21 - )تبسيط تفسير ابن كثير للقرآن الكريم
الجزء الحادى
والعشرين
تفسير سورة
العنكبوت
وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ
أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ
مِنۡهُمۡۖ وَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَأُنزِلَ
إِلَيۡكُمۡ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمۡ وَٰحِدٞ وَنَحۡنُ لَهُۥ
مُسۡلِمُونَ ٤٦
قال قتادة وغيره أن هذه الآية منسوخة
بآية السيف ولم يبق معهم مجادلة وانما هو الاسلام أو الجزية أو السيف وقال آخرون
بل هى باقية محكمة لمن أراد الاستبصار منهم فى الدين فيجادل بالتى هى أحسن ليكون
أنجع فيه كما قال تعالى " ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة "
وقال تعالى لموسى وهارون حين بعثهما الى فرعون " فقولا له قولا لينا لعله
يتذكر أو يخشى " ، " وَلَا
تُجَٰدِلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ " تدعو
الآية الى عدم المجادلة مع أهل الكتاب الا باللين والأسلوب الرقيق ،" إِلَّا
ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ " ولا تكون المجادلة بالحسنى مع الذين حادوا عن
وجه الحق وعموا عن واضح المحجة وعاندوا وكابروا فحينئذ ينتقل من الجدال الى الجلاد
ويقاتلون بما يمنعهم ويردعهم وقال مجاهد " الا الذين ظلموا منهم " يعنى
أهل الحرب ومن امتنع منهم من أذاء الجزية ، " وَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا
بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَأُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمۡ
وَٰحِدٞ وَنَحۡنُ
لَهُۥ مُسۡلِمُونَ " يعنى اذا أخبر أهل الكتاب بما لا نعلم صدقه ولا كذبه فلا
نقدم على تكذيبه لأنه قد يكون حقا ولا تصديقه فلعله أن يكون باطلا ولكن نؤمن به
مجملا معلقع على شرط وهو أن يكون منزلا لا مبدلا ولا مؤولا وعن أبى هريرة رضى الله
عنه قال " كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل
الاسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا
تكذبوهم وقولوا آمنا بالذى أنزل الينا وما أنزل اليكم والهنا والهكم واحد ونحن له
مسلمون " وعن أبا نملة الانصارى أنه بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله
عليه وسلم جاءه رجل من اليهود فقال : يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " الله أعلم " قال اليهودى : أنا أشهد أنها تتكلم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا
تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فان كان حقا لم تكذبوهم وان كان باطلا لم
تصدقوهم " ، وقال ابن جرير أن عبد الله بن مسعود قال لاتسألوا أهل الكتاب عن
شىء فانهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، اما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل فانه ليس أحد
من أهل الكتاب الا وفى قلبه تالية تدعوه الى دينه كتالية المال ، وعن ابن عباس قال
" كيف تسألون أهل الكتاب عن شىء وكتابكم الذى أنزل اليكم على رسول الله صلى
الله عليه وسلم أحدث تقرءونه محضا لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا وغيروا
وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ؟ ألا ينهاكم
ما جاءكم من العلم عن مسألتهم ؟ لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذى أنزل
عليكم ، وذكر معاوية عن كعب الأحبار أنه ان كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين
يحدثون عن أهل الكتاب وان كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب ومعناه أنه يقع منه الكذب
لغة من غير قصد لأنه يحدث عن صحف هو يحسن بها الظن وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة
لأنهم لم يكن فى ملتهم حفاظ متقنون كهذه الأمة العظيمة .
وكذلك أنزلنا اليك
الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا
الا الكافرون * ٤٧ وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك اذا لارتاب
المبطلون ٤۸ بل هو آيات بينات فى صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا الا
الظالمون ٤٩
" وكذلك أنزلنا
اليك الكتاب " يقول الله تعالى كما أنزلنا الكتاب على من قبلك يا محمد من
الرسل كذلك أنزلنا اليه هذا الكتاب ، " فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به
" الذين أخذوا الكتاب فتلوه حق تلاوته من أحبار أهل الكتاب العلماء الأذكياء
كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسى وأشباههما يؤمن بهذا الكتاب ، "ومن هؤلاء
من يؤمن به " يعنى من العرب وقريش وغيرهم من يؤمن به ، " وما يجحد بآياتنا الا الكافرون " وما يكذب
بآيات الله ويجهد حقها الا من هو كافر يستر الحق بالباطل ، " وما كنت تتلوا
من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك" تتلو أى تقرأ من قبل أن ينزل اليك القرآن
لتأكيد النفى يقول الله تعالى لقد لبثت فى
قومك يا محمد من قبل أن تأتى بهذا القرآن عمرا لا تقرأ كتابا ولا تخطه ولا تحسن
الكتابة بل كل أحد من قومك وغيرهم يعرف أنك رجل أمى لا تقرأ ولا تكتب وهكذا صفته
فى الكتب المتقدمة كما قال تعالى " الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى
يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والانجيل يأمرهم يالمعروف وينهاهم عن المنكر
" ، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائما الى يوم الدين لا يحسن
الكتابة ولا يخط سطرا ولا حرفا بيده بل كان له كتاب يكتبون بين يده الوحى والرسائل
الى الأقاليم ، " اذا لارتاب
المبطلون " لوكنت تحسن القراءة والكتابة لارتاب بعض الجهلة من الناس فيقول
انما تعلم هذا من كتب قبله مأثورة عن الأنبياء مع أنهم قالوا ذلك مع علمهم بأنه
أمى لا يحسن الكتابة كقوله " وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهى تملى عليه
بكرة وأصيلا " وكقوله " قل أنزله الذى يعلم السر فى السموات والأرض
" , " بل هو آيات بينات فى صدور الذين أوتوا العلم "هذا القرآن
آياته بينة واضحة فى الدلالالة على الحق أمرا ونهيا وخبر يحفظه العلماء يسره الله
عليهم حفظا وتلاوة وتفسيرا كما قال تعالى " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من
مدكر " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من نبى الا وقد أعطى ما
آمن على مثله البشر ، وانما كان الذى أوتيته وحيا أوحاه الله الى فأرجو أن أكون
أكثرهم تابعا " ، " وما يجحد بآياتنا الا الظالمون " ما يكذب بآيات
الله ويبخس حقها ويردها الا المعتدون المكابرون الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه كما
قال تعالى " ان الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى
يروا العذاب الأليم" .
وَقَالُواْ لَوۡلَآ
أُنزِلَ عَلَيۡهِ ءَايَٰتٞ مِّن رَّبِّهِۦۚ قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡأٓيَٰتُ عِندَ
ٱللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَا۠ نَذِيرٞ مُّبِينٌ ٥٠ أَوَ لَمۡ يَكۡفِهِمۡ أَنَّآ أَنزَلۡنَا
عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ يُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحۡمَةٗ وَذِكۡرَىٰ لِقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ ٥١ قُلۡ
كَفَىٰ بِٱللَّهِ بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡ شَهِيدٗاۖ يَعۡلَمُ مَا فِي
ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡبَٰطِلِ وَكَفَرُواْ
بِٱللَّهِ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ٥٢
" وَقَالُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ ءَايَٰتٞ مِّن رَّبِّهِۦ" يقول الله تعالى مخبرا عن المشركين فى تعنتهم وطلبهم آيات ترشدهم الى أن محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله كما أتى صالح بناقته ، " قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡأٓيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِ" انما أمر ذلك الى الله فانه لو علم أنكم تهتدون لأجابكم الى سؤالكم لأن هذا سهل عليه يسير لديه ، ولكنه يعلم انما قصدتم التعنت فلا يجيبكم الى ذلك كما قال تعالى " وما منعنا أن نرسل بالآيات الا أن كذب بها الأولون * وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها " ، " وَإِنَّمَآ أَنَا۠ نَذِيرٞ مُّبِينٌ " يقول الله تعالى أخبرهم يا محمد وقل لهم انما بعثت نذيرا لكم واضح بين النذارة فعلى أن أبلغكم رسالة الله تعالى كما قال تعالى " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدى من يشاء " ،" أَوَ لَمۡ يَكۡفِهِمۡ أَنَّآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ يُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ " قال الله تعالى مبينا كثرة جهل المشركين وسخافة عقلهم حيث طلبوا آيات تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم فرد الله عليهم أنه جاءهم بالكتاب العزيز الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه الذى هو أعظم من كل معجزة اذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن معارضته بل عن معارضة عشر سور من مثله بل عن معارضة سورة منه فقال أو لم يكفهم آية أنا أنزلنا عليك هذا الكتاب العظيم الذى فيه خبر ما قبلهم ونبأ ما بعدهم وحكم ما بينهم وأنت رجل أمى لا تقرأ ولا تكتب ولم تخالط أحدا من أهل الكتاب فجئتهم بأخبار ما فى الصحف الأولى ببيان الصواب مما اختلفوا فيه وبالحق الواضح الجلى وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من الأنبياء من نبى الا قد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وانما كان الذى أوتيته وحيا أوحاه الله الى فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " ،" إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحۡمَةٗ وَذِكۡرَىٰ لِقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ " وقال تعالى ان فى هذا القرآن لرحمة أى بيانا للحق وازاحة للباطل وذكرى بما فيه من حلول النقمات ونزول العقاب بالمكذبين والعاصين لقوم يؤمنون ، " قُلۡ كَفَىٰ بِٱللَّهِ بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡ شَهِيدٗا" الله هو الشاهد على وعليكم وأعلم بكل شىء وهو أعلم بما تفيضون فيه من التكذيب ويعلم ما أقول لكم من اخبارى عنه بأنه أرسلنى فلو كنت كاذبا لأنتقم منى كما قال تعالى " ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين " وانما أنا صادق فيما أخبرتكم به ولهذا أيدنى بالمعجزات الواضحات والدلائل القاطعات ، " يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ" الله يعلم كل شىء فى السموات والأرض لا تخفى عليه خافية وهذا تعقيب على ما سبق من أن الله هو الشهيد وهو كذلك العليم فشهادته على صدقى بعلمه الذى لا يأتيه الباطل بين يديه ولا من خلفه ولا يخفى عليه خافية فشهادته هى الحق ، "وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡبَٰطِلِ وَكَفَرُواْ بِٱللَّهِ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ " يعقب الله سبحانه على قضية الايمان والكفر وجزاء من يكفر بآياته فالذين اتبعوا الباطل وصدقوه وكذبوا بما ارسل الله به رسله من الهدى والآيات سيجزيهم يوم القيامة على ما فعلوا ويقابلهم على ما صنعوا فى تكذيبهم بالحق واتباعهم الباطل كذبوا برسل الله مع قيام الأدلة على صدقهم وآمنوا بالطواغيت والأوثان بلا دليل فسيجزيهم على ذلك انه حكيم عليم .
وَيَسۡتَعۡجِلُونَكَ
بِٱلۡعَذَابِ وَلَوۡلَآ أَجَلٞ مُّسَمّٗى لَّجَآءَهُمُ ٱلۡعَذَابُۚ وَلَيَأۡتِيَنَّهُم
بَغۡتَةٗ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ ٥٣ يَسۡتَعۡجِلُونَكَ
بِٱلۡعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ ٥٤ يَوۡمَ
يَغۡشَىٰهُمُ ٱلۡعَذَابُ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۡ وَيَقُولُ
ذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٥٥
" وَيَسۡتَعۡجِلُونَكَ بِٱلۡعَذَابِ " يقول الله تعالى مخبرا عن جهل المشركين فى استعجالهم عذاب الله أن يقع بهم وبأس الله أن يحل عليهم كما قال تعالى " واذ قالوا اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " ، " وَلَوۡلَآ أَجَلٞ مُّسَمّٗى لَّجَآءَهُمُ ٱلۡعَذَابُ " لولا ما حتم الله من تاخير العذاب الى يوم القيامة لجاء هؤلاء الكفار المشركين العذاب قريبا سريعا كما استعجلوه ، " وَلَيَأۡتِيَنَّهُم بَغۡتَةٗ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ " هذا العذاب الذى سيحل مع وقوع يوم القيامة سيأتى فجأة وهو واقع لا محالة وهم لا يحسبون حسابا لذلك ودون تقدير منهم أو احساس ، " يَسۡتَعۡجِلُونَكَ بِٱلۡعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ " يوبخ الله الكافرين فى استعجالهم للعذاب وكأنهم يتعجلون شيئا حسنا فهم يقولون ذلك من باب العناد والجهل والاستحالة ، " يَوۡمَ يَغۡشَىٰهُمُ ٱلۡعَذَابُ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۡ " ولكن الله يخبرهم أن العذاب واقع لا محالة وأن مصير هؤلاء الكفار هو جهنم التى يغشاهم فيها العذاب من كل جانب كما قال تعالى " نارا أحاط بهم سرادقها " وكما قال تعالى " لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل " وكما قال تعالى " لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم " فالنار تغشاهم من سائر جهاتهم وهذا أبلغ فى العذاب الحسى ، "وَيَقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ " هذا تهديد وتقريع وتوبيخ وهذا عذاب معنوى على النفوس ويقول لهم زبانية جهنم هذا جزاء ما عملتم وما ارتكبتم من كفر وشرك ومخالفة لما أمر الله به من قول وعمل .
يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ
ءَامَنُوٓاْ إِنَّ أَرۡضِي وَٰسِعَةٞ فَإِيَّٰيَ فَٱعۡبُدُونِ ٥٦ كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۖ
ثُمَّ إِلَيۡنَا تُرۡجَعُونَ ٥٧ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ
لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ غُرَفٗا تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ
فِيهَاۚ نِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَٰمِلِينَ ٥٨ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ
يَتَوَكَّلُونَ ٥٩ وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٖ لَّا تَحۡمِلُ
رِزۡقَهَا ٱللَّهُ يَرۡزُقُهَا وَإِيَّاكُمۡۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ٦٠
" يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ
إِنَّ أَرۡضِي وَٰسِعَةٞ فَإِيَّٰيَ فَٱعۡبُدُونِ " هذا أمر من الله تعالى
لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذى لا يقدرون فيه على اقامة الدين الى أرض
الله الواسعة حيث يمكن اقامة الدين بأن يوحدوا الله ويعبدوه كما أمرهم وعن أبى
يحيى مولى الزبير بن العوام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " البلاد
بلاد الله والعباد عباد الله فحيثما أصبت خيرا فأقم " ولهذا لما ضاقت على
المستضعفين بمكة مقامهم بها خرجوا مهاجرين الى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك
فوجدوا هناك أصحمة النجاشى ملك الحبشة فآواهم وأيدهم بنصره وجعلهم ضيوفا ببلاده ثم
بعد ذلك هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الباقون الى المدينة ، "
كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ
ٱلۡمَوۡتِۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا تُرۡجَعُونَ " يقول الله تعالى أن الموت سيكون
نهاية كل الأحياء وأن العودة ستكون اليه يوم القيامة أى أينما تكونوا يدرككم الموت
فكونوا فى طاعة الله وحيث أمركم الله فهو خير لكم فان الموت لابد منه ولا محيد عنه
ثم الى الله المرجع والمآب ، " وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ
ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ غُرَفٗا تَجۡرِي
مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ نِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَٰمِلِينَ "
من كان مطيعا لله مؤمنا به جزاه أفضل الجزاء ووافاه أتم الثواب أسكنه منازل عالية
فى الجنة تجرى من تحتها الأنهار على اختلاف أصنافها من ماء وخمر وعسل ولبن
يصرفونها ويجرونها حيث شاءوا ماكثين فيها أبدا لا يبغون عنها حولا ونعمت هذه الغرف
أجرا على أعمال المؤمنين ،" ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ " الذين صبروا على
دينهم وهاجروا الى الله ونابذوا الأعداء وفارقوا الأهل والأقرباء ابتغاء وجه الله
ورجاء ما عنده وتصديق موعوده وعن أبى معاوية الأشعرى أن أبا مالك الأشعرى حدثه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه أن فى الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها
من ظاهرها أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام وأطاب الكلام وتابع الصلاة والصيام
وقام بالليل والناس نيام " ، " وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ "
ومن صفات هؤلاء المؤمنين أنهم يتوكلون أى يكلون أمرهم الى الله فهو ناصرهم ورازقهم
فى أحوالهم كلها فى دينهم ودنياهم أخبر الله تعالى أن الرزق لا يختص ببقعة بل رزقه
تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأين كانوا بل كانت أرزاق المهاجرين حيث هاجروا أكثر
وأوسع وأطيب فانهم تحقق لهم ما قاله الله فقد صاروا بعد قليل حكام فى سائر الأقطار
،" وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٖ لَّا تَحۡمِلُ
رِزۡقَهَا " الأرزاق لجميع الكائنات التى تدب وتسير على الأرض وتطير فى
السماء وهى لا تستطيع جمع رزقها وتحصيله ولا تدخر شيئا لغد ، "ٱللَّهُ
يَرۡزُقُهَا وَإِيَّاكُمۡۚ" الله وحده هو الذى يقيض لها رزقها على ضعفها
وييسره عليها ويرزق كذلك البشر فيبعث الى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه حتى الذر فى
قرار الأرض والطير فى الهواء والحيتان فى البحر كما قال تعالى " وما من دابة
الا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل فى كتاب مبين " ، " وَهُوَ
ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ " والله هو السميع لأقوال عباده العليم بحركاتهم
وسكناتهم .
وَلَئِن سَأَلۡتَهُم
مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ
لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ ٦١ ٱللَّهُ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن
يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُ لَهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ ٦٢ وَلَئِن
سَأَلۡتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَحۡيَا بِهِ
ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِ مَوۡتِهَا لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ
بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ ٦٣
" وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ
وَٱلۡأَرۡضَ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ
يُؤۡفَكُونَ " يقول الله تعالى مقررا أنه لا اله الا هو لأن المشركين الذين
يعبدون معه غيره اذا سؤلوا فانهم معترفون بأنه المستقل بخلق السموات والأرض والشمس
والقمر وتسخير الليل والنهار فلماذا هذا الافك والكذب والتكذيب الذى لا موضع له
،" ٱللَّهُ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُ
لَهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيم" والله هو الخالق الرازق لعباده
ومقدر آجالهم واختلافها واختلاف أرزاقهم تفاوت بينهم فمنهم الغنى والفقير وهو
العليم بما يصلح كلا منهم ومن يستحق الغنى ممن يستحق الفقر ، " وَلَئِن
سَأَلۡتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ
بَعۡدِ مَوۡتِهَا لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ " لئن سألت هؤلاء الكفار عن تنزيل
المطر من السماء فيخرج به الزرع من الأرض القفراء فتدب فيها الحياة وتعيش
المخلوقات من الناس والأنعام يعترفون بأن هذا من فعل الله وحده ، " قُلِ
ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ " الله هو الذى
يتستوجب الحمد على رزقه وتعالى وتنزه فى خلقه وهو المستقل بخلق الأشياء المنفرد
بتدبيرها ، فاذا كان الأمر كذلك فلم يعبد غيره ؟ ولم يتوكل على غيره ؟ فكما أنه
الواحد فى ملكه فليكن الواحد فى عبادته ، وكثيرا ما يقرر تعالى مقام الالهية
بالاعتراف بتوحيد الربوبية ، وقد كان المشركون يعترفون بذلك كما كانوا يقولون فى
تلبيتهم لبيك لا شريك لك الا شريكا هو لك تملكه وما ملك ، فاكثر هؤلاء ليس لهم
عقول تتدبر وتفكر .
وَمَا هَٰذِهِ
ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا لَهۡوٞ وَلَعِبٞۚ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ لَهِيَ ٱلۡحَيَوَانُۚ
لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ ٦٤ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلۡفُلۡكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ
مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ إِذَا هُمۡ
يُشۡرِكُونَ ٦٥ لِيَكۡفُرُواْ بِمَآ ءَاتَيۡنَٰهُمۡ وَلِيَتَمَتَّعُواْۚ فَسَوۡفَ
يَعۡلَمُونَ ٦٦
" وَمَا
هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا لَهۡوٞ وَلَعِبٞۚ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ لَهِيَ ٱلۡحَيَوَانُ " يقول
الله تعالى مخبرا عن حقارة الدنيا وزوالها وانقضائها وأنها لا دوام لها وغاية ما
فيها لهو ولعب وان الدار الآخرة لهى الحيوان أى الحياة الدائمة الحق الذى لا زوال
له ولا انقضاء بل هى مستمرة أبد الآبدين ، "
لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ " لو كان هؤلاء يفهمون ويعقلون لآثروا ما
يبقى على ما يفنى ، " فَإِذَا
رَكِبُواْ فِي ٱلۡفُلۡكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا
نَجَّىٰهُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ إِذَا هُمۡ يُشۡرِكُونَ " أخبر الله تعالى عن
المشركين أنهم عند الاضطرار يدعونه وحده لا شريك له فهل يكون هذا منهم دائما
وشبههم بمن يركب سفينة ويسير فى البحر الهائج وهم وسط البحر وموجه يدعون الله من
خوفهم أن ينجيهم والله ينجيهم حتى يخرجوا من خضم البحر الى أمان البر وبر الأمان
فيرجعون الى كفرهم وشركهم وهذا كقوله " واذا مسكم الضر فى البحر ضل من تدعون
الا اياه فلما نجاكم الى البر أعرضتم " وقد ذكر محمد بن اسحاق عن عكرمة بن
أبى جهل أنه لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ذهب فارا منها فلما ركب فى
البحر ليذهب الى الحبشة اضطربت بهم السفينة فقال أهلها يا قوم اخلصوا لربكم الدعاء
فانه لا ينجى ههنا الا هو فقال عكرمة والله لئن كان لا ينجى فى البحر غيره فانه لا
ينجى فى البر أيضا غيره ، اللهم لك على عهد لئن خرجت لأذهبن فأضعن يدى فى يد محمد
فأجدنه رؤوفا رحيما فكان كذلك ، " لِيَكۡفُرُواْ بِمَآ ءَاتَيۡنَٰهُمۡ
وَلِيَتَمَتَّعُواْۚ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ " هؤلاء اللاهون فى الحياة الدنيا
ومتاعها بعيدين عن الحياة الدائمة يجحدون نعمة الله عليهم فهو يرزق ويعبد غيره
ويتمتعون بما فى الحياة الدنيا ناسين الآخرة بما التهوا به فى الحياة الدنيا ولكنه
سوف يعلمون ما فعلوه حين يبعثون يوم القيامة حيث لا ينفع العلم فالدنيا تكون لهم
سببا فى نسيان الآخرة .
أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ
أَنَّا جَعَلۡنَا حَرَمًا ءَامِنٗا وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنۡ حَوۡلِهِمۡۚ
أَفَبِٱلۡبَٰطِلِ يُؤۡمِنُونَ وَبِنِعۡمَةِ ٱللَّهِ يَكۡفُرُونَ ٦٧ وَمَنۡ
أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوۡ كَذَّبَ بِٱلۡحَقِّ لَمَّا
جَآءَهُۥٓۚ أَلَيۡسَ فِي جَهَنَّمَ مَثۡوٗى لِّلۡكَٰفِرِينَ ٦٨ وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا
لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٦٩
" أَوَ
لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا جَعَلۡنَا حَرَمًا ءَامِنٗا وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنۡ حَوۡلِهِمۡ " يقول الله ممتنا
على قريش فيما أحلهم من حرمه الذى جعله للناس سواء العاكف فيه والبادومن دخله كان
آمنا فهم فى أمن عظيم والأعراب حوله لاينهب بعضهم بعضا ويقتل بعضهم بعضا كما قال
تعالى " لايلاف قريش ايلافهم "، " أَفَبِٱلۡبَٰطِلِ يُؤۡمِنُونَ
وَبِنِعۡمَةِ ٱللَّهِ يَكۡفُرُونَ " أفكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن
أشركوا به وعبدوا معه غيره من الأصنان والأنداد كما قال تعالى " بدلوا نعمة
الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار " فكفروا بنبى الله وعبده ورسوله فكان اللائق بهم
اخلاص العبادة لله وأن لا يشركوا به وتصديق الرسول وتعظيمه وتوقيره فكذبوه فقاتلوه
فأخرجوه من بين أظهرهم ولهذا سلبهم الله تعالى ما كان أنعم به عليهم وقتل من قتل
منهم ببدر ثم صارت الدولة لله ولرسوله وللمؤمنين ففتح الله على رسوله مكة وأرغم
آنافهم وأذل رقابهم ، " وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ
كَذِبًا أَوۡ كَذَّبَ بِٱلۡحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ" لا أحد أشد عقوبة ممن كذب
على الله فقال أن الله أوحى اليه ولم يوح اليه شىء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله
ولا أحد أشد عقوبة ممن كذب بالحق لما جاءه فالأول مفتر والثانى مكذب ولهذا قال
تعالى " أَلَيۡسَ فِي جَهَنَّمَ مَثۡوٗى لِّلۡكَٰفِرِينَ " فؤلاء مصيرهم الدائم واقامتهم الدائمة فى
جهنم جراء كفرهم وهم يستحقون ذلك والتساؤل للتحقيق ، " وَٱلَّذِينَ
جَٰهَدُواْ فِينَا" يعنى الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه
وأتباعه الى يوم الدين فهم الذين جاهدوا وأعلوا كلمة الله ، "
لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ " الله يهدى هؤلاء ويوفقهم الى طرقه فى الدنيا
والآخرة ويبصرهم بطريق الحق ويهتدون ، " وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ
ٱلۡمُحۡسِنِينَ " والله يوفق المحسنين ويؤيدهم وينصرهم وتعريف الاحسان من ضمن
تعريفه أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك وأن تعامل الناس بخلق
حسن والاحسان يدل على كل عمل فيه خير وتقرب الى الله وهو العمل الحسن كما قال
" هل جزاء الاحسان الا الاحسان " .
