لما استقر رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالمدينة وأيده الله بنصره وبعباده المؤمنين وألف بين قلوبهم بعد العداوة
والأحن التى كانت بينهم " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة
الله عليكم اذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخوانا وكنتم على شفا
حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون " آل
عمران 103 ، فمنعته أنصار الله وكتيبة الاسلام وبذلوا نفوسهم دونه وقدموا محيته
على محبة الآباء والأزواج وكان أولى بهم من أنفسهم ، رمته العرب واليهود عن قوس
واحد وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة
، وصاحوا بهم من كل جانب والله سبحانه يأمرهم بالصبر والتقوى الرباط يقول الله
سبحانه وتعالى " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله
لعلكم تفلحون " آل عمران 200 ، وقويت
شوكتهم واشتد الجناح فاذن لهم حينئذ فى القتال ولم يفرضه عليهم فقال " أذن
للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير " الحج 38 ، وقالت طائفة
أن هذا الأذن كان بمكة ، وهذا غلط لوجوه أحدها أن الله لم يأذن بمكة فى القتال ،
ولا كان للمسلمين شوكة يتمكنون بها من القتال بمكة ، الثانى أن سياق الآية يدل عى
أن الاذن بعد الهجرة واخراجهم من ديارهم بغير
الحق الا أن يقولوا ربنا الله وهؤلاء هم المهاجرون ، قال العوفى عن ابن عباس نزلت
فى محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم حين أخرجوا من مكة وقال
مجاهد والضحاك وغير واحد من السلف كابن عباس وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل
بن حيان وقتادة وغيرهم هذه أول آية نزلت فى الجهاد واستدل بهذه الآية بعضهم على أن
السورة مدنية ، وهذا الجهاد فى سورة الحج يدخل فيه الجهاد بالسيف ، أم فى مكة "
فلا تطع الكافرين وجاهدهم به ( أى القرآن ) جهادا كبيرا " الفرقان 52 وهذه سورة مكية والجهاد فيها هو التبليغ وجهاد
الحجة ، بعد آية الجهاد أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم وصية لأصحابه "
انطلقوا باسم الله ولا تقتلوا شيخا ولا طفلا ولا صغيرا ولا امرأة ، ولا تغلوا ،
وضموا غنائمكم وأصلحوا وأحسنوا .... ان الله يحب المحسنين " ، وكان الرسول
صلى الله عليه وسلم بالاضافة لنهيه عن قتل النساء والولدان كان اذا بعث سرية
يوصيهم بتقوى الله ويقول :" سيروا باسم الله وفى سبيل الله واتلوا من كفر
بالله ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدا " ، وكان ينهى عن السفر
بالقرآن الى أرض العدو ، وكان ينهى فى مغازيه عن النهبة والمثلة ، وقال :" من
انتهب نهبة فليس منا " ، ذكر أبوداود عن رجل من الأنصار قال :" خرجنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سفر فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد وأصابوا غنما
فانتهبوها ، وان قدورنا لتغلى اذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشى على فرسه
فأكفأ قدورنا بقوسه ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ثم قال :" ان النهبة ليست بأحل
من الميتة ليست بأهل من النهبة ، وكان ينهى أن يركب الرجل دابة من الفىء حتى اذا
أعجفها ردها فيه وأن يلبس الرجل ثوبا من الفىء حتى اذا أخلقه رده فيه ولم يمنع من
الانتفاع به حال الحرب ، وكان يشدد فى الغلول جدا ويقول :" هو عار ونار وشنار
على أهله يوم القيامة " ، وتوفى رجل يوم خيبر فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال :" صلوا على صاحبكم فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال :" ان
صاحبكم غل فى سبيل الله شيئا ففتشوا متاعه فوجدوا خرزا من خرز يهود لا يساوى
درهمين ، ولما فرض الجهاد وحث عليه الاسلام قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
أحاديث كثيرة ، نختار منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم :" غدوة فى سبيل
الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها" ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن رب العزة سبحانه وتعالى :" أيما
عبد من عبادى خرج مجاهدا فى سبيلى ، ابتغاء مرضاتى ضمنت له أن أرجعه بما أصاب من
أجر أو غنيمة وان قبضته أن أغفر له وأرحمه وأدخله الجنة " ، وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم :" ان فى الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين فى سبيل
