلما رأى السارق ذلك عمد اليها فألقاها فى
بيت رجل برىء وقال لنفر من عشيرته انى غيبت الدرع وألقيتها فى بيت فلان وستوجد
عنده ، فانطلقوا الى نبى الله صلى الله عليه وسلم ليلا فقالوا : يا نبى الله ان
صاحبنا برىء وان صاحب الدرع فلان وقد أحطنا بذلك علما فاعذر صاحبنا على رؤس الناس
وجادل عنه ، فان لم يعصمه الله بك يهلك ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه
وعذره على رؤس الناس فأنزل الله " انا أنزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين
الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما * واستغفر الله ان الله كان غفورا
رحيما *ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ان الله لايحب من كان خوانا أثيما "يأمر
الله تعالى بطلب المغفرة من رسوله لتوسطه لمن سرق الدرع وأنه لو استغفروا الله
لغفر لهم لأنه هو الغفور الرحيم ، وينهى الله عن المجادلة أى الدفاع عن الذين
يفعلون الخطأ ويرمون به شخصا بريئا فهو لايحب من يفعل ذلك ، " يستخفون من
الناس ولايستخفون من الله وهو معهم اذ يبيتون ما لايرضى من القول وكان الله بما
يعملون محيطا " يعنى الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين حيث
انطلقوا الى نبى الله صلى الله عليه وسلم ليلا مستخفين بالكذب يجادلون عن الخائنين
يبيتون وفى نفوسهم فعل شىء لايرضى عنه الله لنصرة سارق والصاق التهمة ببرىء والله
يعلم ما يخفون ويدبرون فهو محيط بعلمه بكل شىء وهذا فيه تهديد ووعيد لهم ،
"ها أنتم جادلتم عنهم فى الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة " هب أن هؤلاء انتصروا فى الدنيا بما أبدوه
أو أبدى لهم عند الحكام الذين يحكمون بالظاهر وهم متعبدون بذلك فماذا يكون صنيعهم
يوم القيامة بين يدى الله تعالى الذى يعلم السر وأخفى ، ومن ذا الذى يتوكل لهم
يومئذ يوم القيامة فى ترويج دعواهم ، أى لاأحد يكون لهم وكيلا ولهذا قال " أم
من يكون عليهم وكيلا" ، وعن أم سلمة قالت : جاء رجلان من الأنصار يختصمان الى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مواريث بينهما قد درست ليس عندهما بينة ، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انكم تختصمون الى وانما أنا بشر ، ولعل
بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، وانما أقضى بينكم على نحو ما أسمع ، فمن قضيت
له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فانما أقطع له قطعة من النار يأتى بها أنتظاما فى
عنقه يوم القيامة " فبكى الرجلان وقال كل منهما : حقى لأخى ، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : " أما اذا قلتما فاذهبا فاقتسما ، ثم توخيا الحق بينكما
ثم استهما ، ثم ليحلل كل منكما صاحبه " وقد رواه أبو داود من حديث أسامة بن
زيد بن وراد حيث وردفيه " انى انما أقضى بينكما برأى فيما لم ينزل على فيه
" .
ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم
يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما * ومن يكسب اثما فانما يكسبه على نفسه وكان الله
عليما حكيما * ومن يكسب خطيئة أو اثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا واثما
مبينا * ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون الا
أنفسهم وما يضرونك من شىء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم
وكان فضل الله عليك عظيما 110 - 113
"ومن يعمل سواءا أويظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " يخبر الله تعالى عن كرمه وجوده أن كل من تاب اليه تاب عليه من اى ذنب كان وعن أبن عباس قال فى هذه الآية أخبر الله عباده بعفوه ، وحلمه ، وكرمه ، وسعة رحمته ، ومغفرته ، فمن أذنب ذنبا صغيرا كان أو كبيرا ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال ، قال أبو بكر رضى الله عنه :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلم يذنب ذنبا ، ثم يصلى ركعتين ، ثم يستغفر الله لذلك الذنب الا غفر الله له لأن الله يقول " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " ،" ومن يكسب اثما فانما يكسبه على نفسه " لايغنى أحد عن أحد وانما على كل نفس ما عملت لايحمل عنها لغيرها ، كقوله " ولا تزر وازرة وزر أخرى " ولهذا قال تعالى " وكان الله عليما حكيما " من حكمته وعلمه وعدله ورحمته ان يحاسب كل بعمله وكل نفس لها ما عملت ، " ومن يكسب خطيئة أو اثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا واثما مبينا "كما أتهم بنو أبيرق بصنيعهم القبيح الرجل الصالح لبيد بن سهل ، أو زيد بن السمين اليهودى على ما قاله الآخرون وقد كان بريئا وهم الظلمة الخونة كما أطلع الله على ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم هذا التقريع وهذا التوبيخ عام فيهم وفى غيرهم ممن اتصف بصفتهم فارتكب مثل خطيئتهم فعليه مثل عقوبتهم وأصابه الزور وما عليه من عقاب وارتكب ذنبا واضحا ينال عقوبته من الله سبحانه وتعالى فى الآخرة ، " ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون الا أنفسهم وما يضرونك من شىء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما " هذا فى بنى أبيرق وما فعلوه ويعنى أسيد بن عروة وأصحابه الذين ذهبوا الى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا " ان قتادة بن النعمان وعمه عمدا الى أهل بيت منا أهل اسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت "وكان طعمة هومن سرق الدرع ولاموا قتادة بن النعمان كونه أتهمهم وهم صلحاء برىء ولم يكن الأمر كما اتهموه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا أنزل الله فصل تاقضية وجلاءها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم امتن عليه بتأييده اياه فى جميع الأحوال ، وعصمته له ، وما أنزل عليه من الكتاب ، وهو القرآن والحكمة ،وهى السنة " وعلمك ما لم تكن تعلم " أى قبل نزول ذلك عليك كقوله " وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب " ، وقال تعالى " وما كنت ترجو أن يلقى اليك الكتاب الا رحمة من ربك " ولهذا قال " وكان فضل الله عليك عظيما " .
لاخير فى كثير من نجواهم الا
من أمر بصدقة أومعروف أو اصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف
نؤتيه أجرا عظيما * ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل
المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا 114 - 115
" لاخير فى كثير من نجواهم الا من أمر بصدقة أو
اصلاح بين الناس " لاخير فى كلام الناس الا من كان فى كلامه أمر بصدقة أو
اصلاح لذات البين ومن يفعل ذلك مخلصا محتسبا ثواب ذلك عند الله عز وجل فسوف يؤتيه
ثوابا جزيلا واسعا ، وعن أمحبيبة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" كلام أبن آدم كله عليه لا له الا ذكر الله عز وجل ، أو أمر بمعروف ، أو
اصلاح بين الناس " ، وعن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لأبى أيوب :
" ألا أدلك على تجارة " قال : " بلى يا رسول الله " قال :
" تسعى فى اصلاح بين الناس اذا تفاسدوا وتقارب بينهم اذا تباعدوا " ،
" ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما " وم ذلك مخلصا
محتسبا ثواب ذلك عند الله عز وجل يأتيه الله ثوابا جزيلا كثيرا واسعا وهو الجنة ،
" ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى " ومن سلك غير طريق الشريعة
التى جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم فصار فى شق والشرع فى شق وذلك عن عمد منه
بعد ما ظهر له الحق وتبين له واتضح له ، " ويتبع غير سبيل المؤمنين "
يتبع المخالفة لنص الشارع ولما أجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه
تحقيقا ، وعول الشافعى رحمه الله على ذلك فى الاحتجاج على كون الاجماع حجة تحرم
مخالفته بعد التروى والفكر الطويل وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها " نوله ما
تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " من سلك هذا الطريق جازيناه على ذلك بأن نحسنها
فى صدره ونزينها له استدراجا له كما قال تعالى " فذرنى ومن يكذب بهذا الحديث
سنستدرجهم من حيث لايعلمون " ويكون مصيره النار فى الآخرة لأن من خرج عن
الهدى لم يكن له الا النار يوم القيامة .
