27 - ) تبسط تفسير ابن كثير للقرآن الكريم
تفسير الجزء السابع والعشرين
تفسير سورة الطور
سورة الطورسورة مكية ، وعدد آياتها 49 آية ، تتحدث
عن يوم القيامة وعن الجنة والنار وقضية الشرك والايمان ، وتتسم مثل القرآن المكى
أيضا بقصر الآيات ، واظهار قدرة الله فى
الخلق .
وَٱلطُّورِ ١ وَكِتَٰبٖ مَّسۡطُورٖ ٢ فِي رَقّٖ مَّنشُورٖ ٣ وَٱلۡبَيۡتِ
ٱلۡمَعۡمُورِ ٤ وَٱلسَّقۡفِ ٱلۡمَرۡفُوعِ ٥ وَٱلۡبَحۡرِ ٱلۡمَسۡجُورِ ٦ إِنَّ
عَذَابَ رَبِّكَ لَوَٰقِعٞ ٧ مَّا لَهُۥ مِن دَافِعٖ ٨ يَوۡمَ تَمُورُ
ٱلسَّمَآءُ مَوۡرٗا ٩ وَتَسِيرُ ٱلۡجِبَالُ سَيۡرٗا ١٠ فَوَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ ١١
ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي خَوۡضٖ يَلۡعَبُونَ ١٢ يَوۡمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ
جَهَنَّمَ دَعًّا ١٣ هَٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ١٤
أَفَسِحۡرٌ هَٰذَآ أَمۡ أَنتُمۡ لَا تُبۡصِرُونَ ١٥ ٱصۡلَوۡهَا فَٱصۡبِرُوٓاْ
أَوۡ لَا تَصۡبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيۡكُمۡۖ إِنَّمَا تُجۡزَوۡنَ مَا كُنتُمۡ
تَعۡمَلُونَ ١٦
" وَٱلطُّورِ "
يقسم الله تعالى بمخلوقاته الدالة على قدرته العظيمة أن عذابه واقع بأعدائه وأنه
لا دافع له عنهم ، فالطور هو الجبل الذى يكون فيه أشجار وما لم يكن فيه شجر لا
يسمى طورا انما يقال له جبل مثل الذى كلم الله عليه موسى وأرسل منه عيسى وقيل هو
جبل الطور الذى هو فى سيناء الذى كلم الله تعالى منه موسى عليه السلام كما فى سورة
التين " والتين والزيتون * وطور سنين * وهذا البلد الأمين " وكقوله
" وشجرة تخرج من طور سيناء " ، ، " وَكِتَٰبٖ مَّسۡطُور" قيل هو اللوح المحفوظ كما فى قوله تعالى فى سورة
الاسراء " وان من قرية الا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا
شديدا كان ذلك فى الكتاب مسطورا " 58 الكتاب هنا هو اللوح المحفوظ عند الله
تعالى أى ان ذلك مقرر فى اللوح المحفوظ
عند الله ، وقيل الكتب المنزلة التى تقرأ على الناس جهارا ولهذا قال " فِي
رَقّٖ مَّنشُور" الرق هو الجلد الذى كان
يكتب عليه ونحن نعلم أن القرآن كان حين ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم يسجله كتاب الوحى على ما تيسر لهم مثل الرق
والرقاع وكلمة منشور أى مكشوف بمعنى مسجل ومتاح وكما فى قوله فى سورة الاسراء " وكل انسان
ألزمناه طائره فى عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى
بنفسك اليوم عليك حسيبا " الاسراء 13 - 14 ، " وَٱلۡبَيۡتِ ٱلۡمَعۡمُورِ " قال
قتادة والربيع بن أنس والسدى ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما
لأصحابه " هل تدرون ما البيت المعمور ؟ ، قالوا : الله ورسوله أعلم قال
" فانه مسجد فى السماء بحيال الكعبة لو خر لخر عليها يصلى فيه كل يوم سبعون
ألف ملك اذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم " وثبت فى الصحيحين أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال فى حديث الاسراء بعد مجاوزته الى السماء السابعه
" ثم رفع بى الى البيت المعمور واذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفا لا يعودون
اليه آخر ما عليهم " يعنى يتعبدون فيه ويطوفون به كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم
، كذلك البيت العمور هو كعبة أهل السماء السابعة ولهذا وجد ابراهيم الخليل عليه
السلام مسندا ظهره الى البيت المعمور لأنه بانى الكعبة الأرضية
والجزاء من جنس العمل وهو بحيال الكعبة وفى كل سماء بيت يتعبد فيه أهلها ويصلون
اليه والذى فى السماء الدنيا يقال له بيت العزة والله أعلم ، " وَٱلسَّقۡفِ
ٱلۡمَرۡفُوعِ " قال سفيان الثورى وشعبة وأبو الأحوص عن سماك عن خالد بن عرعرة
عن على رضى الله عنه أنه السماء قال سفيان ثم تلا " وجعلنا السماء سقفا
محفوظا وهم عن آياتها معرضون " السماء هى سقف الأرض الذى
يحفظه ويحميه كما يقول العلم الحديث فطبقة الأوزون تحمى الأرض وتحفظها من الأشعات
الضارة الصادرة من الشمس كالأشعة فوق البنفسجية وغيرها والغلاف الجوى يحمى الأرض
من الشهب والنيازك التى يمكن أن تتساقط على الأرض فتحرقها فتحتك بالغلاف الجوى
وتحترق قبل أن تنزل الى الأرض كما أن الغلاف الجوى هو الذى يتكون فيه السحاب وينزل
المطر وهو الذى يحافظ على الحياة على الأرض وهذا ما يقوله العلم الحديث ، " وَٱلۡبَحۡرِ ٱلۡمَسۡجُورِ " قال الجمهور
هو هذا البحر وهذا كقوله " واذا البحار سجرت " أى أضرمت فتصير نارا
تتأجج محيطة بأهل الموقف وفى العصر الحديث تفسير يقول أن تحت ماء البحر تحدث
براكين تكون الجزر ويتصاعد منها النار والدخان ويوم القيامة من علاماته اشتعال
البحار بالنار وكل ذلك اجتهادات والعلم عند الله سبحانه وتعالى ، " إِنَّ
عَذَابَ رَبِّكَ لَوَٰقِع" بعد قسم الله عز وجل بما هو حقائق يعلمها وحده فان يوم
القيامة سيكون واقع مثلها وهو المقسم عليه أى لواقع بالكافرين كما قال " مَّا
لَهُۥ مِن دَافِع" هذا اليوم وهو يوم القيامة ليس له من دافع يدفعه
عن الكافرين اذا أراد الله بهم ذلك ، " يَوۡمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوۡرٗا " يتحدث الله عز
وجل عن وقائع يوم القيامة وما يحدث فيه المور هو التحرك فى استدارة قال ابن عباس
وقتادة أن السماء تتحرك تحريكا وكذلك عن ابن عباس قال هو تشققها وقال مجاهد تدور
دورا وقال الضحاك استدارتها وتحركها لأمر اللفه وموج بعضها فى بعض ، "
وَتَسِيرُ ٱلۡجِبَالُ سَيۡرٗا " تسير الجبال أى تتحرك وتذهب فتصير هباء منبثا وتنسف نسفا
وهذا مصدق للآيات القرآن التى تحدثت عن يوم القيامة كما سيأتى ذكره ، " فَوَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ " يقول الله عزوجل مهددا ومتوعدا للكافرين
المكذبين بيوم القيامة أن لهم الهلاك أو ويل لهم ذلك اليوم من عذاب الله ونكاله
بهم وعقابه لهم ، " ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي خَوۡضٖ يَلۡعَبُونَ" يعرف الله المكذبين ويذكر صفاتهم وهم الذين فى
الدنيا يخوضون فى الباطل ويتخذون دينهم هزوا ولعبا وما أكثرهم فى عصرنا الحالى
وبخاصة فى مجال الاعلام ، " يَوۡمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا
" يدعون أى يدفعون ويساقون الى نار جهنم واستخدم المفعول المطلق " دعا
" لتأكيد ذلك وقال مجاهد وغيره يدفعون فيها دفعا ، " هَٰذِهِ ٱلنَّارُ
ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ" تقول زبانية جهنم لمن يدخل النار تقريعا
وتوبيخا أنتم اليوم قد بعثتم وهذه هى النار التى كنتم تكذبون بها فى الحياة الدنيا
، " أَفَسِحۡرٌ هَٰذَآ أَمۡ أَنتُمۡ لَا تُبۡصِرُونَ " وتقول لهم
الزبانية استهزاءا بهم هل ما ترونه من النار شىء باطل من أعمال السحر الباطلة التى
ليست بالحقيقة بل هى خداع للبصر وعقبوا بذلك توبيخا لهم أم هل عميت أبصاركم عنها ،
" ٱصۡلَوۡهَا " أى أدخلوها دخول من تغمره النار من جميع جهاته ، " فَٱصۡبِرُوٓاْ أَوۡ لَا تَصۡبِرُواْ سَوَآءٌ
عَلَيۡكُمۡ" أى سواء صبرتم على عذاب النار ونكالها أم لم تصبروا لا محيد لكم
عنها ولا خلاص لكم منها ،" إِنَّمَا تُجۡزَوۡنَ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ
" يقول الله عز وجل للكفار أن هذا العذاب الذى أنتم فيه انما هو جزاء مستحق
لكم من الله فالله لا يظلم أحدا بل يجازى كلا بعمله.
إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي جَنَّٰتٖ وَنَعِيمٖ ١٧ فَٰكِهِينَ بِمَآ
ءَاتَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡ وَوَقَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ ١٨ كُلُواْ
وَٱشۡرَبُواْ هَنِيَٓٔۢا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٩ مُتَّكِِٔينَ
عَلَىٰ سُرُرٖ مَّصۡفُوفَةٖۖ وَزَوَّجۡنَٰهُم بِحُورٍ عِينٖ ٢٠
" إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي جَنَّٰتٖ وَنَعِيم" يخبر الله تعالى عن حال السعداء وذلك بضد ما للأشقياء من عذاب والنكال وهم المتقون فهم فى جنات يتنعمون فيها بكل نعيم من أصناف الملاذ من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب وغير ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، " فَٰكِهِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡ" يتفكهون بما آتاهم الله من النعيم أى يسرون بذلك ، " وَوَقَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ " يذكر الله نعمته على المتقين فقد نجاهم من عذاب النار وتلك نعمة مستقلة بذاتها على حدتها مع ما أضيف اليها من دخول الجنة التى فيها السرور ، " كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ هَنِيَٓٔۢا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ " هذه تهنئة من الله عز وجل للمتقين الذين دخلوا الجنة كمن يرحب بضيوفه فيدعوهم الى التمتع بما فى الجنة من مآكل ومشارب جزاءا لهم على حسن عملهم فى الحياة الدنيا هذا بذاك تفضلا منه واحسانا كقوله تعالى " كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم فى الأيام الخالية ،" مُتَّكِِٔينَ عَلَىٰ سُرُرٖ مَّصۡفُوفَة" السرر المصفوفة تكون متواجهة ويكون أهل الجنة وجوه بعضهم الى بعض كقوله تعالى " على سرر متقابلين " والاتكاء هو الاستناد من أجل الراحة فأهل الجنة يكونون على السرر فى حالة من الاستراحة يتنعمون ويصل اليهم كل شىء من الملاذ يطلبونه ويصل اليهم دون عناء وعن الهيثم بن مالك الطائى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ان الرجل ليتكىء المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول عنه ولا يمله يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه " ، " وَزَوَّجۡنَٰهُم بِحُورٍ عِين " من نعم الله على أهل الجنة أنهم ينكحهم الحور العين وهم القرينات الصالحات والزوجات الحسان وقد تقدم وصفهن فى غير موضع .
وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ
وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ
وَمَآ أَلَتۡنَٰهُم مِّنۡ عَمَلِهِم مِّن شَيۡءٖۚ كُلُّ ٱمۡرِيِٕۢ
بِمَا كَسَبَ رَهِينٞ ٢١ وَأَمۡدَدۡنَٰهُم بِفَٰكِهَةٖ وَلَحۡمٖ مِّمَّا يَشۡتَهُونَ
٢٢ يَتَنَٰزَعُونَ فِيهَا كَأۡسٗا لَّا لَغۡوٞ فِيهَا وَلَا تَأۡثِيمٞ ٢٣ ۞وَيَطُوفُ
عَلَيۡهِمۡ غِلۡمَانٞ لَّهُمۡ كَأَنَّهُمۡ لُؤۡلُؤٞ مَّكۡنُونٞ ٢٤ وَأَقۡبَلَ
بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ يَتَسَآءَلُونَ ٢٥ قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا قَبۡلُ
فِيٓ أَهۡلِنَا مُشۡفِقِينَ ٢٦ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَا وَوَقَىٰنَا عَذَابَ
ٱلسَّمُومِ ٢٧ إِنَّا كُنَّا مِن قَبۡلُ نَدۡعُوهُۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡبَرُّ
ٱلرَّحِيمُ ٢٨
" وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَمَآ أَلَتۡنَٰهُم مِّنۡ عَمَلِهِم مِّن شَيۡء" يخبر الله تعالى عن فضله وكرمه وامتنانه ولطفه بخلقه واحسانه أن المؤمنين اذا اتبعتهم ذرياتهم فى الايمان يلحقهم بآبائهم فى المنزلة وان لم يبلغوا عملهم لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم فى منازلهم فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته للتساوى بينه وبين ذاك ولهذا قال ما ألتناهم من شىء أى ما أنقصناهم من شىء وعن ابن عباس قال : ان الله ليرفع ذرية المؤمن فى درجته وان كانوا دونه فى العمل لتقر بهم عينه ثم قرا الآية وفى قول آخر قال ابن عباس هم ذرية المؤمن يموتون على الايمان فان كانت منازل آبائهم أىفع منمنازلهم ألحقوا بآبائهم ولم ينقصوا من أعمالهم التى عملوها شيئا وعن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم قال " اذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فقال انهم لم يبلغوا درجتك فيقول يا رب قد عملت لى ولهم فيؤمر بالحاقهم به وقرا ابن عباس الاية , هذا فضله تعالى على الأبناء ببركة عمل الآباء ، وأما فضله على الآباء ببركة دعاء الأبناء فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح فى الجنة فيقول يا رب أنى لى هذه ؟ فيقول باستغفار ولدك لك " وعن أبى هرية رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليهوسلم " اذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث : صدقة جارية ، أوعلم ينتفع يه، أو ولد صالح يدعو له " ، لما أخبر تعالى عن مقام الفضل وهو رفع درجة الذرية الى منزلة الآباء من غير عمل يقتضى ذلك أخبر عن مقام العدل وهو أنه لا يؤاخذ أحدا بذنب أحد فقال تعالى "كُلُّ ٱمۡرِيِٕۢ بِمَا كَسَبَ رَهِين" أى أن كل امرىء مرتهن بعمله لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس سواء كان أبا أو ابنا كما قال تالى "كل نفس بما كسبت رهينة الا أصحاب اليمين فى جنات يتساءلون عن المجرمين" ، " وَأَمۡدَدۡنَٰهُم بِفَٰكِهَةٖ وَلَحۡمٖ مِّمَّا يَشۡتَهُونَ "يقول الله عز وجل عن نعيمه لأهل الجنة أنهم متاح لهم ما يشتهونه من الفاكهة ولحوم من أنواع شتى مما يستطاب ويشتهى ، " يَتَنَٰزَعُونَ فِيهَا كَأۡسٗا "ومن متع أهل الجنة أنهم يتعاطون فى الجنة كأسا أى من خمر الجنة وهى غير خمر الدنيا فيها لذة للشاربين لا تذهب بالعقول ولا توجع البطون ،" لَّا لَغۡوٞ فِيهَا وَلَا تَأۡثِيم" قال ابن عباس : اللغو الباطل والتأثيم الكذب وقال مجاهد لا يستبون ولا يؤثمون وقال الضحاك لا يتكلمون فيها بكلام لاغ أى هذيان ولا اثم أى فحش كما يتكلم به الشربة من أهل الدنيا فهى خمر لا تذهب بالعقول فتتحدث بالفاحش أوما ليس له معنى من الكلام ولا فيها اثم بشربها وقال قتادة كان ذلك فى الدنيا مع الشيطان فنزه الله خمر الآخرة عن قاذورات خمر الدنيا وأذاها كما تقدم فنفى عنها صداع الرأس ووجع البطن وازالة العقل بالكلية وأخبر أنها لا تحملهم على الكلام السىئ الفارغ عن الفائدة المتضمن هذيانا وفحشا وأخبر بحسن منظرها وطيب طعمها ومخبرها فقال عنها " بيضاء لذة للشاربين * لا غول فيها ولا هم عنها ينزفون " وقال " لا يصدعون عنها ولا ينزفون " ، " وَيَطُوفُ عَلَيۡهِمۡ غِلۡمَانٞ لَّهُمۡ كَأَنَّهُمۡ لُؤۡلُؤٞ مَّكۡنُون" يخبر الله عز وجل عن خدم أهل الجنة وحشمهم فى الجنة كأنهم اللؤلؤ الرطب المكنون فى حسنهم وبهائهم ونظافتهم وحسن ملابسهم كما قال تعالى " ويطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين " ، " وَأَقۡبَلَ بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ يَتَسَآءَلُونَ " أى أقبلوا يتحادثون ويتساءلون عن أعمالهم وأحوالهم فى الدنيا وهذا كما يتحدث أهل الشراب على شرابهم أذا أخذ فيهم الشراب بما كان من أمرهم ،" قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا قَبۡلُ فِيٓ أَهۡلِنَا مُشۡفِقِينَ " يخبر الله تعالى عن حديث أهل الجنة وخواطرهم فيقولون كنا فى الدار الدنيا ونحن بين أهلينا خائفين من ربنا مشفقين من عذابه وعقابه وكانت نعمته " فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَا وَوَقَىٰنَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ " أنعم الله علينا فتصدق علينا وأجارنا مما نخاف منه من عذاب النار والسموم هى الريح الحارة المؤذية المحملة بالتراب وهوتشبيه دنيوى فنحن نعرف ريح السموم ولكن هذا التشبيه هو لتقريب الصورة فى الذهن مع اختلاف الجوهر بين سموم الدنيا وسموم الآخرة فهى أشد وأنكى ، " إِنَّا كُنَّا مِن قَبۡلُ نَدۡعُوهُۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡبَرُّ ٱلرَّحِيمُ " يخبر الله عز وجل عن أهل الجنة أنهم كانوا فى الحياة الدنيا يتضرعون الى الله فاستجاب لهم وأعطاهم سؤالهم فهو واسع البر أى الكرم والجود العطاء والبر اسم جامع لكل أفعال الخير والفضل والعطاء وهو الر حيم بعباده يتجاوز عن سئاتهم ويعاملهم بالفضل والرحمة منه فهو الرحيم بهم .
فَذَكِّرۡ فَمَآ أَنتَ
بِنِعۡمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٖ وَلَا مَجۡنُونٍ ٢٩ أَمۡ يَقُولُونَ شَاعِرٞ نَّتَرَبَّصُ بِهِۦ
رَيۡبَ ٱلۡمَنُونِ ٣٠ قُلۡ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ ٱلۡمُتَرَبِّصِينَ
٣١ أَمۡ تَأۡمُرُهُمۡ أَحۡلَٰمُهُم بِهَٰذَآۚ أَمۡ هُمۡ قَوۡمٞ طَاغُونَ ٣٢ أَمۡ
يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُۥۚ بَل لَّا يُؤۡمِنُونَ ٣٣ فَلۡيَأۡتُواْ بِحَدِيثٖ مِّثۡلِهِۦٓ إِن
كَانُواْ صَٰدِقِينَ ٣٤
" فَذَكِّرۡ
فَمَآ أَنتَ بِنِعۡمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٖ وَلَا مَجۡنُونٍ " يقول اللهتعالى آمرا رلاسوله صلى الله
عليه وسلم بأن يبلغ رسالته الى عباده وأن يذكرهم بما أنزل الله عليه ثم نفى عنهما
يرميه به أهل البهتان والفجور فقال عز وجل عن رسوله صلى الله عليه وسلم أنك لست بكاهن كما تقول الجهلة من كفار قريش والكاهن هو الذى
يأتيه الرئى من الجان بالكلمة يتلقاها من خبر السماء ونحن نعلم كهنة المعابد فى
عصر الفراعنة فى مصر القديمة وفى معابد الاغريق فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس
منهم وهو كذلك ليس بمجنون وهو الذى يتخبطه الشيطان من المس أو الذى فقد عقله ، ثم
قال تعالى منكرا على الجهاة من كفار قريش فى قولهم فى الرسول صلى الله عليه وسلم
" أَمۡ يَقُولُونَ شَاعِرٞ نَّتَرَبَّصُ بِهِۦ رَيۡبَ ٱلۡمَنُونِ " ينكر الله عز وجل ما
قالوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه شاعر ونحن نعلم حال الشعراء كما وصفهم
القرآن بأنهم كاذبون ويقولون ما لا يفعلون فهو الصنف الذى يقصده هؤلاء وليس الصنف
الجيد من الشعراء وريب المنون هو قوارع الدهر والمنون هو الموت أى يقولون ننتظره
ونصبر عليه حتى يأتيه الموت فنستريح منه ومن شأنه قال تعالى ردا عليهم " قُلۡ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ
ٱلۡمُتَرَبِّصِينَ " أى انتظروا فانى منتظر معكم وستعلمون لمن تكون العاقبة
والنصرة فى الدنيا والآخرة وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن قريشا لما اجتمعوا فى
دار الندوة فى أمر النبى صلى الله عليه وسلم قال قائل منهم احتبسوه فى وثاق
وتربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء زهير والنابغة
انما هو كأحدهم فأنزل الله تعالى ذلك من قولهم " أَمۡ يَقُولُونَ شَاعِرٞ نَّتَرَبَّصُ بِهِۦ
رَيۡبَ ٱلۡمَنُونِ"، " أَمۡ تَأۡمُرُهُمۡ أَحۡلَٰمُهُم بِهَٰذَآۚ"
يقول الله عز وجل موبخا الجهلة من كفار قريش فيما يقولونه فى الرسول صلى الله عليه
وسلم هل تأمرهم عقولهم بهذا الذى يقولونه
فيك من الأقاويل الباطلة التى يعلمون فى أنفسهم أنها كذب وزور ،" أَمۡ هُمۡ
قَوۡمٞ طَاغُونَ " أى
ولكن هم قوم ضلال وطغيان أى ظلم وتجاوز للحد وبعد عن الحقيقة معاندون فهذا هو الذى
يحملهم على ما قالوه فيك ، " أَمۡ
يَقُولُونَ تَقَوَّلَه" يتحدث الله عز وجل عن حديث كفار قريش عن القرآن فهم
يقولون عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اختلقه وافتراه من عند نفسه ،" بَل لَّا يُؤۡمِنُونَ " يرد الله علىكفار
قريش فيما يدعونه أن كفرهم هو الذى يحملهم على هذه المقالة فهم ليسوا بمؤمنين
،" فَلۡيَأۡتُواْ بِحَدِيثٖ مِّثۡلِهِۦٓ إِن كَانُواْ صَٰدِقِينَ " يتحدى الله
تعالىالكفارفيما يدعونه عن القرآن أنهم ان كانوا صادقين فى قولهم أن الرسول صلى
الله عليه وسلم هخو الذى تقوله وافتراه وليس منزل من عند الله عز وجل فليأتوا بمثل
ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن فانهم لو اجتمعوا هم وجميع أهل
الأرض من الجن والانس ما جاءوا بمثله ولا بعشر سور من مثله ولا بسورة من مثله .
أَمۡ خُلِقُواْ مِنۡ
غَيۡرِ شَيۡءٍ أَمۡ هُمُ ٱلۡخَٰلِقُونَ ٣٥ أَمۡ خَلَقُواْ ٱلسَّمَٰوَٰتِ
وَٱلۡأَرۡضَۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ ٣٦ أَمۡ عِندَهُمۡ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمۡ هُمُ
ٱلۡمُصَۜيۡطِرُونَ ٣٧ أَمۡ لَهُمۡ سُلَّمٞ يَسۡتَمِعُونَ فِيهِۖ فَلۡيَأۡتِ مُسۡتَمِعُهُم
بِسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٍ ٣٨ أَمۡ لَهُ ٱلۡبَنَٰتُ وَلَكُمُ ٱلۡبَنُونَ
٣٩ أَمۡ تَسَۡٔلُهُمۡ أَجۡرٗا فَهُم مِّن مَّغۡرَمٖ مُّثۡقَلُونَ ٤٠ أَمۡ
عِندَهُمُ ٱلۡغَيۡبُ فَهُمۡ يَكۡتُبُونَ ٤١ أَمۡ يُرِيدُونَ كَيۡدٗاۖ فَٱلَّذِينَ
كَفَرُواْ هُمُ ٱلۡمَكِيدُونَ ٤٢ أَمۡ لَهُمۡ إِلَٰهٌ غَيۡرُ ٱللَّهِۚ سُبۡحَٰنَ
ٱللَّهِ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ٤٣
يتحدث الله تعالى عن هذا
المقام فى اثبات الربوبية وتوحيد الألوهية فقال تعالى " أَمۡ خُلِقُواْ مِنۡ غَيۡرِ شَيۡءٍ أَمۡ هُمُ
ٱلۡخَٰلِقُونَ ، " يقول الله تعالى منبها للكفار وموبخا لهم ولكل من لايؤمن
بالله هل أوجدوا من غير خالق لهم وموجد لهم ؟ أم هم الذين خلقوا وأوجدوا أنفسهم ؟
ى هذا ولا هذا بل الله هو الذى خلقهم وأنشأهم بع أن لم يكونوا شيئا مذكورا وهذا
كما قال تعالى فى سورة الانسان " هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن
شيئا مذكورا * انا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا
"الانسان 1- 2 " أ َمۡ
خَلَقُواْ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ " يقول الله عز
وجل منكرا على المشركين شركهم بالله وهم يعلمون أنه الخالق وحده لا شريك له ولكن
عدم ايقانهم هو الذى يحملهم على ذلك ، " أَمۡ عِندَهُمۡ خَزَآئِنُ رَبِّكَ
أَمۡ هُمُ ٱلۡمُصَۜيۡطِرُونَ " يقول الله تعالى موبخا للمشركين أهم يتصرفون
فى الملك وبيدهم مفاتيح الخزائن التى يرزق منها العباد أم هم المحاسبون للخلائق ؟
ليس الأمر كذلك بل الله عز وجل هو المالك المتصرف الفعال لما يريد ، " أَمۡ
لَهُمۡ سُلَّمٞ يَسۡتَمِعُونَ فِيهِ"
ويقول الله تعالى متحديا الكفار بملكوته وملكه الواسع هل لهؤلاء مرقاة الى الملأ
الأعلى ،" فَلۡيَأۡتِ مُسۡتَمِعُهُم بِسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٍ " يقول عز
وجل بعد طرح هذا التحدى على الكفار والقرآن يستخدم الحجة المنطقية لأن السورة مكية
وكان هناك صراع عقدى بين الكفر والايمان معقبا فليأت الذى يستمع لهؤلاء الكفار
بحجة ظاهرة على صحة ما هم فيه من الفعال والمقال أى ليس لهم سبيل الى ذلك فليسوا
على شىء ولا لهم دليل ، " أَمۡ لَهُ
ٱلۡبَنَٰتُ وَلَكُمُ ٱلۡبَنُونَ " يقول الله عزوجل مهددا ومتوعدا ومنكرا على
المشركين فيما نسبوه اليه من البنات وجعلهم الملائكة اناثا واختيارهم لأنفسهم
الذكور على الاناث بحيث اذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهوكظيم أى حزين كاظم
حزنه وغيظه ،"أَمۡ تَسَۡٔلُهُمۡ أَجۡرٗا فَهُم مِّن مَّغۡرَمٖ مُّثۡقَلُونَ " يقول
الله عز وجل موبخا الكفار من قريش ومدافعا عن رسوله صلى الله عليه وسلم هل تسالهم
أجرة على ابلاغك اياهم رسالة الله ؟ أى لست تسألهم على ذلكشيئا فهم من أدنى شىء
يتبرمون منه ويثقلهم ويشق عليهم ، " أَمۡ عِندَهُمُ ٱلۡغَيۡبُ فَهُمۡ
يَكۡتُبُونَ " يتحدى الله عز وجل الكفار فيسألهم هل لكم اطلاع وعلم بالغيب
وبما سيحدث من مجريات الأمور ليس الأمر
كذلك فانه لا يعلم من أهل السموات والأرض الغيب الا الله فهم حتى لا يعلمون أرزاقهم
وأعمارهم ، " أَمۡ يُرِيدُونَ كَيۡدٗاۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ ٱلۡمَكِيدُونَ " يقول تعالى أم
يريد هؤلاء بقولهم هذا فى الرسول صلى الله عليه وسلم وفى الدين غرور الناس وكيد
الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فكيدهم انما يرجع وباله على المشركين فى
عبادتهم الأصنام والأنداد مع الله ، ، " أَمۡ لَهُمۡ إِلَٰهٌ غَيۡرُ ٱللَّهِۚ"
هذا انكار شديد على المشركين فى عبادتهم الأصنام والأنداد مع الله ، " سُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشۡرِكُونَ
" نزه الله عز وجل نفسه الكريمة عما يقولون ويفترون ويشركون .
