10 - ) شخصيات من القرآن الكريم
من هو مؤمن آل فرعون؟
انَّ «مؤمن آل فرعون» هو رجل
من قوم فرعون آمن بموسى (عليه السلام)، وظلّ يتكتم على إيمانه، ويعتبر نفسه مكلفاً
بالدفاع عنه (عليه السلام).
لقد كان الرجل ـ كما يدلّ عليه
السياق ـ ذكيّاً ولبقاً، يقدّر قيمة الوقت، ذا منطق قويّ، حيث قام في اللّحظات
الحسّاسة بالدّفاع عن موسى (عليه السلام) وإنقاذه من مؤامرة كانت تستهدف حياته .
تتضمّن الرّوايات الإسلامية
وتفاسير المفسِّرين أوصافاً أخرى لهذا الرجل، سنتعرّض لها بالتدريج.
البعض مثلاً يعتقد أنّه كان
ابن عمّ ـ أو ابن خالة ـ فرعون، ويستدل هذا الفريق على رأيه بعبارة (آل فرعون)، إذ
يرى أنّها تطلق على الأقرباء، بالرّغم من أنّها تستخدم أيضاً للأصدقاء والمقرّبين.
والبعض قال: إنّه أحد أنبياء
بني إسرائيل، كان يعرف اسم «حزبيل» أو «حزقيل».
فيما قال البعض الآخر: إنّه
خازن خزائن فرعون، والمسؤول عن الشّؤون المالية.
وينقل عن ابن عباس أنّه قال:
إنَّ هناك ثلاثة رجال من بين الفراعنة آمنوا بموسى (عليه السلام)، وهم آل فرعون،
وزوجة فرعون، والرّجل الذي أخبر موسى قبل نبوّته بتصميم الفراعنة على قتله، حينما
أقدم موسى على قتل القبطي، ونصحه بالخروج من مصر بأسرع وقت : {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ
بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} (القصص: 20).
لكنّ القرائن تفيد أن ثمّة
مجموعة قد آمنت بموسى (عليه السلام) بعد مواجهة موسى مع السّحرة، ويظهر من السياق
أنَّ قصّة مؤمن آل فرعون كانت بعد حادثة السحرة.
والبعض يحتمل أنَّ الرجل كان
من بني إسرائيل، لكنّه كان يعيش بين الفراعنة ويعتمدون عليه، إلا أنّ هذا الاحتمال
ضعيف جداً، ولا يتلاءم مع عبارة «آل فرعون»، وأيضاً نداء "يا قوم".
ولكن يبقى دوره مؤثّراً في
تأريخ موسى (عليه السلام) وبني إسرائيل، حتى مع عدم وضوح كلّ خصوصيّات حياته
بالنّسبة إلينا.
*من كتاب "تفسير الأمثل"، ج 12.
وقفات مع مؤمن آل فرعون
أحق ما يحرص عليه طالب العلم
تفسير آيات القرآن والوقوف على قصصه ومواعظه. ونحن في هذا الزمان في أشد الحاجة
لمعرفة سيرة القدوة الذي يثبت أمام الفتن مع أن هذا المؤمن من طبقة مترفة فلم يرض
بالذل فهو من قوم فرعون. إن الحمد لله
نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونسأله الهداية والتوفيق لأقوم طريق، ونصلي
ونسلم على عبده ورسوله وخليله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد؛ فهذه
وقفات مع مؤمن آل فرعون، ولماذا نقف مع مؤمن آل فرعون؟ • أحق ما يحرص عليه طالب
العلم تفسير آيات القرآن والوقوف على قصصه ومواعظه. • ونحن في هذا الزمان في أشد
الحاجة لمعرفة سيرة القدوة الذي يثبت أمام الفتن مع أن هذا المؤمن من طبقة مترفة
فلم يرض بالذل فهو من قوم فرعون. • نحن نعيش في زمن الفتن المتلاطمة والأحداث
المتسارعه فلابد لنا من زاد من علم وعبادة يعيننا على الثبات أمامها. الوقفة
الأولى: من هو مؤمن آل فرعون ؟ {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ
يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ
جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ
وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا
يَهْدِي مَنْ هُومُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28]، قال ابن كثير: المشهور أن هذا
الرجل المؤمن كان قبطياً من آل فرعون، قال السدي: كان ابن عم فرعون ،ويقال إنه
الذي نجا مع موسى عليه الصلاة والسلام، واختاره ابن جرير ورد قول من ذهب إلى أنه
كان إسرائيلياً لأن فرعون انفعل لكلامه واستمعه وكف عن قتل موسى عليه السلام، ولو
كان إسرائيلياً لأوشك أن يعاجل بالعقوبة لأنه منهم وقال ابن جريج عن ابن عباس رضي
الله عنهما لم يؤمن من آل فرعون سوى هذا الرجل وامرأة فرعون والذي قال: {يَا
مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20]، رواه ابن
أبي حاتم. وقد كان هذا الرجل يكتم إيمانه عن قومه القبط فلم يظهر إلا هذا اليوم
حين قال فرعون {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ} [غافر: 26]، فأخذت الرجل غضبة لله عز
وجل؛ تفسير ابن كثير. الوقفة الثانية: يقول ابن كثير: (ولا أعظم من هذه الكلمة عند
فرعون وهي قوله: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّـهُ} [غافر:
28]، اللهم إلا ما رواه البخاري في صحيحه عن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما
قال قلت لعبد الله بن عمروبن العاص رضي الله عنهما أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون
برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي
بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً فأقبل أبوبكر رضي الله عنه فأخذ بمنكبه ودفعه
عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ
اللَّـهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ}» (انفرد به البخاري))؛
تفسير ابن كثير (79/4)، فإنه «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» كما في الحديث.
