تبسيط تفسير أبن كثير للقرآن الكريم ( 16 )
تفسير الجزء السادس عشر
سورة الكهف
قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ
مَعِيَ صَبۡرٗا ٧٥ قَالَ إِن سَأَلۡتُكَ عَن شَيۡءِۢ بَعۡدَهَا فَلَا
تُصَٰحِبۡنِيۖ قَدۡ بَلَغۡتَ مِن لَّدُنِّي عُذۡرٗا ٧٦
"
قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا "
يستمر موسى عليه السلام مع الخضر عليه السلام متبعا له حتى رآه يقتل غلاما فاستنكر
منه ذلك فذكره بالشرط الأول أن لا يتدخل ويصبر حتى يخبره هو ولكنه تدخل للمرة
الثانية عندما رآه يقتل الغلام ، " قَالَ إِن سَأَلۡتُكَ عَن شَيۡءِۢ
بَعۡدَهَا فَلَا تُصَٰحِبۡنِي " فرد عليه موسى عليه السلام أنه اذا اعترض
عليه بشىء بعد هذه المرة أن يتركه ولا يصاحبه
، " قَدۡ بَلَغۡتَ مِن لَّدُنِّي عُذۡرٗا " قد
اعذرتنى مرة بعد مرة ، وعن أبى كعب قال كان النبى صلى الله عليه وسلم اذا ذكر أحدا
فدعا له بدأ بنفسه فقال ذات يوم " رحمة الله علينا وعلى موسى لو لبث مع صاحبه
لبصر العجب ولكنه قال ان سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبنى قد بلغت من لدنى عذرا
" .
فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَيَآ أَهۡلَ
قَرۡيَةٍ ٱسۡتَطۡعَمَآ أَهۡلَهَا فَأَبَوۡاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا
فِيهَا جِدَارٗا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُۥۖ قَالَ لَوۡ
شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَيۡهِ أَجۡرٗا ٧٧ قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيۡنِي وَبَيۡنِكَۚ
سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِيلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرًا ٧٨
"
فَٱنطَلَقَا " انطلقا بعد المرتين الأوليين ، " حَتَّىٰٓ إِذَآ
أَتَيَآ أَهۡلَ قَرۡيَةٍ " حتى ذهبا الى قرية أهلها بخلاء ،
" ٱسۡتَطۡعَمَآ أَهۡلَهَا
" طلبا طعاما من أهلها ، " فَأَبَوۡاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا " رفض
أهل هذه القرية أن يضيفوهما أى يعطياهما حق الضيافة ، " فَوَجَدَا فِيهَا
جِدَارٗا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ "
وجد الخضر عليه السلام فى هذه القرية حائطا آيل للسقوط فرده وأصلحه الى حالة
الاستقامة ويقال أنه رده بيده ودعمه حتى رد ميله وهذا خارق ، " قَالَ لَوۡ
شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَيۡهِ أَجۡرٗا " عندئذ قال موسى لماذ
لا تأخذ عليه أجرا وهم لم يضيفوننا كان ينبغى الا تعمل لهم مجانا ، " قَالَ
هَٰذَا فِرَاقُ بَيۡنِي وَبَيۡنِكَ " عند ذلك قال الخضر لموسى هنا نفترق لأنك
شرطت عند قتل الغلام أنك ان سألتنى عن شىء بعدها فلا تصاحبنى فهو فراق بينى وبينك
،
" سَأُنَبِّئُكَ
بِتَأۡوِيلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرًا " والآن سأخبرك بتفسير ما
لم تصبر على تفسيره .
أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَٰكِينَ
يَعۡمَلُونَ فِي ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٞ يَأۡخُذُ كُلَّ
سَفِينَةٍ غَصۡبٗا ٧٩
يفسر
الخضر عليه السلام ما أشكل أمره على موسى عليه السلام وما كان أنكر ظاهره وقد أظهر
الله الخضر عليه السلام حكمه باطنة " أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتۡ
لِمَسَٰكِينَ يَعۡمَلُونَ فِي ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا " ان
السفينة خرقها ليعيبها لأنها كانت مملوكة لفققراء يعملون فى البحر ويكتسبون منها
قوتهم ، " وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٞ يَأۡخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصۡبٗا
"كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة كان يستول ظلما على كل سفينة صالحة جيدة
فأردت أن أعيبها لأرده عنها لعيبها فينتتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم
شىء ينتفعون به غيرها .
وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ
مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا ٨٠ فَأَرَدۡنَآ أَن
يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا ٨١
" وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ
أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا "
قال الخضر عليه السلام أن الغلام الذى قتله كان كافرا وعن أبى بن كعب عن النبى صلى
الله عليه وسلم قال " الغلام الذى قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا " وكان
أبواه مؤمنين وكانا يحبانه وكان يمكن أن يحملهما حبه على متابعته على الكفر ، قال
قتادة قد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل ولو بقى لكان فيه هلاكهما فليرض
أمرؤ بقضاء الله فان قضاء الله للمؤمن فيما يكره خيرله من قضائه فيما يحب وصح فى
الحديث " لا يقضى الله لمؤمن قضاء الا كان خيرا له " وقال تعالى "
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم " ، " فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا
رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا " وارادة الله التى نفذتها أنه يريد أن يبدلهما ولدا
أزكى من هذا أى أبر بوالديه وهما أرحم به منه وقال جريج لما قتله الخضر كانت أمه
حاملا بغلام مسلم .
وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ
فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ
أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا
فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا ٔ لَمۡ
تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا ٨٢
" وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ
يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ "الجدار كان يملكه غلامين يتيمين فى هذه البلدة
و فى هذه الآية دليل على اطلاق القرية على المدينة لأنه قال أولا " حتى اذا
أتيا أهل قرية " وقال هنا " فكان لغلامين فى المدينة " وكما فى
قوله " فكأين من قرية هى أشد قوة من قريتك التى أخرجتك " وكما فى قوله
" وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " يعنى مكة
والطائف ، وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا " وانما أصلحته لأنه كان تحته كنز لهما أى مال مدفون
لهما ، " وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا " كان أبو هاذين الغلامين رجلا صالحا وفيهدليل على أن الرجل
الصالح يحفظ فى ذريته وتشمل بركة عبادته لهم فى الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم ورفع
درجتهم الى أعلى درجة فى الجنة لتقر عينه بهم ، " فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن
يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَ "والله
حفظهما بصلاح ابيهما ولم يذكر لهما صلاحا فالله تعالى وحده برحمته هو الذى رعاهما
حتى يبلغا الحلم لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه أحد الا الله " وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ "
ما فعلت ذلك فى المرات الثلاث من نفسى بل بوحى وأمر من الله عز وجل ، " ذَٰلِكَ
تَأۡوِيلُ مَا ٔ لَمۡ تَسۡطِع
عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا " وهذا هو تفسير ما لم تصبر على تفسيره وضقت به ذرعا ولم تصبر
حتى أخبرك به ابتداء .
وَيَسَۡلُونَكَ عَن ذِي ٱلۡقَرۡنَيۡنِۖ قُلۡ
سَأَتۡلُواْ عَلَيۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا ٨٣ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُۥ فِي ٱلۡأَرۡضِ
وَءَاتَيۡنَٰهُ مِن كُلِّ شَيۡءٖ سَبَبٗا ٨٤
بعث كفار مكة الى أهل الكتاب يسألون منهم ما يمتحنون به النبى صلى الله عليه وسلم فقالوا سلوه عن رجل طواف فى الأرض وعن فتية لا يدرى ما صنعوا وعن الروح فنزلت سورة الكهف وذو القرنين هذا المذكور فى القرآن فكان فى زمن الخليل كما ذكره الأزرقى وغيره وأنه طاف مع الخليل عليه السلام بالبيت العتيق لما بناه ابراهيم عليه السلام وقرب الى الله قربانا وورد تناوله فى كتاب " البداية والنهاية " لأبن كثير ويقال أنه سمى ذا القرنين لأنه بلغ المشارق والمغارب من حيث يطلع قرن الشمس ويغرب أو لأنه بلغ قرنى الشمس مشرقها ومغربها ، يقول الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم " وَيَسَۡلُونَكَ عَن ذِي ٱلۡقَرۡنَيۡنِ " يسألونك يا محمد عن خبر ذى القرنين ، " قُلۡ سَأَتۡلُواْ عَلَيۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا " أخبرهم أنى سأتحدث اليكم عن سيرته بما علمنى ربى وما أنزل على من الذكر ، " إِنَّا مَكَّنَّا لَهُۥ فِي ٱلۡأَرۡضِ " أعطاه الله ملكا عظيما فى الأرض ممكنا فيه من جميع ما يؤتى الملوك من التمكين والجنود وآلات الحرب والحصارات ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض ودانت له البلاد وخضعت له ملوك العباد وخدمته الأمم ،" وَءَاتَيۡنَٰهُ مِن كُلِّ شَيۡءٖ سَبَبٗا " وآتاه الله منازل الأرض وأعلامها ويسر الله الأسباب أى الطرق والوسائل الى فتح الأقاليم وكسر الأعداء واذلال أهل الشرك قد أوتى من كل شىء مما يحتاج اليه مثله .
فَأَتۡبَعَ سَبَبًا ٨٥ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَغۡرِبَ
ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَغۡرُبُ فِي عَيۡنٍ حَمِئَةٖ وَوَجَدَ عِندَهَا
قَوۡمٗاۖ قُلۡنَا يَٰذَا
ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمۡ حُسۡنٗا ٨٦ قَالَ أَمَّا مَن
ظَلَمَ فَسَوۡفَ نُعَذِّبُهُۥ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِۦ فَيُعَذِّبُهُۥ
عَذَابٗا نُّكۡرٗا ٨٧ وَأَمَّا مَنۡ
ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُۥ جَزَآءً ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَسَنَقُولُ لَهُۥ
مِنۡ أَمۡرِنَا يُسۡرٗا ٨٨
" فَأَتۡبَعَ
سَبَبًا " قال أبن عباس اتبع السبب المنزل وما أعطاه الله وقال سعيد بن جبير
علما ، " حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَغۡرِبَ ٱلشَّمۡسِ " فسلك طريقا حتى
وصل الى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية الغرب وهومغرب الأرض ، "
وَجَدَهَا تَغۡرُبُ فِي عَيۡنٍ حَمِئَة" ووصل حتى رأى الشمس فى منظره تغرب فى البحر المحيط وقيل أن هذه النقطة عند خط الأستواء حيث تكون
الشمس شديدة الحرارة ، " وَوَجَدَ عِندَهَا قَوۡمٗا " فى هذه
المنطقة وجد أمة من الأمم ،" قُلۡنَا يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِمَّآ أَن
تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمۡ حُسۡنٗا " مكنه الله منهم
وحكمه فيهم وأظفره بهم وخيره أن يفعل فيهم ما يشاء والله جعل فى قلبه الايمان
والحكمة وعرف عدله وايمانه وما أبداه من عدله وبيانه ، " قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوۡفَ نُعَذِّبُهُۥ
ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِۦ فَيُعَذِّبُهُۥ عَذَابٗا نُّكۡرٗا " فقرر ذو
القرنين أن من استمر على كفره وشركه بربه فسوف يعذبه على ذلك فى الدنيا ويعذبه
الله فى الآخرة عذابا شديدا منكرا وجيعا أليما فى جهنم ، " وَأَمَّا مَنۡ
ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُۥ جَزَآءً ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَسَنَقُولُ لَهُۥ مِنۡ أَمۡرِنَا
يُسۡرٗا " ومن تبعنا على
ما ندعوه اليه من عبادة الله وحده لا شريك له وصدقه بالعمل الصالح فالله سيؤتيه
أجره فى الدار الآخرة ونحن من جانبنا سنعامله بالحسنى واللين واليسر قولا وفعلا .
ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا ٨٩ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ
مَطۡلِعَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَطۡلُعُ عَلَىٰ قَوۡمٖ لَّمۡ نَجۡعَل لَّهُم
مِّن دُونِهَا سِتۡرٗا ٩٠ كَذَٰلِكَۖ وَقَدۡ أَحَطۡنَا بِمَا لَدَيۡهِ خُبۡرٗا ٩١
"
ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا " يقول تعالى ثم سلك طريقا ، " حَتَّىٰٓ إِذَا
بَلَغَ مَطۡلِعَ ٱلشَّمۡسِ " فسار من مغرب الشمس حت انتهى الى مطلع الشمس
وكان كلما مر بأمة قهرهم وغلبهم ودعاهم الى الله عز وجل حتى يطيعوه والا أذلهم
وأرغم أنوفهم واستباح أموالهم واستخدم منكل أمة ما تستعين به جيوشه على قتال
الأقاليم المتاخمة لهم ، " وَجَدَهَا تَطۡلُعُ عَلَىٰ قَوۡمٖ لَّمۡ
نَجۡعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتۡرٗا " وصل الى
موضع حيث تطلع الشمس على أمة لا تغرب الشمس عنهم أبدا يوما من الأيام وقال قتادةهم
الزنج ، " كَذَٰلِكَۖ وَقَدۡ أَحَطۡنَا بِمَا لَدَيۡهِ خُبۡرٗا "
قال مجاهد والسدى واستمر فيما هو فيه والله مطلع على جميع أحواله وأحوال جيشه لا
يخفى عليه منها شيىء .
ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا ٩٢ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ
بَيۡنَ ٱلسَّدَّيۡنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوۡمٗا لَّا يَكَادُونَ
يَفۡقَهُونَ قَوۡلٗا ٩٣ قَالُواْ يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِنَّ يَأۡجُوجَ
وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا عَلَىٰٓ أَن
تَجۡعَلَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَهُمۡ سَدّٗا ٩٤ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيۡرٞ فَأَعِينُونِي
بِقُوَّةٍ أَجۡعَلۡ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُمۡ رَدۡمًا ٩٥ ءَاتُونِي زُبَرَ
ٱلۡحَدِيدِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا سَاوَىٰ بَيۡنَ ٱلصَّدَفَيۡنِ قَالَ ٱنفُخُواْۖ
حَتَّىٰٓ إِذَا جَعَلَهُۥ نَارٗا قَالَ ءَاتُونِيٓ أُفۡرِغۡ عَلَيۡهِ قِطۡرٗا ٩٦
" ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا " يقول الله نعالى مخبرا عن ذى القرنين أنه سلك طريقا من مشارق الأرض ، " حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ بَيۡنَ ٱلسَّدَّيۡنِ " حتى وصل الى بين السدين وهما جبلان متناوحان بينهما ثغرة يخرج منها يأجوج ومأجوج ، " وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوۡمٗا لَّا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ قَوۡلٗا " وجد فى هذا المكان قوما لا يفهمون أحدا لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس ، " قَالُواْ يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِنَّ يَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا " قال هؤلاء القوم لذى القرنين أن هناك قوم هم يأجوج ومأجوج قوم مفسدون يدمرونما يقابلهم على الأرض ويرتكبون فيها على الجرائم والفساد وأنهم على استعداد أن يقدموا له الخراج أى أن يجمعوا له من بينهم مالا يعطونه اياه ، " عَلَىٰٓ أَن تَجۡعَلَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَهُمۡ سَدّٗا " يستغل هذا المال ليبنى لهم سدا يحميهم من يأجوج ومأجوج ، " قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيۡر" فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير ان الذى أعطانى الله من الملك والتمكين خير لى من الذى تجمعونه وتبذلونه كما قال سليمان عليه السلام " أتمدونن بمال فما آتانى الله خير مما آتاكم " ، " فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجۡعَلۡ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُمۡ رَدۡمًا " لكن ساعدونى بقوة أى بعملكم وآلات البناء حتى أردم ما بينكم وبينهم ، " ءَاتُونِي زُبَرَ ٱلۡحَدِيدِ " طلب منهم أن يمدوه بزبر الحديد والزبر جمع زبرة وهى القطعة منه ، "حَتَّىٰٓ إِذَا سَاوَىٰ بَيۡنَ ٱلصَّدَفَيۡنِ " حتى اذا وضع بعضه على بعض من الأساس حتى اذا حادى بين رءوس الجبلين طولا وعرضا ، " قَالَ ٱنفُخُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا جَعَلَهُۥ نَارٗا " أجج عليه النار حتى صار كله نار مشتعلة منصهرة " قَالَ ءَاتُونِيٓ أُفۡرِغۡ عَلَيۡهِ قِطۡرٗا "طلب منهم أن يذيب مع الحديد القطر وهو النحاس المذاب كما فى قوله " وأسلنا له عين القطر " أى كون سبيكة قويم من المعدن ونحن فى عصرنا الحالى هناك علم قائم بالمعادن والسبائك .
فَمَا ٱسۡطَٰعُوٓاْ أَن يَظۡهَرُوهُ وَمَا
ٱسۡتَطَٰعُواْ لَهُۥ نَقۡبٗا ٩٧ قَالَ هَٰذَا رَحۡمَةٞ مِّن رَّبِّيۖ فَإِذَا
جَآءَ وَعۡدُ رَبِّي جَعَلَهُۥ دَكَّآءَۖ وَكَانَ وَعۡدُ رَبِّي حَقّٗا ٩٨ ۞وَتَرَكۡنَا
بَعۡضَهُمۡ يَوۡمَئِذٖ يَمُوجُ فِي بَعۡضٖۖ وَنُفِخَ فِي
ٱلصُّورِ فَجَمَعۡنَٰهُمۡ جَمۡعٗا ٩٩
" فَمَا ٱسۡطَٰعُوٓاْ أَن يَظۡهَرُوهُ وَمَا ٱسۡتَطَٰعُواْ لَهُۥ نَقۡبٗا " يقول تعالى مخبراعن يأجوج ومأجوج أنهم ما قدروا أن يصعدوا من فوق هذا السد ولا قدروا عل نقبه أى على أن يهدموه أو يثقبوه من أسفله وعن أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ان يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى اذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذى عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا فيعودون اليه كأشد ما كان حتى اذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى اذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذى عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا ان شاء الله فيستثنى فيعودون بسهامهم الى السماء فترجع وعليها كهيئة الدم فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله عليهم نغفا فى رقابهم فيقتلهم بها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذى نفس محمد بيده ان دواب الأرض لتسمن وتشكر شكرا من لحومهم ودمائهم " وعن زينب بنت جحش زوج النبى صلى الله عليه وسلم قالت استيقظ النبى صلى الله عليه وسلم من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول " لا اله الا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا " وحلق قلت : يارسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال " نعم اذا كثر الخبث " هذا حديث صحيح اتفق البخارى ومسلم على اخراجه ، " قَالَ هَٰذَا رَحۡمَةٞ مِّن رَّبِّي " لما بنى ذو القرنين السد وأقام الردم قال هذا ما فعلناه من ردم رحمة من ربى بالناس حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلا يمنعهم من العبث فى الأرض والفساد ، " فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ رَبِّي " اذا اقترب الوعد الحق وهو يوم القيامة ، " جَعَلَهُۥ دَكَّآءَ " ساواه الله بالأرض كقوله " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا " أىجعاه مساويا للأرض وقال عكرمة جعله الله طريقا كما كان ، " وَكَانَ وَعۡدُ رَبِّي حَقّٗا " ووعد الله وهو يوم القيامة كائن لا محالة ، " وَتَرَكۡنَا بَعۡضَهُم يَوۡمَئِذٖ يَمُوجُ فِي بَعۡض ۡ" يوم يدك السد ويخرج هؤلاء فيموجون فى الناس ويفسدون على الناس أموالهم ويتلفون أشياءهم وهذا كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال وقال أبن عباس أيضا الانس والجن يموج بعضهم فى بعض ، " وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ " بعد ذلك ينفخ فى الصور والصور كما جاء فى الحديث قرن ينفخ فيه والذى ينفخ فيه اسرافيل عليه السلام ، " فَجَمَعۡنَٰهُمۡ جَمۡعٗا " فيحشر الناس الى يوم الحساب يوم القيامة كما قال تعالى " قل ان الأولين والآخرين لمجموعون الى ميقات يوم معلوم " وكقوله " وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا " .
وَعَرَضۡنَا جَهَنَّمَ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡكَٰفِرِينَ
عَرۡضًا ١٠٠ ٱلَّذِينَ كَانَتۡ أَعۡيُنُهُمۡ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكۡرِي وَكَانُواْ
لَا يَسۡتَطِيعُونَ سَمۡعًا ١٠١ أَفَحَسِبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن يَتَّخِذُواْ
عِبَادِي مِن دُونِيٓ أَوۡلِيَآءَۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ
نُزُلٗا ١٠٢
"
وَعَرَضۡنَا جَهَنَّمَ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡكَٰفِرِينَ عَرۡضًا " يقول الله تعالى مخبرا عما
يفعله بالكفار يوم القيامة الله يعرض عليهم عليهم جهنم أى يبرزها لهم ويظهرها
ليروا ما فيها من العذاب والنكال قبل دخولها ليكون ذلك أبلغ فى تعجيل الهم والحزن
لهم وفى صحيح مسلم عن أبن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يؤتى
بجهنم تقاد يوم القيامة بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك " ، "
ٱلَّذِينَ كَانَتۡ أَعۡيُنُهُمۡ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكۡرِي " الذين كفروا هم
الذين تغافلوا وتعاموا وتصامموا عن قبول الهدى واتباع الحق كما قال " ومن يعش
عن ذكر الرجمن نقيض له شيطانا فهو له قرين " ، " وَكَانُواْ لَا يَسۡتَطِيعُونَ سَمۡعًا "
وكان الكافرون لا يعقلون عن أمر الله ونهيه ولا يسمعون الى ما قيل لهم من الحق ،
" أَفَحَسِبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِيٓ
أَوۡلِيَآءَ " أعتقد الكفار أنهم يصلح لهم أن يتخذوا لهم أولياء من دون الله
ينصرونهم ،" إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ نُزُلٗا " أعد
الله لهم جهنم يوم القيامة منزلا ومقاما لهم .
قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِينَ أَعۡمَٰلًا
١٠٣ ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ
أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا ١٠٤ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ
رَبِّهِمۡ وَلِقَآئِهِۦ فَحَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فَلَا نُقِيمُ لَهُمۡ يَوۡمَ
ٱلۡقِيَٰمَةِ وَزۡنٗا ١٠٥ ذَٰلِكَ جَزَآؤُهُمۡ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ
وَٱتَّخَذُوٓاْ ءَايَٰتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ١٠٦
" قُلۡ
هَلۡ نُنَبِّئُكُم " قل يامحمد ألا أخبركم ، " بِٱلۡأَخۡسَرِينَ
أَعۡمَٰلًا " عن من هم أكثر الناس خسارة فى أعمالهم الذين يخسرون الدنيا
والآخرة من عباده والآية عامة فى كل من عبد الله على غير طريقة مرضية ، " ٱلَّذِينَ
ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ
يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا " الذين عملوا أعمالا باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية
مقبولة وهم يحسبون أنهم مصيبون فى عملهم فى الدنيا وأن عملهم مقبول وهم مخطئون وعملهم مردود ، " أُوْلَٰٓئِكَ
ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ وَلِقَآئِهِ" هؤلاء
الذين جحدوا آيات الله فى الدنيا وبراهينه التى أقام على وحدانيته وصدق رسله
وكذبوا بالدار الآخرة ، " فَحَبِطَتۡ
أَعۡمَٰلُهُمۡ" خابت أعمالهم وخسروا ، فَلَا نُقِيمُ لَهُمۡ يَوۡمَ
ٱلۡقِيَٰمَةِ وَزۡنٗا " لا تثقل موازينهم لأنها خالية عن الخير وعن أبى
هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ليأتى الرجل
العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال - اقرءوا ان شئتم
" فَلَا نُقِيمُ لَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَزۡنٗا "
،" ذَٰلِكَ جَزَآؤُهُمۡ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَٱتَّخَذُوٓاْ ءَايَٰتِي
وَرُسُلِي هُزُوًا " انما جزاء هؤلاء جهنم جازاهم الله بهذا الجزاء بسبب
كفرهم واستهزائهم بآيات الله ورسله وتكذيبهم لهم أشد التكذيب .
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ
ٱلصَّٰلِحَٰتِ كَانَتۡ لَهُمۡ جَنَّٰتُ ٱلۡفِرۡدَوۡسِ نُزُلًا ١٠٧ خَٰلِدِينَ
فِيهَا لَا يَبۡغُونَ عَنۡهَا حِوَلٗا ١٠٨
"
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ " يخبر الله تعالى عن
عباده السعداء وهم الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به وعملوا
الأعمال الصالحة ، " كَانَتۡ لَهُمۡ جَنَّٰتُ ٱلۡفِرۡدَوۡسِ نُزُلًا "
لهم جنات الفردوس منزلا لهم دائما وقال قتادة عن الحسن بن سمرة عن النبى صلى الله
عليه وسلم " الفردوس ربوة الجنة أوسطها وأحسنها " وفى الصحيحين "
اذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فانه أعلى الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر
أنهار الجنة " وقال مجاهد الفردوس هو البستان بالرومية " خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يَبۡغُونَ
عَنۡهَا حِوَلٗا "
مقيمين ساكنين فى الفردوس لا يظعنون عنها أبدا لايختارون عنها غيرها ولا يحبون
سواها لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولا ولا بدلا .
قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَادٗا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي
لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّي وَلَوۡ جِئۡنَا
بِمِثۡلِهِۦ مَدَدٗا ١٠٩
"
قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَادٗا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ
كَلِمَٰتُ رَبِّي " يقول تعالى قل يا محمد لو كان ماء البحر مدادا للقلم أى
الحبر الذى يوضع فيه للكتابة به كلمات الله وحكمه وآياته الدالات لنفد البحر قبل
أن يفرغ كتابة ذلك ، " وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدٗا "
ولو جىء بمثل هذا البحر بحر آخر ثم آخر وهلم جرا بحور تمده ويكتب بها لما نفدت
كلمات الله كما قال تعالى " ولو أن ما فى الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من
بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ان الله عزيز حكيم " لو كانت البحور مدادا
لكلمات الله والشجر كله أقلام لانكسرت الأقلام وفنى ماء البحر وبقيت كلما ت الله
قائمة لا يفنيها شىء .
قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ يُوحَىٰٓ
إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا ١١٠
" قُلۡ
إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ يُوحَىٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِد" يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم قل لهؤلاء المشركين المكذبين
برسالتك اليهم انما أنا بشر مثلكم فانى لا أعلم الغيب فيما أخبرتكم به من
الماضى عما سألتم عليه من قصة أصحاب الكهف وخبر ذى القرنين لولا ما أطلعنى الله عليه
وانما أخبركم أنما اىلهكم الذى أدعوكم الى عبادته اله واحد لا شريك له ، " فَمَن
كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ" فمن كان يرجو ثواب ربه وحسن لقاءه فى
الآخرة وجزاءه الصالح ، " فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلٗا صَٰلِحٗا " فليعمل الأعمال الصالحة الموافقة لشرع الله ، "
وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا " ويبعد فى عبادته عن الشرك
بالله يعبد الله وحده لا شريك له ولا يشرك معه
ندا ولا ولدا ، وقدوردت أحاديث كثيرة تتحدث عن الشرك فعن أبنمسعود رضى الله
عنه قال قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم " من أحسن الصلاة حيث يراه الناس
وأساءها حيث يخلو فتلك استهانة استهان بها ربه عز وجل " ، وعن أنس رضى الله
عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تعرض أعمال بنى آدم بين يدى الله
عز وجل يوم القيامة فى صحف محتمة فيقول الله ألقوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة
يارب والله ما رأينا منه الا خيرا فيقول ان عمله كان لغير وجهى ولا أقبل اليوم من
العمل الا ما أريد به وجهى " ، وعن عبد الله بن قيش الخزاعى أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال " من قام رياء وسمعة لم يزل فى مقت الله حتى يجلس "
، وعن أبى سعيد بن أبى فضالة الأنصارى وكان من الصحابة أنه قال سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول " اذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى
مناد : من كان أشرك فى عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله فان الله
أغنى الشركاء عن الشرك " أخرجه الترمذى وأبن ماجه ، وعن شداد بن أوس رضى الله
عنه أنه بكى فقيل له ما يبكيك ؟ قال شىء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأبكانى ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " أتخوف على أمتى الشرك
والشهوة الخفية " قلت : يارسول الله أتشرك أمتك من بعدك ؟ قال : نعم أما انهم
لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا ولكن يراءون بأعمالهم ، والشهوة الخفية
أن يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه " .
تفسير الجزء السادس عشر
تفسير سورة مريم
سورة
مريم مكية وعن أبن مسعود فى قصة الهجرة الى أرض الحبشة من مكة أن جعفر بن أبى طالب
رضى الله عنه قرأ صدر هذه السورة على النجاشى وأصحابه .
كٓهيعٓصٓ ١ ذِكۡرُ رَحۡمَتِ رَبِّكَ عَبۡدَهُۥ
زَكَرِيَّآ ٢ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥ نِدَآءً خَفِيّٗا ٣ قَالَ رَبِّ إِنِّي
وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبٗا وَلَمۡ أَكُنۢ
بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّٗا ٤ وَإِنِّي خِفۡتُ ٱلۡمَوَٰلِيَ مِن وَرَآءِي
وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرٗا فَهَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا ٥ يَرِثُنِي وَيَرِثُ
مِنۡ ءَالِ يَعۡقُوبَۖ وَٱجۡعَلۡهُ رَبِّ رَضِيّٗا ٦
" كٓهيعٓصٓ " تقدم الكلام عن الحروف المقطعة فى بداية السور فى سورة البقرة ، " ذِكۡرُ رَحۡمَتِ رَبِّكَ عَبۡدَهُۥ زَكَرِيَّآ " هذا ذكر رحمة الله بعبده زكريا وهو أحد أنبياء بنى اسرائيل ، " إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥ نِدَآءً خَفِيّٗا" أنه دعى ربه وأخفى دعاءه لئلا ينسب فى طلب الولد الى الرعونة لكبر سنه وقال آخرون انما أخفاه لأنه أحب الى الله وقال بعض السلف قام من الليل عليه السلام فجعل يهتف بربه خفية ، " قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي " قال لربه ضعفت وخارت قواى ووهن عظمى وهو من العلامات البارزة لكبر السن الشكوى من ضعف العظام وآلامها ، " وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبٗا " وشاب شعر رأسى والمراد الاخبار عن الضعف والكبر ودلائله الظاهرة والباطنة ، " وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّٗا " ياربى لم أعهد منك الا الاجابة فى الدعاء ولم تردنى قط فيما سألتك ، " وَإِنِّي خِفۡتُ ٱلۡمَوَٰلِيَ مِن وَرَآءِي " يارب قلت عصابتى من بعدى وقيل أنه خشى أن يتصرفوا من بعده فى الناس تصرفا سيئا ، " وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرٗا فَهَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا " وهو يعلم أن امرأته لا تنجب فسأل الله ولدا يكون نبيا من بعده ليسوس الناس بنبوته ، " يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنۡ ءَالِ يَعۡقُوبَ" يرثه على ميراث النبوة ولهذا قال " ويرث من آل يعقوب " كقوله" وورث سليمان داود " ورثه فى النبوة قال مجاهد كان وراثته علما وكان زكريا من ذرية آل يعقوب وقال السدى يرث نبوتى ونبوة آل يعقوب ، " وَٱجۡعَلۡهُ رَبِّ رَضِيّٗا " يسأل زكريا عليه السلام أن يجعل من يرزقه به من ولد أن يكون مرضيا عنده وعند خلقه يحبه ويحببه الى خلقه فى دينه وخلقه .
يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ ٱسۡمُهُۥ
يَحۡيَىٰ لَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ مِن قَبۡلُ سَمِيّٗا ٧
" يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ
ٱسۡمُهُۥ يَحۡيَىٰ " استجاب الله لدعاء عبده زكريا عليه السلام وبشرته
الملائكة وهو قائم بالمحراب بيحيى كقوله " هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لى
من لدنك ذرية طيبة انك سميع الدعاء فنادته الملائكة وهو قائم بالمحراب أن الله
يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من لبصالحين " ، " لَمۡ
نَجۡعَل لَّهُۥ مِن قَبۡلُ سَمِيّٗا " يقول تالى لم نجعل له شبيها وقال أبن عباس أى لم تلد
العواقر قبله مثله .
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي
عَاقِرٗا وَقَدۡ بَلَغۡتُ مِنَ
ٱلۡكِبَرِ عِتِيّٗا ٨ قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٞ وَقَدۡ خَلَقۡتُكَ مِن
قَبۡلُ وَلَمۡ تَكُ شَيۡٔٗا ٩
" قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي
عَاقِرٗا وَقَدۡ بَلَغۡتُ مِنَ
ٱلۡكِبَرِ عِتِيّٗا " هذا تعجب من زكريا عليه السلام حين أجيب الى ما سال وبشر
بالولد ففرح فرحا شديدا وسأل عن كيفية ما يولد له والوجه الذى يأتيه منه الولد مع
أن امرأته كانت عاقرا لم تلد من أول عمرها مع كبرها ومع أنه قد كبر وعتا أى عسى
عظمه ونحل ولم يبق فيه لقاح ولا جماع والعرب تقول للعود اذا يبس عتا يغتو عتوا ،
" قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّن " قال الملك مجيبا
لزكريا عما استعجب منه أن ايجاد الولد منه ومن زوجته أمر يسير سهل على الله تعالى
، " وَقَدۡ خَلَقۡتُكَ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ تَكُ شَيۡٔٗا " وذكره بما هو
أعجب من ذلك وهو خلق الانسان من عدم كقوله " هل أتى على الانسان حين من الدهر
لم يكن شيئا مذكورا " .
قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّيٓ ءَايَةٗۖ قَالَ ءَايَتُكَ
أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَ لَيَالٖ سَوِيّٗا ١٠ فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنَ ٱلۡمِحۡرَابِ
فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡهِمۡ أَن سَبِّحُواْ بُكۡرَةٗ وَعَشِيّٗا ١١
" قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّيٓ ءَايَة " يقول الله تعالى مخبرا عن زكريا عليه السلام طلب من الله الدليل على ما وعده به لتستقر نفسه ويطمئن قلبه بما وعده الله به كما قال ابراهيم عليه السلام " رب أرنى كيف تحيى الموتى قال أو لو تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى " ، " قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَ لَيَالٖ سَوِيّٗا " رد الله عليه أن علامته أن يحبس لسانه عن الكلام ثلاث ليال متتابعة وهو صحيح سوى من غير مرض ولا علة وقال أبن زيد بن أسلم كان يقرأ ويسبح ولا يستطيع أن يكلم قومه الا بالاشارة وهذا كقوله فى آل عمران " قال رب اجعل لى آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام الا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشى والابكار" ، وفى هذا دليل على أنه لم يكن يكلم الناس فى هذه الليالى الثلاث وأيامها الا رمزا أى اشارة ، " فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنَ ٱلۡمِحۡرَابِ " خرج على قومه من المحراب الذى بشر فيه بالولد ، " فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡهِمۡ" أشار اليهم اشارة خفيفة دون أن يتكلم ، "أَن سَبِّحُواْ بُكۡرَةٗ وَعَشِيّٗا " أن تكون له فى هذه الأيام الثلاثة أن يسبحوا الله فى الصباح والمساء أى طوال اليوم زيادة على أعماله شكرا لله على ما أولاه .
يَٰيَحۡيَىٰ
خُذِ ٱلۡكِتَٰبَ بِقُوَّةٖۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحُكۡمَ صَبِيّٗا ١٢ وَحَنَانٗا مِّن لَّدُنَّا
وَزَكَوٰةٗۖ وَكَانَ تَقِيّٗا ١٣ وَبَرَّۢا
بِوَٰلِدَيۡهِ وَلَمۡ يَكُن جَبَّارًا عَصِيّٗا ١٤ وَسَلَٰمٌ
عَلَيۡهِ يَوۡمَ وُلِدَ وَيَوۡمَ يَمُوتُ وَيَوۡمَ يُبۡعَثُ حَيّٗا ١٥
" يَٰيَحۡيَىٰ خُذِ ٱلۡكِتَٰبَ بِقُوَّة" يأمر الله يحيى عليه
السلام أن يتعلم الكتاب وهو التوراة بقوة أى بجد وحرص واجتهاد وهى التى كانوا
يتدارسونها بينهم ويحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار
وقد كان سنه اذ ذاك صغيرا ، " وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحُكۡمَ صَبِيّٗا " يقول الله
تعالى أنه آتى يحيى الفهم والعلم والجد والعزم والاقبال على الخير والاكباب عليه
والاجتهاد فيه وهو صغير حدث ، " وَحَنَانٗا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰة " قال أبن عباس ورحمة من عندنا لا
يقدر عليها غيرنا وقال مجاهد وتعطفا من ربه عليه وقال أبن زيد الحنان المحبة
والظاهر من السياق أن قوله وحنانا معطوف على قوله " وآتيناه الحكم صبيا
" أى وآتيناه الحكم وحنانا وزكاة أى وجعلناه ذا حنان وزكاة فالحنان هو المحبة
فى شفقة وميل كما تقول العرب حنت الناقة على ولدها وحنت المرأة على زوجها ومنه
سميت المرأة حنة من الحنية وحن الرجل الى وطنه ومنه التعطف والرحمة وفى المسند
للامام أحمد عن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يبقى
رجل فى النار ينادى ألف سنة يا حنان يا منان " ، " وَكَانَ تَقِيّٗا " وكان طاهرا
فلم يعمل بذنب ، " وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَيۡهِ وَلَمۡ يَكُن جَبَّارًا عَصِيّٗا " لما ذكر الله
طاعته لربه وأنه خلقه ذا رحمة وزكاة وتقى عطف بذكر طاعته لوالديه وبره بهما
ومجانبته عقوقهما قولا وفعلا أمرا ونهيا ولهذا قال " ولم يكن جبارا عصيا
" أى لم يكن متجبرا يعصى الله ، " وَسَلَٰمٌ عَلَيۡهِ يَوۡمَ وُلِدَ
وَيَوۡمَ يَمُوتُ وَيَوۡمَ يُبۡعَثُ حَيّٗا " له الأمان فى هذه الأحوال الثلاثة وقال سفيان بن عيينه
أوحش ما يكون المرء فى ثلاثة مواطن يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه ويوم
يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم ويوم يبعث فيرى نفسه فى محشر عظيم فأكرم الله فيها
يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه .
وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَرۡيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتۡ
مِنۡ أَهۡلِهَا مَكَانٗا شَرۡقِيّٗا ١٦ فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابٗا فَأَرۡسَلۡنَآ
إِلَيۡهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرٗا سَوِيّٗا ١٧ قَالَتۡ إِنِّيٓ
أَعُوذُ بِٱلرَّحۡمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّٗا ١٨ قَالَ إِنَّمَآ
أَنَا۠ رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَٰمٗا زَكِيّٗا ١٩ قَالَتۡ أَنَّىٰ
يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞ وَلَمۡ أَكُ بَغِيّٗا ٢٠ قَالَ كَذَٰلِكِ
قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٞۖ وَلِنَجۡعَلَهُۥٓ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِ وَرَحۡمَةٗ مِّنَّاۚ وَكَانَ
أَمۡرٗا مَّقۡضِيّٗا ٢١ ۞
لما ذكر الله تعالى قصة زكريا عليه السلام وأنه أوجد منه فى حال كبره وعقم زوجته ولدا زكيا طاهرا مباركا عطف بذكر قصة مريم " وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَرۡيَمَ " يذكر قصة مريم فى القرآن وايجاده ولدها عيسى عليه السلام منها من غير أب ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه وأنه على ما يشاء قدير وهى مريم بنت عمران من سلالة داود عليه السلام وكانت من بيت طاهر طيب فى بنى اسرائيل ، " إِذِ ٱنتَبَذَتۡ مِنۡ أَهۡلِهَا مَكَانٗا شَرۡقِيّٗا "اعتزلت أهلها وتنحت عنهم وذهبت الى شرقى المسجد المقدس وقال نوف البكالى اتخذت لها منزلا تتعبد فيه ، " فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابٗا " استترت منهم وتوارت ، " فَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرٗا سَوِيّٗا " فأرسل الله تعالى اليها جبريل عليه السلام فظهر لها على صورة انسان تام كامل وليس على صورته كملاك ، " قَالَتۡ إِنِّيٓ أَعُوذُ بِٱلرَّحۡمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّٗا " لما تبدى لها الملك فى صورة بشر وهى فى مكان منفرد وبينها وبين قومها حجاب خافته وظنت أنه يريدها على نفسها فقالت ان كنت تخاف الله تذكيرا له بالله فخوفته بالله عز وجل ، "قَالَ إِنَّمَآ أَنَا۠ رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَٰمٗا زَكِيّٗا" فقال لها الملك مجيبا لها ومزيلا لما حصل عندها من الخوف على نفسها لست مما تظنين ولكنى رسول ربك أى بعثنى الله اليك ليهبك الله منه من سيكون غلاما حسنا بقدرته ، " قَالَتۡ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞ وَلَمۡ أَكُ بَغِيّٗا " فتعجبت مريم وقالت كيف يكون لى غلام أى على أى صفة يوجد هذا الغلام منى ولست بذات زوج ولا يتصور منى الفجور والبغى هى الزانية ، " قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّن" فقال لها الملك مجيبا لها عما سألت أن الله قد قال انه سيوجد منك غلاما وان لم يكن لك زوج ولا يوجد منك فاحشة فانه على ما يشاء قدير ، " وَلِنَجۡعَلَهُۥٓ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِ " يجعله الله دلالة وعلامة للناس على قدرة خالقهم وبارئهم الذى نوع فى خلقه فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى الا عيسى فانه أوجده من أنثى بلا ذكر فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه فلا اله غيره ولا رب سواه ، " وَرَحۡمَةٗ مِّنَّا " وسوف يجعل الله هذا الغلام رحمة من الله نبيا من الأنبياء يدعو الى عبادة الله تعالى وتوحيده كما قال " اذ قالت الملائكة يا مريم ان الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها فى الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس فى المهد وكهلا ومن الصالحين " أى يدعو الى عبادة الله فى مهده وكهولته ، " وَكَانَ أَمۡرٗا مَّقۡضِيّٗا " وهذا الأمر مقدر فى علم الله تعالى وقدرته ومشيئته وقال محمد بن اسحاق أن الله قد عزم على هذا فليس منه بد .
فَحَمَلَتۡهُ فَٱنتَبَذَتۡ بِهِۦ مَكَانٗا قَصِيّٗا ٢٢ فَأَجَآءَهَا
ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا
وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا ٢٣
" فَحَمَلَتۡهُ
فَٱنتَبَذَتۡ بِهِۦ مَكَانٗا قَصِيّٗا " يقول الله تعالى مخبرا عن مريم أنها لما قال لها
جبريل عن الله تعالى ما قاله استسلمت لقضاء الله تعالى فلما حملت ضاقت ذرعا
وابتعدت عن الناس فى مكان بعيد ولم يعلم عنها أحد ولم تدر ما تقول للناس فانها
تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به وحملت كما تحمل النساء بأولادهن ولما
استشعرت من قومها اتهامها بالريبة انتبذت منهم مكانا قاصيا منهم بعيدا عنهم لئلا
تراهم ولا يروها وتوارت من الناس واتخذت من دونهم حجابا فلا يراها أحد ولا تراه ،
" فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ " فاضطرها
وألجأها الطلق حين جاء ميعاد الولادة الى جذع نخلة فى المكان الذى تنحت اليه وفى
رواية عن وهب كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس فى قرية هناك يقال لها بيت
لحم وهذا هو المشهور الذى تلقاه الناس بعضهم عن بعض ، " قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي
مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا " تمنت الموت قبل حدوث ذلك وأنها لم تخلق وقال السدى
يا ليتنى مت قبل هذا الكرب الذى أنا فيه والحزن بولادتى المولود من غير بعل ، وفى هذا دليل على تمنى الموت حين حدوث فتنة
فانها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذى لا يحمل الناس أمرها فيه على
السداد ولا يصدقونها فى خبرها وبعد ما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما
يظنون عاهرة زانية .
فَنَادَىٰهَا مِن تَحۡتِهَآ أَلَّا تَحۡزَنِي قَدۡ
جَعَلَ رَبُّكِ تَحۡتَكِ سَرِيّٗا ٢٤ وَهُزِّيٓ إِلَيۡكِ بِجِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ
تُسَٰقِطۡ عَلَيۡكِ رُطَبٗا جَنِيّٗا ٢٥ فَكُلِي وَٱشۡرَبِي وَقَرِّي عَيۡنٗاۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ
مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدٗا فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَٰنِ صَوۡمٗا فَلَنۡ أُكَلِّمَ
ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا ٢٦
" فَنَادَىٰهَا مِن تَحۡتِهَآ أَلَّا تَحۡزَنِي
قَدۡ جَعَلَ رَبُّكِ تَحۡتَكِ سَرِيّٗا " قيل من ناداها هو جبريل وقال مجاهد عيسى أبن مريم وقال
لها مطمئنا لا تحزنى قد جعل الله لك سريا أى نهر تشربى منه قال مجاهد هو النهر
بالسريانية وقال سعيد بن جبير السرى النهر الصغير بالنبطية وقال قتادة الجدول بلغة
أهل الحجاز يقول أبن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ان السرى
الذى قال الله لمريم " قد جعل ربك تحتك سريا " نهر أخرجه الله لتشرب منه
" ، " وَهُزِّيٓ إِلَيۡكِ بِجِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ تُسَٰقِطۡ عَلَيۡكِ
رُطَبٗا جَنِيّٗا " وخذى اليك
بجذع النخلة ينزل عليك الرطب المستوى ، " فَكُلِي وَٱشۡرَبِي وَقَرِّي عَيۡنٗا " جعل الله
عندها الطعام والشراب وطمأنها الله بأن تكون قريرة العين ولا تجزع فهو المدافع
عتها ، " فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ
ٱلۡبَشَرِ أَحَدٗا فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَٰنِ صَوۡمٗا فَلَنۡ أُكَلِّمَ
ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا " أمرها الله أنها مهما رات من أحد أن لا تتحدث معه وتستخدم
الاشارة فهى صائمة وكان الصيام عن كل شىء حتى الكلام والمراد أنهم اذا صاموا فى
شريعتم يحرم عليهم الطعام والكلام ، قيل هذاكله من كلام عيسى عليه السلام لأمه .
فَأَتَتۡ بِهِۦ قَوۡمَهَا تَحۡمِلُهُۥۖ قَالُواْ
يَٰمَرۡيَمُ لَقَدۡ جِئۡتِ شَيۡٔٗا فَرِيّٗا ٢٧ يَٰٓأُخۡتَ
هَٰرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمۡرَأَ سَوۡءٖ وَمَا كَانَتۡ أُمُّكِ بَغِيّٗا ٢٨ فَأَشَارَتۡ
إِلَيۡهِۖ قَالُواْ كَيۡفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلۡمَهۡدِ صَبِيّٗا ٢٩ قَالَ إِنِّي
عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا ٣٠ وَجَعَلَنِي
مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا كُنتُ وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ
حَيّٗا ٣١ وَبَرَّۢا
بِوَٰلِدَتِي وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِي جَبَّارٗا شَقِيّٗا ٣٢ وَٱلسَّلَٰمُ عَلَيَّ يَوۡمَ وُلِدتُّ وَيَوۡمَ
أَمُوتُ وَيَوۡمَ أُبۡعَثُ حَيّٗا ٣٣
" فَأَتَتۡ بِهِۦ قَوۡمَهَا تَحۡمِلُهُۥۖ قَالُواْ يَٰمَرۡيَمُ لَقَدۡ جِئۡتِ شَيۡٔٗا فَرِيّٗا " يقول تعالى مخبرا عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك وأن لا تكلم احدا من البشر واستسلمت لقضاء الله فأخذت ولدها فأتت به قومها تحمله فلما رأوها كذلك أعظموا أمرها واستنكروه جدا وقالوا يا مريم لقد جئت أمرا عظيما ، " يَٰٓأُخۡتَ هَٰرُونَ " هارون أخ موسى عليهما السلام وكانت من نسله كما يقال للتميمى يا أخا تميم وللمضرى يا اخا مضر، وقال أبن جرير كانت من بيت يعرفون بالصلاح ولا يعرفون بالفساد وكان هارون مصلحا محببا فى عشيرته وليس بهارون أخى موسى ولكنه هارون آخر فكانت شبيه هارون فى العبادة " مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمۡرَأَ سَوۡء" قالوا لها أيضا ما كان أبوك يعرف عنه سوء سلوك ، " وَمَا كَانَتۡ أُمُّكِ بَغِيّٗا " وأمك كذلك لم تكن امرأة داعرة من البغايا ، " فَأَشَارَتۡ إِلَيۡهِ " لما استرابوا فى أمرها واستنكروا قضيتها وقالوا ما قالوا معرضين بقذفها ورميها بالفرية وقد كانت يومها ذلك صائمة صامتة فأحالت الكلام الى ابنها أشارت لهم الى خطابه وكلامه ،" قَالُواْ كَيۡفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلۡمَهۡدِ صَبِيّٗا " قالوا لها متهكمين بها ظانين أنها تزدرى بهم وتلعب بهم وقال السدى لما أشارت اليه غضبوا وقالوا لسخريتها بنا حتى تأمرنا أن نكلم هذا من هو موجود فى حال صباه وصغره كيف يتكلم ؟ ذلك أشد علينا من زناها ، " قَالَ إِنِّي عَبۡدُ ٱللَّهِ "هنا تكلم ابنها وأول شىء تكلم به أنه أثبت العبودية لربه ونزه جناب ربه تعالى وبرأه من الولد ، " ءَاتَىٰنِيَ ٱلۡكِتَٰبَ " قال عكرمة قضى ربى أنه يؤتينى الكتاب فيما قضى وهو الانجيل ، " وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا " وقضى ربى كذلك أن يجعلنى نبيا ، " وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا كُنتُ " قال مجاهد وغيره وجعلنى معلما للخير وقال مجاهد نفاعا وقيل بركته الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أينما كان ، " وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا " وقال مالك أبن أنس أن الله أوصاه بما هو كائن من أمره الى أن يموت من صلاة وزكاة ، " وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَتِي " أمره الله ببر والدته بعد ذكره طاعة ربه لأن الله تعالى كثيرا ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين كما فى قوله " وقضى ربك ألا تعبدوا الا اياه وبالوالدين احسانا " ، " وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِي جَبَّارٗا شَقِيّٗا " ولم يجعلنى الله جبارا مستكبرا عن عبادته وطاعته وبر والدتى فأشقى بذلك وقال سفيان الثورى : الجبار الشقى الذى يقتل على الغضب وقال بعض السلف لا تجد أحدا عاقا لوالديه الا وجدته جبارا شقيا " وَٱلسَّلَٰمُ عَلَيَّ يَوۡمَ وُلِدتُّ وَيَوۡمَ أَمُوتُ وَيَوۡمَ أُبۡعَثُ حَيّٗا " هذا اثبات منه لعبوديته لله عز وجل وأنه مخلوق من خلق الله يحيى ويموت ويبعث كسائر الخلائق ولكن له السلامة من الله فى هذه الأحوال الحياة والممات ويوم البعث وهذه هى مراحل يمر بها كل البشر .
ذَٰلِكَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَۖ قَوۡلَ ٱلۡحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمۡتَرُونَ ٣٤ مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٖۖ سُبۡحَٰنَهُۥٓۚ إِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ٣٥ وَإِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ هَٰذَا صِرَٰطٞ مُّسۡتَقِيمٞ ٣٦ فَٱخۡتَلَفَ ٱلۡأَحۡزَابُ مِنۢ بَيۡنِهِمۡۖ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشۡهَدِ يَوۡمٍ عَظِيمٍ ٣٧
" ذَٰلِكَ
عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ " يقول الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ذلك
قصصناه عليك من خبر عيسى أبن مريم عليه السلام ، " َقوۡلَ ٱلۡحَقِّ ٱلَّذِي
فِيهِ يَمۡتَرُونَ " هذا الذى أخبرناك هو القول الحق الذى يختلف فيه المبطلون
والمحقون ممن آمن به وكفر به ، " كقوله تعالى " الحق من ربك فلا تكن من
الممترين "أى المختلفين الشاكين فى ذلك
، " مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٖۖ
سُبۡحَٰنَه " لما ذكر الله تعالى أنه خلقه عبدا نبيا نزه نفسه المقدسة عما
يقول هؤلاء الجاهلون الظالمون المعتدون علوا كبيرا أن يكون له ولد ، " إِذَا
قَضَىٰٓ أَمۡرٗا
فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ " اذا أراد الله شيئا فانما يأمر به
فيصير كما يشاء وهذا كقوله " انمثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم
قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين " ، " وَإِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمۡ
فَٱعۡبُدُوهُۚ " ومما أمر به عيسى عليه السلام قومه وهو فى مهده أن أخبرهم اذ
ذاك أن الله ربه وربهم وأمرهم بعبادته ، " هَٰذَا صِرَٰطٞ
مُّسۡتَقِيم " قال عيسى عليه السلام هذا الذى جئتكم به عن الله هو طريق الحق
الذى لا اعوجاج فيه طريق قويم من اتبعه رشد وهدى ومن خالفه ضل وغوى ، "
فَٱخۡتَلَفَ ٱلۡأَحۡزَابُ مِنۢ بَيۡنِهِمۡ " اختلف قول أهل الكتاب فى عيسى
عليه السلام بعد بيان أمره ووضوح حاله وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها الى
مريم وروح منه فصممت طائفة منهم فقالت طائفة هو ابن الله وقال آخرون ثالث ثلاثة
وقال آخرون بل هو عبد الله ورسوله وهذا هو قول الحق الذى أرشد الله اليه المؤمنين " فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشۡهَدِ يَوۡمٍ عَظِيمٍ "
ينذر الله تعالى ويحذر الذين كفروا بما جاء من الحق من يوم القيامة وما سيحدث فيه
من مشاهد تقشعر لها الأبدان وفى الحديث الصحيح عن عبادة بن الصامت رضى الله عنه
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " منشهد أن لا اله الا الله وحده لا
شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها الى مريم
وروح منه وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " .
أَسۡمِعۡ بِهِمۡ وَأَبۡصِرۡ يَوۡمَ يَأۡتُونَنَاۖ
لَٰكِنِ ٱلظَّٰلِمُونَ ٱلۡيَوۡمَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ ٣٨ وَأَنذِرۡهُمۡ
يَوۡمَ ٱلۡحَسۡرَةِ إِذۡ قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ وَهُمۡ فِي غَفۡلَةٖ وَهُمۡ لَا
يُؤۡمِنُونَ ٣٩ إِنَّا نَحۡنُ نَرِثُ ٱلۡأَرۡضَ وَمَنۡ عَلَيۡهَا وَإِلَيۡنَا
يُرۡجَعُونَ ٤٠
" أَسۡمِعۡ
بِهِمۡ وَأَبۡصِرۡ" يقول الله مخبرا عن الكفار يوم القيامة ما أسمعهم وما
أبصرهم يكونون يوم القيامة أشد سمعا وبصرا كقوله " ولو ترى اذ المجرمون ناكسو
رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا " ،
"
يَوۡمَ يَأۡتُونَنَا " أى يوم القيامة عندما يرجعون الى ربهم ليوم الحساب
ويوم البعث ، " لَٰكِنِ ٱلظَّٰلِمُونَ ٱلۡيَوۡمَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِين
" لكن هؤلاء الكافرين فى الحياة الدنيا فى ضلال واضح لا يسمعون ولا يبصرون
ولا يعقلون فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون ويكونون مطيعين حيث لا ينفعهم ذلك ،
" وَأَنذِرۡهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡحَسۡرَةِ
" يأمر الله رسول محمد صلى الله عليه وسلم أن ينذر الخلائق بيوم الحسرة وهو
يوم القيامة الذى سيكون حسرة عليهم لسوء أعمالهم وتكذيبهم كقوله تعالى " أن
تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت فى جنب الله " ، " إِذۡ قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ
" ان الله تعالى قد حسم الأمر يوم القيامة
فقد فصل بين أهل الجنة وأهل النار وصار كل الى ماصار اليه مخلدا ولا رجعة
الى الحياة الدنيا ، " وَهُمۡ فِي غَفۡلَةٖ وَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ " والناس فى غفلة عما أنذروا به
من يوم الحسرة والندامة حيث لا ينفع الندم وتبقى الحسرة وهم لا يصدقون بهذا اليوم فيالها
من غفلة ! وعن أبى سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اذا دخل أهل
الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار
فيقال يا أهل الجنة هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا
الموت فيقال : يا أهل النار هل تعرفون هذا
؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت " فيؤمر به فيذبح ، ويقال يا أهل
الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت " ثم قرأ رسول الله صلى الله
عليه وسلم " وَأَنذِرۡهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡحَسۡرَةِ إِذۡ قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ
وَهُمۡ فِي غَفۡلَةٖ وَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ "وأشار بيده ثم قال " أهل
الدنيا فى غفلة الدنيا " ، " إِنَّا نَحۡنُ نَرِثُ
ٱلۡأَرۡضَ وَمَنۡ عَلَيۡهَا وَإِلَيۡنَا يُرۡجَعُونَ " يتحدث الله تعالى أنه
الخالق المالك المتصرف وأن الخلق كلهم يهلكون ويبقى هو تعالى وتقدس ولا أحد يدعى
ملكا ولا تصرفا بل هو الوارث لجميع خلقه الباقى بعدهم الحاكم فيهم ويرجعون اليه
يوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا ولا جناح بعوضة ولامثقال ذرة .
وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِبۡرَٰهِيمَۚ إِنَّهُۥ كَانَ
صِدِّيقٗا نَّبِيًّا ٤١ إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ يَٰٓأَبَتِ لِمَ
تَعۡبُدُ مَا لَا يَسۡمَعُ وَلَا يُبۡصِرُ وَلَا يُغۡنِي عَنكَ شَيۡٔٗا ٤٢ يَٰٓأَبَتِ إِنِّي
قَدۡ جَآءَنِي مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَمۡ يَأۡتِكَ فَٱتَّبِعۡنِيٓ أَهۡدِكَ صِرَٰطٗا سَوِيّٗا ٤٣ يَٰٓأَبَتِ لَا
تَعۡبُدِ ٱلشَّيۡطَٰنَۖ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ كَانَ لِلرَّحۡمَٰنِ عَصِيّٗا ٤٤ يَٰٓأَبَتِ إِنِّيٓ
أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٞ مِّنَ ٱلرَّحۡمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيۡطَٰنِ وَلِيّٗا ٤٥
" وَٱذۡكُرۡ
فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِبۡرَٰهِيمَ " يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه
وسلم أتل على قومك هؤلاء الذين يعبدون الأصنام واذكر لهم ما كان من خبر ابراهيم
خليل الرحمن الذين هم من ذريته ويدعون أنهم على ملته ، " إِنَّهُۥ كَانَ صِدِّيقٗا
نَّبِيًّا " وقد كان صديقا نبيا ، " إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ يَٰٓأَبَتِ
لِمَ تَعۡبُدُ مَا لَا يَسۡمَعُ وَلَا يُبۡصِرُ وَلَا يُغۡنِي عَنكَ شَيۡٔٗا " قال لأبيه ينهاه عن عبادة الأصنام وسأله
كيف ولماذا يعبد هذه ألصنام الجامدة التى لا تسمع ولا تبصر وما لا ينفعه ولا يدفع
عنه ضرا ، " يَٰٓأَبَتِ إِنِّي قَدۡ جَآءَنِي مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَمۡ
يَأۡتِكَ " يا أبى وان كنت من صلبك وترانى أصغر منك لأنى ولدك فاعلم أنى قد
اطلعت من العلم من الله على ما لم تعلمه أنت ولا اطلعت عليه ولا جاءك بعد ، "
فَٱتَّبِعۡنِيٓ أَهۡدِكَ صِرَٰطٗا سَوِيّٗا " يا أبى اتبعنى سوف أهديك الى طريق مستقيم موصل الى
نيل المطلوب والنجاة من المرهوب ، " يَٰٓأَبَتِ لَا تَعۡبُدِ ٱلشَّيۡطَٰنَ "
ينهى والده عن طريق الشيطان ولا يطيعه فى عبادة الأصنام ، " إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ كَانَ
لِلرَّحۡمَٰنِ عَصِيّٗا " فالشيطان الداعلى الى ارتكاب المعاصى لله تعالى فقد
عصى ربه من قبل ويعصيه هو وذريته وكان مخالفا له مستكبرا عن طاعة ربه فطرده وأبعده
فلا تتبعه حتى لا تصير مثله كما قال تعالى " ألم أعهد اليكم يا بنى آدم ألا
تعبدوا الشيطان انه لكم عدو مبين " ، " يَٰٓأَبَتِ إِنِّيٓ أَخَافُ أَن
يَمَسَّكَ عَذَابٞ مِّنَ ٱلرَّحۡمَٰنِ " يقول لأبيه انى أخشى عليك من عذاب
الله على شركك وعصيانك لما أمر به ، " فَتَكُونَ لِلشَّيۡطَٰنِ وَلِيّٗا "
فلا يكون لك مولى ولا ناصرا ولا مغيثا الا ابليس وليس اليه ولا الى غيره من الأمر
شىء بل اتباعك له موجب لاحاطة العذاب بك .
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنۡ ءَالِهَتِي
يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَۖ وَٱهۡجُرۡنِي مَلِيّٗا ٤٦ قَالَ سَلَٰمٌ
عَلَيۡكَۖ سَأَسۡتَغۡفِرُ لَكَ رَبِّيٓۖ إِنَّهُۥ كَانَ بِي حَفِيّٗا ٤٧ وَأَعۡتَزِلُكُمۡ
وَمَا تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَأَدۡعُواْ رَبِّي عَسَىٰٓ أَلَّآ أَكُونَ
بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّٗا ٤٨
يقول الله تعالى مخبرا عن جواب أبى ابراهيم لولده ابراهيم فيما دعاه اليه " قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنۡ ءَالِهَتِي يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ " انك ما تريد عبادة ما يقول عنه أنه آلهته من الأصنام يا بنى يا ابرهيم ولا ترضاها فانته عن سبها وشتمها وعيبها ، " ولا لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَ " فانك ان لم تنته عن ذلك اقتصصت منك بالرجم وَٱهۡجُرۡنِي مَلِيّٗا " وفارقنى أبدا وقال أبن عباس فارقنى سويا سالما قبل أن تصيبك منى عقوبة ، " قَالَ سَلَٰمٌ عَلَيۡكَ " وعندها قال ابراهيم وهو الابن البار أما أنا فلا ينالك منى مكروه ولا أذى وذلك لحرمة الأبوة ، " سَأَسۡتَغۡفِرُ لَكَ رَبِّيٓ " ولكن سأسأل الله فيك أن يهديك ويغفر لك ، " إِنَّهُۥ كَانَ بِي حَفِيّٗا "قال أبن عباس وغيره ان ربى بى لطيفا فى أن هدانى لعبادته والاخلاص له ةقال السدى الحفى الذى يهتم بأمره فيستجيب له ، وقد استغفر ابراهيم عليه السلام لأبيه مدة طويلة كما فى قوله " ربنا اغفر لى ولوالدى وللمؤمنين يوم يقوم الحساب " ، وقد استغفر المسلمون لأقاربهم وأهليهم من المشركين فى ابتداء الاسلام وذلك اقتداء بابراهيم الخليل فى ذلك حتى أنزل الله " قد كانت لكم أسوة حسنة فى ابراهيم والذين معه اذ قالوا لقومهم انا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله - الى قوله الا قول ابراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شىء " يعنى الا فى هذا القول فلا تتأسوا به ثم بين تعالى أن ابراهيم أقلع عن ذلك ورجع عنه فقال " ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين - الى قوله _ وما كان استغفار ابراهيم لأبيه الا عن موعدة وعدها اياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ان ابراهيم لأواه حليم " ،" وَأَعۡتَزِلُكُمۡ وَمَا تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ " أجتنبكم وأتبرأ منكم ومن آلهتكم التى تعبدونها من دون الله ،" وَأَدۡعُواْ رَبِّي " وأعبد ربى وحده لا شريك له ، " عَسَىٰٓ أَلَّآ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّٗا " وعسى موجبةلامحالة أن لا أكون شقيا وأن أعبد الله فلا يشقى الا الكافر .
فَلَمَّا ٱعۡتَزَلَهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ مِن دُونِ
ٱللَّهِ وَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۖ وَكُلّٗا جَعَلۡنَا نَبِيّٗا ٤٩ وَوَهَبۡنَا لَهُم
مِّن رَّحۡمَتِنَا وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ لِسَانَ صِدۡقٍ عَلِيّٗا ٥٠
" فَلَمَّا ٱعۡتَزَلَهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ مِن
دُونِ ٱللَّهِ وَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَكُلّٗا جَعَلۡنَا نَبِيّٗا " يخبر الله عن
ابراهيم عليه السلام أنه لما اعتزل أباه وقومه أبدله الله من هو خير منهم ووهب له
اسحاق ويعقوب وجعلهم جميعا أنبياء فابراهيم عليه السلام هو أبو الأنبياء وهذه كرامة
من عند الله ، " وَوَهَبۡنَا لَهُم مِّن رَّحۡمَتِنَا " يقول أبن عباس
أتيناهم الثناء الحسن عليهم ، " وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ لِسَانَ صِدۡقٍ عَلِيّٗا " وجعل الله لهم
لسان الصدق عاليا قال أبن جرير انما قال
عليا لأن جميع الملل والأديان يثنون عليهم ويمدحونهم صلوات الله وسلامه عليهم
أجمعين .
وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مُوسَىٰٓۚ إِنَّهُۥ كَانَ
مُخۡلَصٗا وَكَانَ رَسُولٗا نَّبِيّٗا ٥١ وَنَٰدَيۡنَٰهُ
مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلۡأَيۡمَنِ وَقَرَّبۡنَٰهُ نَجِيّٗا ٥٢ وَوَهَبۡنَا لَهُۥ
مِن رَّحۡمَتِنَآ أَخَاهُ هَٰرُونَ نَبِيّٗا ٥٣
لما ذكر الله تعالى ابراهيم الخليل وأثنى عليه عطف بذكر موسى عليه السلام " وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مُوسَىٰٓ "يقول الله تعالى واذكر فى الكتاب أى القرآن موسى ، " إِنَّهُۥ كَانَ مُخۡلَصٗا وَكَانَ رَسُولٗا نَّبِيّٗا " يذكر الله أنه كان مخلصا فى العبادة بكسر اللام وبفتح اللام بمعنى أنه كان مصطفى كما قال " انى اصطفيتك على الناس " وكان رسولا نبيا جمع الله له بين الوصفين فانه كان من المرسلين الكبار أولى العزم الخمسة وهم نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه على سائر الأنبياء ، "وَنَٰدَيۡنَٰهُ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلۡأَيۡمَنِ وَقَرَّبۡنَٰهُ نَجِيّٗا " يتحدث الله تعالى حين نادى موسى عليه السلام من الجانب الأيمن من جبل الطور فى سيناء حين ذهب يبتغى من النار جذوة عندما رآها تلوح فقصدها ووجدها فى جانب الطور الأيمن فكلمه الله تعالى وناداه وقربه فناجاه ، " وَوَهَبۡنَا لَهُۥ مِن رَّحۡمَتِنَآ أَخَاهُ هَٰرُونَ نَبِيّٗا " يقول تعالى أجبنا سؤاله وشفاعته فى أخيه هارون فجعلناه نبيا من فضلنا عليه ورحمتنا به فقد كان قد سأل الله ذلك عنما أمره بدعوة فرعون الى الايمان بالله وأن ينتهى عن تعذيب بنى اسرائيل كما قال فى آية أخرى " وأخى هارون هو أفصح منى لسانا فأرسله معى ردءا يصدقنى انى أخاف أن يكذبون "فاستجاب له الله تعالى وقال " قد أوتيت سؤلك يا موسى " ، قال أبن عباس كان هارون أكبر من موسى ولكن أراد وهب له نبوته ، ولهذا قال بعض السلف ما شفع أحد فى أخذ شفاعة الدنيا أعظم من شفاعة موسى فى هارون أن يكون نبيا .
وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِسۡمَٰعِيلَۚ إِنَّهُۥ كَانَ
صَادِقَ ٱلۡوَعۡدِ وَكَانَ رَسُولٗا نَّبِيّٗا ٥٤ وَكَانَ يَأۡمُرُ أَهۡلَهُۥ بِٱلصَّلَوٰةِ
وَٱلزَّكَوٰةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِۦ مَرۡضِيّٗا ٥٥
" وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِسۡمَٰعِيلَ " لما
ذكر الله موسى عليه السلام عطف بذكر أسماعيل بن ابراهيم الخليل عليهما السلام وهو
والد عرب الحجاز ، " إِنَّهُۥ كَانَ صَادِقَ ٱلۡوَعۡدِ " أثنى الله على
اسماعيل عليه السلام بأنه كان صادق الوعد قال أبن جريج لم يعد ربه عدة الا أنجزها
يعنى ما التزم عبادة قط بنذر الا قام بها ووفاها حقها وقال بعضهم انما قيل "
صادق الوعد " لأنه قال لأبيه " ستجدنى ان شاء الله من الصابرين" فصدق فى ذلك عندما أراد ذبحه وبلغه بذلك وأن
هذا أمر من الله فى رؤياه ، فصدق الوعد من الصفات الحميدة كما أن خلفه من الصفات
الذميمة كما قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لاتفعلون * كبر
مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" آية المنافق ثلاث اذا حدث كذب واذا وعد أخلف واذا أؤتمن خان " ،
" وَكَانَ رَسُولٗا نَّبِيّٗا " فى هذا دلالة على شرف اسماعيل على أخيه اسحاق لأنه انما وصف
بالنبوة فقط واسماعيل وصف بالنبوة والرسالة وقد ثبت فى صحيح مسلم أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال " ان الله اصطفى من ولد ابراهيم اسماعيل " ، " وَكَانَ يَأۡمُرُ أَهۡلَهُۥ بِٱلصَّلَوٰةِ
وَٱلزَّكَوٰةِ " هذا أيضا من الثناء الجميل والصفة الحميدة والخلة السديدة
حيث كان صابرا على طاعة ربه عز وجل آمرا بها لأهله من صلاة وزكاة كما قال تعالى
" وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها " وكما قال " يا أيها الذين
آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا
يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون " أى مروهم بالمعروف وانهوهم عن
المنكر ولا تدعوهم هملا فتأكلهم النار يوم القيامة وفى الحديث عن أبى هريرة رضى
الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رحم الله رجلا قام من الليل
فصلى وأيقظ امرأته فاذا أبت نضح فى وجهها الماء ، ورحم الله امرأة قامت من الليل
فصلت وأيقظت زوجها فان أبى نضحت فى وجهه الماء " وعن أبى سعيد وأبى هريرة رضى
الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم قال " اذا استيقظ الرجل من الليل
وأيقظ امرأته فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات " رواه أبو
داود والنسائى وأبن ماجه ، " وَكَانَ عِندَ رَبِّهِۦ مَرۡضِيّٗا " يثنى الله تعالى
على اسماعيل عليه السلام أنه ينال رضا الله عنه ونحن نعلم جزاء من يرضى الله عنه
فانه لايعذبه ويدخله الجنة بغير حساب فى أعلى درجاتها .
وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِدۡرِيسَۚ إِنَّهُۥ كَانَ
صِدِّيقٗا نَّبِيّٗا ٥٦ وَرَفَعۡنَٰهُ مَكَانًا عَلِيًّا ٥٧
" وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِدۡرِيسَ " ذكر الله تعالى ادريس عليه السلام ، ، " إِنَّهُۥ كَانَ صِدِّيقٗا نَّبِيّٗا " وأثنى عليه بأنه كان صديقا نبيا أى من الصديقين وهم من صدقوا الله فى كل أعمالهم وأقوالهم وكان من أنبياء الله ، " وَرَفَعۡنَٰهُ مَكَانًا عَلِيًّا " ويثنى الله عليه بأنه رفعه مكانا عليا وقد تقدم فى الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به فى ليلة الاسراء وهو فى السماء الرابعة وقال الحسن وغيره فى قوله " ورفعناه مكانا عليا " قال الجنة .
أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم
مِّنَ ٱلنَّبِيِّۧنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنۡ
حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٖ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡرَٰٓءِيلَ
وَمِمَّنۡ هَدَيۡنَا وَٱجۡتَبَيۡنَآۚ إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُ
ٱلرَّحۡمَٰنِ خَرُّواْۤ سُجَّدٗاۤ وَبُكِيّٗا۩ ٥٨ ۞
" أُوْلَٰٓئِكَ
ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّۧنَ مِن
ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٖ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡرَٰٓءِيلَ وَمِمَّنۡ
هَدَيۡنَا وَٱجۡتَبَيۡنَآۚ " يقول تعالى هؤلاء النبيون وليس
المذكورين فى هذه السورة فقط بل جنس الأنبياء عليهم السلام ممن هدى واختار واستطرد
من جنس الأشخاص الى الجنس كله قال أبن جرير فالذى عنى به من ذرية آدم ادريس والذى
عنى به من ذرية نوح ابراهيم واسحاق ويعقوب
واسماعيل والذى عنى به من ذرية اسرائيل موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى أبن
مريم ولذلك فرق أنسابهم وان كان يجمع جميعهم آدم لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع
نوح فى السفينة وهو ادريس فانه جد نوح ، " إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ
ءَايَٰتُ ٱلرَّحۡمَٰنِ خَرُّواْۤ سُجَّدٗاۤ وَبُكِيّٗا " اذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه
سجدوا لربهم خضوعا واستكانة حمدا وشكرا على ما هم عليه من النعم العظيمة ، والبكى
جمع بالك والبكاء دليل على الخضوع والخشية من الله .
فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٌ أَضَاعُواْ
ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِۖ فَسَوۡفَ يَلۡقَوۡنَ غَيًّا ٥٩ إِلَّا
مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا
يُظۡلَمُونَ شَيۡٔٗا ٦٠
لما ذكر الله تعالى حزب السعداء وهم الأنبياء عليهم السلام ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره الؤدين فرائض الله التاركين لزواجره ذكر أنه " فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٌ " جاء من بعدهم قرون أخر ، " أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوٰةَ " أختلف فى اضاعة الصلاة فقال القائلون المراد باضاعتها تركها كلية واذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع لأنها عماد الدين وقوامه وخير أعمال العباد وهنا قول عن الشافعى الى تكفير تارك الصلاة للحديث " بين العبد وبين الشرك ترك السلاة " والحديث الآخر " العهد الذى بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " ، " وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِ "أقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وعن مجاهد قال عند قيام الساعة وذهاب صالحى أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينزو بعضهم على بعض فى الأزقة وقال مجاهد وغيره كذلك أنهم من هذه الأمة يعنون فى آخر الزمان هم فى هذه الأمة يتراكبون تراكب الأنعام والحمر فى الطريق لا يخافون الله فى السماء ولا يستحيون من الناس فى الأرض وعن أبى سعيد الخدرى قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يكونخلف بعد ستين سنة أضاعوا لصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غ، ثم يكون خلف يقرءون القرآن لا يعدو تراقيهم ويقرأ القرآن ثلاثة مؤمن ومنافق وفاجر " وقال بشير بن أبى عمرو الخولانى قلت للوليد أبن قيس ما هؤلاء الثلاثة ؟ قال : المؤمن مؤمن به والمنافق كافر به والفاجر يتأكل به " وقال الحسن البصرى عطلوا المساجد ولزموا الضيعات ن " فَسَوۡفَ يَلۡقَوۡنَ غَيًّا " فهؤلاء سيلقون غيا أى خسارا يوم القيامة قال أبن عباس يلقون خسرانا وقال قتادة شرا وعن عبد الله بنمسعود قال عن الغواد فى جهمم من قيح ودم ، " إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا " يستثنى الله من ذلك الخسران من رجع عن ترك الصلوات واتباع الشهوات وصلح عمله فان الله يقبل توبته ويحسن عاقبته ، ، " فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا يُظۡلَمُونَ شَيۡٔٗا " ويجعله الله من ورثة جنة النعيم لأن التوبة تجب ما قبلها وفى الحديث " التائب من الذنب من لا ذنب له " ولهذا لا ينقص هؤلاء التائبون من أعمالهم التى عملوها شيئا .
جَنَّٰتِ عَدۡنٍ ٱلَّتِي وَعَدَ ٱلرَّحۡمَٰنُ
عِبَادَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّهُۥ كَانَ وَعۡدُهُۥ مَأۡتِيّٗا ٦١ لَّا يَسۡمَعُونَ فِيهَا
لَغۡوًا إِلَّا سَلَٰمٗاۖ وَلَهُمۡ رِزۡقُهُمۡ فِيهَا بُكۡرَةٗ وَعَشِيّٗا ٦٢ تِلۡكَ ٱلۡجَنَّةُ
ٱلَّتِي نُورِثُ مِنۡ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّٗا ٦٣
" جَنَّٰتِ
عَدۡنٍ ٱلَّتِي وَعَدَ ٱلرَّحۡمَٰنُ عِبَادَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِ " يقول تعالى
الجنات التى يدخلها التائبون من ذنوبهم هى جنات عدن أى اقامة دائمة خالدة التى وعد
الرحمن فهو الرحمن بعباده بظهر الغيب أى هى من الغيب الذى يؤمنون به ذلك لشدة
ايقانهم وقوة ايمانهم ، " إِنَّهُۥ كَانَ وَعۡدُهُۥ مَأۡتِيّٗا "
هذا تأكيد لحصول ما وعد الله به فهو ثابت ومحقق وآت فان الله لا يخلف الميعاد ولا
يبدله كقوله تعالى " وكان وعده مفعولا " ، " لَّا يَسۡمَعُونَ
فِيهَا لَغۡوًا " فى هذه الجنات لايسمعون فيها كلام ساقط تافه لا معنى له كما
يوجد فى الدنيا ، " إِلَّا سَلَٰمٗا
" لا يسمع فى الجنة الا السلام وهى دار السلام والسلام هو تحية أهل الجنة ولا
يسمع فيها الا ما هو سلام وأهلها فى سلام وهذا كقوله " لا يسمعون فيها لغوا
ولا تأثيما الا قيلا سلاما سلاما " ، " وَلَهُمۡ رِزۡقُهُمۡ فِيهَا
بُكۡرَةٗ
وَعَشِيّٗا "
وقال الحسن البكور يرد على العشى والعشى يرد على البكور ليس فيها ليل أى أن رزقهم
متصل غير منقطع ولهم فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت وما خطر على قلب بشر من الرزق ما تشتهيه الأنفس
وتلذ به الأعين وعن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أول
زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها ولا يتمخطون فيها
ولا يتغوطون آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك ولكل واحد
منهم زوجتان يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض
قلوبهم على قلب رجل واحد يسبحون الله بكرة وعشيا " ، " تِلۡكَ
ٱلۡجَنَّةُ ٱلَّتِي نُورِثُ مِنۡ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّٗا"
هذه الجنة التى وصفها الله بهذه الصفات العظيمة هى التى يورثها عباده المتقين وهم
المطيعون لله عز وجل فى السراء والضراء .
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا
بَيۡنَ أَيۡدِينَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَيۡنَ ذَٰلِكَۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ
نَسِيّٗا ٦٤ رَّبُّ
ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا فَٱعۡبُدۡهُ وَٱصۡطَبِرۡ
لِعِبَٰدَتِهِۦۚ هَلۡ تَعۡلَمُ لَهُۥ سَمِيّٗا ٦٥
قال الامام أحمد عن أبن عباس قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لجبرائيل " ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا ؟ " فنزلت
" وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَ " وقال العوفى عن أبن عباس
احتبس جبرائيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد
( أصابه الوجد وهو الحزن الشديد ) رسول
الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وحزن فأناه جبرائيل وقال : يا محمد " وما
نتنزل الا بأمر بك " ، " لَهُۥ
مَا بَيۡنَ أَيۡدِينَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَيۡنَ ذَٰلِكَ " قيل المراد له
ما بين أيدينا من أمر الدنيا وما خلفنا من أمر الآخرة وما بين الدنيا والآخرة قيل
عن " وما بين ذلك " ما بين النفختين ، " وَمَا كَانَ رَبُّكَ
نَسِيّٗا " قال مجاهد
معناه ما نسيك ربك كقوله " ما ودعك ربك وما قلى " وعن أبى الدرداء قال
" ما أحل الله فى كتابه فهو حلال وما حرمه فهوحرام وما سكت عنه فهو عافية
فاقبلوا من الله عافيته فان الله لم يكن لينسى شيئا ثم تلا " وما كان ربك
نسيا " ، " رَّبُّ
ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا " والله هوخالق السموات والأرض
وما بينهما وهو مدبره والحاكم فيه والمتصرف الذى لا معقب لحكمه ، " فَٱعۡبُدۡهُ وَٱصۡطَبِرۡ لِعِبَٰدَتِهِۦۚ هَلۡ
تَعۡلَمُ لَهُۥ سَمِيّٗا " يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بعبادته
والصبر على مداومة العبادة ويسأل الله من باب التحقق هل تعلم للرب مثلا أو شبيها
كما قال أبن عباس وغيره .
وَيَقُولُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوۡفَ
أُخۡرَجُ حَيًّا ٦٦ أَوَ لَا يَذۡكُرُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقۡنَٰهُ مِن قَبۡلُ
وَلَمۡ يَكُ شَيۡٔٗا ٦٧ فَوَرَبِّكَ لَنَحۡشُرَنَّهُمۡ وَٱلشَّيَٰطِينَ
ثُمَّ لَنُحۡضِرَنَّهُمۡ حَوۡلَ جَهَنَّمَ جِثِيّٗا ٦٨ ثُمَّ
لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمۡ أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحۡمَٰنِ عِتِيّٗا ٦٩ ثُمَّ لَنَحۡنُ
أَعۡلَمُ بِٱلَّذِينَ هُمۡ أَوۡلَىٰ بِهَا صِلِيّٗا ٧٠
"
وَيَقُولُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوۡفَ أُخۡرَجُ حَيًّا " يخبر
الله تعالى عن الانسان أنه يتعجب ويستبعد اعادته وبعثه من بعد موته كما قال " وان تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا
أئنا لفى خلق جديد " ، " أَوَ لَا يَذۡكُرُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَنَّا
خَلَقۡنَٰهُ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ يَكُ شَيۡٔٗا "
يذكر الله الانسان بما كان عليه فقد خلقه من عدم أفلا يعيده وقد صار شيئا كما قال
تعالى " وهو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه " وفى الصحيح
" يقول الله تعالى كذبنى أبن آدم ولم يكن له أن يكذبنى ، وآذانى أبن آدم ولم
يكن له أن يؤذينى ، أما تكذيبه اياى فقوله لن يعيدنى كما بدأنى وليس أول الخلق
بأهون على من آخره ، وأما أذاه اياى فقوله أن لى ولدا وأنا الأحد الصمد الذى لم
يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " ، " فَوَرَبِّكَ لَنَحۡشُرَنَّهُمۡ
وَٱلشَّيَٰطِينَ " أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة أنه لابد أن يحشر المنكرين
للبعث جميعا وشياطينهم الذين كانوا يعبدون من دون الله ، " ثُمَّ
لَنُحۡضِرَنَّهُمۡ حَوۡلَ جَهَنَّمَ جِثِيّٗا " والله سيحضرهم يوم القيامة حول جهنم جثيا قال أبن
عباس قعودا كقوله " وترى كل أمة جاثية " وقال السدى قياما ، " ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمۡ
أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحۡمَٰنِ عِتِيّٗ" قال قتادة ثم لننزعن من أهل كل دين قادتهم ورؤسائهم فى
الشر العتاة الذين تجبروا وتجرأوا على عصيانه
، " ثُمَّ لَنَحۡنُ أَعۡلَمُ
بِٱلَّذِينَ هُمۡ أَوۡلَىٰ بِهَا صِلِيّٗا " فالله أعلم بمن هو يستحق أن يصلى عذاب جهنم وأولى به
ويخلد فيها وبمن يستحق تضعيف العذاب كما قال " قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون
" .
وَإِن مِّنكُمۡ
إِلَّا وَارِدُهَاۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتۡمٗا مَّقۡضِيّٗا ٧١ ثُمَّ نُنَجِّي
ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيّٗا ٧٢
" وَإِن
مِّنكُمۡ إِلَّا وَارِدُهَا " أختلف فى ورود جهنم قال أبن عباس يعنى الكفار
وقال العوفى عن أبن عباس البر والفاجر والورود هو القيام حول الناروقال قتادة هو
الممر عليها وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ورود المسلمين المرورعلى الجسر بين
ظهرانيها وورود المشركين أن يدخلوها كقوله " انكم وما تعبدون من دون الله حصب
جهنم أنتم لها واردون " وقال عن فرعون " يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم
النار " وكقوله " ونسوق المجرمين الى جهنم وردا " وسمى الورود
للمشركين على النار دخولا ، وعن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم " يرد الناس كلهم ثم يصدرون عنها بأعمالهم " ، وعن أبى الأحوص عن عبد الله قال الصراط على جهنم
مثل حد السيف فتمر الطبقة الأولى كالبرق والثانية كالريح والثالثة كاجود الخيل
والرابعة كأجود البهائم ثم يمرون والملائكة يقولون اللهم سلم سلم ولهذا شواهد فى
الصحيحين وغيرهما من رواية أنس وأبى سعيد وأبى هريرة وجابر وغيرهم من الصحابة رضى
الله عنهم ، والسير بعدذلك على الصراط من يزحزح عنها بعمله الصالح ويسير الى الجنة
ومنهم من يقع فيها ويدخلها وعن عبد الله بن مسعود قال : يرد الناس جميعا الصراط
وورودهم قيامهم حول النار ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم فمنهم من يمر مثل البرق
ومنهم من يمر مثل الريح ومنهم من يمر مثل الطير ومنهم من يمر كأجود الخيل ومنهم من
يمر كأجود الابل ومنهم من يمر كعدو الرجل حتى أن آخرهم مرا رجل نوره على موضع
ابهامى قدميه يمر فيتكفأ به الصراط دحض مزلة عليه حسك كحسك القتاد حافتاه ملائكة
معهم كلاليب من النار يختطفون بها الناس " ، " كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ
حَتۡمٗا مَّقۡضِيّٗا "
قال أبن مسعود قسما واجبا وقال مجاهد حتما قضاء أى هذا وعد صدق من الله محتم
الوقوع وأمر مقضى مفروغ منه لا نقاش ولا جدال فيه ، " ثُمَّ نُنَجِّي
ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوا وَّنَذَرُ ٱلظَّٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيّٗا "
اذا مر الخلائق كلهم على النار وسقط فيها من سقط من الكفار والعصاة ذوى المعاصى
بحسبهم نجى الله تعالى المؤمنين المتقين منها بحسب أعمالهم فجوازهم على الصراط
وسرعتهم بقدر أعمالهم التى كانت فى الدنيا ثم يشفعون فى أصحاب الكبائر من المؤمنين
فيشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون فيخرجون خلقا كثيرا قد أكلتهم النار واخراجهم
اياهم من النار بحسب ما فى قلوبهم من الايمان فيخرجون أولا من كان فى قلبه مثقال
دينار من ايمان ثم الذى يليه ثم الذى يليه حتى يخرجوا من كان فى قلبه أدنى أدنى
مثقال ذرة من ايمان ثم يخرج الله من النار من قال يوما من الدهر لا اله الا الله
وان لم يعمل خيرا قط ولا يبقى فى النار الا من وجب عليه الخلود كما وردت بذلك
الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ْ .
وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالَ ٱلَّذِينَ
كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَيُّ ٱلۡفَرِيقَيۡنِ خَيۡرٞ مَّقَامٗا وَأَحۡسَنُ نَدِيّٗا ٧٣ وَكَمۡ
أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ هُمۡ أَحۡسَنُ أَثَٰثٗا وَرِءۡيٗا ٧٤
" وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا
بَيِّنَٰتٖ" يقول الله تعالى عن
الكفار حين تتلى عليهم آيات الله ظاهرة الدلالة بينة الحجة واضحة البرهان أنهم
يصدون ويعرضون عن ذلك ، " قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ
أَيُّ ٱلۡفَرِيقَيۡنِ خَيۡرٞ مَّقَامٗا وَأَحۡسَنُ نَدِيّٗا " يقول الكفار عن الذين آمنوا مفتخرين عليهم ومحتجين على
صحة ما هم عليه من الباطل بأنهم أحسن منازل وأرفع دورا وأحسن نديا وهو مجتمع
الرجال للحديث أى ناديهم أعمر وأكثر واردا وطارقا يعنون فكيف نكون ونحن بهذه
المثابة على باطل وأولئك الين هم مخنفون مستترون فى دار الأرقم بن أبى الأرقم
ونحوها من الدور على الحق كما قال تعالى مخبرا " وقال الذين كفروا للذين
آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا اليه " وقال قوم نوح " أنؤمن لك واتبعك
الأرذلون " ، " وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ هُمۡ أَحۡسَنُ
أَثَٰثٗا وَرِءۡيٗا " ورد الله
عليهم أن وكم من أمة وقرن من المكذبين قد أهلكناهم بكفرهم وكانوا أحسن من هؤلاء
أموالا وأمتعة ومناظر وأشكالا وعن أبن عباس قال المقام المنزل والندى المجلس
والأثاث والرئى المنظر وقال العوفى عن أبن عباس المقام المسكن والندى المجلس
والنعمة والبهجة التى كانوا فيها وهوكما قال لقوم فرعون حين أهلكهم وقص شأنهم
" كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقامكريم " فالمقام المسكن والنعيم
والندى المجلس والمجمع الذى كانوا يجتمعون فيه وقال الله تعالى فيما قص عن لوط
عليه السلام لقومه " وتأتون فى ناديكم المنكر " والعرب تسمى المجلس النادى
وقال مالك " أثاثا ورئيا " أكثر أموالا وأحسن صورا والكل متقارب صحيح .
قُلۡ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلَٰلَةِ فَلۡيَمۡدُدۡ لَهُ
ٱلرَّحۡمَٰنُ مَدًّاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا رَأَوۡاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا ٱلۡعَذَابَ
وَإِمَّا ٱلسَّاعَةَ فَسَيَعۡلَمُونَ مَنۡ هُوَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضۡعَفُ جُندٗا ٧٥
يقول تعالى قل يا محمد لهؤلاء
المشركين بربهم المدعين أنهم على الحق وهم على الباطل " قُلۡ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلَٰلَةِ "
من كان منا ومنكم على الضلال ،
" فَلۡيَمۡدُدۡ لَهُ ٱلرَّحۡمَٰنُ
مَدًّا " فيمهله الرحمن فيما هو فيه حتى يلقى ربه وينقضى أجله ، قال مجاهد فليدعه الله فى طغيانه ، " حَتَّىٰٓ
إِذَا رَأَوۡاْ مَا يُوعَدُونَ " حتى يحين ويأتى ما وعد الله به ، " إِمَّا
ٱلۡعَذَابَ" فسيكون عذاب الله ، " وَإِمَّا ٱلسَّاعَةَ " وأما أن
يأتيه أمر الساعة بغتة ، فَسَيَعۡلَمُونَ
" حين يأتى أحد الأمرين فسيعلمون حينئذ ، " مَنۡ هُوَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضۡعَفُ جُندٗا " من هو منا فى مقابلة ما احتجوا به من خيرية
المقام وحسن الندى من هو أشر مكانة عند الله ومن هو أقل منتدى ، هذه مباهلة للمشركين الذين يزعمون أنهم على هدى
فيما هم فيه من الضلال ويتباهون فيما هم فيه من الدنيا بأن لهم الخيرية وحسن الندى
وهم عكس ذلك عند الله ، كما ذكر تعالى فى مباهلة اليهود فى قوله " يا أيها
الذين هادوا ان زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت ان كنتم صادقين
" أى أدعوا بالموت على المبطل منا ومنكم ان كنتم تدعون أنكم على الحق فانه لا
يضركم الدعاء فنكلموا عن ذلك ، وكما ذكر تعالى المباهلة مع النصارى فى سورة آل
عمران حين صمموا على الكفر واستمروا على الطغيان والغلو فى دعواهم أن عيسى ولد
الله وقد ذكر الله حججه وبراهينه على عبودية عيسى عليه السلام وأنه مخلوق كآدم قال
تعالى " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءتا
وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين
" فنكلوا أيضا عن ذلك .
وَيَزِيدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱهۡتَدَوۡاْ هُدٗىۗ وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ
ٱلصَّٰلِحَٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيۡرٞ مَّرَدًّا ٧٦
لما ذكر الله تعالى امداد من هو فى الضلالة فيما هو فيه
وزيادته على ما هو عليه "
وَيَزِيدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱهۡتَدَوۡاْ هُدٗى " أخبر الله
تعالى بزيادة المهتدين هدى كما فى قوله "واذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول
أيكم زادته هذه ايمانا " ، " وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّٰلِحَٰتُ " هى
جميع أعمال الحسنات التى تبقى لأهلها فى الجنة مادامت السموات والأرض وقال عبد الرحمن
بن زيد بن أسلم هى الأعمال الصالحة كلها وقال العوفى عن أبن عباس هى الكلام الطيب
كما ورد فى سورة الكهف " والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا
" عن أبى سلمة بن عبد الرحمن قال جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم
فأخذ عودا يابسا فحط ورقة ثم قال " ان قول لا اله الا الله والله أكبر وسبحان
الله والحمد لله تحط الخطايا كما تحط ورق هذه الشجرة الريح خذهن يا أبا الدرداء
قبل أن يحال بينك وبينهن هن الباقيات الصالحات وهن من كنوز الجنة ، فكان أبو
الدرداء اذا ذكر هذا الحديث قال لأهللن الله ولأكبرن الله ولأسبحن الله حتى اذا
رآنى الجاهل حسب أنى مجنون " وهذا ظاهره أنه مرسل ، " خَيۡرٌ عِندَ
رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيۡرٞ مَّرَدًّا " عند الله أفضل فى الجزاء وفى العاقبة ومردا على
صاحبها .
أَفَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي كَفَرَ بَِٔايَٰتِنَا
وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالٗا وَوَلَدًا ٧٧ أَطَّلَعَ ٱلۡغَيۡبَ أَمِ ٱتَّخَذَ
عِندَ ٱلرَّحۡمَٰنِ عَهۡدٗا ٧٨ كَلَّاۚ سَنَكۡتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُۥ
مِنَ ٱلۡعَذَابِ مَدّٗا ٧٩ وَنَرِثُهُۥ مَا يَقُولُ وَيَأۡتِينَا فَرۡدٗا ٨٠
قال مجاهد وقتادة وغيرهم أنها نزلت فى العاص بن وائل وعن خباب بن الأرت قال : كنت رجلا قينا وكان لى على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه منه فقال : لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقلت : لا والله لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى تموت ثم تبعث قال : فانى اذا مت ثم بعثت جئتنى ولى ثم مال وولد فأعطيتك فأنزل الله الآيات ، وقال العوفى عن أبن عباس ان رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يطلبون العاص بن وائل السهمى بدين فأتوه يتقاضونه فقال : ألستم تزعمون أن فى الجنة ذهبا وفضة وحريرا ومن كل الثمرات ؟ قالوا : بلى قال : فان موعدكم الآخرة فوالله لأوتين مالا وولدا ولأوتين مثل كتابكم الذى جئتم به فضرب الله مثله فى القرآن " أَفَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي كَفَرَ بَِٔايَٰتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالٗا وَوَلَدًا" يضرب الله المثل فجذب القارىء والسامع الى الكلام هل دار بتفكيرك " أفرأيت " وجاءت فى سور من القرآن وهى دعوة للتفكر والتأمل كما فى قوله " أرأيت الذى يكذب بالدين " الذى كفر بآيات الله وهو العاص بن وائل وقال وهو يدعى أن الله سيؤتين مالا وأولادا فى الآخرة يوم القيامة ،"أَطَّلَعَ ٱلۡغَيۡبَ" انكارمن الله على هذا القائل " لأوتين مالا وولدا " يعنى يوم القيامة أى أعلم ماله فى الآخرة حتى تألى وحلف على ذلك هل له علم بالغيب ويعرفه ، " أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحۡمَٰنِ عَهۡدٗا " أم له عند الله عهد سيؤتيه ذلك ؟ ، " كَلَّا " هى حرف ردع لما قبلها وتأكيد لما بعدها ، " سَنَكۡتُبُ مَا يَقُولُ " سيسجل فى أعماله ما يقول من طلبه ذلك وحكمه لنفسه بما يتمناه وكفره بالله العظيم ، " وَنَمُدُّ لَهُۥ مِنَ ٱلۡعَذَابِ مَدّٗا " وسيكون جزاءه يوم القيامة فى الدار الآخرة عذاب ممدود غير منقطع بتكرار مدا المؤكدة لوقوع الفعل على قوله ذلك وكفره بالله فى الدنيا ، " وَنَرِثُهُۥ مَا يَقُولُ " سوف ينال يوم القيامة ما يستحق من قول عكس ما قال فى الدنيا سوف يسلب منه المال والولد وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ما جمع من الدنيا وما عمل فيها ، " وَيَأۡتِينَا فَرۡدٗا "ويبعث يوم القامة وحيدا لا يتبعه قليل ولا كثير .
وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ ءَالِهَةٗ لِّيَكُونُواْ لَهُمۡ
عِزّٗا ٨١ كَلَّاۚ سَيَكۡفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمۡ وَيَكُونُونَ
عَلَيۡهِمۡ ضِدًّا ٨٢ أَلَمۡ تَرَ أَنَّآ أَرۡسَلۡنَا ٱلشَّيَٰطِينَ عَلَى
ٱلۡكَٰفِرِينَ تَؤُزُّهُمۡ أَزّٗا ٨٣ فَلَا تَعۡجَلۡ عَلَيۡهِمۡۖ إِنَّمَا نَعُدُّ
لَهُمۡ عَدّٗا ٨٤
" وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ ءَالِهَةٗ لِّيَكُونُواْ لَهُمۡ عِزّٗا " يخبر تعالى عن الكفار المشركين بربهم أنهم اتخذوا من دونه آلهة لتكون تلك الآلهة عزا أى يعتزون بها ويستنصرونها ، " كَلَّاۚ سَيَكۡفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمۡ وَيَكُونُونَ عَلَيۡهِمۡ ضِدًّا " ليس الأمر كما زعموا ولا يكون ما طمعوا يوم القيامة الأمر بخلاف وضد ما ظنوا سيكفرون بعبادة الأوثان وتكون بخلاف ما رجوا منهم قال مجاهد عونا عليهم تخاصمهم وتكذبهم وقال قتادة قرناء فى النار يلعن بعضهم بعضا ويكفر بعضهم ببعض وقال السدى الخصماء الأشداء فى الخصومة وقال الضحاك أعداء ، " أَلَمۡ تَرَ " جذب لانتباه القارىء والسامع ودعوة للتفكير ، " أَنَّآ أَرۡسَلۡنَا ٱلشَّيَٰطِينَ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ تَؤُزُّهُمۡ أَزّٗا " يخبر الله تعالى بتسلط الشياطين على الكافرين تغويهم اغواء كما قال أبن عباس وقال قتادة تزعجهم ازعاجا الى معاصى الله وقال سفيان الثورى تغريهم اغراء وتستعجلهم استعجالا كقوله تعالى " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين " ، " فَلَا تَعۡجَلۡ عَلَيۡهِمۡۖ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمۡ عَدّٗا " يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم لا تعجل على هؤلاء فى وقوع العذاب بهم انما نؤخرهم لأجل معدود مضبوط وهم صائرون لا محالة الى عذاب الله ونكاله كما قال " فمهل الكافرين أمهلهم رويدا " وقال السدى انما نعد لهم السنين والشهور والأيام والساعات وقال أبن عباس نعد أنفاسهم فى الدنيا .
يَوۡمَ نَحۡشُرُ ٱلۡمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحۡمَٰنِ
وَفۡدٗا ٨٥ وَنَسُوقُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرۡدٗا ٨٦ لَّا يَمۡلِكُونَ
ٱلشَّفَٰعَةَ إِلَّا مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحۡمَٰنِ عَهۡدٗا ٨٧
" يَوۡمَ نَحۡشُرُ ٱلۡمُتَّقِينَ إِلَى
ٱلرَّحۡمَٰنِ وَفۡدٗا "يخبر
الله تعالى عن أوليائه المتقين الذين خافوه فى الدار الدنيا واتبعوا رسله وصدقوهم
فيما أخبروهم وأطاعوهم فيما أمروهم به وانتهوا عما زجروهم أنه يحشرهم يوم القيامة
وفدا اليهأآ ركبانا كما قال ابن عباس ،
" وَنَسُوقُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرۡدٗا "
المجرمون المكذبون للرسل المخالفون لهم يساقون الى النار وردا أى عطاشا ، " لَّا يَمۡلِكُونَ ٱلشَّفَٰعَةَ "
ليس لهم من يشفع لهم كما يشفع المؤمنون بعضهم لبعض كما قال تعالى " فما لنا
من شافعين ولا صديق حميم " ، " إِلَّا مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحۡمَٰنِ
عَهۡدٗا" قال
أبن عباس العهد شهادة أن لا اله اللا الله ويبرأ الى الله من الحول والقوة ولا
يرجوا الا الله عز وجل .
وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَلَدٗا ٨٨ لَّقَدۡ جِئۡتُمۡ
شَيًۡٔا إِدّٗا ٨٩ تَكَادُ
ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرۡنَ مِنۡهُ وَتَنشَقُّ ٱلۡأَرۡضُ وَتَخِرُّ ٱلۡجِبَالُ
هَدًّا ٩٠ أَن دَعَوۡاْ لِلرَّحۡمَٰنِ وَلَدٗا ٩١ وَمَا يَنۢبَغِي
لِلرَّحۡمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ٩٢ إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ
إِلَّآ ءَاتِي ٱلرَّحۡمَٰنِ عَبۡدٗا ٩٣ لَّقَدۡ أَحۡصَىٰهُمۡ وَعَدَّهُمۡ عَدّٗا ٩٤ وَكُلُّهُمۡ
ءَاتِيهِ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَرۡدًا ٩٥
" وَقَالُواْ
ٱتَّخَذَ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَلَدٗا " ينكر الله على من قال أن عيسى أبن الله تقدس الله
تعالى وتنزه عن ذلك علوا كبيرا ، " لَّقَدۡ جِئۡتُمۡ شَيًۡٔا إِدّٗا "
فى قولكم هذا شيئا عظيما منكرا ، " " تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ
يَتَفَطَّرۡنَ مِنۡهُ وَتَنشَقُّ ٱلۡأَرۡضُ وَتَخِرُّ ٱلۡجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوۡاْ
لِلرَّحۡمَٰنِ وَلَدٗا " فى ادعائهم أن لله ولدا يكاد السموات عند سماعها هذا
الكلام من فجرة بنى آدم قال الضحاك يتشققن فرقا من عظمة الله وتنشق الأرض أى غضبا
له عز وجل وتخر الجبال أى تسقط هدما وقال سعيد بن جبير هدا ينكسر بعضها على بعض
متتابعات " وَمَا يَنۢبَغِي لِلرَّحۡمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا " لا
يصلح لله الرخمن ولا يليق به لجلاله وعظمته لأنه لا كفء له من خلقه أن يكون له ولد
لأن جميع الخلائق عبيد له ، " إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ
إِلَّآ ءَاتِي ٱلرَّحۡمَٰنِ عَبۡدٗا " كل من فى السموات والأرض عبيد لله يرجعون اليه يوم
القيامة " لَّقَدۡ أَحۡصَىٰهُمۡ
وَعَدَّهُمۡ عَدّٗا " قد علم عددهم منذ خلقهم الى يوم القيامة ذكرهم
وأنثاهم وصغيرهم وكبيرهم ، " وَكُلُّهُمۡ ءَاتِيهِ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ
فَرۡدًا " الكل سيبعث لا ناصر له ولا مجير الا الله وحده لا شريك له فيحكم فى
خلقه بما شاء وهو العادل الذى لا يظلم مثقال ذرة ولا يظلم أحدا .
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ
سَيَجۡعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحۡمَٰنُ وُدّٗا ٩٦ فَإِنَّمَا يَسَّرۡنَٰهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ
بِهِ ٱلۡمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِۦ قَوۡمٗا لُّدّٗا ٩٧ وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ هَلۡ
تُحِسُّ مِنۡهُم مِّنۡ أَحَدٍ أَوۡ تَسۡمَعُ لَهُمۡ رِكۡزَۢا ٩٨
" إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَيَجۡعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحۡمَٰنُ وُدّٗا " يخبر الله تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات وهى الأعمال التى ترضى الله عزوجل فى قلوب الصالحين قلوب أهل الايمان محبة ومودة وقال سعيد بن جبير يحبهم الله ويحببهم الى خلقه المؤمنين وقال أبن عباس الود من المسلمين فى الدنيا والرزق الحسن واللسان الصادق ، وهذا أمر لابد منه ولا محيد عنه كما ورد فى الأحاديث الصحيحة فعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال" ان الله اذا أحب عبدا دعا جبريل فقال يا جبريل انى أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادى فى أهل السماء ان الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول فى الأرض وان الله اذا أبغض عبدا دعا جبريل فقال يا جبريل انى أبغض فلانا فأبغضه فيبغضه جبريل ثم ينادى فى أهل السماء أن الله يبغض فلانا فأبغضوه فيبغضه أهل السماء ثم يوضع له البغضاء فى الأرض " ، " فَإِنَّمَا يَسَّرۡنَٰهُ بِلِسَانِكَ " يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم يسرنا وسهلنا القرآن وجعلناه بلسانك وهو اللسان العربى المبين الفصيح الكامل ، " لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلۡمُتَّقِينَ" لتبشر به المستجيبين لله المصدقين لرسوله ، " وَتُنذِرَ بِهِۦ قَوۡمٗا لُّدّٗا " وتنذر به الكفار قوما عوجا عن الحق مائلين الى الباطل وقال مجاهد قوما لدا لايستقيمون وقال الضحاك الألد الخصم وقال القرظى الألد الكذاب وقال أبن عباس فجارا ،" وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ " وكم تفيد الكثرةوالعدد أى أهلك الله الكثير من الأمم كفروا يآيات الله وكذبوا رسله ، " هَلۡ تُحِسُّ مِنۡهُم مِّنۡ أَحَدٍ أَوۡ تَسۡمَعُ لَهُمۡ رِكۡزَۢا " هل ترى منهم أحدا أو تسمع لهم قال أبن عباس ركزا يعنى صوتا والركز فى أصل اللغة هو الصوت الخفى.
الجزء السادس عشر
تفسير سورة طه
سورة مكية
فيها صفات السور المكية لتثبيت العقيدة واثبات قدرة الله فى الكون وتناقش قضية
الايمان والكفر وتتحدث عنما حدث مع الأنبياء من تكذيب قومهم ونصر الله لهم .