وَإِن يَرَوۡاْ كِسۡفٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ
سَاقِطٗا يَقُولُواْ سَحَابٞ مَّرۡكُومٞ ٤٤ فَذَرۡهُمۡ حَتَّىٰ
يُلَٰقُواْ يَوۡمَهُمُ ٱلَّذِي فِيهِ يُصۡعَقُونَ ٤٥ يَوۡمَ لَا يُغۡنِي عَنۡهُمۡ
كَيۡدُهُمۡ شَيۡٔٗا وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ ٤٦ وَإِنَّ لِلَّذِينَ
ظَلَمُواْ عَذَابٗا دُونَ ذَٰلِكَ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا
يَعۡلَمُونَ ٤٧ وَٱصۡبِرۡ لِحُكۡمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعۡيُنِنَاۖ وَسَبِّحۡ
بِحَمۡدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ٤٨ وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَسَبِّحۡهُ وَإِدۡبَٰرَ
ٱلنُّجُومِ ٤٩
" وَإِن يَرَوۡاْ
كِسۡفٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ
سَاقِطٗا يَقُولُواْ سَحَابٞ مَّرۡكُوم" يقول تعالى مخبرا عن
المشركين بالعناد والمكابرة للمحسوس أنهم لو نزل بهم عذاب من السماء يعذبون
به لما صدقوا ولما أيقنوا بل يقولون هذا سحاب مركوم أى متراكم فهم لا يميزون
الأمور وليس عندهم علم بما هو فيه خير وبما فيه عذاب وهذا كقوله تعالى " ولو
فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا انما سكرت أبصارنا بل نحن
قوم مسحورون " ، " فَذَرۡهُمۡ
حَتَّىٰ يُلَٰقُواْ يَوۡمَهُمُ ٱلَّذِي فِيهِ يُصۡعَقُونَ " يقول الله تعالى
مخبرا رسوله صلى الله عليه وسلم مسريا له لعناد المشركين وتكذيبهم له وعدم اتباعهم
له دعهم يا محمد حتى يلاقوا اليوم الذى يصعقون فيه أى يصيبهم الصدمة والصاعقة من
هول ما سيحل بهم وهو يوم القيامة ، " يَوۡمَ لَا يُغۡنِي عَنۡهُمۡ كَيۡدُهُمۡ
شَيۡٔٗا وَلَا هُمۡ
يُنصَرُونَ " فى هذا اليوم لا ينفعهم كيدهم ولا مكرهم الذى استعملوه فى
الدنيا لا يجزى عنهم يوم القيامة شيئا ولن يجدوا ناصرا لهم ومجيرا من عذاب الله ،
" وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ
عَذَابٗا دُونَ ذَٰلِكَ "
يقول الله تعالى نعذبهم فى الدنيا ونبتليهم بالمصائب قبل عذاب الآخرة كقوله تعالى
" ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون " ولهذا
قال " وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا
يَعۡلَمُونَ " فهم لا يفهمون ما يراد بهم اذا خلى عنهم مما كانوا فيه من
العذاب والمصائب عادوا الى أسوأ ما كانوا كما جاء فى بعض الأحاديث " ان
المنافق اذا مرض وعوفى مثله فى ذلك كمثل البعير لا يدرى فيما عقلوه ولا فيما
أرسلوه " وفى الأثر الالهى " كم أعصيك ولا تعاقبنى ؟ قال الله تعالى
ياعبدى كم أعاقبك وأنت لا تدرى ؟ " "
وَٱصۡبِرۡ لِحُكۡمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعۡيُنِنَاۖ " يدعو الله عز وجل
رسوله صلى الله عليه وسلم الى الصبر على أذى المشركين فى مكة وأن لا يبالى بهم
فانه بمرأى من الله وتحت كلاءته وهو سبحانه يعصمه من الناس والكلمات التى وردت
بالآية تثبيت من الله لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم فى مواجهة العتاة من مشركى
مكة وعنادهم وفى ذلك أيضا بشرى للرسول صلى الله عليه وسلم بقوله " لحكم ربك
" فحكم الله هو فى النهاية نصر رسله على أعدائهم وفى هذا طمأنة للرسول صلى
الله عليه وسلم وقوله "فانك بأعيننا" أى تحت رعايتنا وتحت البصر لا تغيب
عنه فرعاية الله محيطة بك ترعاك لا تغيب عنك ولا تغيب عنها لحظة وهذا فيه دعم
بالقوة فمن كان الله يرعاه فلا يوجد أحد يخشاه ،" وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ
حِينَ تَقُومُ " قال
الضحاك سبح بحمد ربك حين تقوم الى الصلاة وهذا دعوة من الله سبحانه وتعالى لرسول
الكريم بتسبيحه وبخاصة عند القيام الى الصلاة ونحن نقول فى أفتتاح الصلاة من السنن
" سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا اله غيرك " وروى مسلم
فى صحيحه عن عمر رضى الله عنه كان يقول هذا فى ابتداء الصلاة وروى عن أبى سعيد
وغيره عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك ، وقال أبو الجوزاء أى حين تقوم من نومك من
فراشك ويؤيد ذلك ما ورد عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" من تعار من الليل فقال لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد
وهو على كل شىء قدير سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله أكبر ولا حول
ولا قوة الا بالله ثم قال رب اغفر لى - أو قال - ثم اذا دعا استجيب له فان عزم
فتوضأ ثم صلى قبلت صلاته " وعن مجاهد قال " وسبح بحمد بك حين تقوم
" أى منكل مجلس وعن أبى الأحوص قال اذا أراد الرجل أن يقوم من مجلسه قال
سبحانك اللهم وبحمدك وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه
قال " من جلس فى مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه سبحانك اللهم
وبحمدك أشهد أن لا اله الا أنت أستغفرك وأتوب اليك الا غفر الله له ما كان فى
مجلسه ذلك " ، " وَمِنَ
ٱلَّيۡلِ فَسَبِّحۡهُ " يقول الله تعالى لرسوله كذلك داعيا رسوله صلى الله
عليه وسلم أن اذكر الله واعبده بالتلاوة والصلاة فى الليل ، " وَإِدۡبَٰرَ
ٱلنُّجُومِ " الادبار هو الذهاب والتولى وادبار النجوم هو غيابها وقال ابن
عباس أنهما الركعتان اللتان قبل صلاة الفجر فانهما مشروعتان عند ادبار النجوم أى
عند جنوحها للغيبوبة وقد روى عن أبى هريرة مرفوعا " لا تدعوهما وان طردتكم
الخيل " يعنى ركعتى الفجر رواه أبو داود وعن عائشة رضى الله عنها قالت لم يكن
رسول الله صلى الله عليه وسلم على شىء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتى الفجر
، وفى لفظ لمسلم " ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها " .
تفسير الجزء السابع والعشرين
تفسير سورة النجم
سورة النجم سورة مكية ، عدد آياتها 62 آية ، وهى تتسم بما
اتسمت به السور المكية من قصر الآيات ، وفيها الحديث عن قدرة الله فى خلقه ، وفيها
ذكر لقضية العقيدة وتثبيت للرسول صلى الله عليه وسلم فى مواجهة المشركين ،وفيها
ذكر لمن سبق من الأمم وما حل بهم وحال الرسل والأنبياء معهم ، وفيها حديث عن الوحى
وهو ذو مرة شديد القوى وتنزله على الرسول
صلى الله عليه وسلم تنزله الأرضى وتنزله فى رحلة المعراج التى كانت فى السماء ،
وعن عبد الله قال أول سورة أنزلت فيها سجدة فسجد النبى صلى الله عليه وسلم وسجد من
خلفه .
وَٱلنَّجۡمِ
إِذَا هَوَىٰ ١ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ ٢ وَمَا يَنطِقُ عَنِ
ٱلۡهَوَىٰٓ ٣ إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ ٤
"
وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ " تبدأ السورة بقسم من الله تعالى بآية كونية من
خلقه وهو النجم وسقوطه وقال الشعبى وغيره : الخالق يقسم بما شاء من خلقه ،
والمخلوق لا ينبغى له أن يقسم الا بالخالق واختلف المفسرون فى المعنى ولكن نقول أن
القرآن قد سبق عصره وللعلم الحديث تفسيراته وعلم الفلك الحديث كشف لنا كثير من
آيات الكون وكان القرآن دائما سباقا فالسماء مليئة بالنجوم وكل يوم تولد نجوم وتنفجر
وتتهاوى نجوم وفى سورة أخرى قال " فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس " التكوير 15 - 16 يقول
علم الفلك الحديث أن هناك نجوم كانسة تبتلع غيرها من نجوم الفضاء فعلم الله لا
نحيط به ولكن كل ما نقوله هو اجتهادات وقال الضحاك تهوى اذا رمى بها الشياطين وهذه
الآية كقوله تعالى " فلا أقسم بمواقع النجوم * وانه لقسم لو تعلمون عظيم
" فالله يقسم بآيات تبرز قدرته وعظمته المعجزة فى الخلق ، " مَا ضَلَّ
صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ " هذا هو المقسم عليه وهو الشهادة للرسول صلى الله
عليه وسلم بأنه راشد تابع للحق ليس بضال والضال هو الجاهل الذى يسلك على غير طريق
بغير علم والغاوى هو العالم بالحق العادل عنه قصدا الى غيره فنزه الله رسوله وشرعه
عن مشابهة أهل الضلال كالنصارى وطرائق اليهود ، وهى علم الشىء وكتمانه والعمل
بخلافه ، بل هو صلاة الله وسلامه عليه وما بعثه به الله من الشرع العظيم فى غاية
الاستقامة والاعتدال والسداد ولهذا قال تعالى " وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ " أى ما
يقول قولا عن هوى وغرض ، " إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ " انما يقول ما أوحى
اليه من ربه وما أمر به يبلغه الى الناس كاملا موفورا من غير زيادة ولا نقصان وعن
أبى هريرة رضى الله عنه قال " ما أخبرتكم أنه من عند الله فهو الذى لا شك فيه
" وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
" لا أقول الا حقا " قال بعض الصحابة فانك تداعبنا يا رسول الله ؟ قال
" انى لا أقول الا حقا " .
