146-) من معانى اللغة العربية
كلمات من القرآن الكريم ومشتقاتها
من هم أصحاب الحجر
أصحاب الحجر هم قوم ثمود قال -تعالى-:
(وَلَقَد كَذَّبَ أَصحابُ الحِجرِ المُرسَلينَ)،[١] والحجر هو وادٍ يقع بين المدينة
المنورة والشام، أمّا أصحاب الحجر فهم قوم ثمود، وقد أرسل الله لهم نبيّه صالح -عليه
السّلام-.[٢] قوم ثمود ومكانهم سُمّي قوم ثمود في القرن الثامن بثمودي، وقد كان قوم
ثمود يعيشون حياة البداوة، ثمّ انتقلوا إلى الحياة البريّة، وكان معروفاً عنهم عدم
رغبتهم في الخضوع تحت حكم والٍ أو ملك، وذكرت الروايات أنّ رسول الله -صلّى الله عليه
وسلّم- حين مرّ على آثار مساكنهم نهى أصحابه عن دخولها.[٣] وقد وقع منه -صلّى الله
عليه وسلّم- هذا النهي لأحد أمرين؛ إمّا تأكيداً على كفرهم وضلالهم، أو لربما خاف على
المسلمين من أن يكون قد نُصب لهم فخ في هذا المكان لكيلا يقعوا فيه، حيث كان المكان
واقعاً بعد انتهاء الصحراء التي يعاني من يمشي فيها من شدّة الحرّ والعطش.[٣] قصة قوم
ثمود ونبيهم صالح أرسل الله -عزّ وجلّ- نبيّه صالح -عليه السلام- إلى قوم ثمود الذين
كانوا يعبدون الأصنام والأوثان، فدعاهم إلى عبادة الله وحده وتوحيده، وترك عبادة الأصنام،
فمنهم من آمن به ومنهم من كفر وصدّ عنه.[٤] قال -تعالى-: (وَإِلى ثَمودَ أَخاهُم صالِحًا
قالَ يا قَومِ اعبُدُوا اللَّـهَ ما لَكُم مِن إِلـهٍ غَيرُهُ قَد جاءَتكُم بَيِّنَةٌ
مِن رَبِّكُم هـذِهِ ناقَةُ اللَّـهِ لَكُم آيَةً فَذَروها تَأكُل في أَرضِ اللَّـهِ
وَلا تَمَسّوها بِسوءٍ فَيَأخُذَكُم عَذابٌ أَليمٌ*وَاذكُروا إِذ جَعَلَكُم خُلَفاءَ
مِن بَعدِ عادٍ وَبَوَّأَكُم فِي الأَرضِ تَتَّخِذونَ مِن سُهولِها قُصورًا وَتَنحِتونَ
الجِبالَ بُيوتًا فَاذكُروا آلاءَ اللَّـهِ وَلا تَعثَوا فِي الأَرضِ مُفسِدينَ).[٥][٤]
موقف قوم ثمود من ناقة صالح أخرج الله لقوم صالح من الصخرة ناقة، وجعلها معجزة لهم،
وأمرهم أن يشربوا يوماً من ماء البئر، ويدعوا لها الشرب منه في اليوم التالي،[٦] ثمّ
في اليوم الذي تشرب هي من الماء يشرب القوم اللّبن منها.[٧] ولكنّهم عصوا الله وتآمروا
على الناقة، فتحالفوا مع رجل منهم اسمه قدار بن سالف، واتّفقوا معه ليقوم بقتلها وفعلاً
قام بقتلها، قال -تعالى-: (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ).[٨][٧] عقاب
قوم ثمود وهلاكهم لمّا عصى القوم أمر ربّهم توعدهم صالح بحلول العذاب عليهم بعد ثلاثة
أيام، فقال -تعالى-: (فَعَقَروها فَقالَ تَمَتَّعوا في دارِكُم ثَلاثَةَ أَيّامٍ ذلِكَ
وَعدٌ غَيرُ مَكذوبٍ).[٩][١٠] وجعل لهم علامة على ذلك بأن يصير لون وجوههم في اليوم
الأول أصفراً، وفي اليوم الثاني أحمراً، وفي اليوم الثالث أسوداً، ثمّ في اليوم الرابع
سيحلّ بهم العذاب، فلمّا رأوا هذه العلامات على وجوههم، حنّطوا أجسادهم، ولبسوا ما