ان الله لا يغفر أن يشرك به
ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا * ان يدعون من دونه الا
اناثا وان يدعون الا شيطانا مريدا * لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا
* ولأضلنهم ولأمنينهم ولأمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولأمرنهم فليغيرن خلق الله
ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا * يعدهم ويمنيهم وما
يعدهم الشيطان الا غرورا * أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا * والذين آمنوا
وعملوا الصاللحات سندخلهم جنات تجرىمن تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله
حقا ومن أصدق من الله قيلا 116 - 127
" ان الله لايغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " ان الله يغفر كل الذنوب الا أن يشرك به بارادته لمن يستحق ذلك من عباده بعلمه وحكمته ، " ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا " ومن يشرك بالله فقد سلك غير الطريق الحق وضل عن الهدى وبعد عن الصواب وأهلك نفسه وخسرها فى الدنيا والآخرة وفاتته سعادة الدنيا والآخرة ، " ان يدعون من دونه الا انثا وان يدعون الا شيطانا مريدا " عن أبى بن كعب قال مع كل صنم جنية ، وعن عائشة رضى الله عنها قالت أوثانا ، وعن الضحاك :" قال المشركون للملائكة بنات الله ، وانما نعبدهم ليقربونا الى الله زلفى فاتخذوهن أربابا وصورهن جوارى فحكموا وقلدوا وقالوا هؤلاء يشبهن بنات الله الذى نعبده يعنون الملائكة كما قال تعالى " أرأيتم اللات والعزى " كما قال " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن اناثا "وقال " وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا " ،" وان يدعون الا شيطانا مريدا " الشيطان هو الذى أمرهم بذلك وحسنه وزينه لهم وهم انما يعبدون ابليس فى نفس الأمر كما قال تعالى " ألم اعهد اليكم يا بنى آدم ألا تعبدو الشيطان انه لكم عدومبين " ،" لعنه الله " طرده وأبعده من رحمته وأخرجه من جواره ، " وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا " الشيطان يقول أنه سيتخذ من الناس الذين هم عباد الله جزءا معينا مقدرا معلوما يتبعونه ، قال قتادة من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون الى النار ، وواحد الى الجنة ، " ولأضلنهم " اى أبعدهم عن الحق " ولأمنينهم " ازين لهم ترك التوبة ، وأعدهم الأمانى ، وآمرهم بالتسويف والتأخير ، وأغرهم من أنفسهم ، " ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام " أأمرهم أن يشقوا آذان الأنعام وجعلها سمة ،وعلامة للبحيرة والسائبة والوصيلة ، " ولأمرنهم فليغيرن خلق الله " قال ابن الحسن البصرى يعنى بذلك الوشم ، وفى صحيح مسلم النهى عن الوشم فى الوجه ، وفى الصحيح عن ابن مسعود أنه قال : " لعن الله الواشمات والمستوشمات ، والنامصات والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عزوجل " ،وقال أبن عباس يعنى دين الله وهذا كقوله " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التى فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله " لاتبدلوا فطرت الله ودعوا الناس على فطرتهم كما ثبت فى الصحيحين عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تجدون بها من جدعاء " ،أى يطيعون الشيطان ويتبهونه فى كل ما يأمرهم حتى لو قال لهم شقوا آذان الأنعام وحتى لو أمرهم أن يفعلوا شىء فى أنفسهم ، وفى عصرنا الحالى يوجد عبدة الشيطان وعبادة الشيطان ولها معابد وطقوس ، وعبدة الشيطان يتخذون لبس وهيئة معينة كما يعتقدون ترضى الشيطان ، "ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا "من يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر الدنيا والآخرة وتلك خسارة لاجبر لها ولا استدراك لفائتها ، " يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان الا غرورا " هذا اخبار عن الواقع فان الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون فى الدنيا والآخرة وقد كذب وافترى فى ذلك ولهذا قال " وما يعدهم الشيطا ن الا غرورا ، كما قال ابليس عن يوم المعاد " وقال الشيطان لما قضى الأمر ان الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان الا أن دعوتكم فاستجبتم لى " ، " أولئك المستحسنون له فيما وعدهم وما نهاهم " مأواهم جهنم " مصيرهم ومآلهم يوم القيامة جهنم وبئس المصير "ولا يجدون عنها محيصا " ليس لهم عنها مندوحة ولا مصرف ، ولا خلاص ، ولا مناص ، " والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا " ذكر الله تعالى حال السعداء والأتقياء وما لهم من كرامة تامة الذين صدقت قلوبهم وعملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات ، وتركوا ما نهوا عنه من المنكرات يدخلهم الله جنات يصرفونها حيث شاءوا وأين شاءوا خالدين فيها بلا زوال ولا انتقال ، " وعد الله حقا " هذا وعد من الله وعد معلوم حقيقة أنه واقع لا محالة ولهذا أكده بالمصدر الدال على تحقيق الخبر وهو قوله حقا ، " ومن أصدق من الله قيلا " لاأحد أصدق منه قولا أى خبرا لا آله الا هو ولا رب سواه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى خطبته : " ان أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة فى النار " .
ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل
الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا * ومن يعمل من
الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا * ومن
أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة ابراهيم حنيفا واتخذ الله ابراهيم
خليلا * ولله ما فى السموات وما فى الأرض وكان الله بكل شىء محيطا 123 - 126
" ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجدلهمن دون الله وليا ولا نصيرا " ليس لكم النجاة بمجرد التمنى ، بل العبرة بطاعة الله سبحانه واتباع ما شرعه على أ لسنة الرسل الكرام ، ولهذا قال بعده " من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا "أى أن الله سحاسب كل واحد بعمله ولن ينفعه أحد من دون الله لن يجد أحا يواليه أو ينصره ، قال قتادة أن أهل الكتاب والمسلمين افتخروا ، فقال أهل الكتاب نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ، فنحن أولى بالله منكم ، وقال المسلمون نحن أولى بالله منكم ونبينا خاتم النبيين ، وكتابنا يقضى على الكتب التى كانت قبله فأنزل الله الآية ، قال أبن عباس فى هذه الآية تخاصم أهل الأديان ، فقال أهل التوراة : " :تابنا خير الكتب ، ونبينا خير الأنبياء ، وقال أهل ألنجيل مثل ذلك ، وقال أهل الاسلام : " لادين الا الاسلام ، وكتابنا نسخ كل الكتب ، ونبينا خاتم النبيين ، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا فقضى الله بينهم بقوله فى الآية ، وقد روى ان هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثير من الصحابة فقال أبا بكر رضى الله عنه : " يارسول الله كيف الفلاح بعد هذه الآية " ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به " فكل سوء عملناه جزينا به ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم : " غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض ، ألست تنصب ، ألست تحزن ، ألست تصيبك اللأواء "قال : " بلى " قال : " فهو مما تجزون به " ، وعن أبى سعيد وأبى هريرة أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وشلم يقول : " ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه الا كفر الله من سيئاته " ، " ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهومؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقبرا "لما ذكر الجزاء على السيآت وأنه لابد أن يأخذ مستحقها من العبد اما فى الدنيا وهو الأجود له ، واما فى الأخرة والعياذ بالله من ذلك شرع فى بيان احسانه وكرمه فى قبول الأعمال الصالحة من عباده ، ذكرانهم وأناثهم بشرط الايمان ، وأنه سيدخلهم الجنة ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النقير ، وهو النقرة التى فى ظهر نواة التمرة الذين يعملون الصالحات ذكورا أوأناثا جزاءهم الجنة جزاءا عادلا غير منقوص ولو بأقل القليل ، " وم أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله " ليس هناك أفضل من أخلص العمل لربه عز وجل فعمل ايمانا واحتسابا ، " وهومحسن " اتبع فى عمله ما شرعه الله له وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق ، وهذان الشرطان لايصح عمل عامل بدونهما أى يكون خالصا صوابا والخاص أن يكون لله ، والصواب أن يكون متابع للشريعة فيصح ظاهره بالمتابعة ، وباطنه الاخلاص فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد فمتى فقد الاخلاص كان منافقا ومن فقد المتابعة كان ضالا جاهلا ومتى جمعهما كان عمل المؤمنين الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم ولهذا قال " واتبع ملة ابراهيم حنيفا " وهم محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه الى يوم القيامة ، " واتخذ الله ابراهيم خليلا " هذا من باب الترغيب فى اتباعه ، لأنه امام يقتدى به حيث وصل الى غاية ما يتقرب به العباد له فانه انتهى الى درجة الخلة التى هى أرفع مقامات المحبة ، وسمى خليل الله لشدة محبته لربه عز وجل لما قام له به من الطاعة التى يحبها ويرضاها ، " ولله ما فى السموات وما فى الأرض "الجميع ملكه وعبيده وخلقه وهو المتصرف فى جميع ذلك لا راد لما قضى ولا معقب لما حكم ولا يسأل عما يفعل لعظمته وقدرته وعدله وحكمتة ولطفه ورحمته ، " وكان الله بكل شىء محيطا " علمه نافذ فى جميع ذلك لاتخفى عليه خافية من عباده ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ولا تخفى عليه ذرة لما تراءى للناظر وما توارى .
ويستفتونك فى النساء قل الله
يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم فى الكتاب فى يتامى النساء اللاتى لاتؤتوهن ما كتب لهن
وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا
من خير فان الله كان به عليما 127
" ويستفتونك فى النساء قل الله يفتيكم فيهن وما
يتلى عليكم فى الكتاب فى يتامى النساء اللاتى لاتؤتوهن ماكتب الله لهن وترغبون أن
تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط " قالت عائشة رضى
الله عنها تتحدث الاية عن الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها فأشركته فى
ماله حتى فى العذق فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه فى ماله بما
أشركته فيعضلها فنزلت الآية ، وقال عروة بن الزبير أن عائشة رضى الله عنها قالت :
" ثم ان الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن
فأنزل الله ألاية والذى ذكر الله أنه يتلى عليه فى الكتاب من قبل ذلك " وان
خفتم أن لاتقسطوا فى اليتامى -------" ، " وترغبون أن تنكحوهن "
رغبة أحدكم عن يتيمته التى تكون فى حجره حتى تكون قليلة المال والجمال فنهوا أن
ينكحوا من رغبوا فى مالها وجمالها من يتامى النساء الا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن
، والمقصود أن الرجل اذا كان فى حجره يتيمة يحل له تزويجها ، فتارة يرغب فى أن
يتزوجها فأمره الله أن يمهرها أسوة أمثالها من النساء ، فان لم يفعل فليعدل الى
غيرها من النساء فقد وسع الله عز وجل ، وتارة لايكون له رغبة فيها لدمامتها عنده
أو فى نفس الأمر فنهاه الله أن يعضلها عن الأزواج خشية أن يشركوه فى ماله الذى
بينه وبينها ، وعن أبن عباس قال : " كان الرجل فى الجاهلية تكون عنده اليتيمة
فيلقى عليها ثوبه ، فان فعل ذلك فلم يقدر أحد أن يتزوجها أبدا ، وان كانت جميلة
وهويها تزوجها وأكل مالها وان كانت دميمة منعها الرجال أبدا حتى تموت ، فان ماتت
ورثها ، فحرم الله ذك ونهى عنه ، " والمستضعفين من الولدان " كانوا فى
الجاهلية لايورثون الصغار ولا البنات وذلك قوله " لاتؤتوهن ما كتب الله لهن
" فنهى الله عن ذلك وبين لكل ذ ى سهم سهمه فقال " للذكر مثل حظ الأنثيين
" صغيرا أو كبيرا ، " وأن تقوموا لليتامى بالقسط " أن تعدلوا فى
شأن اليتامى سواء أكانت اليتيمة ذات جمال ومال ونكحتها واستأثرت بها وكذلك اذا لم
تكن ذات مال ولا جمال فأنكحها وأستأثرت بها ،من كان مسؤلا عليه القيام بالقسط أى
العدل فى شأن اليتامى من النساء وتطبيق ما شرعه الله ، " وما تفعلوا من خير
فان الله كان به عليما " حث على فعل الخيرات ، وامتثالا للأوامر ، وأن الله
عز وجل عالم بجميع ذلك وسيجزى عليه أوفر الجزاء وأتمه .