طه ١ مَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ
لِتَشۡقَىٰٓ ٢ إِلَّا تَذۡكِرَةٗ لِّمَن يَخۡشَىٰ ٣ تَنزِيلٗا مِّمَّنۡ خَلَقَ
ٱلۡأَرۡضَ وَٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلۡعُلَى ٤ ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ ٥
لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا وَمَا تَحۡتَ
ٱلثَّرَىٰ ٦ وَإِن تَجۡهَرۡ بِٱلۡقَوۡلِ فَإِنَّهُۥ يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخۡفَى ٧
ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰ ٨
" طه " قيل هى حروف مقطعة وحكم الحروف
المقطعة فى افتتاح السور تقدم الكلام عنه فى سورة البقرة ، وقال أبن عباس أنها
كلمة نبطية معناها يارجل وقال أبو صالح هى معربة وعن الربيع بن أنس قال كان النبى
صلى الله عليه وسلم اذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى فأنزل الله تعالى "طه"
يعنى طأ الأرض يا محمد ولا يخفى ما فى هذا من الاكرام وحسن المعاملة أى أن هذا فى
المجمل خطاب الى الرسول يمكن أن يكون يرفع رجله من كثرة القيام أو خطاب مباشر له ،
" مَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لِتَشۡقَىٰٓ " قال الضحاك لما
أنزل الله القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم قام به هو وأصحابه فقال المشركون
من قريش ما أنزل هذا القرآن على محمد الا ليشقى فأنزل الله الآية وقال قتادة لا
والله ما جعله شقاء ولكن جعله رحمة ونورا ودليلا الى الجنة وهى كقوله "
فاقرءوا ما تيسر منه " قال مجاهد وكانوا يعلقون الحبال بصدورهم فى الصلاة ،
" إِلَّا تَذۡكِرَةٗ لِّمَن يَخۡشَىٰ " الله أنزل كتابه وبعث رسوله صلى الله عليه
وسلم رحمة رحم بها عباده ليتذكر ذاكر وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله وهو ذكر
أنزل الله فيه حلاله وحرامه ، " تَنزِيلٗا مِّمَّنۡ خَلَقَ ٱلۡأَرۡضَ وَٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلۡعُلَى " هذا
القرآن الذى جاءك يا محمد هو تنزيل من ربك رب العالمين رب كل شىء ومليكه القادر
على ما يشاء الذى خلق السموات والأرض ، " ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ
ٱسۡتَوَىٰ " الطريق والمسلك الأسلم فى ذلك طريفة السلف امرارا ما جاء فى ذلك
من الكتاب والسنة من غبر تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولاتعطيل ولا تمثيل فلا نسأل
عن أمور يعجز عنها العقل وندخل فى تفاصيل وجدل عن العرش والاستواء ، " لَهُۥ
مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا وَمَا تَحۡتَ
ٱلثَّرَىٰ " الجميع ملك الله وفى قبضته وتحت تصرفه ومشيئته وارادته وحكمه ما
فى السموات وما فى الأرض وما بينهما وما تحت الأرض ، " وَإِن تَجۡهَرۡ
بِٱلۡقَوۡلِ فَإِنَّهُۥ يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخۡفَى " اذا ارتفع صوتك بذكر
الله فالله الذى أنزل هذا القرآن الذى خلق الأرض والسموات العلى الذى يعلم السر
وأخفى قال أبن عباس السر ما أسره أبن آدم فى نفسه " وأخفى " ما خفى على
ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعلمه فالله يعلم ذلك كله فعلمه فيما مضى من ذلك وما
بقى علم واحد وجميع الخلائق فى ذلك عنده كنفس واحدة وقال الضحاك السر ما تحدث به
نفسك وأخفى ما لم تحدث به نفسك وقال مجاهد " وأخفى " يعنى الوسوسة ،
" ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ
لَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰ " الذى أنزل عليك القرآن هو الله الذى لا اله
الا هو ذو الأسماء الحسنى والصفات العلى ووردت أحاديث فى الأسماء الحسنى وهذا
الأمر سبق مناقشته فى أواخر سورة الأعراف .
وَهَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ مُوسَىٰٓ ٩ إِذۡ رَءَا نَارٗا فَقَالَ لِأَهۡلِهِ
ٱمۡكُثُوٓاْ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا لَّعَلِّيٓ ءَاتِيكُم مِّنۡهَا بِقَبَسٍ أَوۡ أَجِدُ
عَلَى ٱلنَّارِ هُدٗى ١٠
شرع الله
تعالى فى ذكر قصة موسى عليه السلام وكيف كان ابتداء الوحى اليه وتكليمه اياه وذلك
بعد ما قضى موسى عليه السلام الأجل الذى بينه وبين صهره فى رعاية الغنم وسار بأهله
قيل قاصدا مصر بعد ما طالت الغيبة عنها أكثر من عشر سنين ومعه زوجته فأضل الطريق
وكانت ليلة شاتية وجعل يقدح بزند معه ليورى نارا كما جرت له العادة به فجعل لا
يقدح شيئا ولا يخرج منه شرر " وَهَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ مُوسَىٰٓ " يفتح
الله الكلام بالتساؤل لشد انتباه القارىء والسامع تبليغا لرسوله محمد صلى الله
عليه وسلم هل تعلم قصة حديث موسى عليه السلام وما دار فيه ، " إِذۡ رَءَا نَارٗا " ظهرت له نار من جانب الجبل الذى هناك عن يمينه ،
" فَقَالَ لِأَهۡلِهِ ٱمۡكُثُوٓاْ
إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا " فقال لأهله يبشرهم أنى أنست نارا أى ظهرت لى نارا ،
" لَّعَلِّيٓ ءَاتِيكُم مِّنۡهَا بِقَبَسٍ " يمكننى أن آتيكم بشهاب من
نار وهو القبس وفى آية أخرى " أو جذوة من النار " وهى الجمر الذى معه
لهب ، " أَوۡ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدٗى " أو أجد من يهدينى الى الطريق ودل على أنه قد تاه عن
الطريق وقال أبن عباس من يهدينى الى الطريق وكانوا شاتين وضلوا الطريق فلما رأى
النار قال ان لم أجد أحدا يهدينى الى الطريق آتيكم بنار توقدون بها .
فَلَمَّآ أَتَىٰهَا
نُودِيَ يَٰمُوسَىٰٓ ١١ إِنِّيٓ أَنَا۠ رَبُّكَ فَٱخۡلَعۡ نَعۡلَيۡكَ إِنَّكَ
بِٱلۡوَادِ ٱلۡمُقَدَّسِ طُوٗى ١٢ وَأَنَا ٱخۡتَرۡتُكَ فَٱسۡتَمِعۡ لِمَا يُوحَىٰٓ
١٣ إِنَّنِيٓ أَنَا ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدۡنِي وَأَقِمِ
ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِيٓ ١٤ إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخۡفِيهَا
لِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا تَسۡعَىٰ ١٥ فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنۡهَا مَن لَّا
يُؤۡمِنُ بِهَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ فَتَرۡدَىٰ ١٦
استطراد لقصة موسى عليه السلام " فَلَمَّآ أَتَىٰهَا نُودِيَ يَٰمُوسَىٰٓ " لما أتى موسى عليه السلام النار واقترب منها أتاه نداء من الله وفى آية أخرى " نودى من شاطىء الواد الأيمن فى البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى انى أنا الله " ، " إِنِّيٓ أَنَا۠ رَبُّكَ فَٱخۡلَعۡ نَعۡلَيۡكَ إِنَّكَ بِٱلۡوَادِ ٱلۡمُقَدَّسِ طُوٗى " ناداه الله أنى أنا ربك الذى يكلمك ويخاطبك فاخلع نعليك لأن فى وادى طوى المقدس وقيل انما أمر بخلع نعليه تعظيما للبيعة وقال سعيد بن جبير كما يؤمر الرجل أن يخلع نعليه اذا أراد أن يدخل الكعبة وقيل ليطأ الأرض المقدسة بقدميه حافيا غير منتعل ، " وَأَنَا ٱخۡتَرۡتُكَ " اصطفيتك واخصصتك بالرسالة كقوله " انى اصطفيتك على الناس برسالاتى وبكلامى " أى على جميع الناس فى زمانه ، " فَٱسۡتَمِعۡ لِمَا يُوحَىٰٓ " استمع الآن ما أقول لك وأوحيه اليك ، " إِنَّنِيٓ أَنَا ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا " يقول تعالى اننى أنا الله لا اله الا أنا وهذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا اله الا الله وحده لا شريك له - رسالة التوحيد وهى رسالة جميع الرسل ، " فَٱعۡبُدۡنِي " وحدنى وقم بعبادتى وتأ تى العبادات بعد التوحيد وجاءت مجملة ،" وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِيٓ " وخص الله الصلاة من دون العبادات , أمره باقامتها قيل صل لتذكرنى وقيل معناه وأقم الصلاة عند ذكرك لى ويؤيد ذلك الرأى الحديث عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها اذا ذكرها فان الله تعالى قال وأقم الصلاة لذكرى" وفى الصحيحين عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من نام عن صلاة أو نسيها فكفارتها أن يصليها اذا ذكرها ، لا كفارة لها الا ذلك " ولكن ما ورد فى الحديث فى حال النوم أو نسيان الصلاة فالرأى الأول لذلك يكون أرجح ، " إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ " يؤكد الله تعالى أن يوم القيامة والبعث محقق لا ريب فيه وله وقت معلوم عند الله سبحانه وتعالى " أَكَادُ أُخۡفِيهَا " قال أبن عباس لا أطلع عليها أحد غيرى وقال السدى ليس أحد من أهل السموات والأرض الا قد أخفى الله عنه علم الساعة ولقد أخفها الله من الملائكة المقربين ومن الأنبياء والمرسلين كقوله تعالى " ثقلت فى السموات والأرض لا تأتيكم الا بغتة " أى ثقل علمها على أهل السموات والأرض ، " لِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا تَسۡعَىٰ " يقول تعالى أقيمها لا محالة لأجزىء كل عامل بعمله كقوله " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " ، " فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنۡهَا مَن لَّا يُؤۡمِنُ بِهَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ " لا تتبع سبيل من كذب بالساعة وأقبل على الدنيا وعصى مولاه واتبع هواه فان وافقت على ذلك ومن وافق على ذلك فقد خاب وخسر ، " فَتَرۡدَىٰ " أى تهلك من الردى وهو الهلكة والموت كقوله " وما يغنى عنه ماله اذا تردى " .
وَمَا تِلۡكَ
بِيَمِينِكَ يَٰمُوسَىٰ ١٧ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيۡهَا وَأَهُشُّ
بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مََٔارِبُ
أُخۡرَىٰ ١٨ قَالَ أَلۡقِهَا يَٰمُوسَىٰ ١٩ فَأَلۡقَىٰهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٞ تَسۡعَىٰ ٢٠ قَالَ
خُذۡهَا وَلَا تَخَفۡۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا ٱلۡأُولَىٰ ٢١
" وَمَا تِلۡكَ بِيَمِينِكَ يَٰمُوسَىٰ " استفهام تقرير فالله يقول لموسى عليه السلام أما هذه التى فى يمينك التى تعرفها فسترى ما تصنع بها الآن وهذه معجزة من الله تعالى لموسى عليه السلام وخرق للعادة باهر دل على أنه لا يقدر على مثل هذا الا الله عز وجل وأنه لا يأتى به الا نبى مرسل ، " قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيۡهَا " رد موسى على ربه بأنها عصاه التى يعتمد عليها فى حال المشى ، " وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي " أهز بها الشجر ليتساقط ورقه لترعاه غنمه وقال الامام مالك : الهش أن يضع الرجل المحجن فى الغصن ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثمره ولا يكسر العود فهذا الهش ، " وَلِيَ فِيهَا مََٔارِبُ أُخۡرَىٰ " ولى فى العصا منافع ومصالح أخرى ، " قَالَ أَلۡقِهَا يَٰمُوسَىٰ " أمر الله موسى عليه السلام بالقاء العصا التى فى يده ، " فَأَلۡقَىٰهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٞ تَسۡعَىٰ " عندما ألقاها موسى عليه السلام صارت فى الحال حية عظيمة ثعبانا طويلا يتحرك حركة سريعة فاذا هى تهتز كأنها جان وهو أسرع الحيات حركة ولكنه صغير ولكن هذه فى غاية الكبر وفى غاية سرعة الحركة تمشى وتضطرب ، " قَالَ خُذۡهَا وَلَا تَخَفۡۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا ٱلۡأُولَىٰ " أمر الله موسى عليه السلام أن يأخذ العصا فستعود من كونها حية تمشى الى عصا كما كانت الى حالها التى تعرف عليها قبل ذلك .
وَٱضۡمُمۡ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخۡرُجۡ بَيۡضَآءَ
مِنۡ غَيۡرِ سُوٓءٍ ءَايَةً أُخۡرَىٰ ٢٢ لِنُرِيَكَ مِنۡ ءَايَٰتِنَا ٱلۡكُبۡرَى
٢٣ ٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ ٢٤ قَالَ رَبِّ ٱشۡرَحۡ لِي صَدۡرِي
٢٥ وَيَسِّرۡ لِيٓ أَمۡرِي ٢٦ وَٱحۡلُلۡ عُقۡدَةٗ مِّن لِّسَانِي ٢٧
يَفۡقَهُواْ قَوۡلِي ٢٨ وَٱجۡعَل لِّي وَزِيرٗا مِّنۡ أَهۡلِي ٢٩
هَٰرُونَ أَخِي ٣٠ ٱشۡدُدۡ بِهِۦٓ أَزۡرِي ٣١ وَأَشۡرِكۡهُ فِيٓ أَمۡرِي ٣٢ كَيۡ
نُسَبِّحَكَ كَثِيرٗا ٣٣ وَنَذۡكُرَكَ كَثِيرًا ٣٤ إِنَّكَ كُنتَ بِنَا
بَصِيرٗا ٣٥
" وَٱضۡمُمۡ يَدَكَ إِلَىٰ
جَنَاحِكَ " هذا برهان ثان من الله لموسى عليه السلام فقد أمره الله أن يدخل
يده فى جيبه كما صرح فى آية أخرى وهنا أمره أن يكف يده تحت عضده ، " تَخۡرُجۡ
بَيۡضَآءَ مِنۡ غَيۡرِ سُوٓءٍ ءَايَةً أُخۡرَىٰ "
تخرج يده بيضاء تتلألأ من غير برص ولا أذى ومن غير شين ، " لِنُرِيَكَ مِنۡ ءَايَٰتِنَا ٱلۡكُبۡرَى " لترى بنفسك الآيات الكبرى من عند الله وتطمئن نفسك وتهدأ ، " ٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ " أمر الله موسى عليه السلام بالتوجه الى فرعون الذى تجبر وزاد ظلمه وطغيانه فيدعه الى عبادة الله وحده لا شريك له ويأمره فليحسن الى بنى اسرائيل ولا يعذبهم فانه قد طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا ونسى الرب الأعلى ، " قَالَ رَبِّ ٱشۡرَحۡ لِي صَدۡرِي " هذا سؤال من موسى عليه السلام لربه عز وجل أن يشرح له صدره فيما بعثه به فانه قد أمره بأمر عظيم جسيم : بعثه الى أعظم ملك على وجه الأرض اذ ذاك وأجبرهم وأشدهم كفرا وأكثرهم جنودا وأعمرهم ملكا وأطغاهم وأبلغهم تمردا بلغ تمرده أنه لا يعرف الله ولا يعلم لرعاياه الها غيره ، " وَيَسِّرۡ لِيٓ أَمۡرِي " سأل موسى عليه السلام ربه أن يجعل أمره مع فرعون ميسرا فهو فى مهمة صعبة مع طاغية فهو ان لم يكن الله له عونا ونصيرا وعضدا وظهيرا فلا طاقة له بذلك ، " وَٱحۡلُلۡ عُقۡدَةٗ مِّن لِّسَانِي * يَفۡقَهُواْ قَوۡلِي " سأل موسى عليه السلام الله أن يحل عنه اللثغ بحيث يحصل لهم فهم ما يريد منه وهو قدر الحاجة ولو سال الجميع لزال ولكن الأنبياء لا يسألون الا بحسب الحاجة فسأل حل عقدة واحدة وكان اللثغ أصابه حين كان صغيرا وعرض عليه التمرة والجمرة فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه كما سيأتى بيانه ، " وَٱجۡعَل لِّي وَزِيرٗا مِّنۡ أَهۡلِي * هَٰرُونَ أَخِي " سأل موسى ربه أن يعينه بأخيه هارون ، " ٱشۡدُدۡ بِهِۦٓ أَزۡرِي * وَأَشۡرِكۡهُ فِيٓ أَمۡرِي " يكون له ردءا ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه ويشركه فى مشاورته ، " كَيۡ نُسَبِّحَكَ كَثِيرٗا * وَنَذۡكُرَكَ كَثِيرًا " يسأل موسى ربه وبعد ذلك يختم كلامه بأنه سيكون من المسبحين لله كثير التسبيح وكثير الذكر هو وأخوه وقال مجاهد لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا ، " إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرٗا " يقول موسى عليه السلام ربنا انك كنت بصيرا بنا فى اصطفائك لنا واعطائك ايانا النبوة وبعثك لنا الى عدوك فرعون فلك الحمد على ذلك .
قَالَ قَدۡ أُوتِيتَ سُؤۡلَكَ يَٰمُوسَىٰ ٣٦ وَلَقَدۡ
مَنَنَّا عَلَيۡكَ مَرَّةً أُخۡرَىٰٓ ٣٧ إِذۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّكَ مَا
يُوحَىٰٓ ٣٨ أَنِ ٱقۡذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقۡذِفِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ
فَلۡيُلۡقِهِ ٱلۡيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأۡخُذۡهُ عَدُوّٞ لِّي وَعَدُوّٞ لَّهُۥۚ وَأَلۡقَيۡتُ
عَلَيۡكَ مَحَبَّةٗ مِّنِّي وَلِتُصۡنَعَ عَلَىٰ عَيۡنِيٓ ٣٩ إِذۡ
تَمۡشِيٓ أُخۡتُكَ فَتَقُولُ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ مَن يَكۡفُلُهُۥۖ
فَرَجَعۡنَٰكَ إِلَىٰٓ أُمِّكَ كَيۡ تَقَرَّ عَيۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَۚ وَقَتَلۡتَ
نَفۡسٗا فَنَجَّيۡنَٰكَ مِنَ
ٱلۡغَمِّ وَفَتَنَّٰكَ فُتُونٗاۚ
"
قَالَ قَدۡ أُوتِيتَ سُؤۡلَكَ يَٰمُوسَىٰ " هذه اجابة من الله لرسوله موسى
عليه السلام فيما سأل من ربه عز وجل ، " وَلَقَدۡ مَنَنَّا عَلَيۡكَ مَرَّةً
أُخۡرَىٰٓ " وتذكير له بنعمه السالفة عليه فيما كان من أمر أمه ، " إِذۡ
أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰٓ " حين كانت أمه ترضعه وتحذر عليه
من فرعون وملئه أن يقتلوه لأنه كان قد ولد فى السنة التى يقتلون فيها الغلمان ،
" أَنِ ٱقۡذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقۡذِفِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ فَلۡيُلۡقِهِ
ٱلۡيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأۡخُذۡهُ عَدُوّٞ لِّي وَعَدُوّٞ لَّهُۥ " أتخذت له تابوتا فكانت ترضعه ثم تضعه فيه
وترسله الى النيل وتمسكه الى منزلها بحبل فذهبت مرة لتربط الحبل فانفلت منها وذهب
به النهر الى دار فرعون عدو الله وعدو
موسى عليه السلام ، " وَأَلۡقَيۡتُ عَلَيۡكَ مَحَبَّةٗ مِّنِّي وَلِتُصۡنَعَ عَلَىٰ عَيۡنِيٓ " عند عدوك جعلته
يحبك هو وزوجته وحكم الله وله السلطان العظيم والقدرة التامة أن يربى موسى على
فراش فرعون ويغذى بطعامه وشرابه وتربى برعاية الله وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم
فى " ولتصنع على عينى " أجعله فى بيت الملك ينعم ويترف وغذاؤه عندهم
غذاء الملك فتلك الصنعة ، لما استقر عند
آل فرعون عرضوا عليه المراضع فأباها كقوله " وحرمنا عليه المراضع " أى
على صنوف الرضاعة وليس المرضعات فقط لأن هناك فرق بين المراضع والمرضعات فى اللغة
والمراضع أبلغ فالمراضع هو كل مصدر يتم منه الرضاعة فيمكن أن يكون مصدر الرضاعة
لبن المعز مثلا والمرضعة هى السيدة التى ترضع كما كانوا يفعلون فى الماضى وجمعها
مرضعات فموسى عليه السلام رفض أى مصدر للرضاعة مطلقا ، " إِذۡ تَمۡشِيٓ أُخۡتُكَ فَتَقُولُ هَلۡ
أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ مَن يَكۡفُلُهُۥۖ فَرَجَعۡنَٰكَ إِلَىٰٓ أُمِّكَ كَيۡ تَقَرَّ
عَيۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَ " فجاءت أخته التى كانت تراقبه وعلمت ذلك وقالت هل
أدلكم على من يرضعه لكم بالأجرة فذهبت به وهم معها الى أمه فعرضت عليه ثديها فقبله
ففرحوا بذلك فرحا شديدا واستأجروها على ارضاعه فنالها بسببه سعادة ورفعة وراحة بال
وقرت عينها وذهب حزنها ،" وَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا فَنَجَّيۡنَٰكَ مِنَ ٱلۡغَمِّ " يذكر الله موسى عليه
السلام بفضله عليه عندما قتل أحد قوم فرعون الذى كان فى مشادة مع أحد أتباع موسى
فوكزه فمات لأن موسى عليه السلام كان شديد القوة ولم يكن يقصد قتله فأصابه الهم
والغم بسبب ذلك وهرب بعد أن عزم آل فرعون على قتله حتى ورد ماء مدين وقال له الرجل
الصالح " لا تخف نجوت من القوم الظالمين " ، " وَفَتَنَّٰكَ فُتُونٗا " الفتون
هو ما مر به موسى عليه السلام من أحداث جسام والفتون هو الاختبار والابتلاء من
الله حتى خرج من مصر وتوجه الى سيناء من هذه الابتلاءات عندما كان صغيرا وتعرض
لمحنة ذبح من يولدون على يد فرعون فأنجاه الله ومن المحن عندما أمسك عن الرضاعة
حتى رجع الى أمه ومن الفتون امساكه بلحية فرعون فأراد قتله فوضع الجمر واللؤلؤ
فأمسك بالجمر ووضعه على لسانه فعرف فرعون أنه لايدرك ما صنع فتركه ومن الفتون قتل
أحد آل فرعون على يده وفراره الى أهل مدين .
فَلَبِثۡتَ سِنِينَ فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ ثُمَّ جِئۡتَ
عَلَىٰ قَدَرٖ يَٰمُوسَىٰ ٤٠ وَٱصۡطَنَعۡتُكَ لِنَفۡسِي ٤١ ٱذۡهَبۡ
أَنتَ وَأَخُوكَ بِ َايَٰتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكۡرِي ٔ ٤٢
ٱذۡهَبَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ ٤٣ فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلٗا لَّيِّنٗا لَّعَلَّهُۥ
يَتَذَكَّرُ أَوۡ يَخۡشَىٰ ٤٤
" فَلَبِثۡتَ سِنِينَ فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ " لبث موسى مقيما فى أهل مدين عشر سنين فارا من فرعون وملئه يرعى على صهره حتى انتهت المدة وانقضى الأجل ، " ثُمَّ جِئۡتَ عَلَىٰ قَدَرٖ يَٰمُوسَىٰ " ثم جاء موافقا لقدر الله وارادته من غير ميعاد والأمر كله لله تبارك وتعالى وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء وقال قتادة " جئت على قدر الرسالة والنبوة ، " وَٱصۡطَنَعۡتُكَ لِنَفۡسِي " يقول تعالى اصطفيتك واجتبيتك رسولا لنفسى أى كما أريد وأشاء ، " ٱذۡهَبۡ أَنتَ وَأَخُوكَ بِ َايَٰتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكۡرِي ٔ " يأمر الله تعالىموسى وأخيه هارون عليهما السلام أن يذهبا الى فرعون ولا يبطئا ولا يتوانيا وقال أبنعباس لا تضعفا والمراد أنهما لا يفتران فى ذكر الله بل يذكران الله فى حال مواجهة فرعون ليكون ذكر الله عونا لهما عليه وقوة لهما وسلطانا كاسرا ، " ٱذۡهَبَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ " أمر الله موسى وأخيه عليهما السلام بالذهب الى فرعون الذى تمرد وعتا وتجبر على الله وعصاه ، " فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلٗا لَّيِّنٗا " أمرهما الله أن يخاطبا فرعون بالملاطفة واللين وفىهذه الآية عبرة وعظة عظيمة وهو أن فرعون فى غاية العتو والاستكبار وموسى صفوة الله من خلقه اذ ذاك ومع هذا طلب الله منه أن يتكلم باللين والملاطفة ودعوتهما له تكون بكلام رقيق لين سهل ليكون أوقع فى النفوس وأبلغ وأنجع كما قال تعالى " ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهمك بالتى هى أحسن " ، " لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوۡ يَخۡشَىٰ " لعله يرجع عما هو فيه من الضلال والهلكة أو يخشى أى يوجد طاعة من خشية ربه كما قال تعالى " لمن أراد أن يذكر أو يخشى " فالتذكر الرجوع عن المحذور والخشية تحصيل الطاعة .
قَالَا رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفۡرُطَ
عَلَيۡنَآ أَوۡ أَن يَطۡغَىٰ ٤٥ قَالَ لَا تَخَافَآۖ إِنَّنِي مَعَكُمَآ
أَسۡمَعُ وَأَرَىٰ ٤٦ فَأۡتِيَاهُ فَقُولَآ إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرۡسِلۡ
مَعَنَا بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ وَلَا تُعَذِّبۡهُمۡۖ قَدۡ جِئۡنَٰكَ بَِٔايَةٖ مِّن رَّبِّكَۖ
وَٱلسَّلَٰمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلۡهُدَىٰٓ ٤٧ إِنَّا قَدۡ أُوحِيَ إِلَيۡنَآ
أَنَّ ٱلۡعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ٤٨
يقول الله تعالى اخبارا عن موسى وهارون عليهما السلام أنهما قالا مستجيرين بالله تعالى شكيين اليه" قَالَا رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفۡرُطَ عَلَيۡنَآ أَوۡ أَن يَطۡغَىٰ " أنهما يخشيان أن يبدر فرعون اليهما بعقوبة أو يعتدى عليهما فيعاقبهما وهما لايستحقان منه ذلك ، " قَالَ لَا تَخَافَآۖ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسۡمَعُ وَأَرَىٰ " يرد الله عليهما بقوله لا تخافا منه فاننى معكما أسمع كلامكما وكلامه وأرى مكانكما ومكانه لا يخفى على من أمركم شىء واعلما أن ناصيته بيدى فلا يتكلم ولا يتنفس ولا يبطش الا باذنى وبعد أمرى وأنا معكما بحفظى ونصرى وتأييدى ، " فَأۡتِيَاهُ فَقُولَآ إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ " أمر الله موسى وهارون عليهما السلام أن يبلغا فرعون بأنهما رسولان من ربه يدعونه للايمان " فَأَرۡسِلۡ مَعَنَا بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ وَلَا تُعَذِّبۡهُمۡ " طلبا من فرعون أن يرسل معهما بنى اسرائيل وأن يكف عن تعذيبهم ، " قَدۡ جِئۡنَٰكَ بَِٔايَةٖ مِّن رَّبِّكَ " أمرهما الله أن يبديا أياته لفرعون حتى يصدقهما ويتبع سبيل ربه ، " وَٱلسَّلَٰمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلۡهُدَىٰٓ " وقولا له السلامعليك ان اتبعت الهدى وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ولهذا لما كتب الى هرقل عظيم الروم كتابا كان أوله " بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله الى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فانى أدعوك بدعانة الاسلام فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين " إِنَّا قَدۡ أُوحِيَ إِلَيۡنَآ أَنَّ ٱلۡعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ " وأمرهما الله أن يبلغا فرعون أنه ان لم يؤمن بما أوحى الله لهما من الايمان واتباع سبيله ويكذب به ويتولى عنه فسيحل عليه عذاب ربه .
قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَٰمُوسَىٰ ٤٩ قَالَ رَبُّنَا
ٱلَّذِيٓ أَعۡطَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ خَلۡقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ ٥٠ قَالَ فَمَا بَالُ
ٱلۡقُرُونِ ٱلۡأُولَىٰ ٥١ قَالَ عِلۡمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَٰبٖۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي
وَلَا يَنسَى ٥٢
" قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَٰمُوسَىٰ " يقول تعالى مخبرا عن فرعون أنه قال لموسى عليه السلام منكرا وجود الله
الخالق اله كل شىء ومليكه من الذى بعثك
وأرسلك فانى لا أعرفه وعلمت لكم من اله غيرى ، " قَالَ
رَبُّنَا ٱلَّذِيٓ أَعۡطَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ خَلۡقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ " رد عليه
موسى عليه السلام هو الذى خلق كل شىء على ما هو عليه من خلقه ويسره لما خلق له
وقال سعيد بن جبير أعطى كل ذى خلق ما يصلحه من خلقه ولم يجعل الانسان من خلق
الدابة ولا للكلب من خلق الشاة وأعطى كل شىء ما ينبغى له من النكاح وهيأ كل شىء
على ذلك ليس شىء منها يشبه شيئا من أفعاله فى الخلق والرزق والنكاح وهذا كقوله
" الذى قدر فهدى " أى قدر قدرا وهدى الخلائق اليه أى كتب الأعمال
والآجال والأرزاق وقدر للخلائق قدرا لايحيدون عنه ولا يقدر أحد على الخروج منه ،
" قَالَ فَمَا بَالُ ٱلۡقُرُونِ ٱلۡأُولَىٰ " أصح الأقوال أن فرعون لما أخبره موسى
عليه السلام بأن ربه الذى أرسله هو الذى خلق ورزق وقدر فهدى شرع يحتج بالقرون
الأولى أى الذين لم يعبدوا الله فما بالهم اذا كان الأمر كذلك لم يعبدوا ربك بل
عبدوا غيره ، " قَالَ عِلۡمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَٰب " قال موسى
عليه السلام القرون الأولى الذين لم يعبدوا الله ان لم يعبدوه فان عملهم عند الله
مضبوط محسوب عليهم وسيجزيهم بعملهم فى كتاب الله وهو اللوح المحفوظ وكتاب الأعمال
، " لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى " الله لا يشذ عنه شىء ولا يفوته
صغير ولا كبير ولا ينسى شيئا ويصف علمه تعالى بأنه تعالى محيط بكل شىء وأنه تعالى
لا ينسى شيئا تقدس وتنزه .
ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مَهۡدٗا وَسَلَكَ لَكُمۡ
فِيهَا سُبُلٗا وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦٓ
أَزۡوَٰجٗا مِّن نَّبَاتٖ شَتَّىٰ ٥٣ كُلُواْ وَٱرۡعَوۡاْ أَنۡعَٰمَكُمۡۚ إِنَّ
فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ ٥٤ ۞مِنۡهَا خَلَقۡنَٰكُمۡ
وَفِيهَا نُعِيدُكُمۡ وَمِنۡهَا نُخۡرِجُكُمۡ تَارَةً أُخۡرَىٰ ٥٥ وَلَقَدۡ
أَرَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ ٥٦
هذا من تمام كلام موسى عايه السلام فيما وصف به ربه عز وجل حين سأله فرعون عنه فقال " ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مَهۡدٗا " الله هو الذى جعل الأرض ممهدة صالحة للاستقرار والعيش عليها ، " وَسَلَكَ لَكُمۡ فِيهَا سُبُلٗا " وجعل فيها طرقا للمشى فى مناكبها والسعى والرزق والحركة كما قال " وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون " ، " وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّن نَّبَاتٖ شَتَّىٰ " الله أنزل من السماء المطر الذى ينبت به أنواع النباتات من زروع وثمار متعددة واستخدم القرآن لفظ " أزواج " لأن النبات فيه الذكر والأنثى كما هو الحال فى النخيل ويحدث نقل لحبوب اللقاح من النباتات وهذا من خلق الله وقدرته ، " كُلُواْ وَٱرۡعَوۡاْ أَنۡعَٰمَكُمۡ " يخرج من الأرض طعامكم كله مما تأكلون من حب وفاكهة وثمار ويخرج منها ما تأكله أنعامكم خضرا ويابسا التى ترعونها وتربونها ، " إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ " وفى كل ذلك دلالات وجج وبراهين على وجود وقدرة الله الذى تنكره وتسألنى عنه لأصحاب العقول والأفهام ، "مِنۡهَا خَلَقۡنَٰكُمۡ وَفِيهَا نُعِيدُكُمۡ وَمِنۡهَا نُخۡرِجُكُمۡ تَارَةً أُخۡرَىٰ " يقول الله تعالى أنه خلق البشر جميعا مبدأهم من الأرض فان آدم خلق من تراب من أديم الأرض وهذه الأرض يعودون اليها بعد انقضاء آجالهم واليها يصيرون اذا ماتوا وبلوا ومن هذه الأرض يعيدهم ويبعثهم الله من قبورهم يوم القيامة وهذه الآية كقوله " فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون " وفى الحديث الذى فى السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر جنازة فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها فى القبر وقال منها خلقناكم ثم أخذ أخرى وقال فيها نعيدكم ثم أخرى وقال منها نخرجكم تارة أخرى" ، " وَلَقَدۡ أَرَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ " قامت على فرعون الحجج والآيات والدلالات وعاين ذلك وأبصره فكذب بها وأباها كفرا وعنادا وبغيا كما قال تعالى " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا " .
قَالَ
أَجِئۡتَنَا لِتُخۡرِجَنَا مِنۡ أَرۡضِنَا بِسِحۡرِكَ يَٰمُوسَىٰ ٥٧
فَلَنَأۡتِيَنَّكَ بِسِحۡرٖ مِّثۡلِهِۦ فَٱجۡعَلۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكَ مَوۡعِدٗا لَّا نُخۡلِفُهُۥ
نَحۡنُ وَلَآ أَنتَ مَكَانٗا سُوٗى ٥٨ قَالَ مَوۡعِدُكُمۡ يَوۡمُ ٱلزِّينَةِ وَأَن
يُحۡشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحٗى ٥٩
" يقول الله تعالى مخبرا عن فرعون أنه قال لموسى
عليه السلام حين أراه الآية الكبرى وهى القاء عصاه فصارة ثعبانا عظيما ونزع يده من
تحت جناحه فخرجت بيضاء من غير سوء " قَالَ أَجِئۡتَنَا لِتُخۡرِجَنَا مِنۡ
أَرۡضِنَا بِسِحۡرِكَ يَٰمُوسَىٰ فَلَنَأۡتِيَنَّكَ بِسِحۡرٖ مِّثۡلِهِۦ " قال
لموسى عليه السلام هذا سحر جئت به لتسحرنا وتستولى به على الناس فيتبعونك وتكاثرنا
بهم ولا يتم هذا معك فان عندنا سحرا مثل سحرك فلا يغرنك ما أنت فيه ، " فَٱجۡعَلۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكَ
مَوۡعِدٗا لَّا نُخۡلِفُهُۥ نَحۡنُ
وَلَآ أَنتَ مَكَانٗا سُوٗى "قال فرعون لموسى عليه السلام اجعل بيننا وبينك يوما لا
تخافه أنت ولا نحن فنعارض ما جئت به من السحر فى مكان معين ووقت معين قال عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم مكنا سوى مستو بين الناس وما فيه لا يكون صوت ولا شىء
يتغيبوقال قتادة مكانا سوى منصفا ، " قَالَ مَوۡعِدُكُمۡ يَوۡمُ ٱلزِّينَةِ
وَأَن يُحۡشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحٗى " قال لهم موسى عليه السلام موعدكم يوم الزينة وهو يوم
عيدهم وتفرغهم من أعمالهم واجتماع جميعهم ليشاهد الناس قدرة الله على ما يشاء
ومعجزات الأنبياء وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية ويكون ذلك فى ضحوة
من النهار ليكون أظهر وأبين وأوضح .
فَتَوَلَّىٰ فِرۡعَوۡنُ فَجَمَعَ كَيۡدَهُۥ ثُمَّ
أَتَىٰ ٦٠ قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ وَيۡلَكُمۡ لَا تَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا فَيُسۡحِتَكُم
بِعَذَابٖۖ وَقَدۡ خَابَ مَنِ ٱفۡتَرَىٰ ٦١ فَتَنَٰزَعُوٓاْ
أَمۡرَهُم بَيۡنَهُمۡ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجۡوَىٰ ٦٢ قَالُوٓاْ إِنۡ هَٰذَٰنِ
لَسَٰحِرَٰنِ يُرِيدَانِ أَن يُخۡرِجَاكُم مِّنۡ أَرۡضِكُم بِسِحۡرِهِمَا
وَيَذۡهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلۡمُثۡلَىٰ ٦٣ فَأَجۡمِعُواْ كَيۡدَكُمۡ ثُمَّ
ٱئۡتُواْ صَفّٗاۚ وَقَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡيَوۡمَ مَنِ ٱسۡتَعۡلَىٰ ٦٤
يقول تعالى مخبرا عن فرعون أنه لما تواعد هو وموسى عليه السلام الى وقت ومكان معلومين " فَتَوَلَّىٰ فِرۡعَوۡنُ فَجَمَعَ كَيۡدَهُۥ ثُمَّ أَتَىٰ " شرع فرعون فى جمع السحرة من مدائن مملكته كل من ينسب الى السحر فى ذلك الزمان وقد كان السحر فيهم كثيرا ثم أتى أى اجتمع الناس لميقات يوم معلوم وهو يوم الزينة وجلس فرعون على سرير مملكته واصطف له أكابر دولته ووقفت الرعايا يمنة ويسرة ، " قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ وَيۡلَكُمۡ لَا تَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا ٰ " وأقبل موسى عليه السلام متوكئا على عصاه ومعه أخوه هارون وقال لهم لا تخيلوا الناس بأعمالكم ايجاد أشياء لا حقائق لها وانها مخلوقة وليست مخلوقة فتكونوا كذبتم على الله ، " فَيُسۡحِتَكُم بِعَذَاب " فيهلككم بعقوبة هلاكا لا بقية له ، " وَقَدۡ خَابَ مَنِ ٱفۡتَرَى " ومن افترى كذبا على الله وعلى الناس بعمله فشل وخاب سعيه وعمله ، " فَتَنَٰزَعُوٓاْ أَمۡرَهُم بَيۡنَهُمۡ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجۡوَىٰ " تشاجروا فيما بينهم وتناجوا فيما بينهم فقائل يقول ليس هذا بكلام ساحر انما كلام نبى وقائل يقول بل هو ساحر ،" قَالُوٓاْ إِنۡ هَٰذَٰنِ لَسَٰحِرَٰنِ يُرِيدَانِ أَن يُخۡرِجَاكُم مِّنۡ أَرۡضِكُم بِسِحۡرِهِمَا " قال السحرة فيما بينهم : تعلمون أن هذا الرجل وأخاه - يعنون موسى وهارون عليهما السلام ساحران عالمان خبيران بصناعة السحر يريدان فى هذا اليوم أن يغلباكم وقومكم ويستولبا على الناس ويتبعهما العامة ويقاتلا فرعون وجنوده فينصرا عليه ويخرجاكم من أرضكم ، " وَيَذۡهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلۡمُثۡلَىٰ " قال أبن عباس يذهبا عنكم ملككم الذى أنتم فيه والعيش وقال مجاهد يذهبا بأولوا الشرف والعقل وقال أبوصالح بطريقتكم المثلى أشرافكم وسرواتكم وقال عبد الرحمن بن زيد بالذى أنتم عليه ، " فَأَجۡمِعُواْ كَيۡدَكُمۡ ثُمَّ ٱئۡتُواْ صَفّٗا " اجتمعوا كلكم صفا واحدا وألقوا ما فى أيديكم مرة واحدة لتبهروا الأبصار وتغلبوا هذا وأخاه ، " وَقَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡيَوۡمَ مَنِ ٱسۡتَعۡلَىٰ " قد فاز من كانت له الكلمة العليا وانتصر اليوم منا ومنه أما نحن فقد وعدنا هذا الملك العطاء الجزيل وأما هو فينال الرياسة العظيمة والعلو .
قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِمَّآ أَن تُلۡقِيَ وَإِمَّآ
أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنۡ أَلۡقَىٰ ٦٥ قَالَ بَلۡ أَلۡقُواْۖ فَإِذَا حِبَالُهُمۡ
وَعِصِيُّهُمۡ يُخَيَّلُ إِلَيۡهِ مِن سِحۡرِهِمۡ أَنَّهَا تَسۡعَىٰ ٦٦ فَأَوۡجَسَ
فِي نَفۡسِهِۦ خِيفَةٗ مُّوسَىٰ ٦٧ قُلۡنَا لَا تَخَفۡ إِنَّكَ أَنتَ
ٱلۡأَعۡلَىٰ ٦٨ وَأَلۡقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلۡقَفۡ مَا صَنَعُوٓاْۖ إِنَّمَا
صَنَعُواْ كَيۡدُ سَٰحِرٖۖ وَلَا يُفۡلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَيۡثُ أَتَىٰ ٦٩
فَأُلۡقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّدٗا قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِرَبِّ هَٰرُونَ وَمُوسَىٰ ٧٠
"
قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِمَّآ أَن تُلۡقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنۡ
أَلۡقَىٰ " يقول الله مخبرا عن السحرة حين توافقوا هم وموسى عليه السلام أنهم
قالوا لموسى عليه السلام اما أن تلقى أنت أولا أى تبدأ باظهار ما معك من السحر أو
أن نبدأ نحن ونظهر ما عندنا من السحر ، " قَالَ بَلۡ أَلۡقُواْ " طلب
منهم موسى عليه السلام أن يبدأوا هم ليرى ماذا يصنعون من السحر وليظهر للناس جلية
أمرهم ، " فَإِذَا حِبَالُهُمۡ وَعِصِيُّهُمۡ يُخَيَّلُ إِلَيۡهِ مِن
سِحۡرِهِمۡ أَنَّهَا تَسۡعَىٰ " كانت حبالهم وعصيهم تتحرك وتضطرب وتميد بحيث
يخيل للناظر أنها تتحرك وتسعى باختيارها وانما كانت حيلة وكانوا جمعا غفيرا فألقى
كل منهم عصا وحبلا حتى صار الوادى ملآن حيات يركب بعضها بعضا ، " فَأَوۡجَسَ
فِي نَفۡسِهِۦ خِيفَةٗ مُّوسَىٰ " خاف موسى عليه السلام على الناس أن يفتنوا
بسحرهم ويغتروا به قبل أن يلقى ما فى يمينه ، " قُلۡنَا لَا تَخَفۡ إِنَّكَ
أَنتَ ٱلۡأَعۡلَىٰ " فأوحى الله اليه فى الساعة الراهنة أن لا يرتابه الخوف
فهو المنتصر ، " وَأَلۡقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلۡقَفۡ مَا صَنَعُوٓا "
وأوحى اليه أن يلقى ما فى يمينه وهى عصاه ، " إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيۡدُ
سَٰحِرٖۖ وَلَا
يُفۡلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَيۡثُ أَتَىٰ " لأن كل ما أتوا بهم من خداع السحر
والبصر ومن مهارة السحر الذى لا يغير من الأمور شيئا انما هو خداع للبصر وهذا
الكيد والمهارة التى أتوا بها من أفعال السحر لن تفلح فى هذا الموقف فى تغيير
الأمور عندما ألقى موسى عليه السلام عصاه صارت ثعبانا ضخما فجعلت تتبع تلك الحبال
والعصى وتلقف ما صنع السحرة حتى لم تبقى منها شيئا الا تلقفته والناس ينظرون الى
ذلك عيانا جهرة فقامت المعجزة واتضح البرهان ووقع الحق وبطل السحر ، " فَأُلۡقِيَ
ٱلسَّحَرَةُ سُجَّدٗا قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِرَبِّ هَٰرُونَ وَمُوسَىٰ " لما
عاين السحرة ذلك وشاهدوه ولهم الخبرة بفنون السحر وطرقه ووجوهه علموا علم اليقين
أن هذا الذى فعله موسى عليه السلام ليس من قبيل السحر والحيل وأنه حق لا مرية فيه
ولا يقدر على هذا الا الذى يقول للشىء كن فيكون عند ذلك وقعوا سجدا لله وقالوا
آمنا برب العالمين رب موسى وهارون .
قَالَ ءَامَنتُمۡ لَهُۥ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡۖ
إِنَّهُۥ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحۡرَۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ
أَيۡدِيَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَٰفٖ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمۡ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخۡلِ
وَلَتَعۡلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابٗا وَأَبۡقَىٰ ٧١ قَالُواْ لَن نُّؤۡثِرَكَ عَلَىٰ مَا
جَآءَنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلَّذِي فَطَرَنَاۖ فَٱقۡضِ مَآ أَنتَ قَاضٍۖ
إِنَّمَا تَقۡضِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَآ ٧٢ إِنَّآ ءَامَنَّا
بِرَبِّنَا لِيَغۡفِرَ لَنَا خَطَٰيَٰنَا وَمَآ أَكۡرَهۡتَنَا عَلَيۡهِ مِنَ
ٱلسِّحۡرِۗ وَٱللَّهُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ ٧٣
يقول الله
تعالى مخبرا عن فرعون وكفره وعناده وبغيه ومكابرته الحق بالباطل حين رأى من
المعجزة الباهرة والآية العظيمة ورأى الذين استنصر بهم قد آمنوا بحضرة الناس كلهم
وغلب شرع فى المكابرة والبهت وعدل الى استعمال جاهه وسلطانه فى السحرة فتهددهم
وتوعدهم " قَالَ ءَامَنتُمۡ لَهُ " قال فرعون صدقتموه ، " قَبۡلَ
أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡ " قبل أن تاخذوا اذنا منى وما أمرتكم بذلك وافتتنتم على
ذلك ، " إِنَّهُۥ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحۡرَ " وقال
قولا يعلم هو والسحرة والخلق كلهم أنه بهت وكذب قال أنتم أخذتم السحر عن موسى واتفقتم
أنتم واياه على وعلى رعيتى لتظهروه وتنصروه كما قال تعالى " انةهذا لمكر
مكرتموه فى المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون "،" فَلَأُقَطِّعَنَّ
أَيۡدِيَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَٰف وَلَأُصَلِّبَنَّكُمۡ فِي جُذُوعِ
ٱلنَّخۡلِ " تهدد فرعون السحرة لأجعلنكم مثلة أى سوف أمثل بأجسامكم لأقتلنكم
وأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف أى يد يمنى مع قدم يسرى والعكس وأصلبكم فى جذع
النخل ، " وَلَتَعۡلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابٗا
وَأَبۡقَىٰ " قال فرعون للسحرة أنت تقولون انى وقومى على ضلالة وأنتم وموسى
وقومه على الهدى فسوف تعلمون من يكون له العذاب ويبقى فيه ، " قَالُواْ لَن نُّؤۡثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَآءَنَا
مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلَّذِي فَطَرَنَا " قال السحرة لفرعون لن نفضلك
ونختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين ونفضلك على الذى خلقنا وأنشأنا من العدم
المبتدىء خلقنا من طين فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت ، " فَٱقۡضِ مَآ
أَنتَ قَاضٍ " فافعل ما شئت وما وصلت اليه يدك ، " إِنَّمَا تَقۡضِي
هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَآ " انما لك تسلط فى هذه الدار وهى دار الزوال
هذه الدنيا ونحن رغبنا فى الآخرة دار القرار ، " إِنَّآ ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغۡفِرَ لَنَا
خَطَٰيَٰنَا وَمَآ أَكۡرَهۡتَنَا عَلَيۡهِ مِنَ ٱلسِّحۡرِ " آمن بالله ربنا
ليغفر لنا خطايانا وخصوصا ما أكرهتنا على فعله من السحر لتعارض به آية الله تعالى
ومعجزة نبيه ،" وَٱللَّهُ خَيۡرٞ
وَأَبۡقَىٰٓ " الله خير لنا منك وأدوم ثوبا مما كنت وعدتنا به ومنيتنا ولهذا
قال أبن عباس أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء .
إِنَّهُۥ مَن يَأۡتِ رَبَّهُۥ مُجۡرِمٗا فَإِنَّ لَهُۥ
جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحۡيَىٰ ٧٤ وَمَن يَأۡتِهِۦ مُؤۡمِنٗا قَدۡ عَمِلَ
ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَٰتُ ٱلۡعُلَىٰ ٧٥ جَنَّٰتُ عَدۡنٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا
ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّىٰ ٧٦
الظاهر
من السياق أن هذا من تمام ما وعظ به السحرة لفرعون يحذرونه من نقمة الله وعذابه
الدائم السرمدى ويرغبونه فى ثوابه الأبدى المخلد " إِنَّهُۥ مَن يَأۡتِ رَبَّهُۥ مُجۡرِمٗا"
من يلقى الله يوم القيامة كافرا به مكذبا لرسله ، " فَإِنَّ لَهُۥ جَهَنَّمَ
لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحۡيَىٰ " جزاء كفره أن يلقى فى جهنم خالدا فيها
يتلقى من العذاب لا يقضى عليه فيموت ولا هو بحى يتمتع بحياة الأحياء وعن أبى سعيد
الخدرى قال خطب رسول رسول الله صلى الله
عليه وسلم فأتى على هذه الآية " إِنَّهُۥ مَن يَأۡتِ رَبَّهُۥ
مُجۡرِمٗا
فَإِنَّ لَهُۥ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحۡيَىٰ " قال النبى صلى الله عليه
وسلم " أما أهلها الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون وأما الذين ليسوا
من أهلها فان النار تمسهم ثم يقوم الشفعاء فيشفعون فتجعل الضبائر فيؤتى بهم نهرا
يقال له الحياة أو الحيوان فينبتون كما ينبت العشب فى حميل السيل " ،" وَمَن
يَأۡتِهِ مُؤۡمِنٗا قَدۡ عَمِلَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ" ومن لقى ربه يوم المعاد مؤمن القلب قد صدق
ضميره بقوله وعمله ،" فَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَٰتُ ٱلۡعُلَىٰ"
هؤلاء فى الدرجات العاليات والغرف الآمنات والمساكن الطيبات من الجنة وعن عبادة بن
الصامت عن النبى صلى الله عليه وسلم قال " الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين
كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تخرج الأنهار الأربعة والعرش
فوقها فاذا سألتم الله فاسألوه الفردوس "، " جَنَّٰتُ عَدۡن" أى
اقامة دائمة وهى بدل من الدرجات العلى ، " تَجۡرِي مِن
تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّىٰ
" تجرى خلالها الأنهار ماكثين فيها أبدا وهذا جزاء من طهر نفسه من الدنس
والخبث والشرك وعبد الله وحده لا شريك له واتبع المرسلين فيما جاءوا به .
وَلَقَدۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَسۡرِ
بِعِبَادِي فَٱضۡرِبۡ لَهُمۡ طَرِيقٗا فِي ٱلۡبَحۡرِ يَبَسٗا لَّا تَخَٰفُ دَرَكٗا وَلَا تَخۡشَىٰ ٧٧
فَأَتۡبَعَهُمۡ فِرۡعَوۡنُ بِجُنُودِهِۦ فَغَشِيَهُم مِّنَ ٱلۡيَمِّ مَا
غَشِيَهُمۡ ٧٨ وَأَضَلَّ فِرۡعَوۡنُ قَوۡمَهُۥ وَمَا هَدَىٰ ٧٩
يقول الله
تعالى مخبرا أنه أمر موسى عليه السلام حين أبى فرعون أن يرسل معه بنى اسرائيل أن
يسرى بهم فى الليل ويذهب بهم من قبضة فرعون ولما خرجموسى عليه السلام ببنى اسرائيل
أصبحوا وليس منهم بمصر لا داعولا مجيب فغضب فرعون غضبا شديدا وأرسل فى المدائن
حاشرين أى من يجمعون له الجند من بلدانه وهو يقول انهم لأقلاء يثيرون غضبه وغيظه
ثمجمع جنده واستوثق له جيشه ساق فى طلبهم فاتبعوهم مشرقين أى عند شروق الشمس ووقف
موسى عليه السلام ببنى اسرائيل البحر من أمامهم وفرعون من وراءهم ، " وَلَقَدۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ
مُوسَىٰٓ أَنۡ أَسۡرِ بِعِبَادِي فَٱضۡرِبۡ لَهُمۡ طَرِيقٗا فِي
ٱلۡبَحۡرِ يَبَسٗا لَّا تَخَٰفُ دَرَكٗا وَلَا تَخۡشَىٰ " عند ذلك أوحى الله لموسى عليه السلام
فضرب البحر بعصاه فلفحته حتى صار يابسا كوجه الأرض ولا يخاف أن يدركه فرعون ولا
يخشى من البحر أن يغرق قومه ، " فَأَتۡبَعَهُمۡ
فِرۡعَوۡنُ بِجُنُودِهِۦ فَغَشِيَهُم مِّنَ ٱلۡيَمِّ مَا غَشِيَهُمۡ " اتبع
فرعون وجنوده موسى عليه السلام ومن معه من بنى اسرائيل فغطاهم الماء بعد أن اصبح
ماء البحر وموجه كالجبال وأغرقهم جميعا ، " وَأَضَلَّ فِرۡعَوۡنُ قَوۡمَهُۥ
وَمَا هَدَىٰ" أضل فرعون قومهم وما هداهم الى سبيل الرشاد وكذلك يقدم قومه
يوم القيامة فيدخل بهم النار هو وهم جميعا وتكون مثواهم ومقامهم الدائم خالدين
فيها .
يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ قَدۡ أَنجَيۡنَٰكُم مِّنۡ
عَدُوِّكُمۡ وَوَٰعَدۡنَٰكُمۡ جَانِبَ ٱلطُّورِ ٱلۡأَيۡمَنَ وَنَزَّلۡنَا
عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰ ٨٠ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ
وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبِيۖ وَمَن يَحۡلِلۡ عَلَيۡهِ
غَضَبِي فَقَدۡ هَوَىٰ ٨١ وَإِنِّي لَغَفَّارٞ لِّمَن تَابَ
وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا ثُمَّ ٱهۡتَدَىٰ ٨٢ ۞
يذكر الله تعالى نعمه على بنى اسرائيل " يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ قَدۡ أَنجَيۡنَٰكُم مِّنۡ عَدُوِّكُمۡ " حيث أنجاهم من عدوهم فرعون وأقر أعينهم منه وهم ينظرون اليه والى جنده قد غرقوا ولم ينج منهم أحد ، " وَوَٰعَدۡنَٰكُمۡ جَانِبَ ٱلطُّورِ ٱلۡأَيۡمَنَ " وقال تعالى أنه واعد موسى وبنى اسرائيل بعد هلاك فرعون الى جانب الطور الأيمن وهو الذى كلمه الله عليه وسأل فيه رؤية الله واعطاه الله التوراة هناك وفى غضون ذلك عبد بنو اسرائيل العجل ، " وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰ " وأنزل الله المن والسلوى فالمن كان حلوى تنزل عليهم من السماء والسلوى طائر يسقط عليهم فيأخذون من كل قدر الحاجة الى الغد لطفا من الله ورحمة بهم واحسانا اليهم ، " كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبِي " أى كلوا من هذا الرزق الذى رزقتكم ولا تطغوا فى رزقى فتأخذوه من غير حاجة وتخالفوا ما أمرتكم به ، " وَمَن يَحۡلِلۡ عَلَيۡهِ غَضَبِي فَقَدۡ هَوَىٰ " يقول تعالى أن من يقع عليه غضبه فقد شقى كما قال أبن عباس ، " وَإِنِّي لَغَفَّارٞ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا ثُمَّ ٱهۡتَدَىٰ " ويقول تعالى أنه ليغفر لكل من تاب اليه من أى ذنب كان من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق حتى أنه تاب على من عبد العجل من بنى اسرائيل ، آمن بقلبه وعمل الأعمال الصالحة بجوارحه " ثم أهتدى " قال سعيد بن جبير استقام على السنة والجماعة وقال قتادة لزم الاسلام حتى يموت .
وَمَآ أَعۡجَلَكَ عَن قَوۡمِكَ يَٰمُوسَىٰ ٨٣ قَالَ
هُمۡ أُوْلَآءِ عَلَىٰٓ أَثَرِي وَعَجِلۡتُ إِلَيۡكَ رَبِّ لِتَرۡضَىٰ ٨٤ قَالَ
فَإِنَّا قَدۡ فَتَنَّا قَوۡمَكَ مِنۢ بَعۡدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ ٨٥
فَرَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَٰنَ أَسِفٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ
أَلَمۡ يَعِدۡكُمۡ رَبُّكُمۡ وَعۡدًا حَسَنًاۚ أَفَطَالَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡعَهۡدُ
أَمۡ أَرَدتُّمۡ أَن يَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبٞ مِّن رَّبِّكُمۡ
فَأَخۡلَفۡتُم مَّوۡعِدِي ٨٦ قَالُواْ مَآ أَخۡلَفۡنَا مَوۡعِدَكَ بِمَلۡكِنَا
وَلَٰكِنَّا حُمِّلۡنَآ أَوۡزَارٗا مِّن زِينَةِ ٱلۡقَوۡمِ فَقَذَفۡنَٰهَا فَكَذَٰلِكَ
أَلۡقَى ٱلسَّامِرِيُّ ٨٧ فَأَخۡرَجَ لَهُمۡ عِجۡلٗا جَسَدٗا لَّهُۥ خُوَارٞ فَقَالُواْ هَٰذَآ
إِلَٰهُكُمۡ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ ٨٨ أَفَلَا يَرَوۡنَ أَلَّا يَرۡجِعُ
إِلَيۡهِمۡ قَوۡلٗا وَلَا يَمۡلِكُ لَهُمۡ ضَرّٗا وَلَا نَفۡعٗا ٨٩
لما سار موسى عليه السلام ببنى اسرائيل بعد هلاك فرعون وأتوا على قوم يعكفون على عبادة الأصنام فقالوا لموسى عليه السلام أن يجعل لهم الها أى صنما كما لهم آلهة أى أصناما يعبدونها من دون الله فرد عليهم موسى عليه السلام وقال لهم انكم قوم جاهلون فقد رأيتم من العبر وسمعتم ما يكفيكم هؤلاء القوم الذين يعبدون الأصنام هم على الباطل فى ما يفعلون ، وواعده ربه ثلاثين ليلة فسارع موسى عليه السلام مبادرا الى جبل الطور واستخلف على بنى اسرائيل أخاه هارون وقال أطيعوا هارون فانى قد استخلفته عليكم فانى ذاهب الى ربى وأجلهم ثلاثين يوما يرجع اليهم فيها وتركهم ثم أتبعها عشرا لأنه بعد الثلاثين يوما تناول موسى عليه السلام من نبات الأرض شيئا فمضغه لكى يغير رائحة فمه وكره أن يكلم ربه وريح فيه ريح فم الصائم فقال له ربه لم أفطرت قال يارب انى كرهت أن أكلمك الا وفمى طيب الريح قال أوعلمت ياموسى أن ريح فم الصائم أطيب عندى من ريح المسك ارجع فصم عشرا ثم ائتنى ففعل موسى عليه السلام ما أمر به فتمت أربعين ليلة يصومها ليلا ونهارا لما رأى قوم موسى أنه لم يرجع اليهم فى الأجل ساءهم ذلك وكان هارون قد خطبهم وقال انكم خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عوارى وودائع ولكم فيها مثل ذلك فانى أرى أنكم تحتسبون ما لكم عندهم ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية ولسنا برادين اليهم شيئا من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا فحفر حفرة وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوها فيها ثم أوقد عليها النار فأحرقته فقال لايكون لنا ولا لهم ، وكان السامرى من قوم يعبدون البقر جيران لبنى اسرائيل ولم يكن من بنى اسرائيل فاحتمل مع موسى عليه السلام وبنى اسرائيل حين حين احتملوا أى سار معهم فى حملتهم لجبل الطور ، فرأى أثر جبريل عليه السلام الذى أرسله الله رسولا لينقذ بنى اسرائيل فسولت له نفسه فقبض منه قبضة فمر بهارون عليه السلام فقال له يا سامرى ألا تلقى ما فى يدك وهو قابض عليه لايراه أحد طول ذلك فقال هذه قبضة من أثر الرسول الذى جاوز بكم البحر ولا ألقيها لشىء الا أن تدعو الله اذا ألقيتها أن يجعلها ما أريد ، " فَكَذَٰلِكَ أَلۡقَى ٱلسَّامِرِيُّ " فألقاها ودعا له هارون وهو لا يعلم ما يريد فأجيب له ، " فَأَخۡرَجَ لَهُمۡ عِجۡلٗا جَسَدٗا لَّهُۥ خُوَارٞ فَقَالُواْ هَٰذَآ إِلَٰهُكُمۡ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ " ثم جاء السامرى فقال عند ذلك أسأل الله أن يكون عجلا له خوار أى صوت استدراجا وامهالا ومحنة واختبارا فاجتمع ما كان فى الحفرة من متاع فصار عجلا أجوف ليس فيه روح وله خوار وكان صوت الريح تدخل من فمه وتخرج من دبره فتصدر صوتا فتفرق بنو اسرائيل فرقا فقالت فرقة ياسامرى ما هذا وأنت أعلم به؟ قال هذا ربكم ولكن موسى أضل الطريق ، فقالت فرقة لا نكذب بهذا حتى يرجع الينا موسى فان كان ربنا لم نكن ضيعناه وان لم يكن ربنا فانا نتبع قول موسى ، وقالت فرقة هذا من عمل الشيطان وليس بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق وأعلنوا التكذيب به ، وفرقة أشرب فى قلوبهم الصدق بما قال السامرى فى العجل فعبدوه فقال لهم هارون عليه السلام " يا قوم انما فتنتم به وان ربكم الرحمن فاتبعونى وأطيعوا أمرى " قالوا فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوما ثم أخلفنا ، هذه أربعون يوما قد مضت ، وقال سفهاؤهم أخطأ ربه فهو يطلبه يتبعه ، فلما كلم الله موسى عليه السلام وقال له ما قال اخبره بما لقى قومه من بعده يقول تعالى " وَمَآ أَعۡجَلَكَ عَن قَوۡمِكَ يَٰمُوسَىٰ "يقول الله وهو أعلم ببنى اسرائيل انك تتعجل وتسارع عن قومك بنى اسرائيل ، " قَالَ هُمۡ أُوْلَآءِ عَلَىٰٓ أَثَرِي وَعَجِلۡتُ إِلَيۡكَ رَبِّ لِتَرۡضَىٰ " فقال موسى عليه السلام هم قادمون ينزلون قريبا من الطوروسارعت الى ميقاتك لتزداد عنى رضا ، " قَالَ فَإِنَّا قَدۡ فَتَنَّا قَوۡمَكَ مِنۢ بَعۡدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ"أخبر تعالى نبيه موسى عليه السلام بما كان بعده من الحدث من بنى اسرائيل وعبادتهم العجل الذى عمله لهم السامرى وما أصابهم من فتنة فهم كانوا على استعداد سابق وطلبوا من موسى عليه السلام وكان بينهم أن يجعل لهم الها فكيف اذا فارقهم ، " فَرَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَٰنَ أَسِفٗاۚ " عندما أخبر الله تعالى موسى عليه السلام من ضلال بنى اسرائيل على يد السامرى الذى جعل لهم عجلا له خوار رجع الى قومه وهو فى غاية الغضب والحنق عليهم هو ما هو فيه من الاعتناء بأمرهم وتسلم التوراة التى فيها شريعتهم وفيها شرف لهم وهم قوم قد عبدوا غير الله ما يعلم كل عاقل له لب وحزم بطلان ما هم فيه وسخافة عقولهم قَالَ رجع اليهم غضبان أسفا والأسف شدة الغضب وقال مجاهد غضبان جزعا وقال قتادة حزينا على ما صنع قومه من بعده ، " يَٰقَوۡمِ أَلَمۡ يَعِدۡكُمۡ رَبُّكُمۡ وَعۡدًا حَسَنًاۚ " قال لقومه ياقوم أليس ما وعدكم الله على لسانى من عبادته واتباع طريقه فيه كل خير فى الدنيا والآخرة وحسن العاقبة كما شاهدتم من نصرته اياكم على عدوكم واظهاركم عليه وغير ذلك من فضل الله ، "أَفَطَالَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡعَهۡدُ " يعاتبهم ويوبخهم على نسيان ما سلف من نعم الله وما بالعهد من قدم أى لم يمرعلى ذلك وقت حتى يحل بهم النسيان وترك ما أمر الله به من عبادته وعدم الشرك به أو أنه يوبخهم لأنهم فعلوا ما فعلوا ومغادرته لهم لمواعدته ربه لم يكن لعهد طويل فكيف نسوا عبادة الله وأضلهم السامرى فعبدوا العجل كان اذا خار العجل سجدوا له واذا خار رفعوا رؤوسهم ، " أَمۡ أَرَدتُّمۡ أَن يَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبٞ مِّن رَّبِّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُم مَّوۡعِدِي " يوبخهم ويقول أم هنا بمعنى بل وهى للاضراب عن الكلام الأول وعدول الى الثانى كأنه يقول لهم بل أردتم بصنيعكم هذا أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدى ، " قَالُواْ مَآ أَخۡلَفۡنَا مَوۡعِدَكَ بِمَلۡكِنَا " قالوا أنهم لم يخلفوا موعده عن قدرتهم واختيارهم ، " وَلَٰكِنَّا حُمِّلۡنَآ أَوۡزَارٗا مِّن زِينَةِ ٱلۡقَوۡمِ فَقَذَفۡنَٰهَا " شرعوا يعتذرون بالعذر البارد يخبرونه عن تورعهم عما كان بايديهم من حلى القبط التى كانوا قد استعاروه منهم حين خرجوا من مصر فقذفناها أى ألقيناها عنا وكان هارون عليه السلام هو الذى كان أمرهم بالقاء الحلى فى حفرة فيها نار وعن أبن عباس انما أراد هارون أن يجتمع الحلى كله فى تلك الحفرة ويجعل حجرا واحدا حتى اذا رجع موسى عليه السلام رأى فيها ما يشاء ، " فَكَذَٰلِكَ أَلۡقَى ٱلسَّامِرِيُّ" يرون له ما فعل السامرى من القاء ما كان فى يده من أثر الرسول ، " فَأَخۡرَجَ لَهُمۡ عِجۡلٗا جَسَدٗا لَّهُۥ خُوَارٞ فَقَالُواْ هَٰذَآ إِلَٰهُكُمۡ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ " يقولون ما فعله السامرى من اخراج العجل الذى له خوار وأضلهم بقوله أنه الههم الذى تركه موسى ونسيه بعد أن تاخر عليهم فعكفوا عليه وأحبوه حبا لم يحبوا شيئا مثله ولهذا قال تعالى وأشربوا فى قلوبهم حب العجل ، " أَفَلَا يَرَوۡنَ أَلَّا يَرۡجِعُ إِلَيۡهِمۡ قَوۡلٗا وَلَا يَمۡلِكُ لَهُمۡ ضَرّٗا وَلَا نَفۡعٗا " يوبخهم الله بقوله أفلا يرون أن هذا العجل لا يجيبهم اذا سألوه ولا اذا خاطبوه ولا يملك لهم نفعا ولا ضرا فى دنياهم ولا أخراهم .
وَلَقَدۡ قَالَ لَهُمۡ هَٰرُونُ مِن قَبۡلُ يَٰقَوۡمِ
إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِۦۖ وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحۡمَٰنُ فَٱتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوٓاْ
أَمۡرِي ٩٠ قَالُواْ لَن نَّبۡرَحَ عَلَيۡهِ عَٰكِفِينَ حَتَّىٰ يَرۡجِعَ
إِلَيۡنَا مُوسَىٰ ٩١
"
وَلَقَدۡ قَالَ لَهُمۡ هَٰرُونُ مِن قَبۡلُ يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِۦۖ
وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحۡمَٰنُ " يخبر تعالى عما كان من هارون عليه السلام
لبنى اسرائيل وقوله لهم انما هذه فتنة لكم وان ربكم الرحمن الذى خلق كل شىء فقدره
تقديرا ، " فَٱتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوٓاْ أَمۡرِي " سألهم هارون عليه
السلام أن يتبعوه فيما أمرهم به وأن يتركوا ما ينهاهم عنه ، " قَالُواْ لَن
نَّبۡرَحَ عَلَيۡهِ عَٰكِفِينَ حَتَّىٰ يَرۡجِعَ إِلَيۡنَا مُوسَىٰ " ردوا
عليه أنهم لن يتركوا عبادة العجل حتى يرجع اليهم موسى عليه السلام ويسمعوا كلامه
وخالفوا هارون عليه السلام وحاربوه وكادوا أن يقتلوه .
قَالَ يَٰهَٰرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذۡ رَأَيۡتَهُمۡ
ضَلُّوٓاْ ٩٢ أَلَّا تَتَّبِعَنِۖ أَفَعَصَيۡتَ أَمۡرِي ٩٣ قَالَ يَبۡنَؤُمَّ لَا
تَأۡخُذۡ بِلِحۡيَتِي وَلَا بِرَأۡسِيٓۖ إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقۡتَ
بَيۡنَ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ وَلَمۡ تَرۡقُبۡ قَوۡلِي ٩٤
" قَالَ يَٰهَٰرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذۡ
رَأَيۡتَهُمۡ ضَلُّوٓاْ أَلَّا تَتَّبِعَنِ " يخبر تعالى عن موسى عليه السلام
حين رجع الى قومه فرأى ما حدث فيهم من الأمر العظيم من عبادة العجل فامتلأ عند ذلك
بالغضب وألقى ما كان فى يده من الألواح الالهية وأخذ برأس أخيه يجره اليه وشرع
يوبخ أخاه هارون ما الذى منعك اذ رأيت بنى اسرائيل يفعلون ما فعلوه أن تسرع فتخبرنى
بهذا الأمر أول ما وقع وقد كان قريبا منه ، " أَفَعَصَيۡتَ أَمۡرِي "
يعاتب موسى عليه السلام أخاه كيف يعصى
أمره الذى قال له من حسن خلافته له فى بنى اسرائيل وتركهم يعبدون العجل وهو قوله
" اخلفنى فى قومى وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين " ، " قَالَ
يَبۡنَؤُمّ " ترفق هارون عليه السلام بذكر الأم مع أنه شقيقه لأبويه لأن ذكر
الأم هنا أرق وأبلغ فى الحنو والعطف ،َ " لَا تَأۡخُذۡ بِلِحۡيَتِي وَلَا
بِرَأۡسِيٓ " طلب هارون الترفق به وترك لحيته ورأسه التى أمسك بهما موسى عليه
السلام من الغيظ ، " إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقۡتَ بَيۡنَ بَنِيٓ
إِسۡرَٰٓءِيلَ " يعتذر هارون عليه السلام لأخيه موسى عليه السلام فى سبب
تأخره عنه حيث لم يلحقه فيخبره بما كان من هذا الخطب الجسيم قال انى خشيت أن أتبعك
فأخبرك بهذا فتقول لى لم تركتهم وحدهم وفرقت بينهم ، " وَلَمۡ تَرۡقُبۡ
قَوۡلِي " وتقول لى ما راعيت ما أمرتك به حيث استخلفتك فيهم وقال أبن عباس
وكان هارون هائبا مطيعا له .
قَالَ فَمَا خَطۡبُكَ يَٰسَٰمِرِيُّ ٩٥ قَالَ بَصُرۡتُ
بِمَا لَمۡ يَبۡصُرُواْ بِهِۦ فَقَبَضۡتُ قَبۡضَةٗ مِّنۡ أَثَرِ
ٱلرَّسُولِ فَنَبَذۡتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتۡ لِي نَفۡسِي ٩٦ قَالَ فَٱذۡهَبۡ
فَإِنَّ لَكَ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَۖ وَإِنَّ لَكَ مَوۡعِدٗا لَّن تُخۡلَفَهُۥۖ
وَٱنظُرۡ إِلَىٰٓ إِلَٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلۡتَ عَلَيۡهِ عَاكِفٗاۖ لَّنُحَرِّقَنَّهُۥ
ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُۥ فِي ٱلۡيَمِّ نَسۡفًا ٩٧ إِنَّمَآ إِلَٰهُكُمُ ٱللَّهُ
ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ وَسِعَ كُلَّ شَيۡءٍ عِلۡمٗا ٩٨
" قَالَ فَمَا خَطۡبُكَ يَٰسَٰمِرِيُّ " يقول
موسى عليه السلام للسامرى ما حملك على ما صنعت حتى فعلت ما فعلت قال قتادة السامرى
كان من قرية سامرا ، " قَالَ بَصُرۡتُ بِمَا لَمۡ يَبۡصُرُواْ بِهِ" قال
السامرى رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون وهم لم يبصروه ، " فَقَبَضۡتُ
قَبۡضَةٗ مِّنۡ أَثَرِ
ٱلرَّسُولِ " أخذت قبضة من أثر فرسه وهو المشهور عند أكثر المفسرين وقال
مجاهد من تحت حافر فرس جبريل والقبضة ملء الكف ، " فَنَبَذۡتُهَا " قال
مجاهد نبذ السامرى أى ألقى ما كان فى يده على حلية بنى اسرائيل التى كانت فى
الحفرة فانسبك عجلا جسدا له خوار حفيف الريح فيه فهو خواره ، " وَكَذَٰلِكَ
سَوَّلَتۡ لِي نَفۡسِي " وما صنعته هذا ما أحسنته نفسى وأعجبها اذ ذاك ،
" قَالَ فَٱذۡهَبۡ فَإِنَّ لَكَ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ
" ضاق موسى عليه السلام ذرعا بالسامرى وما فعل فدعا عليه ربه وقال له كما
أخذت ومسست ما لم يكن لك أخذه ومسه من أثر الرسول فعقوبتك فى الدنيا أن لا تماس
الناس ولا يلمسونك أى يعيش منبوذا فى الدنيا لا يقربه أحد ولا يمسه أحد ، " وَإِنَّ
لَكَ مَوۡعِدٗا لَّن تُخۡلَفَهُ
" ويوم القيامة لك موعد تبعث فيه وترجع ولن تغيب عنه يتوعده بما سيصيبه من
عذاب فى الآخرة جراء كفره وما فعله من معصية ، " وَٱنظُرۡ إِلَىٰٓ إِلَٰهِكَ
ٱلَّذِي ظَلۡتَ عَلَيۡهِ عَاكِفٗاۖ لَّنُحَرِّقَنَّهُۥ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُۥ فِي ٱلۡيَمِّ نَسۡفًا
" وأمره موسى عليه السلام أن ينظر الى معبوده الذى اتخذه الها وقام على
عبادته يعنى العجل قال أبن عباس والسدى استحله بالمبارد وألقاه على النار وألقاه
فى البحر ، " إِنَّمَآ إِلَٰهُكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا
هُوَ " يقول موسى عليه السلام لبنى اسرائيل بعد ما فعل مع العجل ليس هذا
الهكم انما الهكم الله الذى لا اله الا هو لا يستحق العبادة الا هو ولا تنبغى
العبادة الا له ، "وَسِعَ كُلَّ
شَيۡءٍ عِلۡمٗا " الله الذى هو
عالم بكل شىء ، أحاط بكل شىء علما وأحصى كل شىء عددا فما تسقط من ورقة الا يعلمها
ولا حبة فى ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس الا فى كتاب مبين .
كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ مَا قَدۡ
سَبَقَۚ وَقَدۡ ءَاتَيۡنَٰكَ مِن لَّدُنَّا ذِكۡرٗا ٩٩ مَّنۡ أَعۡرَضَ
عَنۡهُ فَإِنَّهُۥ يَحۡمِلُ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وِزۡرًا ١٠٠ خَٰلِدِينَ فِيهِۖ
وَسَآءَ لَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ حِمۡلٗا ١٠١
يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم كما
قصصنا عليك خبر موسى عليه السلام وما جرى له مع فرعون وجنوده " كَذَٰلِكَ
نَقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ مَا قَدۡ سَبَقَ " كذلك نقص عليك الأخبار
الماضية كما وقعت من غير زيادة ولا نقصان ، " وَقَدۡ ءَاتَيۡنَٰكَ مِن
لَّدُنَّا ذِكۡرٗا " قد آتيناك من عندنا ذكرا وهو القرآن العظيم الذى لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد لم يعط نبى من الأنبياء منذ
بعثوا الى أن ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم كتابا مثله ولا أكمل منه ولا أجمع
لخبر ما سبق وخبر ما هو كائن وحكم الفصل بين الناس منه ، " مَّنۡ أَعۡرَضَ عَنۡهُ فَإِنَّهُۥ يَحۡمِلُ
يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وِزۡرًا " ومنكذب به وأعرض عن اتباعه أمرا وطلبا وابتغى
الهدى من غيره فان الله يضله ويهديه الى سواء الجحيم ، " خَٰلِدِينَ فِيهِ
" لا محيد لهم عن هذا العذاب فى النار ولا انفكاك ، " وَسَآءَ لَهُمۡ
يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ حِمۡلٗا " وبئس الحمل خملهم فانه حمل ثقيل يشق على الأنفس .
يَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِۚ وَنَحۡشُرُ
ٱلۡمُجۡرِمِينَ يَوۡمَئِذٖ زُرۡقٗا ١٠٢ يَتَخَٰفَتُونَ بَيۡنَهُمۡ إِن لَّبِثۡتُمۡ
إِلَّا عَشۡرٗا ١٠٣ نَّحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذۡ يَقُولُ
أَمۡثَلُهُمۡ طَرِيقَةً إِن لَّبِثۡتُمۡ إِلَّا يَوۡمٗا ١٠٤
" يَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ " ينفخ فى الصور فيبعثها الله كما خلقها ثبت فى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصور فقال قرن ينفخ فيه وقد جاء فى حديث الصور من رواية أبى هريرة أنه قرن عظيم الدائرة منه بقدر السموات والأرض ينفخ فيه اسرافيل عليه السلام ، " وَنَحۡشُرُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ يَوۡمَئِذٖ زُرۡقٗا " عند ذلك يجمع ويبعث الكفار زرق الغيون من شدة ما هم فيه من الأهوال ويمكن أن يكون متغير لونهم من شدة الهول ، " يَتَخَٰفَتُونَ بَيۡنَهُمۡ إِن لَّبِثۡتُمۡ إِلَّا عَشۡرٗا " يقول بعضهم لبعض لقد لبثتم فى الدنيا وقتا قليلا عشرة أيام أو نحوها ، " نَّحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَا يَقُولُونَ " يخبر تعالى أنه أعلم بحال تناجيهم فيما بينهم ،" إِذۡ يَقُولُ أَمۡثَلُهُمۡ طَرِيقَةً إِن لَّبِثۡتُمۡ إِلَّا يَوۡمٗا " يقول العاقل فيهم لقصر مدة الدنيا فى أنفسهم يوم المعاد لأن الدنيا كلها وان تكررت أوقاتها وتعاقبت لياليها وأيامها وساعاتها كأنها يوم واحد ولهذا يستقصر الكافرون مدة الحياة الدنيا يوم القيامة وكان غرضهم فى ذلك درء قيام الحجة عليهم لقصر المدة ولهذا قال تعالى " ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة " وكما قال " كم لبثتم فى الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين * قال ان لبثتم الا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون " أى انما كان لبثكم فيها قليلا لو كنتم تعلمون لآثرتم الباقى على الفانى ولكن تصرفتم فأسأتم التصرف قدمتم الحاضر الفانى على الدائم الباقى .
وَيَسَۡٔلُونَكَ
عَنِ ٱلۡجِبَالِ فَقُلۡ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسۡفٗا ١٠٥ فَيَذَرُهَا قَاعٗا صَفۡصَفٗا ١٠٦ لَّا تَرَىٰ
فِيهَا عِوَجٗا وَلَآ أَمۡتٗا ١٠٧ يَوۡمَئِذٖ يَتَّبِعُونَ ٱلدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُۥۖ وَخَشَعَتِ
ٱلۡأَصۡوَاتُ لِلرَّحۡمَٰنِ فَلَا تَسۡمَعُ إِلَّا هَمۡسٗا ١٠٨
"وَيَسَۡٔلُونَكَ عَنِ
ٱلۡجِبَالِ " يقول الله تعالى مخبرا رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ويسالونك عن
الجبال هل تبقى يوم القيامة أو تزول ؟ ، " فَقُلۡ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسۡفٗا * فَيَذَرُهَا
قَاعٗا صَفۡصَفٗا "
رد عليهم وقل لهم يذهبها ربى عن أماكنها ويمحقها فيذرها أى الأرض أى بساطا واحدا
والقاع هو المستوى من الأرض والصفصف تأكيد لمعنى ذلك وقيل الذى لا نبات فيه ،
" لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجٗا وَلَآ
أَمۡتٗا " لا ترى فى الأرض يومئذ واديا ولا رابية
ولا مكانا منخفضا ولا مرتفعا أى لا مكان فيه اعوجاج منخفض ولا فيه بروز مرتفع بل
تصير مستوية ، " يَوۡمَئِذٖ يَتَّبِعُونَ ٱلدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ " يوم يرون هذه
الأهوال والأحوال يستجيبون مسارعين الى الداعى حيثما أمروا وبادروا اليه وقال
قتادة لا عوج له لا يميلون عنه،" وَخَشَعَتِ ٱلۡأَصۡوَاتُ لِلرَّحۡمَٰنِ فَلَا
تَسۡمَعُ إِلَّا هَمۡسٗا " قال أبن عباس سكنت وقال أبن جبير فلا تسمع الا وطء
الأقدام وقال أبن عباس فلا تسمع الا همسا للصوت الخفى وقال سعيد بن جبير فلا تسمع
الا همسا الحديث وسره ووطء الأقدام وقد جمع القولين أما وطء الأقدام فالمراد سعى
الناس الى المحشر وهو مشيهم فى سكون وخضوع وأما الكلام الخفى فقد يكون فى حال دون
حال .