اعتقدوا أنّه سيحميهم، ودخلوا في بواطن الأرض.[١١] فأرسل الله عليهم صاعقة من السماء
جعلتهم في أماكنهم فأسقتطهم على وجوههم حتى أهلكتهم، وجعلتهم ركاماً كأنما لم يكن لهم
وجود، ونجّى الله صالحاً والذين آمنوا معه،[١٢] قال -تعالى-: (فَلَمّا جاءَ أَمرُنا
نَجَّينا صالِحًا وَالَّذينَ آمَنوا مَعَهُ بِرَحمَةٍ مِنّا وَمِن خِزيِ يَومِئِذٍ
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القَوِيُّ العَزيزُ*وَأَخَذَ الَّذينَ ظَلَمُوا الصَّيحَةُ فَأَصبَحوا
في دِيارِهِم جاثِمينَ).[١٣][١٤]
مرادفات العقل في القرآن الكريم
إذا كان القرآن الكريم لم يَستعمل العقلَ
كمصدر، فقد عبَّر عنه بمرادفات عدَّة، وباستِقراء آيات القرآن الكريم يُمكن حصر هذه
المرادفات في ستَّة، وهي: اللُّبُّ، الحِجْر، النُّهى، الحِلم، القَلب، الفؤاد.
المطلب الأول: اللُّب:
قال ابن فارس: "اللُّب: معروف،
من كلِّ شيء؛ وهو خالصه وما يُنتَقَى منه؛ ولذلك سمِّيَ العقلُ لُبًّا، ورجل لَبيب؛
أي: عاقل، وقد لَبَّ يلبُّ، وخالصُ كلِّ شيء: لُبابُه"[1].
وفي اللسان: "لُبُّ كلِّ شيءٍ
ولُبابُه: خالِصُه وخِيارُه... ولُبُّ الرَّجُل: ما جُعِل في قَلْبه من العَقْل...
ولَبيبٌ: عاقِلٌ، ذو لُبٍّ مِن قوم أَلِبَّاء"[2].
وقال الرَّاغب: "اللبُّ: العقلُ
الخالِص من الشوائب، وسمِّي بذلك لكونه خالِص ما في الإنسان من معانيه؛ كاللباب واللبِّ
من الشيء، وقيل: هو ما زَكَى من العقل، فكلُّ لبٍّ عقل، وليس كل عقل لبًّا؛ ولهذا علَّق
الله تعالى الأحكامَ التي لا يُدركها إلَّا العقولُ الزكيَّة بأولي الألباب، نحو قوله:
﴿ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا ﴾ [البقرة: 269]، إلى قوله: ﴿
أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 269]، ونحو ذلك من الآيات، ولبَّ فلان يلبُّ: صار ذا
لبٍّ"[3].
وباستقراء آيات القرآن الكريم نلاحِظ
أنَّه لم يرِد استعمال "اللبِّ" كمفرد؛ وإنَّما استُعمل جمع التكسير منه؛
أي: "الألباب"[4]، وذلك في ستة عشر موضعًا؛ حيث نجد في كلِّ موضعٍ من هذه
المواضع الكلام عن "أولي الألباب" في معرض الثناء عليهم، وذلك من وجوه:
1- حصر
العلم بالأحكام الشرعيَّة فيهم دون غيرهم:
قال تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ
حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 179]، يقول العلَّامة
السعديُّ رحمه الله تعالى: "ولمَّا كان هذا الحكم لا يَعرف حقيقتَه إلَّا أهلُ
العقول الكاملة والألباب الثقيلة؛ خصَّهم بالخطاب دون غيرهم؛ وهذا يدلُّ على أنَّ الله
تعالى يحبُّ من عباده أن يُعمِلوا أفكارَهم وعقولَهم في تدبُّر ما في أحكامه من الحِكَم
والمصالِح الدالَّة على كماله وكمال حِكمته وحمده وعدلِه ورحمتِه الواسعة، وأنَّ من
كان بهذه المثابة فقد استحقَّ المدحَ بأنه من ذوي الألباب، الذين وجه إليهم الخِطاب،
وناداهم ربُّ الأرباب، وكفى بذلك فضلًا وشرفًا لقوم يعقلون"[5].