وان امرأة خافت من بعلها نشوذا
أو اعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح
وان تحسنوا وتتقوا فان الله كان بما تعملون خبيرا * ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين
النساء ولوحرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وان تصلحوا وتتقوا فان الله
كان غفورا رحيما * وان يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما 128 -
130
" وان امرأة خافت من بعلها نشوذا أو اعراضا فلا
جناح عليهما ان يصلحا بينهما صلحا والصلح خير" يقول تعالى مخبرا ومشرعا من
حال الزوجين ، تارة فى حال الرجل عن المرأة ، وتارة فى حال اتفاقه معها ، وتارة فى
حال فراقه لها ، عن أبن سيرين قال : " جاء رجل الى عمر بن الخطاب رضى الله
عنه فسأله عن الآية فقال له :" هذه المرأة تكون عند الجل قد خلا من سنها
فتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها فما اصطلحا عليه من شىء فهوجائز ، وعن خالد بن
عرعرة قال : " جاء رجل الى على بن أبى طالب فسأله عن الآية فقال له : "
يكون الرجل عنده المرأة فتنبو عيناه عنها مندمامتها ، أو كبرها ، أو سوء خلقها ،
أو قذذها فتكره فراقه ، فان وضعت له من مهرها شيئا حل له ، وان جعلت له من أيامها
فلا حرج ، وقال الشافعى عن أبن المسيب أن بنت محمد بن مسلم كانت عند رافع بن خديج
فكره منها أمرا اما كبرا أو غيره فأراد طلاقها فقالت لاتطلقنى واقسم لى بذلك فأنزل
الله عز وجل الآية ، وعن سعيد بن المسيب أن السنة فى هاتين الآيتين اللتين ذكر
الله فيهما نشوذ الرجل واعراضه عن امرأته وأن يؤثر عليها فان من الحق أن يعرض
عليها أن يطلقها أوتستقر عنده على ما كانت من أثرة فى القسم من ماله ونفسه صلح ذلك
وكان صلحها عليه ، وذكر أن رافع بن خديج الأنصارى وكان من أصحاب النبى صلى الله
عليه وسلم كانت تحته امرأة حتى اذا كبرت تزوج عليها فتاة شابة وآثر عليها الشابة
فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة ثم أمهلها حتى اذا كادت تحل راجعها ثم عاد فآثر
عليها الشابة فناشدته الطلاق فقال لها ما شئت انما بقيت لك تطليقة واحدة فان شئت
استقررت على ما ترين من الأثرة وان شئت فارقتك فقالت لابل أستقر على الأثرة
فأمسكها على ذلك فكان ذلك صلحهما ولم ير رافع عليه اثما حين رضيت أن تستقر عنده
على لأثرة فيما آثر به عليها ، " والصلح خير " عن أبن عباس قال التخيير
أن يخير الزوج لها بين الاقامة والفراق خير من تمادى الزوج على أثرة غيرها عليها
والظاهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج وقبول الزوج ذلك خير من المفارقة
بالكلية كما أمسك النبى صلى الله عليه سودة بنت زمعة على أن تركت يومها لعائشة رضى
الله عنها ولم يفارقها بل تركها من جملة نسائه وفعله ذلك لتتأسى به أمته فى
مشروعية ذلك وجوازه فهو أفضل فى حقه صلى الله عليه وسلم ، ولما كان الوفاق أحب الى
الله من الفراق قال " والصلح خير " بل الطلاق بغيض اليه سبحانه وتعالى
ولهذا جاء فى الحديث عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" أبغض الحلال الى الله الطلاق " ، " واحضرت الأنفس الشح "
الصلح عند المشاحة خير من الفراق ، " وان تحسنوا وتتقوا فان الله كان بما
تعملون خبيرا " وان تتجشموا مشقة الصبر على ما تكرهون منهن وتقسموا لهن أسوة
أمثالهن فان الله عالم بذلك وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء ، " ولن تستطيعوا
أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين
النساء من جميع الوجوه فانه وان وقع القسم الصورى ليلة وليلة فلابد من التفاوت فى
المحبة والشهوة والجماع ، وعن أبن مليكة قال نزلت هذه الآية فى عائشة ، يعنى كان
النبى صلى الله عليه وسلم يحبها أكثر من غيرها قالت : " كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول " اللهم هذا قسمى فيما أملك فلا
تلمنى فيما تملك ولا أملك " يعنى القلب ، " فلا تميلوا كل الميل "
فاذا ملتم الى واحدة منهن فلا تبالغوا فى الميل بالكلية ، " فتذروها كالمعلقة
" فتبقى الأخرى معلقة وقال أبن عباس لاذات زوج ولا مطلقة ، وعن أبى هريرة قال
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من كانت له امرأتان فمال الى
احداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط " ، " وان تصلحوا وتتقوا فان
الله كان غفورا رحيما " وان أصلحتم فى أموركم وقسمتم بالعدل فيما تملكون
واتقيتم الله فى جميع الأحوال غفر الله لكم ما كانمن ميل الى بعض النساء دون بعض ،
" وان يتفرقا يغن الله كلا وكان الله واسعا حكيما " الحلة الثالثة هى
الفراق وقد أخبر الله تعالى أنهما اذا تفرقا فان الله يغنيه عنها ويغنيها عنه بأن
يعوضه الله من هو خير له منها ويعوضها عنه بمن هو خير لها منه ، " وكان الله
واسعا حكيما " ان الله واسع الفضل عظيم المن حكيما فى جميع أفعاله وأقداره
وشرعه .
ولله ما فى السموات وما فى
الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم واياكم أن أتقوا الله وان تكفروا
فان لله ما فى السموات وما فى الأرض وكان الله غنيا حميدا * ولله ما فى السموات
وما فى الأرض وكفى بالله وكيلا * ان يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله
على ذلك قديرا * من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله
سميعا بصيرا 131 - 134
135
" ولله ما فى السموات وما فى الأرض " يخبر الله تعالى أنه مالك السموات والأرض وأنه الحاكم فيهما ولهذا قال " ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم واياكم " وصيناكم بما وصيناهم به من تقوى الله عزوجل بعبادته وحده لاشريك له ، " وان تكفروا فان لله ما فى السموات وما فى الأرض " وان وقع منكم انكار للايمان بالله تعالى وكفر وبه وبعظمته فلا ينقص ذلك من ملكه شىء فملكه واسع وله ملكوت السموات وما فيا وله ملكوت الأرض وما فيها ، " وكان الله غنيا حميدا " الله غنى عنكم وهو المستحق للحمد لما أنزله من النعم ، " ولله ما فى السموات وما فى الأرض وكفى بالله وكيلا " تكررت للمرة الثالثة تـاكيدا وتعظيما لما لله من ملك وتنزيه له واستحقاق لعبادته وعدم الكفر به وتقواه وهو القائم على كل نفس بما كسبت الرقيب الشهيد على كل شىء ، " ان يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا "هو القادر على اذهابكم وتبديلكم بغيركم اذا عصيتموه كما قال " وان تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم " ، كما قال " ان يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز " ، " من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة " يا من ليس له همة الا الدنيا أعلم أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة واذا سألته من هذه وهذه أعطاك وأغناك ، ظاهر فى حصول الخير فى الدنيا والآخرة فان مرجع ذلك كله الى الذى بيده الضر والنفع وهو الله الذى لاآله الا هو الذى قسم السعادة والشقاوة بين الناس فى الدنيا والآخرة ، وعدل بينهم فيما علمه فيهم ممن يستحق هذا ولهذا قال " وكان الله سميعا بصيرا " .
يأيها الذين آمنوا كونوا
قوامين بالقسط شهداء على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ان يكن غنيا أو فقيرا فالله
أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وان تلووا أو تعرضوا فان الله كان بما
تعملون خبيرا 135
" ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين " يأمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط أى بالعدل فلا يعدلوا عنه يمينا أو شمالا ولا تأخذهم فى الله لومة لائم ولا يصرفهم عنه صارف وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه ،"شهداء لله" أفعلوا ذلك ابتغاء وجه الله "ولو على أنفسكم" اشهدوا الحق ولو عاد ضرره عليكم ولو سألتم عن الأمر فقولوا الحق فيه ولو عادت مضرته عليكم فان الله سيجعل لمن أطاعه فرجا ومخرجا من كل أمر يضيق عليه ، " أوالوالدين والأقربين " وان كانت الشهادة على الوالدين والأقربين فلا تراعوهم فيها بل اشهدوا بالحق وان عاد ضرره عليكم فان الحق حاكم على كل أحد ،" ان يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما" فلا ترعى الشخص لغناه ولا تشفق عليه لفقره والله يتولى الفقير والغنى وهو أولى بهم منك وأعلم بما فيه صلاحهم ، "فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا " فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس اليكم على ترك العدل فى أموركم وشؤنكم بل ألزموا العدل على أى حال كان كما قال " ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لاتعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى " ، ومن هذا قول عبد الله بن رواحة لما بعثه النبى صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزرعهم فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم فقال ك " والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق الى ولأنتم أبغض الى من أعدادكم من القردة والخنازير وما يحملنى حبى اياه وبغضى لكم على أن لا اعدل فيكم فقالوا : " بهذا قامت السموات والأرض " ، " وان تلووا أو تعرضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا " قال مجاهد أن تحرفوا الشهادة وتغيروها واللى هو التحريف وتعمد الكذب والاعراض هو كتمان الشهادة وتركها كما قال تعالى " ومن يكتمها فانه آثم قلبه " ، وقال النبى صلى الله عليه وسلم : " خير الشهداء الذى يأتى بالشهادة قبل أن يسئلها وتوعدهم الله فهو خبير بما يعملون وسيجازيهم بذلك .