عَلَّمَهُۥ
شَدِيدُ ٱلۡقُوَىٰ ٥ ذُو مِرَّةٖ فَٱسۡتَوَىٰ ٦ وَهُوَ بِٱلۡأُفُقِ ٱلۡأَعۡلَىٰ ٧ ثُمَّ دَنَا
فَتَدَلَّىٰ ٨ فَكَانَ قَابَ قَوۡسَيۡنِ أَوۡ أَدۡنَىٰ ٩ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَىٰ
عَبۡدِهِۦ مَآ أَوۡحَىٰ ١٠ مَا كَذَبَ ٱلۡفُؤَادُ مَا رَأَىٰٓ ١١
أَفَتُمَٰرُونَهُۥ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ ١٢ وَلَقَدۡ رَءَاهُ نَزۡلَةً أُخۡرَىٰ ١٣
عِندَ سِدۡرَةِ ٱلۡمُنتَهَىٰ ١٤ عِندَهَا جَنَّةُ ٱلۡمَأۡوَىٰٓ ١٥ إِذۡ يَغۡشَى
ٱلسِّدۡرَةَ مَا يَغۡشَىٰ ١٦ مَا زَاغَ ٱلۡبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ ١٧ لَقَدۡ رَأَىٰ
مِنۡ ءَايَٰتِ رَبِّهِ ٱلۡكُبۡرَىٰٓ ١٨
"
عَلَّمَهُۥ شَدِيدُ ٱلۡقُوَىٰ " شديد القوى هو رسول الوحى من الله جبريل عليه
السلام وهو وصف من الله لجبريل فهو يتميز بالقوة الشديدة فعدد اجنحته أكثر من
ستمائة جناح وكان يأتى بخبر السماء فى لمح البصر وكان اذا جاء فى هيئته سد صفحة
السماء فكان يأتى الرسول صلى الله عليه وسلم على هيئة بشر وقال الله تعالى عنه أنه
هو الذى علم رسوله صلى الله عليه وسلم الذى جاء به الى الناس من وحى ربه كما قال
تعالى " انه لقول رسول كريم * ذى قوة عند ذى العرش مكين * مطاع ثم أمين
" ، " ذُو مِرَّة" يصف الله عز وجل جبريل بأنه ذو مرة أى ذو قوة وقال ابن عباس ذومنظر
حسن ولا منافاة بين القولين فان جبريل عليه السلام ذو منظر حسن وقوة شديدة وقد ورد
فى الحديث عن ابن عمر وأبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لا تحل
الصدقة لغنى ولا لذى كرة سوى " أى من هو سليم البدن قوى ، "فَٱسۡتَوَىٰ " يقصد الله جبريل عليه
السلام هو الذى استوى ، " وَهُوَ
بِٱلۡأُفُقِ ٱلۡأَعۡلَىٰ " قال الحسن ومجاهد وغيرهما يعنى جبريل استوى فى
الأفق الأعلى وعن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل
فى صورته الا مرتين أما واحدة فانه سأله أن يراه فى صورته فسجد الأفق ، ، وقد وردت
تفاسير لهذه الآيات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل مرتين على هيئته
الأولى كانت المرة الأولى قبل ليلة الاسراء وتصف الآيات ذلك وهذه الآيات تتحدث عن ذلك عن المرة الأولى فى الآيات
"عَلَّمَهُۥ شَدِيدُ ٱلۡقُوَىٰ * ذُو
مِرَّةٖ فَٱسۡتَوَىٰ * وَهُوَ بِٱلۡأُفُقِ
ٱلۡأَعۡلَىٰ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ *
فَكَانَ قَابَ قَوۡسَيۡنِ أَوۡ أَدۡنَىٰ * فَأَوۡحَىٰٓ إِلَىٰ عَبۡدِهِۦ مَآ
أَوۡحَىٰ * مَا كَذَبَ ٱلۡفُؤَادُ مَا
رَأَىٰٓ * أَفَتُمَٰرُونَهُۥ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ " تتحدث هذه الآيات عن ذهب
جماعة الى أنه رآه بعينه لم يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل فى صورته الا
مرتين مرة فى أجياد وله ستمائة جناح قد سد الأفق ومرة عند سدرة المنتهى نزول الوحى
على الرسول صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى الأرض فهبط عليه
جبريل عليه السلام وتدلى اليه فاقترب منه وهو على الصورة التى خلقه الله عليها له
ستمائة جناح ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى يعنى ليلة الاسراء وكانت
الرؤية الأولى فى أوائل البعثة بعد ما جاءه جبريل عليه السلام أول مرة فأوحى الله
اليه صدر سورة اقرأ ، ثم فتر الوحى فترة ذهب النبى صلى الله عليه وسلم فيها مرارا
ليتردى من رءوس الجبال فكلما هم بذلك ناداه جبريل من الهواء يا محمد أنت رسول الله
حقا وأنا جبريل فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه وكلما طال عليه الأمر عاد لمثلها حتى
تبدى له جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح فى صورته التى خلقه الله
عليها له ستمائة جناح قد سد عظم خلقه الأفق فاقترب منه وأوحى اليه عن الله عز وجل
ما أمره به فعرف عند ذلك عظمة الملك الذى جاءه بالرسالة وجلالة قدره وعلو مكانته
عند خالقه الذى بعثه اليه ، وأما الثانية
فانه كان معه حيث صعد فى الاسراء والمعراج " وَلَقَدۡ رَءَاهُ نَزۡلَةً
أُخۡرَىٰ * عِندَ سِدۡرَةِ ٱلۡمُنتَهَىٰ *عِندَهَا جَنَّةُ ٱلۡمَأۡوَىٰٓ * إِذۡ
يَغۡشَى ٱلسِّدۡرَةَ مَا يَغۡشَىٰ " والمعنى أن هذا الشديد القوى ذى المرة أى
جبريل عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم صحب الرسول صلى الله عليه وسلم فى
المرة الثانية وهى النزلة الآخرى حتى سدرة المنتهى التى عندها الجنة وقد تقدم فى
أحاديث الاسراء أنه غشيتها الملائكة مثل الغربان وغشيها نور الرب وغشيها ألوان ما
أدرى ما هى ؟ زعن ابن مسعود قال لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به
الى سدرة المنتهى وهى فى السماء السابعة اليها ينتهى ما يعرج به من الأرض فيقبض
منها واليها ينتهى ما يهبط به من فوقها فيقبض منها وعن أبى هريرة قال لما أسرى
برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى الى السدرة فقيل له ان هذه السدرة فغشيها نور
الخلاق وغشيها الملائكة مثل الغربان حين يقعن على الشجر قال فكلمه عند ذلك فقل له
سل ، وعن مجاهد فى قوله " اذ يغشى السدرة ما يغشى " قال كان أغصان
السدرة لؤلؤا وياقوتا وزبرجدا فرآها محمد صلى الله عليه وسلم ورأى ربه بقلبه ،
وقال ابن زيد قيل يا رسول الله أى شىء رأيت يغشى تلك السدرة ؟ قال " رأيت
يغشلها فراش من ذهب ورأيت كل ورقةمن ورقها ملكا قائما يسبح الله عز وجل ، " مَا
زَاغَ ٱلۡبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ " قال ابن عباس رضى الله عنهما ما ذهب البصر يمينا
ولا شمالا وما جاوز ما أمر به ، وهذه صفة عظيمة فى الثبات والطاعة فانه ما فعل الا
ما أمر به ولا سأل فوق ما أعطى ، " لَقَدۡ رَأَىٰ مِنۡ ءَايَٰتِ رَبِّهِ
ٱلۡكُبۡرَىٰٓ " الآيات الكبرى الدالة على قدرة الله وعظمته كقوله تعالى
" لنريه من آياتنا الكبرى " وقد تقدم ذلك فى سورة الاسراء .
أَفَرَءَيۡتُمُ ٱللَّٰتَ وَٱلۡعُزَّىٰ ١٩
وَمَنَوٰةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ ٢٠ أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلۡأُنثَىٰ ٢١
تِلۡكَ إِذٗا قِسۡمَةٞ ضِيزَىٰٓ ٢٢ إِنۡ هِيَ إِلَّآ أَسۡمَآءٞ
سَمَّيۡتُمُوهَآ أَنتُمۡ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن
سُلۡطَٰنٍۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَمَا تَهۡوَى ٱلۡأَنفُسُۖ وَلَقَدۡ
جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلۡهُدَىٰٓ ٢٣ أَمۡ لِلۡإِنسَٰنِ مَا تَمَنَّىٰ ٢٤
فَلِلَّهِ ٱلۡأٓخِرَةُ وَٱلۡأُولَىٰ ٢٥ ۞وَكَم مِّن مَّلَكٖ
فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ لَا تُغۡنِي شَفَٰعَتُهُمۡ شَيًۡٔا إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ أَن يَأۡذَنَ ٱللَّهُ
لِمَن يَشَآءُ وَيَرۡضَىٰٓ ٢٦
" أَفَرَءَيۡتُمُ ٱللَّٰتَ
وَٱلۡعُزَّىٰ " يقول الله تعالى مقرعا المشركين فى عبادتهم الأصنام والأنداد
والأوثان واتخاذهم لها البيوت مضاهاة للكعبة التى بناها خليل الرحمن عليه السلام واللات
كانت صخرة بيضاء منقوشة وعليها بيت بالطائف له أستار وسدنة وحوله فناء معظم عند
أهل الطائف وهم ثقيف ومن تابعها يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش
وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله فقالوا اللات يعنون مؤنثة منه تعالى الله عن
قولهم علوا كبيرا وحكى عن ابن عباس وغيره أنهم قرءوا اللات بتشديد التاء وفسروه
بأنه كان رجلا يلت للحجيج فى الجاهلية السويق فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه وقال
ابن اسحاق كانت اللات لثقيف بالطائف وكان سدنتها وحجابها بنى معتب وقد بعث اليها
رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن حرب فهدماها
وجعلا مكانها مسجدا بالطائف وقال ابن جرير
وكذا العزى من العزيز وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة وهى بين مكة والطائف
كانت قريش يعظمونها كما قال أبو سفيان يوم أحد لنا العزى ولا عزى لكم فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم " قولوا الله مولانا ولا مولى لكم " ، وعن أبى
هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من حلف فقال فى حلفه واللات
والعزى فليقل لا اله الا الله ، ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق " فهذا
محمول على من سبق لسانه فى ذلك كما كانت ألسنتهم قد اعتادته فى زمن الجاهلية وعن
سعد بن أبى وقاص عن أبيه قال حلفت بالات والعزى فقال لى أصحابى بئس ما قلت قلت
هجرا فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال " قل لااله الا
الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير وانفث عن شمالك
ثلاثا وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم لا تعد " ، " وَمَنَوٰةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ " ومناة
كانت بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة وكانت خزاعة والأوس والخزرج فى جاهليتها
يعظمونها ويهلون منها للحج الى الكعبة وروى البخارى عن عائشة رضى الله عنها نحوه
وقد كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة غير هذه
الثلاثة التى نص عليه القرآن وانما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها ، وقال
ابن اسحاق فى السيرة وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت وهى بيوت تعظمها
كتعظيم الكعبة لها سدنة وحجاب وتهدى لها كما تهدى للكعبة وتطوف بها كطوافها بها ، وتنحر
عندها وهى تعرف فضل الكعبة عليها لأنها كانت قد عرفت أنها بيت ابراهيم عليه السلام
ومسجده فكانت لقريش ولبنى كنانة العزى بنخلة وكان سدنتها وحجابها بنى شيبان من
سليم حلفاء بنى هاشم بعث اليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد
فهدمها وقال ابن اسحاق كانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على
ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم اليها أبا
سفيان صخر بن حرب فهدمها ويقال على بن أبى طالب وكانت ذو الخلصة لدوس وخشعم وبجيلة
ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة وكان يقال لها الكعبة اليمانية والكعبة التى بمكة
الكعبة الشامية فبعث اليها رسول الله صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله البجلى
فهدمه ، " أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ
ٱلۡأُنثَىٰ تِلۡكَ إِذٗا قِسۡمَةٞ ضِيزَىٰٓ" بعد أن
ذكر الله تعالى ما كان يعبده فريق من العرب وأشهر الأصنام عرج على توبيخ المشركين
من أنهم جعلوا لله ولدا أنثى فقال أتجعلون له ولدا وتجعلون ولده أنثى وتختارون
لأنفسكم الذكور فلو اقتسمتم أنتم ومخلوق مثلكم هذه القسمة لكانت قسمة جور باطلة
فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التى لو كانت بين مخلوقين كانت جورا وسفها ؟ ، " إِنۡ هِيَ إِلَّآ أَسۡمَآءٞ سَمَّيۡتُمُوهَآ
أَنتُمۡ وَءَابَآؤُكُم " قال تعالى منكرا على المشركين ما ابتدعوه وأحدثوه
من الكذب والافتراء والكفر من عبادة الأصنام وتسميتها آلهة فأنتم وآباؤكم من قبلكم
سميتموها من تلقاء أنفسكم ، " مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلۡطَٰنٍۚ"
هذه التسميات ما أنزل الله بها من حجة ، "إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ
وَمَا تَهۡوَى ٱلۡأَنفُسُ" ليس لهؤلاء المشركين مستند الا حسن ظنهم بآبائهم
الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم وتعظيم آبائهم الأقدمين ، " وَلَقَدۡ
جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلۡهُدَىٰٓ " ولقد أرسل الله اليهم الرسل بالحق
المنير والحجة القاطعة ومع هذا ما اتبعوا ما جاءهم به ولا انقادوا له ثم قال تعالى
" أَمۡ لِلۡإِنسَٰنِ مَا تَمَنَّىٰ " يقول عز وجل ليس كل من تمنى خيرا حصل
له فليس كل ما يتمناه الانسان يدركه كما قال تعالى " كما قال تعالى "
ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب " ما كل من زعم أنه مهتد يكون كما قال ولا
كل من ورد شيئا يحصل له وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم " اذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فانه لا يدرى ما يكتب له من
أمنيته " تفرد به أحمد ، "فَلِلَّهِ ٱلۡأٓخِرَةُ وَٱلۡأُولَىٰ "
يقول الله عز وجل انما الأمر كله لله مالك الدنيا والآخرة والمتصرف فى الدنيا
والآخرة فهو الذى ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، " وَكَم مِّن مَّلَكٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ لَا
تُغۡنِي شَفَٰعَتُهُمۡ شَيًۡٔا إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ أَن يَأۡذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَآءُ
وَيَرۡضَىٰٓ " اذا كان الملائكة المقربين فى السموات لا يملكون الشفاعة فكيف
ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأصنام والأنداد عند الله تعالى وهو تعالى لم يشرع
عبادتها ولا أذن فيها بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله وأنزل بالنهى عن ذلك
جميع كتبه ؟ فهو وحده المكفل بالشفاعة لمن يشاء له الشفاعة ويرضاها له .
