الحج عام 629 م .
يمضى المؤلف قائلا " وفى العام التالى قصد النبى صلى الله عليه وسلم
على رأس الحجاج الى مكة ، فلما أصبحوا على مرمى النظر ، خرج المكيون من منازلهم ،
وتركوا المدينة وعسكروا خارجها ، ودخلها المسلمون ، فلما لمحوا الكعبة أنبعثت من
حناجرهم التكبيرات " لبيك اللهم لبيك " ، وبعد أن أدوا مناسك الحج (
المراد العمرة ) باتوا ليلتهم حول الكعبة ، فلما أصبحوا أمر النبى بلالا أن يؤذن
فأذن قائلا " الله أكبر ، الله أكبر " ، لقد كان لهذا الأذان وقع
لايبارى .. لقد سمعه أهل مكة جليا ، ورأوا آلهتهم جامدة كالصخر ، لم تشر ولم تغضب
لانتهاك حرمتها ، ولم ترسل الصواعق مدرارا على رؤوس أولئك الكفرة ... ولم تفجر
ينابيع الأرض أو تشقق جوفها تحت أقدامهم .
رأى القرشيون ذلك وتأثروا به ،
فكان أن قصد خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة الى النبى بعد ثلاثة
أشهر فى المدينة وأعلنوا اسلامهم ، ولم يقتصر الأمر على أهل مكة ، بل قصدته
القبائل من كل أنحاء الجزبرة تعلن اسلامها " . وفى مقال للكتور محمد عمارة فى
مجلة الأزهر بتحدث فيقول "لقد أبصرت العبقرية السياسية والحربية والدعوية
للرسول صلى الله عليه وسلم فى هذا الصلح وهذه الهدنة المقدمة للفتح الأكبر والمبين
، الذى سيطوى صفحة الشرك والوثنية من شبه الجزيرة العربية فتعلوها رايات التوحيد فى
الدين ، ورايات الوحدة فى الدولة ، لأول مرة فى التاريخ ، كانت قريش الشرك
والوثنية هى العدو الأكبر ، الذى استمر فى جمع الحلفاء من الأعراب واليهود ،
وتجييش الجيوش ، وفرض الحروب على المسلمين أكثر من عشرين غزوة وموقعة فى ست سنوات
! ، فجاء هذا الصلح – الهدنة ليحيد العدو
الأكبر والأشرس والأخطر للاسلام والمسلمين ، والدولة الاسلامية ، وكانت قريش حتى
عقد الصلح لا تعترف بالدولة الاسلامية ، فكان اعترافها بها فى هذا الصلح لأول مرة
فى تاريخ هذا الصراع ، لقد اعترفت بالدولة وان لم تعترف بالدين ... لكن هذه الدولة
التى اعترفت بها كانت هى " دولة الدين " ، ولقد قلب هذا الاعتراف من
قريش بالدولة الاسلامية موازين القوى فى سبه الجزيرة العربية بأسرها ، فالقبائل
التى كانت تميل عن لاسلام ودولته استنادا الى قريش أو التى كانت مترددة فى حسم
مكوقفها من هذا الصراع بدأت بعد هذا الاعتراف تفكر بالصلح هى الأخرى مع الدولة
الاسلامية ، بل والدخول فى الدين الجديد ، كما أدى هذا الصلح الى عزل يهود خيبر ،
أخطر المتآمرين على الاسلام وأمته ودولته ، وأخطر حلفاء قريش فى مناوأة الاسلام ،
لقد عزلهم هذا الصلح ، فكان فتح خيبر من قبل المسلمين بعد أقل من شهرين على صلح
الحديبية ، وبفتح خيبر التى كان يهودها قد تحلفوا مع يهود وادى القرى وتيماء للزحف
على المدينة المنورة ، والذين كانوا الممول الأكبر لمرتزقة الأعراب وحشدهم وراء
قريش فى محاربة الاسلام ... بفتح خيبر وهزيمة يهودها أصبحت الدولة الاسلامية هى
القوة الأولى والكبرى فى شبه الجزيرة العربية كما تمتعت الدولة الاسلامية بالأمن ،
بعد مهادنة قريش ، وفتح خيبر، الأمر الذى جعلها تتوجه الى دوائر وميادين كانت
تشغلها عنها الحروب المتوالية والمخاطر الدائمة التى فرضتها قريش وحلفاؤها على