الجزء الحادى والعشرين
تفسير سورة الروم
سورة الروم سورة مكية الا الآية 17
فمدنية وآياتها 60 آية وسميت بذلك لما تخبر به وأنبأت عن انتصار الروم وهم أهل
الكتاب على الفرس وهم مجوس يعبدون النار ، وهى كالسور المكية تناقش قضية الكفر
والايمان وتثبت الرسول صلى الله عليه وسلم فى دعوته وتبشره بأنه سينتصر على الكفار
كما سينتصر الروم أهل الكتاب على المجوس الفرس الكفار عبدة النار ،وفيها من الآيات
الدالة على قدرة الله فى الخلق والكون .
الٓمٓ ١ غُلِبَتِ
ٱلرُّومُ ٢ فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ ٣
فِي بِضۡعِ سِنِينَۗ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ مِن قَبۡلُ وَمِنۢ بَعۡدُۚ وَيَوۡمَئِذٖ يَفۡرَحُ
ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٤ بِنَصۡرِ ٱللَّهِۚ يَنصُرُ مَن يَشَآءُۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ
ٱلرَّحِيمُ ٥ وَعۡدَ ٱللَّهِۖ لَا يُخۡلِفُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ
ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٦ يَعۡلَمُونَ ظَٰهِرٗا مِّنَ ٱلۡحَيَوٰةِ
ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ عَنِ ٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ غَٰفِلُونَ ٧
الروم من سلالة العيص بن اسحاق بن ابراهيم وهم أبناء عم
بنى اسرائيل ويقال لهم بنو الأصفر وكانوا على دين اليونان وكانوا يعبدون الكواكب
السيارة وهم الذين أسسوا دمشق وبنو معبدها وكانوا على دينهم الى بعد مبعث المسيح
عليه السلام بنحو من ثلثمائة سنة وكان منهم من يقال له قيصر الذى حكم الشام والجزيرة العربية والذى
أول من دخل فى دين النصارى من ملوك الروم هو قسطنطين بن قسطنطين واتفق جماعة من
الأساقفة من النصارىفوضعوا لقسطنطين
العقيدة التى وضعوا له فيها القوانين يعنون كتب الأحكام من تحريم وتحليل وغير ذلك
مما يحتاجون اليه وغيروا دين المسيح عليه السلام وزادوا فيه ونقصوا منه فعبدوا
الصليب وأحلوا الخنزير واتخذوا أعيادا أحدثوها للتقرب من الرومان الوثنيين كعيد
الصليب والقداس والغطاس وغير ذلك وجعلوا له الباب هو كبيرهم ثم البطاركة والأساقفة
والقساوسة ثم الشماسة وابتدعوا الرهبانية وبنى لهم الكنائس وأسس المدينة المنسوبة
اليه وهى القسطنطينية ويقال أنه فى أيامه بنى أثنى عشر ألف كنيسة وهؤلاء هم
الملكيون الذين هم على دين الملك ثم حدثت بعدهم اليعقوبية أتباع يعقوب الاسكاف ثم
النسطورية أصحاب نسطورا وهم فرق وطوائف وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم "
انهم افترقوا على اثنين وسبعين فرقة " ، والغرض أنهم استمروا على النصرانية كلما
هلك قيصر خلفه آخر بعده حتى كان آخرهم هرقل الذى غزاه كسرى بنفسه فقهره حتى لم
يبقى معه سوى مدينة القسطنطينية ولكن استطاع بعد أن أظهر خضوعه للفرس وأنه سيدفع
اليهم المال الذى يريدون أن يتركوه فجمع حوله الجند وحارب الفرس وخرب بلادهم
واستعاد القسطنطينية واستغرق ذلك تسع سنوات بعد أن غلبهم الفرس وكان غلب الروم
لفارس بعد بضع سنين وهى تسع فان البضع فى كلام العرب ما بين الثلاث الى التسع ، ونزلت
هذه الآيات حين غلب سابور ملك الفرس على بلاد الشام وما والاها من بلاد الجزيرة
العربية وأقاصى بلاد الروم حتى ألجأ هرقل الى القسطنطينية وحاصره فيها مدة طويلة
ثم كانت الغلبة لهرقل وانتصر الروم على الفرس وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم
على فارس لأنهم أهل كتاب وهم أقرب الى دينهم وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على
الروم لأنهم أصحاب أوثان ،وعن نيار بن مكرم الأسلمى قال : لما أنزلت هذه الآية كانت الفرس قاهرين للروم
وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم خرج أبو بكر يصيح فى مكة بها فقال ناس من
قريش لأبى بكر فذاك بيننا وبينكم زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس فى بضع سنين أفلا
نراهنك على ذلك ؟ قال : بلى وذلك قبل تحريم الرهان فارتهن أبو بكر والمشركون
وتواضعوا الرهان وقالوا لأبى بكر كم نجعل البضع ثلاث سنين الى تسع سنين قسم بيننا
وبينك وسطا ننتهى اليه قالوا فسموا بينهم ست سنين قال فمضت ست السنين قبل أن يظهر
الروم فأخذ المشركون رهن أبى بكر فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس
فعاب المسلمون على أبى بكر تسميته ست سنين قال لأن الله يقول فى بضع سنين فأسلم
عند ذلك ناس كثير " الٓمٓ
" سبق الحديث عن الحروف فى بدايات السور فى سورة البقرة ، " غُلِبَتِ
ٱلرُّومُ " كانت فارس ظاهرة على الروم وانتصرت عليها ،" فِيٓ أَدۡنَى
ٱلۡأَرۡضِ " هى منطقة البحر الميت وهى منطقة منخفضة من أقل الأراضى انخفاضا ،
" وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ * فِي بِضۡعِ سِنِينَۗ " كما أوضحنا غلب
الروم الفرس بعد تسع سنين من هزيمتهم ، " لِلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ مِن قَبۡلُ
وَمِنۢ بَعۡدُۚ "الله هو الذى له الأمر وبيده الأمر من قبل ذلك ومن بعده فهو
الذى يعز من يشاء ويذل من يشاء ، " وَيَوۡمَئِذٖ يَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ * بِنَصۡرِ
ٱللَّهِۚ " بعد هذه المدة ينتصر الروم على فارس ويفرح المؤمنون بالله وهم
المسلمون بهذا النصر كذلك وفيه بشرى لهم بأن الله سينصرهم والسورة أنزلت فى مكة
قبل الهجرة الى المدينة وكانت نصرة الروم على فارس يوم وقعة بدر فأعجب ذلك
المؤمنين ففرحوا به وأنزل الله هذه الآية وقال آخرون بل نصر الروم كان عام
الحديبية ولكن الذى يهم فى الأمر أنه تم ولما انتصرت الروم على فارس فرح المؤمنون
بذلك لأن الروم أهل كتاب فى الجملة فهم أقرب الى المؤمنين من المجوس كما قال تعالى
" لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة
للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى - الى قوله - ربنا فاكتبنا مع الشاهدين "
وعن علاء بن الزبير الكلابى عن أبيه قال رأيت غلبة فارس الروم ثم رأيت غلبة الروم
فارس ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم كل ذلك فى خمسة عشر سنة ، " يَنصُرُ
مَن يَشَآءُۖ " الله وحده وهو من ينصر ويوفق عباده لما يشاء وكان هذا دليل
على ذلك ،" وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ "
الله هو العزيز فى انتصاره وانتقامه من أعدائه ، " ٱلرَّحِيمُ " هو
الرحيم بعباده المؤمنين ، " وَعۡدَ ٱللَّهِۖ لَا يُخۡلِفُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥ"
يقول الله تعلى لنبيه صلى الله عليه وسلم
هذا الذى أخبرناك به من أنا سننصر الروم على فارس وعد من الله حق وخبر صدق
لا يخلف ولا بد من كونه ووقوعه لأن الله قد جرت سنته أن ينصر أقرب الطائفتين
المقتتلتين الى الحق ويجعل لها العاقبة ، " وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا
يَعۡلَمُونَ " وأكثر الناس لا يعلمون بحكم الله فى كونه وأفعاله المحكمة
الجارية على وفق العدل ، " يَعۡلَمُونَ ظَٰهِرٗا مِّنَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ
عَنِ ٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ غَٰفِلُونَ" أكثر الناس ليس لهم علم الا بالدنيا
وأكسابها وشؤونها وما فيها فهم حذاق أذكياء فى تحصيلها ووجوه مكاسبها وهم غافلون
فى أمور الدين وما ينفعهم فى الدار الآخرة كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكر وقال
ابن عباس أن الكفار يعرفون عمران الدنيا وهم فى أمر الدين جهال .
أَوَ لَمۡ
يَتَفَكَّرُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۗ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ
وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَأَجَلٖ مُّسَمّٗىۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ
بِلِقَآيِٕ رَبِّهِمۡ لَكَٰفِرُونَ ٨ أَوَ لَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ
فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَانُوٓاْ أَشَدَّ
مِنۡهُمۡ قُوَّةٗ وَأَثَارُواْ ٱلۡأَرۡضَ وَعَمَرُوهَآ أَكۡثَرَ مِمَّا
عَمَرُوهَا وَجَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِۖ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ
لِيَظۡلِمَهُمۡ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ ٩ ثُمَّ كَانَ
عَٰقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ ٱلسُّوٓأَىٰٓ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ
ٱللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسۡتَهۡزِءُونَ ١٠
يقول الله تعالى منبها
على التفكير فى مخلوقاته الدالة على وجوده وانفراده بخلقها وأنه لا اله غيره ولا
رب سواه " أَوَ لَمۡ يَتَفَكَّرُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۗ " يعنى به النظر
والتدبر والتأمل لخلق الله الأشياء ويبدأ هذا من التأمل فى خلق الله للانسان نفسه
وما به من معجزات الخلق من حواس اثبت العلم الحديث اعجاز الله فى الخلق فى جسم
الانسان نفسه وما فيه وهناك الكثير من التخصصات التى تدرس جسم الانسان ونفسه وكثير
من العلوم التى تتمحور حول ذلك مما يحتاج الى كتب ومجلدات فى مختلف العلوم من
تشريح وطب وغير ذلك ومن كتب تدرس النفس البشرية ، " مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ
ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ " من خلق
الله واعجازه فى الكون خلق السموات والأرض وما فيها فالعلم بما أوتى من قدرات لم
يكتشف حتى السماء الأولى من سبع سموات ولم يصل الى الا جزء يسير من الأرض ، "
وَأَجَلٖ مُّسَمّٗىۗ" هذا الكون
مؤجل الى أجل مسمى وهو يوم القيامة ولهذا قال تعالى "وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ
بِلِقَآيِٕ رَبِّهِمۡ لَكَٰفِرُونَ " الكثير من الناس يكفرون باليوم الآخر
والبعث ويوم الحساب ، " أَوَ لَمۡ
يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن
قَبۡلِهِمۡ كَانُوٓاْ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةٗ وَأَثَارُواْ ٱلۡأَرۡضَ وَعَمَرُوهَآ أَكۡثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا
وَجَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِۖ" نبه الله على صدق رسله فيما
جاءوا به عنه بما أيدهم به من المعجزات والدلائل الواضحات من اهلاك من كفر بهم
ونجاة من صدقهم ونصر لرسله ويدعو الله المشركين المبعوث اليهم الرسول محمد صلى
الله عليه وسلم الى تأمل من كانوا قبلهم
يعيشون على الأرض وماذا حدث لهم من اهلاك وكانوا أكثر منهم قوة وبأس ولهم من
العمار والمساكن ووسائل الحياة الدنيا أكثر منهم بكثير وما أوتوا معشار ما أوتوا
ومكنوا فى الدنيا تمكينا لم يبلغوا اليه وعمروا فيها أعمارا طوالا فعمروها أكثر
منكم واستغلوها أكثر استغلالا من استغلالكم وكانوا أكثر أموالا وأولادا ومع هذا
لما جاءتهم رسلهم بالبينات وفرحوا بما أوتوا أخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من
الله من واق ولا حالت أموالهم وأولادهم بينهم وبين بأس الله ولا دفعوا عنهم مثقال
ذرة ، " فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظۡلِمَهُمۡ وَلَٰكِن
كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ " وما كان الله ليظلمهم فيما أحل بهم من
العذاب والنكال وما ذالك الا بسبب ذنوبهم السابقة وتكذيبهم المتقدم وانما أوتوا من
أنفسهم حيث كذبوا بآيات الله واستهزءوا بها ، " ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ
ٱلسُّوٓأَىٰٓ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسۡتَهۡزِءُونَ " كانت
السوأى عاقبة أى العاقبة السيئة لمن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون .
ٱللَّهُ يَبۡدَؤُاْ
ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ ثُمَّ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ١١ وَيَوۡمَ تَقُومُ
ٱلسَّاعَةُ يُبۡلِسُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ ١٢ وَلَمۡ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَآئِهِمۡ
شُفَعَٰٓؤُاْ وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمۡ كَٰفِرِينَ ١٣ وَيَوۡمَ تَقُومُ
ٱلسَّاعَةُ يَوۡمَئِذٖ يَتَفَرَّقُونَ ١٤ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ
وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَهُمۡ فِي رَوۡضَةٖ يُحۡبَرُونَ ١٥
وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا
وَلِقَآيِٕ ٱلۡأٓخِرَةِ فَأُوْلَٰٓئِكَ فِي ٱلۡعَذَابِ مُحۡضَرُونَ ١٦
" ٱللَّهُ يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ ثُمَّ
إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ " يقول الله تعالى أنه كما هو قادر على بداية الخلق فهو
قادر على اعادته ثم يرجع اليه العباد يوم القيامة فيجازى كل عامل بعمله ، "
وَيَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُبۡلِسُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ " يوم تقوم الساعة كما
قال ابن عباس ييأس المجرمون وقال مجاهد يفتضح المجرمون وفى رواية يسكت المجرمون
وهم من أجرموا فى حق الله وحق أنفسهم بالكفر واتخاذ أربابا من دون الله ،" وَلَمۡ
يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَآئِهِمۡ شُفَعَٰٓؤُاْ وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمۡ
كَٰفِرِينَ " ما شفعت فيهم الآلهة التى كانوا يعبدونها من دون الله تعالى
وكفروا بهم وخانوهم أحوج ما كانوا اليهم ، " وَيَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ
يَوۡمَئِذٖ
يَتَفَرَّقُونَ " يوم تقوم الساعة يتفرق الناس فرقة لا اجتماع بعدها يعنى اذا
رفع هذا الى عليين وخفض هذا الى أسفل سافلين فذلك آخر العهد بينهم ، " فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ
ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَهُمۡ فِي رَوۡضَةٖ يُحۡبَرُونَ " يوم القيامة يكون الحساب والجزاء كل
بعمله فالذين آمنوا بالله وعملوا الأعمال الصالحة يدخلون رياض الجنة يسرون فيها
ويحبرون بمعنى يسرون من الحبور وهو السرور وقال مجاهد وقتادة ينعمون ، "
وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا
وَلِقَآيِٕ ٱلۡأٓخِرَةِ فَأُوْلَٰٓئِكَ فِي ٱلۡعَذَابِ مُحۡضَرُونَ "
والفريق الآخر من الأشقياء الذين كفروا وكذبوا بما أنزل الله على رسله وكذبوا بيوم
القيامة والبعث فمصيرهم أن يتلقوا العذاب فى جهنم ويلقوا فيها خالدين مخلدين .
فَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ
حِينَ تُمۡسُونَ وَحِينَ تُصۡبِحُونَ ١٧ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ
وَٱلۡأَرۡضِ وَعَشِيّٗا وَحِينَ تُظۡهِرُونَ ١٨ يُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ
ٱلۡمَيِّتِ وَيُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّ وَيُحۡيِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ
مَوۡتِهَاۚ وَكَذَٰلِكَ تُخۡرَجُونَ ١٩
" فَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ حِينَ تُمۡسُونَ وَحِينَ تُصۡبِحُونَ " هذا
تسبيح من الله تعالى لنفسه المقدسة وارشاد لعباده الى تسبيحه وتحميده فى هذه
الأوقات المتعاقبة الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه عند المساء وهو اقبال الليل
بظلامه وعند الصباح وهو اسفار النهار بضيائه ، " وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَعَشِيّٗا وَحِينَ تُظۡهِرُونَ " ثم أتبع ذلك بالتحميد فالتسبيح والتحميد من الذكر
العظيم لله أى الله هو المحمود على ما خلق فى السموات والأرض فله الحمد فى كل ما
أبدع من السموات والأرض فى كل وقت فالعشى هو العشاء وهو شدة الظلام ووقت الاظهار
هو وقت الظهيرة وفيه قوة الضياء فسبحان الله وله الحمد خالق هذا وهذا فالق الاصباح
وجاعل الليل سكنا كما قال تعالى "والنهار اذا جلاها * والليل اذا يغشاها
"وقال تعالى "والليل اذا يغشى * والنهار اذا تجلى " وعن سهل بن
معاذ بن أنس الجهنى عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ألا
أخبركم لم سمى الله ابراهيم خليله الذى وفى ؟ لآنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى
سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد فى السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون
" وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من قال حين يصبح
سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد فى السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون
الآية بكاملها أدرك ما فاته فى يومه ومن قالها حين يمسى أدرك ما فاته فى ليلته
" ، "يُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَيُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّ "
الله وحده القادر على الخلق وهو له القدرة على خلق الأشياء المتقابلة وهذه الأيات
المتتابعة الكريمة كلها من هذا النمط فانه يذكر فيها خلقه الأشياء وأضدادها ليدل
خلقه على كمال قدرته فمن ذلك اخراج النبات الحى من الحب الميت الذى لا حياة فيه
ويخرج كذلك الحب من النبات الحى والبيض من الدجاج والدجاج من البيض والانسان من
النطفة والنطفة من الانسان والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، " وَيُحۡيِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ " والله وحده ينزل المطر الذى تروى به الأرض
البور الميتة فتخرج النبات والزروع ويعيش عليها الانسان والحيوان وهذا كقوله
" وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون "
وكقوله " وترى الأرض هامدة فاذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل
زوج بهيج " ، " وَكَذَٰلِكَ تُخۡرَجُونَ " عملية البعث بعد الموت مثل ذلك فالذى بدأ
الخلق من عدم بيده أن يبعثه ويعيده ويبعث
الناس من قبورهم ويخرجهم من الأرض التى دفنوا فيها كما تدفن البذور فى الأرض وتبعث
عند نزول الماء فينبت منها الزرع .
وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ
أَنۡ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ إِذَآ أَنتُم بَشَرٞ تَنتَشِرُونَ ٢٠
وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ
إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ ٢١
" وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَكُم
مِّن تُرَابٖ ثُمَّ
إِذَآ أَنتُم بَشَرٞ تَنتَشِرُونَ " من آيات الله الدالة على عظمته وكمال
قدرته أنه خلق آدم أبو البشر من تراب وخلق منه ذريته التى انتشرت فى الكون والأرض
وعمرته فأصل الانسان من تراب ثم من ماء مهين ثم تصور فكان علقة ثم مضغة ثم صار
عظاما ثم كسا الله تلك العظام لحما ثم نفخ فيه الروح فاذا هو سميع بصير وعن أبى
موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان الله خلق آدم من قبضة قبضها
من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض جاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين
ذلك والخبيث والطيب والسهل والحزن وبين ذلك " ، " وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ
أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا " ومن آيات الله الدالة على قدرته أنه خلق للبشر من
جنسهم اناثا تكون لهم أزواجا بدأ من خلق حواء كما قال تعالى " هو الذى خلقكم
من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن اليها "، " لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا
وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ " يسكن من السكينة وهى هدوء النفس
واستقرارها والمودة هى الحب والود والرحمة هى التراحم بين الناس واللين والرفق
وعكسها القسوة وهذه أسس الحياة الزوجية وقد خلق الله حواء من ضلع آدم الأقصر
الأيسر ، ولو أنه تعالى جعل بنى آدم كلهم ذكورا وجعل اناثهم من جنس آخر من غيرهم
اما من جان أو حيوان لما حصل هذا الائتلاف بينهم وبين الأزواج وجعل بينهم مودة وهى
المحبة ورحمة وهى الرأفة فان الرجل يمسك المرأة أما لمحبته لها أو لرحمة بها بأن
يكون لها منه ولد أو محتاجة اليه فى الانفاق أو للألفة بينهما وغير ذلك ، "
إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ " فى كل ما ذكر الله آيات ودلالات على
طلاقة القدرة لمن يتدبر ويتفكر فيؤمن قلبه وتخشع جوارحه لله .
وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ
خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَٰنِكُمۡۚ
إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّلۡعَٰلِمِينَ ٢٢ وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ مَنَامُكُم
بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبۡتِغَآؤُكُم مِّن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ
لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَسۡمَعُونَ ٢٣
" وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ " من الآيات الدالة على قدرة الله العظيمة خلق السموات فى ارتفاعها واتساعها وأجرامها وخلق الأرض وما فيها من جبال وأودية وبحار وقفار وحيوان ونبات ،" وَٱخۡتِلَٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَٰنِكُمۡ" من الدلالا تعلى قدرة الله اختلاف اللغات بين البشر ومع ذلك يحدث بينهم التفاهم فهؤلاء عرب وهؤلاء عجم وتنتشر اللغات فى العالم بين البشر ومع هذا الاختلاف بين بنى آدم فى اللغات والألوان جميع أهل الأرض منذ خلق الله آدم الى قيام الساعة كل له عينان وحاجبان وأنف وجبين وفم وخدان وليس يشبه واحد منهم الآخر بل الأبدان مفارقة بشىء من السمت أو الهيئة أو الكلام ظاهرا كان أو خفيا لكل أسلوب بذاته حتى بصمات الأصابع تختلف بين البشر ولو توافق جماعة فى صفة من جمال أو قبح لابد من فارق بين كل واحد منهم وبين الآخر ، "إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّلۡعَٰلِمِينَ " فى هذا الاختلاف آيات على قدرة الله فى الخلق لمن يحملون العلم ولهم عقول وأفهام وألباب تدرك وتعقل ،" وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ مَنَامُكُم بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ " ومن آيات الله ما جعله من صفة النوم فى الليل والنهار فيه تحصل الراحة وسكون الحركة وذهاب الكلال والتعب ، " وَٱبۡتِغَآؤُكُم مِّن فَضۡلِهِ" من آيات الله أن جعل كذلك الانتشار والسعى فى الأرض لابتغاء الرزق وهذا ضد النوم ، " إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَسۡمَعُونَ " ان فى هذا الذى خلقه الله من الآيات لمن يعون وذكر الله هنا حاسة السمع لأنها بداية العلم أن يسمع الانسان ويعى ما يسمع ويعقله .
وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ
يُرِيكُمُ ٱلۡبَرۡقَ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَيُحۡيِۦ بِهِ
ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَآۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ ٢٤ وَمِنۡ
ءَايَٰتِهِۦٓ أَن تَقُومَ ٱلسَّمَآءُ وَٱلۡأَرۡضُ بِأَمۡرِهِۦۚ ثُمَّ إِذَا
دَعَاكُمۡ دَعۡوَةٗ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ إِذَآ أَنتُمۡ تَخۡرُجُونَ ٢٥
"وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ يُرِيكُمُ ٱلۡبَرۡقَ
خَوۡفٗا وَطَمَعٗا " من الآيات الدالة على
عظمة الله حدوث البرق الذى يسبق المطر وينتج منه الماء والطمع هما هو الرغبة
الشديدة فى الشىء فالانسان يرغب فى الماء الذى هو أساس الحياة وينزل من المطر الذى
ينزل عند اصطدام السحب فتنج شحنات كهربائية عالية ويمكن أن تنج الصواعق الحارقة
التى تسبب الخوف والهلع والتى يمكن أن تحرق ما حولها وكلنا يسمع عنحرائق الغابات
الضخمة التى تحدث فى العالم بسبب الصواعق ، " وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ
مَآءٗ فَيُحۡيِۦ بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ
مَوۡتِهَآ" ينزل الله المطر بقدرته فيحيى به الأرض الجدباء التى لا نبات
فيها لما نزل عليها الماء تخرج زرعها ومرعاها ، " إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ " فى ذلك
عبرة واضحة على المعاد وقيام الساعة لمن يفهم ويعقل ، " وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ
أَن تَقُومَ ٱلسَّمَآءُ وَٱلۡأَرۡضُ بِأَمۡرِهِ" من دلالات الله على قدرته
استمرا السماء والأرض فى الكون بقدرته وأمره فهى قائمة ثابتة بأمره لها وتسخيره
اياها ، " ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمۡ دَعۡوَةٗ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ إِذَآ
أَنتُمۡ تَخۡرُجُونَ " ثم اذا كان يوم القيامة بدلت الأرض غير الأرض والسموات
وخرجت الأحياء من قبورها أحيا بأمره كما قال تعالى " ان كانت الا صيحة واحدة
فاذا هم جميع لدينا محضرون " وكقوله " يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده
وتظنون ان لبثتم الا قليلا " وكقوله " يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده
وتظنون ان لبثتم الا قليلا " .
وَلَهُۥ مَن فِي
ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ كُلّٞ لَّهُۥ قَٰنِتُونَ ٢٦ وَهُوَ ٱلَّذِي يَبۡدَؤُاْ
ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَهُوَ أَهۡوَنُ عَلَيۡهِۚ وَلَهُ ٱلۡمَثَلُ
ٱلۡأَعۡلَىٰ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ٢٧
" وَلَهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ كُلّٞ لَّهُۥ قَٰنِتُونَ " يقول الله تعالى أن كل من فى السموات والأرض من خلق كلهم عبيده وملكه هو الذى خلقهم وكلهم خاضعون خاشعون طوعا وكرها وفى حديث دراج عن أبى هيثم عن أبى سعيد مرفوعا " كل حرف فى القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة " ، " وَهُوَ ٱلَّذِي يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهۡوَنُ عَلَيۡهِۚ " أهون يعنى أيسر عليه كما قال ابن عباس وقال مجاهد الاعادة أهون عليه من البداءة والبداءة عليه هينة وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول الله تعالى كذبنى ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمنى ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه اياى فقوله لن يعيدنى كما بدأنى وليس أول الخلق بأهون على من اعادته ، وأما شتمه اياى فقوله اتخذ الله ولدا ، وأنا الأحد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " ، " وَلَهُ ٱلۡمَثَلُ ٱلۡأَعۡلَىٰ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ " الله هو الذى تفرد بكماله وصفاته وجلاله وكما قال ابن عباس كقوله " ليس كمثله شىء " وقال قتادة أنه لا اله الا هو ولارب غيره ، " وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ " والله هو العزيز الذى لا يغالب ولا يمانع بل قد غلب كل شىء وقهر كل شىء بقدرته وسلطانه وهو الحكيم فى أقواله وأفعاله شرعا وقدرا وعن مالك فى تفسيره " وله المثل الأعلى " قال لا اله الا الله .
ضَرَبَ لَكُم مَّثَلٗا مِّنۡ أَنفُسِكُمۡۖ
هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا
رَزَقۡنَٰكُمۡ فَأَنتُمۡ فِيهِ سَوَآءٞ تَخَافُونَهُمۡ كَخِيفَتِكُمۡ أَنفُسَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ
نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ ٢٨ بَلِ ٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ
أَهۡوَآءَهُم بِغَيۡرِ عِلۡمٖۖ فَمَن يَهۡدِي مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَا لَهُم
مِّن نَّٰصِرِينَ ٢٩
هذا
مثل ضربه الله تعالى للمشركين به العابدين معه غيره الجاعلين له شركاء وهم مع ذلك
معترفون أن شركاءه من الأصنام والأنداد عبيد له ملك له كما كانوا يقولون : لبيك لا
شريك لك الا شريكا هو لك تملكه وما ملك " ضَرَبَ لَكُم مَّثَلٗا مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ " ضرب الله لكم
مثلا تشهدونه وتفهمونه من أنفسكم ، "هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتۡ
أَيۡمَٰنُكُم مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ فَأَنتُمۡ فِيهِ سَوَآء"
هل يرضى أحدكم أن يكون عبده شريكا له فى ماله فهو وهو فيه على السواء ، "
تَخَافُونَهُمۡ كَخِيفَتِكُمۡ أَنفُسَكُمۡ" تخافون أن يقاسموكم الأموال وقال
أبو مجلز أن مملوكك لا تخاف أن يقاسمك مالك وليس له ذاك ،كذلك الله لا شريك له ،
والمعنى أن أحدكم يأنف من ذلك فكيف تجعلون لله الأنداد من خلقه وهذا كقوله تعالى
" ويجعلون لله ما يكرهون " أى من البنات حيث جعلوا الملائكة الذين هم
عباد الرحمن اناثا وجعلوها بنات الله وهم يأنفون من البنات وجعلوا الملائكة بنات
الله فنسبوا اليه ما لايرتضونه لأنفسهم فهذا أغلظ الكفر وهكذا فى هذا المقام جعلوا
له شركاء من عبيده وخلقه وأحدهم يأبى غاية الاباء ويأنف غاية الأنفة من ذلك أن
يكون عبده شريكه فى ماله يساويه فيه ولو شاء لقاسمه عليه وعن ابن عباس قال : كان
يلبى أهل الشرك لبيك لا شريك لك الا شريكا هو لك تملكه وما ملك فأنزل الله تعالى " هل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن
شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ فَأَنتُمۡ فِيهِ سَوَآءٞ تَخَافُونَهُمۡ كَخِيفَتِكُمۡ
أَنفُسَكُمۡۚ" ، " كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ " قال الله تعالى مبينا
أن المشركين انما عبدوا غيره سفها من أنفسهم وجهلا والله يبين الآيات ويوضحها لمن
يفهم ويستوعب ، " بَلِ ٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَهۡوَآءَهُم بِغَيۡرِ
عِلۡم" وهؤلاء المشركون اتبعوا فى عبادتهم الأنداد
تبعا لأهوائهم بغير علم ، " فَمَن يَهۡدِي مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُ " لا
أحد يهدى هؤلاء المشركين اذا كتب الله ضلالهم من أفعالهم وأقوالهم ، " وَمَا
لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ " ليس لهم من قدرة الله منقذ ولا مجير ولا محيد لهم
عنه لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .
فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ
عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ
وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٣٠ ۞مُنِيبِينَ إِلَيۡهِ
وَٱتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَلَا تَكُونُواْ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٣١
مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗاۖ كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا
لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ ٣٢
" فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ " يقول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين سدد وجهك واستمر على الدين الذى شرعه الله لك من الحنيفية ملة ابراهيم الذى هداك الله لها غاية الكمال ، " فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ" واتباع دين الله الذى شرعه من الحنيفية هى الفطرة السليمة التى فطر الله الخلق عليها فانه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده وأنه لا اله غيره كما فى قوله " وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى " وفى الحديث " انى خلقت عبادى حنفاء فجتالتهم الشياطين عن دينهم " ، وخلق الله تعالى خلقه وفطرهم على الاسلام ثم طرأ على بعضهم الأديان الفاسدة التى حرفت فيما بعد وبعدت عن مسارها الذى أنزلها الله له كاليهودية والنصرانية وكذلك الانحراف عن دين الله واتباع الشرك كما فى المجوسية ، " لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ " قال بعضهم معناه لا تبدلوا خلق الله فتغيروا الناس عن فطرتهم التى فطرهم الله عليها وعن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مولود يولد الا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جماء هل تحسون فيها من جدعاء" وعن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فاذا عبر عنه لسانه اما شاكرا واما كفورا " ، " ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ " التمسك بالشريعة والفطرة السليمة هو الدين القيم المستقيم ، " وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ " فلهذا لا يعرفه أكثر الناس فهم عنه ناكبون كما قال تعالى " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " وقال تعالى " وان تطع أكثر من فى الأرض يضلوك عن سبيل الله " ، " مُنِيبِينَ إِلَيۡهِ " راجعين اليه يوم القيامة ، " وَٱتَّقُوهُ " أى خافوه وراقبوه ، " وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ" وأمر الله باقامة الصلاة وهى الطاعة العظيمة ، " وَلَا تَكُونُواْ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ " نهى الله عن اتباع الشرك فقال لا تكونوا من المشركين بل كونوا من الموحدين المخلصين له العبادة لايريدون بها سواه ،"مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗاۖ كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ " لا تكونوا من الكشركين الذين قد فرقوا دينهم أى بدلوه وغيروه وآمنوا ببعض وكفروا ببعض وبعضهم فارقوا دينهم أى تركوه وراء ظهورهم كاليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان وسائر الأديان الباطلة ما عدا أهل الاسلام ، فأهل الأديان قبلنا اختلفوا فيما بينهم على آراء ومثل باطلة وكل فرقة منهم تزعم أنها على شىء وأهل هذه الأمة أيضا اختلفوا فيما بينهم على نحل كلها ضلالة الا واحدة وهم أهل السنة والجماعة المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين كما روى الحاكم فى مستدركه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الفرقة الناجية فقال " من كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابى " .
وَإِذَا مَسَّ ٱلنَّاسَ
ضُرّٞ دَعَوۡاْ رَبَّهُم
مُّنِيبِينَ إِلَيۡهِ ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُم مِّنۡهُ رَحۡمَةً إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُم بِرَبِّهِمۡ
يُشۡرِكُونَ ٣٣ لِيَكۡفُرُواْ بِمَآ ءَاتَيۡنَٰهُمۡۚ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوۡفَ
تَعۡلَمُونَ ٣٤ أَمۡ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٗا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ
بِمَا كَانُواْ بِهِۦ يُشۡرِكُونَ ٣٥ وَإِذَآ أَذَقۡنَا ٱلنَّاسَ رَحۡمَةٗ فَرِحُواْ بِهَاۖ
وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡ إِذَا هُمۡ يَقۡنَطُونَ
٣٦ أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ
وَيَقۡدِرُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ ٣٧
" وَإِذَا
مَسَّ ٱلنَّاسَ ضُرّٞ دَعَوۡاْ رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيۡهِ " يقول الله
تعالى مخبرا عن الناس أنهم فى حال الاضطرار يدعون الله وحده لا شريك له ، "
ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُم مِّنۡهُ رَحۡمَةً إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُم
بِرَبِّهِمۡ يُشۡرِكُونَ " واذا أسبغ الله على الناس النعمة اذا فريق منهم فى
حالة الاختيار يشركون بالله ويعبدون معه غيره ،"لِيَكۡفُرُواْ بِمَآ
ءَاتَيۡنَٰهُمۡۚ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ " ما يفعله الناس من
جحود لنعمة الله يتوعهدهم الله بسوء العاقبة لتفضيلهم المتعة الدنيوية الزائلة فى
حالة ان أنعم الله عليهم وعاشوا فى الرخاء سوف يفيقون على سوء العاقبة من الله فى
الدنيا والآخرة ، " أَمۡ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٗا فَهُوَ
يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِۦ يُشۡرِكُونَ " يقول الله تعالى منكرا على
المشركين فيما اختلفوه فيه من عبادة غيره بلا دليل ولا حجة ولا برهان فى استفهام انكارهل لهم حجة ودليل ينطق ويتكلم عن شركهم
بالله وعبادة غيره ، " وَإِذَآ أَذَقۡنَا ٱلنَّاسَ رَحۡمَةٗ فَرِحُواْ بِهَاۖ
" هذا انكار على الانسان من حيث هو الا من عصمه الله فهو يفرح فى حال انعام
الله عليه ويسر فى نفسه ويفخر على غيره ويصيبه البطر ، " وَإِن تُصِبۡهُمۡ
سَيِّئَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡ إِذَا هُمۡ يَقۡنَطُونَ" واذا أصاب
الانسان شدة من جراء أفعاله قنط ويأس أن يحصل له بعد ذلك خير بالكلية وكما ثبت فى
الصحيح " عجبا للمؤمن لا يقضى الله له قضاء الا كان خيرا له ان أصابته سراء
شكر فكان خيرا له وان أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " ، " أَوَ لَمۡ
يَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُ" يوبخ
الله من يفعل ذلك من الفرح فى السراء والقنوط فى الضراء فالله وحده المتصرف الفاعل
فهو بحكمته وعدله يوسع على قوم ويضيق على آخرين لما له من حكمة فى تسيير الأمور فمن
الناس من تصلحه النعمة ومنهم من يبطر بها واذا أوتى نعمة الله جحدها وكفر ومنهم من
لا يصلحه الا الفقر ، " إِنَّ فِي
ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ " فيما يفعله الله عبرة وآية لمن يؤمن
بالله .
فََٔاتِ ذَا
ٱلۡقُرۡبَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلۡمِسۡكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ
يُرِيدُونَ وَجۡهَ ٱللَّهِۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٣٨ وَمَآ
ءَاتَيۡتُم مِّن رِّبٗا لِّيَرۡبُوَاْ فِيٓ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ فَلَا
يَرۡبُواْ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَآ ءَاتَيۡتُم مِّن زَكَوٰةٖ تُرِيدُونَ وَجۡهَ
ٱللَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُضۡعِفُونَ ٣٩ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ ثُمَّ
رَزَقَكُمۡ ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ ثُمَّ يُحۡيِيكُمۡۖ هَلۡ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن
يَفۡعَلُ مِن ذَٰلِكُم مِّن شَيۡءٖۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ٤٠
" فََٔاتِ ذَا
ٱلۡقُرۡبَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلۡمِسۡكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ" يأمر الله تعالى
باعطاء ذوى القربى حقهم من البر والصلة وكذلك المسكين وهو الذى لا شىء له ينفق منه
أو له شىء لا يقوم بكفايته وابن السبيل وهو المسافر المحتاج الى نفقة وما يحتاج فى
سفره ، " ذَٰلِكَ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجۡهَ ٱللَّهِ" هذا الفعل من
الاحسان هو منفعة وربح وغنم للذين يبتغون النظر الى الله يوم القيامة وهو الغاية
القصوى ، "وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ " من يفعلون ذلك ويقومون
به هم من يصيبهم الفلاح فى الدنيا والآخرة ، " وَمَآ ءَاتَيۡتُم مِّن رِّبٗا
لِّيَرۡبُوَاْ فِيٓ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ فَلَا يَرۡبُواْ عِندَ ٱللَّهِ" من
أعطى عطية يريد أن يرد عليه الناس أكثر مما أهدى له فهذا لا ثواب له عند الله وهذا
الصنيع مباح وان كان لا ثواب فيه الا أنه قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
خاصة واستدل الضحاك بقول الله تعالى " ولا تمنن تستكثر " أى لا تعط
العطاء تريد أكثر منه وقال ابن عباس : الربا رباءان ، فربا لا يصح يعنى ربا البيع
، وربا لا بأس به وهو هدية الرجل يريد فضلها وأضعافها ثم تلا الآية ، " وَمَآ
ءَاتَيۡتُم مِّن زَكَوٰةٖ تُرِيدُونَ وَجۡهَ ٱللَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ
ٱلۡمُضۡعِفُونَ " الثواب عند الله فى الزكاة فمن يؤتى الزكاة ابتغاء وجه الله
ومرضاته فهو الذى يضاعف له الثواب من الله والجزاء كما جاء فى الصحيح " وما
تصدق أحد بعدل تمرة من كسب طيب الا أخذها الرحمن بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربى
أحدكم فلوه أو فصيلة حتى تصير التمرة أعظم من أحد " ، " ٱللَّهُ ٱلَّذِي
خَلَقَكُمۡ ثُمَّ رَزَقَكُمۡ" الله هو الخالق الرازق يخرج الانسان من بطن أمه
عريانا لا علم له ولا سمع ولا بصر ولا قوى ثم يرزقه الله ذلك ويرزقه الرياش
واللباس والمال والأملاك والمكاسب ، وعن حبة وسواء ابنى خالدة قالا دخلنا على
النبى صلى الله عليه وسلم وهو يصلح شيئا فأعناه فقال " لا تيأسا من الرزق ما
تهزهزت رءوسكما فان الانسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشرة ثم يرزقه الله عز وجل
" ، " ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ " يميت الله العباد بعد هذه الحياة ،
" ثُمَّ يُحۡيِيكُم" ثم يحييهم ويبعثهم يوم القيامة ، " هَلۡ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَفۡعَلُ مِن
ذَٰلِكُم مِّن شَيۡء" يوجه الله كلامه الى المشركين فيقول
لهم هل هناك من الشركاء والأوثان الذين تعبدونهم من دون الله من يستطيع أن يفعل
شيئا من ذلك الذى يفعله الله لا أحد يقدر على فعل ذلك بل الله سبحانه وتعالى هو
المستقل بالخلق والرزق والاماته والاحياء وبعث الخلائق يوم القيامة ، " سُبۡحَٰنَهُۥ
وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ " تعالى الله وتقدس وتنزه وتعاظم وجل وعز عن
أن يكون له شريك أو نظير أو مساو أو ولد أووالد بل هو الأحد الفرد الصمد الذى لم
يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد .
ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي
ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعۡضَ
ٱلَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ ٤١ قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ
فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلُۚ كَانَ أَكۡثَرُهُم
مُّشۡرِكِينَ ٤٢
" ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ
وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِي
عَمِلُواْ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ " هذه الآية من آيات الاعجاز العلمى فى
القرآن فقد سبق القرآن عصره وهذا ينطبق على ما أفسده الانسان وما أحدثه فى البيئة
المحيطة به من افساد فلم يكن فى وقت نزول الآية ما يسمى بالتلوث الذى سببه الناس
بما كسبت أيديهم والمراد بالبر هو البر المعروف وبالبحر هو البحر المعروف فالانسان
يعانى حاليا من خلل فى البيئة يهدد الحياة على الأرض والعرب لم يكونوا يعرفون
البحر بل كانت لهم القوافل التى تسير فى البر فمن ضمن التفاسيرالتى قيلت من جانب
المفسرين الأقدمين "أن يكون نقص فى الزروع والثمار بسبب المعاصى" ، وقال
أبو العالية : من عصى الله فى الأرض فقد أفسد فى الأرض لأن صلاح الأرض والسماء
بالطاعة وكلما أقيم العدل كثرت البركات والخير
، "ليذيقهم بعض الذى عملوا لعلهم يرجعون " وهذا الذى يفعله الناس مردود عليهم فهو مجازاة
على صنيعهم وهو ابتلاء من الله لعل الناس ترجع عن الفساد والمعاصى كما قال تعالى
"وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ، " قُلۡ سِيرُواْ فِي
ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلُۚ كَانَ
أَكۡثَرُهُم مُّشۡرِكِينَ " يأمر الله تعالى بالتدبر فيما حدث لمن كذب الرسل
وكفر بنعم الله وأفسد من قبل وما حل به من تدمير واهلاك جراء شركه بالله ومعظم من
على الأرض من الكفار والمشركين وهذا واقع حتى فى زماننا فالكفار هم أغلب سكان
الأرض أما الموحدون وعباد الله المخلصين فهم قليل القليل والعباد كان أكثرهم
مشركين وهم الآن كذلك .
فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ
لِلدِّينِ ٱلۡقَيِّمِ مِن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ يَوۡمٞ لَّا مَرَدَّ لَهُۥ
مِنَ ٱللَّهِۖ يَوۡمَئِذٖ يَصَّدَّعُونَ ٤٣ مَن كَفَرَ فَعَلَيۡهِ كُفۡرُهُۥۖ
وَمَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا فَلِأَنفُسِهِمۡ يَمۡهَدُونَ ٤٤ لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ
ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ
ٱلۡكَٰفِرِينَ ٤٥
" فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ
ٱلۡقَيِّمِ مِن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ يَوۡمٞ لَّا مَرَدَّ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِۖ" يقول الله تعالى
آمرا عباده بالمبادرة الى الاستقامة فى طاعته والمبادرة الى الخيرات قبل أن يحل
يوم القيامة اذا أراد الله كونه فلا راد له ،"يَوۡمَئِذ ٖ
يَصَّدَّعُونَ " يوم القيامة يصدع الناس أى يتفرقون ففريق فى الجنة وفريق فى
السعير ، " مَن كَفَرَ فَعَلَيۡهِ كُفۡرُهُ" من كفر بالله وبعد عن طريق
الحق يجزى على كفره ويتحمل جزاءه وهو جهنم وبئس المصير ، "وَمَنۡ عَمِلَ
صَٰلِحٗا
فَلِأَنفُسِهِمۡ يَمۡهَدُونَ " ومن عمل صالحا فلنفسه ويجازى بعمله ، "
لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن فَضۡلِهِۦ"
والله يجازى الذين آمنوا وعملوا الصالحات مجازاة الفضل الحسنة بعشر أمثالها الى
سبعمائة ضعف الى ما يشاء الله وهو العادل الذى لا يجور والكريم فى فضله وعطائه ، " إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡكَٰفِرِينَ
" والله يعقب الآية ببغضه لمن كفر به وجحد بنعمته وفضله وبعد عنه .
وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ
أَن يُرۡسِلَ ٱلرِّيَاحَ مُبَشِّرَٰتٖ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَلِتَجۡرِيَ
ٱلۡفُلۡكُ بِأَمۡرِهِۦ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ
٤٦ وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوۡمِهِمۡ فَجَآءُوهُم
بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَٱنتَقَمۡنَا مِنَ ٱلَّذِينَ أَجۡرَمُواْۖ وَكَانَ حَقًّا
عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٤٧
" وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَن يُرۡسِلَ
ٱلرِّيَاحَ مُبَشِّرَٰت" يذكر الله تعالى نعمه على خلقه فى ارسال الرياح التى
تبشر بالخير وهو سقوط المطر ومجيئه بعدها ، وكذلك الرياح لها فوائد أخرى غير سقوط
المطر فهى تساعد على تلقيح النبات ونقل البذور وهى التى تسير السفن فى البحار،
" وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحۡمَتِهِ" ويذيق الله عباده رحمته بنزول المطر الذى يعقب الرياح فيحيى الله
به العباد والبلاد ، " وَلِتَجۡرِيَ ٱلۡفُلۡكُ بِأَمۡرِهِ" والرياح هى
التى تسير السفن فى البحار بأمر الله ، " وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِ"
ومن آيات الله ما يسره من المعايش والسير فى الأرض ابتغاء رزق الله والسعى فيها ،
" وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ " هذه النعم من الله تستوجب الشكر على ما
أنعم من النعم الظاهرة والباطنة التى لا تعد ولا تحصى ، " وَلَقَدۡ
أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوۡمِهِمۡ فَجَآءُوهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ
" هذه تسلية من الله تعالى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأنه وان
كذبه كثير من قومه ومن الناس فقد كذبت الرسل المتقدمون مع ما جاءوا أممهم به من
الدلائل الواضحات ، " فَٱنتَقَمۡنَا مِنَ ٱلَّذِينَ أَجۡرَمُوا" وانتصر
الله لرسله وانتقم ممن كذبهم وخالفهم وأنجى المؤمنين بهم ، "وَكَانَ حَقًّا
عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ " أوجب الله على نفسه الكريمة حقا تكرما
وتفضلا منه أن ينصر عباده المؤمنين وهذا تثبيت وتبشير للرسول صلى الله عليه وسلم
والمؤمنين بالنصر .
