تبسيط تفسير أبن كثير للقرآن الكريم ( 11 )
الجزء الحادى عشر
تفسير سورة التوبة
انما
السبيل على الذين يستئذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا
يعلمون 93
" انما السبيل على الذين يستئذنونك وهم أغنياء رضوا بأن
يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يعلمون" الذين ليس لهم عذر فى عدم
الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم فى غزوة تبوك هم الذين طلبوا القعود وعدم
الخروج وعندهم كل سبل الجهاد والمقدرة المادية والجسدية وطلبوا عدم الخروج والتخلف
وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم بذلك عكس من رغبوا فى الخروج وهم
فقراء لايجدون الى الجهاد سبيلا وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم ان يوفر لهم
وسيلة الجهاد من دابة تحملهم للخروج معه فقال لهم واعتذر عن ذلك كما فى الآيات
السابقة لهذه الآية "
يَعۡتَذِرُونَ إِلَيۡكُمۡ إِذَا رَجَعۡتُمۡ
إِلَيۡهِمۡۚ قُل لَّا تَعۡتَذِرُواْ لَن نُّؤۡمِنَ لَكُمۡ قَدۡ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ
مِنۡ أَخۡبَارِكُمۡۚ وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ ثُمَّ تُرَدُّونَ
إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ
تَعۡمَلُونَ ٩٤ سَيَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمۡ إِذَا ٱنقَلَبۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ
لِتُعۡرِضُواْ عَنۡهُمۡۖ فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمۡۖ إِنَّهُمۡ رِجۡسٞۖ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُ
جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ٩٥ يَحۡلِفُونَ لَكُمۡ لِتَرۡضَوۡاْ
عَنۡهُمۡۖ فَإِن تَرۡضَوۡاْ عَنۡهُمۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يَرۡضَىٰ عَنِ ٱلۡقَوۡمِ
ٱلۡفَٰسِقِينَ ٩٦
" يَعۡتَذِرُونَ
إِلَيۡكُمۡ إِذَا رَجَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡۚ قُل لَّا تَعۡتَذِرُواْ لَن نُّؤۡمِنَ
لَكُمۡ قَدۡ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنۡ أَخۡبَارِكُمۡۚ"أخبر تعالى عن المنافقين
بأنهم اذا رجعوا الى المدينة أنهم يعتذرون اليهم فيرد الله ويخبر المؤمنين برفض
هذا الاعتذار وطالبهم بأن لا يصدقوهم فيما يقولون فالله قد فضحهم وأعلمهم بأحوالهم
، " وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُ" سيظهر الله ورسوله
أعمالكم للناس فى الدنيا ، " ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ
وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ " عندما تبعثون يوم
القيامة وتردون الى الله الذى يعلم الغيب والعلن يخبركم بأعمالكم خيرها وشرها
ويجزيكم عليها ، " سَيَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمۡ إِذَا ٱنقَلَبۡتُمۡ
إِلَيۡهِمۡ لِتُعۡرِضُواْ عَنۡهُمۡۖ " أخبر الله عن المنافقين أنهم سيحلفون
للمؤمنين الصادقين معتذرين ليعرضوا عنهم فلا يؤنبونهم ، " فَأَعۡرِضُواْ
عَنۡهُمۡۖ إِنَّهُمۡ رِجۡسٞۖ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُ جَزَآءَۢ
بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ "فأعرضوا عنهم احتقارا لهم انهم رجس أى خبث نجس
بواطنهم واعتقاداتهم ومأواهم فى آخرتهم جهنم جزاءا بما كانوا يكسبون أى من الآثام
والخطايا ، " يَحۡلِفُونَ لَكُمۡ لِتَرۡضَوۡاْ عَنۡهُمۡۖ فَإِن تَرۡضَوۡاْ
عَنۡهُمۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يَرۡضَىٰ عَنِ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَٰسِقِينَ " وأن
رضوا عنهم بحلفهم لهم فالله لايرضى عن الخارجين عن طاعته وطاعة رسوله صلى الله
عليه وسلم فان الفسق هو الخروج ومنه سميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها للافساد
، ويقال فسقت الرطبة اذا خرجت من أكمامها .
ٱلۡأَعۡرَابُ أَشَدُّ كُفۡرٗا وَنِفَاقٗا وَأَجۡدَرُ أَلَّا
يَعۡلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٞ ٩٧ وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغۡرَمٗا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَآئِرَۚ عَلَيۡهِمۡ دَآئِرَةُ
ٱلسَّوۡءِۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٞ ٩٨
وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَيَتَّخِذُ
مَا يُنفِقُ قُرُبَٰتٍ عِندَ ٱللَّهِ وَصَلَوَٰتِ ٱلرَّسُولِۚ أَلَآ إِنَّهَا
قُرۡبَةٞ لَّهُمۡۚ سَيُدۡخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحۡمَتِهِۦٓۚ إِنَّ
ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ٩٩
" ٱلۡأَعۡرَابُ أَشَدُّ كُفۡرٗا وَنِفَاقٗا وَأَجۡدَرُ أَلَّا يَعۡلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ
ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦۗ " أخبر تعالى أن فى الأعراب كفارا ومنافقين
ومؤمنين وأنكفرهم ونفاقهم أعظم من غيرهم وأشد وأجدر أى أحرى أن لا يعلموا حدود ما
أنزل الله على رسوله ، ولما كانت الغلظة والجفاء فى أهل البوادى لم يبعث الله منهم
رسولا وانما كانت البعثة فى أهل القرى كما قال تعالى " وما أرسلنا من قبلك
الا رجالا نوحى اليهم من أهل القرى " ، وعن عائشة قالت : قدم ناس من الاعراب
على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أتقبلون صبيانكم ؟ قالوا : نعم "
قالوا : لكنا والله ما نقبل " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
وما أملك ان كان الله نزع منكم الرحمة " وقال ابن نمير " من قلبك الرحمة
" ، " وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم " أى عليم بمن يستحق أن يعلمه الايمان والعلم ، حكيم فيما قسم بين عباده من
العلم والجهل والايمان والكفر والنفاق لا يئل عما يفعل لعلمه وحكمته ، "
وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغۡرَمٗا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَآئِرَۚ عَلَيۡهِمۡ دَآئِرَةُ ٱلسَّوۡءِۗ "
أخبر تعالى أن من بين الأعراب من يعتبر أن ما ينفقه فى سبيل الله غرامة وخسارة
وينتظر أن يقع بالمؤمنين الحوادث والآفات ويرد الله على ذلك أن ذلك انما منعكس
عليهم بالسوء دائر عليهم ،"وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم " أى سميعه لدعاء عباده عليم بمن يستحق النصر
ممن يستحق الخذلان ، "وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ
وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَٰتٍ عِندَ ٱللَّهِ
وَصَلَوَٰتِ ٱلرَّسُولِۚ أَلَآ إِنَّهَا قُرۡبَةٞ لَّهُمۡۚ
سَيُدۡخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحۡمَتِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيم " وهنك قسم ممدوح من الأعراب الذين يتخذون ما
ينفقون فى سبيل الله قربة يتقربون بها عند الله ويبتغون بذلك دعاء الرسول صلى الله
عليه وسلم وكل ذلك حصل لهم محسوب لهم وجزاءه أن الله سيدخلهم فى رحمته فهو الغفور
لذنوب عباده الرحيم بهم .
وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ
مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ
ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي
تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ
ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٠٠
" وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَار " يخبر الله تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار ِوالتابعين لهم باحسان ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم والنعيم المقيم ، قال الشعبى السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار من أدرك بيعة الرضوان عام الحديبية ، وقال أبو موسى الأشعرى وقتادة وغيرهما هم الذين صلوا الى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰن " أى الذين جاءوا من بهدهم كما فى سورة الحشر " والذين جاءوا من بعدهم " وفى سورة الجمعة " وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم " ، " رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ "أخبر الله تعالى أنه قد رضى عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم باحسان فياويل من أبغضهم أو سبهم أو سب بعضهم ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وخيرهم وأفضلهم أى الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر الصديق رضى الله عنه فان الطائفة الخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم فأين هؤلاء من الايمان بالقرآن اذ يسبون من رضى الله عنهم ؟ وأم أهل السنة فانهم يترضون عمن رضى الله عنهم ويسبون من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوالون من يوالى الله ويعادون من يعادىالله وهم متبعون لا مبتدعون ويقتدون ولا يبتدون ،ولهذ هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون ، وأشير هنا الى ما يفعله غلاة الشيعة من سب الصحابة ومن عادات وابتداعات ليس هنا المقام لسردها ، "وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ " هؤلاء جميعا أعد الله لهم جناتتجرى من تحتها الأنهر خالدين فيها أبدا مخلدين وهذا هو الفوز العظيم الذى لا بعده فوز وجزاءهم من الله .
وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ
مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ
سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيۡنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٖ ١٠١
" وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ " يخبر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن فى أحياء العرب ممن حول المدينة منافقون وفى أهل المدينة أيضا منافقون " مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ " أى مرنوا واستمروا عليه ومنه يقال شيطان مريد ومارد ويقال تمرد فلان على الله أى عتا وتجبر ، " لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ" هؤلاء المنافقون يعلمهم الله ولا يعلمهم رسوله صلى الله عليه وسلم فهو علام الغيوب وهذا يتفق مع قوله تعالى " ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم فى لحن القول " لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين وقد كان يعلم أن فى بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا وان كان يراه صباحا ومساء ، وقد أعلم الرسول صلى الله عليه وسلم حذيفة بأعيان أربعة عشر أو خمسة عشر منافقا وهذا تخصيص لا يقتضى أنه اطلع على أسمائهم وأعيانهم كلهم ، عن أبى الدرداء أن رجلا يقال له حرملة أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال : الايمان ههنا وأشار بيده الى لسانه والنفاق ههنا وأشار بيده الى قلبه ولم يذكر الله الا قليلا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم اجعل له لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا ، وارزقه حبى وحب من يحبنى ، وصير أمره الى خير " فقال : يارسول الله انه كان لى أصحاب من المنافقين وكنت رأسا فيهم أفلا آتيك بهم ؟ " قال : " من أتانا استغفرنا له ، ومن أصر فالله أولى به ، ولا تخرقن على أحد سترا " ،" سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيۡنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيم" فال أبن جريج عذاب الدنيا وعذاب القبر ثم يردون الى عذاب النار وقال الحسن البصرى عذاب فى الدنيا وعذاب فى القبر وقال عبد الرحمن بن زيد أما عذاب فى الدنيا فالأموال والأولاد وقرأ قوله تعال " فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم انما يريد الله ليعذبهم بها فى الحياة الدنيا " فهذه المصائب لهم عذاب وهى للمؤمنين أجر ، وعذاب فى الآخرة فى النار " ثم يردون الى عذاب عظيم " قال النار ، وقال قتادة فى قوله "سنعذبهم مرتين " عذاب الدنيا وعذاب القبر " ثم يردون الى عذاب عظيم " عذاب الآخرة فى النار .
وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ
بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُواْ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ
إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ١٠٢
لما بين تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الغزاة رغبة عنها
وتكذيبا وشكا شرع فى بيان حال المذنبين الذين تأخروا عن الجهاد كسلا وميلا الى
الراحة مع ايمانهم وتصديقهم" وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُواْ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَءَاخَرَ سَيِّئًا " أى أقروا بها واعترفوا فيما
بينهم وبين ربهم ولهم أعمال أخر صالحة خلطوا هذه بتلك فهؤلاء تحت عفو الله وغفرانه
، وهذه الآية وان كانت نزلت فى أناس معينين الا أنها عامة فى كل المذنبين الخطائين
المخلطين المتلوثين وقد قال مجاهد أنها نزلت فى أبى لبابة لما قال لبنى قريظة انه
الذبح وأشار بيده الى حلقه ، وقال أبن عباس " وآخرون " نزلت فى أبى
لبابة وجماعة من أصحابه تخلفوا عن رسول الله صلى اله عليه وسلم فى غزوة تبوك فقال
بعضهم أبو لبابة وخمسة معه وقيل وسبعة معه ، وقيل وتسعة معه ، فلما رجع رسول الله
صلى الله عليه وسلم ربطوا أنفسهم بسوارى المسجد وحلفوا لايحلهم الا رسول الله صلى
الله عليه وسلم فلما أنزل الله هذه الآية " وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ
بِذُنُوبِهِمۡ " أطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم ، "عَسَى
ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيم "فالله
واسع المغفرة وعسى تفيد الترجى فالله برجاء رحمته يتوب عليهم فهو الغفور وهو
الرحيم ، وقال سمرة بن جندب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا : " أتانى
الليلة آتيان فابتعثانى فانتهينا الى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال
شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء قالا لهم اذهبوا فقعوا فى
ذلك النهر فوقعوا فيه ثم رجعوا الينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا فى أحسن صورة ،
قالا لى هذه جنة عدن وهذا منزلك ، قالا وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر
منهم قبيح فانهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا تجاوز الله عنهم " هكذا رواه
البخارى مختصرا فى تفسير هذه الآية .
خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ
تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيۡهِمۡۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٞ لَّهُمۡۗ
وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ١٠٣ أَلَمۡ يَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقۡبَلُ
ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَيَأۡخُذُ ٱلصَّدَقَٰتِ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ
ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ١٠٤
" خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا " أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ من أموال المؤمنين صدقة يطهرهم بها ويزكيهم بها وهذا عام وان أعاد بعضهم الضمير فى أموالهم الى الذين اعترفوا بذنوبهم وخلطوا عملا صالحا وآخر شيئا ، ولهذا اعتقد بعض ما نعى الزكاة من أحياء العرب أندفع الزكاة الى الامام لايكون وانما كان هذا خاصا بالرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا أحتجوا بقوله تعالى " خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَة " وقد رد عليهم أبو بكر الصديق رضى الله عنه وسائر الصحابة وقاتلوهم حتى أدوا الزمكاة الى الخليفة كما كانوا يؤدونها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال الصديق : والله لو منعونى عناقا - وفى رواية عقالا - كانوا يؤدونه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاتلنهم على منعه ، " وَصَلِّ عَلَيۡهِمۡۖ" أى ادع لهم واستغفر لهم كما رواه مسلم فى صحيحه عن عبد الله بن أبى أوفى قال كان النبى صلى الله عليه وسلم اذا أتى بصدقة قوم صلى عليهم فأتاه أبى بصدقته فقال " اللهم صل على آل أبى أوفى " ، " إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٞ لَّهُمۡۗ" قال أبن عباس رحمة لهم وقال قتادة وقار ، " وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ "أى سميع لدعائك وعليم بمن يستحق ذلك منك ومن هو أهل له ، وعن أبن الحذيفة عن أبيه أن النبى صلى الله عليه وسلم كان اذا دعا لرجل أصابته وأصابت ولده وولد ولده " ، " أَلَمۡ يَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَيَأۡخُذُ ٱلصَّدَقَٰتِ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيم "هذا تهييج الى التوبة والصدقة اللتين كل منهما يحط الذنوب ويمحصها ويمحقها وأخبر تعالى أنكل من تاب تاب عليه ومن تصدق بصدقة من كسب حلال فان الله تعالى يتقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها حتى تصير التمرة مثل أحد ، وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ان الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربى أحدكم مهرة حتى أن التمرة لتكون مثل أحد " كما فى قوله " ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات " وكقوله " يمحق الله الربا ويربى الصدقات " .
وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى
ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ
ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٠٥
" وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ
وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ " قال مجاهد ۖهذا وعيد من الله تعالى
للمخالفين أوامره بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى وعلى الرسول صلى الله عليه
وسلم وعلى المؤمنين وهذا كائن لا محالة يوم القيامة كما قال " يومئذ تعرضون
لا تخفى منك خافية " وقال تعالى " يوم تبلى السرائر " وقال "
وحصل ما فى الصدور " وقد يظهر الله ذلك للناس فى الدنيا فعن أبى سعيد مرفوعا
عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لو أن أحدكم يعمل فى صخرة صماء ليس
لها باب ولا كوة لأخرج الله عمله للناس كائنا ما كان " وقد ورد أن أعمال
الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر فى البرزخ فعن جابر بن عبد الله
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ان أعمالكم تعرض على أقربائكم
وعشائركم فى قبورهم فان كان خيرا استبشروا به وان كان غير ذلك قالوا اللهم ألهمهم
أن يعملوا بطاعتك " ، وعن أنس قال قال النبى صلى الله عليه وسلم : " ان
أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات فان كان خيرا استبشروا به وان كان
غير ذلك قالوا اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا " .
وَءَاخَرُونَ مُرۡجَوۡنَ لِأَمۡرِ ٱللَّهِ
إِمَّا يُعَذِّبُهُمۡ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيۡهِمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ١٠٦
" وَءَاخَرُونَ مُرۡجَوۡنَ لِأَمۡرِ ٱللَّهِ " قال أبن عباس هم الثلاثة الذين خلفوا أى عن التوبة وهم
مرارة بن الربيع وكعب بن ماللك وهلال بن أمية قعدوا عن غزوة تبوك فى جملة من قعد
كسلا وميلا الى الدعة وطيب الثمار والظلال لا شكا ونفاقا فكانت منهم طائفة ربطوا
أنفسهم بالسوارى كما فعل أبو لبابة وأصحابه وطائفة لم يفعلوا ذلك وهم هؤلاء
الثلاثة المذكرون فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء وأرجىء هؤلاء عن التوبة حتى نزلت هذه
الآية " لقد تاب الله على النبى والمهاجرين والانصار " وقوله "
وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت " ،" إِمَّا
يُعَذِّبُهُمۡ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيۡهِمۡۗ " أى هم تحت عفو الله ان شاء فعل
بهم هذا وان شاء فعل بهم ذاك لكن رحمته تغلب غضبه " وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم
" أى عليم بمن يستحق العقوبة ممن يستحق العفو ، حكيم فى أفعاله وأقواله لا
اله الا هو ولا رب سواه .
وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسۡجِدٗا ضِرَارٗا وَكُفۡرٗا
وَتَفۡرِيقَۢا بَيۡنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَإِرۡصَادٗا لِّمَنۡ
حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبۡلُۚ وَلَيَحۡلِفُنَّ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّا
ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ ١٠٧ لَا تَقُمۡ فِيهِ
أَبَدٗاۚ لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ يَوۡمٍ
أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِۚ فِيهِ رِجَالٞ يُحِبُّونَ
أَن يَتَطَهَّرُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِينَ ١٠٨
" وَٱلَّذِينَ
ٱتَّخَذُواْ مَسۡجِدٗا ضِرَارٗا وَكُفۡرٗا وَتَفۡرِيقَۢا بَيۡنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ
وَإِرۡصَادٗا لِّمَنۡ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبۡلُۚ وَلَيَحۡلِفُنَّ إِنۡ
أَرَدۡنَآ إِلَّا ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ * لَا
تَقُمۡ فِيهِ أَبَدٗاۚ "
سبب نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم الرسول صلى الله عليه
وسلم اليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب ، وكان قد اتصر فى الجاهلية
وقرأ علم أهل الكتاب وكان فيه عبادة فى الجتهلية وله شرف فى الخزرج كبير فلما قدم
رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا الى المدينة واجتمع المسلمون عليه وصارت
للاسلام كلمة عالية وأظهرهم الله يوم بدر فخرج الى كفار مكة من مشركى قريش يمالئهم
على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب فقدموا
عام أحد فكان من أمر المسلمين ما كان لما فرغ من أحد ورأى أمر الرسول صلى الله
عليه وسلم فى ارتفاع وظهور ذهب الى هرقل ملك الروم يستنصره على النبى صلى الله
عليه وسلم فوعده ومناه وأقام عنده وكتب الى جماعة من قومه من الأنصار من أهل
النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم
ويغلبه ويرده عما هو فيه وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدممن عنده
لأداء كتبه ويكون مرصدا له اذا قدم عليهم بعد ذلك فشرعوا فى بناء مسجد مجاور لمسجد
قباء فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج الرسول صلى الله عليه وسلم الى تبوك
وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتى اليهم فيصلى فى مسجدهم
ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره واثباته وذكروا أنهم انما بنوه للضعفاء منهم وأهل
العلة فى الليلة الشاتية فعصمه الله من الصلاة فيه فقال " انا على سفر ولكن
اذا رجعنا ان شاء الله " فلما قفل عليه السلام راجعا الى المدينة من تبوك ولم
يبق بينه وبينها الا يوم أو بعض يوم نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمدوه
بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين فى مسجدهم مسجد قباء الذى أسس من أول
يوم على التقوى فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الى ذلك المسجد من هدمه قبل
مقدمه الى المدينة ، والمعنى "ۚ وَلَيَحۡلِفُنَّ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّا
ٱلۡحُسۡنَىٰۖ " يحلف الذين بنوه ما أردنا ببنيانه الا خيرا ورفقا بالناس ،
" وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ " والله يشهد أنهم لكاذبون
فيما قصدوا وفيمانووا وانما بنوه ضرارا لمسجد قباء وكفرا بالله وتفريقا بين
المؤمنين وارصادا لمنحارب الله ورسوله من قبل وهو أبو عامر الفاسق الذى يقال له
الراهب ، " لَا تَقُمۡ فِيهِ أَبَدٗاۚ " نهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم والأمة
تبع له فى ذلك عن أن يقوم فيه أى يصلى فيه ، " لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ
مِنۡ أَوَّلِ يَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِۚ فِيهِ رِجَالٞ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْۚ " حث الله رسوله صلى الله عليه وسلم
على الصلاة بمسجد قباء الذى أسس من أول يوم على التقوى وهى طاعة الله ورسوله وجمع
لكلمة المؤمنين ومعقلا وموئلا للاسلام وأهله فيه رجال من المؤمنين يحبوا أن يطهروا أنفسهم من الشرك
والرياء والنفاق بالصلاة والتقرب الى الله وكامة رجال هنا ليست للذكورة ولكن لما
تحمله من صفات االرجولة بمعناها الأخلاقى والمعنوى
من الشهامة والهمة فى العمل والصدق والمروءة ، وفى الحديث الصحيح أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : " صلاة فى مسجد قباء كعمرة " ، قال بأنه مسجد
النبى صلى الله عليه وسلم جماعة من السلف والخلف ، وفى الحديث الصحيح أن مسجد رسول
الله صلى الله عليه وسلم الذى فى جوف المدينة هو المسجد الذى أسس على التقوى وهذا
صحيح ولا منافاة بين الآية وبين هذا لأنه اذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من
أول يوم فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الاولى والأخرى وعن أبى بن كعب
أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " المسجد الذى أسس على التقوى مسجدى هذا
" ، وفى الآية دليل على استحباب الصلاة فى المساجد المؤسسة من أول بنائها على
عبادة الله وحده لا شريك له وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين والعباد
العاملين امحافظين على اسباغ الوضوء والتنزه عن ملابسة القاذورات ، وقال أبو
العالية " وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِينَ " ان الطهور بالماء لحسن
ولكنهم المطهرون من الذنوب وقال الأعمش التوبة من الذنب والتطهر من الشرك .
أَفَمَنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقۡوَىٰ
مِنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٍ خَيۡرٌ أَم مَّنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا
جُرُفٍ هَارٖ فَٱنۡهَارَ بِهِۦ فِي نَارِ جَهَنَّمَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي
ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٠٩ لَا يَزَالُ بُنۡيَٰنُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوۡاْ رِيبَةٗ فِي
قُلُوبِهِمۡ إِلَّآ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ١١٠ ۞
" أَفَمَنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقۡوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٍ خَيۡرٌ أَم مَّنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٖ فَٱنۡهَارَ بِهِۦ فِي نَارِ جَهَنَّمَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ " يقول تعالى لا يستوى من أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان ومن بنى مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وارصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل فانما يبنى هؤلاء بنيانهم على شفا جرف هار أى طرف حفيرة والله لا يصلح عمل المفسدين ، قال جابر بن عبد الله رأيت المسجد الذى بنى ضرارا يخرج منه الدخان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال أبن جريج ذكر لنا أن رجالا حفروا فوجدوا الدخان الذى يخرج منه ،وقال قتادة وخلف بن ياسين الكوفى رأيت مسجد المنافقين الذى ذكره الله تعالى فى القرآن وفيه جحر يخرج منه الدخان وهو اليوم مزبلة ،" لَا يَزَالُ بُنۡيَٰنُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوۡاْ رِيبَةٗ فِي قُلُوبِهِمۡ " هذا البنيان أى المسجد الضرار الذى بنوا شكا ونفاقا بسبب اقدامهم على هذا الصنيع الشنيع أورثهم نفاقا فى قلوبهم كما أشرب عابدو العجل حبه ، " إِلَّآ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمۡ" أى الى أن يموتوا أو بموتهم ، " ۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم " والله عليم بأعمال خلقه وحكيم فى مجازاتهم عنها من خير وشر . ٌ
إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ
ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ
يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقۡتُلُونَ وَيُقۡتَلُونَۖ وَعۡدًا عَلَيۡهِ
حَقّٗا فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ وَٱلۡقُرۡءَانِۚ وَمَنۡ مِنَ
أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ ٱللَّهِۚ فَٱسۡتَبۡشِرُواْ بِبَيۡعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعۡتُم
بِهِۦۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١١١
" إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ " يخبر الله تعالى أنه عاوض من عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم اذ بذلوا فى سبيله بالجنة وهذا من فضله وكرمه واحسانه فانه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عبيده المطيعين له وقال الحسن البصرى وقتادة بايعهم الله فأغلى ثمنهم ولهذا يقال من حمل فى سبيل الله بايع الله أى قبل هذا العقد ووفى به ، قال عبد الله بن رواحة رضى الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعنى ليلة العقبة اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال " أشترط لربى أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسى أن تمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " قالوا : فما لنا اذا فعلنا ذلك ؟ " قال : "الجنة " قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت الآية ، " يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقۡتُلُونَ وَيُقۡتَلُونَۖ " يقاتلون فى سبيل الله وسواء قتلوا أو قتلوا أو اجتمع لهم هذا وهذا فقد وجبت لهم الجنة ، وجاء فى الصحيحين " وتكفل الله لمن خرج فى سبيله لا يخرجه الا جهاد فى سبيلى وتصديق برسلى بأن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه الى منزله الذى خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة "" وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ وَٱلۡقُرۡءَانِ"تأكيد لهذا الوعد واخبار بأنه قد كتبه على نفسه الكريمة وأنزله على رسله فى كتبه الكبار وهى التوراة المنزلة على موسى والانجيل المنزل على عيسى ،والقرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ۚ، "ۚ وَمَنۡ مِنَ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ ٱللَّهِۚ " ليس هناك من يوفى بعهده من الله فانه لا يخلف الميعاد هذا كقوله " ومن أصدق من الله حديثا " وكقول " ومن أصدق من الله قيلا " ، " فَٱسۡتَبۡشِرُواْ بِبَيۡعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعۡتُم بِهِۦۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ " فليستبشر من قام بمقتضى هذا العقد ووفى بهذا العهد بالفوز العظيم والنعيم المقيم .
ٱلتَّٰٓئِبُونَ ٱلۡعَٰبِدُونَ ٱلۡحَٰمِدُونَ
ٱلسَّٰٓئِحُونَ ٱلرَّٰكِعُونَ ٱلسَّٰجِدُونَ ٱلۡأٓمِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ
وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ
ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ١١٢
" ٱلتَّٰٓئِبُونَ ٱلۡعَٰبِدُونَ ٱلۡحَٰمِدُونَ
ٱلسَّٰٓئِحُونَ ٱلرَّٰكِعُونَ ٱلسَّٰجِدُونَ ٱلۡأٓمِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ
عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ
"هذا نعت المؤمنين الذى اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بهذه الصفات الجميلة
والخلال الجليلة " ٱلتَّٰٓئِبُونَ فهم تائبون من الذنوب كلها تاركون للفواحش "
ٱلۡعَٰبِدُونَ" وقائمون بعبادة ربهم محافظين عليها بالأقوال والأفعال " ٱلۡحَٰمِدُونَ
" فمن أخص الأقوال الحمد فهم الحامدون " ٱلسَّٰٓئِحُونَ " والمراد بالسياحة هنا الصيام وهو ترك الملاذ من
الطعام والشراب والجماع كما وصف أزواج النبى صلى الله عليه وسلم فى قوله"
سائحات "أى صائمات ، وعن عبد الله بن مسعود قال "السائحون "
الصائمون وقال أبن عباس أن كل ما ذكر الله فى القرآن السياحة هم الصائمون وقال أبو
عمروالعبدى الذين يديمون الصيام من المؤمنين ، وعن أبى هريرة قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : " السائحون هم الصائمون " ، وقيل السياحة الجهاد
فمن حديث أبى أمامة أن رجلا قال يارسول الله أئذن لى فى السياحة فقال النبى صلى
الله عليه وسلم : " سياحة أمتى الجهاد فى سبيل الله " ، وقال عكرمة هم
طلبة العلم ،وقال عبد ارحمن بن أسلم هم المهاجرون " ٱلرَّٰكِعُونَ
ٱلسَّٰجِدُونَ " وكذا الركوع والسجود وهما عبارة عن الصلاة ولهذا قال
الراكعون الساجدون " ٱلۡأٓمِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ
ٱلۡمُنكَرِ" وهم مع ذلك ينفعون خلق
الله ويرشدونهم الى طاعة الله بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر" وَٱلۡحَٰفِظُونَ
لِحُدُودِ ٱللَّهِۗ " مع العلم بما ينبغى فعله ويجب تركه وهو حفظ حدود الله
فى تحليله وتحريمه علما وعملا فقاموا بعبادة الحق ونصح الخلق ، وقال أبن عباس
" وَٱلۡحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِۗ " القائمون بطاعة الله وقال الحسن
البصرى الحافظون لفرائض الله وفى رواية القائمون على أمر الله ولهذا قال "
وبشر المؤمنين " لأن الايمان يشمل هذ ا كله والسعادة السعادة لمن أتصف به .
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ
وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسۡتَغۡفِرُواْ لِلۡمُشۡرِكِينَ وَلَوۡ كَانُوٓاْ
أُوْلِي قُرۡبَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُمۡ أَصۡحَٰبُ
ٱلۡجَحِيمِ ١١٣ وَمَا كَانَ ٱسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن
مَّوۡعِدَةٖ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥٓ أَنَّهُۥ
عَدُوّٞ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنۡهُۚ إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَأَوَّٰهٌ
حَلِيمٞ ١١٤
" مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسۡتَغۡفِرُواْ لِلۡمُشۡرِكِينَ وَلَوۡ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرۡبَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُمۡ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ " عن أبن المسيب عن أبيه قال أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبى صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية فقال : " أى عم قل لا اله الا الله كلمة أحاج لك بها عند الله عز وجل " فقال أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية : ياابا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ " فقال : أنا على ملة عبد المطلب " فقال النبى صلى الله عليه وسلم : "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " فنزلت الآية وقال ونزلت فيه " انك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء " ، " وَمَا كَانَ ٱسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوۡعِدَةٖ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥٓ أَنَّهُۥ عَدُوّٞ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنۡهُۚ إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَأَوَّٰهٌ حَلِيم " ، قال أبن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأمه فنهاه الله عز وجل عن ذلك فقال "ان ابراهيم خليل الله قد استغفر لأبيه " فأنزل الله " وما كان استغفار ابراهيم لأبيه الا عن موعدة وعدها اياه " وقال أبن عباس أيضا فى هذه الآية كانوا يستغفرون لهم أى لآبائهم حتى نزلت هذه الآية فأمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ولم ينهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ثم أنزل الله "وَمَا كَانَ ٱسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ " ، وقال قتادة ذكر لنا أن رجالا من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم قالوا يا نبى الله ان من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العانى ويوفى بالذمم أفلا نستغفر لهم ؟ " فقال النبى صلى الله عليه وسلم : " بلى والله انى لأستغفر لأبى كما استغفر ابراهيم لأبيه " فأنزل الله "" مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسۡتَغۡفِرُواْ لِلۡمُشۡرِكِينَ وَلَوۡ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرۡبَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُمۡ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ " ثم عذر الله تعالى ابراهيم عليه السلام فقال " وَمَا كَانَ ٱسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ " وذكر لنا أن نبى الله صلى الله عليه وسلم قال : " قد أوحى الله الى كلمات فدخلن فى أذنى ووقرن فى قلبى : أمرت أن لا أستغفر لمن مات مشركا ومن أعطى فضل ماله فهو خير له ومن أمسك فهو شر له ولا يلوم الله على كفاف " ، " فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥٓ أَنَّهُۥ عَدُوّٞ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنۡهُۚ " قال أبن عباس مازال ابراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ، وفى رواية لما مات تبين له أنه عدو لله فتبرأمنه ، وقال قتادة وغيره انه يتبرأ منه يوم القيامة حين يلقى أباه وعلى وجه أبيه القترة والغبرة فيقول يا ابراهيم انى كنت أعصيك وانى اليوم لا أعصيك فيقول أى رب ألم تعدنى أن لا تخزنى الى يوم يبعثون ؟ فأى خزى أخزى من أبى الأبعد ؟ " فيقال أنظر الى ما وراءك فاذا هو بذبح متلطخ : أى قد مسخ ضبعا ثم يسحب بقوائمه ويلقى فى النار ،" إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَأَوَّٰهٌ حَلِيم" عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال بينما النبى صلى الله عليه وسلم جالس قال رجل يا رسول الله ما الأواه ؟ " قال :" المتضرع " وقال أبن مسعود هو الرحيم وقال قتادة أى الرحيم بعباد الله وقال أبن عباس الموقن وعنه أيضا أنه المؤمن وزاد أبو طلحة أنه المؤمن التواب ، وعن الامام أبو جعفر بن جرير قال وأولى الأقوال قول من قال انه الدعاء أى كثير الدعاء وهو المناسب للسياق وذلك أن الله تعالى لما ذكر أن ابراهيم انما استغفر لأبيه عن موعدة وعدها اياه وقد كان ابراهيم كثير الدعاء حليما عمن ظلمه ولهذا لستغفر لأبيه مع شدة أذاه له فى قوله " أراغب أنت عن آلهتى يا ابراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرنى مليا * قال سلام عليك سأستغفر لك ربى انه كان بى حفيا " فحلم عنه مع أذاه له ودعا له واستغفر ولهذا قال تعالى " إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَأَوَّٰهٌ حَلِيم" ، وعن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له ذو النجادين " انه أواه " وذلك أن الرجل كان اذا ذكر الله فى القرآن رفع صوته بالدعاء ، وعن أبى أيوب الأواه الذى اذا ذكر خطاياه استغفر منها وعن مجاهد الأواه الحفيظ الوجل يذنب الذنب سرا ثم يتوب منه سرا .
وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوۡمَۢا بَعۡدَ
إِذۡ هَدَىٰهُمۡ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ
شَيۡءٍ عَلِيمٌ ١١٥ إِنَّ ٱللَّهَ لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ
يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۚ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٖ ١١٦
" وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوۡمَۢا بَعۡدَ إِذۡ
هَدَىٰهُمۡ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ
شَيۡءٍ عَلِيم " يقول الله تعالى عن نفسه الكريمة وحكمه العادل انه لا يضل
قوما الا بعد ابلاغ الرسالة اليهم حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة فهو العليم بكل
شىء من أحوال عباده ،كما قال تعالى " فأما ثمود فهديناهم " ، وقال مجاهد
فى قوله " وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوۡمَۢا بَعۡدَ إِذۡ هَدَىٰهُمۡ
" قال أبن جرير يقول تعالى وما كان الله ليقضى عليكم فى استغفاركم لموتاكم
المشركين بالضلال بعد اذ رزقكم الهداية ووفقكم للايمان به وبرسوله حتى يتقدم اليكم
بالنهى عنه فتتركوا فأما قبل أن يبين لكم كراهة ذلك بالنهى عنه فلم تضيعوا نهيه
الى ما نهاكم عنه فانه لا يحكم عليكم بالضلال فان الطاعة والمعصية انما يكونان من
المأمور والمنهى وأما من لم بؤمر ولم ينه فغير كائن مطيعا أو عاصيا فيما لم يؤمر
به ولم ينه عنه ، " إِنَّ ٱللَّهَ لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ
يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۚ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِير " الله سبحانه وتعالى هو صاحب الملكوت فى
السماء والأرض هو المتصرف فيهما وهو الذى بيده الحياة والموت وهو ولى المؤمنين
وناصرهم ، قال أبن جرير هذا تحريض من الله
تعالى لعباده المؤمنين فى قتال المشركين وملوك الكفر وأنهم يثقوا بنصر الله مالك
السموات والأرض ولم يرهبوا من أعدائه فانه لا ولى لهم من دون الله ولا نصير لهم
سواه ، وعن حكيم بن حزام قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه اذ قال
لهم : " هل تسمعون ما أسمع ؟ " قالوا : ما نسمع من شىء " فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : " انى لأسمع أطيط السماء وما تلام أن تئط وما فيها
من موضع شبر الا وعليه ملك ساجد أو قائم " وقال كعب الأحبار ما من موضع خرمة
ابرة من الأرض الا وملك موكل بها يرفع علم ذلك الى الله وان ملائكة السماء لأكثر
من عدد التراب وان حملة العرش ما بين كعب أحدهم الى مخه مسيرة مائة عام .
لَّقَد تَّابَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلنَّبِيِّ
وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلۡعُسۡرَةِ
مِنۢ بَعۡدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنۡهُمۡ
ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّهُۥ بِهِمۡ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١١٧
" لَّقَد تَّابَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلنَّبِيِّ
وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلۡعُسۡرَةِ
" قال مجاهد وغيره نزلت هذه الآية فى غزوة تبوك وذلك أنهم خرجوا اليها فى شدة
من ألأمر فى سنة مجدبة وحر شديد وعسر من الزاد والماء ، قال قتادة خرجوا الى الشام
عام تبوك فى لهبان الحر على ما يعلم الله من الجهد ما أصابهم فيها جهد شديد حتى
لقد ذكر أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما وكان النفر يتداولون التمرة بينهم
بمصها هذا ثم يشرب عليها ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها فتاب الله عليهم وأقفلهم من
غزوتهم وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
الى تبوك فى قيظ شديد فنزلنا منزلا فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع
وحتى اذا كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع وحتى أن
الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقى على كبده فقال أبو بكر يارسول
الله ان الله عز وجل قد عودك فى الدعاء خيرا فادع لنا ، فقال : " تحب ذلك ؟
" قال : نعم " فرفع يديه فلم يرجعهما حتى سالت السماء فأهطلت ثم سكنت
فملؤا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر ، والمعنى قال أبن جرير تاب الله على النبى وأصحابه من المهاجرين والأنصار
الذين خرجوا فى غزوة تبوك الذين تعرضوا للعسر الشديد من عدم توافر نفقة وظهر وزاد
وماء وتعرض بعضهم للفتنة بسبب المشقة والتعب وشرح ذلك فيما بعده ، " مِنۢ بَعۡدِ مَا
كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيق مِّنۡهُمۡ " من بعد ما كان فريق منهم يبعد عن
الحق ويشك فى دين الرسول صلى الله عليه وسلم ويرتاب للذى نالهم المشقة فى سفرهم
وغزوهم " ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡۚ " ثم رزقهم الانابة الى ربهم والرجوع
الى الثبات " ، " إِنَّهُۥ بِهِمۡ رَءُوف رَّحِيم " فهو رءوف ورحيم
بهم ويعلم ما هم فيه وتجلت رحمته فيما أنزل من ماء من السماء ولكن الله يبتلى
المؤمنين ليجازى من يثبت على الحق وعلى دينه .
وَعَلَى ٱلثَّلَٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ
حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ وَضَاقَتۡ عَلَيۡهِمۡ
أَنفُسُهُمۡ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلۡجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلَّآ إِلَيۡهِ ثُمَّ
تَابَ عَلَيۡهِمۡ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ١١٨
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ
ٱلصَّٰدِقِينَ ١١٩
" وَعَلَى ٱلثَّلَٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ " عن
جابر بن عبد الله قال هم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكلهم من
الأنصار وقال آخرون مرارة بن الربيع كما وقع فى الصحيحين وهو الصواب وكذا فى مسلم
ربيعة وفى بعض نسخه مرارة بن الربيع ، قال كعب بن مالك : لما بلغنى أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضر بثى وطفقت أتذكر الكذب وأقول بماذا
أخرج من سخطه غدا وأستعين على ذلك بكل ذى رأى من أهلى فلما قيل ان رسول الله صلى
الله عليه قد أظل قادما زاح عنى الباطل وعرفت أنى لم أنج منه بشىء أبدا فأجمعت
صدقه فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان اذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى
ركعتين ثمجلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون اليه ويحلفون له
وكانوا بضعة وثمانين رجلا فيقبل منهم علا نيتهن ويستفغر لهم ويكل سرائرهم الى الله
حتى جئت فلما سلمت عليه تبسم تبسنم المغضب ثم قال لى " تعال " فجئت أمشى
حتى جلست بين يديه فقال لى" ما خلفك ألم تكن قد اشتريت ظهرا ؟ فقلت يارسول
الله انى لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر لقد أعطيت
جدلا ولكنى والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عنى ليوشكن الله أن
يسخطك على ،ولئن حدثتك بصدق تجد على فيه انى لأرجو عقبى ذلك من الله عز وجل والله
ما كانم لى عذر والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر منى حين تخلفت عنك فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : " أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضا الله فيك " فقمت ،
" حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ وَضَاقَتۡ
عَلَيۡهِمۡ أَنفُسُهُمۡ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلۡجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلَّآ
إِلَيۡهِ " وتعرض هؤلاء الثلاثة للضيق والكرب من هجر المسلمين اياهم نحوا من خمسين
ليلة بأيامها وضاقت عليهم أنفسهم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت أى مع سعتها فسددت
عليهم المسالك والمذاهب فلا يهتدون ما يصنعون فصبروا لأمر الله واستكانوا لأمر
الله وثبتوا حتى فرج الله عنهم بسبب صدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تخلفهم
وأنه كان عن غير عذر فعوقبوا على ذلك هذه المدة
،" ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ
ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيم " ثم تاب الله عليهم فكان عاقبة صدقهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم خيرا لهم وتوبة عليهم ولهذا قال "يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ
ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّٰدِقِين " أى اصدقوا
والزموا الصدق تكونوا من أهله وتنجوا من المهالك ويجعل لكم فرجا من أموركم ومخرجا
وقال عبد الله بن عمر " الصادقين " محمد صلى الله عليه وسلم
وأصحابه ، وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالصدق فان الصدق يهدى الى البر وان
البر يهدى الى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ،
واياكم والكذب فان الكذب يهدى الى الفجور وان الفجور يهدى الى النار ولا يزال
الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا "
.
مَا كَانَ لِأَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ وَمَنۡ
حَوۡلَهُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلَا
يَرۡغَبُواْ بِأَنفُسِهِمۡ عَن نَّفۡسِهِۦۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ لَا يُصِيبُهُمۡ
ظَمَأٞ وَلَا نَصَبٞ وَلَا
مَخۡمَصَةٞ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَطَونَُٔ
مَوۡطِئٗا يَغِيظُ ٱلۡكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنۡ عَدُوّٖ نَّيۡلًا
إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِۦ عَمَلٞ صَٰلِحٌۚ
إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١٢٠
" مَا كَانَ لِأَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ وَمَنۡ حَوۡلَهُم
مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلَا يَرۡغَبُواْ
بِأَنفُسِهِم عَن نَّفۡسِهِۦ" يعاتب الله تعالى المتخلفين عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم فى غزوة تبوك من أهل المدينة ومن حولها من أحياء العرب ورغبتهم
بأنفسهم عن مواساته فيما حصل له من المشقة فانهم نقصوا أنفسم من الأجر ذلك لأنهم "
ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ لَا يُصِيبُهُمۡ ظَمَأ " لايقع عليهم عطش " وَلَا نَصَب" وهو التعب " وَلَا ٔ مَخۡمَصَة فىُ سَبِيلِ
ٱللَّهِ " وهى المجاعة فى سبيل الله " وَلَا يَطَونَ مَوۡطِئٗا يَغِيظُ
ٱلۡكُفَّار " أى ينزلون منزلا يرهب عدوهم من الكفار " َ وَلَا
يَنَالُونَ مِنۡ عَدُوّٖ نَّيۡلًا
" أى ينالون من العدو ظفرا وغلبة
عليه إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِۦ عَمَل
صَٰلِحٌ" كتب لهم بهذه الأعمال التى ليست داخلة تحت قدرهم وانما هى ناشئة عن
أفعالهم أعمالا صالحة وثوابا جزيلا ، " ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ
ٱلۡمُحۡسِنِينَ "ۡ فالله سبحانه
وتعالى لايضيع أجر الذين يحسنون العمل " ان الله لايضيع أجر من أحسن عملا
" .
وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةٗ صَغِيرَةٗ وَلَا
كَبِيرَةٗ وَلَا يَقۡطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمۡ
لِيَجۡزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحۡسَنَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١٢١ ۞
" وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَة" أى هؤلاء الغذاة فى
سبيل الله لا ينفقون نفقة ، " صَغِيرَة
وَلَا كَبِيرَة" أى قليلا ولا كثيرا ، " وَلَا يَقۡطَعُونَ وَادِيًا
" أى فى السير الى الأعداء يقطعون مسافة وادى ، وقال قتادة ما ازداد قوم فى
سبيل الله بعدا من أهليهم الا ازدادوا قربا من الله ، " إِلَّا كُتِبَ لَهُمۡ
" أى حسب لهم فى أعمالهم الصالحة الصادرة عنهم ، " لِيَجۡزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحۡسَنَ مَا كَانُواْ
يَعۡمَلُونَ" يجزيهم الله حسن الجزاء بأفضل ما عملوا فالحسنة عنده بأضعافها ، حصل
لأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه من هذه الآية الكريمة حظ وافر ونصيب
عظيم وذلك أنه أنفق فى هذه الغزوة النفقات الجليلة والأموال الجزيلة فعن عبد
الرحمن بن حباب السلمى قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحث على جيش العسرة
فقال عثمان بن عفان رضى الله عنه على مائة بعير بأحلاسها وأقتابها ، ثم حث فقال
عثمان رضى الله عنه على مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها فرأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم بيده هكذا يحركها وأخرج عبد الصمد بن عبد الوارث (المحدث ) يده كالمتعجب
" ما على عثمان ما عمل بعد هذا " ، وعن عبد الرحمن بن سمرة قال جاء
عثمان رضى الله عنه الى النبى صلى الله عليه وسلم بألف دينار فى ثوبه حتى جهز
النبى صلى الله عليه وسلم جيش العسرة فصبها فى حجر النبى صلى الله عليه وسلم فرأيت
النبى صلى الله عليه وسلم يقلبها ويقول : " ما ضر أبن عفان ما عمل بعد اليوم
" يرددها مرارا ،
وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ
لِيَنفِرُواْ كَآفَّةٗۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ
طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ
إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ ١٢٢
" وَمَا كَانَ
ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّة " هذا بيان من الله تعالى لما أراد من
نفير الأحياء مع الرسول صلى الله عليه وسلم فى غزوة تبوك فانه قد ذهبت طائفة من
السلف الى أنه يجب النفير على كل مسلم اذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا
قال تعالى " انفروا خفافا وثقالا " ونسخ هذه الآية " ما كان لأهل
المدينة ومن حولهم من الأعراب " ، والمعنى أن يكون هناك شرذمة أو عصبة من كل
قبيلة يقول أبن عباس ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا النبى صلى الله عليه
وسلم وحده ، " فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَة مِّنۡهُمۡ طَآئِفَة
لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ
إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ "قال أبن عباس يعنى عصبة يعنى السرايا
ولا يسيروا الا باذنه فاذا رجعت السرايا وقد أنزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون مع
النبى صلى الله عليه وسلم وقالوا ان الله قد أنزل على نبيكم قرآنا وقد تعلمناه
فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله اذا رجعت اليهم ، قال قتادة اذا بعث الرسول صلى الله عليه وسلم
الجيوش أمرهم الله أن تقيم طائفة مع الرسول صلى الله عليه وسلم تتفقه فى الدين
وتنطلق تدعو قومها وتحذرهم وقائع الله فيمن خلا قبلهم ،وقال الضحاك كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم اذا غزا بنفسه لم يحل لأحد من المسلمين أن يتخلف عنه الا أهل
الأعذار وكان اذا قام وأسرى السريا لم يحل لهم أن ينطلقوا الا باذنه وكان الرجل
اذا أسرى فنزل بعده القرآن وتلاه نبى الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه القاعدين
معه فاذا رجعت السرية قال لهم الذين أقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ان
الله أنزل بعدكم على نبيه قرآنا فيقرئونه ويفقهونهم فى الدين وهوقوله " وَمَا
كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّة "اذا قام الرسول صلى الله عليه
وسلم وأرسل السرايا ولم يخرج بنفسه ،" فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَة
مِّنۡهُمۡ طَآئِفَة" يعنى بذلك أنه لا ينبغى للمسلمين أن ينفروا جميعا ونبى
الله صلى الله عليه وسلم قاعد ، ولكن اذا قعد النبى الله صلى الله عليه وسلم فسرت
السرايا ، وقد يقال ان هذا بيان لمراده تعالى من نفير الأحياء كلها وشرذمة من كل
قبيلة ان لم يخرجوا كلهم ليتفقه الخارجون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بما
ينزل من الوحى عليه وينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم بما كان من أمر العدو فيجتمع
لهم الأمران فى هذا النفير المعين وبعده صلى الله عليه وسلم تكون الطائفة النافرة
من الحى اما للتفقه واما للجهاد فانه فرض كفاية على الأحياء ، وقال مجاهد نزلت هذه الآية فى أناس من أصحاب
النبى صلى الله عليه وسلم خرجوا فى البوادى فأصابوا من الناس معروفا ،ومن الخصب ما
ينتفعون به ، ودعوا من وجدوا من الناس الى الهدى فقال لهم الناس ما نراكم الا
تركتم أصحابكم وجئتمونا فوجدوا فى أنفسهم من ذلك تحرجا وأقبلوامن البادية كلهم حتى
دخلوا على النبى صلى الله عليه وسلم فقال الله " فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ
فِرۡقَة مِّنۡهُمۡ طَآئِفَة " يبغون الخير " لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي
ٱلدِّينِ "وليستمعوا مافى الناس وما أنزل الله " وَلِيُنذِرُواْ
قَوۡمَهُمۡ ا إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ
" الناس كلهم اذا رجعوا اليهم " لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ " ، وقال العوفى عن
أبن عباس فى هذه الآية كان ينطلق من كل حى من العرب عصابة فيأتون النبى صلى الله
عليه وسلم فيسالونه عما يريدون من أمر دينهم ويتفقهون فى دينهم ويقولون للنبى صلى
الله عليه وسلم ما تامرنا أن نفعله ؟ وأخبرنا بما نأمر به عشائرنا اذا قدمنا عليهم
فيأمرهم نبى الله صلى الله عليه وسلم بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم
ويبعثهم الى قومهم بالصلاة والزكاة وكانوا اذا أتوا قومهم قالوا ان من أسلم فهو
منا وينذرونهم حتى أن الرجل ليفارق أباه وأمه وكان النبى صلى الله عليه وسلم
يخبرهم وينذرهم قومهم فاذا رجعوا اليهم يدعونهم الى الاسلام وينذرونهم بالنار
ويبشرونهم بالجنة ، وقال عكرمة لما نزلت " الا تنفروا يعذبكم عذابا أليما *
وما كان لأهل المدينة " قال المنافقون هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد
ولم ينفروا معه ،وقد كان ناس من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم خرجوا الى البدو
الى قومهم يفقهونهم فأنزل الله عز وجل "" وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ
لِيَنفِرُواْ كَآفَّة ".
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَٰتِلُواْ
ٱلَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ ٱلۡكُفَّارِ وَلۡيَجِدُواْ فِيكُمۡ غِلۡظَةٗۚ
وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ ١٢٣
" يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ ٱلۡكُفَّارِ " أمر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولا فأولا الأرب فالأقرب الى حوزة الاسلام ، ولهذا ردأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتا المشركين فى جزيرة العرب ، فلما فرغ منهم وفتح الله عليه المدينة ومكة والطائف واليمن واليمامة وهجر وخيبر وحضرموت وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب ودخل الناس من سائر أحياء العرب فى دين الله أفواجا شرع فى قتال أهل الكتاب فتجهز لغزوالروم الذين هم أقرب الناسالى جزيرة العرب وأولى الناس بالدعوة الى الاسلام لأنهم أهل الكتاب فبلغ تبوكثم رجع لأجل جهد الناس وجدب البلاد وضيق الحال وذلك سنة تسع من هجرته عليه السلام ، ثم اشتغل فى السنة العشرة بحجة الوداع ثم عاجلته المنية صلى الله عليه وسلم بعد حجته بأحد وثمانين يوما وقام بالأمر من بعده الخلفة أبى بكر الصديق رضى الله عنه فرد أهل الردة الى الاسلام وشرع فى تجهيز الجيوش الى الروم والفرس ،" وَلۡيَجِدُواْ فِيكُمۡ غِلۡظَة " وليجد الكفار منكم غلظة عليهم فى قتالكم لهم فان المؤمن الكامل هو الذى يكون رفيقا لأخيه المؤمن غليظا على عدوه الكافر كقوله تعالى " فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين " وكقوله " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم "وقال ـ يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم " وفى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنا الضحوك القتال " أى ضحوك فىوجه وليه قتال لهامة عدوه ،" ۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ "أى قاتلوا الكفار وتوكلوا على الله واعلموا أن الله معكم اذا اتقيتموه وأطعتموه ، وهكذا الأمر لما كانت القرون الثلاثة الذين هم خير هذه الأمة فى غاية الاستقامة والقيام بطاعة الله تعالى لم يزالوا ظاهرين على عدوهم ، ولم تزل الفتوحات كثيرة ، ثم لما وقعت الفتن والأهواء بين الملوك كمع الأعداء فى أطراف البلاد وتقدموا اليها فلم يمانعوا لشغل الملوك بعضهم ببعض ثم تقدموا الى حوزة الاسلام فأخذوا من الأطراف بلدانا كثيرة ثم لم يزالوا حتى استحوذوا على كثير من بلاد الاسلام ولله الأمر من قبل ومن بعد .
وَإِذَا مَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ فَمِنۡهُم
مَّن يَقُولُ أَيُّكُمۡ زَادَتۡهُ هَٰذِهِۦٓ إِيمَٰنٗاۚ فَأَمَّا
ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَهُمۡ
يَسۡتَبۡشِرُونَ ١٢٤ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ
فَزَادَتۡهُمۡ رِجۡسًا إِلَىٰ رِجۡسِهِمۡ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ ١٢٥
" وَإِذَا مَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ فَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمۡ زَادَتۡهُ هَٰذِهِۦٓ إِيمَٰنٗاۚ"واذا ما أنزلت سورة فمن المنافقين من يقول بعضهم لبعض أيكم زادته هذه السورة ايمانا ، " فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَهُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ"الذين آمنوا تزيدهم قراءة القرآن واتباعه ايمانا ويستبشرون بما سينالهم من جزاء من الله ومن حسن العاقبة ودخول الجنة ، وهذه الآية من أكبر الدلائل على أن الايمان يزيد وينقص كما هومذهب أكثر السلف والخلف من أئمة العلماء ، " وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَتۡهُمۡ رِجۡسًا إِلَىٰ رِجۡسِهِمۡ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ" الذين فى قلوبهم مرض فهم المنافقون زادتهم شكا الى شكهم وريبا الى ريبهم ويموتوا وهم على الكفر كما قال تعال " قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون فى آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد" ، وهذا من جملة شقائهم أن ما يهدى القلوب يكون سببا لضلالهم ودمارهم كما أن سيىء المزاج لو غذى به لا يزيده الا خبالا ونقصا .
أَوَلَا يَرَوۡنَ أَنَّهُمۡ
يُفۡتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٖ مَّرَّةً أَوۡ مَرَّتَيۡنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمۡ
يَذَّكَّرُونَ ١٢٦ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ نَّظَرَ
بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٍ هَلۡ يَرَىٰكُم مِّنۡ أَحَدٖ ثُمَّ
ٱنصَرَفُواْۚ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا
يَفۡقَهُونَ ١٢٧
" أَوَلَا يَرَوۡنَ أَنَّهُمۡ " يقول تعالى أو لايرى هؤلاء المنافقون " يُفۡتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٖ مَّرَّةً أَوۡ مَرَّتَيۡنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمۡ يَذَّكَّرُونَ " أنهم يختبرون فى كل عام مرة أومرتين ولكنهم لا يتوبون من ذنوبهم السالفة ولا يذكرون فيما يستقبل من أحوالهم قال مجاهد يختبرون بالسنة والجوع وقال قتادة بالغزو فى السنة مرة أومرتين وفى الحديث عن أنس قال لايزداد الأمر الا شدة ولا يزداد الناس الا شحا وما من عام الا والذى بعده شرمنه ، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم ، " وَإِذَا مَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ نَّظَرَ بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٍ هَلۡ يَرَىٰكُم مِّنۡ أَحَد" هذا أيضا اخبار عن المنافقين أنهم اذا أنزلت سورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر بعضهم الى بعض أى تلفتوا هل يراكم من أحد ؟ ثم انصرفوا أى تولوا عن الحق وانصرفوا عنه وهذا حالهم فى الدنيا لا يثبتون عند الحق كقوله تعالى " فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر متنفرة فرت من قسورة " وقوله " فما للذين كفروا قبلك مهطعين * عن اليمين وعن الشمال عزين " أى ما لهؤلاء القوم يتفللون عنك يمينا وشمالا هروبا من الحق وذهابا الى الباطل ،" ثُمَّ ٱنصَرَفُواْۚ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم " أى تركوا الحق وتولت قلوبهم فجزاهم الله مزيدا من الصرف والابتعاد حتى يحاسبهم فلا يفلتون من الحساب ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر كقوله " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ، "بِأَنَّهُمۡ قَوۡم لَّا يَفۡقَهُونَ " أى لا يفهمون عن الله خطابه ولا يقصدون لفهمه ولا يريدونه بل هم فى شغل عنه ونفور منه فلهذا صاروا الى ما صاروا .
لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُلۡ حَسۡبِيَ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُۖ وَهُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡعَظِيمِ١٢٩
" لَقَدۡ
جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُم " قد جاءكم
رسول منكم وبلغتكم كما قال جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه للنجاشى والمغيرة بن
شعبة لكسرى : ان الله بعث فينا رسولا منا نعرف نسبه وصفته ومدخله ومخرجه وصدقه
وأمانته ، وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال لم يصبه شىء من ولادة الجاهلية وقال
الرسول صلى الله عليه وسلم : " خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح " ، وعن
على قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح
من لدن آدم الى أن ولدنى أبى وأمى لم يمسنى من سفاح الجاهلية شىء ، " عَزِيزٌ
عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ " يعزعليه الشىء الذى يعنت أمته ويشق عليها وجاء
الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " بعثت بالحنيفية السمحة " وفى الصحيح
" ان الدين يسر " وشريعته كلها سهلة سمحة كاملة يسيرة على من يسرها الله
تعالى عليه ، " حَرِيصٌ عَلَيۡكُم " حريص على هدايتكم ووصول النفع الدنيوى والأخروى
اليكم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بقى شىء يقرب من الجنة
ويباعد من النار الا وقد بين لكم " ، " بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوف رَّحِيم
" الرسول صلى الله عليه وسلم كان عظيم الرأفة والرحمة بمن حوله ومن البشر
والطير والحيوان وليس بالمؤمنين وحدهم وجوانب الرحمة فى تعامله وشخصيته كثيرة لا
تحصى وتحتاج الى كتاب وكتب ،" فَإِن تَوَلَّوۡاْ " أى تولوا عما جئتهم
به من الشريعة العظيمة المطهرة الكاملة الشاملة ، " فَقُلۡ حَسۡبِيَ ٱللَّهُ لَآ
إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُۖ" قل الله كافى لا اله الا هو عليه توكلت كما قال
تعالى " رب المشرق والمغرب لا اله الا هم فاتخذه وكيلا " ، " وهو
رب العرش العظيم " هومالك كل شىء وخالقه لأنه رب العرش العظيم الذى هو سقف
المخلوقات وجميع الخلائق من السموات والأرضين وما فيهما وما بينهما تحت العرش
مقهورين بقدرة الله تعالى وعلمه محيط بكل شىء وقدره نافذ فى كل شىء وهو على كل شىء
وكيل ، وعن أبى الدرداء قال : من قال اذا أصبح واذا أمسى " حسبى الله لا اله
الا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم " سبع مرات الا كفاه الله ما أهمه
" .
الجزء الحادى عشر
سورة يونس
سورةمكية
الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ
ٱلۡحَكِيمِ ١ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ رَجُلٖ مِّنۡهُمۡ
أَنۡ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ
صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ قَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٞ مُّبِينٌ ٢
" الٓرۚ " الحروف
المقطعة فى أوائل السور تقدم الكلام عليها فى سورة البقرة " ، " تِلۡكَ
ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡحَكِيمِ " هذه آيات القرآن المحكم المبين ، " أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ رَجُلٖ مِّنۡهُمۡ " يقول تعالى منكرا على من تعجب من الكفار
من ارسال المرسلين من البشر كما أخبر تعالى عن القرون الماضين من قولهم "
أبشر يهدوننا " وقال هود وصالح لقومهما " أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم
على رجل منكم " وقال تعالى عن كفار قريش أنهم قالوا " أجعل الآلهة الها
واحدا ان هذا لشىء عجاب " ، وعن أبن عباس قال لما بعث الله تعالى محمدا صلى
الله عليه وسلم رسولا أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم فقالوا الله أعظم من أن
يكون رسوله بشرا مثل محمد فأنزل الله عز وجل الآية " أَنۡ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ
" أى أنذرهم من عذاب الله يوم القيامة بسبب كفرهم وشركهم ، " وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ " وبشر
الذين آمنوا وصدقوا بما أنزل اليك من ربك بما ينتظرهم من نعيم الجنة لاتباعهم ما
أنزل اليهم من ربهم ،" أَنَّ لَهُمۡ
قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ"
اختلفوا فيه قال أبن عباس لهم أجرا حسنا بما قدموا وقال مجاهد الأعمال الصالحة
صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم ومحمد صلى الله عليه وسلم يشفع لهم ، " قَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٞ مُّبِينٌ " معناه مع أنا بعثنا اليهم رسولا منهم رجلا
من جنسهم بشيرا ونذيرا قالوا عما جاء به هو سحر ظاهر وهم الكاذبون فى ذلك .
إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ
ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ
ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِنۢ
بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا
تَذَكَّرُونَ ٣
" إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ
ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ
عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ " يخبر الله تعالى أنه رب العالم جميعه وأنه خلق السموات
والأرض فى ستة أيام قيل كهذه الأيام وقيل كل يوم كألف سنة مما تعدون ثم استوى على
العرش والعرش أعظم المخلوقات وسقفها "ۖ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ " يدبر أمر
الخلائق كقوله " لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض " ولا
يشغله شأن عن شأن ولا تغلطه المسائل ولا يتبرم بالحاح الملحين ولا يلهيه تدبير
الكبير عن الصغير فى الجبال والبحار والعمران والقفر ويقول " وما من دابة فى
الأرض الا على الله رزقها " وقوله " وما تسقط منورقة الا يعلمها ولا حبة
فى ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس الا فى كتاب مبين " " مَا مِن شَفِيعٍ
إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ " الشفاعة تكون باذن الله لمن يشاء والشفاعة
هى منزلة يوم القيامة يدخل الله بها من يشاء الجنة وتؤتى الى الرسول محمد صلى الله
عليه وسلم باذن ربه فيشفع لأمته عند الله وموضوع الشفاعة يحتاج لحديث وكما قال
" من ذا الذى يشفع عنده الا باذنه " وكما قال " وكم من ملك فى
السموات لا تغنى شفاعتهم شيئا الا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى "
وكقوله " ولا تنفع الشفاعة عنده الا لمن أذن له " ، " ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ
" الله هو ربكم فأفردوه بالعبادة
وحده لا شريك له ،" أَفَلَا تَذَكَّرُونَ " أيها المشركون ألا تتدبرون
فى أمركم تعبدون مع الله الها غيره وأنتم تعلمون أنه المتفرد بالخلق وهذا كقوله
" ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " وكقوله " قل من رب السموات
السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله قل أفلا تتقون " .
إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗاۖ وَعۡدَ
ٱللَّهِ حَقًّاۚ إِنَّهُۥ يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ لِيَجۡزِيَ
ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَٱلَّذِينَ
كَفَرُواْ لَهُمۡ شَرَابٞ مِّنۡ حَمِيمٖ وَعَذَابٌ
أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡفُرُونَ ٤
" إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقًّاۚ إِنَّهُۥ يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ " يخبر تعالى أن اليه مرجع الخلائق يوم القيامة لا يترك أحدا منهم حتى يعيده كما بدأه كما قال " وهوالذى يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه " "لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ بِٱلۡقِسۡطِۚ " يحاسب الله عباده يوم القيامة بعد أن تبدل السموات والأرض ثم يبعثهم اليه فالذين آمنوا به وعملواالصالحات يأتيهم جزاءهم بالعدل ويوفون الجزاء الأوفى ،" وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمۡ شَرَابٞ مِّنۡ حَمِيمٖ وَعَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡفُرُونَ" والذين كفروا بسبب كفرهم يعذبون يوم القيامة بأنواع العذاب من سموم وحميم وظل من يحموم كما فى قوله " هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج " وكقوله " هذه جهنم التى يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن " .
" هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا" يخبر تعالى
عما خلق من الآيات الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه وأنه جعل الشعاع الصادر عن
جرم الشمس ضياءا أى يضىء الكون حوله وجعل شعاع القمر نورا ، القمر ينير الأرض
بالليل فهو يعكس ضوءها على الأرض فينيرها ليلا ،والقرآن هنا لفظه دقيق يفرق ما بين
الضياء والنور وهى من آيات الاعجاز العلمى التى سبق بها القرآن الكريم ، " وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ
وَٱلۡحِسَابَۚ " قدر القمر منازل فأول ما يبدو صغيرا ثم يتزايد نوره وجرمه
حتى يستوسق ويكمل ابداره ثم يشرع فى النقص حتى يرجع الى حالته الأولى فى تمام شهر
وبهذا يمكن معرفة الشهور القمرية والسنوات القمرية ، كما قال " والقمر قدرناه
منازل حتى عاد كالعرجون القديم * لا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق
النهار وكل فى فلك يسبحون " وكقوله " والشمس والقمر حسبانا " ، "
مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ " الله لم يخلقه عبثا بل له
حكمة عظيمة فى ذلك وحجة بالغة كقوله " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم الينا
لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا اله الا هو رب العرش الكريم " وكقوله
" وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا " ، " يُفَصِّلُ
ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ"
يبين الله الحجج والأدلة لمن يعلمون قدرته وعظمته فى خلقه ، كقوله " ان فى
خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب " ، " إِنَّ فِي ٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ
وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ " فى تعاقب الليل والنهار اذا جاء هذا ذهب
هذا لا يتأخر عنه شيئا كقوله " يغشى اليل النهار يطلبه حثيثا " وما خلق
الله من الآيات الدالة على عظمته تعالى ، " لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَّقُونَ " كل هذه دلائل لمن يخشى الله ويتقيه فى
قوله وعمله ، ذكر الله " ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ"
وذكر " لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَّقُونَ " فمن يتفكر فى آيات الله ويعرف عظمته فى
خلقه ودلائل قدرته سبانه وتعالى هم العالمون المتقون كما قال " انما يخشى
الله من عباده العلماء " .
إِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ
لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَٱطۡمَأَنُّواْ بِهَا
وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَنۡ ءَايَٰتِنَا غَٰفِلُونَ ٧ أُوْلَٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمُ
ٱلنَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ٨
"
إِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا
وَٱطۡمَأَنُّواْ بِهَا وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَنۡ ءَايَٰتِنَا غَٰفِلُونَ " يقول تعالى مخبرا عن حال الأشقياء الذين كفروا
بلقاء الله يوم القيامة ولا يرجون فى لقائه شيئا ورضوا بهده الحياة الدنيا واطمأنت
اليه نفوسهم قال الحسن والله ما زينوها ولا رفعوها حتى رضوا بها وهم غافلون عن
آيات الله الكونية فلا يتفكرون فيها والشرعية فلا يأتمرون بها ، " أُوْلَٰٓئِكَ
مَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ"هؤلاء مأواهم يوم معادهم
النار جزاء على ما كانوا يكسبون فى دنياهم من الآثام والخطايا والاجرام مع ما هم
فيه من الكفر بالله ورسله واليوم الآخر .