ياأيها
الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من
قبل ومن يكفر بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا 136
" ياأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل " يامر الله تعالى عباده المؤمنين بالدخول فى جميع شرائع الايمان وشعبه وأركانه ودعائمه وليس هذا من باب تحصيل الحاصل بل من باب تكميل الكامل وتثبيته والاستمرار عليه ، أمر بالايمان به وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم والكتاب الذى نزل عليه وهو القرآن والكتاب الذى أنزل من قبل أسم جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة ، وقال فى القرآن نزل لأنه نزل متفرقا منجما على الوقائع بحسب ما يحتاج اليه العباد فى معاشهم ومعادهم وأما الكتب المتقدمة فكانت تنزل جملة واحدة ولهذا قال " والكتاب الذى أنزل من قبل " ، " ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا "ومن يكفر بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر فقد خرج عن طريق الهدى وبعد عن القصد كل البعد .
ان الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا * بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما * الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فان العزةلله جميعا * وقد نزل عليكم فى الكتاب أن اذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا فى حديث غيره انكم اذا مثلهم ان الله جامع المنافقين والكافرين فى جهنم جميعا 137 - 140
" ان الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا " يخبر الله تعالى عمن دخل فى الايمان ثم رجع عنه ثم عاد فيه ثم رجع واستمر على ضلاله وازداد ضلالا حتى مات فانه لا توبة له بعد موته ولا يغفر الله له ولا يجعل له مما هو فيه فرجا ولا مخرجا ولا طريقا الى الهدى ، " بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما " المنافقين من هذه الصفة الذين يرتدون عن الايمان ويتمادوا على كفرهم حتى يموتوا يبشرهم الله بالعذاب الأليم فى الآخرة ، " الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين "هؤلاء المنافقون يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين بمعنى أنهم معهم فى الحقيقة يوالونهم ويسرون اليهم بالمودة ويقولون لهم اذا خلوا بهم نحنمعكم انما نحن مستهزؤن بالمؤمنين فى اظهارنا لهم الموافقة فقال الله تعالى منكرا عليهم فيما سلكوه منموالات الكافرين "أيبتغون عندهم العزة فان العزة لله جميعا " الله يوبخهم اذ يبتغون العزة من الكافرين فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين كم قال تعالى " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لايعلمون " ، وعن أبى ريحانة أن النبى صلى الله عليهوسلم قال : " من انتسب الى تسعة آباء كفار يريد بهم عزا وفخرا فهوعاشرهم فى النار" ، " وقد نزل عليكم فى الكتاب أن اذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا فى حديث غيه انكم اذا مثلهم " انكم اذا ارتكبتم النهى بعد وصوله اليكم ورضيتم بالجلوس معهم فى المكان الذى يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ وينتقص بها وأقررتموهم على ذلك فقد شاركتموهم الذى هم فيه لهذا قال " انكم اذا مثلهم " مثلهم فى المآثم ، كما جاء فى الحديث " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر" والنهى كما فى قوله تعالى فى سورة الأنعام وهى مكية " واذا رأيت الذين يخوضون فى آياتنا فأعرض عنهم" ، " ان الله جامع المنافقين والكافرين فى جهنم جميعا "كما أشركوهم فى الكفر كذلكيشارك اللع بينهم فى الخلود فى نار جهنم أبا ويجمع بينهم فى دار العقوبة والنكال والقيود والأغلال وشراب الحميم والغسلين .
الذين
يتربصون بكم فان كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وان كان للكافرين نصيب
قالوا ألم نتستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن
يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا 141
" الذين يتربصون بكم " تخبر تعالى عن المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمنين دوائر السوء بمعنى ينتظرون زوال دولتهم وظهور الكفرة عليهم وذهاب ملتهم ، " فان كان لكم فتح من الله " لكم نصر وتأييد وظفر وغنيمة ، " قالوا ألم نكن معكم " يتوددون الى المؤمنين بأنهم معهم وان كانوا فى الظاهر ، " وان كان للكافرين نصيب " اذا كان للكافرين ادالة على المؤمنين فى بعض الاحيان لحكمة منه سبحانه وتعالى كما وقع يوم أحد فان الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة ، " قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين " يقولون للكافرين اذا حدث لهم فى وقت ما غلبة نحن ساعدناكم فى الباطن وما ألوناهم خبالا وتخذيلا حتى انتصرتم عليهم وقال السدى نستحوذ عليكم نغلب عليكم ، وهذا تودد منهم اليهم فانهم كانوا يصانعون هؤلاء وهؤلاء ليحظوا عندهم ويأمنوا كيدهم وما ذاك الا لضعف ايمانهم وقلة ايقانهم ، " فالله يحكم بينكم يوم القيامة " الله بما يعلمه منكم أيها المنافقون من البواطن الرديئة فلا تغتروا بجريان الاحكام الشرعية عليكم ظاهرا فى الحياة الدنيا لما له فى ذلك من الحكمة فيوم القيامة لاتنفعكم ظواهركم بل هو يوم تبلى فيه السرائر ويحصل ما فى الصدور ، " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا "قال أبن عباس يعنى يوم القيامة ، وقال على رضى الله عنه فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين سيللا قال السدى سبيلا أى حجة ويحتمل أن يكون فى الدنيا بأن يسلطوا عليه استيلاء استئصال بالكلية وانحصل لهم ظفر فى بعض الاحيان على بعض الناس فان العاقبة للمتقين فى الدنيا والآخرة كما قال تعالى " انا لننصر رسلنا والذين آمنوا فى الحياة الدنيا " ويكون ذلك ردا على المنافقين فيما أملوه ورجوه وانتظروه منزوالدولة المؤمنين وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين خوفا على أنفسهم منهم اذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم .
ان المنافقين يخادعون الله
وهوخادعهم واذا قاموا الى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله الا
قليلا مذبذبين بين ذلك لاالى هؤلاء ولا الى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا 142 -143
" ان المنافقين يخادعون الله وهوخادعهم " لاشك أن الله لايخادع فان الله أعلم بالسرائر والضمائر ولكن المنافقين لجهلهم وقلة علمهم وعقلهم يعتقدون أن أمرهم كما راج عند الناس وجرت عليهم أحكام الشريعة ظاهرا فكذلك يكون حكمهم عند الله يوم القيامة وأن أمرهم يروج عنده ، الله يستدرجهم فى طغيانهم وضلالهم ويخذلهم عن الحق والوصول اليه فى الدنيا وكذلك يوم القيامة ، وفى الحديث " من سمع سمع الله به ، ومن رايا رايا الله به " وفى حديث آخر " ان الله يأمر بالعبد الى الجنة فيما يبدو للناس ويعدل به الى النار " ، " واذا قاموا الى الصلاة قاموا كسالى " هذه صفة المنافقين فى أشرف الاعمال وأفضلها وخيرها وهى الصلاة اذا قاموا اليها قاموا وهم كسالى عنها لأنهم لانية لهم فيها ولا ايمان لهم بها ولا خشية ولا يعقلون معناها ، وعن أبن عباس قال " يكره أن يقوم الرجل الى الصلاة وهوكسلان ولكن يقوم اليها طلق الوجه ، عظيم الرغبة شديد الفرح ، فانه يناجى الله وان الله تجاهه يغفر له ويجيبه اذا دعاه ، " يراءون الناس ولايذكرون الله الا قليلا " لا اخلاص لهم ولا معاملة مع الله بل انما يشهدون الناس تقية لهم ومصانعة ، ولهذا يتخلفون كثيرا عن الصلاة التى لايرون فيها غالبا كصلاة العشاء وصة الصبح ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم :" أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلى بالناس ثم أنطلق معى برجال ومعهم حزم من حطب الى قوم لايشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار " ، وعن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو فتلك استهانة استهان بها ربه عز وجل " ، " ولا يذكرون الله الا قليلا " فى صلاتهم لايخشعون ولا يدرون ما يقولون بل هم فى صلاتهم ساهون لاهون وعما يراد بهم من الخير معرضون ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق تلك صسلاة المنافق : يجلس يرقب الشمس حتى اذا كانت بين قرنى الشيطان قام فنقر أربعا لايذكر الله فيها الا قليلا " ، " مذبذبين بين ذلك لاالى هؤلاء ولا الى هؤلاء " المنافقين محيرين بين الايمان والكفر فلاهم مع المؤمنين ظاهرا وباطنا ولا مع الكافرين ظاهرا أو باطنا بل ظواهرهم مع المؤمنين وبواطنهم مع الكافرين ، ومنهم من يعتريه الشك فتارة يميل الى هؤلاء وتارة يميل الى هؤلاء ، قال مجاهد يعنى ألى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والى اليهود ، وعن ابن عمر عن النبى صلى الله عليه وسام عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " مثل المنافقين كمثل الشاة العائرة بين الغنمتين تعير الى هذه مرة والى هذه مرة لاتدرى أيهما تتبع " ، "ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا " ومن صرفه الله عن طريق الهدى من المنافقين وأضلهم عن سبيل النجاة فلا هادى لهم ، ولا منتقذ لهم مما هم فيه ، فان الله تعالى لامعقب لحكمه ، ولا يسئل عما يفعل وهم يسئلون .
يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا
الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا * ان
المنافقين فى الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا * الا الذين تابوا وأصلحوا
واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا
عظيما * ما يفعل الله بعذابكم ان شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما 144 - 147
" يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين " ينهى الله تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، يعنى مصاحبتهم ومصادقتهم ، ومناصحتهم واسرار المودة اليهم ، وافشاء أحوال المؤمنين الباطنة اليهم ، كما قال تعالى " لايتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله فى شىء الا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه " يحذركم الله عقوبته فى ارتكابكم نهيه ولهذا قال " أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا " قال أبن عباس كل سلطان فى القرآن حجة أى تريدون أن تجعلوا لله عليكم حجة واضحة فيما تفعلون تؤخذ عليكم ، " ان المنافقين فى الدرك الأسفل من النار " يوم القيامة جزاء الكافرين أسفل النار ، وقيل النار دركات كما أن الجنة درجات ، وقال أبو هريرة وعبد الله بن مسعود أن الدرك الأسفل بيوت لها أبوب تطبق عليهم فتوقد من تحتهم ومن فوقهم فى أسفل درك من النار ، " ولنتجد لهم نصيرا " لن تجد من ينقذهم مما هم فيه ويخرجهم من أليم العذاب ، " الا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله "أخبر الله تعالى أن من تاب فى الدنيا تاب عليه وقبل ندمه اذا أخلص فى توبته وأصلح عمله ، وبدل الرياء بالاخلاص ، واعتصم بربه فى جميع أمره فينفعه العمل الصالح وان قل ، وعن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أخلص دينك يكفك القليل من العمل " ، " فأولئك مع المؤمنين " ومن يفعلون ذلك فهم فى زمرة المؤمنين يوم القيامة ، " وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما " وهؤلاء المؤمنين سينالهم من الله يوم القيامة عظيم الجزاء فى الجنة ونعيمها مما لاعين رأت ولاأذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، " ما يفعل الله بعذابكم ان شكرتم وآمنتم " ويخبر الله عنغناه عما سواه ، وأنه انما يعذب العباد بذنوبهم فليس لله فى تعذيبهم من شىء أذا أصلحوا وآمنوا بالله ورسوله ، " وكان الله شاكرا عليما " ان الله من شكر شكر له ، ومن آمن قلبه بع علمه وجازاه على ذلك أوفر الجزاء .
لايحب
الله الجهر بالسوء الا من ظلم وكان الله سميعا عليما * ان تبدو خيرا أو تخفوه أو
تعفوا عن سوء فان الله كان عفوا قديرا 148 - 149
" لايحب
الله الجهر بالسوء الا من ظلم " عن أبن عباس أن الله يقول لايحب الله أن يدعو
أحد على أحد الا أن يكون مظلوما فانه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه وان صبر
فهوخير الله ، وعن عطاء عن عائشة رضى الله عنها قال سرق لها شىء فجعلت تدعو عليه
فقال النبى صلى الله عليه وسلم : " لاتسبخى عنه " ، وقال الحسن البصرى
لايدع عليه وليقل اللهم أعنى عليه واتخرج حقى ، وفى رواية عنه قال قد رخص له لأن
يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدى عليه ، " ان تبدو خيرا أو تخفوه أو تعفوا
عن سوء فان الله كان عفوا قديرا " ان تظهروا أيها الناس خيرا أو أخفيتموه أو
عفوتم عمن أساء اليكم فان ذلك مما يقربكم عند الله ويجزل ثوابكم لديه فان من صفاته
أن يعفو عن عباده مع قدرته على عقابهم ولهدا قال " فان الله عفوا قديرا
" ، وفى الحديث الصحيح " ما نقص مال من صدقة ولا زاد الله عبدا يعفو الا
عزا ومن تواضع لله رفعه " .