ٱللَّهُ ٱلَّذِي يُرۡسِلُ ٱلرِّيَٰحَ فَتُثِيرُ سَحَابٗا فَيَبۡسُطُهُۥ فِي ٱلسَّمَآءِ كَيۡفَ يَشَآءُ وَيَجۡعَلُهُۥ كِسَفٗا فَتَرَى ٱلۡوَدۡقَ يَخۡرُجُ مِنۡ خِلَٰلِهِۦۖ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِۦ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦٓ إِذَا هُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ ٤٨ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيۡهِم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمُبۡلِسِينَ ٤٩ فَٱنظُرۡ إِلَىٰٓ ءَاثَٰرِ رَحۡمَتِ ٱللَّهِ كَيۡفَ يُحۡيِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَآۚ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٥٠ وَلَئِنۡ أَرۡسَلۡنَا رِيحٗا فَرَأَوۡهُ مُصۡفَرّٗا لَّظَلُّواْ مِنۢ بَعۡدِهِۦ يَكۡفُرُونَ ٥١
" ٱللَّهُ ٱلَّذِي يُرۡسِلُ ٱلرِّيَٰحَ فَتُثِيرُ سَحَابٗا " يبين الله تعالى كيف ينزل المطر حيث تسوق الرياح السحاب ،" فَيَبۡسُطُهُۥ فِي ٱلسَّمَآءِ كَيۡفَ يَشَآءُ " الرياح تسوق السحاب فى السماء بمشيئة الله حيث يراد لها أن تمطر بمشيئته ، " وَيَجۡعَلُهُۥ كِسَفٗا " يتكثف السحاب وهو السحاب التراكمى وكما قال الضحاك وغيره متراكما ثقيلا قريبا من الأرض ، " فَتَرَى ٱلۡوَدۡقَ يَخۡرُجُ مِنۡ خِلَٰلِهِ" الودق هو المطر الذى يخرج وينزل من خلال السحاب ، " فَإِذَآ أَصَابَ بِهِۦ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦٓ إِذَا هُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ " اذا أنزل الله المطر بمشيئته على من يريد من عباده بفرحون به وتصيبهم بشرى الخير لتدب الحياة فى الأرض ، " وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيۡهِم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمُبۡلِسِينَ " مبلسين معناها قانطين من نزول المطر ونحن نعلم أنه فى حالة عدم نزول المطر أو تاخره تؤدى صلاة الاستسقاء رجاء من الله لانزال المطر ، " فَٱنظُرۡ إِلَىٰٓ ءَاثَٰرِ رَحۡمَتِ ٱللَّهِ " يدعو الله الى النظر الى رحمته وهى المطر وتأثيره على الأرض وما يحدثه ، " كَيۡفَ يُحۡيِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَآۚ " هذا المطر اذا نزل على الأرض اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج وهذه هى آثار رحمة الله فهو وحدده الذى يحيى الأرض القفر الميتة فتنبت الزرع وتدب فيها الحياة ،" إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ" نبه الله بذلك على احياء الأجساد بعد موتها وتفرقها وتمزقها وان الذى أحيا الأرض بعد موتها لقادر على احياء الموتى ،"وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِير" والله هو القادر الغالب على أمره لا يغلبه شىء الواحد القهار،"وَلَئِنۡ أَرۡسَلۡنَا رِيحٗا فَرَأَوۡهُ مُصۡفَرّٗا لَّظَلُّواْ مِنۢ بَعۡدِهِۦ يَكۡفُرُونَ " يقول الله تعالى ولئن أرسلنا ريحا يابسة على الزرع الذى زرعوه ونبت وشب واستوى على سوقه فرأوه مصفرا أى قد تغير لونه فاصفر وشرع فى الفساد لظلوا من بعد هذا الحال يكفرون أى يجحدون ما تقدم اليهم من النعم ونلاحظ فى هذه الآية دقة القرآن فى التعبير فعند الضرر والعذاب يذكر لفظ الريح مفردا وعندما يذكر الخير والمنفعة يذكر الجمع الرياح " والرياح رحمة وهى الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات وأما ريح العذاب فهى العقيم والصرصر وهى فى البر والعاصف والقاصف فى البحر .
فَإِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ
ٱلۡمَوۡتَىٰ وَلَا تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوۡاْ مُدۡبِرِينَ ٥٢
وَمَآ أَنتَ بِهَٰدِ ٱلۡعُمۡيِ عَن ضَلَٰلَتِهِمۡۖ إِن تُسۡمِعُ إِلَّا مَن
يُؤۡمِنُ بَِٔايَٰتِنَا فَهُم مُّسۡلِمُونَ ٥٣ ۞
" فَإِنَّكَ
لَا تُسۡمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَلَا تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوۡاْ
مُدۡبِرِينَ " يقول الله تعالى كما أنك يا محمد ليس فى قدرتك أن تسمع الأموات
فى قبورها ولا تبلغ كلامك الصم الذين لا يسمعون وهم مدبرين عنك ،" وَمَآ
أَنتَ بِهَٰدِ ٱلۡعُمۡيِ عَن ضَلَٰلَتِهِمۡۖ " فأنت كذلك لا تقدر على هداية
العمى عن الحق وردهم عن ضلالتهم فانه لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى
الصدور ، " إِن تُسۡمِعُ إِلَّا مَن يُؤۡمِنُ بَِٔايَٰتِنَا
فَهُم مُّسۡلِمُونَ " انك تسمع فقط من يسمع ويطيع ممن يؤمن بالله ويستجيب ولا
يشرك به ولا يعرض عن آياته فأولئك هم الذين يسمعون الحق ويتبعونه وهذا حال
المؤمنين كقوله تعالى " انما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم
اليه يرجعون " ، ما ورد فى الآية هنا ليس المقصود موت الجسد ولكن موت الروح
الميتة وهى موجودة فى الحياة روح الكافر التى لا تستوعب كلام الله وكذلك لا يسمع
من أصموا آذانهم عن الحق وبعدوا عنه وكذلك الذين عموا عن الحق وبعدوا عنه وليس
المقصود بالموتى الذين هم فى القبور لأن أهل القبور لهم وضع آخر فقد تواترت الآثار
أن الميت يعرف بزيارة الحى له ويستبشر فعن عائشة رضى الله عنها قالت قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده الا استأنس به ورد
عليه حتى يقوم " وثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته اذا سلموا على أهل
القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول المسلم السلام عليكم دار قوم
مؤمنين وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل ولولا هذا الخطاب لكانوا بمنزلة خطاب المعدوم
والجماد والسلف مجمعون على هذا ، وقد شرع السلام على الموتى ،والسلام على من لم
يشعر ولا يعلم بالمسلم محال ، وقد علم النبى صلى الله عليه وسلم أمته اذا رأوا
القبور أن يقولوا سلام عليكم أهل الديار من المؤمنين وانا ان شاء الله بكم لاحقون
يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية .
ٱللَّهُ ٱلَّذِي
خَلَقَكُم مِّن ضَعۡفٖ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ ضَعۡفٖ قُوَّةٗ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ
بَعۡدِ قُوَّةٖ ضَعۡفٗا وَشَيۡبَةٗۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡقَدِيرُ
٥٤
ينبه الله تعالى على تنقل
الانسان فى أطوار الخلق حالا بعد حال فأصله من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من
مضغة ثم يصير عظاما ثم تكسى العظام لحما وينفخ فيه الروح ثم يخرج من بطن أمه ضعيفا
نحيفا واهن القوى " ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعۡف" الخلق من ضعف هو خلق الطفل
الوليد الضعيف الذى قد خرج من بطن أمه لا حول له ولا قوة ، " ثُمَّ جَعَلَ
مِنۢ بَعۡدِ ضَعۡفٖ قُوَّة" يشب الانسان ويكبر حتى يصبح شابا قويا بعد ضعف الطفولة
الأولى ، " ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٖ ضَعۡفٗا وَشَيۡبَة" بعد أن يصبح الانسان فى كامل قوته وشبابه يشرع فى النقص
فيكتهل ثم يشيخ ثم يهرم وهو الضعف بعد القوة فتضعف الهمة والحركة والبطش ، "
يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ "والله هو الخالق ويفعل ما يشاء ويتصرف فى عبيده بما
يريد , " وَهُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡقَدِيرُ " والله هو العليم بخلقه والقادر
على أن يجعلهم كيف يشاء .
وَيَوۡمَ تَقُومُ
ٱلسَّاعَةُ يُقۡسِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيۡرَ سَاعَةٖۚ كَذَٰلِكَ كَانُواْ
يُؤۡفَكُونَ ٥٥ وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ وَٱلۡإِيمَٰنَ لَقَدۡ
لَبِثۡتُمۡ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡبَعۡثِۖ فَهَٰذَا يَوۡمُ
ٱلۡبَعۡثِ وَلَٰكِنَّكُمۡ كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٥٦ فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يَنفَعُ
ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعۡذِرَتُهُمۡ وَلَا هُمۡ يُسۡتَعۡتَبُونَ ٥٧
" وَيَوۡمَ تَقُومُ
ٱلسَّاعَةُ يُقۡسِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيۡرَ سَاعَة" يخبر الله تعالى عن جهل
الكفار فى الدنيا والآخرة ففى الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأوثان ، وفى
الآخرة يكون منهم جهل عظيم أيضا فمنه اقسامهم بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة
فى الدنيا ومقصودهم بذلك عدم قيام الحجة عليهم وأنهم لم ينظروا ويمهلوا حتى يعذر
اليهم ، " كَذَٰلِكَ كَانُواْ يُؤۡفَكُونَ " الافك هو الكذب والبعد عن
الحق فكذلك هؤلاء يبعدون عن الحق ويرتكبون الافك فى قسمهم ، " وَقَالَ
ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ وَٱلۡإِيمَٰنَ لَقَدۡ لَبِثۡتُمۡ فِي كِتَٰبِ
ٱللَّهِ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡبَعۡثِ" يرد المؤمنون العلماء فى الآخرة على
المشركين والكفار كما أقاموا عليهم حجة الله فى الدنيا فيقولون لهم حين يحلفون ما
لبثوا غير ساعة أنكم لبثتم فى كتاب الأعمال الى يوم البعث أى من يوم خلقتم الى أن
بعثتم ولكنكم كنتم لا تعلمون ، " فَهَٰذَا يَوۡمُ ٱلۡبَعۡثِ وَلَٰكِنَّكُمۡ
كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ " ما أنتم فيه هو يوم البعث الذى كنتم تنكرونه من
قبل ولا تعلمون به فقد حل وتحقق ، " فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يَنفَعُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعۡذِرَتُهُمۡ وَلَا هُمۡ
يُسۡتَعۡتَبُونَ " عندما يأتى يوم القيامة والحساب لا ينفع الكفار والمشركين
اعتذارهم عما فعلوا ولاهم يستعتبون أى ولاهم يرجعون الى الدنيا كما قال تعالى
" وان يستعتبوا فما هم من المعتبين " أى يطلبوا الرجوع الى الحياة
الدنيا فلا يمكن أن يرجعوا اليها فما بعد الموت من عتبى أى رجوع .
وَلَقَدۡ ضَرَبۡنَا
لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٖۚ وَلَئِن جِئۡتَهُم بَِٔايَةٖ لَّيَقُولَنَّ
ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا مُبۡطِلُونَ ٥٨ كَذَٰلِكَ يَطۡبَعُ
ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ٥٩ فَٱصۡبِرۡ إِنَّ وَعۡدَ
ٱللَّهِ حَقّٞۖ وَلَا يَسۡتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ٦٠
" وَلَقَدۡ
ضَرَبۡنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ مِن كُلِّ مَثَل" يقول الله تعالى قد بينا لهم فى هذا
القرآن الحق ووضحناه لهم وضربنا لهم الأمثال ليستبينوا ويستوضحوا الحق ويتبعوه ،
" وَلَئِن جِئۡتَهُم بَِٔايَةٖ لَّيَقُولَنَّ
ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا مُبۡطِلُونَ " لو رأوا أى آية كانت
سواء كانت باقتراحهم أو غيره لا يؤمنون بها ويعتقدون أنها سحر وباطل كما قالوا فى
انشقاق القمر ونحوه كقوله تعالى " ان الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون
ولوجاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم " ، " كَذَٰلِكَ يَطۡبَعُ
ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ " الله يختم على قلوب
الذين لا يتبينون الحق ويعلمون طريق الله ويضلهم ويضع على أعينهم غشاوة بسبب
أفعالهم وأقوالهم ، " فَٱصۡبِرۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّ " يسرى الله
عن رسوله صلى الله عليه وسلم ويدعوه الى الصبر على مخالفة المشركين له وعنادهم
وصدهم عن الحق فان الله تعالى منجز له وعده من نصر له عليهم وجعل العاقبة له ولمن
اتبعه فى الدنيا والآخرة ، " وَلَا
يَسۡتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ " يقول الله لرسوله صلى الله عليه
وسلم اثبت على ما بعثك الله به فانه الحق الذى لا مرية فيه ولا تعدل عنه وليس فيما
سواه هدى يتبع بل الحق كله منحصر فيه ولا يستخف بك ويبعدك عنه الذين لايوقنون به .
الجزء الحادى والعشرين
تفسير سورة لقمان
سورة لقمان مكية آياتها 34 آية وتذخر
بالنصائح والآداب التى جاءت على لسان لقمان الحكيم وهو يعظ ابنه ويربيه على السلوك
القويم ،وفيها كذلك من الآداب والسلوك القويم وكذلك فيها ذكر لخلق الله وآياته فى
الكون لتثبيت العقيدة الصحيحة فى هذا المجتمع المكى ضد الشرك المتفشى فيه .
الٓمٓ
١ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡحَكِيمِ ٢ هُدٗى
وَرَحۡمَةٗ لِّلۡمُحۡسِنِينَ ٣ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ
ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ ٤ أُوْلَٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى
مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥
" الٓمٓ " سبق شرح حكم الحروف المقطعة فى بدايات السور فى سورة البقرة ، " تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡحَكِيمِ" أشار الله تعالى الى آيات القرآن وما فيها من حكمة وقول حسن وآيات دالات على منهج الله والحق، "هُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّلۡمُحۡسِنِينَ " جعل الله تعالى هذا القرآن هدى وشفاء ورحمة للمحسنين وهم الذين أحسنوا العمل فى اتباع الشريعة ، " ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ " ذكر الله صفات من يحسنون العمل بهديه وهم الذين يؤدون الصلاة المفروضة ويحسنون أداءها ويقومون بها خير قيام بحدودها وأوقاتها وما يتبعها من نوافل راتبة وغير راتبة ، وقرن الزكاة بالصلاة كما فى كثير من الآيات الصلاة حق الله وحده والزكاة حق العباد فهم يؤتون الزكاة المفروضة عليهم الى مستحقيها ويصلوا أرحامهم وقرباتهم وأيقنوا بالجزاء والحساب والبعث فى الدار الآخرة فرغبوا الى الله فى ثواب ذلك لم يراءوا به ولا أرادوا جزاء من الناس ولا شكورا ومن فعل ذلك فهو من الذين قال الله تعالى فيهم " أُوْلَٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ " أنهم الذين على بصيرة وبينة ومنهج واضح جلى وهم المفلحون فى الدنيا والآخرة .
وَمِنَ
ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ
عِلۡمٖ
وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ
مُّهِينٞ ٦ وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِ ءَايَٰتُنَا وَلَّىٰ مُسۡتَكۡبِرٗا
كَأَن لَّمۡ يَسۡمَعۡهَا كَأَنَّ فِيٓ أُذُنَيۡهِ وَقۡرٗاۖ
فَبَشِّرۡهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ٧
" وَمِنَ ٱلنَّاسِ
مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ " قيل عن لهو الحديث هو الغناء والمزامير أو
اشتراء المغنيات من الجوارى وعن أبى أمامة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال "
لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن وأكل أثمانهن حرام ، وفيهن أنزل الله عز وجل على
" وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي
لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ" وقال الضحاك يعنى الشرك
واختار ابن جرير أنه كل كلام يصد عن آيات الله واتباع السبيل القويم سبيل الله ،
" لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ
" أى انما يصنع هذا للتخالف للاسلام وأهله وابعادهم عن سبيل الله ، "
بِغَيۡرِ عِلۡم" بجهل وضلال وبعد عن الحق والصواب ، " وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا" وقال مجاهد ويتخذ
سبيل الله هزوا يستهزىء بها ويستخف ، وهذا يكثر فى عصرنا من حفلات غناء ورقص
وتضييع وقت فى مواضيع تبعد عن طريق الله ، " أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِين" من
يفعل ذلك فله عذاب مذل مهين يوم القيامة استهانوا بآيات الله وسبيله فى الدنيا
فيهانوا بالعذاب الدائم المستمر يوم القيامة ، " وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِ
ءَايَٰتُنَا وَلَّىٰ مُسۡتَكۡبِرٗا كَأَن لَّمۡ يَسۡمَعۡهَا كَأَنَّ فِيٓ أُذُنَيۡهِ وَقۡرٗاۖ " هذا المقبل على اللهو
واللعب والطرب اذا تليت عليه الآيات القرآنية ولى عنها وأعرض وأدبر وتصامم وما به
من صمم كأنه ما سمعها لأنه يتأذى بسماعها لا انتفاع له بها ولا أرب له فيها ، هذا
ينتشر فى عصرنا بشكل ماجن وسافر من تضييع
فى الوقت فى سماع الأغانى والتمثيليات والأفلام والتراخى عن حتى القيام لأداء
الصلاة أو تضييع الصلاة نفسها اذا كانت فى وقت اللهو ،"
فَبَشِّرۡهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ "
يبشر الله هؤلاء بعذاب أليم يوم القيامة يؤلمهم كما تألموا بسماع كتاب الله وآياته
.
إِنَّ
ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُمۡ جَنَّٰتُ ٱلنَّعِيمِ ٨
خَٰلِدِينَ فِيهَاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٗاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ٩
" إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ
وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُمۡ جَنَّٰتُ ٱلنَّعِيمِ "هذا ذكر مآل الأبرار
من السعداء فى الدار الآخرة الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين وعملوا الأعمال
الصالحة التابعة لشريعة الله لهم جنات النعيم أآ التى يتنعمون فيها بأنواع الملاذ
والمسار من المآكل والمشارب والملابس وكل ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على
قلب بشر ، " خَٰلِدِينَ فِيهَاۖ " وهم مقيمون فى هذا
النعيم دائما لا يظعنون ولا يبغون عنها حولا ، " وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٗاۚ
" هذا كائن لا محالة لأنه من وعد الله الذى لا يخلف الميعاد لأنه الكريم
المنان الفعال لما يشاء القادر على كل شىء ، " وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ
" وهو العزيز الذى قهر كل شىء الحكيم فى أقواله وأفعاله الذى جعل القرآن هدى
للمؤمنين .
خَلَقَ
ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَاۖ وَأَلۡقَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ
بِكُمۡ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖۚ وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ
فَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوۡجٖ كَرِيمٍ ١٠ هَٰذَا خَلۡقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ
ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦۚ بَلِ ٱلظَّٰلِمُونَ فِي ضَلَٰلٖ
مُّبِينٖ ١١
" خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَا " يبين الله سبحانه وتعالى قدرته العظيمة على خلق السموات وهى كالبنيان الذى يعتمد فى بنائه على الجاذبية كما أثبت العلم الحديث وهى شىء لا يرى ولكنه يحس ،" وَأَلۡقَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمۡ " خلق الله الجبال وهى تسمى هنا رواسى لأنها تثبت الأرض كأوتاد الخيمة وترسيها لكى لا تميل ولا تحيد ، " وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّة" من قدرة الله أنه ذرا فى الأرض من أصناف الدواب والحيوانات مما لا يعلم عدد أشكالها ولا أنواعها ، " وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوۡجٖ كَرِيمٍ " من آيات الله وقدرته انزال المطر وانبات النبات من كل زوج كريم أى حسن المظهر والنبات فيه الذكر والأنثى ويتم التلقيح له حتى يأتى بمحصول وفير ، " هَٰذَا خَلۡقُ ٱللَّهِ " هذا الذىذكره الله تعالى من خلقهصادر عن فعله وتقديره وحده لا شريك له ، " فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ" يوجه الله تعالى الكلام الى الكفار والمشركين الذين يعبدون من دونه ويقول لهم ابرزوا من تعبدون وتدعونمن الأصنام التى لا تضر ولا تنفع ماذا تستطيع أن تفعل فهى لا حول لها ولا قوة ولا تستطيع أن تدفع عن نفسها الضر فكيف تخلق ، " بَلِ ٱلظَّٰلِمُونَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِين " يستدرك الله تعالى الرد والتوبيخ لهؤلاء الذين لا يعقلون أنهم فى ضلال واضح بين حيث يشرون بالله الخالق القادر ويعبدون من دونه الأوثان والأصنام وهذا ظلم للنفس وحياد بها عن الحق لأن الظلم هو الحياد والبعد عن جادة الحق والصواب والعدل الذى يضع الأمور فى نصابها الحقيقى .
وَلَقَدۡ
ءَاتَيۡنَا لُقۡمَٰنَ ٱلۡحِكۡمَةَ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِلَّهِۚ وَمَن يَشۡكُرۡ
فَإِنَّمَا يَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٞ
١٢
يبدأ الحديث عن لقمان بهذه الآية وقد
اختلف السلف فى لقمان هل كان نبيا أو عبدا صالحا من غير نبوة ؟ والأكثرون على
القول الثانى أنه عبد صالح "وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا لُقۡمَٰنَ ٱلۡحِكۡمَةَ
" والحكمة هى سداد الرأى والفهم واعلم والتعبير وقال قتادة الفقه فى الاسلام
ولم يكن نبيا يوحى اليه ، " أَنِ ٱشۡكُرۡ لِلَّهِۚ " يقول الله تعالى
أمرناه أن يشكر لله عز وجل على ما أتاه ومنحه ووهبه من الفضل الذى خصه به عمن سواه
من أبناء جنسه وأهل زمانه ، " وَمَن
يَشۡكُرۡ فَإِنَّمَا يَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِ" انما يعود نفع الشكر وثوابه على
أنفس الشاكرين كقوله تعالى " ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون " ، "
وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيد " ومن جحد فضل الله ونعمته فان
الله غنى عن العباد لا يتضرر بذلك ولوكفر أهل الأرض جميعا فان الله هو الغنى عمن
سواه فلا اله الا الله ولا نعبد الا اياه وهو الرزاق وله الحمد فى السموات والأرض
كل يسبح بحمده فلا ينقص من كفر عن ذلك وبعد من ملكه شىء .