الله ما بين كل درجتين كما بيت السماء والأرض ، فاذا سألتم الله فاسألوه الفردوس
فانه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوق عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة " ، وذكر
ابن ماجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من أرسل بنفقة فى سبيل الله
وأقام فى بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ، ومن غزا بنفسه فى سبيل الله وأنفق فى
وجهه ذلك فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم ثم تلا هذه الآية " مثل الذين ينفقون
أمواله فى سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف
لمن يشاء والله واسع عليم " البقرة 261، وقال :" من أغبرت قدماه فى سبيل
الله حرمهما الله على النار " ، وذكر الامام أحمد رضى الله عنه عن رسول الله
صلى الله علي وسلم :" من أغبر قدماه فى سبيل الله ساعة من نهار فهما حرام على
النار " ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من أغبرت قدماه فى سبيل
الله ساعة من نهار فهما حرام على النار " ، وقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم :" من جرح جراحة فى سبيل الله ختم له بخاتم الشهداء ، له نور يوم
القيامة لونها لون الزعفران وريحها ريح المسك يعرفه بها الأولون والآخرون ،
ويقولون فلان عليه طابع الشهدء " ، وذكر ابن ماجه عن الرسول صلى الله عليه
وسلم :" من راح روحة فى سبيل الله كان له بمثل ما أصابه من البار مسك يوم
القيامة " ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" رباط يوم فى سبيل
الله خير من الدنيا وما عليها " ، وقال رسول الله عليه وسلم :ط ما من ميت
يموت الا ختم على عمله ا من مات مرابطا فى سبيل الله فانه ينمو له عمله الى يوم
القيامة وأمن من فتنة القبر " ، وذكر الترمذى عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم :" من رابط ليلة فى سبيل الله كانت له كألف ليلة صيامها وقيامها "
، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" حرمت النار على عين دمعت أو بكت من
خشية الله ، وحرمت النار على عين سهرت فى سبيل الله " ، وقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم :" ان الله يدخل بالسهم الواحد الجنة صانعه يحتسب فى صنعته
الخير ، والممد به ، والرامى به " ، وعند ابن ماجه عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال :" من تعلم الرمى فتركه فقد عصانى " ، وقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم :" من مات ولم يغز ولم يحدث بغزو مات على شعبة من نفاق "
، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اذا ضن الناس بالدينار والدرهم
ويبايعوا بالعين وأتبعوا أذناب البقر ، وتركوا الجهاد فى سبيل الله أنزل الله بهم
بلاءا فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم " ، وصح عنه أنه قال لعبد الله بن
عمرو :" ان قاتلت صابرا محتسبا بعثك الله صابرا محتسبا ، وان قاتلت مرائيا
مكاثرا بعثك الله مرائيا مكاثرا يا عبد الله بن عمرو على أى وجه قاتلت أو قتلت
بعثك الله على تلك الحال " ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"
والذى نفسى بيده لا يكلم أحد فى سبيل الله والله أعلم بمن يكلم فى سبيله الا جاء
يوم القيامة واللون لون الدم والريح ريح المسك " ، وقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم :" ان للشهيد عند الله خصالا : أن يغفر له من أول دفعة من دمه ،
ويرى مقعده من الجنة ، ويحلى حلية الايمان ، ويزوج من الحور العين ، ويجار من عذاب
القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، الياقوتة منه خير من
الدنيا وما فيها ، ويزوج أثنتين وسبعين من الحور العين ، ويشفع فى سبعين انسانا من
أقاربه " ذكره أحمد وصححه الترمذى ، وكان هديه فى الأسارى يمن على بعضهم ويقتل بعضهم
ويفادى بعضهم بالمال وبعضهم بأسرى المسلمين وقد فعل ذلك كله بحسب المصلحة ، ففادى
أسارى بدر بمال ، وأسر ثمامة بن أثال سيد بنى حنيفة فربطه بسارية المسجد ثم أطلقه
فأسلم ، وفدى رجلين من المسلمين برجل من عقيل ، وقتل عقبة بن أبى معيط من الأسرى ،
وقتا النضر بن الحرث لشدة عداوتهما لله ورسوله ، وذكر الامام أحمد عن ابن عباس قال