2- حصر
التذكُّر والاعتبار فيهم دون غيرهم:
قال تعالى: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ
يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ
إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 269]، وقال جلَّ وعلا: ﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ
أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الرعد: 19]، وقال سبحانه: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ
لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ
﴾ [آل عمران: 190]، يقول العلَّامة السعدي رحمه الله تعالى عند تفسيرها: "وخصَّ
الله بالآيات أولي الألباب - وهم أهل العقول - لأنَّهم هم المنتفِعون بها، النَّاظرون
إليها بعقولهم لا بأبصارهم"[6]، ويقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى:
"وقوله: ﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 269]؛ أي:
وما يَنتفع بالموعظة والتذكارِ إلَّا مَن له لبٌّ وعقل يعِي به الخطابَ ومعنى الكلام"[7].
3- تخصيصهم
بالأمر بالتقوى بعد عمومه:
قال تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا
أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 100]، ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ
يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا
﴾ [الطلاق: 10]، فمع أنَّ الأمر بالتقوى عامٌّ لكلِّ الناس؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ
وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا
اللَّهَ ﴾ [النساء: 131]، لكن نَجد أنَّ القرآن الكريم يخصُّ أولي الألباب بهذه الوصيَّة
دون غيرهم في أكثر من موضع، والسَّبب في هذا التخصيص ما معهم من العقول السَّليمة،
والأفهام المستقيمة، التي تَحملهم على الانتفاع بهذه الوصيَّة والعمل بها دون غيرهم.
يقول العلَّامة السعدي رحمه الله تعالى:
"فهذا مَدحٌ للتقوى...، ثمَّ أمر بها أولي الألباب فقال: ﴿ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي
الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197]؛ أي: يا أهلَ العقول الرَّزينة، اتقوا ربَّكم الذي تقواه
أَعظم ما تأمر به العقول، وتَركها دليلٌ على الجهل وفساد الرأي"[8].
4- مدحهم
لاتِّباعهم الأكمل والأحسن:
قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ
الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ
هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 18]، فمِن سِمات أولي الألباب أنَّهم يميِّزون
النافعَ من الضارِّ، والخير من الشرِّ، والحسَن من القبيح؛ بل يميزون الأحسنَ من الحسن،
فيتَّبعون الأحسنَ، سواء في الأقوال أو الأفعال، وهذه حقيقة العَقل وعلامتُه، ومَن
لم يَستطع التمييز أو ميَّز ولكن اختار القبيحَ من الأمور، فهو إمَّا فاقد للعقل أو
ناقصه، يقول العلامة السعدي رحمه الله تعالى: "﴿ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ
﴾ [الزمر: 18]؛ أي: العقول الزاكية، ومِن لبِّهم وحزمهم أنَّهم عرَفوا الحسنَ من غيره،
وآثروا ما يَنبغي إيثاره على ما سواه، وهذا علامة العقل؛ بل لا علامة للعقل سوى ذلك؛
فإنَّ الذي لا يميِّز بين الأقوال حسنها وقبيحها ليس من أهل العقول الصَّحيحة، أو الذي
يميِّز لكن غلبَت شهوتُه عقلَه، فبقي عقلُه تابعًا لشهوته فلم يؤْثِر الأحسنَ، كان
ناقص العقل"[9].