إِنَّ
ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ لَيُسَمُّونَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ تَسۡمِيَةَ
ٱلۡأُنثَىٰ ٢٧ وَمَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّۖ وَإِنَّ
ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيۡٔٗا ٢٨ فَأَعۡرِضۡ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكۡرِنَا وَلَمۡ يُرِدۡ
إِلَّا ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا ٢٩ ذَٰلِكَ مَبۡلَغُهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِۚ إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ
ٱهۡتَدَىٰ ٣٠
" إِنَّ ٱلَّذِينَ لَا
يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ لَيُسَمُّونَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ تَسۡمِيَةَ ٱلۡأُنثَىٰ "
يقول الله تعالى منكرا على المشركين فى تسميتهم الملائكة تسمية الأنثى وجعلهم لها
أنها بنات الله تعالى الله عن ذلك كما قال تعالى " وجعلوا الملائكة الذين هم
عباد الرحمن اناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسئلون " ولهذا قال تعالى
" وَمَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍ" يقول الله تعالى منكرا على المشركين
ليس لهم علم صحيح بصدق ما قالوه بل هو كذب وزور وافتراء وكفر شنيع ، " إِن
يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّۖ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيۡٔٗا " هؤلاء الكفار اعتقادهم وما
يقولون هو كذب لا محل له من دليل ولا صدق ومشكوك فيه وليس اعتقاد راسخ ولا يمكن
للشك أى الكلام الباطل الغير مستند الى دليل أن يقوم أبدا مقام الحق وقد ثبت فى
الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اياكم والظن فان الظن أكذب
الحديث " ، " فَأَعۡرِضۡ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكۡرِنَا وَلَمۡ
يُرِدۡ إِلَّا ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا " يقول عز وجل أعرض عن الذى أعرض عن
الحق وهجره وانما أكثر همه ومبلغ علمه الدنيا فذاك هو غاية ما لا خير فيه ولهذا
قال تعالى " ذَٰلِكَ مَبۡلَغُهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِۚ" أن غاية من أعرض عن
ذكر الله ونهاية علمه هوطلب الدنيا والسعى لها وهو غاية ما وصلوا اليه وعن عائشة
رضى الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الدنيا دار من لا دار
له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا
عقل له " وفى الدعاء المأثور "
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا " ، "إِنَّ رَبَّكَ
هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱهۡتَدَىٰ
" يقول الله عزوجل أنه هووحده الخالق لجميع المخلوقات والعالم بمصالح عباده
وهو الذى يهدى من يشاء ويضل من يشاء وذلك كله عن قدرته وعلمه وحكمته وهو العادل
الذى لا يجور أبدأ لا فى شرعه ولا فى قدره .
وَلِلَّهِ
مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ
بِمَا عَمِلُواْ وَيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ بِٱلۡحُسۡنَى ٣١ ٱلَّذِينَ
يَجۡتَنِبُونَ كَبَٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ
رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ
ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ
أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ ٣٢
" وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي
ٱلۡأَرۡضِ لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيَجۡزِيَ
ٱلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ بِٱلۡحُسۡنَى " يخبر الله أنه مالك السموات والأرض وله
كل ما فيهما والمتحكم فيهما وهو الكريم فى عطاءه وأنه الغنى عما سواه الحاكم فى
خلقه بالعدل وخلق الخلق بالحق فهو يجازى كلا بعمله ان خيرا فخير ، وان شرا
فشر،"ٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا
ٱللَّمَمَ" فسر الله عز وجل المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الاثم
والفواحش ، أى لا يتعاطون المحرمات الكبائر وان وقع منهم بعض الصغائر فانه يغفر
لهم ويستر عليهم كما قال فى آية أخرى " ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر
عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما " وهذا استثناء منقطع لأن اللمم من صغائر
الذنوب ومحقرات الأعمال وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال ما رأيت شيئا أشبه باللمم
مما قال أبو هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم " ان الله تعالى كتب على ابن
آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ،
والنفس تتمنى وتشتهى ، والفرج يصدق ذلك ويكذبه " وعن ابن مسعود قال "
زنا العينين النظر ،وزنا الشفتين التقبيل ، وزنا اليدين البطش ، وزنا الرجلين
المشى ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه فان تقدم بفرجه كان زانيا والا فهو اللمم "
وقال عبد الرحمن بن نافع الذى يقال له ابن لبابة الطائفى قال سألت أبا هريرة عن
قول الله "الا اللمم " قال
القبلة والغمزة والنظرة والمباشرة فاذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل وهو الزنا
" وقال ابن عباس " الا اللمم " الا ما سلف وفى قول آخرعن ابن عباس
رضى الله عنهما فى قوله تعالى "ٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ
وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَم" قال هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب وعن أبى
هريرة قال اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود ، واللمم من السرقة ثم يتوب ولا يعود
واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود قال فذلك الالمام وعن الحسن قال اللمم من
الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ثم لا يعود وقال كذلك كان أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقولون هو الرجل يصيب اللمة من الزنا واللمة من شرب الخمر فيجتنبها
ويتوب منها وفى قول آخر عن ابن عباس قال كل شىء بين الحدين حد الدنيا وحد الآخرة
تكفره الصلوات فهو اللمم وهو دون كل موجب ،" إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ
ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ " يتحدث الله تعالى أن رحمته وسعت كل شىء ومغفرته تسع الذنوب
كلها لمن تاب كقوله " قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة
الله ان الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم " ، "هُوَ أَعۡلَمُ
بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ " يخبر الله عز وجل عباده قائلا لهم
هو بصير بكم عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التى ستصدر عنكم وتقع منكم حين أنشأ
أباكم آدم من الأرض واستخرج ذريته من صلبه أمثال الذر ثم قسمهم فريقين فريقا للجنة
وفريقا للسعير وكذا قوله " وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ" يقول الله عز وجل أنه
قد كتب الملك الذى يوكل بابن آدم وهو فى بطن أمه جنينا رزقه وأجله وعمله وشقى أم
سعيد ؟ ، "فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ
" ينهى الله عز وجل عن تزكية المرء لنفسه أى يمدحها ويشكرها ويمن بأعماله فهو
وحده العليم بمن يتظاهر وبمن فى قلبه التقوى لله وخشيته كما قال تعالى " ألم
تر الى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكى من يشاء ولا يظلمون فتيلا " وعن عبد
الرحمن بن أبى بكرة عن أبيه قال مدح رجل رجلا عند النبى صلى الله عليه وسلم فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويلك قطعت عنق صاحبك - مرارا - اذا كان أحدكم
مادحا صاحبه لا محالة فليقل أحسب فلانا والله حسيبه ولا أزكى على الله أحدا أحسبه
كذا وكذا ان كان يعلم ةذلك " وعن همام بن الحارث قال جاء رجل الى عثمان فأثنى
عليه فى وجهه قال فجعل المقداد بن الأسود يحثو فى وجهه التراب ويقول أمرنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم اذا لقينا المداحين أن نحثوا فى وجوههم التراب "
رواه مسلم وأبو داود .
أَفَرَءَيۡتَ
ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ ٣٣ وَأَعۡطَىٰ قَلِيلٗا وَأَكۡدَىٰٓ ٣٤ أَعِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلۡغَيۡبِ فَهُوَ يَرَىٰٓ ٣٥ أَمۡ
لَمۡ يُنَبَّأۡ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ ٣٦ وَإِبۡرَٰهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰٓ ٣٧
أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ ٣٨ وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ
٣٩ وَأَنَّ سَعۡيَهُۥ سَوۡفَ يُرَىٰ ٤٠ ثُمَّ يُجۡزَىٰهُ ٱلۡجَزَآءَ ٱلۡأَوۡفَىٰ
٤١
" أَفَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي
تَوَلَّىٰ " يقول الله تعالى ذاما لمن تولى عن طاعة الله وبعد عنها واتباع
الحق ، " وَأَعۡطَىٰ قَلِيلٗا وَأَكۡدَىٰٓ " قال ابن
عباس أطاع قليلا ثم قطعه قال عكرمة وسعيد فى قوله " وأكدى " كمثل قوم
اذا كانوا يحفرون بئرا فيجدون فى أثناء الحفر صخرة تمنعهم من تمام العمل فيقولون
أكدينا وتركون العمل ، " أَعِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلۡغَيۡبِ فَهُوَ يَرَىٰٓ "
يقول تعالى أعند هذا الذى قد أمسك يده خشية الانفاق وقطع معروفه أعنده علم الغيب
أنه سينفد ما فى يده حتى قد أمسك عن معروفه فهو يرى ذلك عيانا ؟ أى ليس الأمر كذلك
، وانما أمسك عن الصدقة والمعروف والبر والصلة بخلا وشحا وهلعا ولهذا جاء فى
الحديث ´" أنفق بلالا ، ولا تخش من ذى العرش اقلالا " وقد قال تعالى
" وما أنفقتم من شىء فهو يخلفه وهو خير الرازقين " "
أَمۡ لَمۡ يُنَبَّأۡ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ " يقول الله عزوجل متحدثا عن
هذا الذى انقطع عن عمل الخير وتولى عنه أنه ألم يبلغ بما جاء فى صحف موسى عليه
السلام ؟ ،" وَإِبۡرَٰهِيمَ ٱلَّذِي
وَفَّىٰٓ " وألم يبلغ بقصة وخبر ابراهيم عليه السلام الذى وفى طاعة الله فقام
بجميع الأوامر وترك جميع النواهى وبلغ وأدى رسالته الى خلقه على التمام والكمال
فاستحق بذلك أن يكون اماما يقتدى به فى جميع أحواله وأقواله وأفعاله ؟ وقال ابن
عباس " وفى " لله بالبلاغ وقال سعيد بن جبير وفى ما أمر به وقال قتادة
وفى طاعة الله وأدى رسالته الى خلقه كقوله تعالى " واذا ابتلى ابراهيم ربه
بكلمات فأتمهن قال انى جاعلك للناس أماما
" وكقوله تعالى الى رسوله صلى الله عليه وسلم " ثم أوحينا اليك أن اتبع
ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين"،" أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ "
شرع الله تعالى يبين ما كان أوحاه فى صحف ابراهيم وموسى وهو أن كل نفس ظلمت نفسها
بكفر أو شىء من الذنوب فانما عليها وزرها لا يحمله عنها أحد كما قال تعالى "
وان تدع مثقلة الى حملها لا يحمل منه شىء ولو كان ذا قربى " ، " وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ "
كما لا يحمل عليه وزر غيره كذلك لا يحصل من الأجر الا ما كسب هو لنفسه ومن هذه
الآية الكريمة استنبط الشافعى ومن اتبعه أن القراءة لا يصل اهداء ثوابها الى
الموتى لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ولهذا لم يندب اليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم أمته ولا حثهم عليه ولا أرشدهم اليه بنص ولا ايماء ولم ينقل ذلك عن أحد من
الصحابة رضى الله عنهم ، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع
الأقيسة والآراء ، فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما
، وأما الحديث الذى رواه مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم " اذا مات الانسان انقطع عمله الا من ثلاث من ولد صالح يدعو له أو
صدقة جارية من بعده أو علم ينتفع به ، فهذه الثلاثة فى الحقيقة هى من سعيه وكده
وعمله كما جاء فى الحديث ان أطيب ما أكل الرجل من كسبه وان ولده من كسبه ، والصدقة
الجارية كالوقف ونحوه هى من آثار عمله ووقفه وقد قال تعالى " انا نحن نحيى
الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم " والعلم الذى نشره فى الناس فاقتدى به الناس
بعده هو أيضا من سعيه وعمله ، وثبت فى الصحيح " من دعا الى هدى كان له من الأجر
مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا " ، " وَأَنَّ سَعۡيَهُۥ سَوۡفَ يُرَىٰ " يتحدث
الله أن سعى الانسان سوف يراه يوم القيامة من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل
مثقال ذرة شرا يره ، " ثُمَّ
يُجۡزَىٰهُ ٱلۡجَزَآءَ ٱلۡأَوۡفَىٰ " يتحدث الله تعالى أن كل انسان يوفى
أجره بالعدل أتم الجزاء ويوفيه الله أجره بأوفر الجزاء لا ينقص من جزائه ولا أجره
شيئا .