وَإِذۡ
قَالَ لُقۡمَٰنُ لِٱبۡنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَٰبُنَيَّ لَا تُشۡرِكۡ بِٱللَّهِۖ
إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيمٞ ١٣ وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ
وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡنٖ وَفِصَٰلُهُۥ فِي عَامَيۡنِ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَ
إِلَيَّ ٱلۡمَصِيرُ ١٤ وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ
بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗاۖ
وَٱتَّبِعۡ سَبِيلَ مَنۡ أَنَابَ إِلَيَّۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ
فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٥
" وَإِذۡ قَالَ
لُقۡمَٰنُ لِٱبۡنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَٰبُنَيَّ لَا تُشۡرِكۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّ
ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيم" يقول الله تعالى مخبرا عن وصية لقمان لولده الذى
هو أشفق الناس عليه وأحبهم اليه وهو حقيق أن يمنحه أفضل ما يعرف ولهذا أوصاه أولا
بأن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا فان أعظم الظلم هو الشرك وعن عبد الله قال :
لما نزلت " الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم " شق ذلك على أصحاب
النبى صلى الله عليه وسلم وقالوا : أينا لم يلبس ايمانه بظلم ؟ فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم ألا تسمع لقول لقمان "ۥ يَٰبُنَيَّ لَا تُشۡرِكۡ بِٱللَّهِۖ
إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيم" ، " وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ
بِوَٰلِدَيۡهِ " قرن الله بوصية لقمان بعبادة الله وحده البر بالوالدين كما
قال تعالى " وقضى ربك أن لا تعبدوا الا اياه وبالوالدين احسانا " وكثيرا
ما يقرن الله بين ذلك فى القرآن ، "
حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡن" ذكر الله تعالى فضل الأم وما تتكبده من مشقة وهن وضعف الولد الذى
تربيه وهو واهن حتى يشتد عوده ويقوى ، " وَفِصَٰلُهُۥ فِي عَامَيۡنِ "
تتحمل الأم مشقة الرضاعة بعد الحمل لمدة عامين كما قال تعالى " والوالدات
يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " ويذكر الله تعالى حمل
الوالدة وتعبها ومشقتها فى سهرها ليلا ونهار فى تربية الولد ليذكر الولد باحسانه
المتقدم اليه كما قال تعالى "وقل رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا " ،
" أَنِ ٱشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَ إِلَيَّ ٱلۡمَصِيرُ" طلب الله شكره
وشكر الوالدين وهو الذى اليه المرجع فانه سيجازى على ذلك أوفر الجزاء ،"وَإِن
جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا
لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَا" ينهى الله عن اتباع الشرك اذا دعى اليه
من جانب الوالدين وان حرصا عليه كل الحرص فلا يقبل منهما ، " وَصَاحِبۡهُمَا
فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗاۖ " ولكن لا يمنع ذلك الاحسان الى الوالدين فى الدنيا وبرهما
وعن سعد بن مالك قال أنزلت فى هذه الآية"وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ
لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَا" وقال كنت رجلا برا بأمى فلما أسلمت قالت
يا سعد ما هذا الذى أراك قد أحدثت لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت
فتعير بى فيقال يا قاتل أمه فقلت : لا تفعلى يا أمه فانى لا أدع دينى هذا لشىء
فمكثت يوما وليلة لم تأكل فأصبحت قد جهدت ، فمكثت يوما آخر وليلة لم تأكل فأصبحت
قد جهدت فمكثت يوما وليلة أخرى لا تأكل فأصبحت قد اشتد جهدها ، فلما رأيت ذلك قلت
: يا أمه تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت دينى هذا لشىء
فان شئت فكلى وان شئت لا تأكلى ، فأكلت ، " وَٱتَّبِعۡ سَبِيلَ مَنۡ أَنَابَ
إِلَيَّۚ " ويدعو الله الى اتباع سبيل المؤمنين الذين يرجعون دائما الى الله
وينيبون اليه ، " ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ
تَعۡمَلُونَ" المرجع والمآب الى الله وحده يوم القيامة وبيده الحساب على
العمل والاخبار به ان خيرا فخير وان شرا فشر
يَٰبُنَيَّ
إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثۡقَالَ حَبَّةٖ مِّنۡ خَرۡدَلٖ فَتَكُن فِي صَخۡرَةٍ أَوۡ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ
يَأۡتِ بِهَا ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٞ
١٦ يَٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱنۡهَ عَنِ
ٱلۡمُنكَرِ وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ
ٱلۡأُمُورِ ١٧ وَلَا تُصَعِّرۡ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ
مَرَحًاۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ
فَخُورٖ
١٨ وَٱقۡصِدۡ فِي مَشۡيِكَ وَٱغۡضُضۡ مِن صَوۡتِكَۚ إِنَّ أَنكَرَ ٱلۡأَصۡوَٰتِ
لَصَوۡتُ ٱلۡحَمِيرِ ١٩
من الوصايا النافعة التى حكاها الله سبحانه وتعالى عن لقمان ليمتثلها الناس ويقتدوا بها فقال " يَٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثۡقَالَ حَبَّةٖ مِّنۡ خَرۡدَل فَتَكُن فِي صَخۡرَةٍ أَوۡ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَأۡتِ بِهَا ٱللَّه" ان المظلمة أو الخطيئة لو كانت مثقال حبة خردل صغيرة لا ترى داخل صخرة صماء أو غائبة ذاهبة فى أى مكان فى أرجاء السماء والأرض يحضرها الله يوم القيامة ويأتى بها لأنه لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض حين يضع الموازين القسط ويجازى عليها ان خيرا فخير وان شرا فشر كما قال تعالى "ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئأ " وكما قال تعالى " فمن يعمل مثقال ذرة خير يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " ، " إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِير" الله لطيف العلم فلا تخفى عليه الأشياء وان دقت ولطفت وتضاءلت وهو خبير بدبيب النمل فى الليل البهيم وعن أبى سعيد الخدرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لو أن أحدكم يعمل فى صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائنا ما كان" ، " يَٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ " يدعو لقمان ابنه ان يداوم على أداء الصلاة بحدودها وفروضها وأوقاتها ، " وَأۡمُرۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱنۡهَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ " ويدعو لقمان أبنه الى أن يدعو الى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بحسب طاقته وجهده والمعروف هو كل سلوك حسن والمنكر عكسه،"وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ" ودعاه على أن يصبر على ما يصيبه لأن الآمر بالمعروف والناهى عن المنكر لابد أن يناله من الناس أذى فأمره بالصبر ، " إِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ " ان الصبر على أذى الناس من الأمور التى تحتاج الى جلد وعزيمة قوية ، " وَلَا تُصَعِّرۡ خَدَّكَ لِلنَّاسِ " نهى لقمان ابنه أن لا يعرض بوجهه عن الناس اذا كلمهم أوكلموه احتقارا منه لهم واستكبارا عليهم ولكن ألن جانبك وابسط وجهك اليهم كما جاء فى الحديث انه من الصدقة " ولو أن تلقى أخاك ووجهك اليه منبسط ، واياك واسبال الازار فانها من المخيلة والمخيلة لا يحبها الله " وعن ابن عباس قال " ولا تصعر خدك للناس " لا تتكبر فتحتقر عباد الله وتعرض عنهم بوجهك اذا كلموك ، " وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًا" ينهى لقمان ابنه من التكبر والسير مختاللا متكبرا أى معجب فى نفسه فخور على غيره ،" إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُور" حتى لا يبغضه الله فالله يكره من هو معجب فى نفسه فخور على غيره وهذا كقوله تعالى " ولا تمش فى الأرض مرحا انك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا " وعن ثابت بن قيس بن شماس قال : ذكر الكبر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فشدد فيه فقال " ان الله لا يحب كل مختال فخور " فقال رجل من القوم والله يا رسول الله انى لأغسل ثيابى فيعجبنى بياضها ويعجبنى شراك نعلى وعلاقة سوطى " فقال : ليس ذلك الكبر ، انما الكبر أن تسفه الحق وتغمط الناس "وعن أبى هريرة مرفوعا " لا ينظر الله يوم القيامة الى من جر ازاره ، وبينما رجل يتبختر فى برديه أعجبته نفسه خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها الى يوم القيامة " ، " وَٱقۡصِدۡ فِي مَشۡيِكَ "امشى مقتصدا ليس بالبطىء المتثبط ولا بالسريع المفرط بل عدلا وسطا بين بين ، " وَٱغۡضُضۡ مِن صَوۡتِكَ" لا تبالغ فى الكلام ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه ولهذا قال " إِنَّ أَنكَرَ ٱلۡأَصۡوَٰتِ لَصَوۡتُ ٱلۡحَمِيرِ " ان أقبح الأصوات لصوت الحمير فهو يشبهه بالحمير فى علو صوته ورفعه وهذا هو بغيض الى الله ، وهذا التشبيه بالخمير يقتضى تحريم رفع الصوت وذمه غاية الذم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ليس لنا مثل السوء العائد فى هبته كالكلب يقىء ثم يعود فى قيئه " وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال " اذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله ، واذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فانها رأت شيطانا " ، وهذه وصايا نافعة جدا وهى من قصص القرآن العظيم عن لقمان الحكيم وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اتخذوا السودان فان ثلاثة منهم من سادت أهل الجنة : لقمان الحكيم والنجاشى وبلال المؤذن "قال الطبانى أراد الحبش وهم " السودان " .
" أَلَمۡ تَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ
وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ " يقول الله تعالى منبها خلقه على نعمه عليهم فى الدنيا
والآخرة بأنه سخر لهم ما فى السموات من نجوم يستضيئون بها فى ليلهم ونهارهم وبخاصة
فى البحار والصحراء يهتدون بها ويتحركون وما خلق لهم فيها من سحاب وأمطار وثلج
وبرد وجعل اياها سقفا محفوظا وما خلق لهم فى الأرض من قرار وأنهار وأشجار وزروع
وثمار ، " وَأَسۡبَغَ عَلَيۡكُمۡ
نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَةٗ وَبَاطِنَة" أسبغ الله على
عباده نعمه الظاهرة والباطنة من ارسال الرسل وانزال الكتب وازاحة الشبه والعلل وكل
نعمة يتمتع بها الناس فى الدنيا أيضا فهى من الله "وان تعدوا نعمة الله لا
تحصوها " ، " وَمِنَ ٱلنَّاسِ
مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِير" مع كل هذا الفضل من الله ما آمن الناس كلهم بل منهم من يجادل فى الله أى فى
توحيده وارساله الرسل ومجادلته فى ذلك بغير علم ولا مستند من حجة صحيحة ولا كتاب
مأثور مبين واضح مضىء ، "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ
ٱللَّهُ" واذا قيل لهؤلاء المجادلين فى توحيد الله اتبعوا ما أنزل الله على
رسوله من الشرائع المطهرة ،" قَالُواْ بَلۡ نَتَّبِعُ مَا وَجَدۡنَا عَلَيۡهِ
ءَابَآءَنَآۚ " لم يكن لهؤلاء المجادلين حجة الا اتباع الآباء الأقدمين كما
قال تعالى " أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون " فما ظنكم أيها
المحتجون باتباع صنيع آبائهم هم على ضلالة وأنتم خلف لهم فيما كانوا فيه ، "
أَوَلَوۡ كَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ يَدۡعُوهُمۡ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ " ما
ظنكم يامن اتبعتم وسلكتم الضلال وطريق الشيطان فيما فعلتم فهذا الشيطان انما
يقودكم الى جهنم وعذابها الأليم الشديد ونارها المسعرة المأججة .
وَمَن
يُسۡلِمۡ وَجۡهَهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ
فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰۗ وَإِلَى ٱللَّهِ عَٰقِبَةُ
ٱلۡأُمُورِ ٢٢ وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحۡزُنكَ كُفۡرُهُۥٓۚ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُهُمۡ
فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ٢٣
نُمَتِّعُهُمۡ قَلِيلٗا ثُمَّ نَضۡطَرُّهُمۡ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٖ
٢٤
" وَمَن يُسۡلِمۡ وَجۡهَهُۥٓ
إِلَى ٱللَّهِ وَهُوَ مُحۡسِن" يقول الله تعالى مخبرا عمن أسلم وجهه لله أى
أخلص له العمل وانقاد لأمره واتبع شرعه وترك ما عنه زجر فهذا احسان العمل ، "
فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ" فقد أخذ موثقا من الله متينا
أنه لا يعذبه ، " وَإِلَى ٱللَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ " والى الله
وحده المرجع والمصير ونهاية كل أمر ، " وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحۡزُنكَ
كُفۡرُهُ" يقول الله تعالى ويسرى عن رسوله صلى الله عليه وسلم وسط عناد المشركين واعراضهم وكفرهم ألا يحزن
عليهم فى كفرهم بالله وبما جاء به ، فان قدر الله واقع بهم " إِلَيۡنَا
مَرۡجِعُهُمۡ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوٓ" ان قدر الله نافذ فى هؤلاء
المشركين واليه مرجعهم اليه فيحاسبهم ويجازيهم على ما عملوا ، " إِنَّ
ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ " الله هو الذى يعلم بما فى النفوس وما
فى الصدور فلا تخفى عليه خافية ولا صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها ، "
نُمَتِّعُهُمۡ قَلِيلٗا " هؤلاء الكفار انما يتمتعون فى هذه الحياة الدنيا القصيرة
ومتاعها قليل لا يقارن أبدا بما أعد الله للمحسنين من عباده ، " ثُمَّ
نَضۡطَرُّهُمۡ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظ " هؤلاء مصيرهم وملجئهم هو العذاب
الشديد الغلظة المفرط فى الألم فى الآخرة كما قال تعالى " ان الذين يفترون
على الله الكذب لا يفلحون * متاع فى الحياة الدنيا ثم الينا مرجعهم ثمنذيقهم
العذاب الشديد بما كانوا يكفرون " .
وَلَئِن
سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ قُلِ
ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ٢٥ لِلَّهِ مَا فِي
ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ ٢٦
" وَلَئِن
سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ"
يقول الله تعالى مخبرا عن هؤلاء المشركين به أنهم يعرفون أن الله خالق السموات
وحده لا شريك له مقرين بذلك ومع هذا
يعبدون معه شركاء يعترفون أنها خلق له وملك له ، " قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ " توجه الى الله بالحمد وحده اذ قامت الحجة
على هؤلاء المشركين باعترافهم فهو المستحق للثناء وحده لا شريك له ، "بَلۡ
أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ " ومع ذلك أكثر هؤلاء المشركين لايعلمون
الحقائق أو يخفونها ويستكبرون وهم معاندين مكابرين ومعرضين ، " لِلَّهِ مَا فِي
ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ " لله وحده كل ما فى السموات والأرض هو خالقه
وملكه ومليكه ، " إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ " الله هو
الغنى عما سواه وكل شىء فقير اليه الحميد فى جميع ما خلق له الحمد فى السموات
والأرض على ما خلق وشرع وهو المحمود فى الأمور كلها .
وَلَوۡ
أَنَّمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَٰمٞ
وَٱلۡبَحۡرُ يَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُرٖ
مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَٰتُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ
٢٧ مَّا خَلۡقُكُمۡ وَلَا بَعۡثُكُمۡ إِلَّا كَنَفۡسٖ
وَٰحِدَةٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ ٢٨
يقول
الله تعالى مخبرا عن عظمته وكبريائه وجلاله وأسمائه الحسنى وصفاته العلا وكلماته
التامة لا يحيط بها أحد ولا اطلاع لبشر عل كنهها واحصائها كما قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم " لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " وَلَوۡ
أَنَّمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَٰمٞ وَٱلۡبَحۡرُ يَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُرٖ مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَٰتُ ٱللَّهِۚ
" لو أن جميع أشجار الأرض اتخذ منها
أقلام وجعل البحر مدادا وأمده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله الدالة على
عظمته وصفاته وجلاله لتكسرت الأقلام ونفد ماء البحر ولو جاء مثلها مدادا وليس المراد " بمثله " آخر فقط بل
بمثله ثم بمثله وهلم جرا لأنه لا حصر لكلمات الله ، " إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ
حَكِيم" الله عزيز قد عز كل شىء وقهره وغلبه فلا مانع
لما أراد ولا مخالف ولا معقب لحكمه حكيم فى خلقه وأمره وأقواله وأفعاله وشرعه
وجميع شؤونه ، " مَّا خَلۡقُكُمۡ
وَلَا بَعۡثُكُمۡ إِلَّا كَنَفۡسٖ وَٰحِدَة" ما خلق جميع الناس وبعثهم يوم المعاد بالنسبة الى
قدرته الا كنسبة خق نفس واحدة الجميع هين عليه فهو يقول للشىء كن فيكون وهذا كقوله
" انما أمره اذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون - وما أمرنا الا واحدة كلمح
البصر " أى لا يأمر بشىء الا مرة واحدة فيكون ذلك الشىء لا يحتاج الى تكرره
وتوكيده كقوله "فانما هى زجرة واحدة فاذا هم بالساهرة " ونحن نرى
بأعيننا عملية الخلق والموت فكم من المخلوقات تخلق فى الثانية الواحدة فى هذا
الكون وكم من المخلوقات تموت أرقام لايمكن أن تعد ولا تحصى من أقل من الذرة وحبة
الخردل الى خلق السموات وما يحدث فيها وهو دليل حى مثمثل أمامنا ما يعجز عنه وعن
كتابته البحار اذا اتخذت مدادا والأشجار اذا اتخذت أقلاما ، " إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ " والله
كما هو سميع لأقوالهم بصير بأفعالهم كسمعه وبصره بالنسبة الى نفس واحدة كذلك قدرته
عليهم كقدرته على نفس واحدة ولهذا قال تعالى " ما خلقكم ولا بعثكم الا كنفس
واحدة " .
أَلَمۡ
تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي
ٱلَّيۡلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ
يَجۡرِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى وَأَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ
٢٩ ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدۡعُونَ مِن دُونِهِ
ٱلۡبَٰطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ ٣٠
" أَلَمۡ تَرَ
" بمعنى هل تدبرت وتفكرت فيما يحدث وفيما يلى من الكلام وهذا لجذب الأنظار
وتحريك العقول للتفكر والتدبر والتعقل وقد تكررت فى كثير من الآيات فالقرآن قرآن
عقل يدعو الى التفكر والتدبر والبحث فيما خلق الله باستخدام العقل والعلم والبحث
والتحرى وليس مرور الشىء مرور من لايرى ولا يسمع ولا يفهم ، " أَنَّ ٱللَّهَ
يُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِ " دقة
القرآن وبراعته وروعته تبرز عند استخدام الألفاظ والكلمات ودلالاتها فى توصيل
المعنى وربط اللفظ بالمعنى كما فى كلمة " يولج " فالايلاج معناه الادخال
ويلج بالفتح بمعنى يدخل بفتح الياء و" يولج " بمعنى يدخل الشىء بضم
الياء وعملية دخول الليل ودخول النهار أو العكس لا تكون مفاجئة بحيث يذهب هذا ويحل
ذاك فحلول ظلمة اليل أو حلول ضوء النهار يكون بالتدريج بحيث يتداخل اليل فى النهار
ويتداخل النهار فى الليل ، " وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى " وتسخير الله الشمس والقمر
الى أجل محدد بقيام يوم القيامة يوم تبدل السماء غير السماء والأرض غير الأرض
والشمس والقمر وكل الأفلاك تجرى وتسبح وتدور فى هذا الكون الفسيح بحول الله وقدرته
كل العلوم الفلكية والكونية تقول ما يقوله القرآن الكريم عن هذا الكون ولولا تسخير
الله للشمس والقمر بحسابه لانمحت الحياة من على سطح الأرض فلواقتربت الشمس لاحترقت
الأرض ولو بعدت لتجمدت والقمر له دوره بجاذبيته على الحياة على الأرض وليس مجرد
مصدر للضوء وهذا يدخل فى شرح الاعجاز العلمى فى القرآن والسنة ، " وَأَنَّ
ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِير" والله خبير عليم بأقوالكم وأفعالكم لا تخفى عليه خافية ، " ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّ
مَا يَدۡعُونَ مِن دُونِهِ ٱلۡبَٰطِلُ " الله يظهر لكم آياته لتستدلوا بها
على أنه الحق أى الموجود الحق الاله الحق وأن كل ما سواه باطل فانه الغنى عما سواه
وكل شىء فقير اليه لأن كل ما فى السموات والأرض الجميع خلقه وعبيده لا يقدر أحد منهم
على تحريك ذرة الا باذنه ولواجتمع أهل الأرض على أن يخلقوا ذبابا لعجزوا عن ذلك ،
"وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِير " الله هو العلى الذى لا
أعلى منه الكبير الذى هو أكبر من كل شىء فكل شىء خاضع حقير بالنسبة اليه . ُ
أَلَمۡ
تَرَ أَنَّ ٱلۡفُلۡكَ تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِنِعۡمَتِ ٱللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنۡ
ءَايَٰتِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ ٣١ وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوۡجٞ
كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمۡ
إِلَى ٱلۡبَرِّ فَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞۚ وَمَا يَجۡحَدُ بَِٔايَٰتِنَآ إِلَّا كُلُّ خَتَّارٖ
كَفُورٖ
٣٢
" َلَمۡ تَر " يتكرر اللفظَ مرة أخرى حتى لا تنسى العقول ولا تتحول وتستكمل تفكيرها وتدبرها فى آيات الله وتؤمن ،" أَنَّ ٱلۡفُلۡكَ تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِنِعۡمَتِ ٱللَّهِ " يخبر الله تعالى أنه هو الذى سخر البحر لتجرى فيه الفلك أى السفن فيه بأمره أى بلطفه وتسخيره فانه لولا ما جعل الله فى الماء من قوة يحمل بها السفن لما جرت على سطح الماء ولولا سكون الريح لما تحركت ونحن نعلم قدرة التوسنامى الجبارة وما فعله بالسفن حيث كانت تحملها الأمواج كلعبة الأطفال الصغيرة وتلقى بها الى البر ،" لِيُرِيَكُم مِّنۡ ءَايَٰتِهِۦ" الله يضع ذلك أمامكم لتروا الأدلة على قدرته ، " إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُور" فى هذا أدلة على قدرة الله لمن يتحلى بالصبر والتأمل والصبر على العلم والصبر على اداء ما أمر به الله وكل من يشكر الله على نعمه الكثيرة التى يتجلى بها على عباده أو يكون صبار فى الضراء شكور فى الرخاء ، " وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوۡجٞ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ " يخبر الله تعالى عما يحدث عندما يدلهم الخطر وسط البحرحيث لا منجى الا الله عندما يهيج البحر ويرتفع فيه الموج كالجبال المرتفعة وهذا البحركذلك كالحياة التى تدلهم فيها الخطوب لا يملك العبد فى هذا الا اللجوء الى الله مخلصا له الدعاء لأنه لا يملك حولا ولا قوة ولا منجى الا الله وحده كما قال تعالى " واذا مسكم الضر فى البحر ضل من تدعون الا اياه " ، " فَلَمَّا نَجَّىٰهُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ فَمِنۡهُم مُّقۡتَصِد" عندما يتجلى الله بنعمته على الناس وينقذهم ويصل بهم الى بر الأمان تشتتوا واختلفوا وافترقوا فيكون منهم المقتصد قال مجاهد الكافر أو الجاحد لنعمة الله كقوله تعالى " فلما نجاهم الى البر اذا هم يشركون " وقال ابن زيد هو المتوسط فى العمل كما فى قوله " فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد " وهذا من باب الانكار على من شاهد تلك الأهوال والأمور العظام ثم بعد ما أنعم الله عليه بالخلاص والانجاء لا يقابل ذلك أى يقتصد ولا يبادر الى الفعل والعمل التام والدؤوب فى العبادة والمبادرة الى الخيرات ، " وَمَا يَجۡحَدُ بَِٔايَٰتِنَآ إِلَّا كُلُّ خَتَّارٖ كَفُور " الختار هوالغدار وقال قتادة وغيره هو الذى كلما عاهد نقض عهده والختر هو أتم الغدر وأبلغه فيكون المعنى أن من يجحد نعمة الله أى يقابلها بالنكران وعدم الشكر هو الغدار الذى لاعهد له ولاأيمان ولا كلمة والجاحد للنعم لا يشكرها بل يتناساها ولا يذكرها .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡ وَٱخۡشَوۡاْ يَوۡمٗا لَّا يَجۡزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِۦ وَلَا مَوۡلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِۦ شَيًۡٔاۚ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ ٣٣
ٰٓ"يأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡ وَٱخۡشَوۡاْ يَوۡمٗا " يقول الله تعالى منذرا للناس يوم المعاد ويأمرهم بتقواه والخوف منه والخشية من يوم القيامة حيث " لَّا يَجۡزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ" فى هذا اليوم لو أراد والد أ، يفدى ولده بنفسه لما قبل منه ، " وَلَا مَوۡلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِۦ شَيًۡٔاۚ " وكذالك الولد لو أراد فداء والده بنفسه لم يقبل منه ، " إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّ" عاد الله لالموعظة لعباده وذكرهم بالوعد الحق وهو يوم القيامة ، " فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا " لا تلهيكم الحياة الدنيا وما فيها من متعة قليلة وما فيها ما تظنون من طمأنينة،" وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ " الغرور هنا الشيطان قال ابن عباس وغيره فانه يغر ابن آدم ويعده ويمنيه وليس ذلك شىء بل كما قال تعالى " يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان الا غرورا " .
إِنَّ
ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلۡغَيۡثَ وَيَعۡلَمُ مَا فِي
ٱلۡأَرۡحَامِۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسٞ مَّاذَا تَكۡسِبُ غَدٗاۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسُۢ بِأَيِّ أَرۡضٖ
تَمُوتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُۢ ٣٤
هذه مفاتيح الغيب التى استأثر الله بها وبعلمها فلا يعلمها أحد الا بعد اعلامه تعالى بها "إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ " علم وقت الساعة لا يعلمه نبى مرسل ولا ملك مقرب كما قال تعالى " لا يجليها لوقتها الا هو " ، " وَيُنَزِّلُ ٱلۡغَيۡثَ " وكذلك انزال الغيث أى المطر لا يعلمه الا الله ولكن اذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك ومن شاء من خلقه ، " وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡأَرۡحَامِۖ " وكذلك لا يعلم أحد ما فى الارحام مما يريد الله أن يخلقه تعالى سواه ولكن اذا أمر بكونه ذكرا أو أنثى أو شقيا أو سعيدا علم الملائكة الموكلون بذلك ومن شاء الله من خلقه ، " وَمَا تَدۡرِي نَفۡسٞ مَّاذَا تَكۡسِبُ غَدٗاۖ " لا تدرى نفس ماذا تكسب غدا فى دنياها وأخراها لا أحد يعرف مصيره ومآله ولو للحظة قادمة ، " وَمَا تَدۡرِي نَفۡسُۢ بِأَيِّ أَرۡضٖ تَمُوتُۚ "ولا أحد يعلم مكان موته فى بلده أو غيره لا علم لأحد بذلك ولا حتى بمعاد موته وهذا كقوله تعالى " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو " ,قد وردت السنة بتسمية هذه الخمس مفاتيح الغيب وعن أبى بريدة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " خمس لا يعلمهن الا الله عز وجل " إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلۡغَيۡثَ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡأَرۡحَامِۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسٞ مَّاذَا تَكۡسِبُ غَدٗاۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسُۢ بِأَيِّ أَرۡضٖ تَمُوتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُۢ " ، " إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُ " الله عليم خبيربهذه الأمور وبكل الغيب وما تفعلون وما تقولون .