الوقفة الثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الدين يقول الله عز وجل في
صفة نبيه عليه السلام: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ
وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:
157]. وقال عليه السلام «الإسلام ثمانية أسهم الإسلام سهم والصلاة سهم والزكاة سهم
وحج البيت سهم والجهاد سهم والصيام سهم والأمر بالمعروف سهم والنهي عن المنكر سهم
والجهاد في سبيل الله سهم وقد خاب من لا سهم له» الراوي: حذيفة بن اليمان (المحدث:
-المصدر: مجمع الزوائد- الصفحة أو الرقم:1/43، خلاصة حكم المحدث: فيه يزيد بن عطاء
وثقه أحمد وغيره وضعفه جماعة وبقية رجاله ثقات). وروي أن رجلا جاء إلى عمر رضي
الله عنه فقال: إني أعمل بأعمال الخير كلها إلا خصلتين، قال وما هما؟، قال: لا أمر
بالمعروف ولا أنهى عن منكر، فقال عمر رضي الله عنه: (لقد طمست سهمين من سهام
الإسلام إن شاء الله غفر لك وإن شاء عذبك). الوقفة الرابعة: الاستطاعة في الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر نسبية، ولا تلغي وجوبهما ومن الثابت أن الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم ومناط الوجوب هوالقدرة والاستطاعة والإمكان قال
الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا
وَأَنفِقُوا خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ
الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16]، يقول عليه الصلاة والسلام: «فإذا أمرتُكم بشيٍء
فأتوا منهُ ما استطعتم وإذا نهيتُكم عن شيٍء فدعوهُ» الراوي: أبوهريرة، (المحدث:
مسلم -المصدر: صحيح مسلم- الصفحة أو الرقم: 1337خلاصة حكم المحدث: صحيح). وعلى هذا
فكل مسلم عليه من وجوب الأمر والنهي ما يناسب قدرته ولا يسقط هذا الواجب بأي حال
أو وجه وكل على حسب حاله فالمديرة والأم والأخت كبيرة عليهم من هذا الواجب وأدنى
مراتب الإنكار هي ما يكون في القلب. الوقفة الخامسة: فن الحوار مع فرعون: يحاور
مؤمن آل فرعون هذا الجبار ويقول: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ
يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّـهُ وَقَدْ
جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ۖ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ
كَذِبُهُ ۖ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ
اللَّـهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28]، يقول الشيخ السعدي
في تفسيره: (فقال لك الرجل المؤمن الموفق العاقل الحازم: مقبحا فعل قومه، وشناعة
ما عزموا عليه {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّـهُ} أي كيف
تستحلون قتله، وهذا ذنبه وجرمه، أن يقول ربي الله، ولم يكن أيضا قولا مجردا عن
البيان ولهذا قال: {وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ} لأنه بينته
اشتهرت عندهم اشتهارا علم به الصغير والكبير أي: فهذا لا يوجب قتله..... ، ثم قال
لهم مقالة عقلية، تقنع كل عاقل بأي حال قدرت فقال: {وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن
يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم} أي موسى بين الأمرين إما كاذب في دعواه أو صادقا
فيها فأن كان كاذبا فكذبه عليه وضرره مختص به، وليس عليكم في ذلك ضرر....... ، وإن
كان صادقا وقد جاءكم بالبينات وأخبركم أنكم إن لم تجيبوه عذبكم الله عذابا في
الدنيا والآخرة، فإنه لابد أن يصيبكم بعض الذي يعدكم.. وهذا من حسن عقله ولطف دفعه
عن موسى، حيث أتى بهذا الجواب الذي لا تشويش فيه عليهم، وجعل الأمر دائر بين تلك
الحالتين وعلى تقدير فقتله سفه وجهل منكم)؛ تفسير السعدي (360/4). الوفقة السادسة:
هناك أمور لابد من توفرها في المحتسب: 1. العلم: فيلزمه العلم بالمعروف والمنكر
والتميز بينهما، والعلم بحال المأمور والعلم بوسائل الأمر والنهي وأساليبه
وميادينه يقول عز وجل {قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ عَلَىٰ
بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]. 2. الرفق عند الأمر والنهي يقول
عليه الصلاة والسلام: «إنَّ الرِّفقَ لا يكونُ في شيءٍ إلَّا زانه. ولا يُنزعُ من
شيءٍ إلَّا شانه» الراوي: عائشة (المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو
الرقم: 2594، خلاصة حكم المحدث: صحيح). 3. الصبر وهذه وصية لقمان: {يَا بُنَيَّ
أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ
عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17]. 4. التثبت
وعدم الاستعجال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ
الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ
بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا
فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:
12]. 5. الصدق: ولابد من أن يكون آمر صادق مع نفسه ومع الناس، {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين} [التوبة: 119].