وَأَنَّ
إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلۡمُنتَهَىٰ ٤٢ وَأَنَّهُۥ هُوَ أَضۡحَكَ وَأَبۡكَىٰ ٤٣
وَأَنَّهُۥ هُوَ أَمَاتَ وَأَحۡيَا ٤٤ وَأَنَّهُۥ خَلَقَ ٱلزَّوۡجَيۡنِ ٱلذَّكَرَ
وَٱلۡأُنثَىٰ ٤٥ مِن نُّطۡفَةٍ إِذَا تُمۡنَىٰ ٤٦ وَأَنَّ عَلَيۡهِ ٱلنَّشۡأَةَ
ٱلۡأُخۡرَىٰ ٤٧ وَأَنَّهُۥ هُوَ أَغۡنَىٰ وَأَقۡنَىٰ ٤٨ وَأَنَّهُۥ هُوَ رَبُّ
ٱلشِّعۡرَىٰ ٤٩ وَأَنَّهُۥٓ أَهۡلَكَ عَادًا ٱلۡأُولَىٰ ٥٠ وَثَمُودَاْ فَمَآ
أَبۡقَىٰ ٥١ وَقَوۡمَ نُوحٖ مِّن قَبۡلُۖ إِنَّهُمۡ كَانُواْ هُمۡ أَظۡلَمَ وَأَطۡغَىٰ ٥٢
وَٱلۡمُؤۡتَفِكَةَ أَهۡوَىٰ ٥٣ فَغَشَّىٰهَا مَا غَشَّىٰ ٥٤ فَبِأَيِّ ءَالَآءِ
رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ ٥٥
"
وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلۡمُنتَهَىٰ " يتحدث الله عز وجل أن له المعاد يوم
القيامة وقد ورد فى الحديث الصحيح " يأتى الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا ؟
من خلق كذا ؟ حتى يقول من خلق ربك ؟ فاذا بلغ أحدكم لك فليشستعذ بالله ولينته
" ، " وَأَنَّهُۥ هُوَ أَضۡحَكَ وَأَبۡكَىٰ " يتحدث الله عز وجل عن
قدرته فى خلق عباده فقد خلق فيهم الضحك والبكاء وسببهما وهما مختلفان متناقضان
وهذا مثل من اعجاز الله فقد يختلف البشر فى اللغة والاسبان ولكن لا يختلفون فى
التصرف وفى لغة الأعضاء ورددود فعلها فلغة الأعضاء العضوية وحركاتها واحدة عند كل
البشر وهذا من اعجاز الله ، " وَأَنَّهُۥ هُوَ أَمَاتَ وَأَحۡيَا "
ويتحدث عز وجل عن قدرته فهو الذى بيده الموت والحياة وحده " فلا تدرى نفس
ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأى أرض تموت " وهذا كقوله " الذى خلق الموت
والحياة " ويبق الموت على الحياة لأنه هو الأغلب فالانسان يعمر حياة قصيرة
فهو قبل أن يولد كان فى عالم الغيب ويعيش حياة قصيرة على الأرض ثم يموت ويستمر فى
القبر حتى يبعث الله العباد يوم القيامة ولوقورن عالم الغيب منذ خلق آدم الذى كان
فيه الانسان قبل أن يولد وعالم الغيب
الآخر وهو عالم الأموات حتى يبعث فنجد أنه ليس هناك وجه للمقارنة فعالم الغيب
وعالم الموت هو الغالب وله الغلبة وله السبق ، " وَأَنَّهُۥ خَلَقَ
ٱلزَّوۡجَيۡنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰ * مِن
نُّطۡفَةٍ إِذَا تُمۡنَىٰ " يتحدث
الله كذلك على قدرته فى الخلق للذكر والأنثى من نطفة الرجل الذى تكون فى منيه وهى
شىء ضعغيف لا يرى بالعين المجردة كقوله تعالى " أيحيب الانسان أن يترك سدى *
ألم يك نطفة من منى يمنى * ثم ان علقة فخلق
فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى * أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى
" ، " وَأَنَّ عَلَيۡهِ
ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأُخۡرَىٰ " يتحدث الله عز وجل عن قدرته فى الخلق والبعث فهو
كما خلق البداءة هو قادر على الاعادة وهى النشأة الآخرة يوم القيامة ، " وَأَنَّهُۥ هُوَ أَغۡنَىٰ وَأَقۡنَىٰ "
يدور على هذا كلام كثير من المفسرين فمن التفسير أن الله ملك عباده المال وأغناهم
به وجعله لهم قنية مقيما عندهم فهذا من تمام النعمة عليهم وقال مجاهد " أغنى
" أعطى " وأقنى " رضى وقيل معناه أغنى من شاء من خلقه وأقنى أى
أفقر من شاء منهم ، " وَأَنَّهُۥ
هُوَ رَبُّ ٱلشِّعۡرَىٰ " الشعرى كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما هو هذا
النجم الوقاد الذى يقال له مرزم الجوزاء كانت طائفة من العرب يعبدونه يذكر الله
المشركين أنه هو الاله الواحد الخالق وان الشعرى الذى يعبدونه من دونه هو ربه
وخالقه فكيف يعبدونه من دونه ،"وَأَنَّهُۥٓ أَهۡلَكَ عَادًا ٱلۡأُولَىٰ "
يتحدث الله متوعدا الكفار ومنذرا لهم أنه هو الذى أهلك قوم هود ويقال لهم عاد بن
ارم بن سام بن نوح كما قال تعالى " ألم تر كيف فعل ربك بعاد ارم ذات العماد
التى لم يخلق مثلها فى البلاد " فكانوا من أشد الناس وأقواهم وأعتاهم على
الله تعالى وعلى رسوله فأهلكهم الله " بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليلل
وثمانية أيام حسوما " أى متتابعة ، " وَثَمُودَاْ فَمَآ أَبۡقَىٰ "
وكذلك أهلك الله تعالى قوم ثمود دمرهم لما عقروا الناقة وعصوا رسولهم صالح عليه
السلام فلم يبق منهم أحدا ، " وَقَوۡمَ نُوحٖ مِّن قَبۡلُۖ إِنَّهُمۡ كَانُواْ هُمۡ أَظۡلَمَ وَأَطۡغَىٰ "
وكذلك أهلك الله قوم نوح من قبل هؤلاء وكانوا أشد تمردا من الذين من بعدهم بأن سلط
عليه الطوفان فأغرقهم ولم يبق منهم أحدا ، " وَٱلۡمُؤۡتَفِكَةَ أَهۡوَىٰ " المؤتفكة هى
مدائن قوم لوط قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود
ولهذا قال ،" فَغَشَّىٰهَا مَا غَشَّىٰ " التغشية هى التغطية أى أن
الحجارة التى أرسلها الله عليهم غطتهم كقوله " وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر
المنذرين " ، " فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ " قال
قتدة وابن جريج أى ففى أى نعم الله عليك أيها الانسان تمترى ؟ .
هَٰذَا
نَذِيرٞ
مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلۡأُولَىٰٓ ٥٦ أَزِفَتِ ٱلۡأٓزِفَةُ ٥٧ لَيۡسَ لَهَا مِن دُونِ
ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ ٥٨ أَفَمِنۡ هَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ تَعۡجَبُونَ ٥٩ وَتَضۡحَكُونَ
وَلَا تَبۡكُونَ ٦٠ وَأَنتُمۡ سَٰمِدُونَ ٦١ فَٱسۡجُدُواْۤ لِلَّهِۤ وَٱعۡبُدُواْ۩
٦٢
" هَٰذَا نَذِيرٞ مِّنَ ٱلنُّذُرِ
ٱلۡأُولَىٰٓ " يتحدث الله عزوجل عن رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أنه رسول
من جنس الرسل الأولين الذين أرسلوا من قبله أرسل كما أرسلوا كما قال تعالى "
قل ما كنت بدعا من الرسل " فالرسل هم النذر من الله بعثهم لينذروا قومهم وهو
صلى الله عليه وسلم منهم ،" أَزِفَتِ
ٱلۡأٓزِفَةُ " يتحدث الله عن قرب يوم القيامة وأنه أزف أى قرب وسمى المعاد
بالآزفة أى قريبة الوقوع وليست ببعيد واستخدم كذلك فعل أزفت أى اقتربت فأخذ الاسم واشتق
من الفعل فيكون المعنى اقتربت القريبة وهى القيامة تقريب التقريب للدلالة على القرب
الشديد الغير متوقع ، " لَيۡسَ لَهَا
مِن دُونِ ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ " يحذر الله تعالى من وقوع يوم القيامة وما يحدث
فيه فهو اذا حدث لا يدفعه من دون الله أحد ولا يطلع على علم الساعة وكشفها
وتجليتها الا هو وهو أعلم بما فيها وما يحدث وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى
الحديث " أنا النذير العريان " أى الذى أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن
يلبس عليه شيئا لم يمهل للبس شيئا بل بادر مسرعا الى انذار قومه قبل ذلك فجاءهم
عريانا مسرعا وهو مناسب لقوله " أزفت الآزفة " أى اقتربت القريبة يعنى
يوم القيامة كما قال فى أول السورة التى بعد هذه وهى سورة القمر " اقتربت
الساعة " قال أبوحازم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو نضرة لا أعلم
الا عن سهل بن سعد قال " مثلى ومثل الساعة كهاتين " وفرق بين اصبعيه
الوسطى والتى تلى الابهام ثم قال "مثلى ومثل الساعة كمثل فرسى رهان " أى
فرسان يتسابقان وهذا يبرز سرعة اقتراب ووقوع يوم القيامة ، " أَفَمِنۡ هَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ تَعۡجَبُونَ" يقول الله عزوجل منكرا على المشركين فى
استماعهم الى القرآن واعراضهم عنه وتلهيهم أتعجبون أن يكون هذا القرآ، صحيحا ،
" وَتَضۡحَكُونَ وَلَا تَبۡكُونَ " يتحدث الله تعالى كذلك عن رد فعل
المشركين حيال القرآن أتضحكون من هذا القرآن استهزاء وسخرية ولا تبكون منه كما
يفعل الموقنون به كما أخبر عنهم بقوله " ويخرون للأذقان يبكون ويذيدهم خشوعا
" وهذا يعكس جهلهم وكفرهم وعنادهم الشديد ،" وَأَنتُمۡ سَٰمِدُونَ "
أى معرضون وقال الحسن غافلون وعن ابن عباس تستكبرون ، " فَٱسۡجُدُواْۤ
لِلَّهِۤ وَٱعۡبُدُواْ " يدعوا الله تعالى فى ختام السورة الى الخضوع اليه
والاخلاص له وتوحيده وابراز ذلك بالسجود اليه وعبادته بكل أشكال العبادة والسجود
هو قمة الخضوع والخشوع الى الله تعالى وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد .
تفسير الجزء السابع والعشرين
تفسير سورة القمر
سورة القمر سورة مكية ،عدد آياتها 55
آية ، ييتدث عن حادثة وقعت وهى انشاق القمر ، وقد وقع فى زمان النبى صلى الله عليه
وسلم وأنه كان احدى المعجزات الباهرات وعن أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقين حتى رأوا حراء بينهما "
وعن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم فصار فرقتين فرقة على هذا الجبل وفرقة على هذا الجبل فقالوا سحرنا محمد
فقالوا ان كان سحرنا فانه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم " ، وعن ابن عباس قال
قد مضى ذلك كان قبل الهجرة انشق القمر حتى رأوا شقيه وعن عبد الله بن عمر قال وقد
كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق فلقتين فلقة من دون الجبل
وفلقة من خلف الجبل فقال النبى صلى الله عليه وسلم " اللهم اشهد " وعن
عبد الله قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليهوسلم بمنى فانشق القمر فأخذت فرقة
خلف الجبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"اشهدوا اشهدوا " وعن عبد الله بن مسعود قال : انشق القمر على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة حتى صار فرقتين فقال كفار قريش أهل مكة هذا سحر سحركم به ابن
أبى كبشة فقالوا انظروا ما يأتيكم به السفار فان محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس
كلهم فان كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق وان كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر
سحركم به فجاء السفار وسئلوا وقد قدموا من
كل وجهة فقالوا رأينا فانزل الله تعالى
" ٱقۡتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلۡقَمَرُ " ، تحمل السورة سمات
الصور المكية من قصر الآيات ، كما تثير قضية العقيدة والايمان والكفر ، وتتحدث عن
الأمم السابقة التى كذبت الرسل وكيف أهلكهم الله ونصر رسله كل ذلك ليثبت الله
رسوله صلى الله عليه وسلم فى مواجهة عناد مشركى مكة ، وتتحدث عن الجنة والنار .
ٱقۡتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ
وَٱنشَقَّ ٱلۡقَمَرُ ١ وَإِن يَرَوۡاْ ءَايَةٗ يُعۡرِضُواْ
وَيَقُولُواْ سِحۡرٞ مُّسۡتَمِرّٞ ٢ وَكَذَّبُواْ وَٱتَّبَعُوٓاْ أَهۡوَآءَهُمۡۚ
وَكُلُّ أَمۡرٖ مُّسۡتَقِرّٞ ٣ وَلَقَدۡ جَآءَهُم مِّنَ ٱلۡأَنۢبَآءِ مَا فِيهِ
مُزۡدَجَرٌ ٤ حِكۡمَةُۢ بَٰلِغَةٞۖ فَمَا تُغۡنِ ٱلنُّذُرُ ٥
" يخبر الله تعالى
عن اقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها كما قال تعالى " أتى أمر الله فلا
تستعجلوه " وكما قال " اقترب للناس حسابهم وهم فى غفلة معرضون "
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب أصحابه ذات يوم وقد كادت الشمس أن
تغرب فلم يبق منها الا سف يسير فقال " والذى نفسى بيده ما بقى من الدنيا فيما
مضى منها الا كما بقى من يومكم هذا فيما مضى منه " وما نرى من الشمس الا يسيرا
" ٱقۡتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ
ٱلۡقَمَرُ " يتحدث الله تعالى عن اقتراب يوم القيامة وقد استخدم الفعل الماضى
"اقتربت " ليدل على تحقق الأمر وقرب وقوعه وأن من علامات الساعة انشقاق
القمر وقد ثبت فى الصحيح عن ابن مسعود أنه قال " خمس قد مضين الروم والدخان
واللزام والبطشة والقمر " ،" وَإِن يَرَوۡاْ ءَايَةٗ يُعۡرِضُواْ
وَيَقُولُواْ سِحۡرٞ مُّسۡتَمِرّ" يقول الله تعالى عن المشركين أنهم حتى عندما
يروا دليلا وحجة وبرهانا لا ينقادوا له بل يعرضون عنه ويتركونه وراء ظهورهم
ويقولون هذا الذى شاهدناه من الحجج سحر سحرنا سحر مستمر أى ذاهب وقال مجاهد وغيره
باطل مضمحل لا دوام له ، وقال مجاهد انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم فصار فرقتين فقال النبى صلى الله عليه وسلم لأبى بكر اشهد يا أبا بكر فقال
المشركون سحر القمر حتى انشق وهذا ما تحدثت عنه الآية بعد أن رأى المشركون انشقاق
القمر لم يؤمنوا بأن ذلك معجزة من الله لتدلل على صدق ما جاء به الرسول صلى الله
ليه وسلم بل كذبوا واتهموه بالسحر الذى لا ينقطع ، " وَكَذَّبُواْ
وَٱتَّبَعُوٓاْ أَهۡوَآءَهُمۡۚ " يقول الله تعالى مخبرا عن المشركين أنهم
استمروا فى تكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم وكذبوا بالحق اذ جاءهم واتبعوا ما
أمرتهم به آراؤهم وأهواؤهم من جهلهم وسخافة عقولهم ، " وَكُلُّ أَمۡرٖ مُّسۡتَقِرّ" هذه
جملة تعقيب أى أن الأمر كما قال ابن جريج مستقر بأهله وهذا يوم القيامة وقال السدى
مستقر أى واقع وقال قتادة معناه أن الخير واقع بأهل الخير واقع بأهل الشر وكل ذلك
يكون يوم القيامة يوم الحساب ، " وَلَقَدۡ جَآءَهُم مِّنَ ٱلۡأَنۢبَآءِ مَا
فِيهِ مُزۡدَجَرٌ " يتحدث الله تعالى عن ما حل بالأمم السابقة المكذبة بالرسل
وتحدثت به القصص والأخبار عن ما حل بهم من العقاب والنكال والعذاب مما يتلى عليهم
فى هذا القرآن بما فيه من وعظ يزجر عن الشرك ويردع عنه والتمادى على التكذيب ،
" حِكۡمَةُۢ بَٰلِغَة" يقول عز وجل أن فى هدايته لمن هداه واضلاله لمن أضله
عبرة وحكمة كبيرة ، " فَمَا تُغۡنِ ٱلنُّذُرُ " ولكن أى شىء تغنى النذر
عمن كتب الله عليه الشقاوة وختم على قلبه ؟ فمن الذى يهديه من بعد الله ؟ وهذه
الآية كقوله تعالى " قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين "
وكقوله تعالى " وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون " .
فَتَوَلَّ عَنۡهُمۡۘ
يَوۡمَ يَدۡعُ ٱلدَّاعِ إِلَىٰ شَيۡءٖ نُّكُرٍ ٦ خُشَّعًا أَبۡصَٰرُهُمۡ يَخۡرُجُونَ مِنَ
ٱلۡأَجۡدَاثِ كَأَنَّهُمۡ جَرَادٞ مُّنتَشِرٞ ٧ مُّهۡطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِۖ يَقُولُ ٱلۡكَٰفِرُونَ
هَٰذَا يَوۡمٌ عَسِرٞ ٨ ۞
" فَتَوَلَّ عَنۡهُمۡۘ
يَوۡمَ يَدۡعُ ٱلدَّاعِ إِلَىٰ شَيۡءٖ نُّكُرٍ " يقول الله عزوجل لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم
فتول يا محمد عن هؤلاء الذين اذا رأوا آية يعرضوا ويقولوا هذا سحر باطل أعرض عنهم
وانتظرهم الى شىء منكر فظيع سوف يحل بهم وهو موقف الحساب وما فيه من البلاء
والزلازل والأهوال وقد استخدم تعالى صيغة " شىء " التى تفيد المجهول
وهذا الشىء المجهول يكون " نكر " أى شديد السوء منكر فظيع وهذا تهديد من
الله ووعيد للمشركين ، " خُشَّعًا
أَبۡصَٰرُهُمۡ يَخۡرُجُونَ مِنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ كَأَنَّهُمۡ جَرَادٞ مُّنتَشِر" يتحدث الله عز وجل عن حال
الكفار يوم البعث حين يخرجون من قبورهم ويبعثون ليوم الحساب كأنهم جراد منتشر أى
كأنهم فى انتشارهم وسرعة سيرهم الى موقف الحساب اجابة للداعى جراد منتشر فى الآفاق
ولهذا قال "مُّهۡطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِۖ " مهطعين " أى مسرعين
" الى الداعى " لا يخالفون ولا يتأخرون ، "يَقُولُ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا يَوۡمٌ
عَسِر " عسر أى يوم شديد الهول عبوس قمطرير يصور الله عز وجل حال الكافرين
ومقالهم يوم القيامة وما سوف يواجهونه يوم القيامة فهذا اليوم سيكون عليهم عسيرا
كقوله تعال " فذلك يومئذ يوم عسير * على الكافرين غير يسير " .
كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ
قَوۡمُ نُوحٖ فَكَذَّبُواْ عَبۡدَنَا وَقَالُواْ مَجۡنُونٞ وَٱزۡدُجِرَ ٩ فَدَعَا
رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَغۡلُوبٞ فَٱنتَصِرۡ ١٠ فَفَتَحۡنَآ أَبۡوَٰبَ ٱلسَّمَآءِ
بِمَآءٖ مُّنۡهَمِرٖ ١١ وَفَجَّرۡنَا ٱلۡأَرۡضَ عُيُونٗا فَٱلۡتَقَى ٱلۡمَآءُ
عَلَىٰٓ أَمۡرٖ قَدۡ قُدِرَ ١٢ وَحَمَلۡنَٰهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلۡوَٰحٖ وَدُسُرٖ ١٣ تَجۡرِي
بِأَعۡيُنِنَا جَزَآءٗ لِّمَن كَانَ كُفِرَ ١٤ وَلَقَد تَّرَكۡنَٰهَآ ءَايَةٗ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرٖ ١٥ فَكَيۡفَ كَانَ
عَذَابِي وَنُذُرِ ١٦ وَلَقَدۡ يَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن
مُّدَّكِرٖ ١٧
" كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوح" يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم كذبت قبل قومك يامحمد قوم نوح عليه السلام ، " فَكَذَّبُواْ عَبۡدَنَا وَقَالُواْ مَجۡنُونٞ وَٱزۡدُجِرَ " يقول الله عز وجل أن قوم نوح عليه السلام كذبوه واتهموه بالجنون فقالوا عنه كما قال مجاهد مجنون وازدجر أى استطير جنونا وقيل وازدجر أى انتهروه وزجروه وتواعدوه لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين ، " فَدَعَا رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَغۡلُوبٞ فَٱنتَصِرۡ"توجه نوح عليه السلام فى مواجهة اعراض قومه بالدعاء عليهم وطلب النصرة من الله فقال انى ضعيف عن هؤلاء وعن مقاومتهم فانتصر أنت لدينك ، " فَفَتَحۡنَآ أَبۡوَٰبَ ٱلسَّمَآءِ بِمَآءٖ مُّنۡهَمِر" نصر الله عبده نوح عليه السلام واستجاب لدعائه فنزل من السماء مطر غزير كثير انهمر من السماء ليغرق الأرض " وَفَجَّرۡنَا ٱلۡأَرۡضَ عُيُونٗا " وفجر الله عيوان الماء من الأرض " فَٱلۡتَقَى ٱلۡمَآءُ عَلَىٰٓ أَمۡرٖ قَدۡ قُدِرَ " ليلتقى ماء السماء مع ماء الأرض ليكون الهلاك من فوق قوم نوح ومن أسفلهم فلا مفر لهم ولا منقذ بأمر مقدر من الله عز وجل وقال ابن عباس فتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم ولم تمطر قبل ذلك اليوم ولا بعده الا من السحاب فالتقى الماآن ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قدره الله ، "وَحَمَلۡنَٰهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلۡوَٰحٖ وَدُسُر" ذان الألواح لأنها تصنع من ألواح الخشب والدسر هى السفينة والدسر أى المسامير كما قال ابن عباس وغيره وقال ابن جرير واحدها دسار ويقال دسير وقال مجاهد الدسر أضلاع السفينة وقال عكرمة هو صدرها الذى يضرب به الموج وقال الضحاك الدسر طرفاها وأصلها وقال ابن عباس كذلك هو كلكلها أى صدرها وقد علم الله تعالى نوح عليه السلام صناعة السفن ، " تَجۡرِي بِأَعۡيُنِنَا " يتحدث الله عز وجل عن رعايته للسفينة بحيث لا ينزل فيها ماء المطر من السماء ولا يجرفها الماء الغزير فكانت تسير برعاية الله وتحت بصره أى رعايته وتحت حفظه وكلاءته ، " جَزَآءٗ لِّمَن كَانَ كُفِرَ " كان هذا الاغراق جزاءا لقوم نوح على كفرهم بالله وانتصارا لنوح عليه السلام ، " وَلَقَد تَّرَكۡنَٰهَآ ءَايَة" قال قتادة أبقى الله تعالى سفينة نوح حتى أدركها أول هذه الأمة كقوله تعالى " انا لما طغى الماء حملناكم فى الجارية * لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية " ولهذا قال تعالى هنا " فَهَلۡ مِن مُّدَّكِر" يقول الله عز وجل معقبا فهل من يتذكر ويتعظ ، " فَكَيۡفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ " ويقول الله تعالى معقبا كذلك كيف كان عذابى لمن كفر بى وكذب رسلى ولم يتعظ بما جاءت به نذرى وكيف انتصرت لهم وأخذت لهم بالثأر ، " وَلَقَدۡ يَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِر " يقول تعالى لقد سهلنا لفظ القرآن ويسرنا معناه لمن أراده ليتذكر الناس كما قال تعالى "كتاب أنزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب " وكا قال تعالى " فانما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا " وقال مجاهد " وَلَقَدۡ يَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ " يعنى هونا قراءته وقال السدى يسرنا تلاوته على الألسن وقال ابن عباس لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عز وجل ، قلت ومن تيسيره تعالى على الناس تلاوة القرآن ما تقدم عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال " ان هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف" وتكرر قوله تعالى " فَهَلۡ مِن مُّدَّكِر " أى فهل من متذكر بهذا القرآن الذى قد يسرالله حفظه ومعناه ؟ وقال محمد بن كعب القرظى فهل من منزجر عن المعاصى ؟ ، يكرر الله هذه الآية معقبا بعد أن يحكى قصة نبى مع قومه للتنبيه بالاستفادة من هذه القصة ومما جاء به القرآن من آيات الله والحكمة .
كَذَّبَتۡ عَادٞ فَكَيۡفَ كَانَ
عَذَابِي وَنُذُرِ ١٨ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا صَرۡصَرٗا فِي يَوۡمِ نَحۡسٖ مُّسۡتَمِرّٖ ١٩ تَنزِعُ ٱلنَّاسَ
كَأَنَّهُمۡ أَعۡجَازُ نَخۡلٖ مُّنقَعِرٖ ٢٠ فَكَيۡفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ٢١ وَلَقَدۡ
يَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرٖ ٢٢
" كَذَّبَتۡ عَادٞ فَكَيۡفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ " يقول الله تعالى مخبرا
عن عاد وهم قوم هود عليه السلام أنهم كذبوا رسولهم أيضا كما صنع قوم نوح عليه
السلام فأهلكهم الله ويدعو الله تعالى الى تدبر ما أحل بهم من عذاب شديد فيقول
تدبروا كيف كانعذابى لمن كفر بى وكذب رسلى ولم يتعظ بما جاءت به نذرى وكيف انتصرت
لهم وأخذت لهم بالثأر ، " إِنَّآ
أَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا صَرۡصَرٗا فِي يَوۡمِ نَحۡسٖ مُّسۡتَمِرّ" يتحدث الله عز وجل عن اهلاك عاد بالريح الباردة الشديدة
البرد فى يومنحس عليهم مستمر نحسه ودماره يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوى بالأخروى ولم ينقطع حتى هلاكهم جميعا ، " تَنزِعُ
ٱلنَّاسَ كَأَنَّهُمۡ أَعۡجَازُ نَخۡلٖ مُّنقَعِر" هذا تشبيه من الله لما كان عليه الكفار حين أهلكهم فقد شبههم كتلة النخل
المقطوعة حيث كانت جثثهم بدون رؤوس ككتلة الخشب من النخل وهذا تشبيه من البيئة
التى كان ينتشر فيها النخل وذلك أن الريح كانت تأتى أحدهم فترفعه حتى تغيبه عن
الأبصار ثم تنكسه على أم رأسه فيسقط الى الأرض فتثلغ رأسه فيبقى جثة بلا رأس ،
" فَكَيۡفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ " يقول الله تعالى معقبا على ماحدث
لعاد كما عقب على ماحدث لقوم نوح ويقول الله تعالى معقبا كذلك كيف
كان عذابى لمن كفر بى وكذب رسلى ولم يتعظ بما جاءت به نذرى وكيف انتصرت لهم وأخذت
لهم بالثأر ، " وَلَقَدۡ يَسَّرۡنَا
ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِر " يقول تعالى لقد سهلنا لفظ القرآن ويسرنا معناه لمن
أراده ليتذكر الناس كما قال تعالى "كتاب أنزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته
وليتذكر أولوا الألباب " وكما قال تعالى " فانما يسرناه بلسانك لتبشر به
المتقين وتنذر به قوما لدا " وقال مجاهد " وَلَقَدۡ يَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ "
يعنى هونا قراءته وقال السدى يسرنا تلاوته على الألسن وقال ابن عباس لولا أن الله
يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عز وجل ، يكرر الله هذه الآية معقبا بعد
أن يحكى قصة نبى مع قومه للتنبيه بالاستفادة من هذه القصة ومما جاء به القرآن من
آيات الله والحكمة .