المطلب الثاني: الحِجْر:
من مرادِفات العقل في القرآن الكريم
الحِجْرُ؛ وقد قيل للعقل: حِجر؛ "لكون الإنسان في مَنعٍ منه مما تدعو إليه نفسه"[10]،
و"العرب تقول: إنَّه لذو حِجر: إذا كان قاهرًا لنفسه، ضابطًا لها"[11].
يقول العلَّامة الألوسي: "والحِجر:
العقل؛ لأنَّه يَحجر صاحبه - أي: يمنعه - من التَّهافت فيما لا يَنبغي، كما سمِّي عقلًا
ونُهية"[12].
وقد وردت كلمة "حِجر" في
القرآن الكريم بمعنى العَقل في موضعٍ واحد، في قوله تعالى: ﴿ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ
لِذِي حِجْرٍ ﴾ [الفجر: 5]، يقول الحافظ ابن كثير في تفسيرها: "وقوله: ﴿ هَلْ
فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ﴾ [الفجر: 5]؛ أي: لذِي عقل ولبٍّ وحِجًا ودِين، وإنَّما
سمِّي العقل حجْرًا[13]؛لأنَّه يَمنع الإنسانَ من تعاطي ما لا يليق به من الأفعال والأقوال"[14].
المطلب الثالث: النُّهى:
قال ابن فارس: "النون والهاء والياء
أصلٌ صحيح يدلُّ على غايةٍ وبلوغ، ومنه أنهيتُ إليه الخَبر: بلَّغتُه إياه، ونِهايةُ
كلِّ شيءٍ: غايته، ومنه نَهَيتُه عنه؛ وذلك لأمرٍ يفعله، فإذا نَهَيته فانتهى عنه،
فتِلك غايةُ ما كان وآخِره... والنُّهْيَة: العقل؛ لأنَّه ينهَى عن قبيح الفِعل، والجمع
نُهًى"[15].
قال الإمام النوويُّ رحمه الله تعالى:
"سمِّي العقل نُهيةً؛ لأنَّه يَنتهي إلى ما أُمِر به ولا يَتجاوز، وقيل: لأنَّه
يَنهى عن القبائح...، والنَّهي في اللُّغة معناه الثَّبات والحبس، ومنه النِّهى والنَّهى؛
بكسر النُّون وفتحها... قال الواحديُّ: فرجع القولان في اشتقاق النُّهيَة إلى قولٍ
واحد، وهو الحبس؛ فالنُّهية هي التي تَنهى وتَحبس عن القبائح"[16].
وقد ورد لَفظ النُّهى في آيتين من القرآن
الكريم، كلاهما في سورة طه، قال تعالى: ﴿ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ﴾ [طه: 54]، وقال جلَّ وعلا: ﴿ أَفَلَمْ يَهْدِ
لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ﴾ [طه: 128]، يقول إمام المفسِّرين أبو جعفر
الطَّبري رحمه الله تعالى: "﴿ لِأُولِي النُّهَى ﴾ [طه: 128]؛ يعني: أهل الحِجا
والعُقول، والنُّهى: جمع نُهية... وخصَّ تعالى ذِكرُه بأنَّ ذلك آياتٍ لأُولي النُّهَى؛
لأنَّهم أهل التَّفكُّرِ والاعتبار، وأهلُ التدبُّر والاتِّعاظ"[17]، ويقول العلَّامة
السَّعدي رحمه الله تعالى: "﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ﴾
[طه: 128]؛ أي: لِذَوي العقول الرَّزينة، والأفكارِ المستقيمة... وخصَّ اللهُ أولي
النُّهى بذلك؛ لأنَّهم المنتفعون بها، النَّاظرون إليها نظرَ اعتبارٍ..."[18].