الوقفة السابعة: عدم إنكار المنكر سبب لنزول العذاب يقول مؤمن آل فرعون: {يا
قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن
بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى
وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29]، قال ابن كثير: (قال
المؤمن محذرا قومه زوال نعمة الله عنهم وحلول نقمة الله بهم: {يا قَوْمِ لَكُمُ
الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ}، أي: قد أنعم الله عليكم بهذا الملك
والظهور في الأرض بالكلمة النافذة والجاه العريض، فراعوا هذه النعمة بشكر الله،
وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم واحذروا نقمة الله إن كذبتم رسوله، {فَمَن
يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا}، أي: لا تغني عنكم هذه الجنود وهذه
العساكر، ولا ترد عنا شيئا من بأس الله إن أرادنا بسوء) تفسير ابن كثير (80/4). وعدم
إنكار المنكر سبب لنزول العذاب ويكون على صورتين: • عموم العقاب. • منع إجابة
الدعاء فحين سألت زينب رضي الله عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنهلِك وفينا
الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثُر الخبثُ» (صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم:7059)،
وقال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر،
أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم» (صحيح
الجامع - الصفحة أو الرقم:7070)، يقول عز وجل: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا
تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّ} [الأنفال: 25]، قال ابن عباس: (أمر
الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين ظهرانيهم فيعمّهم الله بالعذاب). الوقفه
الأخيرة: عليك بالتوكل: إن لتوكل فضل عظيم وأجر كبير في الدنيا والآخره فهذا مؤمن
آل فرعون يقول في ختام حواره مع فرعون وقومه قوله تعالى: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ
لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ.
فَوَقَاهُ اللَّـهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ
الْعَذَابِ} [غافر: 44 -45]، التحقيق الذي لا شك فيه أن هذا الكلام من كلام مؤمن
آل فرعون الذي ذكر الله عنه، وليس لموسى فيه دخل. وقوله: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا
أَقُولُ لَكُمْ}، يعني أنهم يوم القيامة يعلمون صحة ما كان يقول لهم، ويذكرون
نصيحته، فيندمون حيث لا ينفع الندم، والآيات الدالة على مثل هذا من أن الكفار
تنكشف لهم يوم القيامة حقائق ما كانوا يكذبون به في الدنيا كثيرة. وقوله تعالى في
هذه الآية الكريمة: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ بَصِيرٌ
بِالْعِبَادِ. فَوَقَاهُ اللَّـهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر: 44 -45]، دليل
واضح على أن التوكل الصادق على الله، وتفويض الأمور إليه سبب للحفظ والوقاية من كل
سوء، وقد تقرر في الأصول أن الفاء من حروف التعليل، كقولهم: سها فسجد، أي: سجد
لعلة سهوه، وسرق فقطعت يده، أي: لعلة سرقته، كما قدمناه مرارا. وما تضمنته هذه
الآية الكريمة، من كون التوكل على الله سببا للحفظ، والوقاية من السوء، جاء مبينا
في آيات أخر، كقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}
[الطلاق: 3]. فقد دلت هذه الآية الكريمة، على أن فرعون وقومه أرادوا أن يمكروا
بهذا المؤمن الكريم وأن الله وقاه، أي حفظه ونجاه، من أضرار مكرهم وشدائده بسبب
توكله على الله، وتفويضه أمره إليه. وبعض العلماء يقول: نجاه الله منهم مع موسى
وقومه، وبعضهم يقول: صعد جبلا فأعجزهم الله عنه ونجاه منهم، وكل هذا لا دليل عليه،
وغاية ما دل عليه القرآن أن الله وقاه سيئات مكرهم، أي حفظه ونجاه منها. وقوله
تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} معناه:
أنهم لما أرادوا أن يمكروا بهذا المؤمن وقاه الله مكرهم، ورد العاقبة السيئة
عليهم، فرد سوء مكرهم إليهم، فكان المؤمن المذكور ناجيا في الدنيا والآخرة، وكان
فرعون وقومه هالكي في الدنيا والآخرة والبرزخ، تفسير أضواء البيان ص: 389. فعلى
الآمر والناهي والداعية والمعلم والأم والزوج وغيرهم.. الدعوة إلى الله والتوكل
عليه وتفويض الأمر لله والإخلاص قبل ذلك فهذا مما ييسر دعوته وينفع بها، فلا تتكل
على نفسك ولا جهدك وفوضي أمرك إلى الله وأكثري من الدعاء، فإن الله كريم عظيم ولا
تيأس من رحمة الله، وكن واعي لما يحاك ضدك من المؤامرات لصدك عن دينك ومبادئك،
فتوكل على الله واحرص على نشر الخير والنهي عن المنكر حتى تنجوا في الدنيا
والآخرة. المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
من هو مؤمن آل فرعون؟
نستفيد من الآيات القرآنية أنّ
«مؤمن آل فرعون» هو رجل من قوم فرعون آمن بموسى (عليه السلام)، وظلّ يتكتم على
إيمانه، ويعتبر نفسه مكلفاً بالدفاع عنه (عليه السلام).