:" كان ناس من الأسرى لم يكن لهم مال فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة ،
وهذا يدل على جواز الفداء بالعمل كما يجوز بالمال ، وكان هديه صلى الله عليه وسلم
أن من أسلم قبل الأسر لم يسترق ، ولما قسم سبايا بنى المصطلق وقعت جويرية بنت
الحرث فى السبى لثابت بن قيس بن شماس فكاتبته على نفسها ففض رسول الله صلى الله
عليه وسلم كتابتها وتزوجها فأعتق بتزويجه اياها مائة من أهل بنى المصطلق اكراما
لصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمنع
التفريق فى السبى بين الوالدة وولدها ويقول :" من فرق بين والدة وولدها فرق
الله بينه وبين أحبته يوم القيامة " ، وكان يؤتى بالسبى فيعطى أهل البيت
جميعا كراهية أن يفرق بينهم ، وكانت تقدم عليه رسل أعدائه وهم على عداوته فلا
يهيجهم ولا يقتلهم ، ولما قدم عليه رسولا مسيلمة الكذاب وهما عبد الله بن النواحة وابن أثال قال لهما :"
فما تقولان أنتما " ، قالا :" نقول كما قال " ، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم :" لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما " ، فجرت سنته
أن لايقتل رسولا ، وكان هديه أيضا أن لايحبس الرسول عنده اذا اختار دينه ويمنعه
اللحاق بقومه بل يرده اليهم ، كما قال أبو رافع :"بعثتنى قريش الى النبى صلى
الله عليه وسلم فلما أتيته وقع فى قلى الاسلام فقلت :" يا رسول الله لا أرجع
اليهم ، فقال :" انى لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ( بضم الباء تعنى الرسل ) ، ارجع اليهم فان كان فى قلبك الذى فيه الآن فارجع
" ، قال أبو داود وكان هذا فى المدة التى شرط لهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن يرد اليهم من جاء منهم وان كان مسلما وأما اليوم فلا يصلح هذا ، وفى قوله
لا أحبس البرد ( أى الرسل ) اشعاربأن هذا الحكم يختص بالرسل مطلقا ، وأما الرسل
فلهم حكم آخر فهو لم يتعرض لرسل مسيلمة الكذاب ، وقد سبق الاسلام كل المواثيق
الدولية والقوانين الدولية التى سعت اليها المجتمعات الحديثة ، خصوصا فى القرن
العشرين والقرن الحادى والعشرين والتى تسعى جميعها لوضع القواعد والمبادىء والنظم
التى يمكن أن تخفف عن البشرية ويلات الحرب ، فى السنوات الست الأولى فرضت قريش
وحلفاؤها من الأعراب واليهود على الدولة الاسلامية الوليدة أغلب وأكبر وخطر الحروب
والغزوات ، احدى وعشرين غزوة من ثمان وعشرين ! هى مجموع الغزوات ! ، وثبت المسلمون
فى مجتمعهم الاسلامى ، والرسول صلى الله عليه وسلم يرسى أركان الدولة فى مختلف
المجالات ، وكان هو رجل الدولة ، وكان رجل السياسة بكل معانيها وأركانها كما
تعرضنا لها فى تعريفاتها المختلفة ، وكانت الدولة وكان القائد وكان مجتمع المؤمنين
، وكان الدستور الحاكم وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ونلاحظ أن
الأحداث فى المدينة كانت متلاحقة سريعة ، فى كل الاتجاهات ، وتقريبا فان آيات
التشريع فى القرآن الكريم كلها مدنية ، حيث لاتشريع بدون مجتمع ودولة ، على عكس
الوضع الذى كان قائما فى مكة ، مجتمع الكفار والمشركين ، يعيش فيه أفراد قلائل من
المؤمنين ، يتعرضون للعذاب ومحاولة القضاء عليهم ، ومجتمع اسلامى ، يخوض حرب
البقاء ضد الكفار ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم فى الحفاظ على العهود :"
من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقده ولا يشدها حتى يمضى أمده أو ينبذ اليهم
على سواء " ، وقال :" من أمن رجلا على نفسه فقتله فأنا برىء من القاتل
" ، وقال :" ما نقض قوم العهد الا أديل عليهم العدو " ،
وقال:" لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به بقدر غدرته ، يقال هذه غدرة فلان
بن فلان "، ولما قدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة صار الكفار معه ثلاثة
أقسام – قسم صالحهم ، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة ، وقسم تاركوه فلم يصالحوه
ولم يحاربوه بل انتظروا ما يؤول اليه أمر أعدائه ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره
وانتصاره فى الباطن ، ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم ، ومنهم من دخل
معه فى الظاهر ، وهو مع عدوه فى الباطن ليأمن الفريقين ، وهؤلاء هم المنافقون ،
فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه يبارك وتعالى .