الجزء الحادى والعشرين
تفسير سورة السجدة
سورة السجدة آياتها ثلاثون آية وهى
سورة مكية الا الآيات من 16 الى 20 فمدنية وعن أبى هريرة قال : كان النبى صلى الله
عليه وسلم يقرأ فى الفجر يوم الجمعة " ألم تنيل " السجدة و" هل أتى
على الانسان " وعنجابر قال كان النبى صلى الله عليه وسلم لاينام حتى يقرأ ألم
تنيل السجدة وتبارك الذى بيده الملك "، وسميت بالسجدة لوجود آية سجود بها اذا
ذكرت بكت الشياطين لسجود الانسان لربه وعصيان ابليس لربه عندما أمره بالسجود.
الٓمٓ
١ تَنزِيلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَا رَيۡبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٢ أَمۡ
يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۚ بَلۡ هُوَ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوۡمٗا
مَّآ أَتَىٰهُم مِّن نَّذِيرٖ مِّن قَبۡلِكَ لَعَلَّهُمۡ يَهۡتَدُونَ ٣
" الٓمٓ " تقدم الكلام على الحروف المقطعة فى أوائل السور فى
سورة البقرة ، " تَنزِيلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَا رَيۡبَ فِيهِ مِن رَّبِّ
ٱلۡعَٰلَمِينَ " الكتاب المقصود به القرآن الذى نزل بما لا شك فيه ولا مرية
من عند الله رب العالمين كما قال تعالى " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه
اختلافا كثيرا " ، " أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۚ " يقول الله
تعالى مخبرا عن المشركين أنهم يقولون كذبا وافتراءا ان هذا الكتاب اختلقه محمد من
تلقاء نفسه وهو المعروف عنه أنه كان أميا لا يعرف القراءة والكتابة وهم يعرفون عنه
واشتهر بينهم بالصادق الأمين،" بَلۡ هُوَ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ " هذا
القرآن حق منزل من عند الله ربك ، " لِتُنذِرَ قَوۡمٗا مَّآ أَتَىٰهُم مِّن نَّذِيرٖ مِّن قَبۡلِكَ لَعَلَّهُمۡ
يَهۡتَدُونَ " يقول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليك هذا
القرآن لتنذر به قريش وهم لم ياتهم من رسول
ولا نذير من قبله حتى يؤمنوا بما أنزل الله ويتبعوا الحق وهذه السورة مكية كما
نعلم فبدأت الدعوة بقريش لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسله الله الى الناس كافة
ولكن هنا الحديث عن البدء وقريش جزء من كل فالرسول صلى الله عليه وسلم كما قال
الله "وما ارسلناك الا رحمة للعالمين " أرسل الى الثقلين الانس والجن
والناس كافة بشيرا ونذيرا كما ورد فى آيات أخرى .
ٱللَّهُ
ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ
ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ مَا لَكُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ
وَلَا شَفِيعٍۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ٤ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ
إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ يَعۡرُجُ إِلَيۡهِ فِي يَوۡمٖ
كَانَ مِقۡدَارُهُۥٓ أَلۡفَ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ ٥ ذَٰلِكَ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ
ٱلۡعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ٦
" ٱللَّهُ ٱلَّذِي
خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّام" يخبر
الله تعالى أنه الخالق للأشياء فخلق السموات والأرض وما بينهما فى ستة أيام ،
" ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ" ثم استوى على العرش وعلينا أن نأخذ
الآية كما أنزلت ولا ندخل فى تفاصيل الاستواء على العرش وماهو العرش ؟ وكيفية
الاستواء ؟ وما المقصود بالاستواء ؟ والى ذلك من الأسئلة التى فوق علمنا ونحن فى
غنى عنها ، " مَا لَكُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ وَلَا شَفِيعٍ" الله هو
الملك لأزمة الأمور الخالق لكل شىء المدبر لكل شىء القادر على كل شىء فلا ولى
لخلقه سواه ولا شفيع الا من بعد اذنه هو الذى يجازى ويعفو ويصفح عمن يشاء ويعذب من
يشاء بحكمته وعلمه ، " أَفَلَا
تَتَذَكَّرُونَ " الخطاب هنا موجه
الى المشركين والتذكر هنا هو ذكر الحق والاعتراف به فيقول الله لهم تذكروا واذكروا
أيها العابدون غير الله المتوكلون على من
عداه تعالى وتقدس وتنزه أن يكون له نظير أو شريك أو وزير أو نديد أو عديل لا اله
الا هو ولا رب سواه ، " يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى
ٱلۡأَرۡضِ " يتنزل أمر الله من أعلى السموات الى أقصى تخوم الأرض كما قال
تعالى"الله الذى خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن " ثُمَّ يَعۡرُجُ إِلَيۡهِ فِي يَوۡمٖ كَانَ مِقۡدَارُهُۥٓ أَلۡفَ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ " ترفع
الى الله الأعمال الى ديوانها فوق سماء الدنيا فى مسافة بين السماء والأرض مسيرة
ألف سنة ولكن تقطع فى طرفة عين وهذا اعجاز من الله وهو اختلاف الزمن عند المخلوقات
كل حسب عمره وقدرته ونحن نعلم قانون السرعة والمسافة كلما زادت السرعة قلت المسافة
والعكس وقدرة البشر لا تقاس بقدرة الله ولا الملائكة المنزلين المكلفين برصد أعمال
العباد فالملك له من الأجنحة والقدرة والحجم ما يسد بين السماء والأرض كما ورد أن
لجبريل ستمائة جناح وينزل بالأمر من الله ويرفعه فى لمح البصر ونحن نقيس الزمان
بما نعد من أعمارنا فلو حسبنا رفع الأعمال بحسبنا يحتاج ذلك الى ألف سنة ونحن نقدر
الزمن فى الفضاء بسرعة الضوء لتعثر حسابه بالحساب الأرضى ، " ذَٰلِكَ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ
ٱلۡعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ " والله هو المدبر لهذه الأمور الذى هو شهيد على أعمال
عباده يرفع اليه جليلها وحقيرها وصغيرها وكبيرها ، هو العزيز الذى قد عز كل شىء
فقهره وغلبه ودانت له العباد والرقاب الرحيم بعباده المؤمنين فهو عزيز فى رحمته
رحيم فى عزته وهذا هو الكمال والعزة مع الرحمة والرحمة مع العزة فهو رحيم بلا ذل .
ٱلَّذِيٓ
أَحۡسَنَ كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقَهُۥۖ وَبَدَأَ خَلۡقَ ٱلۡإِنسَٰنِ مِن طِينٖ
٧ ثُمَّ جَعَلَ نَسۡلَهُۥ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن مَّآءٖ مَّهِينٖ ٨ ثُمَّ سَوَّىٰهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِۦۖ وَجَعَلَ لَكُمُ
ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفِۡٔدَةَۚ قَلِيلٗا
مَّا تَشۡكُرُونَ ٩
" ٱلَّذِيٓ
أَحۡسَنَ كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقَهُ" يقول الله تعالى مخبرا أنه الذى أحسن خلق
الأشياء وأتقنها وأحكمها ولوتدبرنا خلقه سبحانه وقدرته واعجازه فيما خلق لتاهت
العقول ولا يمكن ان يقارن بما خلق شىء فالكمال والاتقان لله وحده والانسان فى
صنعته للأشياء عنده نقائص كثيرة فى صنعته حتى فى حضارته التى تباهى بها نشأت عنها
من المشاكل والاضرار ، بالبيئة ما يمكن أن
يدمر الحياة على الأرض والله خلق التوازن البيئىء وهذا مثل لكمال خلق الله وهذه
الآية آية جامعة لكل خلق الله ، " وَبَدَأَ خَلۡقَ ٱلۡإِنسَٰنِ مِن طِين ثُمَّ
جَعَلَ نَسۡلَهُۥ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن مَّآءٖ مَّهِين " تتحدث الآية عن خلق الانسان فبدأ الله بخلق آدم أبا البشر من طين
وجعل ذريته يتناسلون من نطفة تخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة ، ثُمَّ سَوَّىٰهُ وَنَفَخَ فِيهِ
مِن رُّوحِهِۦ" يعنى أن الله عندما خلق آدم من تراب خلقه سويا مستقيما ونفخ
فيه من روحه وكذلك نفخ الروح فى الجنين فى بطن أمه فى الشهر الرابع من الحمل ،
" وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفِۡٔدَةَۚ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ " خلق
الله الانسان وجعل له حواسه من سمع وبصر وعقل لأن المقصود هنا بالأفئدة العقول
التى تدرك حيث لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور والانسان يسمع
ويبصر ثم يفهم ويعقل فى كل الأمور وهذه الحواس نعم تستوجب الشكر من الله ولكن من
يشكر الله هم القليل فالسعيد من استعمل هذه الحواس فى طاعة الله ربه عز وجل
ومعظمنا مقصر فى ذلك الا القليل الذى يوفى الله حقه فيما أمر ونهى .
وَقَالُوٓاْ
أَءِذَا ضَلَلۡنَا فِي ٱلۡأَرۡضِ أَءِنَّا لَفِي خَلۡقٖ
جَدِيدِۢۚ بَلۡ هُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمۡ كَٰفِرُونَ ١٠ ۞قُلۡ يَتَوَفَّىٰكُم
مَّلَكُ ٱلۡمَوۡتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمۡ تُرۡجَعُونَ ١١
" وَقَالُوٓاْ أَءِذَا ضَلَلۡنَا فِي ٱلۡأَرۡضِ أَءِنَّا لَفِي خَلۡقٖ جَدِيدِۢ" يقول الله تعالى عن المشركين فى استبعادهم المعاد فيقولون أاذا تمزقت أجسامنا وتفرقت فى أجزاء الأرض أئنا لنعود بعد تلك الحال فهم يستبعدون ذلك ، " بَلۡ هُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمۡ كَٰفِرُونَ " وهم يستبعدون البعث بعد الموت ولقاء الله والعودة اليه يوم القيامة هم يستبعدون ذلك وهذا بعيد بالنسبة الى قدراتهم العاجزة بالنسبة الى قدرة الله الذى بدأهم وخلقهم من العدم الذى انما أمره اذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، " قُلۡ يَتَوَفَّىٰكُم مَّلَكُ ٱلۡمَوۡتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمۡ " يرد الله عليهم بقوله أن ملك الموت الموكل من الله والذى يقبض الأرواح عند الموت هو الذى يقبض أرواحكم ولا تستطيعون رد الموت عنكم والظاهر من الآية أن ملك الموت ملك معين من الملائكة وقد سمى فى بعض الآثار بعزرائيل وهو المشهور وقال قتادة وغيره أن له أعوان وهكذاورد فى الحديث أن أعوانه ينتزعون الأرواح من سائر الجسد حتى اذا بلغت الحلقوم تناولها ملك الموت وعن جعفر بن محمد قال سمعت أبىيقول : نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار فقال له النبى صلى الله عليه وسلم " يا ملك الموت أرفق بصاحبى فانه مؤمن " فقال ملك الموت يا محمد طب نفسا وقر عينا فانى بكل مؤمن رفيق ، واعلم أن ما فى الأرض بيت مدر ولا شعر فى بر ولا بحر الا وأنا أتصفحهم فى كل يوم خمس مرات حتى أنى أعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم ،والله يا محمد لو أنى أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو الآمر بقبضها ، قال جعفر بلغنى أنه انما يتصفحهم عند مواقيت الصلاة فاذا حضرهم عند الموت فان كان ممن يحافظ على الصلاة دنا منه الملك ودفع عنه الشيطان ولقنه الملك لا اله الا الله محمد رسول الله فى تلك الحال العظيمة " ، " ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمۡ تُرۡجَعُونَ " يخبر الله تعالى أنهم يرجعون اليه ويبعثون يوم معادهم وقيامهم من قبورهم لجزائهم .
وَلَوۡ
تَرَىٰٓ إِذِ ٱلۡمُجۡرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ رَبَّنَآ
أَبۡصَرۡنَا وَسَمِعۡنَا فَٱرۡجِعۡنَا نَعۡمَلۡ صَٰلِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ١٢
وَلَوۡ شِئۡنَا لَأٓتَيۡنَا كُلَّ نَفۡسٍ هُدَىٰهَا وَلَٰكِنۡ حَقَّ ٱلۡقَوۡلُ
مِنِّي لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ ١٣
فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمۡ لِقَآءَ يَوۡمِكُمۡ هَٰذَآ إِنَّا نَسِينَٰكُمۡۖ
وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡخُلۡدِ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٤
" وَلَوۡ تَرَىٰٓ
إِذِ ٱلۡمُجۡرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ "يخبر الله
تعالى عن حال المشركين يوم القيامة وحالهم حين عاينوا البعث وقاموا بين يدى الله
عز وجل حقيرين ذليلين ناكسى رءوسهم أى من الحياء والخجل ، " رَبَّنَآ
أَبۡصَرۡنَا وَسَمِعۡنَا " يقول الكافرون لله تعالى نحن الآن نسمع قولك ونطيع
أمرك وكذلك يعودون على أنفسهم بالملامة اذا دخلوا النار بقولهم " لوكنا نسمع
أونعقل ما كنا فى أصحاب السعير " ، " فَٱرۡجِعۡنَا نَعۡمَلۡ صَٰلِحًا
إِنَّا مُوقِنُونَ " فارجعنا الى
الدنيا لنعمل الأعمال الصالحة فقد أيقنا وتحققنا أن وعدك حق ولقاءك حق وقد علم
الله أنه لو أعادهم الى دار الدنيا لكانوا كما كانوا فيها كفارا يكذبون بآيات الله
ويخالفون رسله كما قال تعالى " ولو ترى اذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا
نرد ولا نكذب بآيات ربنا " ، " وَلَوۡ
شِئۡنَا لَأٓتَيۡنَا كُلَّ نَفۡسٍ هُدَىٰهَا " لو شاء الله لاهدى من فى الأرض
جميعا كما قال تعالى " ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميع " ،
" وَلَٰكِنۡ حَقَّ ٱلۡقَوۡلُ مِنِّي لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ
وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ" يقول الله
تعالى لكن وعدى وقولى متحقق منجز أن تمتلىء جهنم من الصنفين من الجن والانس فدارهم
النار لا محيد لهم عنها ولا محيص لهم منها ، " فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمۡ لِقَآءَ يَوۡمِكُمۡ
هَٰذَآ " يقول الله لأهل النار على سبيل التقريع والتوبيخ ذوقوا هذا العذاب
بسبب تكذيبكم به واستبعادكم وقوعه وتناسيكم له اذا عاملتموه من هو ناس له ، "
إِنَّا نَسِينَٰكُمۡۖ "كما نسيت لقاء
ربكم سنعاملكم معاملة الناسى للقاء ربه لأنه تعالى لا ينسى شيئا ولا يضل عن شىء
" وما كان ربك نسيا " بل من باب المقابلة قال تعالى " فاليوم
ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا " ، " وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡخُلۡدِ
بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ " تذوقوا أصناف العذاب خالدين فيها أبدا ليس لكم
عنها مصرفا بسبب كفركم وتكذيبكم وأعمالكم الفاسدة .
إِنَّمَا
يُؤۡمِنُ بَِٔايَٰتِنَا ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ
بِهَا خَرُّواْۤ سُجَّدٗاۤ وَسَبَّحُواْ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَهُمۡ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ۩
١٥ تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ يَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفٗا
وَطَمَعٗا وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ١٦ فَلَا تَعۡلَمُ نَفۡسٞ
مَّآ أُخۡفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡيُنٖ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١٧
" إِنَّمَا
يُؤۡمِنُ بَِٔايَٰتِنَا " يقول الله تعالى أن من
يصدق بآيات الله ويتحقق فيهم الايمان ، " ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا
خَرُّواْۤ سُجَّدٗاۤ " الذين اذا استمعوا لآيات الله أطاعوها قولا وعملا مذعنين
خاضعين ساجدين لله ،"وَسَبَّحُواْ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَهُمۡ لَا
يَسۡتَكۡبِرُونَ" وهم يسبحون الله وينزهونه عما لايليق به من قول وعمل ولا
يستكبرون عن اتباع آيات الله والانقياد لها كما يفعل الكفرة الفجرة كما قال تعالى
" ان الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين " ، "
تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ " يعنى بذلك قيام الليل وترك
النوم والاضطجاع على الفرش الوطيئة وعن قتادة وغيره قال الصلاة بين العشاءين وعن
أنس أيضا هو انتظار صلاة العتمة وقال الضحاك هو صلاة العشاء فى جماعة وصلاة الغداة
فى جماعة ، " يَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا " من صفاتهم أن يتوجهون الى الله يدعونه خوفا من وبال عقابه
وطمعا فى جزيل ثوابه ،" وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ " يؤدون حق
الله فى أموالهم من زكاة وصدقات فيجمعون بين اداء حق الله وحق العباد وعن معاذ بن
جبل رضى الله عنه قال كنت مع النبى صلى الله عليه وسلم فى سفر فأصبحت يوما قريبا
منه ونحن نسير فقلت يا نبى الله أخبرنى بعمل يدخلنى الجنة ويباعدنى من النار قال
" لقد سألت عن عظيم وانه ليسير على من يسره الله عليه ، تعبد الله ولا تشرك
به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتى الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت ثم قال ألا
أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة ، والصدقة تكفىء الخطيئة ، وصلاة الرجل فى جوف
الليل ثم قرأ " ١٥ تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ يَدۡعُونَ
رَبَّهُمۡ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ١٦ فَلَا تَعۡلَمُ نَفۡسٞ مَّآ أُخۡفِيَ لَهُم مِّن
قُرَّةِ أَعۡيُنٖ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ " ثم قال : ألا أخبرك
برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ قلت : بلى يا رسول الله " فقال : رأس الأمر
الاسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد فى سبيل الله قم قال : ألا أخبرك بملاك
ذلك كله ؟ فقلت : بلى يانبى الله فأخذه بلسانه ثم قال كف عليك هذا فقلت : يا رسول
الله وانا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس فى
النار على وجوههم - أو قال على مناخرهم - الا حصائد ألسنتهم ؟ " ، " فَلَا
تَعۡلَمُ نَفۡسٞ مَّآ أُخۡفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡيُنٖ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ
يَعۡمَلُونَ " فلا يعلم أحد عظمة ما أخفى الله لهم من الجنات من النعيم
المقيم والملذات التى لم يطلع على مثلها أحد لما أخفوا أعمالهم كذلك أخفى الله لهم
من الثواب جزاءا وفاقا فان الجزاء منجنس العمل وقال الحسن البصرى أخفى قوم عملهم
فأخفى الله لهم ما لم تر عين ولم يخطر على قلب بشر ، وعن أبى هريرة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم " ان الله تعالى قال أعددت لعبادى الصالحين ما لاعين رأت
ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " .
أَفَمَن
كَانَ مُؤۡمِنٗا كَمَن كَانَ فَاسِقٗاۚ لَّا يَسۡتَوُۥنَ ١٨ أَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ
ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ جَنَّٰتُ ٱلۡمَأۡوَىٰ نُزُلَۢا بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ
١٩ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُۖ كُلَّمَآ أَرَادُوٓاْ
أَن يَخۡرُجُواْ مِنۡهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمۡ ذُوقُواْ عَذَابَ
ٱلنَّارِ ٱلَّذِي كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَ ٢٠ وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ
ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَدۡنَىٰ دُونَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَكۡبَرِ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ ٢١
وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِۦ ثُمَّ أَعۡرَضَ عَنۡهَآۚ
إِنَّا مِنَ ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُنتَقِمُونَ ٢٢
" أَفَمَن كَانَ
مُؤۡمِنٗا كَمَن كَانَ فَاسِقٗاۚ لَّا يَسۡتَوُۥنَ " يخبر الله تعالى عن عدله وكرمه أنه لا
يساوى فى حكمه يوم القيامة من كان مؤمنا بآياته متبعا لرسله بمن كان فاسقا أى
خارجا عن طاعة الله مكذبا لرسل الله اليه كما قال تعالى " أم حسب الذين
اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء
ما يحكمون " وكما قال تعالى" أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات
كالمفسدين فى الأرض أم نجعل المتقين كالفجار " ، "
أَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ جَنَّٰتُ
ٱلۡمَأۡوَىٰ نُزُلَۢا بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ " الذين صدقت قلوبهم بآيات
الله وعملوا بمقتضاها الصالحات أى الأعمال الصالحة جزاءهم الجنات التى فيها مأواهم
ومستقرهم من مساكن ودور وغرف عالية ضيافة وكرما من عند الله جزاء أعمالهم ، "
وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُ" والذين خرجوا عن طاعة
الله فمأواهم ومستقرهم النار ،"كُلَّمَآ أَرَادُوٓاْ أَن يَخۡرُجُواْ
مِنۡهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا " كلما أرادوا أن يخرجوا منها من شدة العذاب
أعيدوا فيها فليس لهم فرار وقال الفضيل بن عياض والله ان الأيدى لموثقة وان الأرجل
لمقيدة وان اللهب ليرفعهم والملائكة تقمعهم
، " وَقِيلَ لَهُمۡ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّذِي كُنتُم بِهِۦ
تُكَذِّبُونَ " يقال لهم توبيخا وتقريعا ذوقوا وتجرعوا عذاب النار الذى كذبتم
به فى الحياة الدنيا وأنكرتوه ، " وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ ٱلۡعَذَابِ
ٱلۡأَدۡنَىٰ دُونَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَكۡبَرِ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ " قال ابن
عباس يعنى بالعذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وآفاتها وما يحل بأهلها مما يبتلى
الله به عباده ليتوبوا اليه قبل يوم القيامة والعذاب الأكبر ودون يعنى بعيدا عنه
أو قبل حلوله وهو عذاب يوم القيامة الذى لا توبة فيه ولا رجوع بعده فقد حسم الأمر
وجاء يوم الحساب ولا تنفع التوبة ،"وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِۦ ثُمَّ أَعۡرَضَ عَنۡهَآۚ "
لا أظلم ممن ذكره الله بآياته وبينها له ووضحها ثم بعد ذلك تركها وجحدها وأعرض
عنها وتناساها كأنه لا يعرفها وقال قتادة اياكم والاعراض عن ذكر الله فان من أعرض
عن ذكره فقد اغتر أكبر الغرة وأعوز أشد العوز وعظم من أعظم الذنوب ، " إِنَّا
مِنَ ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُنتَقِمُونَ " يتوعد الله من يعرض عن ذكره بالانتقام
منه أشد الانتقام وعن معاذ بن جبل قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
" ثلاث من فعلهن فقد أجرم ، من عقد لواء فى غير حق أو عق والديه أو مشى مع
ظالم ينصره فقد أجرم يقول الله تعالى " إِنَّا مِنَ
ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُنتَقِمُونَ " وهذا حديث غريب جدا .
وَلَقَدۡ
ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ فَلَا تَكُن فِي مِرۡيَةٖ
مِّن لِّقَآئِهِۦۖ وَجَعَلۡنَٰهُ هُدٗى لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٢٣ وَجَعَلۡنَا مِنۡهُمۡ أَئِمَّةٗ
يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا لَمَّا صَبَرُواْۖ وَكَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ ٢٤ إِنَّ رَبَّكَ
هُوَ يَفۡصِلُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ
يَخۡتَلِفُونَ ٢٥
" وَلَقَدۡ
ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ فَلَا تَكُن فِي مِرۡيَةٖ مِّن لِّقَآئِهِ " يقول
الله تعالى مخبرا عن عبده ورسوله موسى عليه السلام أنه آتاه الكتاب وهو التوراة قال
ابن عباس أن الله يخاطب موسى عليه السلام أنه لا يكن عنده شك فى لقاء ربه عز وجل ،
" وَجَعَلۡنَٰهُ هُدٗى لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ "
جعل الله فى الكتاب الذى آتاه موسى عليه السلام
وهوالتوراة هداية لبنى اسرائيل كما قال تعالى فى سورة الاسراء "
وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبنى اسرائيل أن لا تتخذوا من دونى وكيلا " ،
" وَجَعَلۡنَا مِنۡهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا لَمَّا صَبَرُواْۖ وَكَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ " يخبر الله عن
بنى اسرائيل لما كانوا صابرين على أوامر الله وترك زواجره وتصديق رسله وأتباعه
فيما جاءوهم به كان منهم أئمة يهدون الى الحق بأمر الله ويدعون الى الخير ويأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر ثم لما بدلوا وحرفوا وأولوا سلبوا ذلك المقام وصارت
قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه فلا عمل صحيح ولا اعتقاد صحيح كما قال تعالى
" ولقد آتينا بنى اسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات
وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر " ، " إِنَّ رَبَّكَ
هُوَ يَفۡصِلُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ
يَخۡتَلِفُونَ " الله يوم القيامة له الحكم بينهم أى بين بنى اسرائيل يوم
القيامة فيما كانوا يختلفون فيه من
الاعتقادات والأعمال فيجازى كل بعمله فهو مطلع على الأعمال عليم خبير بأفعال
العباد .