لقد كان الرجل ـ كما يدل عليه
السياق ـ ذكياً ولبقاً، يقدّر قيمة الوقت، ذا منطق قوي، حيث قام في اللحظات الحسّاسة
بالدّفاع عن موسى (عليه السلام) وإنقاذه من مؤامرة كانت تستهدف حياته.
تتضمن الرّوايات الإسلامية
وتفاسير المفسّرين أوصافاً اُخرى لهذا الرجل سنتعرض لها بالتدريج.
البعض مثلا يعتقد أنّه كان ابن
عم ـ أو ابن خالة ـ فرعون، ويستدل هذا الفريق على رأيه بعبارة (آل فرعون) إذ يرى
أنّها تطلق على الأقرباء، بالرغم من أنّها تستخدم أيضاً للأصدقاء والمقربين.
والبعض قال: إنّه أحد أنبياء
بني إسرائيل كان يعرف اسم «حزبيل» أو «حزقيل».
فيما قال البعض الآخر: إنّه
خازن خزائن فرعون، والمسؤول عن الشؤون المالية.
وينقل عن ابن عباس أنّه قال:
إنّ هناك ثلاثة رجال من بين الفراعنة آمنوا بموسى (عليه السلام)، وهم آل فرعون،
وزوجة فرعون، والرجل الذي أخبر موسى قبل نبوته بتصميم الفراعنة على قتله، حينما
أقدم موسى على قتل القبطي، ونصحه بالخروج من مصر بأسرع وقت: ﴿وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ
لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ﴾.
لكن القرائن تفيد أن ثمّة
مجموعة قد آمنت بموسى (عليه السلام) بعد مواجهة موسى مع السحرة، ويظهر من السياق
أنّ قصة مؤمن آل فرعون كانت بعد حادثة السحرة.
والبعض يحتمل أنّ الرجل كان من
بني إسرائيل، لكنّه كان يعيش بين الفراعنة ويعتمدون عليه، إلاّ أنّ هذا الإحتمال
ضعيف جداً، ولا يتلاءم مع عبارة «آل فرعون» وأيضاً نداء «يا قوم».
ولكن يبقى دوره مؤثراً في
تأريخ موسى (عليه السلام) وبني إسرائيل حتى مع عدم وضوح كلّ خصوصيات حياته بالنسبة
لنا.
ثانياً: التقية أداة مؤثّرة في
الصراع
(التقية) أو (كتمان الإعتقاد)
ليست من الضعيف أو الخوف كما يظن البعض، بل غالباً ما توظّف كأسلوب مؤثّر في إدارة
مع الظالمين والجبارين والطغاة، إذ أن كشف أسرار العدو لا يمكن أن يتمّ إلاّ عن
طريق الأشخاص الذين يعملون بأسلوب التقية.
وكذلك الضربات الموجعة
والمباغتة للعدو، لا تتمّ إلاّ عن طريق التقية وكتمان الخطط وأساليب الصراع.
لقد كانت «تقية» مؤمن آل فرعون
من أجل خدمة دين موسى (عليه السلام)، والدفاع عنه في اللحظات الصعبة. ثمّ هل هناك
أفضل من أن يحظى الإنسان بشخص مؤمن بقضيته ودعوته يزرعه في جهاز عدوه بحيث يستطيع
من موقعه أن ينفذ إلى أعماق تنظيمات العدو، ويحصل على المعلومات والأسرار ليفيد
بها قضيته ودعوته، ويخبر بها أصحابه وقد تقضي الضرورة النفوذ في ذهينة العدو أيضاً
وتغييرها لمصالح قضيته ودعوته ما أستطاع إلى ذلك سبيلا.
الآن نسأل: هل كان بوسع مؤمن
آل فرعون إسداء كلّ هذه الخدمات لدعوة موسى (عليه السلام) لو لم يستخدم أُسلوب
التقية؟
لذلك كلّه ورد في حديث عن
الإمام الصادق قوله (عليه السلام): "التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا
تقية له، والتقية ترس الله في الأرض، لأنّ مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل".
إنّ فاعلية هذا المبدأ تكتسب
أهمية استثنائية في الوقت الذي يكون فيه المؤمنون قلّة خاضعة للأكثرية التي لا
ترحم ولا تتعامل وفق المنطق، فالعقل لا يسمح بإظهار الإيمان (باستثناء الضرورات)
والتفريط بالطاقات الفعّالة، بل الواجب يقضي بكتمان العقيدة والتخفي على المعتقد
في مثل هذا الوضع لكي يصار إلى تجميع الطاقات والقوى والإفادة منها لتسديد الضربة
النهائية والقاصمة في الوقت والظرف المناسبين.
