Grammar American & British

Sunday, August 2, 2020

تبسيط تفسير ابن كثير للقران الكريم( 1 )


تبسيط تفسير ابن كثير للقران الكريم ( 1 ) 

 


الجزء الأول 

The Holy Quran
الفاتحة 
بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ

 * ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ *ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ* مَٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّين ِ *إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *ٱهْدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ*صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ *

تسمى الفاتحة فاتحة الكتاب ، اول سورة فيه وبها تفتح القراءة فى الصلوات ، ويقال أم الكتاب ، وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول اللهﷺ " الحمد لله رب العالمين أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثانى والقرآن العظيم " ، قال البخارى " سميت أم الكتاب لأنه يبدأ بكتابتها فى المصاحف ويبدأ بقراءتها فى الصلاة ، وقيل أنما سميت بذلك لرجوع معانى القرآن كله إلى ما تضمنته ،ويقال أيضا الفاتحة لأنها يفتتح بها القراءة ، وعن أبى هريرة قال عن رسول الله ﷺ قال " هى أم القرآن ، وهى فاتحة الكتاب ، وهى السبع المثانى " ، وعن أبى هريرة عن أبى ابن كعب قال قال رسول اللهﷺ " ما أنزل الله فى التوراة ولا فى الإنجيل مثل أم القرآن وهى السبع المثانى وهى مقسومة بينى وبين عبدى نصفين " .عن أبى هريرة قال سمعت رسول الله ﷺ يقول " قال الله عز وجل قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين ولعبدى ما سأل ، فإذا قال الحمد لله رب العالمين قال الله حمدنى عبدى ، وإذا قال الرحمن الرحيم قال الله أثنى على عبدى ،فإذا قال مالك يوم الدين قال الله مجدنى عبدى ،فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذا بينى وبين عبدى ولعبدى ما سأل ،وإذا قال إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال الله هذا لعبدى ولعبدى ما سأل "، ويستحب لمن يقرأالفانحة أن يقول بعدها آمين ، فعن أبى هريرة أن رسول اللهﷺ قال " إذا أمن الأمام فأمنوا فإنهمن وافق تأمينه تأمين الملائكة فى الزمان وقيل فى الاجابة وقيل فى صفة الاخلاص .

الإستعاذة

هى الإلتجاء إلى الله تعالى والإ لتصاق بجنابه من شر كل ذى شر ، والعياذة تكون لدفع الشر واللياذ يكون لطلب جلب الخير ، ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أى أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضربنى فى دينى أو دنياى أو يصدنى عن فعل ما أمرت به ،أو يحثنى على فعل ما نهيت عنه فإن الشيطان لايكفه عن الإنسان إلا الله ، " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم " سورة السجدة، " وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون " سورة المؤمنون ، والشيطان بلغة العرب مشتق مز شطن إذا بعد فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر ،بفسقه عن كل خير ، وقيل مشتق من شاظ لأنه مخلوق من نار ، ومنهم من يقول كلاهما صحيح فى المعنى ولكن الأول أصح وعليه يدل كلام العرب ، وقال سيبويه العرب تقول تشيطن فلان إذا الشياطن ، ولو كان من شاط لقالوا تشيط فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح ، ولهذا يسمون كل من تمرد من جنى وإنسى وحيوان شيطانا ،قال تعالى " وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا من شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا "

"الرجيم" قيل بمعنى مفعول أى أنه مرجوم مطرود من الخير كله كما قال تعالى " ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين " سورة الملك ، وقال تعالى " ولقد جعلنا فى السماء بروجا وزيناها للناظرين * وحفظناها من كل شيطان رجيم " ، وقيل رجيم بمعنى راجم لأنه يرجم الناس بالوساوس والربائث ، والأول أشهر و أصح .

بسم الله الرحمن الرحيم

اقتتح بها الصحابة كتاب الله واتفق العلماء على أنها بعض آية من سورة النمل ، ثم اختلفوا هل هى آية مستقلة فى أول كل سورة أو من كل سورة أو كذلك فى الفاتحة دون غيرها ، وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما ليست من الفاتحة ولا من غيرها من السور ، من رأى أزها ليست من الفاتحة فلا يجهر بها ، وذهب الشافعى إلى أنه يجهر بها مع الفاتحة والسورة وهو مذهب طوائف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين سلفا وخلفا ، فجهر بها من الصحابة أبو هريرة وإبن عباس ومعاوية ، وعن إبن عباس أز رسول الله ﷺ كان يفتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم ، وذهب آخرون إلى آنه لا يجهر بالبسملة فى الصلاة ، وذا هو الثابت عن الخلفاء الأربعة وعبد الله بن مغفل وطوائف من سلف التابعين والخلف ، وهو مذهب أبى حنيفة والثورى وأحمد بن حنبل ، وعن الإمام مالك أنه لا يقرأ البسملة كلية لا جهرا ولا سرا ، واحتجوا بما فى صحيح مسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت " كان رسول اللهﷺ يفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين ، وبما فى الصحيحين عن أنس بن مالك قال " صليت خلف النبى ﷺوأبى كر وعمر وعثمان فكانوا يقتتحون بالحمد لله رب العالمين ، والأئمة أجمعوا على صحة الصلاة من جهر بالبسملة ومن أسر .

الرحمن الرحيم  

اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة ، ورحمن أشد مبالغة من رحيم ، وقال أبن جرير " الرحمن لجميع الخلق ، الرحيم قال بالمؤمنين " ، ولهذا قال " ثم استوى على العرش " ، وقال " ثم استوى على العرش الرحمن " ، وقال" الرحمن على العرش استوى " سورة طه ، فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعم جميع خلقه برحمته ، وقال " وكان بالمؤمنين رحيما" فخصهم باسمه الرحيم فدل على أن الرحمن أشد مبالغة فى الرحمة لعمومها فى الدارين لجميع خلقه ، والرحيم خاصة بالمؤمنين ، لكن جاء فى الدعاء المأثور "رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما " ، واسمه تعالى الرحمن خاص به لم يسبقه به غيره كما قال تعالى " قل ادعوا الله آو ادعوا الرحمن أيما تدعو فله الأسماء الحسنى " سورة الإسراء ، وقال "اسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون " ، وأما الرحيم فان الله تعالى وصف به غيره حيث قال " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز علبه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم " سورة التوبة ، كما وصف غيره بذلك من أسمائه كما قال تعالى " إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج  نبتليه فجعلناه سميعل بصيرا " ،ومن أسمائه تعالى ما يسمى به غيره ومنها ما لايسمى به غيره كأسم "الله والرحمن والخالق والرازق" ونحو ذلك ، فلهذا بدأ بأسم الله ووصفه بالرحمن لأنه أخص وأعرف من الرحيم ،لأن التسمية أولا إنما تكون بأشرف الأسماء ولهذا تبدأ بالاخص فاللاخص ، قان قيل الرحمن أشد مبالغة فهلا أكتفى به عن الرحيم ، فقد روى عن عطاء الخراسانى ما معناه أنه لما تسمى غيره بالرحمن جىء بلفظ الرحيم ليقطع الوهم بذلك فإنه لا يوصف بالرحمن الرحيم إلا الله تعالى .

الحمد لله رب العالمين  

معنى الحمد لله قال أبو جعفر بن جرير الشكر لله دون سائر ما يعبد من دونه ، وقال ابن جرير الحمد لله ثناء أثنى به الله على نفسه وفى ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه ، واشتهر عند كثير من العلماء من المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية ، والحمد أعم من الشكر ، وقال أبو نصر اسماعيل بن حماد الجوهرى الحمد نقيض الذم وتقول حمدت الرجل أحمده حمدا ومحمدة فهو حميد ومحمود والتحميد أبلغ من الحمد ، والحمد أعم من الشكر ، قال فى الشكر هو الثناء على المحسن بما أولاه من العروف ، يقال شكرته وشكرت له ، وأما المدح فهو أعم من الحمد لأنه يكون للحى وللميت وللجماد أيضا كما يمدح الطعام والمكان ونحو ذلك ، ويكون قبل الإحسان وبعده وعلى الصفات المتعدية والازمة ، قال رسول الله ﷺ " أفضل الذكر لا آله إلا الله ، وأفضل الدعاء الحمد لله " ، والرب هو المالك المتصرف ، ويطلق فى اللغة على السيد وعلى المتصرف للإصلاح ولا يستعمل الرب لغير الله بل بالإضافة ، تقول رب الدار ، رب كذا ، وأما الرب فلا يقال إلا لله عز وجل ، والعالمين جمع عالم وهو كل موجود سوى الله ، و العالم جمع لا واحد له من لفظه ، والعوالم أصناف المخلوقات فى السماوات وفى البر والبحر ، فى رواية سعيد بن جبير وعكرمة عن إبن عباس رب الجن والإنس ، يقول تعالى " ليكون للعالمين نذيرا " ،وهم الجن والإنس ، وقال الفراء وأبو عبيد العالم عبارة عما يعقل وهم الإنس والجن والملائكة والشياطين ، ولا يقال للبهائم عالم ، وقال قتادة رب العالمين كل صنف عالم .

ملك يوم الدين

وقرأ آخرون مالك وكلاهما صحيح ، ورجح الزمخشرى ملك لأنها قراءة أهل الحرمين وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه ، وقال الضحاك عن إبن عباس " مالك يوم الدين لا يملك أحد فى ذلك اليوم حكما كملكهم فى الدنيا ،ويوم الدين يوم الحساب للخلائق وهو يوم القيامة ، يدينهم بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر إلا من عفا عنه " ، والملك هو الله عز وجل قال تعالى " هو الله الذى لا آله إلا هو الملك القدوس السلام " سورة الحشر ، فأما ما نسميه غيره فى الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز كما قال " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا " سورة البقرة ، وقوله " وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا" سورة الكهف ، وقال " اذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا " .والين الجزاء والحساب كما قال تعالى " يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق " ، وقال " أئنا لمدينون " أى مجزيون محاسبون ، وفى الحديث " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت " أى حاسب نفسه لنفسه .

إياك نعبد وإياك نستعين

والعبادة فى اللغة من الذلة ، يقال طريق معبد أى مذلل وقدم المفعول وهو إياك وكرر للإهتمام والحصر أى لا نعبد إلا إياك ولا نتوكل إلا عليك ، وهذا هو كمال الطاعة ، وقال بعض السلف الفاتحة سر القرآن وسرها هذه الكلمة "إياك نعبد وإياك نستعين" ، فالأول تبرؤ من الشرك والثانى تبرؤ من الحول والقوة والتفويض إلى الله عز وجل ، وفى القرآن " فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون " ، وقوله " قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا " ، وعن إبن عباس رضى الله عنهما " إياك نعبد يعنى نوحد ونخاف ونرجو ياربنا لا غيرك ، وإياك نستعين على طاعتك وعلى الأمور كلها" ، وقال قتادة " إياك نعبد وإياك نستعين " يأمركم أن تخلصوا له العبادة وأن تستعينوه على أموركم ، وإنما قدم إياك نعبد على وإياك نستعين لأن العبادة هى المقصودة والإستعانة وسيلة إليها والإهتمام و الحزم تقديم ما هو الأهم فالأهم واللع أعلم " .

إهدنا الصراط المستقيم

والهداية هى الإرشاد والتوفيق واهدنا الصرط المستقيم بمعنى ألهمنا أو وفقنا أو ارزقنا أو اعطنا ، يقول تعالى " وهديناه النجدين" أى بينا له الخير والشر ،وقال " إجتباه وهداه إلى صراط مستقيم " ، وقال " فاهدوهم إلى صراط الجحيم" وذلك بمعنى الإرشاد والدلالة ، وقوله " وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم " ، الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذى لا إعوجاج فيه ، والصراط إختلفت عبارات المفسرين فيه ، فعن على بن أبى طالب قال قال رسول الله ﷺ " ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبى الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الابواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول ياآيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الابواب قال ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه – فالصراط الإسلام والسوران حدود الله والابواب المفتحة محارم الله وذلك الداعى على رأس الصراط كتاب الله والداعى من فوق الصراط واعظ الله فى قلب كل مسلم " ، وعن أبى وائل عن عبد الله قال الصراط المستقيم الذى تركنا عليه رسول الله ﷺواستمر بنا عليه ولا تعدل بنا إلى غيره .

صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين

والذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وفى سورة النساء " ومن يطع الله والرسول فأولئك من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أةولئك رقيقا * ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما " ، وقال تعالى " ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم "، أنعم عليهم من أهل الهداية والأستقامة والطاعة لله ورسله ، وإمتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره ، غير صراط المغضوب عليهم ، وهم الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه ولا صراط الضالين ،وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون فى الضلالة لا يهتدون إلى الحق وأكد الكلام بلا ليدل على أن ثم مسلكين قاصدين ، وهما طريق اليهود والنصارى ، فإن طريقة أهل الايمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به ، واليهود فقدوا العمل والنصارى فقدوا العلم ، ولهذا كان الغضب لليهود والضلال للنصارى لأن من علم وترك إستحق الغضب ، بخلاف من لم يعلم ، والنصارى لما كانوا قاصدين شيئا لكنهم لايهتدون إلى طريقة لأنهم لم يأتوا الامر من بابه وهو إتباع الحق وضلوا ، وكل من اليهودوالنصارى ضال مغضوب عليهلكن أخص أوصاف اليهود الغضب كما قال تعالى " من لعنه الله وغضب عليه " ، وأخص أوصاف النصارى الضلال كما قال الله عنهم " قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل" ، عن عدى بن حاتم قال سألت رسول اللهﷺ عن قوله تعالى "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" قال النصارى هم الضالون ، قال تعالى فى سورة البقرة " بئس ما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين" .

سورة البقرة

فضل سورة البقرة :

قال رسول الله ﷺ" لكل شىء سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة ، وقيها آية هى سيدة آى القرآن آية الكرسى " ، وعن أبى هريرة أن رسول الله ﷺ قال" لاتجعلوا بيوتكم قبورا فإن البيت الذى تقرأ فيه سورة البقرة لايدخله الشيطان" ، وعن أنس بن مالك قال قالرسول الله ﷺ " إن الشيطان يخرج من البيت إذا سمع سورة البقرة تقرأ فيه " ، قال رسول اللهﷺ " تعلموا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيقها البطلة " .

الم ( 1 )اختلف المفسرون فى الحروف المقطعة فى اوائل السور ، فمنهم من قال هى مما استأثر الله بعلمه فردوا علمها إلى الله ولم يفسروها ولم يجمع العلماء فيها على شىء معين وإنما اختلفوا .قال البعض إنما ذكرت هذه الحروف فى اوائل السور التى ذكرت فيها بيانا لإعجاز القرآن وان الخلق عاجزون عن معارضته بمثله هذا مع انه مركب من هذه الحروف التى يتخاطبون بها ، وقد حكى الرازى بهذا المذهب وذهب كذلك ابن تيميه ، قال الزمخشرى لم ترد كلها مجموعة فى اوائل القرآن وإنما كررت ليكون أبلغ فى التحدى والتبكيت ، قال وجاء فيها على حرف واحد كقوله "ص" ، "ق" ، "ن" ،وحرفين مثل "حم" ، وثلاثة مثل "الم" ، واربعة مثل "المر" ، "المص" ، وخمسة مثل " كهيعص" ، " حم عسق" لان اسليب كلامهم على هذا فمن الكلمات ما هو على حروف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى اربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك ، وهذا الواقع فى تسع وعشرين سورة .

ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ( 2 )

ذلك الكتاب أى هذا الكتاب وقال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدى ومقاتل بن حيان وزيد بن اسلم وابن جريح أن ذلك بمعنى "هذا" والعرب تعارض بين اسمى الاشارة فيستعملون كلا منهما مكان الآخر وهذا معروف فى كلامهم كما قال تعالى " لافارض ولا بكر عوان بين ذلك " ، وقال " ذلكم حكم الله يحكم بينكم " ، وقال"ذلكم الله " ، وذهب بعض المفسرين كما اشار القرطبى ان ذلك اشارة للقرآن والريب الشك ، لاريب فيه لاشك فيه ، هدى صفة للقرآن وهذا ابلغ من كون فيه هدى للمتقين يعنى نورا للمتقين الذين يحذرون من الله وعقوبنه فى ترك ، وهم الذين نعتهم الله الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ، قال رسول الله ﷺ " لايبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس " ، ويطلق الهدى ويراد به ما يقر فى القلب من الايمان ، وهذا لايقدر على خلقه فى قلوب العباد إلا الله عز وجل قال الله تعالى " إنك لاتهدى من أحببت " ، وقال الله تعالى " من يهدى الله فهو المهتد ، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا " .

الذين يؤمنون بالغيب

الايمان بالغيب قولا واعتقادا وعملا ، والايمان كلمة جامعة للايمان بالله وكتبه ورسله وتصديق الاقرار بالفعل ، والايمان فى اللغة يطلق على التصديق المحض وقد يستعمل فى القرآن والمراد به ذلك كما قال اخوة يوسف " وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين"  وكذلك استعمل مقرونا بالعمل "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " ،الايمان الشرعى لايكون إلا اعتقادا و قولا وعملا يزيد وينقص ، وقد ورد فيه احاديث كثيرة والخشية خلاصة الايمان كما قال تعالى " إن الذين يخشون ربهم بالغيب" وقوله "من خشى الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب" وقال تعالى " إنما يخشى الله من عباده العلماء" ، واما الغيب فقد اختلفت فيه عبارات السلف وكلها صحيحة ، قال جعفر الرازى عن الربيع بن انس عن ابى عالية فى قوله تعالى "يؤمنون بالغيب" قال يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث فهذا غيب كله ، قال الصحابة لرسول الله ﷺ عندما سأله " يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجرا ؟ آمنا بالله واتبعناك " ، قال "ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحى من السماء بل قوم بعدكم يأتيهم كتاب من بين لوحين يؤمنون بما فيه أولئك أعظم منكم أجرا" ، قال رسول الله ﷺ للصحابة " أى خلق أعجب إليكم إيمانا ؟" قالوا "الملائكة" ، قال " وما لهم لايؤمنون وهم عند ربهم ؟" ، قالوا "فالنبيون" ، قال " وما لهم لايؤمنون وهم عند ربهم ؟" ، قالوا" فالنبيون" ، قال " وما لهم لايؤمنون والوحى ينزل عليهم ؟" ، قالوا" فنحن " ، قال" وما لكم لاتؤمنون وأنا بين أظهركم ؟" ، قال فقال رسول الله ﷺ "ألا إن أعجب الخلق إلى إيمانا لقوم يكونون من بعدكم يجدون صحفا فيها كتاب يؤمنون بما فيها" .

ويقيمون الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)

قال ابن عباس أى يقيمون الصلاة بفروضها ، وقال الضحاك عن ابن عباس إقامة الصلاة اتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والاقبال عليها ، عن ابن عباس قال" ومما رزقناهم ينفقون" قال زكاة اموالهم ، وكثيرا ما يقرن الله الصلاة والانفاق من الاموال ، فان الصلاة حق الله وعبادته وهى مشتملة على توحيده والثناء عليه وتمجيده والابتهال اليه ودعائه والتوكل عليه ، والانفاق هو الاحسان الى المخلوقين بالنفع المتعدى اليهم ، واولى الناس بذلك القربات والاهلون والمماليك ثم الاجانب ، فكل النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل فى قوله تعالى " ومما رزقناهم ينفقون" .

وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4)

اى يصدقون بما جئت به من عند الله وما جاء به من قبلك من المرسلين لا يفرقون بينهم ولا يجحدون بما جاؤهم به من ربهم ، " وبالآخرة هم يوقنون" اى بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان ، وإنما سميت الآخرة لأنها بعد الدنيا .

أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

اولئك أى المتصفون بما تقدم من الايمان بالغيب واقام الصلاة مالانفاق من الذين رزقهم الله والايمان بما انزل الله الى الرسول ومن قبله من الرسل والايقان بالدار الآخرة والاستعداد لها من الاعمال الصالحة وترك المحرفات ،"على هدى" اى على نور وبيان وبصيرة من الله تعالى واولئك هم المفلحون فى الدنيا والآخرة.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عليهم أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)

"إن الذين كفروا" اى غطوا الحق وستروه وكفروا بما انزل اليك ، وقال على بن طلحة عن ابن عباس فى قوله تعالى " إن الذين كفروا سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم لايؤمنون " قال " كان رسول اللهﷺ يحرص ان يؤمن جميع الناس ويتبعوه على الهدى فاخبره الله انه لايؤمن الا من سبق له من الله السعادة فى الذكر الاول ولا يضل الا من سبق له من الله الشقاوة فى الذكر الاول .

خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)

ختم الله أى طبع الله ، وقال قتادة استحوذ عليم الشيطان إذ اطاعوه فختم الله على قلوبهم وعلى اسماعهم وعلى ابصارهم غشاوة فهم لايبصرون هدى ولايسمعون ولايفقهون ولايعقلون ، قال مجاهد طختم الله على قلوبهم" قال الطبع ، ثبتت الذنوب على القلب فحفت به من كل نواحيه حتى تلتقى عليه فالتقاؤها عليه الطبع والطبع الختم ،انه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاءا وفاقا على تماديهم فى الباطل وتركهم الحق ومجازاة لكفرهم كما قال "بل طبع عليم بكفرهم" ، عن ابى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله ﷺ " إن المؤمن إذا اذنب ذنبا كانت نكتة سوداء فى قلبه ، فان تاب ونزع واستعتب صقل قلبه ، وان زاد زادت حتى تعلو قلبه ، فذلك الران الذى قال الله تعالى فيه "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون" ، والطبع يكون القلب وعلى السمع والغشاوة وهى الغطاء يكون على البصر قال تعالى " وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة" .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)

"وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ "أى يقولون ذلك اذا جاؤك فقط ، وليس الامر كذلك وقد كذبهم الله فى شهادتهم وفى خبرهم هذا بالنسبة الى اعتقاده بقوله تعالى " والله يشهد أن المنافقين لكاذبون " وبقوله " وما هم بمؤمنين" وبقوله تعالى" يخادعون الله والذين آمنوا " اى باظهارهم ما اظهروه مالايمان مع اسرارهم الكفر يعتقدون بجهلهم انهم يخدعون الله بذلك وان ذاك نافعهم عنده وانه يروج عليه كما يروج على بعض المؤمنين "وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون" وما يغرون بصنيعهم هذا ولا يخدعون الا انفسهم وما يشعرون بذلك من انفسهم كما قال تعالى " إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ". "خَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ "كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعا وهو لايظهر بلسانه خلاف مما هو له معتقد إلا تقية ؟ ، قيل لاتمتنع العرب ان تسمى من اعطى بلسانه غير الذى فى ضميره تقية بما يخلص به من القتل والسبى والعذاب العاجل وهو لغير ما اظهره مستبطن وذلك من فعله وان كان خداعا للمؤمنين فى عاجل الدنيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع لانه يظهر لها بفعله ذلك بها انه يعطيها امنيتها ويسقيها كأس سرورها كما قال تعالى " وما يخدعون إلا أنفسهم  وما يشعرون" اعلاما منه عباده المؤمنين ان المنافقين باساءتهم الى انفسهم فى اسخاطهم عليهم ربهم بكفرهم وشركهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين ، ولكنهم على عمى من امرهم فقيهين .

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)

فى قلوبهم مرض اى شك ، فزادهم الله مرضا قال شكا ، وعن عكرمة وطاووس فى قلوبهم مرض يعنى الرياء ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن اسلم فى قلوبهم مرض قال هذا مرض فى الدين وليس مرضا فى الاجساد وهم المنافقون ، والمرض الشك الذى دخلهم فى الاسلام ، فزادهم الله مرضا قال زادهم رجسا ، وقرأط وأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأم الذين فى قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم " قال شرا إلى شرهم وضلالة الى ضلالتهم ، " والذين اهتدوا زادهم هدى وآتهم تقواهم " .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)

"وإذا قيل لهم لاتفسدوا فى الارض قالوا إنما نحن مصلحون " قال ابن مسعود واناس من الصحابة هم المنافقون والفساد هو الكفر والعمل بالمعصية ، وقال ابو العالية فى قوله تعالى طلاتفسدوا فى الارض" يعنى لا تعصوا فى الارض وفسادهم معصية الله لانه من عصى الله او امر بمعصيتة فقد افسد فى الارض  لان صلاح الارض والسماء بالطاعة " وإذا قيل لهم لا تفسدوا فى الارض " اذا ركبوا معصية الله فقيل لهم لاتفعلوا كذك وكذا قالوا انما نحن على الهدى مصلحون ، وقال جرير اهل النفاق مفسدون فى الارض بمعصيتهم فيها ربهم وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه وتضييعهم فرائضه وشكهم فى دينه الذى لايقبل من احد عمل الا بالتصديق به والايقان بحقيقته وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه سقيمون من الشك والريب ومظاهرتهم اهل التكذيب بالله وكتبه ورسله وعلى اوليلء الله اذا وجدوا الى ذلك سبيلا ، فذلك افساد الارض اتخاذ الكافرين اولياء من دون المؤمنين "ألا أنهم هم المفسدون ولكن لايشعرون " الا ان هذا الذى يعتمدونه ويزعمون انه اصلاح هو عين الفساد ولكن من جهلهم لايشعرون بكونه فسادا .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)

واذا قيل للمنافقين امنوا كما امن الناس اى كايمان الناس بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنة والنار وغير ذلك مما اخبر المؤمنينبه وعنه واطيعوا الله ورسوله فى امتثال الاوامر وترك الزواجر قالوا " انؤمن كما امن السفهاء " يعنون اصحاب رسول الله ﷺ اى انصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة وعلى طريقة واحدة وهم سقهلء ؟ والسفهاء جمع سقيه والسفيه هو الجاهل الضعيف الراى القليل المعرفة بمواضع المصالح والمضار ولهذا سمى الله النساء والصبيان سقها فى قوله " ولا تؤتوا السفهاء اموالكم التى جعل الله لكم قياما " ، وقد تولى الله جوابهم فى هذه المواطن كلها فقال "ألا إنهم هم السفهاء " فاكد وحصر السفاهة فيهم " ولكن لا يعلمون" يعنى ومن تمام جهلهم انهم لايعلمون بحالهم فى الضلالة والجهل وذلك اردى لهم وابلغ فى العمى والبعد عن الهدى. 

وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)

اذا لقى هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا امنا واظهروا لهم الايمان والموالاة والمصافاة غرورا منهم للمؤمنين ونفاقا ومصانعة وتقية وليشركوهم فيما اصابوا من خير ومغنم ، " وإذا خلوا الى شياطينهم " وشياطينهم سادتهم وكبراؤهم ورؤساؤهم فى الكفر ، وشياطينهم اصحابهم من المنافقين والمشركين ، ويكون الشيطان من الانس والجن قال تعالى " وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا من شياطين الانس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا " ، وعن ابى ذر قال قال رسول الله ﷺ :ط نعوذ بالله من شياطين الانس والجن " فقلت :" يارسول الله او للانس شياطين ؟ " قال :" نعم " قالوا انا معكم اى انا على مثل ما انتم عليه "إنما نحن مستهزؤن ´اى ساخرون باصحاب محمد ﷺ ، وجوابهم سبحانه وتعالى " الله يستهزىء بهم ويمدهم فى طغيانهم يعمهون " اخبر الله انه فاعل بهم ذلك يوم القيامة كما فى قوله "يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا أنظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب من باطنه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " ، اللهيستهزىء بهم على سبيل الجواب كقول الرجل لمن يخدعه اذا ظفر به انا الذى خدعتك ولم يكن منه خديعة ، وكذلك قوله تعالى " ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين " وذلك على الجواب والله لايكون منه المكر ولا الهزؤ ، والمعنى ان المكر والهزء حاق بهم كقوله " يخادعون الله وهو خادعهم " ، " نسوا الله فنسيهم " ، والمكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منف عن الله عز وجل بالاجماع واما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك ، وعن ابن عباس "الله يستهزىء بهم " قال يسخر بهم للنقمة منهم ،  "ويمدهم فى طغيانهم يعمهون " نزيدهم على وجه الاملاء والترك لهم غى عتوهم وتمردهم كما فى قوله " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم فى طغيانهم يعمهون " والطغيان هو المجاوزة فى الشىء ، كما فى قوله " أنا لما طغى الماء حملناكم فى الجارية " قال ابن جرير العمه الضلال ، يقال عمه فلان يعمه عمها وعموها اذا ضل وقوله فى طغيانهم يعمهون فى ضلالتهم وكفرهم الذى غمرهم دنسه وعلاهم رجسه ، وقال بعضهم العمى فى العين والعمه فى القلب وقد يستعمل العمى فى القلب ايضا كقوله " فإنا لاتعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور " .

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)

"أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ"اخذوا الضلالة وتركوا الهدى او الكفر بالايمان ، استحبوا الضلالة على الهدى كقوله فى ثمود " فاما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " اشتروا الضلالة بالهدى اى بذلوا الهدى ثمنا للضلالة او عدلوا عن الهدى الى الضلالة "فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين اى ما ربحت صفقتهم فى هذه البيعة وما كانوا مهتدين اى راشدين فى صتيعهم .

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ(18)

يقال مثل ومثل ومثيل والجمع امثال ، يقول تعالى " وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون " الله سبحانه شبههم فى اشترائهم الضلالة بالهدى وصيروررتهم بعد البصيرة الى العمى بمن استحق نارا فلما اضاءت ما حوله وانتفع بها وابصر تماما عن يمينه وشماله ونانس بها فبينا هو كذلك اذ اطفئت ناره وصار فى ظلام شديد لا يبصر ولا يهتدى وهو مع هذا اصم لايسمع ابكم لاينطق اعمى لو كان ضياء لما ابصر ، فلهذا لايرجع الى ما كان عليه قبل ذلك فكذلك المنافقون فى استبدالهم الضلالة عوضا عن الهدى واستحبابهم الغى على الرشد ، وفى هذا المثل دلالة على انهم امنوا ثم كفروا ، بايمانهم اكتسبوا اولا نورا ثم بنفاقهم ثانيا ابطلوا ذلك فوقعوا فى حيرة عظيمة فانه لا حيرة اعظم من حيرة الدين ، ذهب الله بنورهم اى ذهب عنهم بما ينفعهم وهو النور وابقى لهم ما يضرهم وهو الاحراق والدخان وتركهم فى ظلمات وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق لايبصرون اى لايهتدون الى سبيل خير ولايعرفونها وهم مع ذلك لايسمعون خيرا بكم لايتكلمون بما ينفعهم عمى فى ضلالة وعماية البصيرة فلهذا لايرجعون الى ما كانوا عليه من لهداية التى باعوها بالضلالة فقد قال تعالى " فإنها لاتعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور " .

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ  (20)

هذا مثل اخر من المنافقين وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ويشكون تارة أخرى فقلوبهم فى حال شكهم وكفرهم وترددهم كصيب والصيب المطر نزل من السماء فى حال الظلمات وهى الشكوك والكفر والنفاق ورعد وهو ما يزعج القلوب من الخوف فان من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع كما قال تعالى " يحسبون كل صيحة عليهم " وقال" ويحلفون بالله انهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون * لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا اليه وهم يجمحون " والبرق هو ما يلمع فى قلوب هؤلاء من المنافقين فى بعض الاحيان من نور الايمان ولهذا قال " يجعلون أصابعهم فى أذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين " أى لايجدى عنهم حذرهم شيئا لان الله محيط بهم بقدرته وهم تحت مشيئته وارادته كما قال " والله من ورائهم محيط "قال أبن عباس " يكاد البرق يخطف أبصارهم " أى لشدة ضوء الحق "كلما أضاء لهم مشوا فيه واذا أظلم عليهم قاموا "أى كلما ظهر لهم من الايمان شىء استأنسوا به واتبغوه وتارة تعرض لهم الشكوك أظلمت قلوبهم فوقفوا حائرين وقال على بن أبى طلحة عن أبن عباس "كلما أضاء لهم مشوا فيه " كلما أصاب المنافقين من عز الاسلام اطوأنوا اليه واذا أصاب الاسلام نكبة قاموا ليرجعوا الى الكفر كقوله " ومن الناس من يعبد الله على حرف فان أصابه خير اطوأن به " وعن أبن عباس فى قوله تعالى " كلما أضاء لهم مشوا فيه واذا أظلم عليهم قاموا " أى يعرفون الحق ويتكلمون به فهم من قولهم به على استقامة فاذا ارتكسوا منه الى الكفر قاموا أى متحيرين وهكذا يكون الناس يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب ايمانهم فمنهم من يعكى من النور ما يضىء له مسيرة فراسخ أو أكثر من ذلك وأقل من ذلك ، ومنهم من يطفأ نوره تارة ويضىء أخرى ، ومنهم من يمشى على الصراط تارة ويقف أخرى ، ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم الخلص من المنافقين قال تعالى " يوم لا يخزى الله النبى والذين امنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم ويأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا انك على كل شىء قدير " وقال " يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم ويايمانهم بشراكم اليوم جنات تجرى من تحتها الانهار " ، قال سعيد بن أبى عروبة عن قتادة ذكر نبى الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :" من المؤمنين من يضىء نوره من المدينة الى عدن ابين بصنعاء ودون ذلك حتى ان من المؤمنين من لايضىء نوره موضع قدميه ، الناس اذا تقرر هذا صاروا أقساما ، مؤمنون خلص وهم الموصوفون بالآيات الاربع فى أول سورة البقرة ، وكفار هلص وهم الموصوفون بالآيتين بعدها ، ومنافقون وهم قسمان خلص وهم المضروب لهم المثل النارى ، ومنافقون يترددون تارة يظهر لهم لمع الايمان وتارة يخبو وهم أصحاب المثل المائى " كصيب من السماء " وهم أخف حالا من الذين قبلهم ، فنخلص من مجموع هذه الآيات أن المؤمنين صنفان مقربون وأبرار ، وأن الكافرين صنفان – دعاة ومقلدون ، وأن المنافقين أيضا صنفان – منافق خالص ومنافق فيه شعبة من نفاق ، كما جاء فى الحديث عن عبد الله ين عمرو عن النبى صلى الله عليه وسلم : " ثلاث من كن فيه كان منافقا خالصا فمن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : من اذا حدث كذب ، واذا وعد أحلف ، واذا أئتمن خان " استدلوا به أن الانسان قد تكون قيخ شعبة من ايمان وشعبة من كفر .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"يأمر الله الناس بعبادته وشرع الله فى بيان وحدانية ألوهيته بأنه تعالى هو المنعم على عبيده باخراجهم من العدم الى الوجود النعم الظاهرة " الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" واسباغه عليهم والباطنة بأن جعل لهم الارض فراشا أى مهدا كالفراش مقررة موطأة مثبتة بالرواسى الشامخات والسماء بناء وهو السقف كما قال " وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن اياتها معرضون " وأنزل من السماء ماء وهو المطر فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار رزقا لهم ولانعامهم كقوله " الذى جعل لكم الارض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين " ، " فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون " عن أبن عباس قال هذا للفريقين جميعا من الكفار واالمنافقين أى وحدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم ، لاتشركوا بالله غيره من الانداد التى لا تنفع ولا تضر وأنت تعلمون أنه ربكم ولا رب لكم يرزققم غيره وقد علمتم أن الذى يدعوكم اليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد هو الحق لا شك فيه والانداد هو الشرك فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون أنه اله واحد فى التوراة والانجيل ، و عن أبن مسعود قال قلت يارسول الله أى الذنب أعظم عند الله؟قال : " أن تجعل للله ندا وهو خلقك " ، وعن أبن عباس قال قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وما شئت فقال أجعلتنى لله ندا ؟ ما شاء الله وحده " ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وأنا امركم بخمس الله أمرنى بهن : الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد فى سبيل الله ، فانه من خرج من الجمتعة قيد شبر فقد خلع ربقة لاسلام من عنقه الا أن يراجع ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثى جهنم " قالوا يارسول الله وان صام وصلى فقال وان صلى وصام وزعم أنه مسلم فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم الله عز وجل المسلمين المؤمنين عباد الله " هذا حديث حسن .

وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)

"وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ "يقول الله تعالى للكافرين والمكذبين للرسول محمد صلى الله عليه وسلم فأتوا بسورة من مثل ما جاء به ان زعمتم أنه من عند غير الله فعارضوه بمثل ما جاء به واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله ان صدقتم فى ادعاءتكم فانكم لا تستطيعون ذلك قال أبن عباس شهداءكم أعوانكم وقد تحداهم الله فى غير موضع ففى سورة القصص " قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه ان كنتم صادقين " ، وفى سورة يونس " أم يقولون افتراه قا فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين " ولهذا قال تعالى " فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ " لن لنفى التأييد فى المستقبل أى لن تفعلوا ذلك أبدا ، وهذه أيضا معجزة أخرى وهو أنه أخبر خبرا جازما قاطعا مقدما غير خائف ولا مشفق أن هذا القران لايعلرض بمثله أبد الابدين ومن تدبر القران وجد فيه من وجوه الاعجاز فنونا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى ، وعن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من نبى من الانبياء الا قد أعطى من الايات ما امن على مثله البشر وانما الذى اوتيه وحيا أوحاه الله الى فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " لفظ مسلم وقوله " فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ " الوقود هو ما يلقى فى النار لاضرامها كالحطب ونحوه كقوله " وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا " والمراد بالحجارة هنا حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة وهى أشد الاخجار حرا اذا حميت وقيل المراد به حجارة الاصنام والانداد التى كانت تعبد من دون الله تعالى كما قال تعالى " انكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " وقال تعالى " كلما خبت زدناهم سعيرا"، " أعدت للكافرين " أى رصدتللكافرين بالله ورسوله .

 وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)

" وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ"لما ذكر الله ما أعده لاعدائه من الاشقياء الكافرين به ويرسله من العذاب عطف بذكر حال اوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله الذين صدقوا ايمانهم باعمالهم الصالحة وهذا معنى تسمية القران مثانى على أصح أقوال العلماء وهو أن يذكر الايمان ويتبع بذكر الكفر وعكسه أو حال السعداء ثم الاشقياء أو عكسه ، وحاصله ذكر الشىء ومقابله وأما ذكر الشىء ونظيره فذاك التشابه ، ويبشر الله الذين امنوا وعملوا الصالحات بجنات بأنهار الجنة التى تجرى من تحت أشجارها وغرفها ، وعن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنهار الجنة تفجر من تحت تلال أو من تحت جبال المسك " وقال : " أنهار الجنة تفجر من جبل مسك " ، وقوله " كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ " قال انهم أتوا بالثمرة فى الجنة فلما نظروا اليها قالوا هذا الذى رزقنا من قبل فى الدنيا ، وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا " يشبه بعضه بعضا ويختلف فى الطعم ، وقال عكرمة يشبه ثمر الدنيا غير أن ثمر الجنة أطيب " وقال أبن عباس لايشبه شىء مما فى الجنة ما فى الدنيا الا فى الاسماء ، وقال عبد الرحمن بن زيد بز أسلم يعرفون اسماءه كما كانوا فى الدنيا التفاخ بالتفاح والرمان بالرمان قالوا فى الجنة هذا الذى رزقناه من قبل فى الدنيا وأتوا به متشابها يعرفونه وليس هو مثله فى الطعم ، " وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ " قال أبن عباس مطهرة من القذر والاذى ، وقال مجاهد من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمنى والولد ، وعن عبد الرحمن بن زيد بز أسلم قال المطهرة التى لاتحيض قال وكذلك خلقت حواء فلما عصت قال الله تعالى أنى هلقتك مطهرة وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة وهذا غريب وقوله " وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " هذا تمام السعادة هم فى نعيم سرمدى . (25)

إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)

" إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا " قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة لما ذكر الله تعالى العنكبوت والذباب قال الشركون ما بال العنكبوت والذباب يذكران ؟ فانزل اله الاية والمعنى لايستحى أى لايستنكف وقيل لايخشى أن يضرب مثلا ما كان صغيرا أو كبيرا ، " فما فوقها " فيه قولان أحدهما فما دونها فى الصغر والحقارة ، وفى الحديث " لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما سقى كافرا منها شربة ماء " ، والرأى الثانى فما فوقها لما هو أكبلا منها لانه ليس شىء أحقر ولا أصغر من البعوضة والله لا يستنكف من ضرب المثل بها كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت فى قوله " يا أيها الناس ضرب مثل فلستمعوا له ان الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وان يسلبهم الذباب شيئا لايستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب " وقال " مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وان أوهم البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون " ، هذه الايات التى وردت فى القران تعتبر فى العصر الحديث ومع التقدم العلمى من ايات الاعجاز العلمى فى القران وهذا ليس مجاله هنا ، " فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا " الذين امنوا يعلمون أنه كلام الرحمن وأنه من عند الله وأما الذين كفروا فيقولون من جهلهم وعدم معرفتهم ولتكذيبهم ماذا يريد الله بهذا الكلام ، كما فى قوله " وليقول الذين فى قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدى من يشاء وما يعلم جنود ربك الا هو " ،" يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ " يضل به كثيرا يعنى الذين كفروا ويهدى به كثيرا يعنى به المؤمنين فيزيد هؤلاء ضلالة الى ضلالتهم لتكذيبهم بما قد علموه حقا يقينا ويهدى به يعنى المثل كثيرا من أهل الايمان والتصديق فيزيدهم هدى الى هداهم وايمانا الى ايمانهم لتصديقهم بما قد علموه حقا يقينا والفاسق فى اللغة هو الخارج عن الطاعة وتقول العربفسقت الرطبة اذا خرجت من قشرتها ، ولهذا يقال للفأرة فويسقة لخروجها عن جحرها للفساد ، وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خمس فواسق يقتلن فى الحل والحرم : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور " ، فالفاسق يشمل الكافر والعاصى ولكن فسق الكافر أشد وأفخش والمراد من الاية الكافر الفاسق ووصفهم بقوله " الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ " وهذه الصفات صفات الكفار ، واختلف أهل التفسير فى معنى العهد فقال بعضهم هو وسية الله الى خلقه وأمره اياهم بما أمرهم به من طاعة ونهيه اياهم عما نهاهم عنه من معصيته فى كتبه وعلى لسان رسله ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به ، وقال اخرون العهد الذكر ذكره الله تعالى هو العهد الذى أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب ادم كما فى قوله "واذ أخذ ربك من بنى ادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا " ، وقوله " وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ " المراد به كل ما أمر الله بوصله وفعله فقطعوه وتركوه ، " وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ " من صفاتهم الافساد فى الارض فكان جزاءهم الخسران فى الاخرة ، وقال أبن جرير الخاسرون جمع خاسر وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته كما يخسر الرجل فى تجارته وكذلك الكافر خسر بخرمان الله اياه رحمته التى خلقها لعباده فى القيامة أحوج ما كانوا الى رحمته .

(28)  كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

" كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره وقد كنتم عدما فأخرجكم الى الوجود كما قال " أم خلقوا من غير شىء أم هم الخالقون * أم خلقوا السموات والارض بل لايوقنون " ، وعن أبن عباس قال فى قوله " كنتم أمواتا فأحياكم " أمواتل فى أصلاب ابائكم لم تكونوا شيئا حتى خلقكم ، " ثم يميتكم " موتة الحق فى الدنيا ، " ثم يحييكم ثم اليه ترجعون " ثم يحييكم خين يبعثكم وتردون اليه يوم القيامة ، وقال أبن عباس فى قوله تعالى " ربنا أمتنا اثنتين واخييتنا اثنتين " قال كنتم ترابا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة ثم يميتكم فترجعون الى القبور فهذه ميتة أخرى ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى – فهذه ميتتان وحياتان ، وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال خلقهم فى ظهر ادم ثم أخذ عليهم الميثاق ثم أماتهم ثم خلقهم فى الارحام ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة .

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ  شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)

" هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ  شَيْءٍ عَلِيمٌ " لما ذكر الله تعالى دلالة من خلقهم وما يشاهدونه من أنفسهم ذكر دليلا اخر مما يشاهدونه من خلق السموات وللارض فقال هو الذى خلق لكم ما فى الارض جميعا وهو الذى خلق السماوات السبع وهو العليم بكل شىء ولا أحد يحيط بعلمه ، وعن أبن مسعود ونا من الصخابة قال " ان الله كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا غير ما خلق من قبل فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسما عليه فسماه سماء ثم أيبشس الماء فجعله أرضا واحدة ثم فتقها فجعلها سبع أرضين فى يومين كما قال " قل ائنكم لتكفرون بالذى خلق الارض فى يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسى من فوقها وبارك فيها " وكما قال " ثم استوى الى السماء وهى دخان " وقوله " وأوحى فى كل سماء أمرها " قلب خلق الله فى كل سماء خلقها من الملائكة والخلق .

 وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً الدِّمَاءَ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)

" وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً "يخبر الله تعالى بأمتنانه على بنى ادم فقال واذكر يا محمد واقصص على قومك اذ قال ربك للملائكة انى جاعل فى الارض قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل كما قال " هو الذى جعلكم خلائف الارض " ، " قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ " هذا القول من الملائكة فأنهم أرادوا ان من هذا الجنس من يفعل ذلك أى القتل وسفك الدماء وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص أو بما فهموه من الطبيعة البشرية فانه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمأ مسنون أو فهموا من الخليقة أنه الذى يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم ويردعهم عن المحارم والماثم وهذا ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبنى ادم لان الله وصف الملائكة أنهم لايسبقونه بالقول أى لايسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه والسؤال انما هو استعلام واستكشاف عن الحكمة فى ذلك يقولون ربنا ما الخكمة فى خلق هؤلاء مع ان منهم من يفسدون فى الارض ويسفكون الدماء فان كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك أى نصلى لك فقال تعالى " قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ " أى أعلم من المصلخة الراجحة فى خلق هذا الضعف على المفاسد التى ذكرتموها ما لاتعلمون أنتم فانى سأجعل منهم الانبياء وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والاولياء والابرار والمقربون والعلماء العاملون والخاشعون والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله ، وقد ثبت فى الصحيح أن الملائكة اذا صعدت الى الرب تعلى بأعمال عباده يسألهم وهو أعلم كيف تركتم عبادى ؟ فيقولون أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون وذلك لانهم يتعاقبون فينا ويجتمعون فى صلاة الصبح وفى صلاة العصر فيمكث هؤلاء ويصعد هؤلاء بالاعمال كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " يرفع اليع عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل " ومعنى قوله لهم "انى أعلم ما لا تعلمون " انى لى حكمة مفصلة فى خلق هؤلاء والحالة كما ذكرتم لا تعلمونها .

 وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا " الاسماء التى يتعارفون بها أسماء كل شىء أسماء الاشياء كلها ذراتها وصفاتها وأفعالها ، "ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَعرض المسميات على الملائكة وقال لهم ان كنتم تعلمون أن بنى ادم يفسدون فى الارض ويسفكون الدماء أنبئونى بأسماء من عرضته عليكم أيها الملائكة القائلون أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ - فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، ان كنتم صادقين فى قيلكم ان جعلت خليفتى فى الارض من غيركم عصانى وذريته وأفسدوا وسفكوا الدماء ، فاذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضت عليكم وأنت تشاهدونهم فأنتم بما هو غير موجود من الامور الكائنة التى لم توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين ، " "هذا تقديس وتنزيه من الملائكة لله تعالى أن يحيط أحد بشىء من علمه الا بما شاء وأن يعلمواشيئا الا ما علمهم الله تعالى ولهذا قالوا" قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ " رد الملائكة كان هو تسبيح الله وتنزيهه عن كل ما هو سوء فهو العليم بكل شىء الحكيم فى خلقه وأمره وفى تعليمه  ما يشاء ومنعه ما يشاء له الحكمة فى ذلك والعدل التام ، قال الله تعالى للملائكة " قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ " قال الله للملائكة أعلم السر كما أعلم العلانية يعنى ما كتم ابليس فى نفسه من الكبر والاغترار ، لما رأى الملائكة ما أعطى الله ادم من العلم أقروا له بالفضل .

 وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)

" وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ "هذه كرامة عظيمة من الله تعالى لادم أمتن بها على ذريته ، قال الله للملائكة الذين كانوا مع ابليس خاصة دون تالملائكة الذين فى السموات اسجدوا لادم فسجدوا كلهم أجمعون الا ابليس أبى واستكبر لما كان حدث نفسه من الكبروالاعتزار فقال لا أسجد له وأنا خير منه وأكبر سنا وأقوى خلقا خلقتنى من نار وخلقته من طين بقول أن النار أقوى من الطين ، فلما أبى ابليس أن يسجد أبلسه الله أى ايسه من الخير كله وجعله شيطانا رجيما عقوبة لمعصيته ثم علم ادم الاسماء كلها وهى الاسماء التى يتعارف بها الناس ، لما أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لادم دخل ابليس فى خطابهم لانه وان لم يكن من عنصرهم الا أنه كان قد تشبه بهم وتوسم بأفعالهم ، فلهذا دخل فى الخطاب لهم وذم فى مخالفة الامر ، وقال أبو جعفرعن الربيع عن أبى العالية" وكان من الكافرين "يعنى من العاصين ، وكما فى قوله فى سورة يوسف " ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا ابت هذا تأويل رؤياى من قبل قد جعلها ربى حقا " " ، وقد كان هذا مشروعا فى ألامم الماضية ولكنه نسخ فى ملتنا ، قال معاذ : " قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لاساقفتهم وعلمائهم فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك " فقال : " لا لو كنت امرا بشرا أن يسجد لبشر لامرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها " ورجحه الرازى ، والسجدة لادم اكراما واعظاما واحتراما وسلاما لله عز وجل لانها امتثال لامره تعالى " فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ " حسد عدو الله ابليس ادم عليه السلام على ما أعطاه من الكرامة وقال أنا نارى وهذا طينى ، وكان بدء الذنوب الكبرأستكبر عدو الله أن يسجد لادم ، وقد ثبت فى الصحيح " لايدخل الجنة من كان فى قلبه حبة من خردل من كبر " ، وقد كان فى قلب ابليس من الكبر والكفر والعناد ما اقتضى طرده وابعاده عن جناب الرحمة وحضرة القدس ، "وكان من الكافرين "أىوصار من الكافرين بسبب امتناعه كما قال " فكان من المغرقين لفرعون وكما قال " فتكونا من الظالمين " .

 وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)

" وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ "أباح الله لادم الجنة يسكن منها حيث يشاء ويأكل منها ما شاء رغدا أى هنيئا واسعا طيبا ، وقد اختلف فى الجنة التى أسكنها ادم أهى فى السماء أو فى الارض ، فالاكثرون على الاولى أى السماء ، وقد اختاف فى خلق حواء لادم هل قبل دخول الجنة أو بعد ان دخلها ، ويقال أن خلق حواء كان بعد دخول الجنة أخرج ابليس من الجنة وأسكن ادم الجنة فكان يمشى فيها وحيشا ليس له زوج يسكن اليه فنام نومة فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه فسألها ما أنت ؟ قالت امرأة ، قال لم خلقت ؟ قالت لتسكن الى ، قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ من علمه ما اسمها يا ادم ؟ قال حواء ؟ قال انها خلقت من شىء حى ، وأما قوله " وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ "فهو اخبار من الله تعالى وامتحان لادم وقد اختلف فى هذه الشجرة ما هى ، وقال أبو جعفر الرازى عن الربيع بن أنس عن أبى العالية كانت الشجرة من أكل منها أحدث ولا ينبغى أن يكون فى الجنة حدث ، قال الامام العلامة أبو جعفر عن جرير رحمه الله " والصواب فى ذلك أن يقال أن الله عز وجل ثناؤه نهى ادم وزوجته عن أكل شجرة بهينها من أشجار الجنة دون سائر أشجار الجنة فأكلا منها ولا علم عندنا بأى شجرة كانت على التعيين لان الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك فى القران ولا فى السنة الصحيحة ، " فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ "أوقعهما الشيطان للوقوع فى الخطأ فتسبب فى خروجهما من النعيم الذى كانا فيه من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنىء والراحة ، " وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ" كان عقاب الله ترك الجنة والهبوط الى الارض حيث يكون لهم فيها قرار وأرزاق واجال الى حين أى الى وقت مؤقت ومدار معين ثم تقوم القيامة ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق ادم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها " رواه مسلم والنسائى .

 فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)

"فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ " هذه الكلمات مفسرة بقوله تعالى " قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " هذه هى الكلمات التى تاب الله بها على ادم وحواء ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال ادم عليه السلام أرأيت يارب ان تبت ورجعت أعائدى الى الجنة ؟ " قال نعم فذلك قوله " فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ " وهذا حديث غريب وفيه انتقطاع ، ومن الكلمات أيضا "ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " ، وقوله تعالى " إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ " أى أنه يتوب على من تاب اليه وأناب كقوله " ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده " وقوله " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ----" وقوله " ومن تاب وعمل صالحا ----" الى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى يغفر الذنوب ويتوب على من يتوب وهذا من لطفه بخلقه ورحمته بعيدة لا اله هو التواب الرحيم .

 قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)

" قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا " يقول تعالى مخبرا عما أنذر به ادم وزوجته وابليس حين أهبطهم من الجنة والمرلد الذرية أنه سينزل الكتب ويبعث الانبياء والرسل والبينات والبيان ، " فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " من أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل لاخوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر الآحرة ولا يصيبهم الحزن على ما فاتهم من أمور الدنيا كما قال فى سورة طه " قال أهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فاما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى " قال أبن عباس فلا يضل فى الدنيا ولا يشقى فى الاخرة كما قال هنا " وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " أى مخلدون فيها لا محيد لهم عنها ولا محيص قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون ولكن أقوام أصابتهم النار بخطاياهم فأماتتهم اماتة حتى اذا صاروا فحما اذن فى الشفاعة " وقد رواه مسلم من حديث شعبة عن أبى سلمة .

 يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)

" يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ" يقول تعالى امرا بنى اسرائيل بالدخول فى الاسلام ومتابعة محمد صلى الله عليه وسلم ومهيجا لهم بذكر أبيهم اسرائيل وهو نبى الله يعقوب عليه السلام ، وتقديره يا بنى العبد الصالح المطيع لله كونوا مثل أبيكم فى متابعة الحق كما تقول يا ابن الكريم افعل كذا يا ابن العالم الخ فاسرائيل هو يعقوب عليه السلام  ،" اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ " يطالب الله بنى اسرائيل بذكر نعمته التى أنعمها عليهم قال مجاهد نعمة الله التى أنعم بها عليهم فيما سمى وفيما سوى ذلك أن فجر لهم الحجر وأنزل عليهم المن والسلوى ونجاهم عن عبودية ال فرعون ، وقال أبو العالية نعمته أن جعل منهم الانبياء والرسل أو نزل عليهم الكتب وهذا كقول موسى عليه السلام لهم " يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم اذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " يعنى فضلهم على العالمين فى زمانهم ، " وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ " قال بعهدى الذى أخذت فى أعناقكم للنبى محمد صلى اله عليه وسلم اذا جاءكم أنجز لكم ما وعدتكم عليه من تصديقه واتباعه بوضع ما كان عليكم من الآصار والاغلال التى كانت فى أعناقكم بذنوبكم التى كانت من احدائكم ، وقال الحسن البصرى هو قوله تعالى " ولقد أخذ الله ميثاق بنى اسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا وقال الله انى معكم لئن أقمتم الصلاة وآمنتم برسلى وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجرى من تحتها الأنهار " ، وقال اخرون هو الذى أحذ الله عليهم فى التوراة أنه سيبعث من بنى اسماعيل نبيا عظيما يطيعه جميع الشعوب  والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم فمن اتبعه غفر الله له ذنبه وأدخله الجنة وجعل له أجرين ، وقال أبو العالية " وَأَوْفُوا بِعَهْدِي" عهده الى عبادة دين الاسلام وأن يتبعوه ، وقال الضحاك عن أبن عباس " أُوفِ بِعَهْدِكُمْ " أرض عنكم وادخلكم الجنة ، " وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ"أى فاخشون وقا أبن عباس أى ان نزل بكم ما أنزلت بمن كان من قبلكم من ابائكم من النقمات التى عرفتم من المسخ وغيره ، وهذا انتقال من الترغيب الى الترهيب فدعاهم اليه بالرغبة والرهبة لعلهم يرجعون الى الحق واتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والاتعاظ بالقران وزواجره وامتثال أوامره وتصديق أخباره ولهذا قال  "وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ " يقول يا معشر أهل الكتاب امنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم يقول لأنه يجدون محمدا صلى الله عليه وسلم مكتوبا عندهم بالتوراة والانجيل ، " وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ " قال أبن عباس ولا تكونوا أول كافر به وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم ، قال أبو العالية ولا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم يعنى من جنسكم أهل الكتاب بعد سماعكم بمبعثه ومن كفر بالقران فقد كفر بمحمد ومن كفر بمحمد فقد كفر بالقران وكذلك " أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ " فيعنى به أول من كفر من بنى اسرائيل أنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بشر كثير وانما المراد أول من كفر به من بنى اسرائيل مباشرة فان يهود المدينة أول بنى اسرائيل خوطبوا بالقران فكفرهم به يستلزم أنهم أول من كفر به من جنسهم ، وقوله تعالى " وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا " لا تعتاضوا عن الايمان باياتى وتصديق رسولى بالدنيا وشهواتها فانها قليلة فانية والثمن القليل الدنيا بحذافيرها وكذلك اياته كتابه الذى أنزله اليهم وان الثمن القليل الدنيا وشهواتها ، وفى سنن أبى داود عن أبى هريرة قال رسول الله : " من تعلم علما مما يبتغى وجه الله لا يتعلمه الا ليصيب عرضا من الدنيا لم يرج رائحة الجنة يوم القيامة " ، " وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ " والتقوى أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمته على نور من الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله والله تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق واظهار خلافه ومخالفتهم الرسول .

ولَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

" ولَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ " يقول الله تعالى ناهيا اليهود عما كانوا يتعمدونه من تلبيس الحق بالباطل وتمويهه وكتمانهم الحق واظهارهم الباطل نهاهم عن تلبيس الحة وكتمان الحق وأمرهم باظهار الحق والتصريح به أى لاتخلطوا الحق بالباطل والصدق بالكذب وأن لا يكتموا ما عندهم من المعرفة برسوله وبما جاء به وهم يجدونه مكتوبا عندهم فيما يعلمون من الكتب التى بين أيديهم ،" وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ "بعنى محمد ومعناه وأنتم تعلمون الحق ويجوز أن يكون المعنى وأنتم تعلمون ما فى ذلك من الضرر العظيم على الناس من اضلالهم عن الهدى المفضى بهم الى النار ان سلكوا ما تبدونهم من الباطل المشوب بنوع من الحق لتروجوه عليهم واليان الايضاخ وعكسه الكتمان وخلط الحق بالباطل ،" وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ " قال مقاتل قوله عالى لأهل الكتاب " وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ"أمرهم أن يصلوا مع النبى ، "وَآتُوا الزَّكَاةَ " أمرهم أن يؤتوا الزكاة أى يدفعونها الى النبى محمد ، " وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ " أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد يقول كونوا معهم ومنهم .

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)

" أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ " يقول تعالى كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب وأنتم ـامرون الناس بالبر وهو جماع الخير أن تنسوا أنفسكم فلا تأتمرون بما تأمرون بهالناس وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب وتعلمون ما فيه على من قصر فى أوامر الله ؟ أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم فتنتبهوا من رقدتكم وتتبصروا من عمايتكم ، " أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ " قال قتادة كان بنو اسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر ويخلفونه قعيرهم الله ، وقال أبن جريح أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصلاة والصوم ويدعون العمل بما يأمرون به الناس فعيرهم الله بذلك فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة ، " وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ " أى تتركون أنفسكم ، " وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ " أى تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة وأنتم تكفرون بما فيها من عهدى اليكم فى تصديق رسولى وتنقضون ميثاقى وتجحدون ما تعلمون من كتابى ، الواجب والأولى بالعالم أن يفعل البر مع من أمرهم به ولا يتخلف عنهم كما قال شعيب عليه السلام " وما أريد أن أخالفكم الى ما أنهاكم عنه ان أريد الا الاصلاح ما استطعت وما توفيقى الا بالله عليه توكلت واليه انيب " والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف وان لم يفعله وينهى عن المنكر ولو ارتكبه وقال الرسول:" مثل العالم الذى يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضىء بين الناس ويحرق نفسه " هذا حديث غريب من هذا الوجه ، وقال رسول الله : " مررت ليلة أسرى بى على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار قلت من هؤلاء ؟ قالوا خطباء أمتك من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفى يعقلون " ، وقال رسول الله : " ان الله يعافى الأميين يوم القيامة ما لا يعافى العلماء " ، وقال رسول الله : " ان أناسا من أهل الجنة يطلعون على أناس من أهل النار فيقولون بم دخلتم النار ؟ فوالله ما دخلنا الجنة الا بما تعلمنا منكم فيقولون انا كنا نقول ولا نفعل " ، وفى قوله تعالى " لم تقولون ما لاتفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " .

وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)

" وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ " يقول تعالى آمرا عبيده فيما يؤملون من خير الدنيا والآخرة بالستعانة بالصبر والصلاة ، وكما قال مقاتل بن حيان استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض والصلاة فأما الصبر قيل الصيام ويسمى رمضان شهر الصبر ، وقال النبى : " الصوم نصف الصبر " ، وعن عمر بن الخطاب قال الصبر صبران صبر عند المصيبة حسن وأحسن منه الصبر عن محارم الله ، وقال حذيفة بن اليمان رضى الله عنه : " كان رسول الله اذا حزبه أمر صلى" ، " وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ"أى أن الصلاة مشقة ثقيلة الا على الخاشعين يعنى المصدقين بما انزل الله ، وقال أبو العالية الا على الخاشعين الخائفين ، وقال الضحاك انها لثقيلة الا على الخاضعين لطاعته الخائفين سطوته المصدقين بوعده ووعيده ،  وقال أبن جرير فى معنى الآية واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب بحبس أنفسكم على طاعة الله وباقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر المقربة من رضاء الله العظيمة اقامتها والخاشعين المتواضعين المستكينين لطاعته المتذللين من مخافته ، والظاهر أن الآية وان كانت خطابا فى سياق انذار بنى اسرائيل فانهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص وانما هى عامة لهم ولغيرهم ، " الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ"هكذا من تمام الكلام الذى قبله أى أن الصلاة أو الوصاة لثقيلة الا على الخاشعين الذين الذين يعلمون أنهم محشورون الى الله يوم القيامة معروضون عليه وأنهم راجعون اليه ، قال أبن جرير أن العرب قد تسمى اليقين ظنا والشك ظنا والشواهد من أشعار العرب وكلامها أن الظن فى معنى اليقين أكثر من أن يحصر .

 يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)

" يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ " يذكرل الله تعالى بنى اسرائيل بسالف نعمه على ابائهم واسلافهم وما كان وما كان فضلهم به من ارسال الرسل منهم وما نزل من الكتب عليهم وعلى سائر الأمم من أهل زمانهم كما قال تعالى " ولقد اخترناهم على علم على العالمين " وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ " فضلوا بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان فى ذلك الزمان فان لكل زمان عالما ، ويجب الحمل علة هذا لأن هذه الأمة أمة محمد أفضل منهم لقوله تعالى خطابا لها " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالل ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم " .

وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)

" وَاتَّقُوا يَوْمًا " لما ذكر الله تعالى بن اسرائيل بنعمه أولا عطف على ذلك التحذير من طول نقمه لهم يوم القيامة واليوم الذى يتقوه هو يوم القيامة ، " لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا " يوم لايغنى فيه أحد عن أحد كما قال ط لاتزر وازرة وزر أخرى " وكما قال " لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه " وكما قال " يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما ىيجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا " ، " وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ " يعنى لايقبل من الكافرين شفاعة كما قال " فما تنفعهم شفاعة الشافعين " ، وكما قال عن أهل النار" فما لنا من شافعين ولا صديق حميم " ، " وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ " ولا يقبل منها فداء أى من الكافرين كما قال تعالى " ان الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به " ،وقال أبن عباس لايؤخدذ منها بدل والبدل هو الفدية ، " وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ"أى ولا أخد يغضب لهم فينصرهمخ وينقذهم من عذاب الله ولا لهم ناصر من أنفسهم ولا من غيرهم كما قال " فما له من قوة ولا ناصر " وقال " فيومئذ لا يعذب عذابه أخد * ولا يوثق وثاقه أحد " وقال " ما لكم لاتناصرون بل هم اليوم مستسلمون " ، وقال أبن جرير يعنى يومئذ لا ينصرهم ناصر كما لا يشفع لهم شافع ولا يقبل منهم عدل ولا فدية .. (48)

 وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)

" وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ " يقول تعالى يا بنى اسرائيل اذكروا نعمتى عليكم اذ نجيناكم من ال فرعون خلصتكم منهم

وأنقذتكم من أيديهم بصحبة موسى عليه السلام ومعنى يسومونكم يولونكم وقيل معتاه يديمون عذابكم  وقد كانوا يورودونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب ذلك أن فرعون رأى رؤية هالته مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدى رجل من بنى اسرائيل فأمر بقتل كل ذكر يولد من بنى اسرائيل وأمر باستعمال بنى اسرائيل فى مشاق الاعمال وأرزلها وههنا فسر العذاب بذبح الأبناء ، "وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ"قال أبن جرير وفى الذى فعلناه بكم من انجائنا أباءكم مما كانوا فيه من عذاب ال فرعون بلاء لكم من ربكم عظيم أى نعمه عظيمة عليكم فى ذلك ، وقال مجاهد نعمة من ربكم عظيمة وأصل البلاء الاختبار بالخير والشر كما قال " ونبلوكم بالشر والخير فتنة " وكما قال " وبلوناهم بالحسنات والسيئلت لعلهم يرجعون " قال أبن جرير وأكثر ما يقال فى الشر بلوته أبلوه بلاء وفى الخير أبليه ابلاء وبلاء ، وقيل المراد " وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ " اشارة الى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء وكان هذا اختبار كبير من الله  ، " وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ "وبعد أن أنقذناكم من ال فرعون وخرجتم مع موسى عليه السلام خرج فرعون فى طلبكم فانجيناكم منه وحجزنا بينكم وبينهم وأغرقناهم وأنتم تنظرون ليكون ذلك أشفى لصدوركم وأبلغ فى اهانة عدوكم ، وقد ورد أن هذا اليوم يوم عاشوراء فعن أبن عباس قال قدم رسول الله المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال : " ما هذا اليوم الذى تصومون ؟ " قالوا : " هذا يوم صالح هذا يوم نجى الله عز وجل فيه بنى اسرائيل من عدوهم فصامه موسى عليه السلام فقل رسو ل الله : " أنا أحق بموسى منكم " فصامه وأمر بصومه .  

وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)

" وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ  يقول تعالى واذكروا نعمتى عليكم فى عفوى عنكم لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة وكانت أربعين يوما وهى المذكورة فى سورة الأعراف " وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر " ، " وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ " الكتاب يعنى التوراة والفرقان هو ما يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلالة وفى هذا الهداية لكم وكان ذلك أيضا بعد خروجهم من البحر كما فى سورة الأعراف " ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورخمة لعلهم يتذكرون " وقيل الوارو زائدة والمعنى ولقد اتينا موسى الكتاب الفرقان وقيل عطف عليه وان كان المعنى واحد .

 وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)

" وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ " هذه صفة توبته تعالى على بنى اسرائيل من عبادة العجل  بأن يقتلوا أنفسهم ، وقال أبن اسحاق لما رجع موسى عليه السلام الى قومه وأحرق العجل وذراه فى اليم خرج الى ربه بمن اختار من قومه لإاخذتهم الصاعقة ثم بعثوا فسأل موسى ربه التوبة لبنى اسرائيل من عبادة العجل فقال لا الا أن يقتلوا أنفسهم قال فبلغنى أنهم قالوا لموسى نصبر لأمر الله فأمر موسى من لم يكن عند العجل أن يقتل من عبده فجلسوا بالأفنية وأصلت عليهم القوم السيوف فجعلوا يقتلونهم فهش موسى فبكى اليه النساء والصبيان يطلبون العفو عنهم فتاب الله عليهم وعفا عنهم وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لما رجع موسى الى قومه وكانوا سبعين رجلا قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه فقاللهم موسى انطلقوا الى موعد ربكم فقالوا يا موسى ما من توبة قال بلى اقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم وفى قوله ههنا " الى بارئكم " تنبيه على عظم جرمهم أى فتوبوا الى الذى خلقكم وقد عبدتم معه غيره فتاب عليكم ، فاخترطوا السيوف والجزرة والخناجر والسكاكين ، وقال وبعث عليهم ضبابه فجعلوا يتلامسون بالأيدى ويقتل بعضهم بعضا ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله وهو لايدرى ، " فتاب عليكم انه هو التواب الرحيم " حتى اذا فتر بعضهم قالوا يا نبى الله أدع الله لنا وأخذوا بعضديه يسندون يديه وهو رافع يديه فلم يزل أمرهم على ذلك حتى اذا قبل الله توبتهم قبض أيديهم بعضهم عن بعض فألقوا السلاح وحزن موسى وبنواسرائيل للذى كان من القتل فيهم فأوحى الله جل ثناؤه الى موسى ما يحزنك أما من قتل منهم فخى عندى وأما من بقى فقد قبلت توبته فسر بذلك موسى وبنو اسرائيل كما روى ذلك أبن جرير باسناد جيد عنه و.

 وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)

" وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ " يقول تعالى واذكروا نعمتى عليكم فى بعثى لكم بعد الصعق اذ سألتم رؤيتى جهرة عيانا لكم علانية والصاعقة صيحة من السماء وقيل نار ، " وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ " قال عروة بن رويم صعق بعضهم وبعض ينظرون ثم بعث هؤلاء وصعق هؤلاء وبعثوا ، وقال السدى " فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ " فماتوا فقام موسى يبكى ويدعو الله ويقول رب ماذا أقول لبنى اسرائيل اذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم " لو شئت أهلكتهم من قبل واياى أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " فأوحى الله الى موسى أن هؤلاء السبعين من اتخذوا العجل ثم أحياهم الله فقاموا وعاشوا رجل رجل ينظر بعضهم البعض كيف يحيون ، وقال الربيع بن أنس كان موتهم عقوبة لهم فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا اجالهم ، وقال أبن جرير لما رجع موسى عليه السلام الى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل وقال لأخيه وللسامرى ما قال وحرق العجل وذراه فى اليم اختارموسى منهم سبعين رجلا الخير فالخير وقال انطلقوا الى الله وتوبوا الى الله مما صنعتم ، واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم ، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم فخرج بهم الى طور سيناء لميقات وقته له ربه وكان لا يأتيه الا باذن منه وعلم فقال له السبعون وخرجوا للقاء الله قالوا يا موسى أطلب لنا الى ربك نسمع كلام ربنا فقال أفعل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى فدخل فيه وقال للقوم أدنوا وكان موسى اذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع لايستطيع أحد من بنى ادم أن ينظر اليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى اذا دخلوا فى الغمام وقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل فلما فرغ اليه من أمره انكشف عن موسى الغمام فأقبل اليهم فقالوا لموسى " لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً "فأخذتهم الرجفة وهى الصاعقة فماتوا جميعا وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب اليه ويقول " رب لو شئت أهلكتهم من قبل واياى " فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل ويطلب اليه حتى رد اليهم أرواحهم وطلب اليه التوبة لبنى اسرائيل من عبادة العجل فقال لا الا أن يقتلوا أنفسهم ، وقال اسماعيل بن عبد الرحمن السدى الكبير لما تابت بنو اسرائيل من عبادة العجل وتاب الله عليهم بقتل بعضهم لبعض كما أمرهم الله به أمر الله موسى أن يأتيه فى كل أناس من بنى اسرائيل يعتذرون اليه من عبادة العجل ووعدهم موسى فاختار موسى سبعين رجلا على عينه ثم ذهب بهم ليعتزروا فالمراد السبعون المختارون .

 وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)

" وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ " لما ذكر الله تعالى ما دفعه عن بنى اسرائيل من النقم شرع يذكرهم أيضا بما أسبغ عليهم من النعم والغمام جمع غمامة وسمى بذلك لأنه يغم السماء أى يواريها ويسترها وهو السحاب الأبيض ظللوا به التيه ليقيهم حر الشمس ،" وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى "أختلفت عبارات المفسرين فى المن ما هو ؟ قال قتادة كان المن ينزل عليهم فى محلهم سقوط الثلج أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل يسقط عليهم من طلوع الفجر الى طلوع الشمس يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه وأما السلوى فعن أبن عباس طائر يشبه السمانى كانوا يأكلون منه وعن أبن عباس قال السلوى هو السمانى ،  " كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ " أمر اباحة وارشاد وامتنان ،" وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ " أى أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا الله كما قال " كلوا من رزق ربكم واشكروا له " فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم ، هذا مع ما شاهدوه من الآيات البينات والمعجزات القاطعات وخوارق العادات .  

 وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)

 "وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا "يلوم الله تعالى بنى اسرائيلعلى نكولهم عن الجهاد ودخول الأرض المقدسة وهى بيت المقدس لما قدموا من مصر بصحبة موسى عليه السلام أمروا بدخولها وقتال من فيها من العماليق الكفرة فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا فرماهم الله فى التيه عقوبة لهم كما ذكر الله فى سورة المائدة ، والأصح أن هذه القرية هى بيت المدس ، وقد قال الله تعالى عن موسى عليه السلام " ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التى كتب الله لكم ولا ترتدوا " وهذا كان لما خرجوامن التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون عليه السلام وفتحها الله عليهم ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب باب البلد سجدا أى شكرا لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر ورد بلدهم عليهم وانقاذهم من التيه والضلال ، وقال أبن عباس سجدا أى ركعا ، " وَقُولُوا حِطَّةٌ " أى مغفرة استغفروا أو كما قال أبن عباس أقروا بالذنب وقال الحسن وقتادة أى أحطط عنا خطايانا ، فكان جواب الأمر " نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ" اذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكم الخطيئات وضعفنا لكم الحسنات وحاصل الأمر أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها والشكر على النعمة عندها والمبادرة الى ذلك من المحبوب عند الله تعالى كما قال " اذا جاء نصر والفتح ورأيت الناس يدخلون فى دين الله أفوجا * فسبح بخمد ربك واستغفره انه كان توابا" فسره بعض الصحابة بكثرة الذكر والاستغفار عند الفتح والنصر ، ولهذا كان الرسول يظهر عليه الخضوع جدا عند النصر ، " فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ " بدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل فأمروا أن يدخلوا سجدا فدخلوا يزحفون على استاههم رافعى رؤسهم وأمروا أن يقولوا حطة أى أحطط عنا ذنوبنا وخطايانا فاستهزؤا فقالوا حنطة فى شعيرة وهذا فى غاية ما يمون من المخالفة والمعاندة ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم وخرودهم عن الطاعة له ولهذا قال " فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ " وعن أبن عباس أن كل شىء فى كتاب الله من الرجز يعنى العذاب وقال أبو العالية الرجز الغضب .  

 وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)

" وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ " يقول تعالى يا بنى اسرائيل أذكروا نعمتى عليكم فى اجابتى لنبيكم موسى عليه السلام حين استسقانى لكم وتيسيرى لكم الماء واخراجه لكم من حجر يحمل معكم وتفجيرى لكم منه اثنتى عشرة عينا لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفها فكلوا من المن والسلوى واشربوا من هذا الماء الذى أنبعته لكم بلا سعى منكم ولا كد واعبدوا الذى سخر لكم ذلك "وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ" ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتسلبوها ، قال أبن عباس لما كان بنو اسرائيل فى التيه شق لهم من الحجر أنهارا ، وقد ضرب لهم موسى الحجر فصار منه اثنتا عشرة عينا من ماء لكل سبط منهم عين يشربون منها وسورة البقرة مدنية ولهذا كان الخطاب فيها متوجها لبنى اسرائيل " فأنبجست منه اثنتا عشرة عينا"  وهو أول الانفجار .

 وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)

" وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا " يقول تعالى يا بن اسرائل أذكروا نعمتى عليكم فى انزال المن والسلوى طعلاما طيبا نافعا هنيئا سهلا وأذكروادبركم وضجركم مما رزقناكم وسؤالكم موسى عليه السلام استبدال ذلك بالأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم ، قال الحسن البصرى فبطروا ذلك فلم يصبروا عليه وذكروا عيشهم الذى كانوا فيه وكانوا قوما أهل عدس وبصل وبقل وفوم وانما قالوا على طعام واحد وهم يأكلون المن والسلوى لأنه لايتبدل ولا يتغير كل يوم فهو مأكل واحد ، وأما الفوم فقد أختلف في معناه فوقع فى قراءة أبن مسعود وثومها بالثاء وقال أبن عباس عن الفوم الحنطة وحكى القرطبى عن عطاء وقتادة أن الفوم كل حب يختبر وقال بعضهم الحبوب التى تؤكل كلها فوم ، وقوله تعالى " قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ " فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنيئة مع ما هم فيه من العيش الرغيد والطعام الهنىء الطيب ، وقوله " اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ " قال أبن عباس من الأمصار منون مصروف مكتوب بالألف ، ومن غير صرف فى قراءة أبى كعب وأبن مسعود قال أبى العالية والربيع بن أنس فى تفسيرهما أن المراد مصر فرعون وكذلك قال غيرهم والحق أن المراد مصر من الأمصار كما روى أبن عباس وغيره والمعنى على ذلك لأن موسى عليه السلام يقول لهم هذا الذى سألتم ليس بأمر عزيز بل هو كثير فى أى بلد دخلتموها وجدتموه فليس يساوى مع ةدناءته وكثرته فى الأمصار أن أسأل الله فيه ولهذا قال " أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ " أى فلكم ما طلبتم ، " وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ " وضعت عليهم الذلة والمسكنة وألزموا بها شرعا وقدرا أى لايزالون مستذلين من وجدهم استذلهم وأهانهم وضرب عليهم الضغار ، والذلة الذل ، وقال الحسن أذلهم الله فلا منعة لهم وجعلهم تحت أقدام المسلمين ولقد أدركتهم هذه الأمة وان المجوس لتجبيهم الجزية ، " وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ " استحقوا الغضب من الله أو فحدث عليهم غضب من الله ، " ذَلِكَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ " يقول تعالى هذا الذى جازيناهم من الذلة والمسكنة واحلال الغضب بهم بسبب استكابارهم عن اتباع الحق وكفرهم بايات الله واهانتهم حملة الشرع وهم الأنبياء وأتباعهم فأنتقصوهم الى أن أفضى بهم الخال الى أن قتلوهم فلا كفر أعظم من هذا ، انهم كفروا بايات الله وقتلوا انبياء الله بغير الحق ، لما ارتكب بنو اسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بايات الله وقتلهم انبياءه أحل الله بهم بأسه الذى لا يردوكساهم ذلا فى الدنيا موصولا بذل الآخرة جزاءا وفاقا ،  "ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ " وهذه علة أخرى فى مجازاتهم بما جوزوا به أنهم كانوا يعصون ويعتدون فالعصيان فعل المناهى والاعتداء المجاوزة فى حد المأذون فيه والمأمور به .  

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"لما بين الله تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره وتعدى فى فى فعل ما لا أذن فيه وانتهك المحارم وما أحل بهم من النكال نبه تعالى على أن من أحسن من الأمم السابقة وأطاع فان له جزاء الحسنى وكذلك الأمر الى قيام الساعة ، كل من اتبع الرسول النبى ألمى محمد فله السعادة الأبدية ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه كما قال " ألا ان أولياء الله لاخوف عليهم ولا هم يحزنون " وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار " ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون " قال سلمان رضى الله عنه سألت النبى عن أهل دين كنت معهم فذكرت من صلاتهم وعبادتهم فنزلت " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا " نزلت فى أصحاب سلمان الفارسى بينما هو يحدث النبى اذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم فقال : " كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك ويشهدون أنك ستبعث نبيا فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له نبى الله : " يا سلمان من هم أهل النار " فاشتد ذلك على سلمان فأنزل الله هذه الآية فكان ايمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى عليه تاسلام حتى جاء عيسى عليه السلام فلماء جاء كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى عليه السلام فلم يدعها ولم يتبع عيسى عليه السلام كان هالكا ، وايمان النصارى أن من تمسك بالانجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه حتى جاء محمد فمن لم يتبع محمدا منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والانجيل كان هالكا ، قال أبن أبى حاتم وروى عن سعيد بن جبير نحو هذا ، قلت هذا لاينافى ما روى عن أبن أبى طلحة عن أبن عباس فأنزل الله بعد ذلك " ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين " فان هذا الذى قال أبن عباس اخبار عن أنه لايقبل من أحد طريقة ولا عملا الا ما كان موافقا لشريعة محمد بعد أن بعثه به فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول فى زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة فاليهود أتباع موسى عليه السلام والذين كانوا يتحاكمون الى التوراة فى زمانهم واليهود من الهوادة وهى المودة أو التهود كقول موسى عليه السلام " انا هدنا اليك " أى تبنا فكأنهم سموا بذلك فى الأصل لتوبتهم ومودتهم فى بعضهم لبعض وقيل لنسبتهم الى يهود أكبر أولاد يعقوب ، فلما بعث عيسى عليه السلام وجب على بنى اسرائيل اتباعه والانقياد له فى أصحابه وأهل دينه هم النصارى وسموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم وقيل أنهم سموا بذلك من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها ناصرة ، وسميت أمة محمد مؤمنين لكثرة ايمانهم وشدة ايقانهم ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الآتية ، وأما الصابئون فقد أختلف فيهم فقال سفيان الثورى عن ليث بن أبى سليم عن مجاهد الصابئون وم بين المجوس واليهود والنصارى ليس لهم دين ، وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدى وغيرهم الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرؤن الزبور ولهذا قال أبو حنيفة واسحاق لا بأس بذبائحم ومناكحتهم وعن ابى الزناد عن أبيه قال الصابئون قوم مما يلى العراق وهم بكوتى وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ويصومون من كل سنة ثلاثين يوما ويصلون الى اليمن كل يوم خمس صلوات ، وقال عبد الله بن وهب قال عبد الرحمن بن زيد الصابئون أهل دين من الآديان كانوا بجزيرة الموصل يقولون أن لا اله الا الله وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبى الا قول لا اله الا الله ولم يؤمنوا برسول فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبى وأصحابه هؤلاء الصابئون يشبهونهم بهم يعنى فى قوله لا اله الا الله واختار الرازى أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب بمعنى أن الله جعلها قبلة للعبادة والدعاء ، وقول مجاهد ومتابعيه ووهب بن منبه أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين وانما هم قوم  باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتفونه ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم بالصابىء أنه قد خرج عن سائر اديان أهل الأرض اذ ذاك .

 وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)

" وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ " يقول تعالى مذكرا لبنى اسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق بالايمان به وحده لاشريك له واتباع رسل وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق رفع الجبل فوق رؤسهم ليقروا بما عوهدوا عليه ويأخذوه بقوة وحزم وامتثال كما قال تعالى " واذ نتقنا الجبل فوقهم كأن ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما أتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون " والطور هو الجبل ، وفى رواية عن أبن عباس الطور ما انبت من الجبال وما لم ينبت فليس بطور ، وفى حديث عن أبن عباس أنهم لما أمتنعوا عن الطاعة رفع عليهم الجبل ليسمعوا ، وقال السدى فلما أبو أن يسجدوا أمر الله الجبل أن يقع عليهم فنظروا اليه وقد غشيهم فسقطوا سجدا ، فسجدوا على شق ونظروا بالشق الآخر فرخمهم الله فكشفه عنهم فقالوا والله ما سجدة أحب الى الله من سجدة كشف بها العذاب عنهم فهم يسجدون كذلك وذلك قول الله تعالى " وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ" وقال الحسن فى قوله " خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ " يعنى التوراة وقال أبو العالية بقوة أى بطاعة ، وقال مجاهد بقوة بعمل ما فيه ، وقال قتادة قوة الجد والا قذفته عليكم قال فأقروا بذلك أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة والا قذفته عليكم أى أسقطه عليكم يعنى الجبل ، " وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أى أقروا ما فى التوراة واعملوا به ، " ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ " ثم بعد هذا الميثاق العظيم توليتم عنه وانثنيتم ونقضتموه ، " فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ " لولا فضل الله عليكم بتوبته عليكم وارساله النبيين والمرسلين اليكم ، " لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ " لكنتم من الخاسرين بنقضكم ذلك الميثاق فى الدنيا والآخرة .

 وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)

" وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ " يقول تعالى ولقد علمتم يا معشر اليهود ما حل من البأس بأهل القرية التى عصت أمر الله وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذهم عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره اذ كان مشروعا لهم فتحيلوا على اصطياد الحيتان فى يوم السبت بما وضعوه لها من الشصوص والخبائل والبرك قبل يوم السبت فلما جاءت يوم السبت على عادتها فى الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل فلم تخلص منها يومها فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت فلما فعلوا ذلك مسخهم الله الى صورة القردة وهى أشبه شىء بالاناس فى الشكل الظاهر وليست باناسن حقيقة فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم لما كانت مشابهة للحق فى الظاهر ومخالفة له فى الباطن كان جزاؤهم من جنس عملهم وهذه القصة مبسوطة فى سورة الأعراف " واسألهم عن القرية التى كانت حاضرة البحر " وقال مجاهد مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة وانما هو مثل ضربه الله كمثل الحمار يحمل أسفارا وقال أبن عباس انما كان الذين اعتدوا فى السبت فجعلوا قردة فواقا ثم هلكوا ما كان للمسخ نسل ، وقال الضحاك عن أبن عباس فمسخهم الله قردة بمعصيتهم يقول اذ لا يحيون فى الأرض الا ثلاثة أيام قال ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل ، " فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ " أذلبة صاغرين وقال أبن عباس أن الله انما افترض على بنى اسرائيل اليوم الذى أفترض عليكم فى عيدكم يوم الجمعة فخالفوا الى يوم السبت فعظموه وتركوا ما أمروا به فلما أبو الا لزوم السبت ابتلاهم الله فيه فحرم عليهم ما أحل لهم فى عيره وكانوا فى قرية بين أيلة والطور يقال لها مدين فحرم الله عليهم فى السبت الحيتان صيدها وأكلها وكانوا اذا كان يوم السبت أقبلت اليهم شرعا الى ساحل بخرهم حتى اذا ذهب السبت ذهبن فلم يروا حوتا صغيرا ولا كبيرا فكانوا كذلك حتى طال عليهم الأمد فعمد رجل منهمفأخذ حوتا سرا يوم السبت فحزمه بخيط ثم أرسله الى الماء وأوتد له وتدا فى الساحل فأوثقه ثم تركه حتى اذا كان الغد جاء فأخذه وعاد لذلك ووجد الناس ريح الحيتان وعرفوا ما صنع فقلدوه ةاستمروا زمنا طويلا لم يعجل الله عليهم العقوبة وفعلوا ذلك سرا حتى صادوها علانية فباعوها فى الاسواق ، فقالت طائفة منهم ويحكم اتقوا الله ونهوهم عما كانوا يصنعون وهى القرية التى قال الله فيها " واسألهم عن القرية التى كانت حاضرة البحر " وفى قوله " واسألهم عن القرية التى كانت حاضرة البحر اذذ يعدون فى السبت اذ تأتينهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم " اشتهى بعضهم السمك فجعل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرا الى البحر فاذا كان يوم السبت فتح النهر فأقبل الموج بالحيتان فيلقيعا فى الحفيرة فيريد الحوت أن يخرج فلا يستطيع من أجل قلة ماء النهر فيمكث فيها فاذا كان يوم الأحد جاء فأخذه فيشوى السمك فيجد جاره روائحه فيسأله فيخبره فيصنع ما صنع حتى فشا فيهم أكل السمك فقال لهم علماؤهم ويحكم انما تصطادون يوم السبت وهو لا يحل لكم فقالوا انما صدناه يوم الأحد حين أخذناه فقال الفقهاء ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل فقال بعض الذين نهوهم لبعض " لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديد " يقول لم تعظوهم وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم فقال بعضهم " معذرة الى ربكم ولعلهم يتقون " ولكنهم استمروا فى كفرهم فنزل قوله " فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين " وكذلك يقول " لعن الذين كفروا من بنى اسرائيل على لسان داود وعيسى أبن مريم " وقال الله " فجعلناها نكالا " قيل على العقوبة وقيل القرية وقيل القردة وقيل الحيتان والصحيح أن الضميرعائد على القرية فجعل الله هذه القرية والمراد أهلها بسبب اعتدائهم فى سبتهم نكالا أى عاقبناهم عقوبة فجعلناها عبرة ، كما قال الله عن فرعون " فأخذه الله نكال الآخرة والأولى " وقوله " لما بين يديها وما خلفها " قال أبن عباس يعنى جعلناما بما أحللنا بها من العقوبة عبرة لمن حولها من القرى قال أبن عباس لما بين يديها من القرى وما خلفها من القرى ، ويقول أبن أبى خالد وأبو الربيع وعطية المراد بين يديها وما خلفها فى الزمان وهذا مستقيم بالنسبة الى من يأتى بعدهم من الناس أن تكون هذه القرية عبرة لهم ، " وموعظة للمتقين " فجعلهم الله عبرة ونكالا لمن فى زمانهم وموعظة لمن يأتى بعدهم الى يوم القيامة ، وقال الحسن وقتادة وموعظة للمتقين بعدهم " فيتقون نعمة الله ويحذرونها ، وقال السدى وعطية العوفى المراد بالموعظة هنا الزاجر أى جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال فى مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله وما تحيلوا به من الحيل فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم ، وعن أبى هريرة قال رسول الله : " لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل " وهذا اسناد جيد .

 وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)

" وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً " يقول تعالى واذكروا يا بنى اسرائيل نعمتى عليكم فى خرق العادة لكم فى شأن البقرة وبيان القاتل من هوبسببها واحياء الله المقتول ونصه على من قتله منهم ، قال أبو العالية عن الآية كان رجل من بنى اسرائيل غنيا ولم يكن له ولد وكان له قريب وكان وارثه ققتله ليرثه ثم ألقاه على مجمع الطريق وأتى موسى عليه السلام فقال له أنت نبى الله فسل لنا ربك أن يبين لنا فسأل ربه فأوحى الله " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً " فعجبوا من ذلك فقالوا " قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا " فرد عليهم " قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ " ، فقالوا له قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ " فرد عليهم موسى عليه السلام " قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ"يعنى أنها لاهرمة ولا صغيرة نصف بين البكر والهرمة بعد أن أوضح لهم موسى عليه السلام صفات البقرة أمرهم بالتنفيذ ولكنهم قوم بهت فاستمروا فى المجادلة  ، " قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ " طلبوا من موسى عليه السلام لون البقرة فرد عليهم أنها صفراء صاف لونها تعجب الناظرين اليها واستمروا فى جدلهم ولم ينفذوا ما قاله لهم بشأنه ، " قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ " قالوا لموسى عليه السلام أن البقر اختلط عليهم فسألوه أن يسأل الله عنا وهذه المرة سينفذون ما سيخبرهم به ، " قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ " رد عليهم موسى عليه السلام أنها بقرة لم يذللها العمل لا تعمل فيرهقها العمل لا تعمل فى حرث الأرض ولا فى سحب الماء لسقى الحرث ومسلمة من العيوب ولا بياض فيها ولا سواد ولا حمرة وفى نهاية المطاف قالوا لموسى عليه السلام جئتنا بالحق فى شأن البقرة فمضوا فى ذبخها ، وقال أبو العالية ولو أن القوم حين أمروا بذبح البقرة استعرضوا بقرة فذبحوها لكانت اياها ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ولولا أن القوم استثنوا فقالوا وانا ان شاء الله لمهتدون لهدوا اليها ، ولم يجدوا البقرة الا عند عجوز وعندها يتامى وهى القيمة عليهم فلما علمت أنه لايزكوا لهم غيرها أضعفت عليهم الثمن فأتوا موسى عليه السلام فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت الا عند فلانة وأنها سألت أضعاف ثمنها فقال موسى عليه السلام ان الله قد خفف عليكم فشددتم على أنفسكم فأعظوها رضاها وحكمها ففعلوا واشتروها فذبحوها فأمرهم موسى عليه السلام أن يأخذوا عظما منها فيضربوا به القتيل ففعلوا فرجع اليه روحه فسمى لهم قاتله وهو الذى كان أتى موسى عليه السلام فشكا اليه فقتله الله على أسوأ عمله ، وقيل أن البقرة كانت لدى رجل فى بنى اسرائيل من أبر الناس بأبيه فمر ليه بلؤلؤ يبيعه وكان أبوه نائما ولا يريد أن يوقظه وكان يزيده فى الثمن حتى بلغ مائة الف حتى كثر عليه المال قال والله لا أشتريه منك بشىء فعوضه الله عن ذلك بالبقرة التى وجدوها عنده فتوجهوا الى موسى عليه السلام بعد رفضه بيعها لهم فأخذوا يزيدوه حتى بلغ ما أعطوه عشرة أضعاف وزنا ذهبا ، تعددت الروايات ولكنها تصب فى اتجاه واحد هو تشدد بنى اسرائيل وتشديد الله عليهم .  

 وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)

" وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ " يحدث الله بنى اسرائيل عما وقع من الذى قتل ولم يعرف قاتله فادارؤا أى اختلفوا فيها واختصموا وقال بعضهم لبعض متهما أنتم قتلتموه والله مخرج ما كنتم تغيبون فأمرهم الله على لسان موسى عليه السلام عندما سألوه أن يسأل الله فيرشده عن القاتل " فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا " أى أن يأخذوا أى شىء من أعضاء البقرة التى ذبحوها فيضربوا به المقتول فترد له روحه فيخبرهم بمن قتله فالمعجزة حاصلة به وخرق العادة به كائن ، وقال أبن عباس أن أصحاب بقرة بنى اسرائيل طلبوها أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل فى بقر له وكانت بقرة تعجبه فجعلوا يعطونه بها فيأبى حتى أعطوه ملء مسكها دنانير فذبحوها فضربوا القتيل بعضو منها فقام وأرشد عن قاتله ثم عاد ميتا كما كان ، " كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " فضربوه فحيى ونبه تعالى على قدرته واحيائه الموتى مما شاهدوه من أمر القتيل وجعل تبارك وتعالى ذلك الصنيع حجة لهم على المعاد ، والله تعالى ذكر فى هذه السورة مما خلقه من احياء الموتى فى خمسة مواضع " ثم بعثناكم من بعد موتكم " لبنى اسرائيل ، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ، وقصة الذى مر على قرية وهى خاوية على عروشها ، وقصة ابراهيم عليه السلام والطيور الأربعة ، ونبه تعالى باحياء الأرض بعد موتها على اعادة الأجسام بعد صيرورتها رميما ، عن أبى رزين العقيلى رضى الله عنه قال قلت يا رسول الله كيف يحيى الله الموتى ؟ قال : " أما مررت بواد ممحل ثم مررت به خضرا ؟ " قال : " بلى " قال : " كذلك النشور " أو قال " كذلك يحيى الله الموتى "، وشاهد قوله " واية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون -----أفلا يشكرون " ياسين .

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

" ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ " يقول الله تعالى توببخا لبنى اسرائيل وتقريعا لهم على ما شاهدوه من ايات الله تعالى واحيائه الموتى لقسوة قلوبهم فهى كالحجارة التى لا تلين أبدا ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم فقال " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون " ، صارت قلوب بنى اسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات فى فى قسوتها كالحجارة التى لا علاج للينها  أو أشد قسوة منها فالحجارة يتفجر منها العيون بالأنهار الجارية  ومن الحجارة ما يتشقق فيخرج منه الماء وان لم يكن جاريا ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله كما قال " تسبح له السموات السبع والأرض ومن قيهن وان من شىء الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم انه كان حليما غفورا " وكقوله " وما الله بغافل عما تعملون " ، وعن أبن عمر أن رسول الله قال : " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فان كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب وان أبعد الناس من الله القلب القاسى " رواه الترمذى ، وروى البزار عن أنس مرفوعا : " أربع من الشقاء جمود العين وقساوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا " .  

 أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)

" أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ " أفتطمعون أيها المؤمنون أن ينقاد اليكم هؤلاء الفرقة الضالة من اليهود الذين شاهد اباؤهم من الآيات البينات ما شاهدوه ثم قست قلوبهم من بعد ذلك وقد كان فريق منهم يسمعون أى يتلقون كلام الله فيما أنزل عليهم مع الرسل من كتب ويتناولونه على غير تأويله من بعد ما فهموه على الجلية ومع هذا يخالفونه على بصيرة وهم يعلمون أنهم مخطؤن فيما ذهبوا اليه من تحريفه وتأويله وهذا شبيه بقوله " فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه " ، وقال أبن عباس أن الله تعالى قال لنبيه محمدا ولمن معه من المؤمنين يؤيسهم منهم " " أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُم يَعْلَمُونَ "وليس قوله ليسمعون التوراة كلهم قد سمعها ولكن هم الذين سألوا موسى عليه السلام رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها ، وقال السدى هى التوراة حرفوها ، وقال تعالى " وان أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " أى مبلغا اليه ، وقال قتادة فى قوله " ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ "هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ووعوه ، وقال مجاهد الذين يحرفونه والذين يكتمونه هم العلماء منهم ، وقال أبن زيد التوراة التى أنزلها الله عليهم يحرفونها يجعلون الحلال فيها حراما والحرام فيها حلالا والحق فيها باطلا والباطل فيها حقا ، وقد قال تعالى " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون " ، " وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ " عن أبن عباس قال يعنى المنافقين من اليهود كانوا اذا لقوا أصحاب النبىقالوا امنا ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فيما رواه أبن وهب عنه كان رسول الله قد قال : " لايدخلن علينا قصبة المدينة الا مؤمن " فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفاق اذهبوا فقولوا امنا وأكفروا اذا رجعتم الينا فكانوا يأتون المدينة بالبكر ويرجعون اليهم بعد العصر وقرأ قوله تعالى " وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذى أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون " وكانوا يقولون اذا دخلوا المدينة نحن مسلمون ليعلموا أخبار رسول الله وأمره فاذا رجعوا رجعوا الى الكفر ، فلما أخبر الله نبيه قطع ذلك عنهم فلم يكونوا يدخلون وكان المؤمنون يظنون أنهم مؤمنون فيقولون أليس قد قال الله لكم كذا وكذا فيقولون بلى فاذا واجه الى قوامهم يعنى الرؤساء فقالوا " أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ " قال أبو العالية يعنى ما أسروا من كفرهم بمحمد وتكذيبهم به وهم يجدونه مكتوبا عندهم ، " أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ " يعنى ما أسروا من كفرهم بمحمد وتكذيبهم به وهم يجدونه مكتوبا عندهم .

وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)

" وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ " ومن أهل الكتاب أميون قاله مجاهد والأميون جمع أمى وهو الرجل الذى لا يحسن الكتابة ولا يدرون مافيه ، وقال أبن عباس فى " وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ " قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله ولا كتابا أنزله الله فكتبوا كتابا بأيديهم ثم قالوا لقوم سفلة جهال هذا من عند الله ، وقال قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم ثم سماهم أميين لجحودهم كتب الله ورسله ، " إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ " وقوله تعالى "الا أمانى " الأمانى الأحاديث وقال أبن عباس الا قولا يقولون بأفواههم كذبا ، وعن أبن عباس أن الأميين الذين وصفهم الله تعالى أنهم لايفقهون من الكتاب الذى أنزله الله على موسى شيئا ولكنهم يتخرصون الكذب يتخرصون الأباطيل كذبا وزورا والتمنى فى هذا الموضوع هو تخلق الكذب وتخرصه ،" فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا " هؤلاء صنف اخر من اليهود وهم الدعاة الى الضلال بالزور والكذب على الله وأكل أموال الناس بالباطل والويل الهلاك والدمار وهى كلمة مشهورة فى اللغة ، وعن أبى سعيد الخدرى عن رسول الله : " ويل واد فى جهنم يهوى فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره " رواه الترمذى ، وعن عثمان بن عفان رضى الله عنه عن رسول الله قال : " الويل جبل فى النار وهو الذى أنزل فيه اليهود لأنهم حرفوا التوراة زادوا فيها ما أحبوه ومحوا منها ما يكرهون ومحوا اسم محمد من التوراة ولذلك غضب الله عليهم فرفع بعض التوراة فقال تعالى " فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ " قال أبن عباس الذين يكتبون الكتاب بأيديهم هم أحبار اليهود ليشتروا به ثمنا قليلا أى الدنيا بحذافيرها فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب والبهتان والافتراء وويل لهم مما أكلوا من السحت ويقول أبن عباس فالعذاب عليهم من الذى كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب وويل لهم مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم . 

 وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)

" وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً " يقول تعالى اخبارا عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم من أنهم لم تمسهم النار الا أياما معدودة ثم ينجون منها ، " قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ " رد الله على اليهود فى تقولهم فيسألهم هل أتخذتم عهدا من الله فان كان قد وقع عهد فان الله لايخلفه ولكن هذا ما جرى ولا كان ولهذا أتى بأم التى بمعنى بل تقولون على الله ما لاتعلمون من الكذب والافتراء عليه ، وعن أبن عباس أن اليهود كانوا يقولون أن هذه الدنيا سبعة الاف سنة وانما نعذب بكل ألف سنة يوما فى النار وانما هى سبعة أيام معدودة فأنزال الله الآية ، وعن أبن عباس أن اليهود قالوا لن تمسنا النار أربعين ليلة زاد غيره وهى مدة عبادتهم العجل ، وقال عكرمة خاصمت اليهود رسول الله فقالوا لن ندخل النار الا أربعين ليلة وسيخلفنا فيها قوم اخرون يعنون محمدا وأصحابه رضى الله عنهم فقال رسول الله بيده على رؤسهم : " بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم فيها أحد " فأنزل الله الآية ، وعن أبى هريرة قال لما فتحت خيبرقال رسول الله لليهود : " هل أنتم صادقى عن شىء ان سألتكم عنه ؟ " قالوا : " نعم يا أبا القاسم وان كذبنا عرقت كذبنا كما عرفته فى أبينا " فقال لهم رسول الله : " من أهل النار ؟ " فقالوا : " نكون فيها يسيرا ثم تخلفونا فيها " فقال لهم رسول الله : " اخسئوا والله لا نخلفكم فيها أبدا " .

  بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)

" بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ "يقول تعالى ليس الأمر كما تمنيتم ولا كما تشتهون بل الأمر أنه من عمل سيئة واحاطت به خطيئته وهو من وافى يوم القيامة وليست له حسنة بل جميع أعمله سيئات فهذا من أهل النار وكما قال تعالى " ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا * ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا " ، قال أبن عباس فى قوله " بلى من كسب سيئة " أى عمل مثل أعمالكم وكفر بمثل ما كفرتم به حتى يحيط به كفره فما له من حسنة ، وقال أبن عباس السيئة هى الشرك ، وقال الحسن والسدى السيئة الكبيرة من الكبائر ، وعن مجاهد فى قوله " واحاطت به خطيئته " قال بقلبه ، وقال أبو هريرة أحاط به شركه ، وقال رسول الله : " اياكم ومحقرات الذنوب فانهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه ، " وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " والذين امنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات من العمل الموافق للشريعة، من أهل الجنة ، قال أبن عباس أى من امن بما كفرتم وعمل بما تركتم من دينه فلهم الجنة خالدين فيها يخبرهم الله أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له .  

 وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)

" وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ " يذكر الله تعالى بنى اسرائيل بما أمرهم به من الأوامر ,اخذه ميثاقهم على ذلك زأنهم تولوا عن ذلك وأعرضوا قصدا وعمدا وهم يعرفونه ويذكرونه فأمرهم تعالى أن يعبدوه ولايشركوا به شيئا ولذلك خلقهم كما قال " وما أرسلنا من قبلك من رسول الا نوحى اليه أنه لا اله الا أنا فاعبدون " وقال " ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها وهو حق الله تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له ، " وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا " ثم يأتى من بعد حق الله حق حق المخلوقين وأكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين كما قال " أن اشكر لى ولوالديك الى المصير " وقال " وقضى ربك ألا تعبدوا الا اياه وبالوالدين احسانا " ، وفى الصحيحين عن أبن مسعود قلت يارسول الله أى العمل أفضل ؟ قال : " الصلاة على وقتها" قلت ثم أى ؟ " قال : " الجهاد فى سبيل الله " ، " وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ " الأقرباء واليتامى وهم الصغار الذين لا كاسب لهم من الآباء والمساكين الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم ، " وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا " كلموهم طيبا ولينوا لهم جانبا ويدخل فى ذلك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بالمعروف كما قال الحسن البصرى فالجسن من القول يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحلم ويعفو ويصفح ويقول للناس حسنا كما قال الله وهو كل خلق حسن رضيه الله ، وقال النبى لا تحقرن من المعروف شيئا وان لم تجد فألق أخاك بوجه طلق" ، ويأمرهم الله أن يقولوا للناس حسنا بعد ما أمرهم بالاحسان اليهم بالفعا فجمع بي طرفى للاحسان الفعلى ةالقولى ، " وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ "أمرهم الل باقامة الصلاة وايتاء الزكاة ، " ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ " وأخبرهم الله أنهم تولوا عن ذلك كله أى تركوه وراء ظهورهم وأعرضوا عنه على عمد بعد العلم به الا القليا منهم ، وقد أمر الله هذه الأمة بنظير ذلك كما فى سورة النساء " واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا وبذى القربى واليتامة والمساكين والجار ذى القربى والجار الجنب والصاجب بالجنب وابن السبيل وما ملكت ايمانكم ان الله لايحب من كان مختالا فخورا " فقامت هذه الأمة من ذلك بما لم تقم به أمة من الأمم قبلها . 

  وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)

يقول الله تعالى منكرا على اليهود الذين كانوا فى زمان رسول الله بالمدينة وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج وذلك أن الأوس والخزرج وهم الأنصار كانوا فى الجاهلية عباد أصنام وكانت بينهم حروب كثيرة وكان يهود المدينة ثلاث قبائل بنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج وبنو قريظة حلفاء الأوس ، فكانت الحرب اذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه فيقتل اليهودى أعداءه وقد يقتل اليهودى من الفريق الآخر وذلك حرام عليهم فى دينهم ونص كتابهم ويخرجونهم من بيوتهم وينتهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال ثم اذا وضعت الخرب أوزارها استفكوا الأسارى من الفريق المغلوب عملا بحكم التوراة ولهذا قال تعالى " أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ " ولهذا قال تعالى " وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ "أخذ الله عليهم العهد أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا يخرجه من منزله ولا يظاهر عليه وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة كما قال الرسول مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر أعضاء الجسد بالحمى والسهر "وقوله " ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ " ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به ، " ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ " وقد خالفوا الميثاق بقتل أنفسهم واخراج فريقا منهم من ديارهم وعن أبن عباس قال أنبأهم الله بذلك من فعلهم وقد حرم عليهم فى التوراة سفك دمائهم وافترض عليهم فيها فداء أسراهم ، "َفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ " أى تفادون الأسرى بعد أن تضع الحرب أوزارها تصديقا لما فى التوراة يفتدى بنو قينقاع ما كان من أسراهم فى أيدى الأوس ويفتدى النضير وقريظة ما كان فى أيدى الخزرج منهم ويطلبون ما أصابوا من دمائهم وقتلوا من قتلوا منهم مظاهرة لأهل الشرك عليهم أى تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم وفى حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه الا من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا ؟ ، " فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ "جزاء كل من يفعل ذلك له خزى فى الدنيا بسبب مخالفة شرع الله وأمره ويوم القيامة يناله أشد العذاب فى نار جهنم جزاء على مخالفتهم كتاب الله الذى بأيديهم ، " وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ " والله مطلع على أعمالهم عليم بها ليس بمهمل لها ، " أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ"أولئك الذين فعلوا ذلك من المعصية والذين اشترواعرض الدنيا الزائل واختاروها وتركوا شرع الله وضيعوا الجزاء من عند الله فى الأخرة توعدهم الله بعذاب لا يفترعنهم ساعة واحدة وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدى ولا يجيرهم منه فى الآخرة .

 وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)

" وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ " ينعت تبارك وتعالى بنى اسرائيل بالعتو والعناد والمخالفة والاستكبار على الأنبياء وانهم انما يتبعون أهواءهم فذكر تعالى أنه آتى موسى عليه السلام الكتاب وهو التوراة فخرفوها وبدلوها وخالفوا أوامرها وأولوها وأرسل الرسل والنبيين من بعده الذين يحكمون بشريعته كما قال تعالى " انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما أستحفوظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء " ولهذا قال تعالى " وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ " أى اتبعنا أو أردفنا كما قال تعالى " ثم أرسلنا رسلنا تترى " حتى ختم أنبياء بنى اسرائيل بعيسى أبن مريم فجاء بمخالفة التوراة فى بعض الأحكام ، " وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ " أعطى الله عيسى أبن مريم عليه السلام من البينات وهى المعجزات من احياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرا باذن الله وابراء الأسقام واخباره بالغيوب وتأييده بروح القدس وهو جبريل عليه السلام ما يدلهم على صدقه فيما جاء به ، والدليل على أن روح القدسهو جبريل قوله تعالى " نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين " وقال أبن جرير الروح القدس هو جبرائيل كما فى قوله تعالى " اذ قال الله يا عيسى أبن مريم أكر نعمتى عليك وعلى والدتك اذ أيدتك بروح القدس " فاشتد تكذيب بنى اسرائيل له وحسدهم وعنادهم كمخافة التوراة فى البعض كما قال تعالى اخبارا عن عيسى عليه السلام " ولأحل لكم بعض الذى حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم " فكانت بنو اسرائيل تعامل الأنبياء أسوأ المعاملة ففريقا يكذبونه وفريقا يقتلونه وما ذاك الا لأنهم يأتونهم يالأمور المخالفة لأهوائهم وارائهم ويالألزام بأحكام التوراة التى قد تصرفوا فى مخالفتها فلهذا كان ذلك يشق عليهم فكذبوهم وربما قتلوا بعضهم ولهذا قال تعالى " أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ" وقال الزمخشرى انما لم يقل فريقا قتلتم لأنه أراد بذلك وصفهم فى المستقبل أيضا وقد حاولوا قتل النبى محمد بالسم والسحر وقد قال فى مرض موته : " ما زالت أكلة خيبر تعاودنى فهذا أوان انقطاع أبهرى " وهذا الحديث فى صحيح البخارى وغيره .

وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)

" وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ " قال أبن عباس أى قلوبنا فى أكنة أى لا تفقه كما قال هى القلوب المطبوع عليها ، وقال مجاهد عليها غشاوة ، وقال أبو العالية لاتفقه ، وهذا كقوله " وقالوا قلوبنا فى أكنة مما تدعونا اليه " وكما فى سورة النساء " وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون الا قليلا " ،" بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ " قال أبن عباس أى طردهم الله وأبعدهم من كل خير ، " فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ " أى بعضهم فقليل من يؤمن منهم وقيل فقليل ايمانهم ، قال قتادة لايؤمن منهم الا القليل .

 وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)

" وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ " ، لما جاء اليهود كتاب من عند الله وهو القرأن الذى أنزل على محمد   ،" مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ " يعنى من التوراة ، " وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا " أى وقد كانوا من قبل مجىء هذا الرسول بهذا الكتاب وهو القران يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين اذا قاتلوهم اذا قاتلوهم أنه سيبعث نبى فى اخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وارم ، " فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ " وعن أبن عباس أن يهودا كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله قبل مبعثه فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه فقال لهم معاذ بن جبل : " يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ﷺ ونحن أهل شرك وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته " فقال سلام بن مشكم أخو بنى النضير : " ما جاءنا يشىء نعرفه وما هو بالذى كنا نذكرلكم " فأنزل الله الآية ، قال أبو العالية :" كانت اليهود تستنصر بمحمد ﷺ على مشركى العرب يقولون اللهم أبعث هذا النبى الذى نجده مكتوبا عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم فلما بعث الله محمدا ﷺ ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسدا للعرب وهم يعلمون أنه رسول الله .

 بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)

" بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ"قال مجاهد يهود شروا الحق بالباطل وكتمان ما جاء به محمد بأن يبينوه ، وقال السدى باعوا به أنفسهم وعدلوا اليه من الكفر بما أنزل الله على محمد عن تصديقه ومؤازرته ونصرته وانما حملهم على ذلك البغى والحسد والكراهية أن ينزل الله من فضله وهو الرسالة لمحمد عبده ونبيه ورسوله ولا حسد أعظم من هذا أى أن الله جعله من غيرهم ، " فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ "قال أبن عباس فى الغضب على غضب فغضب الله عليهم فى ما كانوا ضيعوا من التوراة وهى معهم وغضب عليهم بكفرهم بهذا النبى الذى بعث الله اليهم ومعنى باؤا استوجبوا واستحقوا واستقروا بغضب على غضب ، وقال أبو العالية غضب الله عليهم بكفرهم بالانجيل وعيسى عليه السلام ثم غضب الله عليهم بكفرهم بمحمد وبالقران ، وقا لالسدى أما الغضب الأول فهو حين غضب عليهم فى العجل وأما الثانى فغضب عليهم حين كفروا بمحمد ، " وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ " قال أبن عباس لما كان كفرهم سببه البغى والحسد ومنشأ ذلك التكبر قوبلوا بالاهانة والضغار فى الدنيا والآخرة كما قال " ان الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين " أى صاغرين حقيرين ذليلين راغمين .

 وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)

" وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ " واذا قيل لهم أى اليهود وامثالهم من أهل الكتاب امنوا بما أنزل الله على محمد وصدقوه واتبعوه قالوا يكفينا الايمان بما أنزل علينا من التوراة والانجيل ولا نقر الا بذلك ويكفرون بما دونه ، " وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ " وهم يعلمون أن ما أنزل على محمد هو الحق كما أخبرهم بذلك ما بين أيديهم من التوراة كما قال تعالى" فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ان كنتم مؤمنين " ان كنتم صادقين فى دعواكم الايمان مما أنزل اليكم فلم تقتلون الأنبياء الذين جاؤكم بتصديق التوراة التى بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها وأنتم تعلمن صدقهم ؟ قتلتموهم بغيا وعنادا واستكبارا على رسل الله فلستم تتبعون الا مجرد الأهواء والآراء والتشهى كما قال تعالى " أفكلما جاءكم رسول بما لاتهوى أنفسكم أستكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون " ، وقال السدى يعيرهم الله تعالى " قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " ، وقال أبو جعفر بن جرير قل يامحمد ليهود ينى اسرائيل اذا قلتم لهم امنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا - لم تقتلون أنبياء الله يا معشر اليهود ان كنتم مؤمنين بما أنزل الله وقد حرم الله فى الكتاب الذى أنزل عليكم قتلهم بل أمركم باتياعهم وطاعتهم وتصديقهم ، " وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ "ولقد جاءكم موسى بالبينات أى بالآيات الواضحات والدلائل القاطعات على أنه رسول الله وأنه لا اله الا الله والآيات البينات هى الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد وفرق البحر وتظليلهم بالغمام والمن والسلوى والحجر وغير ذلك من الآيات التى شاهدوها ثم أتخذتم العجل أى معبودا من دون الله فى زمان موسى عليه السلام وأيامه ، وقوله من بعده أى من بعد ما ذهب عنكم الى الطور لمناجاة الله عز وجل كما قال تعالى " واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار " ،  "وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ "  أى وأنتم ظالمون فى هذا الصنيع الذى صنعتموه من بعده عبادتكم العجل وأنت تعلمون أنه لا اله الا الله كما قال " ولما سقط فى أيديهم ورأوا أنهم ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكون من الخاسرين " .  

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)

" وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا " يعدد الله وتعالى على بنى اسرائيل خكأهم ومخالفتهم للميثاق وعتوهم واعراضهم عنه حتى رفع عليهم الطور حتى قبلوه ثم هالفوه ولهذا قالوا سمعنا وعصينا ، " وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ " أشربوا حب العجل وعبادته حتى خلص ذلك الى قلوبهم ، وقال النبى حبك للشىء يعمى ويصم " رواه أبو داود وكان الامام على رضى الله عنه قال عمد موسى الى العجل فوضع عليه المبارد فبرده بها وهو على شاطىء نهر فما شرب أخحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل الا اصفر وجهه مثل الذهب ، " قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " كيف تدعون لأنفسكم الايمان وقد فعلتم الأفاعيل القبيحة من نقض المواثيق وكفر بايات اللع وعبادة العجل فى قديم الدهر وحديثه بكفركم بايات الله وكفركم بمحمد وهذا أكبر ذنوبكم التى تستحق الذم فقد كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث الى الناس أجمعين .

 قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)

" قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " زعم اليهود أنهم أبناء الله وأحباؤه وقالوا لن يدخل الجنة الا من كان هودا أو نصارى ولو كانوا جازمين فى ذلك فليدعوا بالموت ان كانوا صادقين فأبوا ذلك على رسول الله ، " وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ " ان الله يعلمهم بما عنده من علم أنهم لم يفعلوا ذلك ، وقال أبن جرير فى تفسيره أن النبى  قال : " لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار " ، ونظير هذه الآية فى سورة الجمعة " قل يا أيها الذين هادوا ان زعمتم أنكم أولياء لله فتمنوا الموت ان كنتم صادقين * ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين * قل ان الموت الذى تفرون منه فانه ملاقيكم ثم تردون الى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون " لما نكلوا عن زعمهم على كل أحد فانهم ظالمينلأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه لكانوا أقدموا على ذلك فلما تأخروا علم كذبهم ، وهذا كما دعا رسول الله وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم فى المناظرة وعتوهم وعنادهم الى المباهاة فقال الله تعالى " فمن حاجك من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين " فلما رأوا ذلك قال بعض القوم لبعض والله لئن باهلتم هذا النبى لا يبقى منكم عين تطرف بعد ذلك جنحوا للسلم وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون فضربها عليهم وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراخ أمينا وقال أبن عباس ان كنتم تعتقدون أنكم أولياء الله من دون الناس وأنكم أبناء الله وأحباؤه وأنكم من أهل الجنة ومن عداكم من أهل النار فباهلوا على ذلك وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم ، فلما تيقنوا ذلك وعرفوا صدقه نكلوا عن المباهلة لما يعلمون من كذبهم وافترائهم وكتمانهم الحق من صفة الرسول ونعته وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويتحققونه فعلم كل أحد باطلهم وخزيهم وعنادهم وسميت هذه المباهلة تمنيا لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر له ولا سيما اذا كان فى ذلك حجة له فى بيان حقه وظهوره وكانت المباهلة بالموت لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت ولهذا قال تعالى " وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ " ، " وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ " وهم أحرص الناس على الحياة أى على طول العمر لما يعلمون من مآلهم السىء وعاقبتهم عند الله الخاسرة لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم وما يحاذرون منه واقع بهم لامحالة حتى وهم أحرص من المشركين ، قال الحسن البصرى المنافق أحرص الناس وأحرص من المشرك على حياة  " وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا " قال أبن عباس الأعاجم ، " يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ " أى يود أحد اليهود كما يدل عليه نظم السياق أن يعمر ألف سنة ، " وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ " وما هو بمنجيه من العذاب ولو عمر ألف سنة وذلك أن المشرك لا يرجوا بعثا بعد الموت فهو يحب طول الحياة وأن اليهودى لو عرف ما له فى الآخرة من الخزى ما ضيع ما عنده من العلم وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة وليس ذلك بمغيثه من العذاب لو عمر كما عمر ابليس لم ينفعه اذا كان كافرا ، " وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ " والله خبير بصير بما يعمل عباده من خير وشر وسيجازى كل عامل بعمله .

 قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)

" قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ "من عادى جبرائيل فليعلم أنه الروح الأمين الذى نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله باذنه له فى ذلك فهو رسول من رسل الله ملكى ، ومن عادى رسولا فقد عادى جميع الرسل كما من امن برسول فانه يلزمه الايمان بجميع الرسل وكما أن من كفر برسول فانه يلزمه الكفر بجميع الرسل كما قال تعالى " ان الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، فحكم عليهم بالكفر المحقق اذا امنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم وكذلك من عادى جبرائيل فانه عدو لله لأن جبرائيل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه وانما ينزل بأمر ربه كما قال " وما نتنزل الا بأمر ربك " وقال تعالى " وانه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين " وروى البخارى عن أبى هريرة قال قال رسول الله : " من عادى لى وليا فقد بارزنى بالحرب " ولهذا غضب الله لجبرائيل على من عاداه ، قال أبن جرير الطبرى أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بنى اسرائيل اذ زعموا أن جبريل عدو لهم وان ميكائيل ولى لهم ثم اختلفوا فى السبب الذى من أجله قالوا ذلك فقال بعضهم انما كان سبب قولهم من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله فى أمر نبوته فعن أبن عباس قال حضرت عصابة من اليهود رسول الله وسألوه أربع أسئلة وكان ما قالوا " فحدثنا من وليك من الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك قال : " فان وليى جبريل ولم يبعث الله نبيا قط الا هو وليه " قالوا " فعندها نفارقك ولو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك " قال :" فما يمنعكم أن تصدقوه ؟ " قالوا : " انه عدونا " فأنزل الله عز وجل الآية فعندها باؤا بغضب على غضب " وقد رواه الامام أحمد فى مسنده ، وقال سنيد فى تفسيره عن حجاج بن محمد عن أبن حريج أخبرنى القاسم عن أبى بزه أن يهودا سألوا النبى عن صاحبه الذى ينزل عليه الوحى قال جبرائيل قالوا فانه عدو لنا ولايأتى الا بالحرب والشدة والقتال فنزلت الآية ، وقوله تعالى " فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ " أنزل جبريل القرآن مبعوثا من ربه ورسولا للوحى وهو مصدق لما كان من قبله من الكتب المتقدمة ، " وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ " وهو هدى لقلوب المؤمنين وبشرى لهم بالجنة وليس ذلك الا للمؤمنين ، كما قال تعالى " قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء " وقال تعالى " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين " وقال تعالى " مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ " يقول تعالى من عادانى وملائكتى ورسلى – ورسله تشمل رسله من الملائكة كما قال تعالى " الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس " ، " وجبريل وميكال " وهذا من باب عطف الخاص على العام فانهما دخلا فى الملائكة فى عموم الرسل ثم خصص بالذكر لأن السياق فى الانتصار لجبرائيل وهو السفير بين الله وأنبيائهوقرن معه ميكائيل فى اللفظ لأن اليهود زعموا أن جبريل عدوهم وميكائيل وليهم فأعلمهم الله تعالى أن من عادى واحدا منهما فقد عادى الآخر وعادى الله أيضا .

 وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)

" وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ "أنزلنا اليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوتك وتلك الآيات هى ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود ومكنونات سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بنى اسرائيل والنبأ عما نضمنته كتبهم التى لم يكن يعلمها الا أحبارهم وعلماؤهم وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه من أحكامهم التى كانت فى التوراة فأطلع الله فى كتابه الذى أنزله محمد بذلك الذى تعلم من الله وجاء بالآيات البينات التى وصف من غير تعلم تعلمه من بشر ولا أخذ شيئا منه عن آدمى ، يقول أبن عباس فى قوله تعالى " وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ " أنزلنا اليك آيات بينات فأنت تتلوه عليهم ةتخبرهم به غدوة وعشية وأنت عندهم أمى لم تقرأ كتابا وأنت تخبرهم بما فى أيديهم على وجهه ، يقول الله تعالى لهم فى ذلك عبرة وبيان وعليهم حجة لو كانوا يعلمون ، " أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ" قال مالك بن الصيف : " حين بعث رسول الله وذكر اليهود بما أخذ عليهم من الميثاق وما عهد اليهم فى مخمد " قالوا : " والله ما عهد الينا فى محمد وما أخذ منا ميثاقا " فأنزل الله تعالى اللآية ، " بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ " قال حسن البصرى ليس فى الأرض عهد يعاهدون عليه الانقضوه ونبذوه يعاهدون اليوم وينقضون غدا ، وقال قتادة نبذه فريق منهم أى نقضه فريق منهم ، وقال أبن جرير أصل النبذ الطرح والالقاء ومنه سمى اللقيط منبوذا ومنه سمى النبيذ وهو التمر والزبيب اذا طرحا فى الماء ، فالقوم ذمهم الله نبذهم العهود التى تقدم الله اليهم فى التمسك بها والقيا بحقها ولهذا أعقبهم ذلك التكذيب بالرسول المبعوث اليهم والى الناس فلهذا أعقبهم ذلك التكذيب بالرسول المبعوث اليهم والى الناس كافة الذى فى كتبهم نعته ووصفته وأخباره وقد أمروا فيها باتباعه ومؤازرته ونصرته كما قال " الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والانجيل " " ، " وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ " لما جاءهم رسول من عند الله وهو محمد وهو مصدق لما أنزل اليهم من قبل طرح طائفة منهم كتاب الله الذى بأيديهم مما فيه البشارة بمحمد وراء ظهورهم أى تركوها كأنهم لا يعلمون ما فيها ، " وأقبلوا على تعلم السحر واتباعه ولهذا أرادوا كيدا برسول الله وسحروه على يد لبيد بن الأعصم فأطلع الله على ذلك رسول الله وشفاه منه وأنقذه كما ثبت فى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها ، قال السدى لما جاءهم محمد عارضوه بالتوراة فخاصموه بها فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن فذلك قوله " كأنهم لا يعلمون "  وقال قتادة ان القوم كانوا يعلمون ولكنهم نبذوا علمهم وكتموه وجحدوابه ، " وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ " أى واتبعت اليهود الذين أوتوا الكتاب من بعد اعراضهم عن كتاب الله الذى بأيديهم ومخالفتهم لرسول الله ما تتلوه الشياطين أآ ما ترويه وتخبر به وتحدثه على ملك سليمان ، وقال الحسن البصرى كان السحر قبل زمان سليمان بن داود صحيحا لاشك فيه لأن السحرة كانوا فى زمان موسى عليه السلام وسليمان بن داود بعده كما قال تعالى " ألم تر الى الملأ من بنى اسرائيل من بعد موسى " وقال قوم صالح وهم قبل ابراهيم عليه السلام لنبيهم صالح عليه السلام " أنت من المسحرين " أى المسحورين ، "قال أبن عباس كان آصف كاتب سليمان عليه السلام وكان يعلم الأسم الأعظم وكان يكتب كل شىء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه فلما مات سليمان أخرجته الشياطين فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكفرا وقالوا هذا الذى كان سليمان يعمل به وقال فأكفره جهال الناس وسبوه ووقف علماء الناس فلم يزل جهال الناس يسبونه حتى أنزل الله على محمد " وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا " وقال وقال مجاهد كانت الشياطين تستمع الوحى فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مائتين مثلها فأرسل سليمان عليه السلام الى ما كتبوا من ذلك فلما توفى سليمان وجدته الشياطين وعلمته الناس وهو السحر، وقال سعيد بن جبير كان سليمان يتتبع ما فى أيدى الشياطين من السحر فأخذه منهم فدفنه تحت كرسيه فى بيت خزانته فلم تقدر الشياطين أن يصلوا اليه فدنت الى الأنس فقالوا لهم أتدرون ما العلم الذى كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك ؟ قالوا نعم قالوا فانه فى بيت خزانته وتحت كرسيه فاستأثر به الأنس واستخرجوه وعملوا به فقال أهل الحجاز كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر فأنزل الله تعالى على نبيه محمد براءة سليمان عليه السلام " وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا " ،" وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ  وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ "قال عبد الرزاق معمر عن عبيد الله بن عبد الله هاروت وماروت كانا ملكين من الملائكة فأهبطا ليحكما بين الناس وذلك أن الملائكة سخروا من حكام بنى آدم فحاكمت اليهما امرأة فحافا لها ثم ذهبا يصعدان فحيل بينهما وبين ذلك ثم خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا وقال معمر قال قتادة  فكانا يعلمان الناس السحرفأخذ عليهما ألا يعلما أحدا حتى يقولا انما نحن فتنة فلا تكفر ، وقال أسباط عن السدى أنه قال كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض فى أحكامهم فقيل لهما انى أعطيت بنى آدم عشرا من الشهوات فيها يعصوننى قال هاروت وماروت ربنا لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل فقال لهما انزلا فقد أعطيتكم تلك الشهوات العشر فاحكما بين الناس فنزلا بببابل ديناوند فكانا يحكمان حتى اذا أمسيا عرجا فاذا أصبحا هبطا فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها فأعجبهما حسنها واسمها بالعربية زهرة وبالنبطية بيدخت وبالفارسية أناهيد فقال أحدهما لصاحبه انها لتعجبنى قال الآخر قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك فقال الآخر هل لك أن أذكرها لنفسها ؟ قال نعم ، ولكن كيف لنا بعذاب الله ؟ قال الآخر انا لنرجو رحمة الله ، فلما جاءت تخاصم زوجها ذكراليها نفسها فقالت لاحى تقضيا لى على زوجى فقضيا لها على زوجها ثم واعدتهما خربة من الخراب يأتيانها فيها فأتياها لذلك ، فلما أراد الذى يواقعها قالت ما أنا بالذى أفعل حتى تخبرانى بأى كلام تصعدان الى السماء وبأى كلام تنزلان منها فأخبراها فتكلمت فصعدت فأنساها الله تعالى ما تنزل به فثبتت مكانها وجعلها الله كوكبا فكان عبد الله بن عمر كلما رأها لعنها وقال هذه التى فتنت هاروت وماروت ، فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يطيقا فعرفا الهلكة فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا فعلقا ببابل وجعلا يكلمان الناس كلامهما وهو السحر، حاصلها راجع الى أخبار بنى اسرائيل فى تفصيلها اذا ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الاسناد الى الصادق المصدوق المعصوم الذى لاينطق عن الهوى وظاهر سياق القرآن  اجمال القصة من غير بسط ولا اطناب فيها فنحن نؤمن بما ورد فى القرآن على ما أراده اللهه تعالى والله أعلم بحقيقة الحال ، عن أبن عباس قال فاذا أتاهما الآتى يريد السحر نهياه أشد النهى وقالا له انما نحن فتنة فلا تكفر وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والايمان فعرفا أن السحر من الكفر ، وعن حسن البصرى قال نعم أنزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذى ألاراد الله أن يبتلى به الناس فأخذ عليهما ميثاق أن لا يعلما أحدا حتى يقولا انما نحن فتنة فلا تكفر ، والفتنة فهى المحنة والاختبار كقوله تعالى اخبارا عن موسى عليه السلام " ان هى الا فتنتك " أى ابتلاؤك واختبارك وامتحانك تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء ، وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر ، وفى الحديث : " من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ ، وفى السنن " من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر " " يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ " يتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر ما يتصرفون به فيما يتصرفون من الأفاعيل المذمومة ما انهم ليفرقون به بين الزوجين مع ما بينهما من الخلطو والائتلاف وهذا من صنيع الشيطان ، " وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ " وما هم بضارين به من أحد الا بمشيئة الله واذنه وقال سفيان الثورى الا بقضاء الله ،أنفع ما يستعمل لاذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله فى اذهاب ذلك وهما المعوذتان ، وفى الحديث " لم يتعوذ بالمتعوذ بمثلهما وكذلك قراءة اية الكرسى فانها مطردة للشيطان " ، " وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ " يتعلمون ما يضرهم فى دينهم وليس له نع يوازى ضره ، " وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ "ولقد علم اليهود الذين استدلوا بالسحر عن متابعة الرسول لمن فعل فعلهم ذلك أنه ما له فى الآخرة من خلاق أى ما له فى الآخرة من جهة عند الله ، وقال سعد عن قتادة علم أهل الكتاب فيما عهد الله اليهم أن الساحر لا خلاق له فى الآخرة ، " وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ " ولبئس البديل ما استبدلوا به من السحر عوضا عن الايمان ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان لهم علم بما وعظوا به ، " وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ " ولو أنهم امنوا بالله ورسله واتقوا المحارم لكان مثوبة الله على ذلك خيرا لهم مما استخاروا لأنفسهم ورضوا به كما قال " ويلكم ثواب الله خيرلمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها الا الصابرون" .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ " نهى الله عباده المؤمنين أن يتشبهوا باالكافرين فى مقالهم ووفعالهم ، وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية كما يقصدونه من التنقيص ، فاذا أرادوا أن يقولوا اسمع لنا يقولوا راعنا ويورون بالرعونة قال تعالى " من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا فى الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون الا قليلا " ، وجاءت الأحاديث عنهم بأنهم كانوا اذا سلموا انما يقولون السام عليكم والسام هو الموت ولهذا أمرنا أن نرد عليهم "وعليكم " ، والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكفار قولا وفعلا فنزلت الآية ، وقى الحديث " من تشبه بقوم فهو منهم " ففيه دلالة على النهى الشديد والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار فى أقوالهم وافعالهم ولباسهم وأعيادهم وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التى لم تشرع لنا ولا نقر عليها ، وعن أبن عباس قال " راعنا " أى أرعنا سمعك ، قال أبن عباس كانوا يقولون للنبى أرعنا سمعك وانما راعنا ، وقال عطاء لاتقولوا "راعنا " ، كانت لغة تقولها الأنصار فنهى الله عنها ، وقال أبو صخر " لاتقولوا راعنا وقولوا انظرنا " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا أدبر ناداه من كانتله حاجة من المؤمنين فيقول " أرعنا سمعك " فأعظم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقال ذلك له ، قال أبن جرير والصواب من القول فى ذلك عندنا أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا انبه صلى الله عليه وسلم "راعنا " لأنها كلمة كرهها الله تعالى قال تعالى " ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم " يبين بذلك تعالى شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين الذين حذر الله تعالى من مشابهتهم للمؤمنين لقطع المودة بينهم وبينهم .

 مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)

" مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا "عن أبن عباس قال فى تفسيره ما نبدل من آية أو ما نمحو من آية ، وأصل النسخ من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة أخرى الى غيرها وكذلك مع نىنسخ الحكم الى غيره انما هو تحويله والنسخ الشرعى هو رفع الحكم بدليل شرعى متأخر وتفاصيل أحكام النسخ وذكر أنوعه وشروطه فمبسوطة فى أصول الفقه ، ويقول أبن عباس ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها ، قال الله جل ثناؤه " سنقرئك فلا تنسى " وقال " واذكر ربك اذا نسيت " ، " ما ننسخ من آية " فلا نعمل بها أو"ننسأها " أى نرجئها عندنا نأت بها أو نظيرها ، وقال السدى " نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا " نأت بخير من الذى نسخناه أو مثل الذى تركناه ، وقال قتادة أية فيها تخفيف فيها رخصة فيها أمر فيها نهى ، ويرشد عباده تعالى بهذا الى أنه المتصرف فى خلقه بما يشاء فله الخلق والأمر وهو المتصرف فكما خلقه كما يشاء ويسعد من يشاء ويشقى من يشاء ويصح من يشاء ويمرض من يشاء ويوفق من يشاء ويخذل من يشاء ، كذلك يحكم فى عباده بما يشاء فيحل ما يشاء ويحرم ما يشاء ويبيح ما يشاء ويحظر ما يشاء وهو الذى يحكم ما يريد لا معقب لحكمه ولا يسئل كما يفعل وهم يسئلون فذلك كله فى قوله " ألم تعلم أن الله على كل شىء قدير * ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير "ويختبر الله عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ فيأمر بالشىء لما فيه من المصلحة التى يعلمها الله تعالى ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى فالطاعة كل الطاعة فى امتثال أمره واتباع رسله فى تصديق ما أخبروا وامتثال ما أمروا وترك ما عنه زجروا ، وفى هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم فى دعوى استحالة النسخ اما عقلا كما زعمه بعضهم جهلا وكفر واما نقلا كما تخرصه آخرون منهم افتراء وافكا ، وقال الأمام جعفر بن جرير فى تأويل الآية ألم تعلم يامحمد أن لى ملك السموات والأرض وسلطانهما دون غيرى أحكم فيهما بما أشاء وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاءوأنهى عما أشاء وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامى التى أحكم بها فى عبادى بما أشاء اذ أشاء ، وهذا الخبر عن عظمته فانه جل ثناؤه تكذيب لليهود الذين أنكروا النسخ لاحكام التوراة وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما السلام لمجيئهما بما جاء ا به من عند الله بتغير ما غير الله من حكم التوراة فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما وأن الخلق أهل مملكته وطاعته وعليهم السمع والطاعة لأوامره ونهيه وأن له أمرهم بما يشاء ونهيهم عما يشاء ونسخ ما يشاء واقرار ما يشاء وانشاء ما يشاء من اقراره وأمره ونهيه ، ويحمل اليهود على البحثفى مسألة النسخ انما هو الكفر والعناد فانه ليس فى العقل ما يدل على امتناع النسخ فى أحكام الله تعالى مع أن ذلك وقع فى كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه ثم حرم هذاا ، وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات ثم نسخ حل بعضها ، وكان نكاح الأختين مباحا لاسرائيل وبنيه وقد حرم ذلك فى شريعة التوراة وما بعدها ، وأمر ابراهيم عليه السلام بذبح ابنه ثم نسخه قبل الفعل ، وأمر جمهور بنى اسرائيل بقتل من عبد العجل منهم ثم رفع عنهم القتل كى لا يستأصلهم القتل ، وأشياء كثيرة يطول شرحها وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه ، وكما فى كتبهم مشهورا فى البشارة والأمر باتباعه فانه يفيد وجوب متابعته وأنه لا يقبل عمل الا على شريعته ، ويبين الله تعالى جواز النسخ ردا على اليهود ، والمسلمون كاهم متفقون على جواز النسخ فى أحكام الله تعالى ومن ذلك نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم .   

 أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)

" أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ " الاستفها انكارى ، وهو عليه الصلاة والسلام رسول الله الى الجميع كما قال " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم " والمراد أن الله ذم من سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شىء على وجه التعنت كما سألت بنو اسرائيل موسى عليه السلام تعنتا وتكذيبا وعنادا ،   نهى الله تعالى المؤمنين عن كثرة سؤال النبى صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها كما قال " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء ان تبد لكم تسؤكم وان تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم " أى وان تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم ولا تسألوا عن الشىء قبل كونه فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة ، ولهذا جاء فى الصحيح " أن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شىء لم يحرم فحرم من أجل مسألته " ، وثبت فى الصحيحين " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال واضاعة المال وكثرة السؤال " ، وفى صحيح مسلم " ذرونى ما تركتكم فانما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فاذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وان نهيتكم عن شرع فاجتنبوه " ، ومن ذلك عندما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج فقال رجل أكل عام يارسول الله ؟ " فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ، ثم قال عليه السلام : " لا ولوقلت نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم " ثم قال :" ذرونى ما تركتكم " ، وقال أنس بن مالك : " نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شىء فكان يعجبنا أن يأتى الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع " ، وقال تعالى " وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ " من يشترى الكفر بالايمان فقد خرج عن الطريقالمستقيم الى الجهل والضلال فقال تعالى " ألم تر الى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار " .

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)

" وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ" يحذر الله عباده المؤمنين من سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب ويعلمهم بعداوتهم لهم فى الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو أو الاحتمال حتى يأتى أمر الله من النصر والفتح ويأمرهم باقامة الصلاة وايتاء الزكاة ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه كما قال أبن عباس كان حييى بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود العرب حسدا وكانا جاهدين فى رد الناس عن الاسلام ما استطاعا فأنزل الله فيهما الآية ، يقول أبن عباس من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئا ولكن الحسد حملهم على الجحود فعيرهم ووبخهم ولامهم أشد الملامة وشرع لنبيه محمد وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق والايمان والاقرار بما أنزل الله عليهم وما أنزل من قبلهم بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم ، " من عندأنفسهم " حسدامن قبل أنفسهم " من بعد ما تبين لهم الحق " من بعد ما تبين أن محمدارسول الله يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والانجيل فكفروا به حسدا وبغيا اذا كامن غيرهم ، " فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ"وهذا مثل قوله " ولتسمعن من الذين الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا " ، قال أبن عباس " فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ"نسخ فى قوله " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " وقوله " قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " الى قوله " وهم صاغرون "فنسخ هذا عفوه عن المشركين ويرشد الى ذلك قوله " حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ " ، وعن أسامة بن زيد قال : " كان رسول الله وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى حسب قوله تعالى" فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " وحتى أذن الله فيهم بالقتل " وقاتلوا المشركين كافة " ، " وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ " يحثهم تعالى على الاشتغال بما ينفعهم وتعود عليهم عاقبته يوم القيامة من اقام الصلاة وايتاء الزكاة حتى يمكن لهم الله النصر فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد ، " يوم لاينفع الظالمين معذرتهمولهم اللعنة ولهم سوء الدار " لهذا قال  "إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ " يعنى أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل ولا يضيع لديه سواء أكان خيرا أو شرا فانه سيجازى كل عامل بعمله كما قال " وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ ".  

 وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)

" وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى  " يبين الله اعتزاز اليهود والنصارى بما هم فيه حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة الا من كان على ملتها كما أخبر الله عنهم فى سورة المائدة " نحن أبناء الله وأحباؤه " فأكذبهم الله بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم ولو كانوا كما ادعوا لما كان الأمر كذلك وكما تقدم من دعواهم أنه لن تمسهم النار الا أياما معدودة ثم ينتقلون الى الجنة " تلك أمانيهم " أمانى تمنوها على الله بغير الحق "قل " أى يا محمد " هاتوا برهانكم " بينتكم على ذلك " إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " أى فيما تدعونه ، قال تعالى " بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ " أى من أخلص العمل لله وحده لا شريك له " وهو محسن " أى اتبع فيه الرسول ،"كما قال تعالى "فان حاجوك فقل أسلمت وجهى لله ومن اتبعن " ، فان للعمل المتقبل شرطين أحدهما أن يكون خالصا لله وحده والآخر أن يكون صوابا موافقا للشريعة ، وقال رسول الله : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " رواه مسلم ، فعمل الرهبان ومن شابههم وان فرض لأنهم مخلصون فيه لله فانه لا يتقبل منهم حتى يكون ذلك كتابعا للرسول المبعوث اليهم والى الناس كافة وقال تعالى " وقدمنا الى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءا منثورا " ، وأما ان كان العمل موافقا للشريعة فى الصورة الظاهرة ولكن لم يخلص عامله القصد لله فهو أيضا مردود على فاعله وهذا حال المرائين والمنافقين كما قال " ان المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم واذا قاموا الى الصلاة قاموا كسالى يراؤن الناس ولا يذكرون الله الا قليلا " ، وقال " ويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤن ويمنعون الماعون " ، وقال " فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " ، " فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " ضمن الله لهم على عملهم المحسن تحصيل الأجور وآمنهم مما يخافونه من المحذور فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما مضى مما يتركونه يعنى فى الآخرة يعنى لايحزنون للموت ، " وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ " يبين الله تعالى تناقضهم وتباغضهم وتعاندهم ، وقال أبن عباس لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله ﷺ أتتهم أحبار يهود فتنازعوا عند رسول الله ﷺ فقال رافع بن حرملة " ما أنتم على شىء وكفر بعيسى وبالانجيل " وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود " ما أنتم على شىء وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة " فأنزل الله الآية ، وتفسير الآية ان كلا يتلو فى كتابه تصديق من كفر به أن يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى وفى الانجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى وما جاء فى التوراة من عند الله وكل يكفر بما فى يدى صاحبه ، وقال أبى العالية والربيع أبن أنس هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد رسول الله ﷺ  وهذا القول يقتضى أن كلا من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الآخرى ولكن ظاهر سياق الآية يقتضى ذمهم فيما قالوه من علمهم بخلاف ذلك ولهذا قال تعالى " وهم يتلون الكتاب " أى وهم يعلمون شريعة التوراة والانجيل كل منهما قد كانت مشروعة فى وقت ولكنهم تجاحدوا فيما بينهم عنادا وكفرا ومقابلة للفاسد بالفاسد  ،" كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ " اختلف فيمن عنى بقوله تعال " الذين لايعلمون " قال أبن جريج قلت لعطاء من هؤلاء الذين لايعلمون ؟ قال " أمم قبل اليهود والنصارى وقبل التوراة والانجيل ، وقال السدى " هم العرب قالوا ليس محمد على شىء " ، وقال أبو جعفر بن جرير انها عامة تصلح للجميع وليس ثم دليل قاطع يعين واحدا من هذه الأقوال ، " فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ " أى أنه تعالى يجمع بينهم يوم الميعاد وفصل بينهم لقضائه العدل الذى لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة وذلك كقوله فى سورة الحج" ان الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا ان الله يفصل بينهم يوم القيامة ان الله على كل شىء شهيد " ، وكما قال " قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم " .

 وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)

" وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ " اختلف المفسرون فى المراد من الذين منعوا مساجد الله وسعوا فى خرابها والبعض أرجع ذلك الى الماضى فقال أبن عباس هم النصارى كانوا يطرحون فى بيت المقدس الأذى ويمنعون الناس أن يصلوا فيه ، وقال معمر عن قتادة هو بختنصر وأصحابه خرب بيت المقدس وأعانه النصارى ، وقال سعيد عن قتادة أولئك أعداء الله النصارى خملهم بعض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلى المجوسى على تخريب بيت المقدس ، والقول الثانى لأبن جرير قال المشركون الذين حالوا بين رسول الله يوم الحديبية وبين لأن يدخلوا مكة وقال لهم : " ما كان أحد يصد عن هذا البيت وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده " فقالوا : " لا يدخل علينا من قتل اباءنا يوم بدر وفينا باق " وقال اذا قطعوا من يعمرها بذكره ويأتيها للحج والعمرة ، وعن أبن عباس أن قريشا منعوا النبى عند الكعبة فى المسجد الحرام ، والرأى الثانى أقوى فقد روى أبن عباس لأن النصارى اذا منعت اليهود فى البيت المقدس كان دينهم أقوم من دين اليهود وكانوا أقرب منهم ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولا اذ ذاك لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى أبن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، وأيضا فانه تعالى لما وجه الذم فى حق اليهود والنصارى شرع فى أن قريشا لم تسع فى خراب الكعبة ، فأى خراب أعظم مما فعلوا ؟ أخرجوا عنا رسول الله وأصحابه واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم وقال الله فيهم " وما ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياؤه ان أولياؤه الا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون " ، وقال" ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفى النار هم خالدون * انما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش الا الله فعسى أولئك أن يكونوامن المهتدين " ، وقال " هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدى معكوفا أن يبلغ محله " ، وقال " انما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش الا الله " فاذا كان من هو كذلك مطرودا منها مصدودا عنها فأى خراب لها أعظم من ذلك ؟ وليس المراد بعمرانها زخرفتها واقامة صورتها فقط انما عمارتها بذكر الله فيها واقامة شرعه فيها ورفعها عن الدنس والشرك ، " أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ " هذا معناه الطلب أى لا تمكنوا هؤلاء اذا قدرتم عليهم من دخولها الا تحت الهدنة والجزية ولهذا كما فتح الله على رسوله مكة أمر من العام المقبل فى سنة تسع أن ينادى برحاب منى " ألا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان " تصديقا لقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا " وأوصى رسول الله أن لايبقى بجزيرة العرب دينان وأن يجلى اليهود والنصارى منها ولله الحمد والمنة وما ذاك الا تشربف أكناف المسجد الخرام وتطهير البقعة التى بعث الله فيها رسوله الى الناس كافة بشيرا ونذيرا صلوات الله عليه وسلامه وهذا هو الخزى لهم فى الدنيا ، " وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ " على ما انتهكول من حرمة البيت وأمتهنوه من نصب الأصنام حوله ودعاء غير الله عنده والظ\طواف عرايا وغير ذلك من أفعال يكرهها الله . 

وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)

" وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " كان رسول الله يصلى بمكة الى بيت المقدس والكعبة بين يديه وهذا فيه تسلية له هو وأصحابه الذين أخرجوا من مكة وفارقوا مسجدهم ومصلاهم فلما قدم المدينة توجه الى بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم صرفه الله الى الكعبة ، وعن أبنعباس قال أول ما نسخ لنا من القرآن شأن القبلة ، استقبل رسول الله بيت المقدس وترك البيت العتيق ثم صرفه الله الى بيته العتيق ونسخها فقال " ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ذلك أن رسول الله لما هاجر الى المدينة وكان أهلها اليهود أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله بضعة عشر شهرا وكان رسول الله يحب قبلة ابراهيم وكان يدعو وينظر الى السماء فأنزل الله " قد نرى تقلب وجهك فى السماء الى قوله " شطره " فارتاب من ذلك اليهود وقالوا " ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها " فأنزل الله " قل لله المشرق والمغرب " وقال " فأينما تولوا فثم وجه الله " قال أبن عباس قبلة الله أينما توجهت شرقا أو غربا ، وقال مجاهد فأينما تولوا فثم وجه الله " جيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها الكعبة ، قال أبن جرير أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض التوجه الى الكعبة وانما أنزلها ليعلم نبيه وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاؤا من نواحى المشرق والمغرب لأنهم لا يوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية الا كان جل ثناؤه فى ذلك الود\جه وتلك الناحية لأن له تعالى المشارق والمغارب وانه لايخلو منه مكان  ثم نسخ ذلك بالفرض الذى فرض عليهم التوجه الى المسجد الحرام ، قال أبن جرير ويحتمل فأينما تولوا وجوهكم فى دعائكم لى فهنالك وجهى استجيب لكم دعاءكم ، وقال أبن جريج قال مجاهد لما أنزلت " أدعونى أستجب لكم " قالوا الى أين فنزلت "فأينما تولوا فثم وجه الله " وقال معنى " ان الله واسع عليم " يسع خلقه كلهم بالكفاية والجود والافضال وعليم يعنى عليم بأعمالهم ما يغيب عليه شىء ولا يعزب عن علمه بل هو بجميعها عليم.

وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)

" وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " اشتملت هذه الآية والتى تليها الرد على النصارى وكذا من أشبههم من اليهود ومن مشركى العرب من جعل الملائكة بنات الله فأكذب الله جميعهم فى دعواهم وقولهم أن لله ولد ، رد الله على قولهم أنه اتخذ ولدا فقال تعالى " سبحانه " أى تقدس وتنزه عن ذلك علوا كبيرا وليس الأمر كما افتروا وات\نما له ملك السموات والأرض ومن فيهن وهو المتصرف فيهم وهو خالقهم ورازقهم ومقدرهم ومسخرهم ومسيرهم ومصرفهم كما يشاء والجميع عبيد له وملك له فكيف يكون له ولد منهم والولد انما يكون متولدا من شيئين متناسبين وهو تبارك وتعالى ليس له نظير ولا مشارك فى عظممته وكبريائه ولا صاحبة له فكيف يكون له ولد ؟ ، يقرر الله تعالى أنه السيد العظيم الذى لا نظير له ولا شبيه له وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة فكيف يكون له ولد ؟ ، كما قال تعالى " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا اذا " وكما قال " بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شىء وهو بكل شىء عليم " وكا قال " قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد " ، وعن أبن عباس عن النبى قال : " قال الله تعالى كذب أبن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمنى ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه اياى فيزعم أنى لا أقدر أن أعيده كما كان ، وأما شتمه اياى فقوله أن لى ولد فسبحانى أن أتخذ صاحبة أو ولدا " انفرد يه البخارى ، وفى الصجيجين عن رسول الله أنه قال : " لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله انهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم " ،" كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ " قال أبن عباس مصلين وقال عكرمة مقرون له بالعبودية وقال السدى مطيعون يوم القيامة وعن مجاهد قال مطيعون كن انسانا فكان ، وقال تعالى " ولله يسجد من فى السموات والآرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال "  " بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " أى خالقهما على غير مثال سابق ، وقال أبن جرير مبدعهما ومعنى المبدع المنشىء والمحدث ما لا يسبقه الى انشاء مثله واحداثه أحد ولذلك سمى المبتدع فى الدين مبتدعا لاحداثه فيه ما لم يسبق اليه غيره وكذلك كل محدث قولا أو فعلا لم يتقدم فيه متقدم  فان العرب تسميه مبتدعا ، ومعنى الكلام سبحان الله أن يكون له ولد وهو مالك ما فى السموان والأرض تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوحدانية وتقر له بالطاعة وهو بارئها وخالقها وموجدها من غير أصل ولا مثال هو الذى ابتع المسيح عيسى من غير والد بقدرته ، " وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ " يبين بذلك تعاى كمال قدرته وعظيم سلطانه وأنه اذا قدر أمرا وأراد كونه فانما يقول له كن فيكون أى مرة واحدة فيكون أى فيوجد على وفق ما أراد كم قال " انما أمره اذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " ، وقال " انما قولنا لشىء اذا أردناه أن نقول له كن فيكون " ، وقال " وما أمرنا الا واحدة كلمح بالبصر " ،ونبه على أنه خلق عيسى بكلمة كن فكان كما أمره الله تعال ، قال تعالى " ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " .

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)

" وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ " عن أبن عباس قال قال رافع بن حريملة لرسول الله " يا محمد ان كنت رسولا من الله كما تقول فقل لله فيكلمنا حتى نسمع كلامه فأنزل الله الآية ، قال القرطبى فى تفسير الآية لولا يكلمنا الله أى يخاطبنا بنبوتك يا محمد ، وقال أبو العالية هذا قول كفار العرب " كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ " قال أبو العالية هم اليهود والنصارى من قبل ، وقل تعالىعن مشركى العرب " واذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله " وقوله " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " الى قوله " قل سبحان ربى هل كنت الا بشرا رسولا " وقوله " قال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا " وقوله " بل يريد كل أمرىء منهم أن يؤتى صحفا منشرة " وكل ذلك الدال على كفر مشركى العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به انما هو الكفر والمعاندة كما قال من قبلهم من أهل الكتابيين وغيرهم " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة " وقوله " تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ " أى اشتبهت قلوب مشركى العرب قلوب من تقدمهم فى الكفر والعناد والعتو ،"قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ " أى قد أوضحنا الدلالات على صدق الرسل مما لا يحتاج معها الى سؤال آخر وقال تعالى "ان الذين حقت عليهم كلمة ربطك لايؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم " .

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)

” إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا " عن أبن عباس عن النبى قال " أنزلت على " انا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا " قال بشير بالجنة ونذير من النار ، " وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ " أى لا نسألك عن كفر من كفر بك قال تعلى " فذكر انما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر " أى لا تسأل عن حالهم .

 وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)

" وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ " قال أبن جرير وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبدا فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم وأقبل على رضا الله  " حيث أفرد الله على أن الكفر كله ملة واحدة كقوله " لكم دينكم ولى دين " ، " قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى " أى قل يا محمد ان هذى الله الذى بعثنى به هو الهدى يعنى هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل ، " وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ " فيه تهديد ووعيد شديد للأمة عن اتباع طرائق اليهود والنصارى بعد ما علموا من القرآن والسنة عياذا بالله من ذلك فان الخطاب مع الرسول والأمر لأمته ، " الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ " أى من أقام كتابه من أهل الكتب المنزلة على الأنبياء المتقدمين حق اقامته آمن بما أرسلتك به يا محمد كما قال تعالى " قل يا أهل الكتاب لستم على شىء حتى تقيموا التوراة والانجيل و ما أنزل اليكم من ربكم " أى اذا أقمتموها حق الاقامة وآمنتم بها حق الايمان وصدقتم ما فيها من الأخبار بمبعث محمد ونعته وصفته والأمر باتباعه ونصره ومؤزرته قادكم ذلك الى الحق واتباع الخير فى الدنيا والآخرة كما قال تعالى " الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والانجيل " وقال أبن مسعود ان حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأ كما أنزله الله ولا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله وقال الحسن البصرى يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ويكلون ما أشكل عليهم الى عالمه ، وقال أبن عباس يتبعونه حق اتباعه ، " وكما قال تعالى" وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فان أسلموا فقد اهتدوا وان تولوا فانما عليك البلاغ والله بصير بالعباد " ، وفى الصحيح " والذى نفسى بيده لايسمع بى أحد من هذه الأمة يهودى ولا نصرانى ثم لا يؤمن بى الا دخل النار " .

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)

" َا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ " تقدم نظير هذه الآية فى صدر السورة وكررت هنا للتأكيد والحث على اتباع الرسول النبى الأمى الذى يجدون صفته فى كتبهم وبعثه واسمه وأمره وأمته فحذرهم من كتمان هذا وكتمان ما أنعم به عليهم ، " وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ " وأمرهم أن يذكروا نعمة الله عليهم من النعم الدنيوية والدينية ولا يحسدون بنى عمهم من العرب على ما رزقهم الله من ارسال الرسول الخاتم منهم ولا يحملهم ذلك الحسد على مخالفته وتكذيبه والحيد عن موافقته .

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)

يقول تعالى منبها على شرف خليله عليه السلام وأن الله تعالى جعله اماما للناس يقتدى به فى التوحيد قام بما كلفه به الله تعالى من الأوامر والنواهى ، " وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ " أى واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين وأهل الكتابيين الذين ينتحلون ملة ابراهيم وليسوا عليها وانما هو الذى عليها مستقيم أذكر لهؤلاء ابتلاء الله ابراهيم أى اختباره له بما كلفه به من الأوامر والنواهى " فأتمهن " فقام بهن كلهن كما قال تعالى " وابراهيم الذى وفى " أى وفى جميع ما شرع له فعمل به وقوله " بكلمات " أى بشرائع وأوامر ونواه كما قال على مريم " وصدقت بكلمات ربها وكينه وكانت من القانتين " وتطلق ويراد بها الشريعة " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا " أى كلماته الشرعية " فأتمهن " أى قام بهن ، " قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا " أى جزاء على ما فعل كما قام بالأوامر وترك الزواجر جعله الله للناس قدوة واماما يقتدى حذوه ، وقد اختلف فى تعيين الكلمات وكان الحسن البصرى قال ابتلاه الله بذبح ولده وبالنار والكوكب والقمر والشمس فوجده صابرا ، " قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ  " لما جعل الله ابراهيم اماما سأل الله أن تكون الأئمة من بعده من ذريته فأجيب الى ذلك وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون وأنه لا ينالهم عهد الله ولا يكونون أئمة فلا يقتدى بهم ، والدليل على أنه أجيب الى طلبه قوله تعالى فى سورة العنكبوت " وجعلنا قى ذريته النبوة والكتاب " فكل نبى أرسله الله وكل كتاب أنزله الله بعد ابراهيم ففى ذريته صلوات الله عليه ، وقوله " لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ  " فقد اختلفوا فى ذلك قال مجاهد لايكون لى امام ظالم ، وكذلك قوله أما من كان منهم صالحا فأجعله اماما يقتدى به وأما من كان ظالما فلا ، أبى ابراهيم أن يكون من ذريته امام ظالم ، وقال تعالى " وباركنا عليه وعلى اسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين " يقول ليس يا ابراهيم كل ذريتك على الحق .

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)

" وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا "  قال أبن عباس لا يقضون منه وطرا يأتونه ثم يرجعون الى أهليهم ثم يعودون اليه وقال يثوبون اليه ثم يرجعون ، وقال أبن زيد يثوبون اليه من البلدان كلها ويأتونه ،" وَأَمْنًا " قال أبن عباس أى أمنا للناس ويقول أبو العالية أمنا من العدو وأن يحمل فيه السلاح وقد كانوا فى الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يسبون وقالوا من دخله كان آمنا ، وكونه مثابة للناس أى جعله محلا تشتاق اليه الأرواح وتحن اليه ولا تقضى منه وطرا ولو ترددت اليه كل عام استجابة من الله تعالى لدعاء خليله ابراهيم عليه السلام فى قوله " فاجعل أفئدة من الناس تهوى اليهم ------ ربنا وتقبل دعاء " وقال تعالى " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس " أى يدفع عنهم السوء بسبب تعظيمها ، قال أبن عباس لو لم يحج الناس هذا البيت لأطبق الله السماء على الأرض ، وقال تعالى " ان أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام ابراهيم ومن دخله كان آمنا ،" وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى " فى هذه الآية الكريمة نبه الله على مقام ابراهيم مع الأمر بالصلاة عنده واختلف المفسرون فى المراد بالمقام قال أبن عباس مقام ابراهيم الحرم كله وقال سعيد بن جبير الحجر مقام ابراهيم نبى الله قد جعله الله رحمه وقال السدى المقام الحجر الذى وضعته زوجة اسماعيل تحت قدم ابراهيم حتى غسلت رأسه وعن عمر بن الخطاب قال : وافقت ربى فى ثلاث أو وافقنى ربى فى ثلاث " قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام ابراهيم مصلى فنزلت " وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى"وقلت : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب ،قال وبلغنى معاتبة النبى بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت ان انتهين أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن حتى أتت احدى نسائه قالت :يا عمر أما فى رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت فأنزل الله " عسى ربه ان طلقكن أن يبدله أزواجا خير منكن مسلمات " ، وروى البخارى بسنده عن عمرو بن دينار قال : سمعت عمر يقول انما هو الحجر الذى كان ابراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء الكعبة لما ارتفع الجدار أتاه اسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الخجارة فيضعها بيده لرفع الجدار ، وفى رواية أبن عباس عند البخارى وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه ولم يزل هذا معروف تعرفه العرب فى جاهليتها ، وعن عائشة رضى الله عنها أن المقام كان زمن رسول الله وزمان أبى بكر رضى الله عنه ملتصقا بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب رضى الله عنه وهذا اسناد صحيح ، " وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ " قال الحسن البصرى أمرهما الله أن يطهراه من الأذى والنجس ولا يصيبه من ذلك شىء ، " أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ ِللطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ َ" قال أبن عباس من الأوثان ، وقال مجاهد أن ذلك من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس " للطائقين " الطواف معروف يعنى من أتاه من غربة ، " والعاكفين " المقيمين فيه وفسر العاكفين بأهله المقيمين فيه ، وعن عطاء قال من انتابه من الأمصار فأقام عنده ، "والرُّكَّعِ السُّجُودِ " اذا كان مصليا فهو من الركع السجود والتطهير الذى أمرهما به الله هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك ، وقيل أمرهما أن يخلصا فى بنائه لله وحده لا شريك له فيبنياه مطهرا من الشرك والريب كما قال " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير من أسس بنيانه على شفا جرف هار " وقال تعالى " واذ بوأنا لابراهيم مكان البيت أن لا تشرك بى شيئا وطهر بيتى للطائفين والقائمين والركع السجود " وقد اختلف الناس فى أول من بنى الكعبة فقيل الملائكة قبل آدم .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)

" وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا " قال رسول الله : " ان ابراهيم حرم مكة ودعا لأهلها ، وانى حرمت المدينة كما حرم ابراهيم مكة وانى دعوت فى صاعها ومدها بمثلى ما دعا به ابراهيم لأهل مكة " والأحاديث فى تحريم المدينة كثيرة ، وتحريم مكة انما كان على لسان ابراهيم الخليل وقيل أنها محرمة منذ خلقت مع الأرض ، وعن صفية بنت شيبة قالت سمعت رسول الله يخطب عام الفتح فقال : " يا أيها الناس ان الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهى حرام الى يوم القيامة لا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا يأخذ لقطتها الا منشد " ، " وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ " يدعو ابراهيم عليه السلام أن يرزق الله أهله من الثمرات من آمن بالله واليوم الآخر ومن كفر فأمتعه قليلا أى أرزقه رزقا قليلا ثم أضطره الى عذاب النار وبئس المصير يقول الله " كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا " ، وقال " ومن كفر فلا يحزنك كفره الينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا ان الله عليم بذات الصدور * نمتعهم قليلا ثم نضطرهم الى عذاب غليظ " ، " ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ " أى ثم ألجئه بعد متاعه فى الدنيا وبسطنا عليه من ظلها الى عذاب النار وبئس المصير ، " وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ " القواعد جمع قاعدة وهى السارية والاساس يقول تعالى واذكر يا محمد لقومك بناء ابراهيم واسماعيل عليهما السلام البيت ورفعهما القواعد منه وهما يقولان " رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما وهذا حال المؤمنين مشفقون أن لا يتقبل منهم ، كما ورد فى المؤمنين الخلص " والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة " أى يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقربات وقلوبهم خائفة أن لا تقبل منهم ، وفى هذا السياق ما يدل على أن قواعد البيت كانت مبنية قبل ابراهيم وانما هدى ابراهيم اليها وبؤى لها ، وعن قتادة قال وضع الله البيت مع آدم حينما أهبط الله آدم الى الأرض  ، " رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ " قال ابن جرير يعنيان بذلك واجعلنا مستسلمين لأمرك خاضعين لطاعتك لا نشرك معك فى الطاعة أحد سواك ولا فى العبادة غيرك ، وقيل مخلصين لك ، وعن سلام بن أبى مطيع " رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ " قال كانا مسلمين ولكنهما سألاه الثبات " وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ " قال السدى يعنيان العرب وقال أن السياق فى العرب ولهذا قال بعده " " ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم " والمراد بذلك محمد وقد بعث فيهم " هو الذى بعث قى الأميين رسولا منهم " وهذا لا ينفى رسالته الى العالم كله " قل يا ايها الناس انى رسول الله اليكم جميعا "  ، والصواب أنه يعم العرب وغيرهم لأن من ذرية ابراهيم بنى اسرائيل ، وقال تعالى " ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " ، ومن تمام محبة عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ، " وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا " أخرجها لنا وعلمناها ، " وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ " وهما يطلبان من الله التوبة وهى ما يطلبها كل مؤمن يخشى ربه فكل البشر معرض للخطاء فكل بنى آدم خطائين وخير الخطائين التوابين فهو الله التواب الذى يقبل التوبة من عباده وهو الرحيم بهم وسعت رحمته كل شىء .

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)

" رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ "يقول الله تعالىاخبارا عن تمام دعوة ابراهيم لأهل الحرم أن يبعث الله فيهم رسولا منهم أى من ذرية ابراهيم عليه السلام ، وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق فى تعيين محمد رسولا فى الأميين اليهم والى سائر الانس والجن ، " وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ " ويعلمهم الكتاب يعنى القرآن والحكمة يعنى السنة ، " وَيُزَكِّيهِمْ " عن أبن عباس قال طاعة الله والاخلاص ، " إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " أى العزيز الذى لا يعجزه شىء وهو قادر على كل شىء الخكيم فى أفعاله وأقواله فيضع الأشياء فى محالها وحكمته وعدله .

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)

" وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ" أى من يبعد عن ملة ابراهيم فقد ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق الى الضلال حيث خالف طريق من اصطفى فى الدنيا للهداية والرشاد من حداثة سنه الى أن اتخذه الله خليلا وهو فى الآخرة من الصالحين السعداء فمن ترك طريقه ومسلكه وملته واتبع طريق الضلال والغى فهذا سفه وظلم للنفس فقال " ان الشرك لظلم عظيم " ، وقال أبو العالية وقتادة نزلت هذه الآية فى اليهود أحدثوا طريقا ليست من عند الله وخالفوا ملة ابراهيم فيما أحدثوه يقول تعالى " ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين * ان أولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه وهذا النبى والذين آمنوا والله ولى المؤمنين" ،" إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ " أمره الله نعالى بالاخلاص له والاستسلام والانقياد فاجاب الى ذلك ، " وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ " وصى بهذه الملة وهى الاسلام لله بنيه ويعقوب " اسلمت لرب العالمين " لحرصهم على الاسلام ومحبتهم له حافظوا عليه الى حين الوفاة ووصوا أبناءهم به من بعدهم كقوله " وجعلها كلمة باقية فى عقبه يا بنى ان الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن الا وأنتم مسلمون " أى احسنوا فى حال الحياة والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه فان المرء يموت غالبا على ما كان عليه ويبعث على ما مات عليه .                                                    

أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)

" أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي " يقول تعالى محتجا على المشركين من العرب أبناء اسماعيل وعلى الكفار من بنى اسرائيل وهو يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم عليه السلامبأن يعقوب لما حضرته الوفاة وصى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له فقال لهم " مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ " هذا من التغليب لأن اسماعيل عم يعقوب فكيف يدخل فى الآباء قال النحاس العرب تسمى العم أبا واستدل بهذه الآية من جعل الجد أبا وحجب به الأخوة ، "آلها واحدا " أى نوحده باالوهية ولا نشرك به شيئا غيره ، " ونحن له مسلمون " أى مطيعون خاضعون كما قال تعالى " وله أسلم من فى السموات والأرض طوعا وكرها واليه يرجعون " والاسلام هو ملة الأنبياء قاطبة وان تنوعت شرائعهم واختلفت مناهجهم كما قال " وما أرسلنا من قبلك من رسول الا نوحى اليه أنه لا اله الا انا فاعبدون " وقال النبى : " نحن معشر الأنبياء أولاد عالات ديننا واحد " ، " تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ " أى مضت وقال أبو العالية والربيع وقتادة " تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ " يعنى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط ، " لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ " أى أن السلف الماضيين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لاينفعكم انتسابكم اليهم اذا لم تفعلوا خيرا يعود نفعه عليكم فان لهم أعمالهم التى عملوها ولكم أعمالكم  .

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)

" وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا " عن أبن عباس قال قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله ما الهدى الا ما نحن عليه فاتبعنا محمد تهتد ، وقالت النصارى مثل ذلك فأنزل الله عز وجل الآية ، " قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " أى لا نريد ما دعوتمونا اليه من اليهودية والنصرانية بل نتبع ملة ابراهيم حنيفا أى مستقيما ، قال أبو قلابة الحنيف الذى يؤمن بالرسل كلهم من أولهم الى آخرهم ،" قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ " أرشد الله تعالى عباده المؤمنين الى الايمان بما أنزل اليهم بواسطة رسول الله مفصلا وما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملا ونص على أعيان من الرسل وأجمل ذكر بقية الأنبياء وأن لايفرقوا بين أحد منهم بل يؤمنوا بهم كلهم ويكونوا كمن قال الله فيهم " ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا " ، قال قنادة " الأسباط " بنو يعقوب اثنا عشر رجلا ولد كل رجل منهم أمة من الناس فسموا الأسباط ، وقال الزمخشرى الأسباط حفدة يعقوب ذرارى أبنائه الأثنى عشر ، وقال البخارى الأسباط قبائل فى بنى اسرائيل ، وقال تعالى " وقطعناهم اثنتى عشرة أسباطا " ، وقال القرطبى سموا الأسباط من السبط وهو التتابع فهم جماعة ، أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا به ويصدقوا بكتبه كلها ورسله قال رسول الله : " آمنوا بالتوراة والزبور والانجيل وليسعكم القرآن " .

فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)

" فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"يقول تعالى فان آمن الكفار من أهل الكتاب وغيرهم بمثل ما آمنتم به يا أيها المؤمنون من الايمان بجميع كتب الله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم فقد اهتدوا أى فقد أصابوا الحق وأرشدوا اليه وزان تولوا أى عن الحق الى الباطل بعد قيام الحجة عليهم فانما هم فى شقاق أى خلاف شديد وبعد عن الحق فسينصرك عليهم الله ويظفرك بهم وهو السميع العليم ، " صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ " قال أبن عباس صبغة الله دين الله ولا يوجد أفضل من دين الله الذى نتبعه ونستمر على اتباعه لعبادة الله . 

 قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)

" قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ " يرشد الله تعالى نبيه الى درء مجادلة المشركين فيقول لرسوله قل للمشركين اتناظرونا فى توحيد الله والاخلاص له والانقياد واتباع أوامره وترك زواجره والله هو ربنا المتصرف فينا وفيكم المستحق لاخلاص الألوهية له وحده لاشريك له ونحن برآء منكم ومما تعبدون كما أنتم برآء منا ونحن مخلصون له فى العبادة والتوجه كما قال تعالى " فان كذبوك فقل لى عملى ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برىء مما تعملون " وكما قال " فان حاجوك فقل أسلمت وجهى لله ومن اتبعن "  ، " أمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّه " ُأنكر الله على اليهود والنصارى دعواهم أن ابراهيم ومن ذكره من بعده من الأنبياء اسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط كانوا على ملتهم أما اليهودية وأما النصرانية وقال تعالى" ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين " ، " وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ "قال الحسن البصرى كانوا يقرؤن فى كتاب الله الذى أتاهم ان الدين عند الله الاسلام وان محمدا رسول الله وان ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط كانوا برآء من اليهودية والنصرانية فشهدوا لله بذلك وأقروا على أنفسهم لله فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك ،  "وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ " تهديد ووعيد شديد أى أن علمه محيط بعملكم وسيجزيكم عليه ، " تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ " هذه أمة قد مضت لهم أعمالهم ولكم أعمالكم ،" وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ " وليس يغنى عنكم انتسابكم اليهم من غير متابعة منكم لهم ولا تفتروا بمجرد النسبة اليهم حتى تكونوا منقادين مثلهم واتباع رسله فان من كفر بنبى واحد فقد كفر بسائر الرسل ولاسيما بسيد الأنبياء والمرسلين وخاتم النبيين ورسول رب العالمين جميعا

  


No comments:

214- ] English Literature

214- ] English Literature D. H. Lawrence Summary D.H. Lawrence (1885-1930)  is best known for his infamous novel 'Lady Chatterley'...