امتداد السنوات الست الأولى من عمر دولة الاسلام ، لذلك وكثمرة من ثمرات هذا الصلح
–الهدنة الذى تجلت فيه عبقرية "
الاستراتيجية السياسية والحربية للرسول صلى الله عليه وسلم سنة 7 هجرية / 628 م أى
العام التالى لتحييد قريش وهزيمة اليهود ، ففى هذا العام خرج رسل رسول الله صلى
الله عليه وسلم حاملين كتبه ورسائله الى قيصر الروم ، وكسرى الفرس ، والفادة
والأمراء والشيوخ والرؤساء فى أطراف شبه الجزيرة العربية وما وراءها ، لقد كان
الرومان يحتلون الشام ومصر وشمالى افريقيا ، وكان الفرس حتلون العراق والخليج – أى
مشرق الدولة الاسلامية الوليدة ، وغربها وشمالها كانت تحت الاحتلال والقهر السياسى
والحضارى ، ولقد تجلت فى " السياسة الخارجية " لدولة النبوة منذ فجرها
وبواكيرها ولحظاتها الأولى " القسمة التحريرية " للشرق من هذا الاحتلال
والقهر الحضارى والدينى والثقافى والسياسى ، الذى دام عشرة قرون : من الاسكندر
الأكبر ( 356 – 324 ق. م ) ، فى القرن الرابع قبل الميلاد الى هرقل ( 610 – 641 م
) ، فى القرن السابع للميلاد ، فهذا التحرير لشعوب الشرق المستضعفة هو ضرورة لأمن
الدولة الاسلامية الوليدة ، كما أنه فريضة دينية على هذه الدولة " وما لكم لا
تقاتلون فى سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا
أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها وأجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك
نصيرا " النساء 75 ، ولذلك حملت مراسلات رسول الله صلى الله عليه وسلم الى
قادة الشرق سنة ( 7 هجرية / 628 م ) ، هذه الدلالات التحريرية لشعوب الشق المقهورة
والمستضعفة ، فمع مراسلة الرسول صلى الله عليه وسلم لقيصر الروم – هرقل ، فلقد
راسل المقوقس – عظيم القبط بمصر ، التى كانت يومئذ ولاية رومانية ، ليعلن بذلك عن
أن مصر ليست شأنا رومانيا بيزنطيا يخاطب قيصر الروم فى شأنها ، وكذلك صنعت
مراسلاته صلى الله عليه وسلم مع قادة ورؤساء القبائل التى كانت خاضعة لقهر الروم
فى الشام ومع نظرائهم الذين كانوا خاضعين لقهر الفرس فى مشرق الدولة الاسلامية ،
لقد خاطبتهم الدولة الاسلامية فى هذه المراسلات ، ولم تكتف بمخاطبة كسرى الفرس
الساسانيين ، هكذا بدأت " الاشارات والتنبيهات " فى السياسة الخارجية
لدولة النبوة ، مخاطبة أهالى المستعمرات مباشرة ، اعلانا عن ضرورة استقلالهم عن
الفرس والروم ، وحتمية تحررهم من القهر الاستعمارى الى عانوا منه ويعانون ، والعام
التالى لبدء هذه السياسة الخارجية سنة ( 8 هجرية / 629 م ) قد شهد أولى غزوات دولة
النبوة ضد احتلال الرومان لأرض العرب فى الشام الكبير ، فكانت غزوة " مؤتة
" ببلقاء لشام ، كما كانت غزوة تبوك سنة 9 هجرية / 630 م ) وهى آخر غزوات
دولة النبوة ، ففى رسالته الى هرقل الروم البيزنطيين دعاه رسول الله صلى الله عليه
وسلم الى الاسلام وحذره من الاثم الذى يرتكبه وترتكبه دولته وكنيسته الملكانية فى
حق رعاياه من النصارى الموحدين " الأريسيين " أتباع " آريوس "
( 270 – 336 م ) الرافضين لتأليه المسيح ولعقائد الصلب والتثليث ، كما دعاه فى هذه
الرسالة الى أن يخلى بين الفلاحين وبين حرية الاعتقاد ليدخل الى الاسلام منهم من