إنّ الرّسول الأعظم (صلى الله
عليه وآله وسلم) إلتزم بنفسه هذا المبدأ، حينما أبقى دعوته سريّة لبضع سنوات،
وحينما ازداد أتباعه وتشكّلت النواة الإيمانية القادرة للحفاظ على الدعوة الجديدة
صدع (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمره تعالى أمام القوم.
ومن بين الأنبياء الآخرين نرى
إبراهيم (عليه السلام) الذي استخدم أُسلوب التقية، ووظّف هذا المبدأ في عمله
الشجاع الذي حطّم فيه الأصنام، وإلاّ فلولا التقية لم يكن بوسعه أن ينجح في عمله
أبداً.
كذلك استفاد أبو طالب عم
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من أسلوب التقية في حماية رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) ودعوته الناشئة، إذ لم يعلن عن صريح إيمانه برسول الله وبالإسلام
إلاّ في فترات ومواقف خاصّة، كي يستطيع من خلال ذلك لنهوض بأعباء دوره المؤثر في
حفظ حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيال مكائد وطغيان الشرك القرشي.
من هنا يتبيّن خطأ رأي من
يعتقد بأنّ «التقية» كمبدأ وكأُسلوب، تختص بالشيعة دون غيرهم، أو أنّها كدليل على
الضعف والجبن، فيما هي موجودة في جميع المذاهب دون استثناء.
ثالثاً: من هم الصدّيقون؟
في الحديث عن رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «الصديقون ثلاثة: (حبيب النجار) مؤمن آل يس الذي
يقول: ﴿اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْر﴾ و
(حزقيل) مؤمن آل فرعون وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم».
والملاحظ في هذا الحديث أنّه
يروى في مصادر الفريقين.
إنّ تأريخ النبوات يظهر مكانة
هؤلاء في دعوات الرسل، إذ صدّقوهم في أحرج اللحظات، وكانوا في المقدمة، فاستحقوا
لقب «الصدّيق» خاصة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي وقف منذ
مطلع عمره الشريف وحتى نهايته مناصراً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في
حياته وبعد رحلته وذاباً عن الدعوة الجديدة، واستمرّ في كلّ المراحل والأشواط في
تقديم التضحيات بمنتهى الاخلاص.
تفسير الطبرى
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي
أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ
أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّي عُذْتُ
بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ
(27) وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ
أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم
بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ۖ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ
وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا
يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ
ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا ۚ
قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا
سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ
عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ
وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا
لِّلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ۗ وَمَن يُضْلِلِ
اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي
أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ
أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)
القول في تأويل قوله تعالى :
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ
أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26)
يقول تعالى ذكره: ( وَقَالَ
فِرْعَوْنُ ) لملئه: ( ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ) الذي يزعم
أنه أرسله إلينا فيمنعه منا( إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ) يقول: إني
أخاف أن يغير دينكم الذي أنتم عليه بسحره.
واختلفت القرّاء في قراءة
قوله: ( أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة
والشأم والبصرة: " وَأَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الفَسَادَ" بغير ألف,
وكذلك ذلك في مصاحف أهل المدينة, وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: ( أوْ أن ) بالألف,
وكذلك ذلك في مصاحفهم " يَظْهَرَ فِي الأرْضِ" بفتح الياء ورفع الفساد.
والصواب من القول في ذلك عندنا
أنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار متقاربتا المعنى, وذلك أن الفساد إذا أظهره
مظهرا كان ظاهرا, وإذا ظهر فبإظهار مظهره يظهر, ففي القراءة بإحدى القراءتين فى
ذلك دليل واضح على صحة معنى الأخرى. وأما القراءة في: ( أَوْ أَنْ يُظْهِرَ )
بالألف وبحذفها, فإنهما أيضا متقاربتا المعنى, وذلك أن الشيء إذا بدل إلى خلافه
فلا شك أن خلافه المبدل إليه الأوّل هو الظاهر دون المبدل, فسواء عطف على خبره عن
خوفه من موسى أن يبدّل دينهم بالواو أو بأو, لأن تبديل دينهم كان عنده ظهور
الفساد, وظهور الفساد كان عنده هو تبديل الدين.
فتأويل الكلام إن: إني أخاف من
موسى أن يغير دينكم الذي أنتم عليه, أو أن يظهر في أرضكم أرض مصر, عبادة ربه الذي
يدعوكم إلى عبادته, وذلك كان عنده هو الفساد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال
أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد,
قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) : أي أمركم
الذي أنتم عليه ( أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ ) والفساد عنده أن
يعمل بطاعة الله.
وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ
مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ
رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ۖ وَإِن يَكُ
كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي
يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
وقوله: ( وَقَالَ رَجُلٌ
مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ) اختلف أهل العلم في هذا الرجل
المؤمن, فقال بعضهم: كان من قوم فرعون, غير أنه كان قد آمن بموسى, وكان يُسِرّ
إيمانه من فرعون وقومه خوفا على نفسه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد,
قال: ثنا أسباط, عن السديّ( وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ) قال:
هو ابن عم فرعون.
ويقال: هو الذي نجا مع موسى,
فمن قال هذا القول, وتأوّل هذا التأويل, كان صوابا الوقف إذا أراد القارئ الوقف
على قوله: ( مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ) , لأن ذلك خبر متناه قد تمّ.
وقال آخرون: بل كان الرجل
إسرائيليا, ولكنه كان يكتم إيمانه من آل فرعون.
والصواب على هذا القول لمن
أراد الوقف أن يجعل وقفه على قوله: ( يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ) لأن قوله: ( مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ ) صلة لقوله: ( يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ) فتمامه قوله: يكتم إيمانه, وقد
ذكر أن اسم هذا الرجل المؤمن من آل فرعون: جبريل, كذلك حدثنا ابن حميد, قال: ثنا
سلمة, عن ابن إسحاق.
وأولى القولين في ذلك بالصواب
عندي القول الذي قاله السديّ من أن الرجل المؤمن كان من آل فرعون, قد أصغى لكلامه,
واستمع منه ما قاله, وتوقف عن قتل موسى عند نهيه عن قتله. وقيله ما قاله. وقال له:
ما أريكم إلا ما أرى, وما أهديكم إلا سبيل الرشاد, ولو كان إسرائيليا لكان حريا أن
يعاجل هذا القائل له, ولملئه ما قال بالعقوبة على قوله, لأنه لم يكن يستنصح بني
إسرائيل, لاعتداده إياهم أعداء له, فكيف بقوله عن قتل موسى لو وجد إليه سبيلا؟
ولكنه لما كان من ملأ قومه, استمع قوله, وكفّ عما كان همّ به في موسى.
وقوله: ( أَتَقْتُلُونَ رَجُلا
أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ) يقول: أتقتلون أيها القوم موسى لأن يقول ربي الله؟
فإن في موضع نصب لما وصفت.( وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ) يقول: وقد جاءكم
بالآيات الواضحات على حقيقة ما يقول من ذلك. وتلك البيّنات من الآيات يده وعصاه.
كما حدثنا ابن حميد, قال. ثنا
سلمة, عن ابن إسحاق ( وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ) بعصاه
وبيده.
وقوله: ( وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا
فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ) يقول: وإن يك موسى كاذبا في قيله: إن الله أرسله إليك
يأمركم بعبادته, وترك دينكم الذي أنتم عليه, فإنما إثم كذبه عليه دونكم ( وَإِنْ
يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ) يقول: وإن يك صادقا في قيله
ذلك, أصابكم الذي وعدكم من العقوبة على مقامكم على الدين الذي أنتم عليه مقيمون,
فلا حاجة بكم إلى قتله, فتزيدوا ربكم بذلك إلى سخطه عليكم بكفركم سخطا( إِنَّ
اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) يقول: إن الله لا يوفّق للحقّ
من هو متعد إلى فعل ما ليس له فعله, كذّاب عليه يكذب, ويقول عليه الباطل وغير
الحقّ.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى
الإسراف الذي ذكره المؤمن في هذا الموضع, فقال بعضهم: عني به الشرك, وأراد: إن
الله لا يهدي من هو مشرك به مفتر عليه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر, قال. ثنا يزيد,
قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ
) : مشرك أسرف على نفسه بالشرك.
وقال آخرون: عنى به من هو
قتَّال سفَّاك للدماء بغير حق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد,
قال: ثنا أسباط, عن السديّ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ
) قال: المسرف: هو صاحب الدم, ويقال: هم المشركون.
والصواب من القول في ذلك أن
يقال: إن الله أخبر عن هذا المؤمن أنه عمّ بقوله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ
هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) والشرك من الإسراف, وسفك الدم بغير حقّ من الإسراف, وقد
كان مجتمعا في فرعون الأمران كلاهما, فالحقّ أن يعم ذلك كما أخبر جلّ ثناؤه عن
قائله, أنه عم القول بذلك.
تأملات دعوية في قصة مؤمن آل
فرعون بسورة غافر
قال الله تعالى: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ
أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ
يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي
مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ
فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ
فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ
الرَّشَادِ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ
يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ
مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي
أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ
مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ *
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ
مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ
بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ *
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ
مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ
عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ
لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ
فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ
لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ
إِلَّا فِي تَبَابٍ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ
سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ
وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى
إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ
* تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ
وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لَا جَرَمَ أَنَّمَا
تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ
وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ
* فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [غافر: 28 - 44].