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ
وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ يَهۡدِيهِمۡ رَبُّهُم بِإِيمَٰنِهِمۡۖ تَجۡرِي مِن
تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰرُ فِي جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ ٩ دَعۡوَىٰهُمۡ فِيهَا
سُبۡحَٰنَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمۡ فِيهَا سَلَٰمٞۚ وَءَاخِرُ
دَعۡوَىٰهُمۡ أَنِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٠ ۞
" إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ يَهۡدِيهِمۡ رَبُّهُم بِإِيمَٰنِهِمۡۖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰرُ فِي جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ" هذا اخبار عن حال السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين وامتثلوا ما أمروا به فعملوا الصالحات بأنه سيهديهم بايمانهم ، ويحتمل أن تكون الباء هنا سببية فتقديره أى بسبب ايمانهم فى الدنيا يهديهم الله يوم القيامة على الصراط المستقيم حتى يجوزوه ويخلصوا الى الجنة جنة النعيم التى تجرى من تحتها الأنهار ، ويحتمل أن تكون الباء للاستعانة كما قال مجاهد يكون لهم نورا يمشون به ، وقال أبن جريج فى الآية يمثل له عمله فى صورة حسنة وريح طيبة اذا قام من قبره يعارض صاحبه ويبشره بكل خير فيقول من أنت ؟ فيقول أنا عملك فيجعل له نورا من بين يديه حتى يدخله الجنة ، " دَعۡوَىٰهُمۡ فِيهَا سُبۡحَٰنَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمۡ فِيهَا سَلَٰمٞۚ " هذا حال أهل الجنة يسبحون بحمد ربهم فى الجنة وتحية أهل الجنة هى السلام وذلك كقوله" تحيتهم يوم يلقونه سلام " وكقوله " لايسمعون فيها لغوا ولا تأثيما الا قيلا سلاما سلاما " وقوله" سلام قولا من رب رحيم " وقوله " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم " ،" وَءَاخِرُ دَعۡوَىٰهُمۡ أَنِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ " هذا فيه دلالة على أنه تعالى هو المحمود أبدا فى الدنيا والآخرة ، المعبود على طول المدا ، ولهذا حمد نفسه ابتداء خلقه واستمراره وفى ابتداء كتابه وعند ابتداء تنزيله حيث يقول تعالى" الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب " وقال " الحمد لله رب العالمين " وقوله" الحمد لله الذى خلق السموات والأرض " ، الى غير ذلك من الأحوال التى يطول بسطها ، فهو المحمود فى الأولى والآخرة فى الحياة الدنيا وفى الآخرة فى جميع الأحوال وجاء فى الحديث " ان أهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس " وانما يكون ذلك لما يرون من تزايد نعم الله عليهم فتكرر وتعاد وتزداد فليس لها انقضاء ولا أمد فلا اله الا هو ولا رب سواه .
وَلَوۡ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ
لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسۡتِعۡجَالَهُم بِٱلۡخَيۡرِ لَقُضِيَ إِلَيۡهِمۡ أَجَلُهُمۡۖ
فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ ١١
" وَلَوۡ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ
ٱسۡتِعۡجَالَهُم بِٱلۡخَيۡرِ لَقُضِيَ إِلَيۡهِمۡ أَجَلُهُمۡۖ " يخبر الله
تعالى عن حلمه ولطفه بعبادهأنه لا يستجيب لهم اذا دعوا على أنفسهم أو أموالهم أو
أولادهم فى حال ضجرهم وغضبهم وأنه يعلم منهم عدم القصد بالشر الى ارادة ذلك فلهذا
لا يستجيب لهم والحالة هذه لطفا ورحمة كما يستجيب لهم اذا دعوا لأنفسهم أولأموالهم
أو لأولادهم بالخير والبركة والنماء ، والمعنى فى الآية لو استجاب الله للناس كلما
دعوه به فى ذلك لأهلكهم ولكن لا ينبغى الاكثار من ذلك ، وقال جابر قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : " لا تدعوا على أنفسكم ، لا تدعو على أولادكم لا تدعو
على أموالكم ، لا توافقوا من الله ساعة فيهااجابه فيستجيب لكم " ، " فَنَذَرُ
ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغۡيَٰنِهِم يَعۡمَهُونَ ۡ " ينذر
الله الكافرين الذين يحبون الدنيا وهى نعيمهم ولا يفكرون فى الآخرة وهى معادهم عند
الله ويمهلهم ولا يعجل لهم العذاب بل يتركهم حتى اذا أخذهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر
فهو رحيم لا يعجل للمؤمن اذا دعا على نفسه وكذلك يمهل الكافر فى الدنيا .
وَإِذَا مَسَّ ٱلۡإِنسَٰنَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا
لِجَنۢبِهِۦٓ أَوۡ قَاعِدًا أَوۡ قَآئِمٗا فَلَمَّا
كَشَفۡنَا عَنۡهُ ضُرَّهُۥ مَرَّ كَأَن لَّمۡ يَدۡعُنَآ إِلَىٰ ضُرّٖ مَّسَّهُۥۚ
كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلۡمُسۡرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١٢
" وَإِذَا مَسَّ ٱلۡإِنسَٰنَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنۢبِهِۦٓ أَوۡ قَاعِدًا أَوۡ قَآئِمٗا" يخبر الله عن الانسان وضجره وقلقه اذا مسه الشر اذا أصاب الانسان شدة قلق لها وجزع منها الدعاء العرض الكثير أى أكثر من الدعاء عند ذلك فدعا الله فى كشفها ورفعها عنه فى حال اضطجاعه وقعوده وقيامه وفى جميع أحواله ، " فَلَمَّا كَشَفۡنَا عَنۡهُ ضُرَّهُۥ مَرَّ كَأَن لَّمۡ يَدۡعُنَآ إِلَىٰ ضُرّٖ مَّسَّهُۥۚ " فاذا فرج الله عن الانسان شدته وكشف كربته أعرض ونآى بجانبه وذهب :انه ما كان به من ذلك شىء ، " كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلۡمُسۡرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ " ذم الله تعالى من كان فيه هذه الصفة التى زينت لهم لهم عملهم ووصفهم بالاسراف على النفس فى المعاصى ، فأما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد فانه مستثنى من ذلك كقوله " الا الذين صبروا وعملوا الصالحات "وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عجبا لأمر المؤمن لا يقضى الله له قضاء الا كان خيرا له : ان أصابته ضراء فصبر كان خيرا له وان أصابته سراء فشكر كان خيرا له ، وليس ذلك لأحد الا للمؤمنين " .وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عجبا لأمر المؤمن لا يقضى الله له قضاء الا كان خيرا له : ان أصابته ضراء فصبر كان خيرا له وان أصابته سراء فشكر كان خيرا له ، وليس ذلك لأحد الا للمؤمنين " .
وَلَقَدۡ أَهۡلَكۡنَا ٱلۡقُرُونَ
مِن قَبۡلِكُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَمَا
كَانُواْ لِيُؤۡمِنُواْۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡمُجۡرِمِينَ ١٣ ثُمَّ
جَعَلۡنَٰكُمۡ خَلَٰٓئِفَ فِي ٱلۡأَرۡضِ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لِنَنظُرَ كَيۡفَ
تَعۡمَلُونَ ١٤
" وَلَقَدۡ أَهۡلَكۡنَا ٱلۡقُرُونَ مِن قَبۡلِكُمۡ
لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَمَا كَانُواْ
لِيُؤۡمِنُواْۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡمُجۡرِمِينَ " أخبر الله
تعالى عما أحل بالقرون الماضية فى تكذيبهم الرسل فيما جاءوهم به من البينات والحجج
الواضحات ، " ثُمَّ جَعَلۡنَٰكُمۡ خَلَٰٓئِفَ فِي ٱلۡأَرۡضِ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ
لِنَنظُرَ كَيۡفَ تَعۡمَلُونَ " ثم
استخلف الله هؤلاء القوم من بعدهم وأرسل اليهم رسولا لينظر طاعتهم له واتباعهم
رسوله ، وفى صحيح مسلم عن أبى سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
ان الدنيا حلوة خضرة وان الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا
واتقوا النساء فان أول فتنة بنى اسرائيل كانت من النساء " .
وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ
ءَايَاتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا ٱئۡتِ بِقُرۡءَانٍ
غَيۡرِ هَٰذَآ أَوۡ بَدِّلۡهُۚ قُلۡ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنۡ أُبَدِّلَهُۥ مِن
تِلۡقَآيِٕ نَفۡسِيٓۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّۖ إِنِّيٓ
أَخَافُ إِنۡ عَصَيۡتُ رَبِّي عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيمٖ ١٥ قُل لَّوۡ
شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوۡتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ وَلَآ أَدۡرَىٰكُم بِهِۦۖ فَقَدۡ
لَبِثۡتُ فِيكُمۡ عُمُرٗا مِّن قَبۡلِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ ١٦
" وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَاتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا ٱئۡتِ
بِقُرۡءَانٍ غَيۡرِ هَٰذَآ أَوۡ بَدِّلۡهُۚ" يخبر تعالى عن تعنت الكفار من
مشركى قريش الجاحدين المعرضين عنه أنهم اذا قرأ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم
كتاب الله وحجته الوضحة قالوا ائت بقرآن غير هذا وجئنا من نمط آخر أو بدله الى وضع
آخر ، " قُلۡ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنۡ
أُبَدِّلَهُۥ مِن تِلۡقَآيِٕ نَفۡسِيٓۖ إِنۡ
أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّۖ إِنِّيٓ أَخَافُ إِنۡ عَصَيۡتُ رَبِّي
عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيم " ليس لى هذا انما أنا عبد مأمور ورسول مبلغ عن الله ولا
يمكن أن أعصى ربى فيما أنزل الى وأمرنى به لأنى ان فعلت ذلك نالنى من الله واستحق
على غضب منه وعذاب عظيم فى الآخرة ، " قُل لَّوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا
تَلَوۡتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ وَلَآ أَدۡرَىٰكُم بِهِۦۖ " ثم قال محتجا عليهم فى
صحة ما جاءهم انما جئتكم به عن اذن الله لى فى ذلك ومشيئته وارادته ، والدليل على
أنى لست أتقوله من عندى ولا افتريته أنكم عاجزون عن معارضته وانكم تعلمون صدقى
وأمانتى منذ نشأت بينكم الى حين بعثنى الله عز وجل لا تنتقدون على شيئا تغمصونى به
، ولهذا قال " فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِيكُمۡ عُمُرٗا مِّن قَبۡلِهِۦٓۚ
أَفَلَا تَعۡقِلُونَ " أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل ولهذا لما
سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان ومن معه فيما سأله من صفة النبى صلى الله عليه وسلم قال
هرقل لأبى سفيان : " هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ " قال
أبو سفيان "لا " وكان أبو سفيان اذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين ومه
هذا اعترف بالحق ، فقال له هرقل : " فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على
الناس ثم يذهب فيكذب على الله " ، وقال جعفر بن أبى طالب للنجاشى ملك الحبشة
" بعث الله فينا رسولا نعرفه صدقه ونسبه وأمانته ، وقد كانت مدة مقامه عليه
السلام بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة .
ٔ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى
ٱللَّهِ كَذِبًا أَوۡ كَذَّبَ بِآَيَٰتِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ
ٱلۡمُجۡرِمُونَ١٧
" فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوۡ كَذَّبَ بِآَيَٰتِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ " يقول تعالى لاأحد أظلم ولا أعتى ولا أشد اجراما ولا أعظم ظلما من الذى يختلق الكذب على الله ، فمن أدعى ذلك فلابد أن الله ينصب عليه من الأدلة على فجوره ما هو أظهر من الشمس ، فان الفرق بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين مسيلمة الكاب لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين وقت الضحى وبين نصف الليل فى حندس الظلماء ، فمن شيم كل منهما وأفعاله وكلامه يستدل من له بصيرة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وكذب مسيلمة الكذاب وسجاح والأسود العنسى مدعيى النبوة ، قال عبد الله بن سلام لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس فكنت فيمن انجفل ، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب فكان أول من سمعته يقول : " يا أيها الناس أفشوا السلام ، واطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلون الجنة بسلام " ، ولما قدم وفد ضمام بن ثعلبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قومه بنى سعد بن بكر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال : من رفع السماء ؟ " قال : الله "قال : ومن نصب هذه الجبال ؟ " قال : الله " قال : ومن سطح هذه الأرض ؟" قال : الله " قال : فبالذى رفع هذه السماء ونصب هذه الجبال وسطح هذه الأرض الله أرسلك الى الناس كلهم ؟ " قال : اللهم نعم " ثم سأله عن الصلاة والزكاةوالحج والصيام ويحلف عند كل واحدة هذه اليمين ، ويحلف له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له صدقت ، والذى بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقص " فاكتفى هذا الرجل بمجرد هذا ، وقد أيقن بصدقه صلى الله عليه وسلم بما رأى وشاهد من الدلائل الدالة عليه ، وأما مسيلمة فمن شاهده من ذوى البصائر علم أمره لا محالة بأقواله الركيكة التى ليست بفصيحة ، وأفعاله غير الحسنة بل القبيحة ، وقرآنه الذى يخلد به فى النار يوم الحسرة والفضيحة ، ومن من فرق بين قوله تعالى " الله لا آله الا هو الحى القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم " الى آخرها ، وبين قول مسيلمة " ياضفدع بنت ضفدعين ، نقى كما تنقين ، لا الماء تكدرين ، ولا الشارب تمنعين " وقوله " الفيل وما أدراك ما الفيل ، له خرطوم طويل"وقوله " والعاجنات عجنا ، والخابزات خبزا ، واللاقمات لقما ، اهالة وسمنا ، ان قريش قوم يعتدون " وقال " لقد أنعم الله على الحبلى ، اذ أخرج منها نسمة تسعى ، من بين صفاق وحشا " ، ولما قدم على الصديق صحب مسيلمة وأهله سأله الصديق رضى الله عنه أن يقرءوا عليه شيئا من قرآنمسيلمة لعنه الله فسألوه أن يعفيهم من ذلك فأبى عليهم الا أن يقرءوا شيئا منه ليسمعه من لم يسمعه من الناس فيعرفوا فضل ما هم عليه من الهدى والعلم فقرءوا عليه من هذا الذى ذكر وأشباهه ، فلما فرغوا قال لهم الصديق رضى الله عنه ويحكم أين كان يذهب بعقولكم ؟ ، وذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة وكان صديقا له فى الجاهلية وكان عمرو لم يسلم بعد فقال له مسيلمة ويحك يا عمرو ماذا أنزل على صاحبكم يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذه المدة ، فقال : لقد سمعت أصحابه يقرءون سورة عظيمة قصيرة فقال وما هى ؟ فقال " والعصر ان الانسان لفى خسر " الى آخر السورة ففكر مسيلمة ساعة ثم قال : وأنا قد أنزل على مثله فقال له عمرو :" وما هو ؟ " فقال : يا وبر يا وبر ، انما أنت أذنان وصدر ، وسائرك حفر نقر ،ةكيف ترى يا عمرو ؟ " فقال له عمرو : " والله انك لتعلم أنك تكذب " فاذا كان هذا من مشرك فى حال شركه لم يشتبه عليه حال محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه ، وحال مسيلمة وكذبه ، فكيف بأولى البصائر والنهى ، وأصحاب العقول السليمة المستقيمة والحجا ولهذا قال تعالى " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى الى ولم يوح اليه شىء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله " وما جاء فى هذه الآية الكريمة " فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوۡ كَذَّبَ بِآَيَٰتِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ " ، وجاء فى الحديث " أعتى الناس على الله رجل قتل نبيا أو قتله نبى " .
وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا
يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡ وَيَقُولُونَ هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ
ٱللَّهِۚ قُلۡ أَتُنَبّونَُِٔ ٱللَّهَ بِمَا
لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ
عَمَّا يُشۡرِكُونَ ١٨ وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلَّآ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ
فَٱخۡتَلَفُواْۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن
رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيۡنَهُمۡ فِيمَا فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ١٩
وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُم وَيَقُولُونَ هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِۚ قُلۡ أَتُنَبّونَِ ٱللَّهَ " بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ " ينكر الله تعالى على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره ظانين أن تلك الآلهة تنفعهم شفاعتها عند الله فأخبر تعالى أنها لا تضر ولا تنفع ولا تملك شيئا ،ولا يقع شىء مما يزعمون فيها ولا يكون هذا أبدا ولهذا قال تعالى " قُلۡ أَتُنَبّونَِ ٱللَّهَ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ" قال أبن جرير معناه أتخبرونم الله بما لايكون فى السموات ولا فى الأرض؟ ثم نزهنفسه الكريمة عن شركهم وكفرهم فقال " سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ " ، " وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلَّآ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَٱخۡتَلَفُواْۚ " أخبر تعالى أن هذا الشرك حادث فى الناس كائن بعد أن لم يكن وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد وهو الاسلام ، قال أبن عباس " كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الاسلام ثم وقع الاختلاف بين الناس وعبدت الاصنام والأنداد والأوثان فبعث الله الرسل بآياته وبيناته وحججه البالغة وبراهينه الدامغة " ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة ، " وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيۡنَهُمۡ فِيمَا فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ " لولا ما تقدم من الله تعالى أنه لا يعذب أحدا الا بعد قيام الحجة عليه ، وأنه قد أجل الخلق الى أجل معدود لقضى بينهم فيما اختلفوا فيه فأسعد المؤمنين وأعنت الكافرين . وَيَقُولُونَ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ ءَايَةٞ مِّن رَّبِّهِۦۖ فَقُلۡ إِنَّمَا ٱلۡغَيۡبُ لِلَّهِ فَٱنتَظِرُوٓاْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ ٱلۡمُنتَظِرِينَ ٢٠
" وَيَقُولُونَ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ ءَايَةٞ مِّن رَّبِّهِۦۖ" " يقول الكفرة المكذبون
المعاندون لولا أنزل على محمد آية من ربه يعنون أن يحول لهم الصفا ذهبا أو يزيح
عنهم جبال مكة ويجعل مكانها بساتين وأنهارا أو نحو ذلك مما الله قادر ولكنه حكيم
فى أفعاله وأقواله كقوله " وما منعنا أن نرسل بالآيات الا أن كذب بها الأولون
"يقول تعالى ان سنتى فى خلقى أنى فى خلقى أنى اذا آتيتهم ما سألوا ، فان آمنوا والا عاجلتهم بالعقوبة ، ولهذا لما
خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين
اعطائهم ما سألوا غان آمنوا والا عذبوا ، وبين انظارهم اختار انظارهم كما حلم عنهم
غير مرة ، " فَقُلۡ إِنَّمَا ٱلۡغَيۡبُ لِلَّهِ " أى الأمر كله لله وهو
يعلم العواقب فى الأمور ، " فَٱنتَظِرُوٓاْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ
ٱلۡمُنتَظِرِينَ " ان كنتم لا تؤمنون حتى تشاهدوا ما سألتم فانتظروا حكم الله
فى وفيكم ، هذا مع أنهم شاهدوا من آياته صلى الله عليه وسلم أعظم مما سألوا حين
أشار بحضرتهم الى القمر ليلة ابدار فانشق اثنتين فرقة من وراء الجبل وفرقة من دونه
، وهذا أعظم من سائر الآيات الأرضية مما سألوا وما لم يسألوا ، ولو علم الله منهم
أنهم سألوا ذلك استرشادا وتثبيتا لأجابهم ، ولكن علم أنهم انما يسألون عنادا
وتعنتا فتركهم فيما رابهم وعلم أنهم لا يؤمن منهم أحد وهذا كقوله تعالى " ان
الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية " ، وكقوله " ولو
أننا نزلنا اليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شىء قبلا ما كانوا
ليؤمنوا الا أن يشاء الله "، فمثل هؤلاء أقل من أن يجابوا الى ما سألوا لأنه
لا فائدة فى جوابهم لأنه دائر على تعنتهم وعنادهم لكثرة فجورهم وفسادهم ولهذا قال
" فَٱنتَظِرُوٓاْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ ٱلۡمُنتَظِرِينَ " .
وَإِذَآ أَذَقۡنَا ٱلنَّاسَ
رَحۡمَةٗ مِّنۢ بَعۡدِ ضَرَّآءَ مَسَّتۡهُمۡ إِذَا لَهُم مَّكۡرٞ فِيٓ
ءَايَاتِنَاۚ قُلِ ٱللَّهُ أَسۡرَعُ مَكۡرًاۚ إِنَّ رُسُلَنَا يَكۡتُبُونَ مَا
تَمۡكُرُونَ ٢١ هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۖ حَتَّىٰٓ
إِذَا كُنتُمۡ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَجَرَيۡنَ بِهِم بِرِيحٖ طَيِّبَةٖ وَفَرِحُواْ
بِهَا جَآءَتۡهَا رِيحٌ عَاصِفٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡمَوۡجُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَظَنُّوٓاْ
أَنَّهُمۡ أُحِيطَ بِهِمۡ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنۡ
أَنجَيۡتَنَا مِنۡ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِينَ ٢٢ فَلَمَّآ
أَنجَىٰهُمۡ إِذَا هُمۡ يَبۡغُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۗ يَٰٓأَيُّهَا
ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغۡيُكُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۖ مَّتَٰعَ ٱلۡحَيَوٰةِ
ٱلدُّنۡيَاۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُكُمۡ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ
تَعۡمَلُونَ ٢٣
" وَإِذَآ أَذَقۡنَا ٱلنَّاسَ رَحۡمَةٗ مِّنۢ بَعۡدِ ضَرَّآءَ مَسَّتۡهُمۡ إِذَا لَهُم مَّكۡرٞ فِيٓ ءَايَاتِنَاۚ "يخبر تعالى أنه اذا أذاق الناس
رحمة بعد ضراء مستهم كالرخاء بعد الشدة ، والخصب بعد الجدب ،والمطر بعد القحط ونحو
ذلك فان ذلك لا يقابل بالشكر الواجب بل بنكران وتكذيب واستهزاء وهذا كقوله " واذا
مس الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما " ، وفى الصحيح أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح على أثر سماء كانت من الليل أى مطر ثم قال
:" هل تدرون ماذا قال ربكم الليلة ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم "
قال : " قال أصبح من عبادى مؤمن بى وكافر ، فأما من قال مطرنا بفضل الله
ورحمته فذاك مؤمن بى كافر بالكوكب ، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بى
مؤمن بالكوكب " ، " قُلِ ٱللَّهُ أَسۡرَعُ مَكۡرًاۚ إِنَّ رُسُلَنَا
يَكۡتُبُونَ مَا تَمۡكُرُونَ " أى أشد استدراجا وامهالا حتى يظن الظان من
المجرمين أنه ليس بمعذب وانما هو فى مهلة ثم يؤخذ على غرة منه والكاتبون الكرام
يكتبون عليه جميع ما يفعله ويحصونه عليه ثم يعرضونه على عالم الغيب والشهادة
فيجازيه على الجليل والحقير والنقير والقطمير ، " هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمۡ
فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۖ" أى يحفظكم ويكلؤكم بحراسته ،" حَتَّىٰٓ
إِذَا كُنتُمۡ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَجَرَيۡنَ بِهِم بِرِيحٖ طَيِّبَةٖ وَفَرِحُواْ بِهَا" يضرب الله هنا مثلا يوضح به تقلب الناس فيقول
اذا كان الناس مستقلين سفينة تسير بهم بسرعة بفعل الريح الطيبة المواتية وهم مسرورون
فرحون بذلك ، " جَآءَتۡهَا رِيحٌ
عَاصِفٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡمَوۡجُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ أُحِيطَ بِهِمۡ" فبينما هم كذلك
هبت ريح عاصفة شديدة على تلك السفينة واغتلم البحر وارتفع الموج وظن من فى السفينة
أنهم هلكوا ، " دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنۡ
أَنجَيۡتَنَا مِنۡ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِينَ" يفردون الله
بالدعاء والابتهال ولا يدعون معه صنما ولا وثنا لئن أنجاهم لا يشركون به أحدا
وليفردونه بالعبادة كما أفردناك بالدعاء كقوله " واذا مسكم الضر فى البحر ضل من تدعون الا اياه فلما نجاكم الى البر أعرضتم
وكان الانسان كفورا " ، " فَلَمَّآ أَنجَىٰهُمۡ إِذَا هُمۡ
يَبۡغُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ"
لما أنجاهم الله من تلك الورطة كأن لم يكن من ذلك شىء كقوله " كأن لم
يدعنا الى ضر مسه " ، " يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغۡيُكُمۡ
عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۖ " يخاطب الله الناس فيقول انما
يذوق وبال البغى أنتم أنفسكم ولا تضرون به أحدا غيركم كما جاء فى الحديث " ما
من ذنب أجدر من أن يعجل الله عقوبته فى الدنيا مع ما يدخر الله لصاحبه فى الآخرة
من البغى وقطيعة الرحم ،" مَّتَٰعَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ " أى انما لكم
متاع فى الحياة الدنيا الدنيئة الحقيرة ، " ثُمَّ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُكُم " أى الى الله
مصيركم ومآلكم " فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ" فيخبركم
بجميع أعمالكم ويوفيكم اياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلن فلا
يلومن الا تنفسه .