وهناك مَن فرَّق بين النُّهى والعقل،
معتبرًا أنَّ النهى أعلى مرتبة من العقلِ؛ كالإمام الرازي حيث يقول: "وبيَّن أنَّ
في تلك الآيات آياتٍ لأولي النُّهى؛ أي: لأهل العقول، والأقرب أنَّ للنُّهية مزيَّةً
على العقل، والنَّهيُ لا يقال إلَّا فيمن له عَقل يَنتهي به عن القبائحِ، كما أن لقولنا:
"أولو العَزم" مزيَّة على "أولو الحَزم"؛ فلذلك قال بعضُهم: أهلُ
الورع وأهل التقوى"[19].
المطلب الرابع: الحِلْم:
مما اعتبر مرادفًا للعقل في الاستعمال
القرآني "الحِلْم"، لكن عند التحقيق ليس الحِلم مرادفًا للعقل؛ وإنَّما هو
من لَوازمه ومسبباته، فكلَّما كان الإنسان عاقلًا، كان حليمًا، وهذا ما أشار إليه الرَّاغبُ
الأصفهانيُّ في مفرداته بقوله: "الحِلم: ضَبط النَّفس والطَّبع عن هيجانِ الغضَب،
وجمعُه: أحلام، قال الله تعالى: ﴿ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ ﴾ [الطور: 32]؛
قيل: معناه عقولهم، وليس الحِلم في الحقيقة هو العَقل، لكن فسَّروه بذلك لكونه من مسببات
العقل"[20].
وقد ورَد هذا اللَّفظُ في موضع واحد
من القرآنِ الكريم؛ وذلك في سورة الطور، قال تعالى: ﴿ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ
بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾ [الطور: 32]، قال الحافظ ابن كثير: "﴿ أَمْ
تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا ﴾ [الطور: 32]؛ أي: عقولُهم تأمرُهم بهذا الذي يقولونَه
فيك من الأقوالِ الباطلة التي يَعلمون في أنفسهم أنَّها كذب وزُورٌ؟"[21]، وفي
الكشَّاف: "﴿ أَحْلَامُهُمْ ﴾ [الطور: 32]: عقولهم وألبابُهم، ومنه قولهم: أحلام
عادٍ، والمعنى: أتأمُرهم أحلامُهم بهذا التناقُض في القول؟ وهو قولهم: كاهِن وشاعِر،
مع قولهم: مَجنون"[22]، "وقيل: ﴿ أَحْلَامُهُمْ ﴾ [الطور: 32]؛ أي: أذهانهم؛
لأنَّ العقل لا يُعطى للكافِر، ولو كان له عقلٌ لآمَن؛ وإنَّما يُعطى الكافِرُ الذِّهنَ،
فصار عليه حجَّة"[23].
المطلب الخامس: القلب:
ورد ذِكر القَلب في القرآن الكريم في
مائة واثنين وثلاثين موضعًا، بصيغة الإفرادِ والجمع والتثنية، وهو بالجمعِ أكثر.
يقول ابنُ فارس: "القاف واللام
والباء أصلانِ صحيحان: أحدهما يدلُّ على خالِص شَيءٍ وشَريفِه، والآخَرُ على رَدِّ
شيءٍ من جهةٍ إلى جهة؛ فالأوَّل القَلْبُ: قلب الإنسان وغيره، سمِّي لأنَّه أخْلصُ
شيء فيه وأرفَعُه، وخالِصُ كلِّ شيءٍ وأشرفُه: قَلْبُه"[24]، "وقال بعضُهم:
سُمِّي القَلْبُ قَلْبًا لتَقَلُّبِه، وأَنشد:
ما سُمِّيَ القَلْبُ إِلَّا مِنْ تَقَلُّبِهِ
♦♦♦ والرَّأْيُ يَصْرِفُ بالإِنْسانِ أَطْوارَا"[25].
وقد يأتي القلبُ بمعنى العقل، يقول
ابن منظور: "وقد يعبَّر بالقَلْبِ عن العَقْل"[26]، و"هذا جائز في العربيَّة،
تقول: ما لك قلب، وما قلبُك معك، وأين ذهبَ قلبُك؟ تريد العقلَ لكلِّ ذلك"[27].