أَوَ
لَمۡ يَهۡدِ لَهُمۡ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّنَ ٱلۡقُرُونِ يَمۡشُونَ
فِي مَسَٰكِنِهِمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٍۚ أَفَلَا يَسۡمَعُونَ ٢٦
" أَوَ لَمۡ
يَهۡدِ لَهُمۡ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّنَ ٱلۡقُرُونِ " يقول الله
تعالى عن المشركين الكافرين ألم يهتدوا ويتبينوا ما حل بمن قبلهم من المكذبين
بالرسل وما أهلك الله قبلهم من الأمم الماضية جزاء تكذيبهم الرسل ومخالفتهم اياهم
فيما جاءوهم به من قويم السبل فلم يبق منهم من باقية ولا عين ولا أثر ، "
يَمۡشُونَ فِي مَسَٰكِنِهِمۡۚ" هؤلاء المكذبون يمشون فى مساكن المكذبين قبلهم
ويرون بأعينهم ما حل بها فلا يرون فيها أحدا ممن كان يسكنها ويعمرها ذهبوا منها
كما قال تعالى " فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا وكما قال تعالى " هل تحس
منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا " وكما قال " فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا
" ، " إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٍۚ " ان فى ذهاب أولئك القوم
ودمارهم وما حل بهم بسبب تكذيبهم الرسل ونجاة الرسل ومن اتبعهم لآيات وعبرا ومواعظ
ودلائل ، " أَفَلَا يَسۡمَعُونَ "أفلا يسمع هؤلاء المشركون أخبار من
تقدم كيف كان أمرهم ويتعظون بها .
أَوَ
لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا نَسُوقُ ٱلۡمَآءَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡجُرُزِ فَنُخۡرِجُ
بِهِۦ زَرۡعٗا تَأۡكُلُ مِنۡهُ أَنۡعَٰمُهُمۡ وَأَنفُسُهُمۡۚ أَفَلَا
يُبۡصِرُونَ ٢٧ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا ٱلۡفَتۡحُ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٢٨
قُلۡ يَوۡمَ ٱلۡفَتۡحِ لَا يَنفَعُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِيمَٰنُهُمۡ وَلَا هُمۡ
يُنظَرُونَ ٢٩ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَٱنتَظِرۡ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ ٣٠
" أَوَ لَمۡ
يَرَوۡاْ أَنَّا نَسُوقُ ٱلۡمَآءَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡجُرُزِ " يقول الله
تعالى مبينا لطفه بخلقه واحسانه اليهم ومنبها من يشرك به وينكر قدرته ألم يتبين
هؤلاء ويتظح لهم قدرتنا فى ارسال الماء من السماء من مطر ومن ماء الأنهار والعيون
وغيرها الى الأرضى الجرداء التى لا نبات فيها كما قال تعالى " وانا لجاعلون
ما عليها صعيدا جرزا " أى يبسا لا
تنبت شيئا المحتاجة الى الماء يرسله اليها
فى أوقاته ، " فَنُخۡرِجُ بِهِۦ زَرۡعٗا تَأۡكُلُ مِنۡهُ أَنۡعَٰمُهُمۡ وَأَنفُسُهُمۡۚ " ترتوى
الأرض التى لا نبات فيها فيخرج منه الزروع والثمار فيأكل منه البشر والأنعام من
بقر وغنم وغيرها ، " أَفَلَا يُبۡصِرُونَ " أفلا يرى هؤلاء المكذبون
ويبصرون ويتبصرون آيات الله فتؤمن قلوبهم ، " وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا ٱلۡفَتۡحُ إِن
كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ " يقول الله تعالى مخبرا عن استعجال الكفار وقوع العذاب
وبأس الله بهم وحلول غضبه ونقمته استبعادا وتكذيبا وعنادا متى ينصر الله عليهم
محمد صلى الله عليه وسلم كما يزعم أن له وقتا يدال فيه عليهم وينتقم الله فيه منهم
فمتى يكون هذا ما يروه هو وأصحابه الا مختفين خائفين ذليلين ، " قُلۡ يَوۡمَ ٱلۡفَتۡحِ " يرد الله عليهم
ويبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم أنه اذا حل بهم بأس الله وسخطه وغضبه فى الدنيا
والآخرة ، " لَا يَنفَعُ ٱلَّذِينَ
كَفَرُوٓاْ إِيمَٰنُهُمۡ وَلَا هُمۡ يُنظَرُونَ " هنا لاينفع الكافرين بعد أن
يتحقق وعد الله فيهم ووقوع أمره بهم أن يرجعوا عما هم فيه ويؤمنوا ولا هم يمهلون
حتى يعودوا الى الحق أو يبتعد عنهم بأس
الله ، " فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَٱنتَظِرۡ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ " يبلغ
الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعرض عن هؤلاء المشركين ويبلغ ما أرسل اليه من
ربه وأن ينتظر فسوف ينجز الله وعده بنصره له وهو منتظر وهم كذلك منتظرون وسيرى
عاقبة صبره عليهم وعلى أداء رسالة الله فى نصرته وتأييده وسيجد هؤلاء نحب ما
ينتظرونه فيه وفى أصحابه من وبيل عقاب الله لهم وحلول عذابه بهم .
الجزء الحادى والعشرين
تفسير سورة الأحزاب
سورة الأحزاب سورة مدنية آياتها 73
آية ةتتميز بما تميزت له الآيات المدبية من طول للآيات وبها آيات للتشريع وتتحد ث
عن غزوة الأحزاب وما وقع فيها وتوردمن أخبار المنافقين .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ
ٱللَّهَ وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ
عَلِيمًا حَكِيمٗا ١ وَٱتَّبِعۡ
مَا يُوحَىٰٓ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ
خَبِيرٗا ٢ وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ
وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلٗا ٣
" يَٰٓأَيُّهَا
ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ " هذا تنبيه من الله بالأعلى على الأدنى فالله
تعالى اذا كان يأمر عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم بالتقوى فلأن يأتمر من دونه
بذلك بطريق الأولى والأحرى وقد قال طلق بن حبيب : التقوى أن تعمل بطاعة الله على
نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله مخافة عذاب الله ،
" وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ
وَٱلۡمُنَٰفِقِينَۚ " ينهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين من بعده
كذلك أن لايسمع من الكافرين والمنافقين ولا يستشرهم ، " إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا " فالله أحق أن تتبع أوامره
وتطيعه فانه عليم بعواقب الأمور حكيم فى أقواله وأفعاله ولهذا قال " وَٱتَّبِعۡ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۚ
" يأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتبع ما أنزله اليه وأوحاه له
من قرآن وسنة ، " إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا " فالله خبير فلا تخفى عليه
خافية من أعمالكم ، " وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ "ويأمر الله تعالى
رسول صلى الله عليه وسلم كذلك بالتوكل عليه فى جميع أموره وأحواله ،"وَكَفَىٰ
بِٱللَّهِ وَكِيلٗا " وكفى بالله وكيلا لمن توكل عليه وأناب اليه .
مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ
وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ
وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم
بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ ٤ ٱدۡعُوهُمۡ
لِأٓبَآئِهِمۡ هُوَ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِۚ فَإِن لَّمۡ تَعۡلَمُوٓاْ
ءَابَآءَهُمۡ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمۡۚ وَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ
جُنَاحٞ فِيمَآ أَخۡطَأۡتُم بِهِۦ
وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتۡ قُلُوبُكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا ٥
" مَّا جَعَلَ
ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦ" يقول الله تعالى موطئا أمرا
معروفا حسيا قبل المقصود المعنوى وهو أنه كما لايكون للشخص الواحد قلبان فى جوفه
وقال الامام أحمد حدثنا حسن حدثنا زهير عن قابوس يعنى ابن أبى ظبيان قال ان أباه
حدثه قال قلت لأبن عباس أرأيت قول الله تعالى "" مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ
لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦ"
ما عنى بذلك ؟ قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يصلى فخطر خطرة فقال
المنافقون الذين يصلون معه ألا ترون له قلبين قلبا معكم وقلبا معهم فأنزل الله ذلك
،
"وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ
أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ " لا تصير زوجته التى يظاهر منها بقوله أنت على
كظهر أمى أما له وكذلك لا يصير الدعى ولدا للرجل اذا تبناه فدعاه ابنا له وهذا
كقوله تعالى " ما هن أمهاتهم ان أمهاتهم الا اللآتى ولدنهم " وقوله
تعالى " وما جعل أدعياءكم أبناءكم " هذا هو المقصود بالنفى فان الآية
نزلت فى شأن زيد بن حارثة رضى الله عنه مولى النبى صلى الله عليه وسلم ، وكان
النبى صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة فكان يقال له زيد بن محمد فأراد
الله تعالى أن يقطع هذا الالحاق وهذه النسبة بقوله " وما جعل أدعياءكم
أبناءكم " كما قال تعالى " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول
الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شىء عليما " ، " ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ "
يعنى تبنيكم لهم قول لا يقتضى أن يكون ابنا حقيقيا فانه مخلوق من صلب رجل آخر فما
يمكن أن يكون له أبوان كما لايمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان ، "وَٱللَّهُ يَقُولُ
ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ " قال سعيد بن جبير أن الله يقول العدل
وقال قتادة هو الذى يهدى ويرشد الى الصراط المستقيم ، " ٱدۡعُوهُمۡ
لِأٓبَآئِهِمۡ هُوَ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِۚ" هذا أمر ناسخ لما كان فى
ابتداء الاسلام من جواز ادعاء الأبناء الأجانب وهم الأدعياء فأمر تبارك وتعالى برد
نسبهم الى آبائهم فى الحقيقة وأن هذا هو العدل والقسط والبر وعن عبد الله بن عمر
قال ان زيد بن حارثة رضى الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه
الا زيد بن محمد حتى نزل القرآن " ٱدۡعُوهُمۡ لِأٓبَآئِهِمۡ هُوَ أَقۡسَطُ
عِندَ ٱللَّهِۚ" وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه فى الخلوة بالمحارم وغير ذلك ، وعن سهلة بنت سهيل امرأة
حذيفة رضى الله عنهما قالت : يا رسول الله انا كنا ندعو سالما ابنا ، وان الله قد
أنزل ما أنزل وانه كان يدخل على وانى لأجد فى نفس أبى حذيفة من ذلك شيئا ، فقال
صلى الله عليه وسلم " أرضعيه تحرمى عليه " ، ولهذا لما نسخ هذا الحكم أباح الله تبارك وتعالى زوجة
الدعى ، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش مطلقة زيد بن حارثة رضى
الله عنه وقال تعالى فى آية التحريم " وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم
" احترازا عن زوجة الدعى فانه ليس من الصلب فأما الابن من الرضاعة فمنزل
منزلة ابن الصلب شرعا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم "يحرم من الرضاعة ما
يحرم من النسب " ، " فَإِن لَّمۡ تَعۡلَمُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ
فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمۡۚ " أمر الله تعالى برد أنساب
الأدعياء الى آبائهم ان عرفوا فان لم يعرفوا فهم اخوانهم فى الدين ومواليهم أى
عوضا عما فاتهم من النسب وقد جاء فى الحديث "من ادعى الى غير أبيه وهو يعلم
الا كفر " وهذا تشديد وتهديد ووعيد أكيد فى التبرى من النسب المعلوم ، "
وَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٞ فِيمَآ أَخۡطَأۡتُم بِهِ"
اذا نسبتم بعضهم الى غير أبيه فى الحقيقة خطأ بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع فان
الله تعالى قد وضع الحرج فى الخطأ ورفع اثمه كما أرشد اليه فى قوله تبارك وتعالى
آمرا عباده أن يقولوا " ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطأنا " وفى صحيح
البخارى عن عمرو بن العاص رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" اذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وان اجتهد فأخطأ فله أجر " وفى
حديث آخر " ان الله تعالى رفع عن أمتى الخطأ والنسيان والأمر الذى يكرهون
عليه " ،" وَلَٰكِن مَّا
تَعَمَّدَتۡ قُلُوبُكُمۡۚ " الاثم على من تعمد الباطل وهو يعلم ذلك ، وفى الحديث " ثلاث فى الناس كفر : الطعن
فى النسب ، والنياحة على الميت ، والاستسقاء بالنجوم " ، " وَكَانَ
ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا " الله يغفر لعباده اذا تابوا ورجعوا اليه ورحيم
بهم اذ يقبل منهم توبهم .
ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ
بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمۡۗ وَأُوْلُواْ
ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ
إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ
مَسۡطُورٗا ٦
" ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡ" قد علم الله تعالى شفقة رسوله صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحه لهم فجعله أولى بهم من أنفسهم وحكمه فيهم كان مقدما على اختيارهم لأنفسهم كما قال تعالى"فلا وربك لا يؤمنزن حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " وفى الحديث الصحيح " والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين " وفى الصحيح أيضا أن عمر رضى الله عنه قال : يارسول الله والله لأنت أحب الى من كل شىء الا من نفسى " فقال صلى الله عليه وسلم " لا يا عمر حتى أكون أحب اليك من نفسك " فقال : يارسول الله :والله لأنت أحب الى من كل شىء حتى من نفسى " فقال صلى الله عليه وسلم "الآن يا عمر" وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال " ما من مؤمن الا وأنا أولى الناس به فى الدنيا والآخرة " اقرءوا ان شئتم " ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡ"، " وَأَزۡوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمۡ" زوجات النبى صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين فى الحرمة والاحترام والاكرام والاعظام فهم بمثابة الأمهات لهم ولكن لا تجوز الخلوة بهن ولا ينتشر التحريم الى بناتهن وأخواتهن بالاجماع ، " وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ " القربات أولى بالتوريث من المهاجرين والانصار وهذه ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة التى كانت بينهم كما قال ابن عباس وغيره : كان المهاجرى يرث الانصارى دون قرابته وذوى رحمه للاخوة التى آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الزبير بن العوام رضى الله عنه قال أنزل الله فينا خاصة معشر قريش والانصار " وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡض" وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا فوجدنا الأنصار نعم الاخوان فواخيناهم واورثناهم فآخى أبو بكر رضى الله عنه خارجة بن زيد ، وآخى عمر رضى الله عنه فلانا ، وآخى عثمان رضى الله عنه رجلا من بنى زريق بن سعد الزرقى ، وقال الزبير رضى الله عنه وواخيت أنا كعب بن مالك فوالله يا بنى لو مات يومئذ عن الدنيا ما ورثه غيرى حتى أنزل الله تعالى هذه الآية فينا معشر قريش والانصار خاصة فرجعنا الى مواريثنا " ، " اِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗا" ذهب الميراث حيث كان لأولى القربى والارحام وبقى ما بين المؤمنين البر والصلة والاحسان والنصرأى علاقة المعاملة بالمعروف فيما بينهم والمؤمنين بعضهم أولياء بعض ، " كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا"هذا الحكم وهو أن أولى الأرحام بعضهم أولى ببعض حكم من الله مقدر مكتوب فى الكتاب الأول الذى لا يبدل ولا يتغير .
وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّۧنَ مِيثَٰقَهُمۡ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٖ وَإِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ
وَعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَۖ وَأَخَذۡنَا مِنۡهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا ٧ لِّيَسَۡٔلَ ٱلصَّٰدِقِينَ عَن صِدۡقِهِمۡۚ وَأَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ
عَذَابًا أَلِيمٗا ٨
" وَإِذۡ
أَخَذۡنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّۧنَ مِيثَٰقَهُمۡ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٖ وَإِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ
وَعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَۖ وَأَخَذۡنَا مِنۡهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا " قيل أن المراد بهذا
الميثاق الذى أخذ منهم حين أخرجوا فى صورة الذر من صلب آدم عليه السلام وقال ابن
عباس الميثاق الغليظ العهد فيقول الله تعالى مخبرا عن أولى العزم من الرسل الخمسة
وبقية الأنبياء أنه أخذ عليهم العهد والميثاق فى اقامة دين الله تعالى وابلاغ رسالته
والتعاون والتناصر والاتفاق وبدأ فى هذه
الآية بالخاتم لشرفه صلوات الله وسلامه عليه ثم رتبهم بحسب وجودهم صلوات الله
عليهم نوح ثم ابراهيم ثم موسى ثم عيسى ابن مريم
كما قال تعالى " واذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة
ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أقررتم وأخذتم على ذلكم اصرى
قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين " فهذا العهد والميثاق أخذ
منهم بعد ارسالهم وكذلك هذا ونص من بينهم على هؤلاء الخمسة وهم أولو العزم من
الرسل وهو من باب عطف الخاص على العام وكذلك كما ورد فى آية أخرى" شرع لكم من
الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن
أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " وقال النبى صلى الله عليه وسلم "كنت أول
النبيين فى الخلق وآخرهم فى البعث فبدأ بى قبلهم " وفيه ضعف ،" لِّيَسَۡٔلَ ٱلصَّٰدِقِينَ عَن صِدۡقِهِمۡۚ "
قال مجاهد الصادقين هم المبلغون المؤدون عن الرسل يجازى الله الصادقين على صدقهم
أحسن الجزاء ، " وَأَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ " أعد للكافرين
من أمم هؤلاء الرسل ، " عَذَابًا أَلِيمٗا " عذابا موجعا يوم القيامة فما جاءت به الرسل هو الحق ومن
خالفهم فهو على الضلال كما يقول أهل الجنة " لقد جاءت رسل ربنا بالحق "
.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ
ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَآءَتۡكُمۡ جُنُودٞ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا وَجُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَاۚ وَكَانَ
ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا ٩ إِذۡ جَآءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ
أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ
وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠ ١٠
يقول
الله تعالى مخبرا عن نعمته وفضله واحسانه الى عباده المؤمنين فى صرفه أعداءهم
وهزمه اياهم عام تآلبوا عليهم وتحزبوا وذلك عام الخندق فى شوال فى سنة خمس من
الهجرة على الصحيح المشهور وكان سبب قدوم الأحزاب أن نفرا من أشراف يهود بنى
النضير الذين كانوا قد أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة الى خيبر
منهم سلام بن أبى الحقيق وسلام بن مشكم وكنانة بن الربيع خرجوا الى مكة فاجتمعوا
بأشراف قريش وألبوهم على حرب النبى صلى الله عليه وسلم ووعدوهم من أنفسهم النصر
والاعانة فأجابوهم الى ذلك ثم خرجوا الى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم أيضا ، وخرجت
قريش فى أحابيشها ومن تابعها وقائدهم أبو سفيان صخر بن حرب ، وعلى غطفان عيينة بن
حصن بن بدر والجميع قريب من عشرة آلاف فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
بمسيرهم أمر المسلمين بحفر الخندق حول المدينة مما يلى الشرق وذلك باشارة سلمان
الفارسى رضى الله عنه فعمل المسلمون فيه واجتهدوا ونقل معهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم التراب وحفر وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين وهم
نحو من ثلاثة آلاف وقيل سبعمائة فأسندوا ظهورهم الى سلع ووجوههم نحو العدو والخندق
حفير وليس فيه ماء بينهم وبينهم يحجب الخيالة والرجالة أن تصل اليهم وجعل النساء
والذرارى فى آطام المدينة وكان بنو قريظة وهم طائفة من اليهود لهم حصن شرق المدينة
ولهم عهد من النبى صلى الله عليه وسلم وذمة وهم قريب من ثمانمائة مقاتل فذهب اليهم
حيى بن أخطب النضرى فلم يزل بهم حتى نقضوا العهد ومالئوا الأحزاب على رسول الله
صلى الله عليه وسلم فعظم الخطب واشتد الأمر وضاق الحال "هُنَالِكَ ٱبۡتُلِيَ
ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَزُلۡزِلُواْ زِلۡزَالٗا شَدِيدٗا " ومكثوا
محاصرين للنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه قريبا من شهر الا أنهم لا يصلون اليهم
ولم يقع بينهم قتال الا أن عمرو بن عبد ود العامرى وكان من الفرسان الشجعان
المشهورين فى الجاهلية ركب ومعه فوارس فاقتحموا الخندق وخلصوا الى ناحية المسلمين
فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيل المسلمين اليه فيقال انه لم يبرز اليه أحد
فأمر عليا رضى الله عنه فخرج اليه فتجاولا ساعة ثم قتله على رضى الله عنه فكان
علامة على النصر ثم أرسل الله عز وجل على الأحزاب ريحا شديدة الهبوب قوية حتى لم
يبق لهم خيمة ولا شىء ولا توقد لهم نار ولا يقر لهم قرار حتى ارتحلوا خائبين
خاسرين كما قال تعالى" يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ
ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ" يخاطب الله تعالى المؤمنين ويسألهم أن يذكروا نعمته
عليهم بالنصر على أعدائهم ، " إِذۡ
جَآءَتۡكُمۡ جُنُودٞ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا وَجُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَاۚ " ذكر الله نصره للمؤمنين بارسال جنوده من
الملائكة المسيرة زلزلت الكفار وألقت فى قلوبهم الرعب والخوف والريح التى اقتلعت الكفار وهى من جند الله
كذلك ، "وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا " والله وحده هو
المبصر المطلع على أعمالكم وهو المتصرف فى كل الأمور " إِذۡ جَآءُوكُم مِّن
فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ " جاء المشركون فنزلوا شرق المدينة قريبا
من أحد ونزلت طائفة منهم فى أعالى المدينة ومن نزلوا أسفل المؤمنين هم بنو قريظة ،
" وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ
بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠ " من شدة الخوف والفزع وظن المؤمنون كل الظن ونجم النفاق حتى قال معتب
بن قشير أخو بنى عمرو بن عوف كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا
يقدر على أن يذهب الى الغائط وقال الحسن فى قوله " وتظنون بالله الظنونا
" ظنون مختلفة ظن المنافقون أن محمدا وأصحابه يستأصلون وأيقن المؤمنون أن ما
وعد الله به ورسوله حق وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون وعن أبى سعيد
رضى الله عنه قال : قلنا يوم الخندق يا رسول الله هل من شىء نقول فقد بلغت القلوب
الحناجر ؟ قال صلى الله عليه وسلم : نعم قولوا اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا
" قال فضرب وجوه أعدائه بالريح فهزمهم الريح " .
هُنَالِكَ ٱبۡتُلِيَ
ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَزُلۡزِلُواْ زِلۡزَالٗا شَدِيدٗا ١١ وَإِذۡ
يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ
وَرَسُولُهُۥٓ إِلَّا غُرُورٗا ١٢ وَإِذۡ قَالَت طَّآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ يَٰٓأَهۡلَ يَثۡرِبَ
لَا مُقَامَ لَكُمۡ فَٱرۡجِعُواْۚ وَيَسۡتَٔۡذِنُ فَرِيقٞ مِّنۡهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوۡرَةٞ وَمَا هِيَ بِعَوۡرَةٍۖ إِن يُرِيدُونَ
إِلَّا فِرَارٗا ١٣
"هُنَالِكَ ٱبۡتُلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَزُلۡزِلُواْ زِلۡزَالٗا شَدِيدٗا " يقول الله مخبرا عن ذلك
الحال حين نزلت الأحزاب حول المدينة والمسلمون محصورون فى غاية الجهد والضيق ورسول
الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم أنهم ابتلوا واختبروا وزلزلوا زلزالا شديدا ،
" وَإِذۡ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ
وَرَسُولُهُۥٓ إِلَّا غُرُورٗا " حينئذ
ظهر النفاق وتكلم الذين فى قلوبهم مرض بما فى أنفسهم والمنافق نجم نفاقه والذى فى
قلبه شبهة أو حسكة لضعف حاله فتنفس بما يجده من الوسواس فى نفسه لضعف ايمانه وشدة
ماهو فيه من ضيق الحال يشكك فى أن النصر
قادم كما وعد الله ورسوله وأن الحق سينتصر ولكنه يعتبر أن ذلك تغرير بهم لما هم
فيه وكان هذا ابتلاء من الله عظيم ، " وَإِذۡ قَالَت طَّآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ يَٰٓأَهۡلَ يَثۡرِبَ
لَا مُقَامَ لَكُمۡ فَٱرۡجِعُواْۚ وَيَسۡتَٔۡذِنُ فَرِيقٞ مِّنۡهُمُ
ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوۡرَة " يثرب هى المدينة روى عن
بعضهم أنه قال أن لها فى التوراة أحد عشر اسما : المدينة وطابة وطيبة والمسكينة
والجبابرة والمحبة والمحبوبة والقاصمة والمجبورة والعذراء والمرحومة قال ابن عباس الطائفة هم بنوحارثة ، " " قالوا " لا مقام لكم " أى ليس لكم أن تظلوا ههنا أى عند
النبى صلى الله عليه وسلم فى مقام المرابطة فارجعوا الى بيوتكم ومنازلكم وقالوا
بيوتنا عورة أى بيوتنا نخاف عليها السراق
وذكر ابن اسحاق أن القائل لذلك هو أوس بن قيظى يعنى اعتذروا فى الرجوع الى منازلهم
بأنها عورة أى ليس دونها ما يحجبها من العدو مكشوفة أمامه فهم يخشون عليها منه
،" وَمَا هِيَ بِعَوۡرَةٍۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارٗا " وبيوتهم ليست كما يزعمون
وانما هم يريدون الهرب والتولى من الزحف ومواجهة الأعداء .