إِنَّمَا مَثَلُ
ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ
نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ مِمَّا يَأۡكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلۡأَنۡعَٰمُ حَتَّىٰٓ إِذَآ
أَخَذَتِ ٱلۡأَرۡضُ زُخۡرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتۡ وَظَنَّ أَهۡلُهَآ أَنَّهُمۡ
قَٰدِرُونَ عَلَيۡهَآ أَتَىٰهَآ أَمۡرُنَا لَيۡلًا أَوۡ نَهَارٗا
فَجَعَلۡنَٰهَا حَصِيدٗا كَأَن لَّمۡ تَغۡنَ بِٱلۡأَمۡسِۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ
ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ ٢٤ وَٱللَّهُ يَدۡعُوٓاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلَٰمِ
وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ٢٥ ۞
" إِنَّمَا مَثَلُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ مِمَّا يَأۡكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلۡأَنۡعَٰمُ" ضرب الله تعالى مثلا لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها بالنبات الذى أخرجه الله من الأرض بماء أنزل من السماء مما يأكل الناس من زروع وثمار على اختلاف أنواعها وأصنافها وما تأكل الأنعام من أب وقضب وغير ذلك ، " حَتَّىٰٓ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلۡأَرۡضُ زُخۡرُفَهَا " حت اخذت الأرض زينتها الفانية ، " وَٱزَّيَّنَتۡ"أى حسنت بما خرج فى رباها من زهور نضرة مختلفة الاشكال والألوان ، "ۡ وَظَنَّ أَهۡلُهَآ أَنَّهُمۡ قَٰدِرُونَ عَلَيۡهَا" ظن الذين زرعوها وغرسوها أنهم قادرون على جذاذها وحصادها ، " أَتَىٰهَآ أَمۡرُنَا لَيۡلًا أَوۡ نَهَارٗا فَجَعَلۡنَٰهَا حَصِيدا " نزل بها أمر الله فى ساعة من ليل أو نهار فأصبحت يابسا بعد الخضرة والنضارة " كَأَن لَّمۡ تَغۡنَ بِٱلۡأَمۡسِۚ " فأصبحت كأنها ما كانت حينا قبل ذلك وقال قتادة كأن لم تغن كأن لم تنعم وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن ولهذا جاء فى الحديث " يؤتى بأنعم أهل الدنيا فيغمس فى النار غمسة فيقال له هل رأيت خيرا قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول : لا ، ويؤتى بأشد الناس عذابا فى الدنيا فيغمس فى النعيم غمسة ثم يقال له هل رأيت بؤسا قط ؟ فيقول : لا " ، " كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ " أى نبين الحجج والأدلة " لِقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ " لمن يعتبرون بهذا المثل فى زوال الدنيا من أهلها سريع مع اغترارهم بها وتمكنهم وثقتهم بمواعيدها ونقلتها عنهم ، فان من طبعها الهرب ممن طلبها ،والطلب لم هرب منها ، وقد ضرب الله مثل الدنيا بنبات الأرض فى غير آية منكتابه العزيز فقال فى سورة الكهف " واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شىء مقتدرا " ، " وَٱللَّهُ يَدۡعُوٓاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلَٰمِ " لما ذكر الله تعالى الدنيا وسرعة زوالها رغب فى الجنة ودعا اليها وسماها دار السلام أى من الآفات والنقائص والنكبات " وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيم" وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال :" انى رأيت فى المنام كأن جبريل عند رأسى وميكائيل عند رجلى يقول أحدهما لصاحبه اضرب له مثلا فقال : اسمع سمعت أذنك ، واعقل عقل قلبك ، انما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بيتا ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولا يدعو الناس الى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه ، فالله الملك والدار الاسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد الرسول ، فمن أجابك دخل الاسلام ومن دخل الاسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل منها " رواه أبن جرير ، وعن أبى الدرداء مرفوعا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما من يوم طلعت فيه الشمس الا وبجنبيها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم الا الثقلين : يا أيها الناس هلموا الى ربكم ان ما قل وكفى خير مما كثر مألهى " .
لِّلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ
ٱلۡحُسۡنَىٰ وَزِيَادَةٞۖ وَلَا يَرۡهَقُ وُجُوهَهُمۡ قَتَرٞ وَلَا
ذِلَّةٌۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٦
" لِّلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ ٱلۡحُسۡنَىٰ "يخبر تعالى أن لمن أحسن العمل فى الدنيا بالايمان والعمل الصالح الحسنى فى الدار الآخرة وهذا كقوله " هل جزاء الاحسان الا الاحسان " ، " وَزِيَادَة " هى تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها الى سبعمائة ضعف وزيادة على ذلك أيضا ويشمل ما يعطيعمه الله فى الجنان من القصور والحور والرضا عنهم وما أخفاه لهم من قرة أعين وأفضل من ذلك وأعلاه النظر الى وجهه الكريم فانه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه لا يستحقونها بعملهم بل بفضله ورحمته ، وقد روى تفسير الزيادة بالنظر الى وجهه الكريم ، وعن صهيب رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية" لِّلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ ٱلۡحُسۡنَىٰ وَزِيَادَة" وقال : " اذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة ان لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون وما هو ؟ ألم يثقل موازيننا ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار - قال فيكشف لهم الحجاب فينظرون اليه ، فو الله ما أعطاعهم الله شيئا أحب اليهم من النظر اليه ولا أقر لأعينهم " ، وحدث أبا موسى الأشعرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ان الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادى يا أهل الجنة - بصوت يسمع أولهم وآخرهم - ان الله وعدكم الحسنى وزيادة ، فالحسنى الجنة ، والزيادة النظر الى وجه الرحمن عز وجل " ، وعن أبى بن كعب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عزوجل " لِّلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ ٱلۡحُسۡنَىٰ وَزِيَادَة" قال الحسنى الجنة ، والزيادة النظر الى وجه الله عز و جل " ، " وَلَا يَرۡهَقُ وُجُوهَهُمۡ قَتَرٞ وَلَا ذِلَّةٌۚ " أى لايصابون بالقتام والسواد فى عرصات المحشر كما يعترى وجوه الكفرة الفجرة من القترة والغبرة ولا هوان وصغار ولا يحصل لهم اهانة فى الباطن ولا فى الظاهر بل هم كقوله " فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا " أى نضرة فى وجوههم وسرورا فى قلوبهم ، ، " أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ " هؤلاء جزاؤهم الجنة خالدين فيها .
وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّ َاتِ
جَزَآءُ سَيِّئَةِۢ بِمِثۡلِهَا وَتَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّةٞۖ مَّا لَهُم
مِّنَ ٱللَّهِ مِنۡ عَاصِمٖۖ كَأَنَّمَآٔ أُغۡشِيَتۡ
وُجُوهُهُمۡ قِطَعٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِ مُظۡلِمًاۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ
هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٧
" وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّ َاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةِۢ بِمِثۡلِهَا " لما أخبر تعالى عن حال السعداء الذين يضاعف لهم الحسنات ويزدادون على ذلك بذكر حال الأشقياء فذكر تعالى عدله فيهم وأنه يجازيهم على السيئة بمثلها ،" وَتَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّة " تعتريهم وتعلوهم ذلة من معاصيهم وخوفهم منها ، كما قال " وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل " ، " مَّا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِنۡ عَاصِم " أولئك ليس هناك مانع ولا واق يقيهم عذاب الله كقوله تعال " يقول الانسان يومئذ أين المفر * كلا لا وزر * الى ربك يومئذ المستقر " ، " كَأَنَّمَآ أُغۡشِيَتۡ وُجُوهُهُمۡ قِطَعٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِ مُظۡلِمًا" هذا اخبار عن سواد وجوههم فى الدار الأخرة كقوله تعالى " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين أسودت وجوههم أكفرتم بعد ايمانكم فذوقوا العذاب بماكنتم تكفرون * وأما الذين ابيضت وجوههم ففى رحمة الله هم فيها خالدون " ، " أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُون " اولئك خالدين فى النار لا يخرجون منها . َ
وَيَوۡمَ نَحۡشُرُهُمۡ جَمِيعٗا ثُمَّ
نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ مَكَانَكُمۡ أَنتُمۡ وَشُرَكَآؤُكُمۡۚ
فَزَيَّلۡنَا بَيۡنَهُمۡۖ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمۡ إِيَّانَا
تَعۡبُدُونَ ٢٨ فَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدَۢا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ إِن كُنَّا
عَنۡ عِبَادَتِكُمۡ لَغَٰفِلِينَ ٢٩ هُنَالِكَ تَبۡلُواْ كُلُّ نَفۡسٖ مَّآ
أَسۡلَفَتۡۚ وَرُدُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوۡلَىٰهُمُ ٱلۡحَقِّۖ وَضَلَّ عَنۡهُم
مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ ٣٠
" وَيَوۡمَ نَحۡشُرُهُمۡ جَمِيعٗا " يقول تعالى يوم القيامة يوم يحشر أهل الأرض كلهم جميعا من انس وجن وبر وفاجر ، " ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ مَكَانَكُمۡ أَنتُمۡ وَشُرَكَآؤُكُمۡ " يخاطب الله المشركين ومن تبعهم أن يلزموا هم ومن تبعهم وكان على نمطهم على الكفر والشرك وكذلك اصنامهم وأوثانهم أن يلزموا مكانا معينا يمتازوا فيه عن مقام المؤمنين كقوله تعالى" وامتازوا اليوم أيها المجرمون " وكقوله " ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون "،" فَزَيَّلۡنَا بَيۡنَهُمۡ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمۡ إِيَّانَا تَعۡبُدُونَ " أى أنهم أنكروا عبادتهم وتبرءوا منهم كقوله " كلا سيكفرون بعبادتهم " وقوله " اذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا " ،" فَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدَۢا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ" والله شهيد بيننا وبينكم أنا ما دعوناكم الى عبادتنا ولا أمرناكم بها ولا رضينا منكم بذلك وفى هذا تبكيت عظيم للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره ممن لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنهم شيئا ،ولم يأمرهم بذلك ولا رضى به ولا أراده بل تبرأ منهم وقت أحوج ما يكونون اليه وقد تركوا عبادة الحى القيوم السميع البصير القادر العليم بكل شىء وقد أرسل رسله وأنزل كتبه آمرا بعبادته وحده لا شريك له ناهيا عن عبادة ما سواه ، " هُنَالِكَ تَبۡلُواْ كُلُّ نَفۡسٖ مَّآ أَسۡلَفَتۡۚ " أى فى موقف الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتعلم ما سلف من عملها من خير وشر كقوله تعالى " يوم تبلى السرائر" ،" وَرُدُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوۡلَىٰهُمُ ٱلۡحَقِّۖ " أى ورجعت الأمور كلها الى الله الحكم العد ففصلها وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، " وَضَلَّ عَنۡهُم " ذهب عن المشركين ، " مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ " ماكانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه .
ۖقُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ أَمَّن
يَمۡلِكُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَمَن يُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ
وَيُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۚ فَسَيَقُولُونَ
ٱللَّهُۚ فَقُلۡ أَفَلَا تَتَّقُونَ ٣١ فَذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمُ ٱلۡحَقُّۖ
فَمَاذَا بَعۡدَ ٱلۡحَقِّ إِلَّا ٱلضَّلَٰلُۖ فَأَنَّىٰ تُصۡرَفُونَ ٣٢ كَذَٰلِكَ
حَقَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ فَسَقُوٓاْ أَنَّهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ
٣٣
"
قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ" يحتج تعالى على
المشركين باعترافهم بوحدانيته وربوبيته على وحدانية الآلهة فيقول تعالى من ذا الذى
ينزل من السماء ماء المطر فيشق الأرض شقا بقدرته ومشيئته فيخرج منها الزرع والثمار
، " أَمَّن يَمۡلِكُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰر " يسال الله الكافرين وهو
سؤال استنكارى من الذى وهبكم هذه القوة السامعة والقوة الباصرة ولو شاء لذهب بها
ولسلبكم اياها كقوله " قل هو الذى أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار " ،"
وَمَن يُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَيُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيّ
" ويسألهم الله منكرا من الذى يخرج الحى من الميت والميت من الحى بقدرته
العظيمة ومننه العميمة ، " ِ وَمَن يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۚ " من بيده
ملكوت كل شىء وهو يجير ولا يجار عليه وهو المتصرف الحاكم الذى لا معقب لحكمه ولا
يسأل عما يفعل وهم يسئلون كقوله " يسأله من فى السموات والأرض كل يوم هوفى
شأن " ، يرد الله عليهم من قولهم " فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُۚ " أى
هم يعلمون أنه الله ويعترفون به ، " فَقُلۡ أَفَلَا تَتَّقُونَ " رد
عليهم يا محمد أفلا تخافون منه أن تعبدوا معه غيره بآرائكم وجهلكم ،"
فَذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمُ ٱلۡحَقُّۖ " فهذا الذى اعترفتم بأنه فاعل ذلك
كله هو ربكم والهكم الحق الذى يستحق أن يفرد بالعبادة ، " فَمَاذَا بَعۡدَ
ٱلۡحَقِّ إِلَّا ٱلضَّلَٰلُۖ " فكل معبود سواه باطل لا اله الا هو واحد لا
شريك له ، " فَأَنَّىٰ تُصۡرَفُونَ " فكيف تصرفون عن عبادته الى عبادة
ما سواه وأنتم تعلمون أنه الرب الذى خلق كل شىء والمتصرف فى كل شىء ، "
كَذَٰلِكَ حَقَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ فَسَقُوٓاْ أَنَّهُمۡ لَا
يُؤۡمِنُونَ " كما كفر هؤلاء المشركون واستمروا على شركهم وعبادتهم مع الله
غيره مع أنهم يعترفون بأنه الخالف الرازق المتصرف فى الملك وحده الذى بعث رسله
بتوحيده فلهذا حقت عليهم كلمة الله أنهم أشقياء من ساكنى النار كقوله " قالوا
بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين" َ
قُلۡ هَلۡ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبۡدَؤُاْ
ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥۚ قُلِ ٱللَّهُ يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥۖ
فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ ٣٤ قُلۡ هَلۡ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهۡدِيٓ إِلَى
ٱلۡحَقِّۚ قُلِ ٱللَّهُ يَهۡدِي لِلۡحَقِّۗ أَفَمَن يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلۡحَقِّ
أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّيٓ إِلَّآ أَن يُهۡدَىٰۖ فَمَا لَكُمۡ
كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ ٣٥ وَمَا يَتَّبِعُ أَكۡثَرُهُمۡ إِلَّا ظَنًّاۚ إِنَّ
ٱلظَّنَّ لَا ًٔا يغنى من الحق
شيئا ُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيم ۢ بِمَا يَفۡعَلُونَ ٣٦
" قُلۡ هَلۡ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ " هذا ابطال لدعواهم فيما أشركوا بالله غيره وعبدوا الأصنام والأنداد يتحداهم الله فيقول هل فيما أشركتم به من بدا خلق هذه السموات والأرض ثم ينشىء ما فيهما من الخلائق ، ويفرق أجرام السموات والأرض ويبداهما بفناء ما فيهما ثم يعيد الخلق خلقا جديدا" قل الله ٱللَّهُ يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ " يرد الله عليهم أنه تعالى هو الذى يفعل هذا ويستقل به وحده لا شريك له ، " فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ " فكيف تصرفون عن طريق الرشد الى الباطل ، " قُلۡ هَلۡ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلۡحَقِّ قُلِ ٱللَّهُ يَهۡدِي لِلۡحَقِّۗ " الله يسألهم منكرا عليهم أنتم تعلمون أن شركاءكم لا تقدرعلى هداية ضال وانما يهدى الحيارى والضلال ويقلب القلوب من الغى الى الرشد الله الذى لا اله الا هو ، " أَفَمَن ۥ ًٔ يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلۡحَقِّ أَحَقُّ أَنۚ يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّيٓ إِلَّآ أَن يُهۡدَىٰۖ" أفيتبع العبد الذى يهدى الى الحق ويبصر بعد العمى أم الذى لا يهدى الى شىء الا أن يهدى لعماه وبكمه كما قال تعالى عن ابراهيم " يا أبت لم تعبد ما لايسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا " ، " فَمَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ " ما بالكم أن يذهب بعقولكم كيف سويتم بين الله وبين خلقه وعدلتم هذا بهذا وعبدتم هذا وهذا ؟ وهلا أفردتم الله جل جلاله المالك الحاكم الهادى من الضلالة بالعبادة وحده وأخلصتم اليه الدعوة والانابة ؟ ، " وَمَا يَتَّبِعُ أَكۡثَرُهُمۡ إِلَّا ظَنًّاۚ إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يغنى من الحق شيئا " يتبع أكثر الناس الباطل والباطل لا يغنى عن الحق شيئا فالحق أحق أن يتبع " ُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيم ۢ بِمَا يَفۡعَلُونَ"تهديد ووعيد لهم ووعيد شديد لأنه تعالى أخبر أنه سيجازيهم على ذلك أتم الجزاء .
وَمَا كَانَ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ أَن يُفۡتَرَىٰ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن تَصۡدِيقَ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَتَفۡصِيلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَا رَيۡبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٣٧ أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٣٨ بَلۡ كَذَّبُواْ بِمَا لَمۡ يُحِيطُواْ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا يَأۡتِهِمۡ تَأۡوِيلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّٰلِمِينَ ٣٩ وَمِنۡهُم مَّن يُؤۡمِنُ بِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن لَّا يُؤۡمِنُ بِهِۦۚ وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُفۡسِدِينَ ٤٠
" وَمَا كَانَ
هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ أَن يُفۡتَرَىٰ مِن دُونِ ٱللَّهِ " هذا بيان لاعجاز
القرآن وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله ولا بعشر سور ولا بسورة من مثله لأنه
بفصاحته وبلاغته ووجازته وحلا وته واشتماله عللا المعانى العزيزة الغزيرة النافعة
فى الدنيا والآخرة لا تكون الا من عند تااه الذى لا يشبهه شىء فى ذاته ولا فى
صفاته ولا فى أفعاله وأقواله فكلامه لا يشبه كلام المخلوقين ، ومعن الآية أن مثل
هذا القرآن لايكون الا من عند الله ولا يشبه هذا كلام البشر ، " وَلَٰكِن تَصۡدِيقَ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ
"أى مصدقا لما قبله من الكتب المتقدمة ومهيمنا عليه ومبينا لما وقع فيها من
التحريف والتأويل والتبديل ، "
وَتَفۡصِيلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَا رَيۡبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ " بين
الله رب العالمين الأحكام والحلال والحرام بيانا شافيا كافيا حقا لا مرية فيه من
رب العالمين كما تقد فى حديث الحارث الأعور عن على بن أبى طالب فيه خبر ما قبلكم
ونبأ ما بعدكم وفصل ما بينكم أى خبر عما سلف وعما يأتى وحكم فيما بين الناس بالشرع
الذى يحبه الله ويرضاه ، " أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُواْ
بِسُورَةٖ مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ
ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ " ان ادعيتم وافتريتم وشككتم فى أن هذا
القرآن من عند الله وقلتمكذبا انهذا من عند محمد فمحمد بشر مثلكم وقد جاء فيما
زعتم بهذا القرآن فأتوا أنتم بسورة مثله أى من جنس القرآن واستعينوا على ذلك بكل
من قدرتم عليه من انس وجان ، وهذا هو المقام الثالث فى التحدى فانه تعالى تحداهم
ودعلهم ان كانوا صادقين فى دعواهم أنه من عند محمد فليعارضوه بنظير ما جاء به وحده
وليستعينوا بمن شاءوا وأخبر أنهم لا يقدرون على ذلك ولا سبقيل لهم اليه فقال تعالى
" قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو
كان بعضهم لبعض ظهيرا " ثم تقاصر معهم الى عشر سور منه فقال فى أول سورة هود
" أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون
الله ان كنتم صادقين " ثم تنازل الى سورة فقال فى هذه السورة " أَمۡ
يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ مَنِ
ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ " وكذا فى سورة
البقرة وهى مدنية تحداهم بسورة منه وأخبر أنهم لا يستطيعون ذلك أبدا فقال "
فان لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار " ، هذاوقد كانت الفصاحة من سجاياهم
وأشعارهم ومعلقاتهم اليها المنتهى فى هذا الباب ،ولكن جاءهم من الله ما لاقبل لأحد
به ، ولهذا آمن من آمن منهم بما عرف من بلاغة هذا الكلام وحلاوته وجزالته وطلاوته
وافادته وبراعته فكانوا أعلم الناس به وأفهمهم له وأتبعهم له وأشهرهم له انقيادا
ولهذا جاء فى الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من نبى من
الأنبياء الا وقد أوتى من الآيات ما آمن على مثله البشر ، وانماكان الذى أمتيته
وحيا أوحاه الله الى فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعا " ، " بَلۡ كَذَّبُواْ
بِمَا لَمۡ يُحِيطُواْ بِعِلۡمِهِۦ " كذب هؤلاء بالقرآن ولم يفهموه ولا عرفوه
، "وَلَمَّا يَأۡتِهِمۡ تَأۡوِيلُهُ " ولميحصلوا ما فيه من الهدى ودين
الحق الى حين تكذيبهم بهجهلا وسفها "ۥۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن
قَبۡلِهِمۡۖ " كذلك كذب من قبلهم من الأمم السالفة ،" فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّٰلِمِينَ
" فانظر كيف أهلكناهم بتكذيبهم رسلنا ظلما وعلوا وكفرا وعنادا وجهلا فاحذروا
أيها المكذبون أن يصيبكم ما أصابهم ،" وَمِنۡهُم مَّن يُؤۡمِنُ بِهِ "
ومن هؤلاء الذين بعثت اليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرآن ويتبعك وينتفع بما أرسلت
به ،ۦ "وَمِنۡهُم مَّن لَّا يُؤۡمِنُ بِهِۦ" وهناك الكافرون الذين لا
يؤمنون بل يموتون ويبعثون على الكفر
والشرك ، " وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُفۡسِدِينَ "والله ربك أعلم بمن
يستحق الهداية فيهديه ،ومن يستحق الضلالة فيضله ،وهوالعادل الذى لا يجور ، بل يعطى
كلا ما يستحقه تبارك وتعالى وتقدس وتنزه لا اله الاهو.
وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي
عَمَلِي وَلَكُمۡ عَمَلُكُمۡۖ أَنتُم بَرِيُونَ مِمَّآ أَعۡمَلُ وَأَنَا۠ بَرِيٓءٞ مِّمَّا
تَعۡمَلُونَ ٤١ٓٔ وَمِنۡهُم مَّن
يَسۡتَمِعُونَ إِلَيۡكَۚ أَفَأَنتَ تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ وَلَوۡ كَانُواْ لَا
يَعۡقِلُونَ ٤٢ وَمِنۡهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيۡكَۚ أَفَأَنتَ تَهۡدِي ٱلۡعُمۡيَ
وَلَوۡ كَانُواْ لَا يُبۡصِرُونَ ٤٣ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ ٱلنَّاسَ شَيۡ وَلَٰكِنَّ
ٱلنَّاسَ ۡٔٗ أَنفُسَهُم يَظۡلِمُونَ ٤٤
" وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي
وَلَكُمۡ عَمَلُكُم أَنتُم بَرِيُونَ مِمَّآ أَعۡمَلُ وَأَنَا۠ بَرِيٓءٞ مِّمَّا تَعۡمَلُونَ ۡۖ" " يقول تعالى لنبيه محمد
صلى الله عليه وسلم وان كذبك هؤلاء المشركون فتبرأ منهم ومن عملهم كقوله " قل
يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون " ، " وَمِنۡهُم مَّن يَسۡتَمِعُونَ
إِلَيۡكَۚ " منهم من يسمعون كلامك الحسن والقرآن العظيم والأحاديث الصحيحة
الفصيحة النافعة فى القلوب والأديان والأبدان " أَفَأَنتَ تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ
وَلَوۡ كَانُواْ لَا يَعۡقِلُونَ " فى هذا كفاية عظيمة ولكن ليس ذلك اليك ولا
اليهم فانك لا تقدر على اسماع الأصم وهو الأطرش فكذلك لا تقدر على هداية هؤلاء الا
أن يشاء الله ، " وَمِنۡهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيۡكَۚ أَفَأَنتَ تَهۡدِي
ٱلۡعُمۡيَ وَلَوۡ كَانُواْ لَا يُبۡصِرُونَ " ومنهم من ينظر الى ما أعطاك
الله من التؤدة والسمت الحسن والخلق العظيم والدلالة الظاهرة على نبوتك لأولى
البصائر والنهى ، وهؤلاء ينظرون كا ينظر غيرهم ولا يحصل لهم من الهداية شىء كما
يحصل لغيرهم ، بل المؤمنون ينظرون اليك بعين الوقار ، وهؤلاء الكفار ينظرون اليك
بعين الاحتقار كما فى قوله " واذا رأوك ان يتخذونك الا هزوا " ، "
إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ ٱلنَّاسَ شَيۡ وَلَٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُم
يَظۡلِمُونَ" أخبر تعالى أنه لا يظلم أحدا شيئا وان كان قد هدى به من هدى
وبصر به من العمى ، وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا ، وأضل به عن
الايمان آخرين ، فهو الحاكم المتصرف فى ملكه بما يشاء الذى لا يسأل عما يفعل وهم
يسئلون لعلمه وحكمته وعدله ، وفى الحديث عن أبى ذر عن النبى صلى الله عليه وسلم
فيما يرويه عن ربه عز وجل : " يا عبادى انى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم
محرما فلا تظالموا - الى أن قال فى آخره - يا عبادى انما هى أعمالكم أحصيها لكم ثم
أوفيكم اياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن الا نفسه
" رواه مسلم .
وَيَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ كَأَن
لَّمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّنَ
ٱلنَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيۡنَهُمۡۚ قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ
بِلِقَآءِ ٱللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ ٤٥
" وَيَوۡمَ
يَحۡشُرُهُمۡ كَأَن لَّمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّنَ ٱلنَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ
بَيۡنَهُم " يقول الله تعالى مذكرا للناس قيام الساعة وحشرهم من أجداثهم الى
عرصات القيامة يعرف الأبناء والقرابات بعضهم لبعض كما كانوا فى الدنيا ولكن كل
مشغول بنفسه و يشعرون أنهم رغم رقدتهم الطويلة فى القبور كأنهم لم يلبثوا الا ساعة
نهار يفعلون ذلك وهذا كقوله " كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا الا عشية أو ضحاها
" وقال تعالى " ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة
" ، " قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ وَمَا
كَانُواْ مُهۡتَدِين" أى خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو
الخسران المبين الواضح ولا خسارة أعظم من خسارة من فرق بينه وبين أحبته يوم الحسرة
والندامة . َ
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعۡضَ
ٱلَّذِي نَعِدُهُمۡ أَوۡ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيۡنَا مَرۡجِعُهُمۡ ثُمَّ ٱللَّهُ
شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفۡعَلُونَ ٤٦ وَلِكُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولٞۖ فَإِذَا
جَآءَ رَسُولُهُمۡ قُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٤٧
" وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعۡضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمۡ أَوۡ
نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيۡنَا مَرۡجِعُهُمۡ ثُمَّ ٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا
يَفۡعَلُونَ" " يقول الله تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم انك فى
حياتك ترى ما نفعل بهم واذا توفيناك فان مصيرهم ومنقلبهم سيكون لله وهو شهيد على
أفعالهم بعدك وعن حذيفة بن أسيد عن النبى صلى الله عليه وسلم قال :" عرضت على
أمتى البارحة لدى هذه الحجرة أولها وآخرها " فقال رجل يا رسول الله عرض عليك
من خلق فكيف من لم يخلق ؟ " فقال :" صوروا لى فى الطين حتى أنى لأعرف
بالانسان منهم من أحدكم بصاحبه " " وَلِكُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولٞۖ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمۡ قُضِيَ
بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ " لكل أمة رسول اذا جاء رسولهم قال مجاهد
يوم القيامة يقضى الله بين هذه الأمم وبين العباد بالعدل ويكون يوم الحساب والله
لا يظلم مثقال ذرة فمن يعمل مثقال ذرة خير يره ومن يعمل مثقال ذرة شر يره كقوله
تعالى " وأشرقت الأرض بنور ربها " ، فكل أمة تعرض على الله بحضرة رسولها
وكتاب أعمالها من خير وشر موضوع شاهد عليهم وحفظتهم من الملائكة شهود أيضا أمة بعد
أمة وهذه الأمة الشريفة وان كانت آخر الأمم فى الخلق الا أنها أول الأمم يوم
القيامة يفصل بينهم ويقضى لهم كما جاء فى الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال : " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، المقضى لهم قبل الخلائق
" فأمته انما حازت قصب السبق بشرف رسولها صلى الله عليه وسلم .
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا
ٱلۡوَعۡدُ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٤٨ قُل لَّآ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِي ضَرّٗا وَلَا
نَفۡعًا إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۗ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌۚ إِذَا جَآءَ
أَجَلُهُمۡ فَلَا يَسۡتَ خِرُونَ سَاعَةٗ وَلَا
يَسۡتَقۡدِمُونَ٤٩ ٔۡ قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُم ۡ عَذَابُهُۥ بَيَٰتًا أَوۡ نَهَارٗا مَّاذَا
يَسۡتَعۡجِلُ مِنۡهُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ ٥٠ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءَامَنتُم
بِهِۦٓۚ ءَآلۡـَٰٔنَ وَقَدۡ كُنتُم بِهِۦ تَسۡتَعۡجِلُونَ ٥١ ثُمَّ قِيلَ
لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡخُلۡدِ هَلۡ تُجۡزَوۡنَ إِلَّا بِمَا
كُنتُمۡ تَكۡسِبُونَ ٥٢ ۞
" وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا ٱلۡوَعۡدُ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ" يقول تعالى مخبرا عن كفر هؤلاء المشركين فى استعجالهم العذاب وسؤالهم عن وقته قبل التعيين مما لا فائدة لهم فيه كقوله " يستعجل بها الذين لا يؤمنون والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق " أى الساعة أو يوم القيامة كائنة لا محالة وواقعة وان لم يعلموا وقتها عينا ، أرشد الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم الى جوابهم بقوله " قُل لَّآ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِي ضَرّٗا وَلَا نَفۡعًا إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۗ " لا أقول الا ما علمنى الله ولا أقدر على شىء مما استأثر به الا أن يطلعنى عليه فأنا عبده ورسوله اليكم وقد أخبرتكم بمجىء الساعة وأنهاكائنة على وقتها ، " لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌۚ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ فَلَا يَسۡتَ خِرُونَ سَاعَةٗ وَلَا يَسۡتَقۡدِمُونَ " لكل أمة من الناس مدة من العمر مقدرة فاذا أنقضى أجلهم لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون كقوله " ولن يؤخر الله نفسا اذا جاء أجلها " ، " قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُم عَذَابُهُۥ بَيَٰتًا أَوۡ نَهَارٗا مَّاذَا يَسۡتَعۡجِلُ مِنۡهُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ " أخبر الله تعالى أن عذابه سيأتيهم بغتة ليلا أونهارا فلا يستعجل المجرمون هذا اليوم الذى واقع لا محالة وسينالون فيه جزاء أجرامهم وكفرهم ،" أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءَامَنتُم بِهِۦٓۚ ءَآلۡـَٰٔنَ وَقَدۡ كُنتُم بِهِۦ تَسۡتَعۡجِلُونَ " اذا جاءهم العذاب وهو يوم القيامة يوم العذاب لهم جزاء أفعالهم آمنوا به ويقول الله مبكتا آمنتم به الآن وكنتم تستعجلونه تكذيبا من قبل أنه لا يقع " ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡخُلۡدِ هَلۡ تُجۡزَوۡنَ إِلَّا بِمَا كُنتُمۡ تَكۡسِبُونَ " يوم القيامة يقال لهم أى للكافرين تبكيتا وتقريعا قد جاء يوم القيامة ذوقوا فيه العذاب فى النار خالدين فيها أبدا وهذا جزاءكم جراء أفعالكم وما كسبته أيديكم وهذا كقوله " يوم يدعون الى نار جهنم دعا هذه النار التى كنتم بها تكذبون * أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون * اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم انما تجزون ما كنتم تعملون" وقال تعالى" فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم ايمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التى خلت فى عباده وخسر هنالك الكافرون " .
ٔ وَيَسۡتَنۢبِ ُونَكَ
أَحَقٌّ هُوَۖ قُلۡ إِي وَرَبِّيٓ إِنَّهُۥ لَحَقّٞۖ وَمَآ
أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ ٥٣ وَلَوۡ أَنَّ لِكُلِّ نَفۡسٖ ظَلَمَتۡ مَا
فِي ٱلۡأَرۡضِ لَٱفۡتَدَتۡ بِهِۦۗ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ
ٱلۡعَذَابَۖ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٥٤
"
وَيَسۡتَنۢبِ ُونَكَ أَحَقٌّ هُوَۖ " يقول تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم
يستخبرونك المكذبون بيوم القيامة أحق هو أى المعاد والقيامة من الأجداث أى القبور
بعد صيرورة الأجسام ترابا ، ويأتى الرد عليهم " قُلۡ إِي وَرَبِّيٓ إِنَّهُۥ لَحَقّٞۖ وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ "
ويأتى القسم بالله أنه حق وليس صيرورتكم ترابا بمعجز الله عن اعادتكم كما بدأكم من
العدم فانما " أمره اذا أراد شيئا أن يقول كن فيكون " وهذه الآية ليس
لها نظير فى القرآن الا آيتان أخريان يأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن
يقسم به على من أنكر المعاد فى سورة سبأ " وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة
قل بلى وربى لتأتينم " وفى التغابن " زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل
بلى وربى لتبعثن ثم لتنبئون بما عملتم وذلك على الله يسير " ، " وَلَوۡ
أَنَّ لِكُلِّ نَفۡسٖ ظَلَمَتۡ مَا فِي ٱلۡأَرۡضِ
لَٱفۡتَدَتۡ بِهِۦ" أخبر تعالى أنه اذا قامت القيامة يود الكافر لو يفتدى من
عذاب الله بملء الأرض ذهبا ، " وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ
ٱلۡعَذَابَۖ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ " تصيب
الكافرين الحسرة والندامة على ما فعلوا فى الدنيا لما يروا عذاب النار ولكن الله
قد قضى وحكم بين العباد بالحق والعدل فنال كل الجزاء الذى يستحقه بدون ظلم أو
اجحاف .
أَلَآ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي
ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ أَلَآ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَلَٰكِنَّ
أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ٥٥ هُوَ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ
٥٦
" أَلَآ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ
وَٱلۡأَرۡضِۗ أَلَآ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَلَٰكِنَّ
أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ " يخبر الله تعالى أنه مالك السموات والأرض وأن
وعده حق كائن لا محالة ولكن أكثر الناس ينكرون ذلك ، " هُوَ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُ وَإِلَيۡهِ
تُرۡجَعُونَ " يخبر الله تعالى أنه
يحيى الموتى واليه مرجعهم ، وأنه القادر على ذلك العليم بما تفرق من الأجسام فى
سائر أقطار الأرض والبحار والقفار .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَتۡكُم
مَّوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَشِفَآءٞ لِّمَا فِي
ٱلصُّدُورِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٥٧ قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ
فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ
٥٨
" يَٰٓأَيُّهَا
ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَتۡكُم مَّوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَشِفَآءٞ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ" يقول الله
ممتنا على خلقه بما أنزله من القرآن العظيم على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم الخطاب
موجه الى الناس جميعا أن الله قد أنزل القرآن وهو موعظة من الله أى زاجر عن
الفواحش داعيا الى البر والخير وشفاء لما فى الصدور أى من الشبه والشكوك وهو ازالة
ما فيها من رجس ودنس وهدى ورحمة أى يحصل به الهداية والرحمة من الله تعالى ، وانما
ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه كقوله تعالى " وننزل من القرآن
ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين الا خسارا " وكقوله " قل
هو للذين آمنوا هدى وشفاء " ، " قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ
فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ " بهذا الذى جاءهم من الله من الهدى ودين الحق
فليفرحوا فانه أولى ما يفرحون به ، " هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ " فهذا الذى
جاءهم من الهدى ودين الحق أفضل كثيرا من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية
الذاهبة لا محالة .
قُلۡ أَرَءَيۡتُم مَّآ أَنزَلَ
ٱللَّهُ لَكُم مِّن رِّزۡقٖ فَجَعَلۡتُم مِّنۡهُ حَرَامٗا وَحَلَٰلٗا قُلۡ
ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمۡۖ أَمۡ عَلَى ٱللَّهِ تَفۡتَرُونَ ٥٩ وَمَا ظَنُّ
ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ إِنَّ
ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَشۡكُرُونَ ٦٠
" قُلۡ أَرَءَيۡتُم
مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُم مِّن رِّزۡقٖ فَجَعَلۡتُم مِّنۡهُ حَرَامٗا وَحَلَٰلٗا قُلۡ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمۡۖ أَمۡ
عَلَى ٱللَّهِ تَفۡتَرُون" قال أبن عباس وغيره نزلت انكارا على المشركين فيما
كانوا يحلون ويحرمون من البحائر والسوائب والوصايل كقوله تعالى " وجعلوا لله
مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا " وقد أنكر الله تعالى على من حرم ما أحل أو
أحل ما حرم بمجرد الآراء والأهواء التى لا مستند لها ولا دليل عليها ثم توعدهم على
ذلك يوم القيامة " وَمَا ظَنُّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ
ٱلۡكَذِبَ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ " أى ما ظنهم أن يصنع بهم يوم مرجعهم الى الله
يوم القيامة ، " إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ " يحتمل أن
يكون المراد لذو فضل على الناس فيما أباح لهم مما خلقه من المنافع فى الدنيا ولم يحرم
الا ما هو ضار لهم فى دنياهم أو دينهم ،" وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَشۡكُرُونَ " بل يحرمون ما أنعم الله به
عليهم ويضيقون على أنفسهم فيجعلون بعضا حلالا وبعضا حراما , وهذا قد وقع فيه
المشركون فيما شرعوه لأنفسهم وأهل الكتاب فيما ابتدعوه فى دينهم .
وَمَا تَكُونُ فِي شَأۡنٖ وَمَا
تَتۡلُواْ مِنۡهُ مِن قُرۡءَانٖ وَلَا تَعۡمَلُونَ مِنۡ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيۡكُمۡ
شُهُودًا إِذۡ تُفِيضُونَ فِيهِۚ وَمَا يَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ
ذَرَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَآ أَصۡغَرَ مِن
ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرَ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ ٦١
" وَمَا تَكُونُ فِي شَأۡنٖ وَمَا تَتۡلُواْ مِنۡهُ مِن قُرۡءَانٖ وَلَا تَعۡمَلُونَ مِنۡ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيۡكُمۡ شُهُودًا إِذۡ تُفِيضُونَ فِيهِۚ " يخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يعلم جميع أحواله وأحوال أمته وجميع الخلائق فى كل ساعة وأوان ولحظة ، " وَمَا يَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَآ أَصۡغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرَ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ " يخبر الله تعالى أنه لا يعزب عن علمه وبصره مقفال ذرة فى حقارتها وصغرها فى السموات ولا فى الأرض ولا أصغر منها ولا أكبر الا فى كتاب مبين كقوله " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو ويعلم ما فى البر والبحر وما تسقط من ورقة الا يعلمها ولا حبة فى ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس الا فى كتاب مبين " أخبر تعالى أنه يعلم حركة الأشجار وغيرها من الجمادات وكذلك الدواب السارحة كما فى قوله " وما من دابة فى الأرض ولا طائر يطير بجناحيه الا أمم أمثالكم " ، واذا كان هذا علمه تعالى بحركات هذه الاشياء فكيف علمه بحركات المكلفين المأمورين بالعبادة ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فأنه يراك " .
أَلَآ إِنَّ
أَوۡلِيَآءَ ٱللَّهِ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ٦٢ ٱلَّذِينَ
ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ٦٣ لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ
ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ لَا تَبۡدِيلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ
ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ٦٤
" أَلَآ إِنَّ
أَوۡلِيَآءَ ٱللَّهِ " يخبر تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون ،
فكل من كان تقيا كان لله وليا وعن أبن عباس قال : قال رجل يا رسول الله من أولياء
الله ؟ " قال : " الذين اذا رؤوا ذكر الله " ، " لَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ " هؤلاء
لاخوف عليهم فيما يستقبلونه من أهوال الآخرة ، " وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُون
" لا يحزنون فيما وراءهم فى الدنيا ، عن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : " ان من عباد الله عبادا يغبطهم الأنبياء والشهداء
" قيل من هم يا رسول الله لعلنا نحبهم ؟ " قال : " هم قوم تحابوا فى
الله من غير أموال ولا أنساب ، وجوههم نور على منابر من نور لا يخافون اذا خاف
الناس ولا يحزنون اذا حزن الناس " وقرأ الآية " أَلَآ إِنَّ أَوۡلِيَآءَ ٱللَّهِ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ
وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ " ، عن أبى مالك الأشعرى قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : " يأتى من أفناء الناس ونوازع القبائل قوم لم تتصل بهم أرحام
متقاربة تحابوا فى الله وتصافوا فى الله يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور
فيجلسهم عليها يفزع الناس ولا يفزعون وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم
يحزنون " والحديث مطول ، " لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ
ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ " عن أبى الدرداء رضى الله عنه عن النبى صلى
الله عليه وسلم قال : "الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له " ، سأل
رجل أبا الدرداء عن هذه الآية فقال : لقد سألت عن شىء ما سمعت أحدا سأل عنه بعد رجل
سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " هى الرؤيا الصالحة يراها
الرجل المسلم أو ترى له بشراه فى الحياة الدنيا وبشراه فى الآخرة الجنة " ،
وعن عبادة بن الصامت أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم " لَهُمُ
ٱلۡبُشۡرَىٰ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ " فقد عرفنا بشرى الآخرة الجنة فما بشرى الدنيا ؟
" قال : " الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له ، وهى جزء من أربعة
وأربعين جزءا أو سبعين جزءا من النبوة " ، وعن أم كريز الكعبية سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ذهبت النبوة وبقيت المبشرات " ، وقيل
المراد بذلك بشرى الملائكة للمؤمن عند احتضاره بالجنة والمغفرة كقوله تعالى "
ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنون
وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون * نحن أولياؤكم فى الحياة الدنيا وفى الآخرة ولكم
فيها ما تشتهى أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم " ، وفى حديث
البراء رضى الله عنه أن المؤمن اذا حضره الموت جاءه ملائكة بيض الوجوه بيض الثياب
فقالوا اخرجى أيتها الروح الطيبة الى روح وريحان ورب غير غضبان فتخرج من فمه كما
تسيل القطرة من فم السقاء ، وأما بشراهم فى الآخرة فكما قال تعالى " لا
يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذى كنتم توعدون " ،
" لَا تَبۡدِيلَ لِكَلِمَٰتِ
ٱللَّهِۚ " أى هذا الوعد لا يبدل ولا يخلف بل هو مقرر مثبت كائن لا محالة
" ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ "الفوز العظيم فى الجنة .ورضا اله
عنهم .
وَلَا يَحۡزُنكَ قَوۡلُهُمۡۘ
إِنَّ ٱلۡعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًاۚ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ٦٥ أَلَآ إِنَّ
لِلَّهِ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَمَا يَتَّبِعُ ٱلَّذِينَ
يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُرَكَآءَۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ
هُمۡ إِلَّا يَخۡرُصُونَ ٦٦ هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ لِتَسۡكُنُواْ
فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَسۡمَعُونَ
٦٧
" وَلَا يَحۡزُنكَ قَوۡلُهُمۡۘ إِنَّ ٱلۡعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًاۚ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ" يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلملا يحزنك قول هؤلاء المشركين واستعن بالله عليهم وتوكل عليه فان العزة لله جميعا أى جميعها له ولرسوله وللمؤمنين وهو السميع لأقوال عباده العليم بأحوالهم ، " أَلَآ إِنَّ لِلَّهِ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَمَا يَتَّبِعُ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُرَكَآءَۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ هُمۡ إِلَّا يَخۡرُصُونَ " أخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض وأن المشركين يعبدون الأصنام وهى لا تملك شيئا ولا ضرا ولا نفعا ولا دليل لهم على عبادتها وهم كاذبون فيما يعتقدون ويدعون ، "هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ لِتَسۡكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَسۡمَعُونَ " أخبر الله أنه هو الذى جعل لعباده الليل ليسكنوا فيه أى يستريحون من نصبهم وكللهم وحركاتهم وجعل النهار مضيئا لمعاشهم وسعيهم وأسفارهم ومصالحهم وفى هذا دلالات واضحة لمن يسمعون هذه الحجج والأدلة فيعتبرون بها ويستدلون على عظمة خالقها ومقدرها ومسيرها .
قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدٗاۗ
سُبۡحَٰنَهُۥۖ هُوَ ٱلۡغَنِيُّۖ لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ
إِنۡ عِندَكُم مِّن سُلۡطَٰنِۢ بِهَٰذَآۚ أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا
تَعۡلَمُونَ ٦٨ قُلۡ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا
يُفۡلِحُونَ ٦٩ مَتَٰاعٞ فِي ٱلدُّنۡيَا ثُمَّ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُهُمۡ ثُمَّ
نُذِيقُهُمُ ٱلۡعَذَابَ ٱلشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكۡفُرُونَ ٧٠
" قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدٗاۗ سُبۡحَٰنَهُۥۖ هُوَ ٱلۡغَنِيُّۖ " يقول تعالى منكرا على من ادعى أن له ولدا تقدس عن ذلك هو الغنى عن كل ما سواه وكل شىء فقير اليه ، " لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ" كيف يكون له ولد مماخلق وكل شىء فى السموات والأرض مملوك له عبد له ، " إِنۡ عِندَكُم مِّن سُلۡطَٰنِۢ بِهَٰذَآۚ " ليس عندكم دليل على ما تقولونه من الكذب والبهتان ، " أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ" والله يوجه اليهم الانكار والوعيد والتهديد الشديد بسبب قولهم عليه ما يقولون وما يدعون من اتخاذه ولدا دون علم هذا كقوله" وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا ادا * تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغى للرحمن أن يتخذ ولدا " ، " قُلۡ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ " توعد تعالى الكاذبين عليه المفترين ممن زعم أن له ولدا بأنهم لا يفلحون فى الدنيا ولا فى الآخرة ، " مَتَٰاعٞ فِي ٱلدُّنۡيَا ثُمَّ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُهُمۡ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ ٱلۡعَذَابَ ٱلشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكۡفُرُونَ " يستدرج الله الكاذبين المفترين عليه أنه اتخذ ولدا فى الدنيا ويمتعهم متاعا قليلا وفى الآخرة عندما يرجعون اليه يوم القيامة يتجرعون العذاب الشديد الموجع بسبب كفرهم وافترائهم وكذبهم على الله فيما ادعوه من الافك والزور .