ان
الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض
ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا
للكافرين عذابا مهينا * والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقو بين أحد منهم أولئك
سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما 150 - 152
" ان الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا " "يتوعد الله الكافرين به وبرسله من اليهود والنصارى حيث فرقوا بين دين الله ورسله فى الايمان فآمنوا ببعض الانبياء وكفروا ببعض بمجرد التشهى والعادة وما ألفوا عليه آباءهم لا عن دليل قادهم الى ذلك فان لاسبيل لهم الى ذلك بل بمجرد الهوى والعصبية فاليهود آمنوا بالانبياء الا عيسى ومحمدا عليهما الصلاة والسلام ،والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمدا صلى الله عليه وسلم ، والسامرة لايؤمنون بنبى بعد يوشع خليفة موسى بن عمران ، والمجوس يقال أنهم كانوا يؤمنون بنبى لهم يقال له زرادشت ثم كفروا بشرعه فرفع من بين أظهرهم ،والمقصود أن من كفر بنبى من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء فان الايمان واجب بكل نبى بعثه الله الى أهل الأرض فمن رد نبوته للحسد أو العصبية أو التشهى تبين أن ايمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس ايمانا شرعيا انما هو عن غرض وهوى وعصبية لهذا وسمهم بأنهم كفار بالله ورسله " ان الذين يكفرون بالله ورسله " ، " يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله " يفرقوا بينهم فى الايمان ، " ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا " يتخذولن طريقا ومسلكا أخبر الله عنهم " أولئك هم الكافرون حقا " هم الكفار حق الكفر كفرهم محقق لامحالة بمن ادعوا الايمان به لأنه ليس شرعيا اذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله لآمنوا بنظيره وبمن هو أوضح دليلا وأقوى برهانا فيما جاءهم به من الله واعراضهم عنه واقبالهم على جمع حطام الدنيا مما لاضرورة بهم اليه كما كان يفعل كثير من أحبار اليهود فى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث حسدوه على ما آتاه الله من النبوة العظيمة وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه سلط الله عليهم الذل الدنيوى الموصول بالذل الأخروى " وضربت عليه الذلة والمسكنة وباؤا بغضب من الله " فى الدنيا والآخرة ، " والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم "يعنى الله الذين آمنوا أمة محمد صلى الله عليه وسلم فانهم يؤمنون بكل كتاب انزل الله وبكل نبى بعثه الله ، كما قال " آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله " أخبرالله بأنه أعد لهم الجزاء الجزيل والثواب الجليل والعطاء الجميل فسوف يؤتيهم أجورهم على ما آمنوا بالله ورسله ، " وكان الله غفورا رحيما "ان الله غفور لذنوبهم ان كان لبعضهم ذنوب .
يسئلك
أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا
الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات
فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا * ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم
ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لاتعدوا فى السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا 153 - 154
" يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء " قال محمد بن كعب القرظى والسدى وابن قتادة : سأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء كما نزلت التوراة على موسى مكتوبة ، وقال أبن جريج : سألوه أن ينزل عليهم صحفا من الله مكتوبة الى فلان وفلان بتصديقه فيما جاءهم به ، وهذا انما قالوه على سبيل التعنت والعناد والكفر والالحاد كما سأل كفار قريش قبلهم نظير ذلك حيث قالوا " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " ولهذا قال تعالى " فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم " وهذا ليس غريبا عليهم فقد طلبوا من موسى عليه السلام أن يريهم الله حتى يؤمنوا فسلط الله عليهم صاعقة بسبب طغيانهم وبغيهم وعتوهم وعنادهم كما ورد فى سورة البقرة ، " ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات " من بعد ما رأوا الآيات الباهرة والأدلة القاهرة على يد موسى عليه السلام فى مصر وما كان من اهلاك عدو الله فرعون وجميع جنوده فى اليم فما جاوزوه الا يسيرا حتى أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا لموسى " اجعل لنا الها كما لهم آلهة " ، وذكر الله قصة اتخاذهم العجل مبسوطة فى سورةالأعراف وفى سورة طه بعد ذهاب موسى عليه السلام الى مناجاة الله عز وجل ، ثم لما رجع وكان ما كان جعل الله توبتهم من الذى صنعوه وابتدعوه أن يقتل من لم يعبد العجل منهم من عبده فجعل يقتل بعضهم بعضا ، ثم أحياهم الله عز وجل " فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا " ، " ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم " حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة وظهر منهم اباء عما جاءهم به موسى عليه السلام ، رفع الله على رؤسهم جبلا ، ثم ألزموا فالتزموا وسجدوا وجعلوا ينظرون الى ما فوق رؤسهم خشية أن يسقط عليهم ، كم قال تعالى " واذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة " ، " وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا " فخالفوا ما أمروا به من القول والفعل فانهم أمروا أن يدخلوا باب بيت المقدس سجدا ، وهم يقولون حطة ، أى اللهم حط علينا ذنوبنا فى تركنا الجهاد ونكولنا عنه حتى تهنا فى التيه أربعين سنة فدخلوا يزحفون على استاههم ، وهم يقولون حنطة فى شعرة ، " وقلنا لهم لاتعدوا فى السبت " وصيناهم بحفظ السبت والتزام ما حرم الله عز وجل فيه وفى سورة البقرة والأعراف تفصيل لذلك ، " وأخذنا منهم ميثاقا غليظا " اخذ الله عليهم العهد بطاعته وشدد عليهم فى ذلك ، فخالفوا وعصوا وتحيلوا على ارتكاب ما حرم الله عز وجل .
فبما
نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير الحق وقولهم قلوبنا غلف بل
طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون الا قليلا * وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا
عظيما * وقولهم انا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه
ولكن شبه لهم وان الذين اختلفوا فيه لفى شك منه ما لهم به من علم الا اتباع الظن
وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله اليه وكان الله عزيزا حكيما * وان من أهل الكتاب
الا ليؤمنن به قبل موته ويةم القيامة يكون عليهم شهيدا 155 - 159
" فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف "هذه من الذنوب التى أرتكبها بنواسرائيل مما أوجب لعنتهم وطردهم وابعادهم عن الهدى و نقضهم المواثيق والعهود التى أخذت عليهم ، وكفرهم بآيت الله ، أى حججه وبراهينه ، والمعجزات التى شاهدوها على يد الانبياء عليم السلام ، " وقتلهم الأنبياء بغير حق " لكثرة اجرامهم واجترائهم على أنبياء الله فانهم قتلىاجما غفيرا من الأنبياء عليهم السلام ، " وقولهم قلوبنا غلف " أدعوا أن قلوبهم غلف للعلم أى أوعية للعلم قد حوته وحصلته وكأنهم يعتذرون اليه بأن قلوبهم لاتعى ما يقول لأنها فى غلف وفى أكنة بل هى مطبوع عليها بكفرهم ، كقول المشركين " وقالوا قلوبنا فى أكنة مما تدعونا اليه " ، " بل طبع الله عليها بكفرهم " ، " فلا يؤمنون الا قليلا " تمرنت قلوبهم على الكفر والطغيان وقلة الايمان ، " وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما " وقال أبن عباس يعنى أنهم رموها بالزنا ورموها وابنها بالعظائم فجعلوها زانية وقد حملت بولدها من ذلك ، " وقولهم انا قتلنا المسيح عيسى أبن مريم رسول الله " هذا من باب التهكم والاسهزاء من ادعائهم قتل المسيح عيسى أبن مريم ، لما بعث الله عيسى أبن مريم بالبينات والهدى حسدوه على ما آتاه الله تعالى من النبوة والمعجزات الباهرات التى كان يبرىء بها الأكمه والأبرص ويحيى الموتى باذن الله ويصور من الطين كهيئة الطير ينفخ فيه فيكون طائرا يشاهد طيرانه الى ذلك من المعجزات التى أكرمه الله بها وأجراها على يديه ومع هذا كذبوه وخالفوه وسعوا فى أذاه بكل ماأمكنهم حتى جعل نبى الله عيسى عليه السلام لايساكنهم فى بلدة بل يكثر السياحة هو وأمه عليهما السلام وسعوا الى ملك دمشق وكان رجلا مشركا من عبدة الكواكب وأنهوا اليه أن فى بيت المقدس رجلا يفتن الناس ويضلهم ويفسد على الملك رعاياه فغضب الملك من ذلبك وكتب الى نائبه أن يصلبه ويضع الشوك على رأسه فذهب والى بيت المقدس وطائفة من اليهود الى المنزل الذى فيه المسيح فحصروه هناك فلما أحس بهم قال لأصحابه أيكم يلقى عليه شبهى وهو رفيقى فى الجنة ؟ فانتدب لذلب شاب منهم وألقى الله عليه شبه عيسى حتى كأنه هو وفتحت روزنة من سقف البيت وأخذت عيسى عليه السلام سنة من النوم فرفع الى السماء كم قال تعالى " اذ قال الله ياعيسى انى متوفيك ورافعك الى " فلما رأى أولئك ذلك الشب ظنوا أنه عيسى فأخذوه فى الليل فصلبوه ووضعوا الشوك على رأسه وأظهر اليهود أنهم سعوا فى صلبه وتبجحوا بذلك وسلم لهم طوائف من النصارى ذلك لجهلهم وقلة عقلهم ما عدا من كان فى البيت مع المسيح فانهم شاهدوا رفعه ، وأما الباقون فانهم ظنوا كما ظن اليهود أن المصلوب هو عيسى أبن مريم حتى ذكروا أنمريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت ، وهذا امتحان من الله تعالى لعباده لما له فى ذلك من الحكمة البالغة ، " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " ،" وان الذين أختلفوا فيه لفى شك منه ما لهم به من علم الا اتباع الظن وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله اليه وكان الله عزيزا حكيما " أى رأوا شبهه فظنوه اياه ومن ادعى أنه قتله من اليهود ومن سلمه اليهم من جهل النصارى كلهم فى شك من ذلك وحيرو وضلال وسعر وما قتلوه متيقنين أن هو بل شاكين متوهمين بل رفعه الله اليه وهو منيع الجناب لايرام جنابه ولايضام من لاذ به وهوحكيم فيما يقدره ويقضيه من الأمور التى يخلقها وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة والأمر القديم ، قال أبن عباس افترقوا ثلاث فرث قالت فرقة كان الله فينا ما شاء ثم صعد الى السناء وهؤلاء اليعقوبية ، وقالت فقة كان فينا أبن الله ما شاء ثم رفعه اليه وهؤلاء النسيطورية ،وقالت فرقة كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء ثم رفعه الله اليه وهؤلاء المسلمون ، " وان من أهل الكتاب الا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " قال أبن جرير أنه لايبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى الا آمن به قبل موت عيسى عليه السلام حيث أن الله رفعه اليه وهو باق حى وأنه سينزل قبل يوم القيامة ويوم القيامة يشهد عليهم أنه قد بلغ الرسالة من الله وأقر بعبوديته ، وعن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذى نفسى بيده ليوشكن أن ينزل فيكم أبن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لايقبله أحد وحتى تكون السجدة خيرا من الدنيا وما فيها ، ثم يقول أبو هريرة اقرؤا ان شئتم " وان من أهل الكتاب الا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " ، وفى حديث آخر عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يوشك أن ينزل فيكم أبن مريم حكما عدلا يقتل الدجال ويقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية ويفيض المال وتكون السجدةواحدة لله رب العالمين " ، وعن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الأنبياء أخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد وانى أولى الناس بعيسى أبن مريم لأنه لم يكن نبى بينى وبينه وانه نازل فاذا رأيتموه فاعرفوه ، رجل مربوع الى الحمرة والبياض عليه ثوبان ممصران كأن رأسه يقطر ان لم يصبه بلل : فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويدعو الناس الى الاسلام ويهلك الله فى زمانه الملل كلها الا الاسلام ويهلك الله فى زمانه المسيح الدجال ثم تقع الأمانة على الأرض حتى ترتع الأسود مع الأبل والنمار مع البقر والذئاب مع الغنم ويلعب الصبيان بالحيات لاتضرهم فيمكث أربعين سنة ثم يتوفى ويصلى عليه المسلمون "
فبظلم
من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا * وأخذهم
الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما
* لكن الراسخون فى العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك
والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم
أجرا عظيما 160 - 162
" فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليه طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا " يخبر الله تعالى أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة وبما صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق وهذه سجية لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه ولهذا كانوا أعداء الرسل وقتلوا خلفا من الأنبياء وكذبوا عيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما حرم عليهم طيبات كان أحلها لهم وهذا التحريم قد يكون قدريا بمعنى أنه تعالى قيضهم لأن تأولوا فى كتابهم وحرفوا وبدلوا أشياء كانت حلالا لهم فحرموها على أنفسهم تشديدامنهم على أنفسهم وتضييقا وتنطعا ، ويحتمل أن يكون شرعيا بمعنى أنه تعالى حرم عليهم فى التوراة أشياء كانت حلالا لهم قبل ذلك كماقال تعالى " كل الطعامكان حلا لبنى اسرائيل الا ما حرم اسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة " والمراد أن الجميع من الأطعمة كانت حلالا لهم من قبل أن تنزل التوراة ما عدا ما كان اسرائيل قد حرم على نفسه من لحوم الأبل وألبانها ثم أنه حرم أشياء كثيرة فى التوراة كما قال فى سورة الأنعام " وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما الا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما أختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وانا لصادقون " أى أنما حرمنا عليهم ذلك لأنهم يستحقون ذلك بسبب بغسهم وطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه ، " وأخذهم الربا وقد نهوا عنه " ان الله نهاهم عن الربا فتناولوه وأخذوه واحتالوا عليه بأنواع من الحيل وصنوف من الشبه وأكلوا أموال الناس بالباطل ، " وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما " نتيجة أفعال الكفر الذين ارتكبها بعض منهم أعد الله لهم جزاء ذلك العداب الأليم فى جهنم فى الآخرة ، " لكن الراسخون فى العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك " لكن الثابتون فى الدين ولهم قدم راسخة فى العلم النافع والمومنون عطف على الراسخين وخبره يؤمنون بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل على النبيين من قبله ، وقال أبن عباس أنزلت فى عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعيه وأسد بن سعيد وأسد بن عبيد الذين دخلوا فى الاسلام وصدقوا بما أرسل الله به محمدا صلى الله عليه وسلم ، " والمقيمين الصلاة " الذين يعترفون بوجوبها وكتابتها عليهم ويؤدونها ، " والمؤتون الزكاة " المؤدون زكاة الأموال ، " والمؤمنون بالله واليوم الآخر " الذين يصدقون بأنه لاأله الا الله ويؤمنون بالبعث بعد الموت والجزاء على الأعمال خيرها وشرها ، " أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما "كل أولئك وهذا خبر عن كل ما تقدم سكون جزاءهم العظيم هو الجنة .