وَلَوۡ دُخِلَتۡ عَلَيۡهِم مِّنۡ
أَقۡطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلۡفِتۡنَةَ لَأٓتَوۡهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ
إِلَّا يَسِيرٗا ١٤ وَلَقَدۡ
كَانُواْ عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبۡلُ لَا يُوَلُّونَ ٱلۡأَدۡبَٰرَۚ وَكَانَ
عَهۡدُ ٱللَّهِ مَسُۡٔولٗا ١٥ قُل لَّن يَنفَعَكُمُ
ٱلۡفِرَارُ إِن فَرَرۡتُم مِّنَ ٱلۡمَوۡتِ أَوِ ٱلۡقَتۡلِ وَإِذٗا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا
قَلِيلٗا ١٦ قُلۡ مَن ذَا ٱلَّذِي
يَعۡصِمُكُم مِّنَ ٱللَّهِ إِنۡ أَرَادَ بِكُمۡ سُوٓءًا أَوۡ أَرَادَ بِكُمۡ
رَحۡمَةٗۚ وَلَا
يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا ١٧
" وَلَوۡ دُخِلَتۡ
عَلَيۡهِم مِّنۡ أَقۡطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلۡفِتۡنَةَ لَأٓتَوۡهَا وَمَا
تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلَّا يَسِيرٗا " يخبر الله تعالى عن هؤلاء الذين يقولن ان بيوتنا ليس دونها
ما يحجبها من العدو فهم يخشون عليها ليست كما يزعمون فانهم لو دخل عليهم الأعداء
من كل جانب من جوانب المدينة وقطر من أقطارها ثم سئلوا الفتنة وهى الدخول فى الكفر
لكفروا سريعا ، " وَلَقَدۡ كَانُواْ عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبۡلُ لَا
يُوَلُّونَ ٱلۡأَدۡبَٰرَۚ " وهم لا يحافظون على الايمان ولا يستمسكون به مع
أدنى خوف وفزع ويذكرهم الله بما كانوا عاهدوا الله من قبل هذا الخوف ألا يولوا
الأدبار ولا يفرون من الزحف ، " وَكَانَ عَهۡدُ ٱللَّهِ مَسُۡٔولٗا " والله تعالى
سيسألهم عن ذلك العهد لابد من ذلك العهد والالتزام به وتنفيذه فالمسؤولية عنه أمام
الله ، " قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلۡفِرَارُ إِن فَرَرۡتُم مِّنَ ٱلۡمَوۡتِ
أَوِ ٱلۡقَتۡلِ وَإِذٗا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلٗا " فرارهم ذلك لا يؤخر آجالهم ولا يطول أعمارهم بل ربما كان
ذلك سببا فى تعجيل أخذهم غرة ولهذا قال تعالى وَإِذٗا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلٗا" أى بعد هربكم وفراركم لن
تدوم لكم الحياة فالحياة متعتها قليلة كما قال تعالى " قل متاع الدنيا قليل
والآخرة خير لمن اتقى " ، " قُلۡ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعۡصِمُكُم مِّنَ
ٱللَّهِ " يرد الله عليهم ويقول لرسوله الكريم أن يبلغهم أنه لا عاصم من قدر
الله ولا راد لقضائه ولا أحد يستطيع أن يمنعهم من الله ومن قدره المقدر ، " إِنۡ أَرَادَ بِكُمۡ سُوٓءًا أَوۡ أَرَادَ
بِكُمۡ رَحۡمَة" ليس لهم ولا لغيرهم من الله مجير ولا مغيث اذا وقع بهم سوء ولا أحد
يستطيع أن يمنع عنهم رحمة الله ونعمته وخيره ان أراد لهم ذلك ، " وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ
وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا " ليس لهم ولا لغيرهم من
الله مجير ولا مغيث .
۞قَدۡ يَعۡلَمُ ٱللَّهُ
ٱلۡمُعَوِّقِينَ مِنكُمۡ وَٱلۡقَآئِلِينَ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ هَلُمَّ إِلَيۡنَاۖ
وَلَا يَأۡتُونَ ٱلۡبَأۡسَ إِلَّا قَلِيلًا ١٨ أَشِحَّةً عَلَيۡكُمۡۖ فَإِذَا
جَآءَ ٱلۡخَوۡفُ رَأَيۡتَهُمۡ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ تَدُورُ أَعۡيُنُهُمۡ
كَٱلَّذِي يُغۡشَىٰ عَلَيۡهِ مِنَ ٱلۡمَوۡتِۖ فَإِذَا ذَهَبَ ٱلۡخَوۡفُ سَلَقُوكُم
بِأَلۡسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى ٱلۡخَيۡرِۚ أُوْلَٰٓئِكَ لَمۡ يُؤۡمِنُواْ
فَأَحۡبَطَ ٱللَّهُ أَعۡمَٰلَهُمۡۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٗا ١٩
" قَدۡ يَعۡلَمُ
ٱللَّهُ ٱلۡمُعَوِّقِينَ مِنكُمۡ وَٱلۡقَآئِلِينَ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ هَلُمَّ
إِلَيۡنَاۖ وَلَا يَأۡتُونَ ٱلۡبَأۡسَ إِلَّا قَلِيلًا " يخبر الله تعالى عن احاطة علمه بالمعوقين
لغيرهم عن شهود الحرب والقائلين لاخوانهم أى أصحابهم وعشرائهم وخلطائهم يدعونهم
الى ما هم فيه من الاقامة والظلال والثمار وهم مع ذلك بخلاء بالمودة والشفقة عليهم
، " أَشِحَّةً عَلَيۡكُمۡ" وهم فى الغنائم ليسوا كرماء معكم ولكنهم
بخلاء أشحاء ، " فَإِذَا جَآءَ ٱلۡخَوۡفُ رَأَيۡتَهُمۡ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ تَدُورُ
أَعۡيُنُهُمۡ كَٱلَّذِي يُغۡشَىٰ عَلَيۡهِ مِنَ ٱلۡمَوۡتِۖ " اذا جاء أمر
الحرب والقتال فهم فزعون جبناء يتملكهم الفزع ويموتون خوفا وهكذا خوف هؤلاء
الجبناء من القتال ، " فَإِذَا ذَهَبَ ٱلۡخَوۡفُ " اذا انتهت الحرب
والقتال وجاء الأمن ، "سَلَقُوكُم بِأَلۡسِنَةٍ حِدَادٍ " و"
سلقوكم" قال ابن عباس أى استقبلوكم وتكلموا كلاما بليغا فصيحا عاليا وادعوا
لأنفسهم المقامات العالية فى الشجاعة والنجدة وهم يكذبون فى ذلك ، "
أَشِحَّةً عَلَى ٱلۡخَيۡرِ" قال قتادة عند الغنيمة فأشح قوم وأسوأ مقاسمة أعطونا
أعطونا قد شهدنا معكم ، و أما عند البأس فأجبن قوم وأخذله للحق وهم مع ذلك أشحة
على الخير أى ليس لهم فيه خير قد جمعوا الجبن والكذب وقلة الخير فيهم كما قال
الشاعر :
أفى
السلم أعيار جفاء وغلظة * وفى الحرب أمثال النساء العواتك
أى فى
حال المسالمة كأنهم الحمر ، والأعيار جمع عير وهو الحمار ، وفى الحرب كأنهم النساء
الحيض ولهذا قال تعالى " أُوْلَٰٓئِكَ
لَمۡ يُؤۡمِنُواْ " هؤلاء الذين فيهم الصفات السابقة بعيدين عن الايمان
،" فَأَحۡبَطَ ٱللَّهُ أَعۡمَٰلَهُمۡ" أفشل الله مساعيهم ولم يوفقهم فى
الدنيا والآخرة ويصيبهم الفشل فى أعمالهم ، "وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ
يَسِيرٗا " وهذا الأمر سهل هين عند الله
.
يَحۡسَبُونَ ٱلۡأَحۡزَابَ لَمۡ
يَذۡهَبُواْۖ وَإِن يَأۡتِ ٱلۡأَحۡزَابُ يَوَدُّواْ لَوۡ أَنَّهُم بَادُونَ فِي
ٱلۡأَعۡرَابِ يَسَۡٔلُونَ عَنۡ
أَنۢبَآئِكُمۡۖ وَلَوۡ كَانُواْ فِيكُم مَّا قَٰتَلُوٓاْ إِلَّا قَلِيلٗا ٢٠
"يَحۡسَبُونَ
ٱلۡأَحۡزَابَ لَمۡ يَذۡهَبُوا" ومن صفات هؤلاء المنسحبون من القتال القبيحة
فى الجبن والخوف أنهم يظنون أن الأحزاب قريب منهم وأن لهم عودة اليهم ، "
وَإِن يَأۡتِ ٱلۡأَحۡزَابُ يَوَدُّواْ لَوۡ أَنَّهُم بَادُونَ فِي ٱلۡأَعۡرَابِ"
ويودون اذا جاءت الأحزاب أنهم لا يكونون حاضرين معكم فى المدينة بل فى البادية ،
" يَسَۡٔلُونَ عَنۡ أَنۢبَآئِكُمۡۖ" يسألون
عن أخباركم وما كان من أمركم مع عدوكم ، " وَلَوۡ كَانُواْ فِيكُم مَّا
قَٰتَلُوٓاْ إِلَّا قَلِيلٗا " ولوكانوا بين أظهركم لما قاتلوا معكم الا قليلا لكثرة
جبنهم وذلتهم وضعف يقينهم والله سبحانه وتعالى أعلم بهم .
لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ
ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ
يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا ٢١ وَلَمَّا رَءَا
ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡأَحۡزَابَ قَالُواْ هَٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ
وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥۚ وَمَا زَادَهُمۡ إِلَّآ إِيمَٰنٗا وَتَسۡلِيمٗا ٢٢
"
لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَة" هذه الآية الكريمة أصل
كبير فى التأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم فى أقواله وأفعاله وأحواله ولهذا
أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسى بالنبى صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب فى صبره
ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل صلوات الله وسلامه عليه
دائما الى يوم الدين ولهذا قال تعالى للذين تقلقلوا وتضجروا وتزلزلوا واضطربوا فى
أمرهم يوم الأحزاب هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله صلى الله عليه وسلم ، " لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ
ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا " هذه القدوة الحسنة تكون
لمن يؤمن بالله ويرجوه ويرجو ويعمل لليوم الآخر وليس للحياة الدنيا وزينتها وقلبه
ملىء بذكر الله لا ينقطع عن ذكره أبدا فقلبه عامر بالايمان فهو يعمل للباقى الدائم
وليس للقليل الزائل ، " وَلَمَّا رَءَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡأَحۡزَابَ قَالُواْ
هَٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ"
قال ابن عباس وقتادة أن المؤمنين المصدقين بوعود الله لهم وجعله العاقبة حاصلة لهم
فى الدنيا والآخرة عند لقاء الأحزاب كان
قولهم أن هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذى يعقبه
النصر القريب وقال ابن عباس وقتادة أنهم يعنون قوله تعالى فى سورة البقرة "
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء
والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا ان نصر الله
قريب " ولهذا قال تعالى " وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ" صدق الله
ورسوله فيما وعد به المؤمنين من النصر القريب مع الصبر والثبات فى مواجهة العدو
"وَمَا زَادَهُمۡ إِلَّآ إِيمَٰنٗا وَتَسۡلِيمٗا " وهذا الحال من الضيق والشدة ما زاد المؤمنين الا
انقيادا لأوامر الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .
مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ
ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ
وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا ٢٣ لِّيَجۡزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّٰدِقِينَ بِصِدۡقِهِمۡ وَيُعَذِّبَ
ٱلۡمُنَٰفِقِينَ إِن شَآءَ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٢٤
" مِّنَ
ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِ " لما ذكر الله
تعالى عن المنافقين أنهم نقضوا العهد الذى كانوا عاهدوا الله عليه لا يولون
الأدبار وصف المؤمنين أنهم رجال أى يتمتعون بكل صفات الرجولة بما تعنيه الكلمة من
مدلولات وليس المقصود منها جنس الرجال أو النساء ووردت الكلمة بهذا المدلول فى
آيات أخرى وأنهم استمروا على العهد مع الله وكانوا صادقين فيه ، " فَمِنۡهُم
مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُ" منهم من استشهد وقضى أجله ومات على الصدق والوفاء ،
" وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا " ومنهم كذلك من هو باق على
هذا العهد لا نقضه ولا بدله وما غير عهده وبدل الوفاء بالغدر كفعل المنافقين الذين
قالوا " ان بيوتنا عورة "وهو ينتظر الموت فى يوم يكون فيه القتال وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال نزلت هذه
الآية فى أنس بن النضر رضى الله عنه وهو عمه أنه غاب عن قتال بدر فقال : غبت عن
أول قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين فقال لئن أرانى الله تعالى مشهدا مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم فيما بعد ليرين الله عز وجل ما أصنع ، فلما كان يوم أحد انكشف
المسلمون فقال : اللهم انى أعتذر اليك مما صنع هؤلاء - يعنى الصحابة - وأبرأ اليك
مما جاء به هؤلاء - يعنى المشركين - ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ رضى الله عنه دون
أحد فقال : أنا معك قال سعد رضى الله عنه فلم استطع أن أصنع ما صنع فلما قتل فوجد
فيه بضع وثمانون ضربة سيف وطعنة رمح ورمية سهم ، وكانوا يقولون فيه وفى أصحابه نزلت"فَمِنۡهُم
مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُ " ، " لِّيَجۡزِيَ
ٱللَّهُ ٱلصَّٰدِقِينَ بِصِدۡقِهِمۡ " انما يختبر الله عباده بالخوف والزلزال
ليميز الخبيث من الطيب فيظهر أمر هذا بالفعل وأمر هذا بالفعل مع أنه تعالى يعلم
الشىء قبل كونه ولكن لا يعذب الخلق بعلمه فيهم حتى يعملوا بما يعلمه منهم ويجزى
الصادقين بصبرهم على ما عاهدوا الله عليه وقيامهم به ومحافظتهم عليه ،"
وَيُعَذِّبَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ إِن شَآءَ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡ"وهم
الناقضون لعهد الله المخالفون لأوامره فاستحقوا بذلك عقابه وعذابه ولكن هؤلاء المنافقين تحت مشيئته فى الدنيا ان
شاء استمر بهم على ما فعلوا حتى يلقوه فيعذبهم به ، وان شاء تاب عليهم بأن أرشدهم
الى النزوع عن النفاق الى الايمان والعمل الصالح بعد الفسوق والعصيان ،"
إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا " والله يقبل توبة عباده فيغفر لهم برحمته ورأفته بخلقه وهى
الغالبة .
وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ
كَفَرُواْ بِغَيۡظِهِمۡ لَمۡ يَنَالُواْ خَيۡرٗاۚ وَكَفَى ٱللَّهُ
ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلۡقِتَالَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزٗا ٢٥
" وَرَدَّ ٱللَّهُ
ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيۡظِهِمۡ لَمۡ يَنَالُواْ خَيۡرٗاۚ "يقول الله تعالى مخبرا عن
الأحزاب لما أجلاهم عن المدينة بما أرسل عليهم من الريح والجنود الالهية ولولا أن
الله جعل رسوله رحمة للعالمين لكانت هذه الريح عليهم أشد من الريح العقيم التى
أرسلها على عاد ولكنه تعالى قال " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم" فسلط الله عليهم هواء فرق شملهم كما كان سبب
اجتماعهم من الهوى وهم أخلاط من قبائل شتى أحزاب وآراء فتناسب أن يرسل عليهم
الهواء الذى فرق جماعتهم وردهم خائبين خاسرين بغيظهم وحنقهم لم ينالوا خيرا لا فى
الدنيا مما كان فى أنفسهم من الظفر والمغنم ولا فى الآخرة بما تحملوه من الآثام فى
مبارزة الرسول صلى الله عليه وسلم بالعداوة وهمهم بقتله واستئصال جيشه ، " وَكَفَى
ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلۡقِتَالَۚ " بما ارسله الله من ريح وجنود نصر به
عباده المؤمنين لم يحتاجوا الى منازلة المشركين ومبارزتهم حتى يجلوهم عن بلادهم بل
كفى الله عباده المؤمنين القتال ونصر عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وأعز جنده
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا اله الا الله وحده ، صدق
وعده، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده فلا شىء بعده " وعن عبد
الله بن أبى أوفى رضى الله عنه قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على
الأحزاب فقال " اللهم منزل الكتاب ، سريع الحساب ، اهزم الأحزاب ، اللهم
اهزمهم وزلزلهم " وفى قوله تعالى "وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ
ٱلۡقِتَالَۚ " اشارة الى وضع الحرب بين المسلمين وبين قريش وهكذا وقع بعدها
لم يغزهم المشركون بل غزاهم المسلمون فى بلادهم وقال محمد بن اسحاق لما انصرف أهل
الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لن تغزوكم قريش بعد
عامكم هذا ولكنكم تغزونهم" فلم تغز قريش بعد ذلك وكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم هو يغزوهم حتى فتح الله تعالى مكة ، " وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزٗا " وكان الله قويا عزيزا
بحوله وقوته رد الأحزاب خائبين لم ينالوا خيرا وأعز الله الاسلام وأهله وصدق وعده
ونصر عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم
مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمۡ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ
فَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ
فَرِيقٗا ٢٦ وَأَوۡرَثَكُمۡ أَرۡضَهُمۡ
وَدِيَٰرَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُمۡ وَأَرۡضٗا لَّمۡ تَطَُٔوهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٗا ٢٧
نقض بنو قريظة عندما قدمت جنود الأحزاب ونزلوا على المدينة ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد وكان ذلك من جانب حيى بن أخطب النضرى دخل حصنهم ولم يزل بسيدهم كعب بن أسد حتى نقض العهد وقال له : ويحك قد جئتك بعز الدهر أتيتك بقريش وأحابيشها وغطفان وأتباعها ولا يزالون ههنا حتى يستأصلوا محمدا وأصحابه ، فقال كعب : بل والله أتيتنى بذل الدهر ، ويحك يا حيى انك مشؤوم فدعنا منك فلم يزل بفتل فى الذروة والغارب حتى أجابه واشترط له حيى ان ذهب الأحزاب ولم يكن من أمرهم من شىء أن يدخل معهم فى الحصن فيكون له أسوتهم " فلما نقضت قريظة زبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ساءه وشق عليه وعلى المسلمين جدا فلما أيده الله تعالى ونصره ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة ووضع السلاح فبينما كان يغتسل من وعثاء تلك المرابطة فى بيت أم سلمة رضى الله عنها اذ تبدى له جبريل فقال : أوضعت السلاح يارسول الله ؟ قال : نعم " قال : لكن الملائكة لم تضع أسلحتها وهذا الآن رجوعى من طلب القوم ثم قال : ان الله تعالى يأمرك أن تتنهض الى بنى قريظة فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوره وأمر الناس بالمسير الى بنى قريظة وكانت على أميال من المدينة وذلك بعد صلاة الظهر وقال : لا يصلين أحد منكم العصر الا فى بنى قريظة " فسار الناس فأدركتهم الصلاة فى الطريق فصلى بعضهم فى الطريق وقال آخرون لا نصليها الا فى بنى قريظة فلم يعنف واحدا من الطرفين وتبعهم ارسول صلى الله عليه وسلم وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم رضى الله عنه وأعطى الراية لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه ، ثم نازلهم الرسول صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة فلما طال عليهم الحال نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس لأنهم كانوا حلفاء فى الجاهلية واعتقدوا أنه يحسن اليهم كما فعل عبد الله بن أبى سلول فى مواليه بنى قينقاع حين استطلقهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فظن هؤلاء أن سعددا سيفعل بهم كما فعل ابن أبى ، فحكم سعد أن تقتل مقاتليهم وتسبى ذريتهم وأموالهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة " فقال تعالى "وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمۡ " انزل هؤلاء اليهود من بنى قريظة الذين عاونوا الأحزاب وساعدوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياصيهم أى حصونهم ومنه سمى صياصى البقر وهى قرونها لأنها أعلى شىء فيها ، "وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ" وقذف فى قلوبهم الخوف لأنهم كانوا مالؤا المشركين على حجرب النبى صلى الله عليه وسلم وأخافوا المسلمين وراموا قتلهم فانعكس الحال وانقلب اليهم القتال فكما راموا العز ذلوا وأرادوا استئصال المسلمين فاستئأصلوا ، فَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ فَرِيقٗا " من قتل هم المقاتلة عندما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالأخاديد فخدت فى الأرض وجىء بهم مكتفين فضرب أعناقهم وكانوا ما بين السبعمائة الى الثمانمائة وسبى وأسر منهم النساء وأموالهم ، " وَأَوۡرَثَكُمۡ أَرۡضَهُمۡ وَدِيَٰرَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُمۡ " وجعل الله لكم ارضهم وديارهم وأموالهم ورثا وغنيمة ، " وَأَرۡضٗا لَّمۡ تَطَُٔوهَاۚ" قيل خيبر وقيل مكة وقيل فارس والروم وقال ابن جرير يجوز أن يكون الجميع ، " وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٗا " والله هو بحوله على كل شىء قدير فهو بقدرته الذى نصركم وأظهركم بجنوده على المشركين .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل
لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا
فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٢٨ وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ
ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ
لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٢٩
" يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ
ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ
وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا" هذا أمر من
الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخبر نساءه بين أن يفارقهن بعد أني
يعطيهن حقوقهن فيذهبن الى غيره ممن يحصل
لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال ولهن عند
الله تعالى فى ذلك الثواب الجزيل فاخترن رضى الله عنهن اله ورسوله والدار الآخرة
فجمع الله لهن بعد ذلك بينخير الدنيا وسعادة الآخرة وعن أبى سلمة بن عبد الرحمن أن
عائشة رضى الله عنها زوج النبى صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم جاءها حين أمره الله تعالى أن يخير أزواجه قالت فبدأ بى فقال " انى
ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تستعجلى حتى تستأمرى أبويك - وقد علم أن أبوى لم
يكونا يأمرانى بفراقه فقلت له ففى أى هذا أستأمر أبوى فانى أريد الله ورسوله
والدار الآخرة ثم فعل أزواج النبى صلى الله عليه وسلم ما فعلت ،"
وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ
ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا " والله يعد من
تريد الله ورسوله بالأجر العظيم فى الدنيا والآخرة وقد حدث ذلك وكان تحت النبى صلى
الله عليه وسلم تسع نسوة خمس من قريش وهن عائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة
رضى الله عنهن وكان تحته من غير قريش صفية بنت حيى النضرية وميمونة بنت الحاث
الهلالية وزينب بنت جحش الأسدية وجويرية بنت الحارث المصطلقية رضى الله عليهن وكلهن
اخترن البقاء معه والدار الآخرة .
يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن
يَأۡتِ مِنكُنَّ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖ يُضَٰعَفۡ لَهَا ٱلۡعَذَابُ ضِعۡفَيۡنِۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى
ٱللَّهِ يَسِيرٗا ٣٠
"
يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأۡتِ مِنكُنَّ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖ يُضَٰعَفۡ لَهَا ٱلۡعَذَابُ
ضِعۡفَيۡنِۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٗا " يقول تعالى واعظا نساء النبى صلى الله عليه وسلم اللاتى
اخترن الله ورسوله والدار الآخرة واستقر أمرهن تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فناسب أن يخبرهن بحكمهن وتخصيصهن دون سائر النساء بأن من يأت منهن بفاحشة مبينة أى
واضحة بينة قال ابن عباس هو النشوز وسوء الخلق وليس المقصود الانحراف والأمور
الجسيمة فهن لستن كأحد من النساء لما كانت محلتهن رفيعة ناسب أن يجعل الذنب لو وقع
منهن مغلظا صيانة لجنابهن وحجابهن الرفيع ولهذا ضاعف الله لهن العذاب ضعفين أى فى
الدنيا والآخرة وهذا الأمر سهلا هينا عليه .
No comments:
Post a Comment