ٔ وَٱتۡلُ
عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ نُوحٍ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِن كَانَ كَبُرَ
عَلَيۡكُم مَّقَامِي وَتَذۡكِيرِي بِ َايَٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡتُ
فَأَجۡمِعُوٓاْ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ
عَلَيۡكُمۡ غُمَّةٗ ثُمَّ ٱقۡضُوٓاْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ ٧١ فَإِن
تَوَلَّيۡتُمۡ فَمَا سَأَلۡتُكُم مِّنۡ أَجۡرٍۖ إِنۡ أَجۡرِيَ إِلَّا عَلَى
ٱللَّهِۖ وَأُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ٧٢ فَكَذَّبُوهُ
فَنَجَّيۡنَٰهُ وَمَن مَّعَهُۥ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَجَعَلۡنَٰهُمۡ خَلَٰٓئِفَ
وَأَغۡرَقۡنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِايَٰتِنَاۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ ٔ عَٰقِبَةُ
ٱلۡمُنذَرِينَ ٧٣
"وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ نُوح "يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أخبرهم وأقصص عليهم أى على كفار مكة الذين يكذبونك ويخالفونك خبرنوح مع قومه الذين كذبوه كيف أهلكهم الله ودمرهم بالغرق أجمعين عن آخرهم ليحذرهؤلاء أن يصيبهم من الهلاك والدمار ما أصاب أولئك ، " إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيۡكُم مَّقَامِي وَتَذۡكِيرِي بَِايَٰتِ ٱللَّهِ " اذ قال نوح عليه السلام لقومه اذا عظم عليكم وجودى فيكم بين أظهركم وتذكيرى لكم بحجج الله وبراهينه لتأمنوا ، " فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡتُ " فانى لا أبالى ولا أكف عنكم سواء عظم عليكم أو لا ، " فَأَجۡمِعُوٓاْ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَآءَكُمۡ " فاجتمعوا أنتم وشركاؤكم الذين تدعون من دون الله من صنم ووثن ، " ثُمَّ لَا يَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ عَلَيۡكُمۡ غُمَّة ثُمَّ ٱقۡضُوٓاْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ " ولا تجعلوا أمركم عليكم ملتبسا بل افصلوا حالكم معى فان كنتم تزعمون أنكم محقون فاقضوا الى ولا تنظرون أى ولا تتأخرون ساعة واحدة أى مهما قدرتم فافعلوا فانى لا أبالكم ولا أخاف منكم لأنكم لستم على شىء كما قال هود لقومه " انى أشهد الله واشهدوا أنى برىء مما تشركون من دونه فكيدونى جميعا ثم لا تنظرون * انى توكلت على الله ربى وربكم " ، " فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ " فان كذبتم وأدبرتم عن الطاعة ، " فَمَا سَأَلۡتُكُم مِّنۡ أَجۡرٍۖ " فانى لم أطلب منكم على نصحى اياكم شيئا ، " إِنۡ أَجۡرِيَ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِۖ وَأُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ " وأنا ممتثل ما أمرت به من الاسلام لله عز وجل والاسلام هودين الأنبياء جميعا من أولهم الى آخرهم وان تنوعت شرائعهم وتعددت مناهلهم كما قال تعالى " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " قال أبن عباس سبيلا وسنة فهذا نوح يقول " وَأُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ " وقال تعالى عن ابراهيم الخليل " اذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بها لابراهيم بنيه ويعقوب يا بنى ان الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن الا وأنتم مسلمين " ، وقال خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم " ان صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين " أى من هذه الأمة وقال فى الحديث الثابت عنه: " نحن معاشر الأنبياء أولاد علات وديننا واحد " أى هو عبادة الله وحده لا شريك له وان تنوعت شرائعنا وذلك معنى قوله أولاد علات وهم الأخوة من أمهات شتى والرب واحد ، " فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيۡنَٰهُ وَمَن مَّعَهُۥ فِي ٱلۡفُلۡكِ " كذبه قومه على دينه فأنجاه الله هو ومن على دينه فى السفينة ، " وَجَعَلۡنَٰهُمۡ خَلَٰٓئِفَ " وجعلهم الله يرثون الأرض وخلائف عليها ، " وَأَغۡرَقۡنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِايَٰتِنَاۖ "وأغرق الله الكفار الذين كذبوا بما ارسل به نوح عليه السلام من آيات الله ، " فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُنذَرِينَ "فانظر يا محمد كيف أنجينا المؤمنين وأهلكنا المكذبين .
ثُمَّ بَعَثۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ
رُسُلًا إِلَىٰ قَوۡمِهِمۡ فَجَآءُوهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانُواْ
لِيُؤۡمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِۦ مِن قَبۡلُۚ كَذَٰلِكَ نَطۡبَعُ عَلَىٰ
قُلُوبِ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ٧٤
" ثُمَّ بَعَثۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ رُسُلًا إِلَىٰ قَوۡمِهِمۡ فَجَآءُوهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ " يقول تعالى ثم بعثنا من بعد نوح عليه السلام رسلا الى قومهم فجاؤهم بالبينات أى بالحجج والأدلة والبراهين على صدق ما جاؤهم به ، " فَمَا كَانُواْ لِيُؤۡمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِۦ مِن قَبۡلُۚ " فما كانت الأمم لتؤمن بما جاءتهم به رسلهم بسبب تكذيبهم اياهم أو ما أرسلوا اليهم كقوله " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم " ، " كَذَٰلِكَ نَطۡبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلۡمُعۡتَدِينَ " كما طبع الله على قلوب هؤلاء فما آمنوا بسبب تكذيبهم هكذا يطبع الله على قلوب من أشبههم ممن بعدهم ويختم على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ،والمراد أن الله تعالى أهلك الأمم المكذبة للرسل وأنجى من آمن بهم وذلك من بعد نوح عليه السلام فان الناس كانوا قبله من زمان آدم عليه السلام على الاسلام الى أن أحدث الناس عبادة الأصنام فبعث الله اليهم نوح عليه السلام وقال أبن عباس كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الاسلام وقال تعالى " وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح " ، وفى هذا انذار عظيم لمشركى العرب الذين كذبوا خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم فانه اذا كان قد أصاب من كذب بتلك الرسل ما ذكره الله تعالى من العذاب والنكال فماذ ظن هؤلاء وقد ارتكبوا أكبر من أولئك ؟ .
بَعَثۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِم مُّوسَىٰ وَهَٰرُونَ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ
وَمَلَإِيْهِۦ بَِايَٰتِنَا فَٱسۡتَكۡبَرُواْ وَكَانُواْ قَوۡمٗ ٔ ثُمَّ
مُّجۡرِمِينَ ٧٥ فَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلۡحَقُّ مِنۡ عِندِنَا قَالُوٓاْ إِنَّ
هَٰذَا لَسِحۡرٞ مُّبِينٞ ٧٦ قَالَ مُوسَىٰٓ أَتَقُولُونَ لِلۡحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمۡۖ
أَسِحۡرٌ هَٰذَا وَلَا يُفۡلِحُ ٱلسَّٰحِرُونَ ٧٧ قَالُوٓاْ أَجِئۡتَنَا
لِتَلۡفِتَنَا عَمَّا وَجَدۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا
ٱلۡكِبۡرِيَآءُ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا نَحۡنُ لَكُمَا بِمُؤۡمِنِينَ٧٨
ٔ" ثُمَّ
بَعَثۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِم " يقول تعالى ثم بعثنا من بعد تلك الرسل ، " مُّوسَىٰ
وَهَٰرُونَ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِ" أرسل الله موسى وهارون الى فرعون
وقومه ، " بَِايَٰتِنَا " بحججنا وبراهيننا ، " فَٱسۡتَكۡبَرُواْ
وَكَانُواْ قَوۡما مُّجۡرِمِينَ " فاستكبروا عن اتباع الحق والانقياد له
وكانوا قوما مجرمين باعتدائهم على عباد الله المؤمنين واضطهادهم وكفرهم باتباع ما
جاء به موسى عليه السلام اليهم من ربهم ، " فَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلۡحَقُّ
مِنۡ عِندِنَا قَالُوٓاْ إِنَّ هَٰذَا لَسِحۡرٞ مُّبِين " لما جاءهم الحق من عند
الله أقسموا وهم يعلمون أن ما قالوه كذب وبهتان أنه سحر واضح بين ، " قَالَ
مُوسَىٰٓ أَتَقُولُونَ لِلۡحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمۡۖ أَسِحۡرٌ هَٰذَا وَلَا
يُفۡلِحُ ٱلسَّٰحِرُون " فرد عليهم موسى عليه السلام منكرا عليهم َما قالوا
كيف يقولون للحق الذى جاءهم به سحر والساحرون لايفلحون فيما يفعلون فما يأتون به
ليس حقا بل خداع للبصر ، " قَالُوٓاْ أَجِئۡتَنَا لِتَلۡفِتَنَا عَمَّا
وَجَدۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَا " قالوا لموسى عليه السلام جئتنا لتبعدنا
وتثنينا عن ما كان عليه آباءنا من قبل ، " وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلۡكِبۡرِيَآءُ
فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا نَحۡنُ لَكُمَا بِمُؤۡمِنِينَ " وتكون لك ياموسى أنت
وأخوك هارون العظمة والرياسة فى الأرض فنحن لن نؤمن بما أرسلتما به ولن نتبعكما ،
" وكثيرا ما يذكر الله تعالى قصة موسى عليه السلام مع فرعون فى كتابه العزيز
لأنها من أعجب الفصص وتتكرر فى كل زمان ومكان من الحاكم المتجبر المتكبر وأخبر
الله بها لتكون عبرة أزلية دائمة أمام أعين الناس .
وَقَالَ فِرۡعَوۡنُ ٱئۡتُونِي
بِكُلِّ سَٰحِرٍ عَلِيمٖ ٧٩ فَلَمَّا جَآءَ ٱلسَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَىٰٓ
أَلۡقُواْ مَآ أَنتُم مُّلۡقُونَ ٨٠ فَلَمَّآ أَلۡقَوۡاْ قَالَ مُوسَىٰ مَا
جِئۡتُم بِهِ ٱلسِّحۡرُۖ إِنَّ ٱللَّهَ سَيُبۡطِلُهُۥٓ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُصۡلِحُ
عَمَلَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ٨١ وَيُحِقُّ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَوۡ
كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ ٨٢
"
وَقَالَ فِرۡعَوۡنُ ٱئۡتُونِي بِكُلِّ سَٰحِرٍ عَلِيم " ذكر الله سبحانه قصة
السحرة مع موسى عليه السلام فى سور الأعراف وطه والشعراء وهذه السورة طلب فرعون
كبار السحرة العالمين بفنون السحر أن يحضروا للقاء موسى عليه السلام وعرض قدراتهم
من السحر والشعوذة لمعارضة ما جاء به موسى عليه السلام من الحق المبين ، "
فَلَمَّا جَآءَ ٱلسَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَىٰٓ أَلۡقُواْ مَآ أَنتُم
مُّلۡقُونَ " لما حضر السحرة طلب
منهم موسى عليه السلام أن يعرضوا سحرهم لآنه أراد أن تكون البداءة منهم ليرى الناس
ما صنعوا ثم يأتى بالحق بعده فيدمغ باطلهم ، لما القوا سحروا أعين الناس من دقة خداع
البصر واسترهبوهم مما عرضوه من حيات وجاءوا بسحر عظيم وقال تعالى " فأوجس فى
نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف انك أنت الأ‘لى * وألف ما فى يمينك تلقف ما صنعوا ان
ما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى " سحرهم أخاف موسى عليه السلام ولكن
الله أرسل اليه وحيا يثبته فقال لهم لما ألقوا ما معهم " فَلَمَّآ
أَلۡقَوۡاْ قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئۡتُم بِهِ ٱلسِّحۡرُۖ إِنَّ ٱللَّهَ
سَيُبۡطِلُهُۥٓ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُصۡلِحُ عَمَلَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ " قال موسى
عليه السلام لما ألقوا كل ما فعلتم من أعمال السحر والشعوذة وهو باطل بقوة الله
والله لا يوفق المفسدين فى أعمالهم التى تعترض طريق الحق ، " وَيُحِقُّ
ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ " والله ينصر
الحق ويظهره بما عنده من الهدى والآيات ولو تصدر المعاندون الكافرون يريدون
ليطفأوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولوكره الكافرون ، وعن ليث وهو أبن أبى
سليم قال : بلغنى أن هذه الآيات شفاء من السحر باذن الله تعالى تقرأ فى اناء فيه
ماء ثم يصب على رأس المسحور بالاضافة الى " فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون
" .
فَمَآ ءَامَنَ لِمُوسَىٰٓ إِلَّا
ذُرِّيَّةٞ مِّن قَوۡمِهِۦ عَلَىٰ خَوۡفٖ
مِّن فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِمۡ أَن يَفۡتِنَهُمۡۚ وَإِنَّ فِرۡعَوۡنَ لَعَالٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلۡمُسۡرِفِينَ ٨٣
" فَمَآ ءَامَنَ لِمُوسَىٰٓ إِلَّا ذُرِّيَّةٞ مِّن قَوۡمِهِۦ عَلَىٰ خَوۡفٖ مِّن فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِمۡ وَإِنَّ فِرۡعَوۡنَ لَعَالٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلۡمُسۡرِفِينَ "
يخبر الله تعالى أنه لم يؤمن بموسى عليه السلام مع ما جاء به من الآيات البينات
والحجج القاطعات والبراهين الساطعات الا قليل من قوم فرعون من الذرية وهم الشباب
على وجل وخوف منه ومن ملئه أن يردوهم الى ما كانوا عليه من الكفر لأن فرعون كان
جبارا عنيدا مسرفا فى التمرد والعتو وكانت له سطوة ومهابة تخاف رعيته منه خوفا
شديدا ، قال أبن عباس ان الذرية التى آمنت لموسى عليه السلام من أناس من غير بنى
اسرائيل من قوم فرعون يسير منهم امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأة
خازنه وقال مجاهد "فَمَآ ءَامَنَ لِمُوسَىٰٓ إِلَّا ذُرِّيَّةٞ مِّن قَوۡمِهِ " وقال أبن عباس كذلك هم بنو اسرائيل
وقال مجاهد فى الذرية أنها من بنى اسرائيل لا من قوم فرعون لعود الضمير على أقرب
المذكورين وقال أبن عباس الذرية القليل وفى هذا نظر لأنه أراد بالذرية الأحداث
والشباب وأنهم من بنى اسرائيل فالمعروف أن
بنى اسرائيل كلهم آمنوا بموسى عليه السلام واستبشروا به وقد كانوا يعرفون نعته
وصفته والبشارة به فى كتبهم المتقدمة وأن الله تعالى سينقذهم به من أسر فرعون
ويظهرهم عليه ولما جاء موسى عليه السلام آذاهم فرعون أشد الأذى ، " عَلَىٰ
خَوۡفٖ مِّن فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِمۡ أَن يَفۡتِنَهُمۡۚ " آمنوا
على خوف من فرعون وأشراف قومه أن يفتنهم أى يردهم عن دينهم الى ما كانوا عليه من
الكفر ، " وَإِنَّ فِرۡعَوۡنَ لَعَالٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلۡمُسۡرِفِينَ " وكان فرعون متكبر
يعتبر نفس الها وكان جبارا عنيدا مسرفا فى التمرد
والعتو وكانت له سطوة ومهابة تخاف رعيته منه خوفا شديدا .
وَقَالَ مُوسَىٰ يَٰقَوۡمِ إِن
كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ فَعَلَيۡهِ تَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّسۡلِمِينَ ٨٤
فَقَالُواْ عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡنَا رَبَّنَا لَا تَجۡعَلۡنَا فِتۡنَةٗ لِّلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ ٨٥ وَنَجِّنَا بِرَحۡمَتِكَ مِنَ
ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٨٦
" وَقَالَ مُوسَىٰ يَٰقَوۡمِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ فَعَلَيۡهِ تَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّسۡلِمِينَ " يقول تعالى مخبرا عن موسى عليه السلام أنه قال لبنى اسرائيل يا قوم ان كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا ان كنتم مسلمين فان الله كاف من توكل عليه كقوله " أليس الله بكاف عبده " وكقوله " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين العبادة والتوكل كقوله " فاعبده وتوكل عليه " وكقوله " قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا " ، " فَقَالُواْ عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡنَا رَبَّنَا لَا تَجۡعَلۡنَا فِتۡنَةٗ لِّلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ " أمتثل بنو اسرائيل لقول موسى عليه السلام أنهم توكلوا على الله ودعوا الله أن لايظفر عدوهم بهم ويسلطهم عايهم فيظنوا أنهم انما سلطوا لأنهم على الحق وهم على الباطل فيفتنوا بذلك وقال مجاهد قالوا لاتعذبنا بأيدى آل فرعون ولا بعذاب من عندك فيقول قوم فرعون لو كانوا على حق ما عذبوا ولا سلطنا عليهم فيفتنوا بنا ، " رَبَّنَا لَا تَجۡعَلۡنَا فِتۡنَةٗ لِّلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ " ربنا لا تسلط علينا فرعون وقومه فيفتنوننا ،" وَنَجِّنَا بِرَحۡمَتِكَ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ "خلصنا برحمة منك واحسان ون القوم الذين كفروا الحق وستروه ونحن قد آمنا بك وتوكلنا عليك .
وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ
أَن تَبَوَّءَا لِقَوۡمِكُمَا بِمِصۡرَ بُيُوتٗا
وَٱجۡعَلُواْ بُيُوتَكُمۡ قِبۡلَةٗ
وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٨٧
" وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن
تَبَوَّءَا لِقَوۡمِكُمَا بِمِصۡرَ بُيُوتا" يذكر تعالى سبب
انجائه بنى اسرائيل من فرعون وقومه وكيفية خلاصهم منهم ذلك أن الله تعالى أمر موسى
وأخاه هارون عليهما السلام أن يتخذوا لقومهما بمصر بيوتا ، " وَٱجۡعَلُواْ
بُيُوتَكُمۡ قِبۡلَة وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۗ " أختلف فى تفسيره وقال أبن
عباس أمروا أن يتخذوها مساجد وقال أبن منصور عن ابراهيم كانوا خائفين فأمروا أن
يصلوا فى بيوتهم ، لما اشتد بهم البلاء من قبل فرعون وقومه وضيقوا عليهم أمروا
بكثرة الصلاة كقوله " يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة وفى
الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا حزبه أمر صلى " ، " وَبَشِّرِ
ٱلۡمُؤۡمِنِينَ " بشر المؤمنين بالثواب والنصر القريب ، وقال أبن عباس فى
تفسير هذه الآية قالت بنو اسرائيل لموسى عليه السلام لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع
الفراعنة فأذن الله تعالى لهم أن يصلوا فى بيوتهم وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قبل
القبلة .
وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ
إِنَّكَ ءَاتَيۡتَ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَأَهُۥ زِينَةٗ
وَأَمۡوَٰلٗا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن
سَبِيلِكَۖ رَبَّنَا ٱطۡمِسۡ عَلَىٰٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ وَٱشۡدُدۡ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ
فَلَا يُؤۡمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ ٨٨ قَالَ قَدۡ أُجِيبَت
دَّعۡوَتُكُمَا فَٱسۡتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ ٱلَّذِينَ لَا
يَعۡلَمُونَ ٨٩ ۞
هذا ما دعا به موسى عليه السلام على فرعون وملئه لما أبو
قبول الحق واستمروا على ضلالهم وكفرهم معاندين جاحدين ظلما وعلوا وتكبرا
وعتوا "وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ
إِنَّكَ ءَاتَيۡتَ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَأَهُۥ زِينَة وَأَمۡوَٰلٗا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا " قال موسى عليه السلام
متوجها الى الله أنه سبحانه وتعالى آتى فرعون وملئه أى قومه ومن حوله من أثاث
الدنيا ومتاعها ومن الأموال الكثير الجزيل ، "رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن
سَبِيلِكَۖ " هذا العطاء أعطيتهم وأنت تعلم أنهم لا يؤمنون بما أرسلتنى به
اليهم استدراجا منك وذلك كقوله " لنفتنهم فيه " وقال آخرون ليضلوا بضم
الباء أى ليفتتن بما أعطيتهم من شئت من خلقك ليظن من أغويته أنك انما أعطيتهم هذا
لحبك اياهم واعهتنائك بهم ، " رَبَّنَا ٱطۡمِسۡ عَلَىٰٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ "
قال أبن عباس أهلكها ، " وَٱشۡدُدۡ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ " قال أبن عباس
اطبع عليها ، " فَلَا يُؤۡمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ
"لا يتحقق الايمان منهم حتى يروا من الله العذاب ويتحقق لهم قدرة الله
فيرجعوا من كفرهم ، هذه الدعوة كانت من موسى عليه السلام غضبا لله ودينه على
وفرعون وملئه الذين تبين له أنهم لا خير فيهم ولا يجىء منهم شىء كما دعا نوح عليه
السلام على قومه بقوله " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * انك ان
تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا الا فاجرا كفارا " ، استجاب الله تعالى
لموسى عليه السلام فيهم هذه الدعوة التى أمن عليها أخوه هارون فقال تعالى " قَالَ
قَدۡ أُجِيبَت دَّعۡوَتُكُمَا" استجاب الله لدعوتهما فيما سألا من تدمير قوم
فرعون "فَٱسۡتَقِيمَا"كما أجيبت
دعوتكما فاستقيما على أمرى وقال أبن عباس فاستقيما فامضيا لأمرى وَلَا تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ ٱلَّذِينَ لَا
يَعۡلَمُونَ" ولا تتبعوا سبيل من لا يعلمون الحق من ربهم ويزيغوا عن طريقه .