حاربه بنو قينقاع بعد بدر بعد أن
أظهروا البغى والحسد ، وكانوا أشجع يهود المدينة ، وكان حامل لواء المسلمين يومئذ
حمزة بن عبد المطلب ، وحاصرهم الرسول صلى الله عليه وسلم خمسة عشر ليلة ، وهم أول
من حارب من اليهود ، وتحصنوا فى حصونهم ، فحاصرهم أشد الحصار وقذف الله فى قلوبهم
الرعب ، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلم عبد الله بن أبى فيهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم وألح عليه فوهبهم له وأمرهم أن يخرجوا من المدينة
ولا يجاوروه بها فخرجوا الى أذرعات الشام ، ثم نقض العهد بنو النضير ، قال البخارى
كان ذلك بعد بدر بستة أشهر ، قال عروة أنه صلى الله عليه وسلم خرج اليهم فى نفر من
أصحابه وكلمهم أن يعينوه فى دية الكلابيين الذين قتلهم عمرو بن أمية الضمرى فقالوا
نفعل يا أبا القاسم اجلس هنا حتى نقضى حاجتك ، فتآمروا بقتله وقالوا أيكم يأخذ هذه
الرحا ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها ، فقال أشقاهم عمرو بن جحاش أنا فقال لهم
سلام بن مشكم لاتفعلوا فو الله ليخبرن بما هممتم به وانه لنقض للعهد الذى بيننا
وبينه ، وجاء الوحى على الفور اليه من ربه بما هموا به فنهض مسرعا وتوجه الى
المدينة ولحقه أصحابه فقالوا نهضت ولم نشعر بك فأخبرهم بما همت يهود به وبعث اليهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرجوا من المدينة ولا تساكنونى بها وقد أجلتكم
عشرا فمن وجد بعد ذلك بها ضربت عنقه ، ولكن المنافق عبد الله بن أبى أوهم أن غطفان
سوف تساندهم فلم يغادروا ، فحمل اللواء على بن أبى طالب ، وأجلوا الى خيبر وأستولى
على أرضهم وديارهم ، وبنو قريظة كانوا أشد اليهود عداوة وتم اجلاؤهم بعد موقعة
الخندق ، وهكذا تطهرت المدينة من الغادرين من اليهود .
وفى ذى القعدة من السنة السادسة للهجرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى 1400 من صحابته ، قاصدين مكة المكرمة لأداء العمرة ، لايريدون حربا وليس معهم من السلاح الا السيوف فى أغمادها .... وانما يسوقون "الهدى " ... وهم محرمون ، ولقد رمى الرسول صلى الله عليه وسلم بنداء السلام وحباله الى قريش ، العدو الرئيسى للاسلام ودولته ، وقتح أمامهم بابه فقال :" لا تدعونى قريش اليوم الى خطة يسألونى فيها صلة رحم الا أعطيتهم اياها " ، لكن قريشا أعترضت طريق المسلمين المسالمين ، ورفضت دخولهم مكة معتمرين ، ودارت مفاوضات بين المشركين والمسلمين " عند الحديبية " ، انتهت الى ما سمى بصلح الحديبية ، والاتفاق على 1-) رجوع المسلمين الى المدينة ، دون أن يدخلوا مكة ، هذا العام 2-) وأن يعودوا الى مكة معتمرين فى العام القادم . 3-) وأن يخلى المشركون لهم مكة ثلاثة أيام خلال وجودهم فيها معتمرين . 4-) وأن تضع الحرب بين الطرفين أوزارها مدة عشر سنوات " يتداخل فيها الناس ، ويأمن بعضهم بعضا " . 5-) وأن يرد المسلمون الى قريش من يسلم منهم ويهاجر الى المدينة ... دون أن ترد قريش الى المسلمين من يكفر ويغادر المدينة الى مكة ! 6-) وأن يشمل الأمن والأمان والعهد حلفاء الفريقين من القبائل العربية، ولقد رفضت قريش الاعتراف فى نص المعاهدة بلفظ الجلالة ، عنوان التوحيد الاسلامى ، والاعتراف بمحمد صلى الله عليه وسلم كرسول الله !