وقد ورد القلبُ في القرآن الكريم بمعنى
العَقل في عدَّة مواضع، من ذلك قوله تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ
لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى
الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46]، وقوله
جلَّ في علاه: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ
آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ
هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179]، وقولُه سبحانه: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى
لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]، يقول الحافظ
ابن كثير: "أي: لُبٌّ يَعِي به، وقال مجاهد: عقل[28]، ﴿ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ
وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]؛ أي: استمع الكلامَ فوعاه، وتعقَّله بقلبِه، وتفهَّمه بلبِّه"[29]،
ويقول الإمام الطبري: "يعني: لِمن كان له عقلٌ مِن هذه الأمَّة، فيَنتهي عن الفِعل
الذي كانوا يَفعلونه من كُفرهم بربِّهم؛ خوفًا من أن يحلَّ بهم مثل الذي حلَّ بهم من
العذاب"[30].
المطلب السادس: الفؤاد:
من مرادفات العقل في القرآن الكريم
لَفظ "الفؤاد"، وقد ورد مفردًا في خمسة مواضع، وجمعًا في أحد عشر موضعًا،
ولم يرِد في كلِّ هذه المواضع بمعنى العَقل، بل فقط في بعضها.
يقول ابن فارس: "الفاء والألف
والدال: هذا أصلٌ صحيح يدلُّ على حُمَّى وشِدَّةِ حرارة، من ذلك: فأَدْتُ اللَّحمَ:
شويتُه، وهذا فَئِيدٌ؛ أي: مشويٌّ...، ومما هو مِن قياس الباب عندنا: الفُؤاد، سمِّي
بذلك لحرارته، والفَأد: مصدر فأدته، إذا أصبتَ فؤادَه"[31].
وفي المفردات: "الفؤاد كالقلبِ
لكن يقال له: فؤاد؛ إذا اعتُبر فيه معنى التفؤد؛ أي: التوقُّد..."[32].
وهذا ما أشار إليه الزبيدي بقوله:
"والتفؤد: التحرُّق... سمِّي (الفؤاد)، بالضمِّ، مهموزًا، لتوقُّده"[33]،
لكنَّه أضاف أصلًا ثانيًا بقوله: "وقيل: أصل الفأد: الحركة والتحريك، ومنه اشتقَّ
الفؤاد؛ لأنَّه ينبض ويتحرَّك كثيرًا"(34).
في الفرق بين القلب والفؤاد:
من خلال الاطلاع على أقوال العلماء
في تعريف الفؤاد والقلبِ، يلاحظ أنَّ منهم مَن فرَّق بينهما، ومنهم من لم يفرِّق،
"قال الأَزهريُّ: ورأَيتُ بعضَ العرب يُسَمِّي لحمةَ القَلْبِ كُلها شَحْمَها
وحِجابَها: قَلْبًا وفُؤَادًا، قال: ولم أَرهم يفرِّقون بينهما"[35]، وبعض مَن
فرَّق ذهب إلى أنَّ القلب لا يسمَّى فؤادًا إلَّا إذا اعتُبر فيه معنى التَّفؤد؛ أي:
التوقد.
ولعل من الفروق الدَّقيقة ما يُستفاد
من كلام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في وصفِ أهل اليمَن؛ حيث قال: ((أتاكم أهلُ اليمَن،
هم أرقُّ أفئدةً، وأليَن قلوبًا))[36]، قال الخطَّابي: "قوله: ((هم أرقُّ أفئدة،
وألْيَن قلوبًا))؛ أي: لأنَّ الفؤاد غِشاء القلب، فإذا رَقَّ نفذ القولُ وخلصَ إلى
ما وراءه، وإذا غَلُظَ بَعُد وصوله إلى داخل، وإذا كان القلب لينًا علق كل ما يصادِفه"[37]،
فالفؤاد "غِشاءُ القلبِ، والقلبُ حبَّته وسُوَيْداؤُه"[38]، "وقيل:
الفؤاد باطن القلب"[39].