وَجَٰوَزۡنَا بِبَنِيٓ
إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱلۡبَحۡرَ فَأَتۡبَعَهُمۡ فِرۡعَوۡنُ وَجُنُودُهُۥ بَغۡيٗا وَعَدۡوًاۖ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَدۡرَكَهُ ٱلۡغَرَقُ قَالَ
ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱلَّذِيٓ ءَامَنَتۡ بِهِۦ بَنُوٓاْ
إِسۡرَٰٓءِيلَ وَأَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ٩٠ ءَآلۡـَٰٔنَ وَقَدۡ عَصَيۡتَ
قَبۡلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ٩١ فَٱلۡيَوۡمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ
لِتَكُونَ لِمَنۡ خَلۡفَكَ ءَايَةٗۚ
وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنۡ ءَايَٰتِنَا لَغَٰفِلُونَ ٩٢
يذكر الله تعالى كيفية
اغراقه فرعون وجنوده فقد خرج بنو اسرائيل من مصر بصحبة موسى عليه السلام وهم فيما
قيل ستمائة ألف مقاتل سوى الذرية وقد كانوا استعاروا من القبط حليا كثيرا فخرجوا
به معهم فاشتد حنق فرعون عليهم فأرسل فى المدائن حاشرين يجمعون له جنوده من
أقاليمه فركب وراءهم فى أبهة عظيمة وجيوش هائلة لما يريد الله بهم ولم يتخلف أحد
عنه ممن له دولة وسلطان فى سائر مملكته فلحقوهم وقت شروق الشمس "وَجَٰوَزۡنَا
بِبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱلۡبَحۡرَ فَأَتۡبَعَهُمۡ فِرۡعَوۡنُ وَجُنُودُهُۥ بَغۡيٗا وَعَدۡوًاۖ " لما أنتهى موسى عليه السلام وأصحابه من
بنى اسرائيل الى ساحل البحر وفرعون وراءهم ولم يبق الا أن يتقاتل الجمعان وألح
أصحاب موسى عليه السلام عليه فى السؤال كيف المخلص مما نحن فيه ؟ فأمره الله تعالى
أن يضرب البحر بعصاه فضربه فانفلق البحر فكان كل فرق كالطود العظيم أى كالجبل
العظيم وأمر الله الريح فنشفت أرضه وجاوزت بنو اسرائيل البحر فلما خرج آخرهم منه
انتهى فرعون وجنوده الى حافته من الناحية الأخرى فلما رأى ذلك هاله وأحجم وهاب وهم
بالرجوع ولكن هيهات ولم يبق فرعون يملك من نفسه شيئا فتجلد لأمرائه وقال لهم ليس
بنو اسرائيل بأحق بالبحر منا فاقتحموا كلهم عن آخرهم أمر الله القدير البحر أن
يرتطم عليهم فارتطم عليهم فلم ينج منهم أحد وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم وتراكمت
الأمواج فوق فرعون وغشيته سكرات الموت "حَتَّىٰٓ إِذَآ أَدۡرَكَهُ ٱلۡغَرَق
" قال وهو كذلك ُ "قَالَ ءَامَنتُ
أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱلَّذِيٓ ءَامَنَتۡ بِهِۦ بَنُوٓاْ إِسۡرَٰٓءِيلَ
وَأَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ " فآمن من حيث لا ينفعه الايمان ، " ءَآلۡـَٰٔنَ
وَقَدۡ عَصَيۡتَ قَبۡلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ " يقول الله موبخا آمنت
فى هذا الوقت وقد عصيت الله قبل هذا بينك وبينه وكنت من المفسدين فى الأرض الذين
أضلوا الناس ، " فَٱلۡيَوۡمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنۡ
خَلۡفَكَ ءَايَة" قال أبن عباس
وغيره ان بعض بنى اسرائيل شكوا فى موت فرعون فأمر الله تعالى البحر أن يلقيه بجسده
سويا بلا روح وعليه درعه المعروفة على نجوة من الأرض وهو المكان المرتفع ليتحققوا
موته وهلاكه ولهذا قال تعالى " فَٱلۡيَوۡمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ " أى
نرفعك على نشر من الأرض بجسدك صحيحا لم يتمزق ليتحققوه ويعرفوه ، " لِتَكُونَ
لِمَنۡ خَلۡفَكَ ءَايَة وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنۡ ءَايَٰتِنَا
لَغَٰفِلُونَ " نجى الله جسده ليكون عبرة لمن بعده وهومسجى أمامهم لاحول له
ولا قوة بعد الجبروت والعناد والطغيان وادعاء الألوهية ومع كل ذلك فان الكثير من
الناس لا يتعظون بهذا ولا يعتبرون به ، وقد كان هلاكهم يوم عاشوراء كما قال
البخارى عن أبن عباس قال قدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تصوم يوم
عاشوراء فقال : " ما هذا اليوم الذى تصومونه " فقالوا : هذا يوم ظهر فيه
موسى على فرعون ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم لأصحابه :" أنتم أحق بموسى
منهم فصوموه " .
وَلَقَدۡ بَوَّأۡنَا بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ
مُبَوَّأَ صِدۡقٖ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ فَمَا ٱخۡتَلَفُواْ
حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقۡضِي بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ
ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ٩٣
"وَلَقَدۡ بَوَّأۡنَا بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ
مُبَوَّأَ صِدۡق" يخبر تعالى عما أنعم به على بنى اسرائيل من النعم الدينية
والدنيوية وقيل مبوأ الصدق هو بلاد مصر والشام مما يلى بيت المقدس ونواحيه فان
الله تعالى لما أهلك فرعون وجنوده استقرت يد الدولة الموسوية على بلاد مصر بكاملها
كما قال تعالى " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها
التى باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بنى اسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان
يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون " وقال فى آية أخرى " فأخرجناهم من
جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك وأورثناها بنى اسرائيل " ، استمر بنواسرائيل
مع موسىعليه السلام طالبين الى بيت المقدس وكان فيه قوم من العمالقة فنكل بنو
اسرائيل عن قتالهم فشردهم الله فى التيه أربعين سنة حتى خرجوا بعدها مع يوشع بن
نون ففتح الله عليهم بيت المقدس الى أن أخذها منهم بختنصر واستردوها ،"
وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ " ورزقهم الله الرزق الحلال الطيب النافع
المستطاب طبعا وشرعا ، " فَمَا ٱخۡتَلَفُواْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُۚ"
ما اختلفوا فى شىء من المسائل الا من بعد ما جاءهم العلم أى ولم يكن لهم أنيختلفوا
وقد بين الله لهم وأزال عنهم اللبس ،وقد ورد فى الحديث " ان اليهود اختلفوا
على احدى وسبعين فرقة وان النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه
الأمة على ثلاث وسبعين فرقة منها واحدة فى الجنة واثنتان وسبعون فى النار "
قيل من هم يا رسول الله ؟ " قال " ما أنا عليه وأصحابى " ، " إِنَّ
رَبَّكَ يَقۡضِي بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ
يَخۡتَلِفُونَ " الله يفصل بينهم يوم القيامة يحكم بينهم فيظهر الحق الذى
اختلفوا فيه .
َٔ فَإِن كُنتَ فِي
شَكّٖ مِّمَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ فَسۡلِ ٱلَّذِينَ يَقۡرَءُونَ
ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكَۚ لَقَدۡ جَآءَكَ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ
مِنَ ٱلۡمُمۡتَرِينَ ٩٤ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِايَٰتِ
ٱللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٔ
٩٥ إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتۡ عَلَيۡهِمۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ ٩٦
وَلَوۡ جَآءَتۡهُمۡ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ ٩٧
" فَإِن كُنتَ فِي شَكّٖ مِّمَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ فَسۡلِ ٱلَّذِينَ يَقۡرَءُونَ ٱلۡكِتَٰبَ
مِن قَبۡلِكَۚ لَقَدۡ جَآءَكَ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ
ٱلۡمُمۡتَرِينَ " يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم تثبيتا له مما
أنزل عليه فهو ليس فى شك مما أنزله الله عليه أن كان فى شك مما أنزل اليه أن يرجع
الى ما فى يد أهل الكتاب من قبله مما نزل عن البشارة به وبعثه ، قال قتادة بن
دعامة بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لا أشك ولا أسأل "
وهذا فيه تثبيت للأمة واعلام لهم أن صفة نبيهم صلى الله عليه وسلم موجودة فى الكتب
المتقدمة التى بأيدى أهل الكتاب كما قال تعالى " الذين يتبعون الرسول النبى
الأمى الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والانجيل " ثم مع هذا العلم الذى
يعرفونه من كتبهم كما يعرفون أبناءهم يلبسون ذلك ويحرفونه ويبدلونه ولا يؤمنون به
مع قيام الحجة عليهم " يؤكد الله على
رسوله صلى الله عليه وسلم أنما أنزل عليه الحق ولا يكن عنده أى شك فى ذلك وأن لايكون من أولئك الذين كذبوا بدين الله بعد
الحجج الواضحة والبراهين الساطعة فيصيبه الخسران مثلهم فى الدنيا والآخرة ، " إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتۡ عَلَيۡهِمۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا
يُؤۡمِنُونَ * وَلَوۡ جَآءَتۡهُمۡ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ
ٱلۡأَلِيمَ " الذين كفروا وحق عليهم الكفر لا يؤمنون ايمانا ينفعهم يستمروا
فى كفرهم بل حين لا ينفع نفسا ايمانها حتى يحين موعد العذاب الأليم يوم القيامة ولهذا دعا موسى عليه السلام على فرعون وملئه
بقوله " رَبَّنَا ٱطۡمِسۡ عَلَىٰٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ وَٱشۡدُدۡ عَلَىٰ
قُلُوبِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيم " كما
قال تعالى " ولو أننا نزلنا اليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل
شىء قبلا ما كانوا ليؤمنوا الا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون " .
فَلَوۡلَا كَانَتۡ قَرۡيَةٌ
ءَامَنَتۡ فَنَفَعَهَآ إِيمَٰنُهَآ إِلَّا قَوۡمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ
كَشَفۡنَا عَنۡهُمۡ عَذَابَ ٱلۡخِزۡيِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا
وَمَتَّعۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ حِينٖ ٩٨
" فَلَوۡلَا كَانَتۡ قَرۡيَةٌ ءَامَنَتۡ فَنَفَعَهَآ
إِيمَٰنُهَآ " ما أرسلنا من قبلك يا محمد من رسول الا كذبه قومه أوأكثرهم، "إِلَّا قَوۡمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ
كَشَفۡنَا عَنۡهُمۡ عَذَابَ ٱلۡخِزۡيِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا
وَمَتَّعۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ حِين" لم توجد قرية آمنت بكاملها بنبيهم ممن سلف من
القرى الا قوم يونس وهم أهل نينوى وما كان ايمانهم الا خوفا من وصول العذاب الذى
أنذرهم به رسولهم بعد ما عاينوا أسبابه ،وخرج رسولهم من بين أظهرهم فعندها جأروا
الى الله واستغاثوا به وتضرعوا له واستكانوا وأحضروا أطفالهم ودوابهم ومواشيهم
وسألوا الله تعالى أن يرفع عنهم العذاب الذى أنذرهم به نبيهم فعندها رحمهم الله
وكشف عنهم العذاب واختلف المفسرون هل كشف عنهم العذاب الأخروى مع الدنيوى أو انما
كشف العذاب الدنيوى فقط ؟ أحدهما انما كان ذلك فى الحياة الدنيا كما هو مقيد فى
هذه الآية ، والثانى الايمان منقذ من العذاب الأخروى ، قال قتادة فى تفسير هذه
الآية لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب فتركت الا قوم يونس لما فقدوا
نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم قذف الله فى قلوبهم التوبة ولبسوا المسوح
وفرقوا بين كل بهيمة وولدها ثم عجوا الى الله أربعين ليلة فلما عرف الله منهم
الصدق من قلوبهم والتوبة والندامة على ما مضى منهم كشف عنهم العذاب بعد أن تدلى
عليهم وقال قتادة أن قوم يونس بنينوى أرض الموصل ، وقال أبو عمران عن أبى الجلد
قال لما نزل بهم العذاب جعل يدورعلى رؤوسهم كقطع الليل المظلم فمشوا الى رجل من
علمائهم فقالوا علمنا دعاء ندعوا به لعل الله أن يكشف عنا العذاب فقال قولوا يا حى
حين لا حى ، يا حى محيى الموتى ، يا
حى لا اله الا أنت قال فكشف عنهم العذاب .
وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي
ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ
مُؤۡمِنِينَ ٩٩ وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تُؤۡمِنَ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ
وَيَجۡعَلُ ٱلرِّجۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يَعۡقِلُونَ ١٠٠
" وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ " يقول تعالى لو أذن ربك يا محمد لأهل الأرض كلهم فى الايمان بما جئتهم به فآمنوا كلهم ولكن له حكمة فيما يفعله كقوله تعالى " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " ، " أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ" يخاطب الله رسوله صلى الله عليه وسلم أنه لا يلزم الناس ويلجئهم أى ليس ذلك عليك ولا اليك حتى يؤمنوا بل الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء كقوله" ليس عليك هداهم ولكن الله يهدى من يشاء " وكقوله " فذكر انما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر " ، " وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تُؤۡمِنَ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ " الله تعالى هو الفعال الهادى لمن يشاء المضل لمن يشاء لعلمه وحكمته وعدله ، " وَيَجۡعَلُ ٱلرِّجۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يَعۡقِلُونَ " يجعل الله الرجس أى الخبال والضلال للذين لا يعقلون حجج الله وأدلته فيتبعون الحق من ربهم وهو العادل فى كل ذلك فى هداية من هدى واضلال من ضل .
قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ
وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَا تُغۡنِي ٱلۡأٓيَٰتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ ١٠١ فَهَلۡ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثۡلَ
أَيَّامِ ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلِهِمۡۚ قُلۡ فَٱنتَظِرُوٓاْ إِنِّي مَعَكُم
مِّنَ ٱلۡمُنتَظِرِينَ ١٠٢ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ
كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيۡنَا نُنجِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ١٠٣
" قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ" يرشد تعالى عباده الى التفكير فىآلائه وما خلق الله فى السموات والأرض من الآيات الباهرة لذوى الألباب مما فى السموات من كواكب نيرات وثوابت وسيارات والشمس والقمر والليل والنهار واختلافهما وارتفاع السماء واتساعها وحسنها وما أنزل الله من مطر فأحيا به الأرض بعد موتها وما فى الأرض منسهول وجبال وما فى البحر من العجائب ، " وَمَا تُغۡنِي ٱلۡأٓيَٰتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ " لا تغنى الآيات والدلائل على عظمة الله وخلقه فى السموات والأرض والرسل بآياتها وحججها وبراهينها الدالة عل صدقها عن قوم لا يؤمنون بالله كقوله"ان الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون " ، " فَهَلۡ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثۡلَ أَيَّامِ ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلِهِمۡۚ " فهل ينتظرهؤلاء المكذبون لكيا محمد من النقمة والعذاب الا مثل أيام الله فى الذين خلوا من قبلهم من الأمم الماضية المكذبة لرسلهم ،" قُلۡ فَٱنتَظِرُوٓاْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ ٱلۡمُنتَظِرِينَ" بلغهم أى المكذبين الكافرين ان ينتظروا وقوع الهلاك والعذاب الأليم بهم وسأكون من المنتظرين الشاهدين لهذا العذاب الذى سيقع بكم ، " ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيۡنَا نُنجِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ " حقا أوجبه الله على نفسه أن ينجى رسله والذين اتبعوهم من المؤمنين وهذا تأكيد لذلك .
قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن
كُنتُمۡ فِي شَكّٖ مِّن دِينِي فَلَآ أَعۡبُدُ ٱلَّذِينَ تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ
ٱللَّهِ وَلَٰكِنۡ أَعۡبُدُ ٱللَّهَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّىٰكُمۡۖ وَأُمِرۡتُ أَنۡ
أَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ١٠٤ وَأَنۡ أَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ
ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٠٥ وَلَا تَدۡعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا
يَضُرُّكَۖ فَإِن فَعَلۡتَ فَإِنَّكَ إِذٗا مِّنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٠٦ وَإِن يَمۡسَسۡكَ ٱللَّهُ بِضُرّٖ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥٓ إِلَّا هُوَۖ وَإِن يُرِدۡكَ بِخَيۡرٖ فَلَا رَآدَّ لِفَضۡلِهِۦۚ يُصِيبُ بِهِۦ مَن يَشَآءُ مِنۡ
عِبَادِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ١٠٧
" قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي شَكّٖ مِّن دِينِي فَلَآ أَعۡبُدُ ٱلَّذِينَ تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِنۡ أَعۡبُدُ ٱللَّهَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّىٰكُمۡۖ وَأُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ" يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم قل يا أيها الناس ان كنتم فى شك من صحة ما جئتكم به من الدين الحنيف الذى أوحاه الله الى فأنا لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله وحده لا شريك له وهو الذى يتوفاكم كما أحياكم ثم اليه مرجعكم وأطيع أمر ربى وأذعن اليه بالايمان الكامل وأصير من المؤمنين به كسائر الرسل ، " وَأَنۡ أَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ " يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول له أخلص العبادة لله وحده لا شريك له منحرفا أى بعيدا عن الشرك ، " وَلَا تَدۡعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَۖ فَإِن فَعَلۡتَ فَإِنَّكَ إِذٗا مِّنَ ٱلظَّٰلِمِينَ " ينهى الله رسول صلى الله عليه وسلم عن أن يتخذ الها من دون الله وأن لا يعبد ما كان يعبد المشركون من آلهة لا تنفع ولا تضر وان فعل ذلك وهذا بعيد محال بانه يصير من الكفار والكفر هو الظلم العظيم والكافرين بالتالى ظالمين ، وَإِن يَمۡسَسۡكَ ٱللَّهُ بِضُرّٖ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥٓ إِلَّا هُوَۖ وَإِن يُرِدۡكَ بِخَيۡرٖ فَلَا رَآدَّ لِفَضۡلِهِۦۚ يُصِيبُ بِهِۦ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۚ فى الآية بيان أن الخير والشر والنفع والضر انما هو راجع الى الله تعالى وحده لا يشاركه فى ذلك أحد فهو الذى يستحق العبادة وحده لا شريك له وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اطلبوا الخير دهركم كله وتعرضوا لنفحات ربكم ، فان لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده ، واسألوه أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم " ، "وَهُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ " غفور رحيم لمن تاب اليه وتوكل عليه ولو من أى ذنب كان حتى من الشرك به فانه يتوب عليه .
قُلۡ
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ
فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيۡهَاۖ
وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِوَكِيلٖ ١٠٨
وَٱتَّبِعۡ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيۡكَ وَٱصۡبِرۡ حَتَّىٰ يَحۡكُمَ ٱللَّهُۚ وَهُوَ
خَيۡرُ ٱلۡحَٰكِمِينَ ١٠٩
" قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيۡهَاۖ " يقول الله تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس أن الذى جاءهم به من عند الله هو الحق الذى لا مرية فيه ولا شك فيه فمن اهتدى به واتبعه فانما يعود نفع ذلك الاتباع على نفسه ، ومن ضل عنه فانما يرجع وبال ذلك عليه ، " وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِوَكِيل " وما أنا موكل بكم حتى تكونوا مؤمنين وانما أنا نذير لكم والهداية على الله تعالى ، " وَٱتَّبِعۡ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيۡكَ وَٱصۡبِرۡ" تمسك بما أنزل الله عليك وأوحاه اليك واصبر على مخالفة من خالفك من الناس ، " حَتَّىٰ يَحۡكُمَ ٱللَّهُۚ " حتى يفتح بينك وبينهم "وَهُوَ خَيۡرُ ٱلۡحَٰكِمِينَ" والله هو خير الفاتحين بعدله وحكمته .
تفسير سورة هود
هى سورة مكية ، وعن أبى
بكر قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شيبك ؟ " قال : " شيبنى
هود والواقعة وعم يتسلءلون واذا الشمس كورت " ، وعن سهل بن سعد قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : " شيبتنى هود وأخواتها : الواقعة والحاقة واذا
الشمس كورت " وفى رواية " هود وأخواتها " ، وعن أبن عباس قال: قال
أبو بكر يارسول الله قد شبت قال"شيبتنى هود والواقعة والمرسلات وعم
يتساءلون واذا الشمس كورت "
الٓرۚ كِتَٰبٌ أُحۡكِمَتۡ
ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ١ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ
إِلَّا ٱللَّهَۚ إِنَّنِي لَكُم مِّنۡهُ نَذِيرٞ
وَبَشِيرٞ ٢ وَأَنِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ
يُمَتِّعۡكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا إِلَىٰٓ أَجَلٖ
مُّسَمّٗى وَيُؤۡتِ كُلَّ ذِي فَضۡلٖ
فَضۡلَهُۥۖ وَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٖ كَبِيرٍ ٣ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ
شَيۡءٖ قَدِيرٌ ٤
" الٓرۚ " تقدم الكلام على حروف الهجاء فى أوائل السور فى سورة البقرة ، " كِتَٰابٌ أُحۡكِمَتۡ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ " الكتاب هو القرآن آياته محكمة فى لفظها مفصلة فى معناها فهوكامل صورة ومعنى ، " مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ خَبِير " من عند الله الحكيم فى أقواله وأحكامه خبير بعواقب الأمور ، " أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّا ٱللَّهَۚ" " نزل هذا القرآن المفصل المحكم لعبادة الله وحده لا شريك له كقوله تعالى " وما أرسلنا من قبلك من رسول الا نوحى اليه أنه لا اله الا أنا فاعبدون " ، " إِنَّنِي لَكُم مِّنۡهُ نَذِير وَبَشِير " انى لكم نذير من العذاب ان خالفتموه ، وبشير بالثواب ان أطعتموه كما جاء فى الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد الصفا فدعا بطون قريش الأقرب ثم الأقرب فاجتمعوا فقال : " يا معشر قريش أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تصحبكم ألستم مصدقى ؟ " فقالوا : " ما جربنا عليك كذبا " قال : " فانى نذير لكم بين يدى عذاب شديد " ، "وَأَنِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ ۖ وَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٖ كَبِير " وآمركم بالاستغفار من الذنوب السالفة والتوبة منها الى الله عز وجل فيما تستقبلونه وأن تستمروا على ذلك ،" يُمَتِّعۡكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى " يمتعكم الله بفضله وخيره فى الدنيا " ،" وَيُؤۡتِ كُلَّ ذِي فَضۡلٖ فَضۡلَهُۥ " أى فى الدار الآخرة وقد جاء فى الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد : " وانك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله الا أجرت بها حتى ما تجعل فى امرأتك " ، وقال أبن مسعود فى قوله " وَيُؤۡتِ كُلَّ ذِي فَضۡلٖ فَضۡلَهُۥ " من عمل سيئة كتبت عليه سيئة ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات فان عوقب بالسيئة التى كان عملها فى الدنيا بقيت له عشر حسنات وان لم يعاقب بها فى الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات ، ثم يقول هلك من غلب آحاده على أعشاره ، " وَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٖ كَبِيرٍ " هذا تهديد شديد لمن تولى عن أوامر الله تعالى وكذب رسله فان العذاب يناله يوم القيامة لا محالة ، " إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡۖ " الى الله معادكم ومرجعكم يوم القيامة ، " وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡء قَدِير" وهو القادر على ما يشاء من احسانه الى أوليائه وانتقامه من أعدائه واعادة الخلائق يوم القيامة وهذا مقام الترهيب كما أن الأول مقام ترغيب . ٍ
أَلَآ إِنَّهُمۡ يَثۡنُونَ
صُدُورَهُم أَلَا حِينَ يَسۡتَغۡشُونَ ثِيَابَهُمۡ يَعۡلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا
يُعۡلِنُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ٥
" أَلَآ إِنَّهُمۡ يَثۡنُونَ صُدُورَهُمۡ لِيَسۡتَخۡفُواْ مِنۡهُۚ" قال أبن عباس فى تفسير هذه الآية يعنى به الشك فى الله وعمل السيئات وروى عنمجاهد والحسن وغيرهم أنهم كانوا يثنون صدورهم اذا قالوا شيئا أو عملوه فيظنون أنهم يستخفون من الله بذلك ، "أَلَا حِينَ يَسۡتَغۡشُونَ ثِيَابَهُمۡ يَعۡلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعۡلِنُونَ " يظنون أنهم يستخفون من الله بذلك فأخبرهم الله تعالى أنهم حين يستغشون أى يغطون رؤوسهم عند منامهم فى ظلمة الليل يعلم ما يسرون من القول وما يعلنون أى يعلم ما تكن صدورهم من النيات والضمائر والسرائر ، وقال عبد الله بن شداد : كان أحدهم اذا مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى عنه صدره وغطى رأسه فأنزل الله ذلك ، " ۚ إِنَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ " الله عليم بما يثنون فى صدورهم اذا قالوا شيئا أو عملوه .