وصالح قريشا على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين على أن من جاءه منهم مسلما رده اليهم ومن جاءهم من عنده لايردونه اليه ، وكان اللفظ عاما فى الرجال والنساء فنسخ الله ذلك فى حق النساء وأبقاه فى حق الرجال وأمر الله نبيه والمؤمنين أن يمتحنوا من جاءهم من النساء وان علموها مؤمنة لم يردوها الى الكفار " يا أيها الذين آمنوا اذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنونهن الله أعلم بايمانهن فان علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن الى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وأتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن اذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم ولبسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم " الممتحنة 10 ، وفيه دليل على تحريم نكاح المشركة على المسلم كما حرم نكاح المسلمة على الكافر ، ولقد رأى كثير من المسلمين يومئذ فى هذه الشروط تنازلات كبيرة من الحق للباطل ، لكن عبقرية الاستراتيجية السياسية ، بل والحربية ، فضلا عن الدعوية جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه يقول لأصحابه :" اصبروا ، فان الله يجعل هذا الصلح سببا الى ظهور دينه ، وسيجعل فيه للمسلمين فرجا وقد كان ، يقول ر. ف . بودلى ( كلونيل أمريكى درس حياة النبى صلى الله عليه وسلم وألف كتابا فى ذلك ، وهذا نقلا عن ملحق مجلة الأزهر عن شهر ربيع الأول 1434 / فبراير 2013 ) من الحوادث التى تناولها هذا المؤلف بالبحث والتحليل " صلح الحديبية " عام 628 م الذى وصفه بأنه نصر سياسى ودبلوماسى لنبى الاسلام جدير بالاعجاب والتسجيل ... وفى هذا الصدد كتب بودلى يقول :" وجد النبى بعد خروجه من مكة أن الأمل فى الاتفاق مع القرشيين ضعيف ، وأضعف منه أن يأخذ مكة بقوة السلاح ، لهذا سعى لتوطيد سلم بين مكة ومحمد بطريقة لا تجرح المسلمين ، وقد واتت محمدا فكرة بديعة هى أن يأخذ رجاله ، غير مسلحين ، ويشترك فى الحج السنوى وسيأمنون الغدر بهم لأنهم سيكونون فى الأسهر الحرم ، وفى فبراير سنة 628 م أجتمع خارج المدينة ألف وخمسمائة من حجاج المسلمين فى ثياب الأحرام البيض ، وتحركوا الى مكة حتى بلغوا مشارفها ، وضربوا خيامهم ، وتربص محمد ليرى كيف يتصرف القرشيون ، ولم يكن هؤلاء ينوون الاذعان بسهولة لهذه الجرأة فبعثوا الى النبى يفاوضونه فى أن يرجع هذا العام ويعود فى العام التالى فيحج الى الكعبة ، وانتهت المفاوضات بين الطرفين بعقد هذه المعاهدة فى مارس سنة 628 م ، وبمقتضى هذه المعاهدة بين محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو ، يتفق الطران على أن يعود محمد ورجاله فورا الى المدينة ، ويؤذن لهم بالرجوع فى العام التالى للحج ، وستخصص لهم ثلاثة أيام يؤدون فيها فرائضهم حول الكعبة وفى هذه الفترة يخلى القرشيون مكة ، ويعسكرون خارج أسوارها ، وسيكون على الحجيج من أتباع محمد أن بكزنوا غير مسلحين الا بالسيوف المغمدة التى يؤذن للراحلين بحملها للدفاع عن النفس ، وتدوم هذه المعاهدة عشر سنوات ، تجرى فيها قوافل الطرفين فى أرض مكة والمدينة بسلام ، ويعاد الى مكة كل المكيين الذبن يلجأون الى المدينة بقصد الاسلام دون موافقة عائلاتهم على ذلك ، ولا شك أن هذه المعاهدة كانت أعظم نصر دبلوماسى حقيقى لمحمد ، ففيها اعتراف به كزعيم لجماعة كبيرة من العرب لها حساب ، ولها قوة وحقوق ، وامضاء المعاهدة معه بهذا الوصف بعد طول الطراد والنزال نصر وأى نصر ، وكان محمد يتطلع الى أبعد من ذلك كان يرى المعاهدة مقدمة لها ما بعدها ، فان مجرد استطاعته وضع قدمه فى مكة كفيل بأن يبقيه فيها أبد الآبدين "
No comments:
Post a Comment