الفوائد الدعوية المستنبطة من
الآيات:
1-- من أساليب الدعوة إلى الله الحكمة تحيُّن الفرص
واستثمارها، وقد كان مؤمن آل فرعون حكيمًا؛ حيث أخفى وكتم إيمانه عن فرعون وقومه
إلى الوقت المناسب؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ
يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ﴾؛ أي: لا أحد يعلم أنه مؤمن، ومكث على هذه الحال إلى أن جاءت
الفرصة والوقت المناسب ليُظهر إيمانه ويدافع عن المؤمنين، والنبي عليه الصلاة
والسلام في بداية دعوته كانت دعوته سرًّا لمدة ثلاث سنوات؛ لأنَّ الحكمة تقتضي
ذلك، ولو أظهر دعوته مباشرة لربما لم ينتشر الدَّين وكانت المفسدة أعظمَ وأكثر من
المصلحة، ففي مثل هذه الحالات يجب مراعاة الحكمة، وعدم التسرع والعجلة، وضبط الغيْرة،
وفي بداية الدعوة وحينما كان المؤمنون مستضعفون قلة، قد ورد عن خبَّاب بن الأرت
رضي الله عنه أنه قال: شَكَوْنا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو
مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا ألا
تَدْعُو لَنا؟ فقالَ: قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له
في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ
فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ
وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ،
حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا
اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ)[1]، فالفرصة لم
تكن سانحة ولم تتحيَّن بعد، ولكن بعد سنوات قليلة من الدعوة انقلب الأمر، فرجع
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحًا منتصرًا قويًّا.
2- من صفات الداعية الدفاع عن المسلمين، والذبِّ عنهم بحق؛
حيث قال الله عز وجل عن مؤمن آل فرعون وهو مدافع عن موسى عليه السلام: ﴿
أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ
يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ﴾، فقد يسمع الداعية أو غيره
من يتَّهم أهل الحق، فيجب عليه الدفاع عنهم والذبِّ عن أعراضهم؛ لأنَّ الدفاع عنهم
دفاع عن الدِّين؛ لأنهم هم من يُبلِّغون الدِّين وأحكامه.
وقد ورد مثل ذلك في السنة، فقد
بعث النبي عليه الصلاة والسلام عمر على الصدقة، فقيل له: منع ابن جميل وخالد بن
الوليد والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم - فدافع صلى الله عليه وسلم عن
خالد - فقال: (أما خالد، فإنكم تظلمون خالدًا، فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل
الله.. )[2]، ولنتأمل هنا كلام النبي صلى الله عليه وسلم عن القصواء عندما كانت
متجهة للحديبية فبركت، فقال الصحابة: خلأت القصواء، - أي: بركت ولا تريد أن تتقدم
أو تمشي - فقال لهم صلى الله عليه وسلم مدافعًا عنها: (ما خلأت القصواء، وما ذاك
لها بخلق، ولكن منعها مانع الفيل)[3].
3- من وسائل الدعوة إلى الله الإقناع العقلي، فقد قال هذا
الرجل لقومه: ﴿ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ
كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي
يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾؛ أي: موسى
جاء ببينات وبراهين وحجج عقلية يصدق بها العقل، فكيف لا تصدِّقونه وتؤمنوا به، وقد
سبق الحديث عن مثل هذه الوسيلة.
4- من وسائل الدعوة إلى الله التذكير بالنعم؛ حيث قال
لقومه: ﴿ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ
يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا ﴾، وقد ورد في السنة أنَّ النبي
عليه الصلاة والسلام خرج ذات يوم جائعًا، فقابل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما
وأخرجهما الذي أخرجه، ثم ذهبا إلى أحد الصحابة واسمه أبو الهيثم بن التيهان، فذبح
لهم ثم شربوا من الماء البارد وأكلوا وشبعوا، ثم قال عليه الصلاة والسلام في نهاية
الحديث: (هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة، ظل بارد،
ورطب طيب، وماء بارد)[4].
5- من وسائل الدعوة الترهيب؛ حيث قال مؤمن آل فرعون لقومه:
﴿ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا ﴾، وفي ذلك تخويف لهم من
عذاب الله وبأسه وبطشه.
6- من صفات الداعية عدم اليأس من دعوة الآخرين، وتكرار
دعوتهم بطرق ووسائل مختلفة متنوعة، فقد كرَّر مؤمن آل فرعون دعوته لقومه بطرق
ووسائل متنوعة، بدأها بالإقناع العقلي: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ... وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ..﴾، ثم ذكَّرهم
بنعم الله عليهم: ﴿ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي
الْأَرْضِ ﴾، ثم خوَّفهم: ﴿ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا
﴾، وخوَّفهم كذلك: ﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ
مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ﴾، ثم خوفهم بعقوبات دنيوية أصابت من كان قبلهم: ﴿
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾
[غافر: 31]، ثم انتقل إلى وسيلة أخرى، وهي تذكيرهم بعقوبات الآخرة: (وَيَا قَوْمِ
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا
لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ
هَادٍ)، ثم رغَّبهم بما عند الله وحقارة الدنيا وزوالها: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ
أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ).