يَوۡمَئِذ لا تنفع الشفاعة الا من اذن له الرحمن ورضى
له قولا ۱۰۹يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ·۱۱ وعنت الوجوه للحى
القيوم وقد خاب من حمل ظلما ١١١ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا
هضما ١١٢
"يَوۡمَئِذ لا تنفع الشفاعة الا من اذن له الرحمن ورضى له قولا " يقول الله تعالى يوم القيامة ليس هناك شفاعة لأحد عند الله الا باذن الله الرحمن ولمن ارتضى له أن يتكلم كما قال تعالى " يوم يأت لا تكلم نفس الا باذنه فمنهم شقى وسعيد "وكقوله " من ذا الذى يشفع عنده الا باذنه " وكقوله " وكم من ملك فى السموات والأرض لا تغنى شفاعتهم شيئا الا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى " وكقوله " ولا يشفعون الا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون " وفى الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" آتى تحت العرش وأخر لله ساجدا ويفتح على بمحامد لا أحصيها الآن فيدعنى ما شاء الله أن يدعنى ثم يقول يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع واشفع تشفع فيحد لى حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود " وفى الحديث أيضا " يقول تعالى أخرجوا من النار من كان فى قلبه حبة من ايمان فيخرجوا خلقا كثيرا ثم يقول أخرجوا من النار من كان فى قلبه نصف مثقال من ايمان ، أخرجوا من النار من كان فى قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من ايمان " ، " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما " الله يحيط علما بالخلائق كلها بكل صغير وكبير وكل ما فى السر والخفاء والظاهر والباطن ولا يحيطون به علما أى لا يعلمون شيئا من علم الله ولا يحيطون به كقوله " ولا يحيطون بشىء من علمه الا بما شاء " ، " وعنت الوجوه للحى القيوم " قال ابن عباس وغير واحد خضعت واستسلمت الخلائق لجبارها الحى الذى لا يموت القيوم الذى لا ينام وهو قيم على كل شىء يدبره ويحفظه فهو الكامل فى نفسه الذى كل شىء فقير اليه لا قوم له الا به ، " وقد خاب من حمل ظلما " يوم القيامة فشل وأصابته الخيبة من كان ظالما فى الدنيا وفى الحديث " يقول عز وجل وعزتى وجلالى لا يجاوزنى اليوم ظلم ظالم " وفى الصحيح " اياكم والظلم فان الظلم ظلمات يوم القيامة والخيبة كل الخيبة من لقى الله وهو به مشرك فان الله تعالى يقول ان الشرك لظلم عظيم" ، " ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما " لما ذكر الله الظالمين ووعيدهم ثنى بالمتقين المؤمنين الذين يعملون الأعمال الصالحة وحكمهم وهو أنهم لا يظلمون ولا يهضمون لا يزاد فى سيآتهم ولا ينقص من حسناتهم وقال أبن عباس وقتادة وغيرهم الظلم الزيادة بأن يحمل عليه ذنب غيره والهضم النقص .
وَكَذَٰلِكَ
أَنزَلۡنَٰهُ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا وَصَرَّفۡنَا فِيهِ مِنَ ٱلۡوَعِيدِ لَعَلَّهُمۡ
يَتَّقُونَ أَوۡ يُحۡدِثُ لَهُمۡ ذِكۡرٗا ١١٣ فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡحَقُّۗ وَلَا
تَعۡجَلۡ بِٱلۡقُرۡءَانِ مِن قَبۡلِ أَن يُقۡضَىٰٓ إِلَيۡكَ وَحۡيُهُۥۖ وَقُل رَّبِّ
زِدۡنِي عِلۡمٗا ١١٤
" وَكَذَٰلِكَ أَنزَلۡنَٰهُ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا " يقول تعالى لما كان يوم القيامة والجزاء بالخير والشر واقعا لا محالة أنزلنا القرآن بشيرا ونذيرا بلسان عربى مبين فصيح لا لبس فيه ، " وَصَرَّفۡنَا فِيهِ مِنَ ٱلۡوَعِيدِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ" يقول تعالى أنزلنا فى القرآن من الانذار والتوعد بالعذاب والنار وجحيمها حتى ينتهوا عن ترك المآثم والمحارم والفواحش ، " أَوۡ يُحۡدِثُ لَهُمۡ ذِكۡرٗا " ويذكرهم بالطاعة وفعل القربات ويبشرهم بالجنة ونعيمها ، " فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡحَقُّ " تنزه الله وتقدس وهو الملك الحق أى الذى هو حق ووعده حق ووعيده حق ورسله حق والجنة حق والنار حق وكل شىء منه حق وعدله تعالى ألا يعذب أحدا قبل الانذار وبعث الرسل والاعذار الى خلقه لئلا يبقى لأحد حجة ولا شبهة ، " وَلَا تَعۡجَلۡ بِٱلۡقُرۡءَانِ مِن قَبۡلِ أَن يُقۡضَىٰٓ إِلَيۡكَ وَحۡيُهُ " يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم لا تتعجل بتلقى القرآن وتلاوته وهو يتنزل عليك أنصت الى ما يوحى اليك من القرآن فاذا فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأه بعده ، ثبت فى الصحيح عن أبن عباس ان الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعالج من الوحى شدة فكان مما يحرك به لسانه فأنزل الله هذه الآية يعنى أنه صلى الله عليه وسلم كان اذا جاءه جبريل بالوحى كلما قال جبريل آية قالها معه من شدة حرصه على حفظ القرآن فأرشده تعالى الى ما هو أسهل والأخف فى حقه لئلا يشق عليه فقال " لا تحرك به لسانك لتعجل به ان علينا جمعه وقرآنه " أى نجمعه فى صدرك ثم تقرؤه على الناس من غير أن تنسى منه شيئا وكما قال " فاذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم ان علينا بيانه " ، " وَقُل رَّبِّ زِدۡنِي عِلۡمٗا " وأعتمد فى علمك على ربك واسأله الزيادة فى العلم منه وحده وقال أبن عيينة رحمه الله ولم يزل صلى الله عليه وسلم فى زيادة حتى توفاه الله عز وجل ولهذا جاء فى الحديث " ان الله تابع الوحى على رسوله حتى كان الوحى أكثر ما كان يوم توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
وَلَقَدۡ عَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبۡلُ
فَنَسِيَ وَلَمۡ نَجِدۡ لَهُۥ عَزۡمٗا ١١٥ وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ
لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ ١١٦ فَقُلۡنَا يَٰٓـَٔادَمُ إِنَّ
هَٰذَا عَدُوّٞ لَّكَ وَلِزَوۡجِكَ فَلَا يُخۡرِجَنَّكُمَا مِنَ
ٱلۡجَنَّةِ فَتَشۡقَىٰٓ ١١٧ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعۡرَىٰ ١١٨
وَأَنَّكَ لَا تَظۡمَؤُاْ فِيهَا وَلَا تَضۡحَىٰ ١١٩ فَوَسۡوَسَ إِلَيۡهِ
ٱلشَّيۡطَٰنُ قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ هَلۡ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلۡخُلۡدِ
وَمُلۡكٖ لَّا يَبۡلَىٰ ١٢٠ فَأَكَلَا مِنۡهَا فَبَدَتۡ لَهُمَا
سَوۡءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخۡصِفَانِ عَلَيۡهِمَا مِن وَرَقِ ٱلۡجَنَّةِۚ
وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ ١٢١ ثُمَّ ٱجۡتَبَٰهُ رَبُّهُۥ فَتَابَ عَلَيۡهِ
وَهَدَىٰ ١٢٢
" َلَقَدۡ عَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن
قَبۡلُ فَنَسِيَ وَلَمۡ نَجِدۡ لَهُۥ عَزۡمٗا " يقول تعالى أنه أوضح
لآدم كل شىء وبين له عداوة ابليس له وعهد اليه هو وزوجته أن يأكلا من كل الثمار فى
الجنة ولا يقربا الشجرة الملعونة الخبيثة ولكنه نسى ذلك وأغواه ابليس هووزوجته فأخرجهما من الجنة قال أبن عباس انما سمى
الانسان لأنه عهد اليه فنسى ، " يذكر تعالى كما سبق وذكر فى سور البقرة
والأعراف والحجر والكهف وص وهذه السورة بما حدث من خلق آدم وغواية ابليس له حتى
أخرجه من الجنة ، " وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ
فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ " يذكر الله تعالى أمره الملائكة
بالسجود لآدم تشريفا وتكريما ويبين عداوة ابليس لبنى آدم ولأبيهم قديما فسجدوا
جميعا الا ابليس امتنع واستكبر وعصى أمر ربه ، " فَقُلۡنَا يَٰٓـَٔادَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوّٞ لَّكَ وَلِزَوۡجِكَ فَلَا
يُخۡرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلۡجَنَّةِ فَتَشۡقَىٰٓ " حذر الله آدم من عداوة ابليس
له هو وزوجه فكن التحذير للطرفين حذره من سعى ابليس لأخراجه من الجنة وقال له اياك
أن تسعى فى اخراجكمنها فتتعب وتعنى وتشقى فى طلب رزقك فانك هنا فى الجنة فى عيش
رغيد هنىء بلا كلفة ولا مشقة ، " إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا
تَعۡرَىٰ " فى هذه الجنة لا يصيبك فيها الجوع ففيها ما لذ وطاب من غير عناء
وفيها أطيب اللبس والكساء وقرن الله بين الجوع والعرى لأن الجوع ذل البطن والعرى
ذل الظاهر وفى حياتنا الدنيا كذلك الانسان سعيه وسقائه من أجل لقمة العيش والملبس
الذى يقيه ويحميه ويغطى سوأته وزينة له ، " وَأَنَّكَ لَا تَظۡمَؤُاْ فِيهَا وَلَا تَضۡحَىٰ
" وفى الجنة أطيب الشراب الذى يطفىء حرارة الجوف وليس فيها حرارة الضحى وشدته
أى حر الظاهر وهذان أيضا متقابلان فالظمأ حر الباطن وهو العطش والضحى حر الظاهر
،" فَوَسۡوَسَ إِلَيۡهِ ٱلشَّيۡطَٰنُ قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ هَلۡ أَدُلُّكَ
عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلۡخُلۡدِ وَمُلۡكٖ لَّا يَبۡلَىٰ" الوسواس
الخناس الذى يوسوس دائما بالشر وسوس الى آدم وزوجته حواء بالشر ودله الى الشجرة
الخبيثة وقال له انها شجرة الخلد يعنى التى من أكل منها خلد ودام مكثه فى
الجنة فلم يزل ابليس بهما حتى أكلا
منها وعن أبى هريرة عن النبى صلى الله
عليه وسلم قال " ان فى الجنة شجرة يسير الراكب فى ظلها مائة عام ما يقطعها
وهى شجرة الخلد " ، " فَأَكَلَا مِنۡهَا فَبَدَتۡ لَهُمَا
سَوۡءَٰتُهُمَا " عندما أكل آدم وحواء من الشجرة الخبيثة سقط عنهما لباسهما ،
" وَطَفِقَا يَخۡصِفَانِ عَلَيۡهِمَا
مِن وَرَقِ ٱلۡجَنَّةِۚ " قال أبنعباس ظلا ينزعان ورق التين فيجعلانه على
سوآتهما وقال مجاهد يرقعان كهيئة الثوب وعن أنبى كعب قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم " ان الله خلق آدم رجلا طوالا كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق فلما
ذاق الشجرة سقط عنه لباسه فأول ما بدا منه عورته فلما نظر الى عورته جعل يشتد فى
الجنة فأخذت شعره شجرة فنازعها فناداه الرحمن يا آدم منى تفر فلما سمع كلام الرحمن
قال يارب لا ولكن استحياء أرأيت ان تبت ورجعت أعائدى الى الجنة ؟ قال : نعم "
فذلك قوله" فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه " ، وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ "
عصيان آدم هو أكله من الشجرة الخبيثة التى نهاه عنها واتباعه غواية ابليس له ، " ثُمَّ ٱجۡتَبَٰهُ رَبُّهُۥ فَتَابَ
عَلَيۡهِ وَهَدَىٰ " قبل الله توبة آدم وتاب عليه وهداه الى الطريق المستقيم
الذى استمر عليها حتى مماته .
قَالَ ٱهۡبِطَا
مِنۡهَا جَمِيعَۢاۖ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ فَإِمَّا
يَأۡتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدٗى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا
يَشۡقَىٰ ١٢٣ وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ
ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ ١٢٤ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرۡتَنِيٓ أَعۡمَىٰ وَقَدۡ كُنتُ
بَصِيرٗا ١٢٥ قَالَ كَذَٰلِكَ
أَتَتۡكَ ءَايَٰتُنَا فَنَسِيتَهَاۖ وَكَذَٰلِكَ ٱلۡيَوۡمَ تُنسَىٰ ١٢٦
"
قَالَ ٱهۡبِطَا مِنۡهَا جَمِيعَۢاۖ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّ" يقول
الله تعالى لآدم وحواء وابليس اهبطوا جميعا من الجنة كلكم الى الأرض وستكون هناك عداوة بين آدم
وذريته وابليس وذريته ، " فَإِمَّا يَأۡتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدٗى
فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشۡقَىٰ " قال تعالى عندما
يأتيكم الأنبياء والرسل لهدايتكم واتبعتموهم فلن تضلوا ولا تشقوا فى الآخرة بعذاب
جهنم والخطاب هنا لآدم وحواء ولبنى
آدم ذكرا وأنثى من بعدهما قال أبن عباس لايضل فى الدنيا ولا يشقى فى الآخرة ،
" وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي " يقول تعالى من خالف أمرى وما أنزلته
على رسولى وأعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه ، " فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا
" له معيشة ضيقة فى الدنيا والآخرة فى الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح
لصدره بل صدره ضيق حرج لضلاله وان تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن ما شاء
فان قلبه ما لم يخلص الى اليقين والهدى فهو فى قلق وحيرة وشك فلا يزال فى ريبة
يتردد فهذا ضنك المعيشة وقال أبن عباس الضنك الشقاء وقال الضحاك هو العمل السىء
والرزق الخبيث وعن أبى سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قوله عز وجل
" فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا " قال " ضمة القبر له " وعن أبى هريرة عن
النبى صلى الله عليه وسلم " فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا
"قال " عذاب القبر " ، " وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ
أَعۡمَىٰ " قال مجاهد وغيره يحشر يوم القيامة لا حجة له وقال عكرمة عمى عليه
كل شىء الا جهنم ويحتمل أن يكون المراد أنه يبعث أو يحشر الى النار أعمى البصر
والبصيرة كما قال تعالى " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما
مأواهم جهنم " ، وفى الآية الأخرى " قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرۡتَنِيٓ أَعۡمَىٰ وَقَدۡ
كُنتُ بَصِيرٗا "
يسأل الكافر الذى حشر أعمى ربه لم حشر أعمى فى الآخرة وكان فى الدنيا بصيرا ،
" قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتۡكَ ءَايَٰتُنَا فَنَسِيتَهَاۖ وَكَذَٰلِكَ ٱلۡيَوۡمَ
تُنسَىٰ " يرد الله عليه لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم
يذكرها بعد بلاغها اليك تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها كذلك اليوم نعاملك معاملة
من نسيك كقوله " فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا " فان الجزاء من
جنس العمل .
وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي مَنۡ أَسۡرَفَ وَلَمۡ يُؤۡمِنۢ بَِٔايَٰتِ
رَبِّهِۦۚ وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبۡقَىٰٓ ١٢٧
" وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي مَنۡ أَسۡرَفَ وَلَمۡ
يُؤۡمِنۢ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِۦ " يقول تعالى وهكذا نجازى المسرفين
المكذبين بآيات الله فى الدنيا والآخرة ، " وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَشَدُّ
وَأَبۡقَىٰٓ " وعذاب الآخرة أشد ألما من عذاب الدنيا وأدوم عليهم فهم مخلدون
فيه ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين " ان عذاب الدنيا
أهون من عذاب الآخرة " .
أَفَلَمۡ
يَهۡدِ لَهُمۡ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّنَ ٱلۡقُرُونِ يَمۡشُونَ فِي
مَسَٰكِنِهِمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ ١٢٨ وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ
لَكَانَ لِزَامٗا وَأَجَلٞ مُّسَمّٗى ١٢٩ فَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحۡ
بِحَمۡدِ رَبِّكَ قَبۡلَ طُلُوعِ ٱلشَّمۡسِ وَقَبۡلَ غُرُوبِهَاۖ وَمِنۡ
ءَانَآيِٕ ٱلَّيۡلِ فَسَبِّحۡ وَأَطۡرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرۡضَىٰ ١٣٠
" أَفَلَمۡ يَهۡدِ لَهُمۡ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّنَ ٱلۡقُرُونِ يَمۡشُونَ فِي مَسَٰكِنِهِمۡ " يقول تعالى أفلم يهد لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به يا محمد كم أهلكنا من الأمم المكذبين بالرسل من قبلهم فبادوا فليس لهم باقية ولا عين ولا أثر كما يشاهدون ذلك من ديارهم الخالية التى خلفوهم فيما يمشون فيها ، " إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ " فى هذا دلالات وعلامات واضحة لأصحاب العقول الصحيحة والألباب المستقيمة كما قال تعالى " أفلم يسيروا فى الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فانها لاتعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور " وفى سورة السجدة " أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم " ، " وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامٗا وَأَجَلٞ مُّسَمّٗى " لولا الكلمة السابقة من الله وهو أنه لا يعذب أحدا الا بعد قيام الحجة عليه والأجل المسمى الذى ضربه الله تعالى لهؤلاء المكذبين الى مدة معينة لجاءهم العذاب بغتة ولهذا قال لنبيه صلى الله عليه وسلم " فَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ " أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يقول الكفار من كذب وتكذيبهم له ، " وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ قَبۡلَ طُلُوعِ ٱلشَّمۡسِ وَقَبۡلَ غُرُوبِهَا " التسبيح هنا هو الصلاة قبل طلوع الشمس صلاة الفجر وقبل غروبها صلاة العصر كما جاء فى الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلى رضى الله عنه قال كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر الى القمر ليلة البدر فقال " انكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون فى رؤيته فان استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا " وعن عمارة بن رؤيبة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا " ثم قرأ هذه الآية وفى رواية أخرى عن عمارة بن رؤيبة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " ، " وَمِنۡ ءَانَآيِٕ ٱلَّيۡلِ فَسَبِّحۡ " ومن ساعة أن يحين آناء الليل فتهجد وحمله بعضهم على المغرب والعشاء ، " وَأَطۡرَافَ ٱلنَّهَارِ " فى مقابلة آناء الليل أطراف النهار أى أوله وآخره يكون بذلك التسبيح أى الصلاة وذكر الله طوال اليم ليلا ونهارا ، " لَعَلَّكَ تَرۡضَىٰ " اذا فعلت ذلك فسوف يرضيك الله ويرضى عنك وفى الصحيح يقول الله تعالى " يا أهل الجنة فيقولون : لبيك ربنا وسعديك فيقول " هل رضيتم ؟ " فيقولون : ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول انى أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون وأى شىء أفضل من ذلك ؟ فيقول " أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده أبدا " وفى الحديث الآخر " يا أهل الجنة ان لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون وما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويزحزحنا عن النار ويدخلنا الجنة فيكشف الحجاب فينظرون اليه ، فوالله ما أعطاهم خيرا من النظر اليه ، وهى الزيادة " .
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا
بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّنۡهُمۡ زَهۡرَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا
لِنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَرِزۡقُ رَبِّكَ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰ ١٣١
وَأۡمُرۡ أَهۡلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصۡطَبِرۡ عَلَيۡهَاۖ لَا نَسَۡٔلُكَ
رِزۡقٗاۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكَۗ
وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلتَّقۡوَىٰ ١٣٢
" وَلَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّنۡهُمۡ زَهۡرَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا لِنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَرِزۡقُ رَبِّكَ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰ" يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم لا تنظر الى ما فيه هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم من النعيم فانما هى زهرة زائلة ونعمة حائلة لنختبرهم بذلك وقليل من عبادى الشكور وقال مجاهد أزواجا منهم يعنى الأغنياء فقد آتاك خيرا مما أتاهم كما قال تعالى " ولسوف يعطيك ربك فترضى " وكذلك ما ادخره الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم فى الآخرة أمر عظيم لا يحد ولا يوصف وفى الصحيح أن عمر بن الخطاب لما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تلك المشربة التى كان قد اعتزل فيها نساءه حين آلى منهن فرآه متوسدا مضطجعا على رمال حصير وليس فى البيت الا صبرة من قرط واهبة معلقة فابتدرت عينا عمر بالبكاء فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما يبكيك ياعمر ؟ " فقال : يارسول الله ان كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت صفوة الله من خلقه فقال " أو فى شك أنت يا أبن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم فى حياتهم الدنيا " فكان أزهد الناس فى الدنيا مع القدرة عليها اذا حصلت له ينفقها هكذا وهكذا فى عباد الله ولم يدخر لنفسه شيئا لغد وعن أبى سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ان أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا " قالوا : وما زهرة الدنيا يا رسول الله قال بركات الأرض " وقال قتادة والسدى زهرة الحياة الدنيا يعنى زينة الحياة الدنيا ، " وَأۡمُرۡ أَهۡلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصۡطَبِرۡ عَلَيۡهَا " يدعو الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستنقذ أهله من عذاب الله باقام الصلاة وأن يصبر على فعلها كما قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا " ،" لَا نَسَۡٔلُكَ رِزۡقٗاۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكَ " قال الثورى لانسألك رزقا أى لا نكلفك الطلب للرزق فنحن الذين نرزقك وقيل يعنى اذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب كما قال تعالى " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب " وعن ثابت قال كان النبى صلى الله عليه وسلم اذا أصابه خصاصة نادى أهله يا أهلاه صلوا صلوا قال ثابت وكانت الأنبياء اذا نزل بهم أمر فزعوا الى الصلاة " وعن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول الله تعالى يا ابن آدم تفرغ لعبادتى أملأ صدرك غنى وأسد فقرك ، وان لم تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك " وعن زيد بن ثابت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا الا ما كتب له ، ومن كانت الآخرة نيته جمع له أمره وجعل غناه فى قلبه وأتته الدنيا وهى راغبة " ، " وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلتَّقۡوَىٰ " وحسن العاقبة فى الدنيا والآخرة لمن أتقى الله وهى الجنة .
وَقَالُواْ لَوۡلَا يَأۡتِينَا بَِٔايَةٖ مِّن رَّبِّهِۦٓۚ أَوَ
لَمۡ تَأۡتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي ٱلصُّحُفِ ٱلۡأُولَىٰ ١٣٣ وَلَوۡ أَنَّآ
أَهۡلَكۡنَٰهُم بِعَذَابٖ مِّن قَبۡلِهِۦ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوۡلَآ
أَرۡسَلۡتَ إِلَيۡنَا رَسُولٗا فَنَتَّبِعَ ءَايَٰتِكَ مِن قَبۡلِ أَن نَّذِلَّ
وَنَخۡزَىٰ ١٣٤ قُلۡ كُلّٞ مُّتَرَبِّصٞ فَتَرَبَّصُواْۖ فَسَتَعۡلَمُونَ مَنۡ أَصۡحَٰبُ
ٱلصِّرَٰطِ ٱلسَّوِيِّ وَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ ١٣٥
" وَقَالُواْ لَوۡلَا يَأۡتِينَا بَِٔايَةٖ مِّن رَّبِّهِۦ" يقول الله تعالى مخبرا عن الكفار يقولون ألا يأتينا محمد بآية من ربه أى بعلامة دالة على صدقه فى أنه رسول الله ، "أَوَ لَمۡ تَأۡتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي ٱلصُّحُفِ ٱلۡأُولَىٰ " يرد الله على الكفار ألم يأتهم القرآن الذى أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهو أمى لا يحسن الكتابة ولم يدارس أهل الكتاب وقد جاء فيه أخبار الأولين بما كان منهم فى سالف الدهور بما يوافقه عليه الكتب الصحيحة المتقدمة منها ، فان القرآن مهيمن عليها يصدق الصحيح ويبين خطأ المكذوب فيها وهذا كقوله فى سورة العنكبوت " وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل انما الآيات عند الله وانما أنا نذير مبين أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ان فى ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون " وفى الصحيحيين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ما من نبى الا وقد أوتى من آيات ما آمن على مثله البشر وانما كان الذى أوتيته وحيا أوحاه الله الى فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم هنا أعظم الآيات التى أعطيها وهى القرآن والا فله من المعجزات ما لايحد ولا يحصر ، " وَلَوۡ أَنَّآ أَهۡلَكۡنَٰهُم بِعَذَابٖ مِّن قَبۡلِهِۦ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوۡلَآ أَرۡسَلۡتَ إِلَيۡنَا رَسُولٗا فَنَتَّبِعَ ءَايَٰتِكَ مِن قَبۡلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخۡزَىٰ " يقول تعالى لو أنا أهلكنا هؤلاء المكذبين قبل أن نرسل اليهم هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وننزل عليهم هذا الكتاب العظيم لقالوا ربنا لو أرسلت الينا رسولا قبل أن تهلكنا ويحل بنا الخزى لعدم اتباع سبيلك حتى نؤمن به ونتبعه يبين الله تعالى أن هؤلاء المكذبين متعنتون معاندون لا يؤمنون ، " قُلۡ " قل يا محمد لمن كذبك وخالفك واستمر على كفره وعناده ، " كُلّٞ مُّتَرَبِّص" نحن وأنتم كل منا ومنكم منتظر ، " فَتَرَبَّصُواْ" فانتظروا ، " فَسَتَعۡلَمُونَ مَنۡ أَصۡحَٰبُ ٱلصِّرَٰطِ ٱلسَّوِيِّ وَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ " فسوف تعلمون من منا على الطريق المستقيم ومن الى الحق وسبيل الرشاد وهذا كقوله " وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا ".
No comments:
Post a Comment