[1] ابن
فارس: "معجم مقاييس اللغة"، 5/ 160.
[2] ابن
منظور: "لسان العرب"، 1/ 729.
[3] الراغب:
"المفردات"، 446.
[4] وقد
ذهب بعضُ أئمة علوم القرآن إلى أنَّ السبب في ذلك كون الجمع أعذب والمفرد ثقيل، فعَدَل
القرآنُ الكريم عن الثقيل إلى الأعذب، يقول الإمام السيوطي: "ومن ذلك الألباب
لم يَقع إلَّا مجموعًا؛ لأنَّ مفرده ثقيل لفظًا"؛ الإتقان: 1/ 565، ويقول الإمام
الزركشي: "وكذلك لفظ اللبِّ مرادًا به العقلُ، كقوله تعالى: ﴿ وَذِكْرَى لِأُولِي
الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 43]، ﴿ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 21]؛ فإنَّه
يعذب دون الإفراد"؛ البرهان: 2/ 118.
[5] السعدي:
"تيسير الرحمن"، ص 84.
[6] المرجع
السابق، ص 161.
[7] ابن
كثير: "تفسير القرآن العظيم"، 1/ 701.
[8] السعدي:
"تيسير الرحمن"، ص 91.
[9] المرجع
السابق، ص 721.
[10] الراغب:
مرجع سابق، ص 108، 109.
[11] الفراء،
يحيى بن زياد: "معاني القرآن"، ط1، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1423هـ -
2002م)، 3/ 150.
[12] الألوسي:
"روح المعاني"، 22/ 412.
[13] وقد
ورد تفسير الحِجر بالعقل عن جَمعٍ من السلَف؛ منهم الحبر ابن عباس رضي الله عنهما،
ومجاهد وقتادة، وغيرهم.
[14] ابن
كثير: مرجع سابق، 8/ 394.
[15] ابن
فارس: مرجع سابق، 5/ 359.
[16] النووي،
يحيى بن شرف أبو زكريا: "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج"، ط2، (بيروت:
دار إحياء التراث العربي، 1392هـ)، 4/ 155.
[17] الطبري:
"جامع البيان في تأويل آي القرآن"، 18/ 321.
[18] السعدي:
مرجع سابق، ص 507.
[19] الرازي:
"مفاتيح الغيب"، 22/ 114.
[20] الراغب:
مرجع سابق، ص 129.
[21] ابن
كثير: مرجع سابق، 7/ 436.
[22] الزمخشري:
"الكشاف"، 4/ 416.
[23] القرطبي:
"الجامع لأحكام القرآن"، 17/ 73.
[24] ابن
فارس: مرجع سابق، 5/ 17.
[25] ابن
منظور: مرجع سابق، 1/ 685.
[26] المرجع
السابق، 1/ 685.
[27] الفراء:
"معاني القرآن"، 2/ 364.
[28] وتفسير
القلب بالعقل مرويٌّ كذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[29] ابن
كثير: مرجع سابق، 7/ 409.
[30] الطبري:
مرجع سابق، 22/ 372.
[31] ابن
فارس: مرجع سابق، 4/ 469.
[32] الراغب:
مرجع سابق، ص 386.
[33] الزبيدي،
محمد أبو الفيض: "تاج العروس من جواهر القاموس"، (دار الهداية)، 8/ 476.
[34] المرجع
السابق، 8/ 476.
[35] ابن
منظور: مرجع سابق، 1/ 685.
[36] صحيح
البخاري، كتاب المغازي، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن، 5/ 173، رقم الحديث: 4388.
[37] ابن
حجر، فتح الباري، 8/ 435.
[38] أبو
البقاء، الكليات، ص 696.
[39] المرجع
السابق، ص 696.
No comments:
Post a Comment