7- من أساليب الدعوة الترهيب والتخويف؛ قال تعالى عن مؤمن
آل فرعون: ﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ
يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ
مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي
أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ﴾، ثم خوَّفهم بيوم القيامة قال: ﴿ وَيَا
قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ﴾.32
8- من صفات بعض من يتعامل معهم الداعية الاستكبار وعدم قبول الحق، فبعد أن نصح
مؤمنُ آل فرعون فرعونَ وقومه، قال لهم فرعون: ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ
إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾، وهذا حال كل
مدعو تأخذه العزة بالإثم، فيرفض الحق ويعاند، فيُظهر للناس أن الحق معه بدون أي
حجة ولا برهان.
9- ومن صفات هؤلاء وجود أتباع اغترُّوا بهم؛ قال تعالى عن
فرعون: ﴿ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾، فأظهر فرعون نفسه في
صورة الناصح المشفق الخائف على قومه، فغرَّرهم فصدَّقوه، قال تعالى عن قومه: ﴿
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾
[الزخرف: 54].
10- من وسائل الدعوة حُسن الخطاب والتلطف والرفق واللين في
القول؛ حيث كرَّر هذا المؤمن قوله: (يا قوم) ستة مرات في آيات مختلفة، وهذه الكلمة
فيها لطف وشفقة وحب للآخرين ورحمة بهم، وخاطَب بها قومه وهم كفار، والله عز وجل
يقول: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83].
11- من أساليب الدعوة الترغيب؛ قال تعالى عن مؤمن آل فرعون:
﴿ قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ﴾، وقد
سبق الحديث عن ذلك.
12- الحذر من الغرور والتكبر والعجب بالنفس؛ قال تعالى عن
فرعون: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ
الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي
لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ
عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ﴾، فعندما يتملك
الإنسان الغرور بنفسه، ويرى نفسه ويغريه الشيطان، فحينئذ يحصل الهلاك، فلذلك لا
يرى أن أحدًا يصل إلى ما وصل إليه، فيتكبَّر ويتمادى، وفي هذا تحذير للداعية من
سلوك هذا المسلك، فقد يدخل الشيطان على الداعية، فيجعله يتكبر ويُعجب بنفسه بسبب
علمه أو عمله، أو حب الناس له وتأثيره فيهم، أو بكثرة عدد متابعيه، والحضور في
المحاضرات أو حتى في برامج التواصل الاجتماعي، أو بسبب منصبه وماله وجاهه، وقد قال
النبي صلى الله عليه وسلم محذرًا من ذلك: (ثلاثٌ مهلكات: شحٌّ مُطاع، وهوىً
مُتَّبع، وإعجاب المرء بنفسه)[5]، وقد حذر النبي عليه الصلاة والسلام صحابته
الكرام بذكر قصص من أمثال المعجبين بأنفسهم، فقال: (بينما رجل يتبختر، يمشي في
برديه، قد أعجبته نفسه، فخسَف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم
القيامة)[6]؛ يتجلجل؛ أي: يغوص، وقد حذَّر الله عز وجل نبيه من ذلك فقال له: ﴿
وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ﴾ [المدثر: 6]، قال الحسن البصري: "لا تَمنُن
بعملك على ربك تستكثره"، وقد نهى الله عز وجل عن تزكية النفس، فقال: ﴿ فَلَا
تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النجم: 32].
13- من وسائل الدعوة إلى الله الترغيب باستخدام أسماء الله
الحسنى، فقال مؤمن آل فرعون لقومه: (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ
الْغَفَّارِ)، فلم يقل لهم أدعوكم إلى الجبار أو المتكبر أو القوي، بل ذكر لهم
اسمًا من أسماء الله عز وجل يدل على مغفرة الذنوب (الغفار)؛ أي كثير المغفرة يسرف
العباد في الذنوب والكفر، ويعصون خالقهم، ثم إذا تابوا ورجعوا غفر لهم سبحانه، وقد
فعل مثل ذلك نوح عليه السلام مع قومه، فقال لهم: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ﴾ [نوح: 10]، فمثل هذه الوسيلة تُرغِّب المدعو
في التوبة وتُعرِّفه بخالقه جل وعلا، فيُذكَّر المدعو العاصي ولو بلغ ما بلغ من
الذنوب بأن ربه غفور غفار، رحيم رحمن، تواب رحيم، بل وردت أحاديث كثيرة في السنة
تبيِّن عظم رحمة الله وفضله وكريم عفوه، ومنها قول النبي عليه الصلاة والسلام في
الحديث القدسي: (قال الله تعالى: يا بن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم
استغفرتني، غفرت لك ولا أبالي..)[7].
14- من صفات الداعية التوكل على الله وتفويض الأمور إليه
صغيرها وكبيرها، قال تعالى عن مؤمن آل فرعون: ﴿ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [غافر: 44]، فالوكيل سبحانه هو العليم
والبصير بعباده، يعلم حالهم وما يصلحهم وينفعهم، ويصرف عنهم ما يضرهم ولا ينفعهم.
[1] أخرجه البخاري.
[2] أخرجه البخاري.
[3] أخرجه البخاري.
[4] أخرجه الترمذي.
[5] رواه الطبراني في معجمه، وحسَّنه الألباني.
[6] أخرجه مسلم.
[7] أخرجه الترمذي.
No comments:
Post a Comment