يشاء بالحرية والاختيار ، وكذلك صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى رسالته الى
" كسرى أبرويز " ( 590 – 628 م ) عظيم الفرس الساسانيين ، فكما خاطبت
هذه الرسائل مباشرة المقوقس – عظيم القبط بمص وقادة قبائل غساسنة الشام وشيوخها ،
خاطبت مباشرة شيوخ قبائل المناذرة فى العراق والبحرين واليمامة وعمان والخليج ،
وكذلك كانت المراسلات مع قادة عرب اليمن ، الذين ابتلوا باستعمار الفرس والأحباش
فى كثير من الأحايين ، وهذه الاعلانات التى أفصحت عنها كتب الرسول صلى الله عليه
وسلم ورسائله هى التى جسدتها وطبقتها بالفتوحات الاسلامية دولة الخلافة الرشيدة فى
عهدى أبى بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضى الله عنهما بعد انتقال الرسول صلى الله
عليه وسلم الى الرفيق الأعلى 11 هجرية ، فلم يغادر هذه الدنيا حتى أعلنت السياسة
الخارجية لدولته " الاعلان العالمى للحرية الدينية والسياسية للأمم والقبائل
والشعوب ، فلما جاءت دولة الخلافة الرشيدة السالكة طريق دولة النبوة فتحت فى
ثمانين عاما أوسع مما فتح الرومان فى ثملنية قرون ، وكان فتحها فتح تحرير الأوطان
والضمائر والعقائد ، بينما كان فتح الرومان فتحا استعماريا كرس القهر الحضارى
والدينى والثقافى والسياسى والأقتصادى فى الشرق لأكثر من عشرة قرون ، هكذا أبصرت
عبقرية رسول الله صلى الله عليه وسلم كل هذه الفتوحات الكبرى والمبينة ، وهى تعقد
صلح الحديبية ، الذى بدا فى ظاهر شرطه جائرا بالاسلام والمسلمين ، ذلك أن هذه
العبقرية كانت تنظر بنور الله سبحانه وتعالى ولقد أشارت الى هذه الفتوحات عندما
قال الرسول صلى الله عليه وسلم :" اصبروا فان الله سيجعل هذا الصلح سببا الى
ظهور دينه وسيجعل فيه للمسلمين فرجا " ( من مقال للدكتور محمد عمارة فى مجلة
الأزهر – عبقرية تنظر بنور الله – عدد ربيع الأول 1434 / فبراير 2013 ، وهذه العبقرية التى تبصر بنور الله بدت واضحة
جلية أثنا حفر الخندق ، فقد اعترضت المسلمين صخرة ، فذهب سلمان الفارسى الى الرسول
صلى الله عليه وسلم ليتجنبوا الصخرة ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم هوى بمعوله
على الصخرة فصدر منها وهجا عاليا مضيئا يضىء جوانب المدينة ، وهتف الرسول صلى
الله عليه وسلم مكبرا فى الضربة الأولى
:" الله أكبر ... أعطيت مفاتيح فارس ، ولقد أضاء لى منها قصور الحيرة ومدائن
كسرى ، وان أمتى ظاهرة عليها " ، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم معوله
وهوى به مرة ثانية فبرقت الصخرة بوهج مضىء وهلل الرسول صلى الله عليه وسلم مكبرا :"
الله أكبر ... أعطيت مفاتيح الروم ، ولقد أضاء لى منها قصورها الحمراء ، وان أمتى
ظاهرة عليها " ، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربته الثالثة فأضاءت
وهلل الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه وأنبأهم أنه يبصر قصور سوريا وصنعاء
وسواها من مدائن الأرض التى ستخفق فوقها اية الله يوما ، وصاح المسلمون :"
هذا ما وعدنا الله ورسوله ، وصدق الله ورسوله ، ولقد عاش سلمان الفارسى حتى تحققت
كل هذه النبوءات .
No comments:
Post a Comment