كَذَّبَتۡ ثَمُودُ
بِٱلنُّذُرِ ٢٣ فَقَالُوٓاْ أَبَشَرٗا مِّنَّا وَٰحِدٗا نَّتَّبِعُهُۥٓ
إِنَّآ إِذٗا لَّفِي ضَلَٰلٖ وَسُعُرٍ ٢٤ أَءُلۡقِيَ ٱلذِّكۡرُ عَلَيۡهِ مِنۢ
بَيۡنِنَا بَلۡ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٞ ٢٥ سَيَعۡلَمُونَ غَدٗا مَّنِ ٱلۡكَذَّابُ
ٱلۡأَشِرُ ٢٦ إِنَّا مُرۡسِلُواْ ٱلنَّاقَةِ فِتۡنَةٗ لَّهُمۡ
فَٱرۡتَقِبۡهُمۡ وَٱصۡطَبِرۡ ٢٧ وَنَبِّئۡهُمۡ أَنَّ ٱلۡمَآءَ قِسۡمَةُۢ
بَيۡنَهُمۡۖ كُلُّ شِرۡبٖ مُّحۡتَضَرٞ ٢٨ فَنَادَوۡاْ صَاحِبَهُمۡ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ ٢٩
فَكَيۡفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ٣٠ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ فَكَانُواْ كَهَشِيمِ
ٱلۡمُحۡتَظِرِ ٣١ وَلَقَدۡ يَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن
مُّدَّكِرٖ ٣٢
" كَذَّبَتۡ ثَمُودُ بِٱلنُّذُرِ " يتحدث
الله اخبارا عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم صالحا عليه السلام ، " فَقَالُوٓاْ
أَبَشَرٗا مِّنَّا وَٰحِدٗا نَّتَّبِعُهُۥٓ
إِنَّآ إِذٗا لَّفِي ضَلَٰلٖ وَسُعُرٍ "
يقولون لقد خبنا وخسرنا ان سلمنا كلنا قيادنا لواحد منا ، " أَءُلۡقِيَ ٱلذِّكۡرُ عَلَيۡهِ مِنۢ بَيۡنِنَا
بَلۡ هُوَ كَذَّابٌ أَشِر" يتحدث الله عن ثمود أنهم يتعجبون من نزول الوحى عليه
خاصة من دونهم ثم رموه بالكذب فهوكذاب متجاوز فى حد الكذب " سَيَعۡلَمُونَ
غَدٗا مَّنِ ٱلۡكَذَّابُ
ٱلۡأَشِرُ " فقال تعالى متوعدا لهم ومهددا فى تهديد لهم شديد ووعيد أكيد لهم
بالعذاب وسوء العاقبة أنهم سوف يعلمون من سيكون له الصدق والتجاوز فيه هل صالح
عليه السلام أم هم فيما يدعونه من كفر وضلال ، " إِنَّا مُرۡسِلُواْ ٱلنَّاقَةِ فِتۡنَةٗ لَّهُمۡ "
اختبارا لهم أخرج الفله تعالى لهم ناقة عظيمة عشراء من صخرة صماء طبق ما سألوا
لتكون حجة الله عليهم فى تصديق صالح عليه السلام فيما جاءهم به ، "فَٱرۡتَقِبۡهُمۡ
وَٱصۡطَبِرۡ " قال الله تعالى آمرا لعبده وروله صالح عليه السلام انتظر ما
يئول اليه أمرهم واصبر عليهم فان العاقبة لك والنصر فى الدنيا والآخرة ، " وَنَبِّئۡهُمۡ
أَنَّ ٱلۡمَآءَ قِسۡمَةُۢ بَيۡنَهُمۡ" يقول الله عز وجل لنبيه صالح عليه
السلام أن يخبر قومه أن الماء يقتسم بين الناقة وبين قومه لهم يوم ويوم للناقة
كقوله تعالى "قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم " ، " كُلُّ
شِرۡبٖ مُّحۡتَضَر" قال مجاهد اذا غابت
الناقة حضروا الماء واذا جاءت الناقة حضروا اللبن فقد كانو يستفيدون بلبنها أى
أنهم مستفيدون فى كل الأحوال فما تشربه الناقة يحصلون فى مقابله اللبن ، " فَنَادَوۡاْ صَاحِبَهُمۡ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ "
ذكر الله تعالى بايجاز ما فعله قوم صالح للناقة عندما أجمعوا أمرهم لذبح الناقة
لأنها حسب زعمهم تسيطر على الماء وتشرب كمية كبيرة منه فيحرمون منه كما أنها تثير
الرعب فى أنعامهم كما سبق الكلام حين حل الميعاد استدعوا عاقر الناقة وكان واحدا
منهم قيل أن اسمه قدار بن سالف ووصفه الله بأنه أشقى قومه لما ارتكب من فعلة شنعاء
بذبح الناقة وقال تعالى " فتعاطى " أى خسر وقد خسر الخسران المبين عند
الله لما ينتظره من عذاب فى الدنيا والآخرة عندما فعل ذلك ، " فَكَيۡفَ كَانَ
عَذَابِي وَنُذُرِ " يقول الله تعالى معقبا فعاقبتهم فكيف كان عقابى لهم على
كفرهم بى وتكذيبهم رسولى ، " إِنَّآ أَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ فَكَانُواْ كَهَشِيمِ ٱلۡمُحۡتَظِرِ
" ذكر الله تعالى كيف أهلكت ثمود بالصيحة فكانت صيحة واحدة فبادوا عن آخرهم
لم تبق منهم باقية وخمدوا وهمدوا كما يهمد يبيس الزرع والنبات والمحتظر كما قال
السدى هو المرعى بالصحراء حين ييبس ويحترق وتسفيه الريح وقال ابن زيد كانت العرب
يجعلون حظارا على الابل والمواشى من يبيس الشوك فهو المراد من قوله " كهشيم
المحتظر " ، " وَلَقَدۡ يَسَّرۡنَا
ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِر " يقول تعالى لقد سهلنا لفظ القرآن ويسرنا معناه لمن
أراده ليتذكر الناس كما قال تعالى "كتاب أنزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته
وليتذكر أولوا الألباب " وكما قال تعالى " فانما يسرناه بلسانك لتبشر به
المتقين وتنذر به قوما لدا " وقال مجاهد " وَلَقَدۡ يَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ "
يعنى هونا قراءته وقال السدى يسرنا تلاوته على الألسن وقال ابن عباس لولا أن الله
يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عز وجل ، يكرر الله هذه الآية معقبا بعد
أن يحكى قصة نبى مع قومه للتنبيه بالاستفادة من هذه القصة ومما جاء به القرآن من
آيات الله والحكمة .
كَذَّبَتۡ قَوۡمُ
لُوطِۢ بِٱلنُّذُرِ ٣٣ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ حَاصِبًا إِلَّآ ءَالَ
لُوطٖۖ نَّجَّيۡنَٰهُم
بِسَحَرٖ ٣٤ نِّعۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَاۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي مَن شَكَرَ ٣٥
وَلَقَدۡ أَنذَرَهُم بَطۡشَتَنَا فَتَمَارَوۡاْ بِٱلنُّذُرِ ٣٦ وَلَقَدۡ
رَٰوَدُوهُ عَن ضَيۡفِهِۦ فَطَمَسۡنَآ أَعۡيُنَهُمۡ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ
٣٧ وَلَقَدۡ صَبَّحَهُم بُكۡرَةً عَذَابٞ مُّسۡتَقِرّٞ ٣٨ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ ٣٩ وَلَقَدۡ
يَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرٖ ٤٠
" كَذَّبَتۡ قَوۡمُ لُوطِۢ
بِٱلنُّذُرِ " يقول الله تعالى مخبرا عن قوم لوط كيف كذبوا رسولهم وخالفوه
وارتكبوا المكروه من اتيان الذكور وهى الفاحشة التى لم يسبقهم بها أحد من العالمين
ولهذا أهلكهم الله تعالى هلاكا لم يهلكه أمة من الأمم فانه تعالى أمر جبريل عليه
السلام فحمل مدائنهم حتى وصل بها الى عنان السماء ثم قلبها عليهم وأرسلها واتبعت
بحجارة من سجيل منضود ولهذا قال هنا " إِنَّآ أَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ حَاصِبًا "
الحاصب هى الحجارة أرسلها الله على قوم لوط ،" إِلَّآ ءَالَ لُوطٖۖ نَّجَّيۡنَٰهُم بِسَحَر" نجى الله
تعالى لوط وأهله بان خرجوا من آخر الليل فنجوا مما أصاب قومهم ولم يؤمن بلوط من
قومه أحد ولا رجل واحد حتى ولا امرأته أصابها ما أصاب قومها وخرج نبى الله لوط
وبنات له من بين أظهرهم سالما لم يمه سوء ولهذا قال تعالى " نِّعۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَاۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي مَن
شَكَرَ " يعنى نجوا بفضل من الله ونعمته عليهم جزاءا لهم على اعترافهم بنعمة
الله واتباع ما أنزله وشكرهم له على هذه النعمة بصالح العمل ،" وَلَقَدۡ
أَنذَرَهُم بَطۡشَتَنَا" يتحدث الله تعالى عن انذار لوط عليه السلام لقومه
بحلول العذاب بهم ان لم ينتهوا عن معصيتهم لله قبل حلول العذاب بهم ، "فَتَمَارَوۡاْ
بِٱلنُّذُرِ " وأنذرهم بأس الله وعذابه فما التفتوا الى ذلك ولا أصغوا اليه
بل شكوا فيه وتماروا به ، " وَلَقَدۡ
رَٰوَدُوهُ عَن ضَيۡفِهِ" يتحدث الله عن فعلة قوم لوط وذلك ليلة ورد عليه
الملائكة جبريل وميكائيل واسرافيل فى صور
شباب مردحسان محنة من الله بهم فأضافهم لوط عليه السلام وبعثت امرأته العجوز السوء
الى قومها فأعلمتهم بأضياف لوط عليه السلام فأقبلوا يهرعون اليه من كل مكان فساوموه
فيهم وأرادوا أن يفعلوا بهم الفاحشة فأغلق
لوط دونهم الباب فجعلوا يحاولون كسر الباب وذلك عشية ولوط عليه السلام يدافعهم
ويمانعهم دون أضيافه ، " فَطَمَسۡنَآ
أَعۡيُنَهُمۡ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ " فلما اشتد الحال وأبوا الا
الدخول خرج عليهم جبريل عليه السلام فضرب أعينهم بطرف جناحه فانطمست أعينهم يقال
أنها غارت من وجوههم وقيل انه لم تبق لهم عيون بالكلية فرجعوا عى أدبارهم يتحسسون بالحيطان
ويتوعدون لوطا عليه السلام الى الصباح ،
" وَلَقَدۡ صَبَّحَهُم بُكۡرَةً عَذَابٞ مُّسۡتَقِرّ" عاقب الله
تعالى قوم لوط بما وقع عليهم من عذاب حل
بهم صباحا كما أنذرهم لوط فكان عذاب لا محيد لهم عنه ولا انفكاك لهم منه ، "
فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ " يقول الله تعالى معقبا على ما وقع بقوم لوط
من عذاب أن هذا هو عذابى ونذرى التى أنذرتكم بها وكذبتموها فذوقوها وقد تحققت ،
" وَلَقَدۡ يَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِر" يقول تعالى لقد
سهلنا لفظ القرآن ويسرنا معناه لمن أراده ليتذكر الناس كما قال تعالى "كتاب
أنزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب " وكما قال تعالى
" فانما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا " وقال مجاهد
" وَلَقَدۡ يَسَّرۡنَا
ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ " يعنى هونا قراءته وقال السدى يسرنا تلاوته على
الألسن وقال ابن عباس لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق
أن يتكلم بكلام الله عز وجل ، يكرر
الله هذه الآية معقبا بعد أن يحكى قصة نبى مع قومه للتنبيه بالاستفادة من هذه
القصة ومما جاء به القرآن من آيات الله والحكمة .
وَلَقَدۡ جَآءَ ءَالَ
فِرۡعَوۡنَ ٱلنُّذُرُ ٤١ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا
كُلِّهَا فَأَخَذۡنَٰهُمۡ أَخۡذَ عَزِيزٖ مُّقۡتَدِرٍ ٤٢ أَكُفَّارُكُمۡ خَيۡرٞ مِّنۡ أُوْلَٰٓئِكُمۡ
أَمۡ لَكُم بَرَآءَةٞ فِي ٱلزُّبُرِ ٤٣ أَمۡ يَقُولُونَ نَحۡنُ جَمِيعٞ مُّنتَصِرٞ ٤٤ سَيُهۡزَمُ
ٱلۡجَمۡعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ ٤٥ بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوۡعِدُهُمۡ وَٱلسَّاعَةُ
أَدۡهَىٰ وَأَمَرُّ ٤٦
" وَلَقَدۡ جَآءَ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ ٱلنُّذُرُ " يقول الله تعالى مخبرا عن فرعون وقومه أنهم جاءهم رسول الله موسى وأخوه هارون بالبشارة ان آمنوا والنذارة ان كفروا وأيدهما بمعجزات عظيمة وآيات متعددة " كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذۡنَٰهُمۡ أَخۡذَ عَزِيزٖ مُّقۡتَدِرٍ " فكذبوا بها كلها فأخذهم الله أخذ عزيزمقتدر أى فأبادهم الله ولم يبق منهم مخبر ولا عين ولا أثر ، " أَكُفَّارُكُمۡ " خَيۡرٞ مِّنۡ أُوْلَٰٓئِكُمۡ" أيها المشركون من كفار قريش هل أنتم أفضل من الذين تقدم ذكرهم ممن أهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل وكفرهم بالكتب أأنتم خير أم أولئكم ؟ ،" أَمۡ لَكُم بَرَآءَةٞ فِي ٱلزُّبُرِ " يقول الله لهؤلاء الكفار هل معكم من الله براءة أن لا ينالكم عذاب ولا نكال والزبر هى كتب الله ،" أَمۡ يَقُولُونَ نَحۡنُ جَمِيعٞ مُّنتَصِر" ويقول الله تعالى مخبرا عن الكفار كذلك هل يعتقدون أنهم يتناصرون بعضهم بعضا وأن جمعهم يغنى عنهم من أرادهم بسوء ، " سَيُهۡزَمُ ٱلۡجَمۡعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ " يقول الله عزوجل مهددا للكافرين ومبشرا للمؤمنين أنه تعالى سيفرق شمل الكافرين ويغلبون ويفرون بعد أن تقع بهم هزيمة منكرة فلا يستطيعون الا فرارا ، " بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوۡعِدُهُمۡ وَٱلسَّاعَةُ أَدۡهَىٰ وَأَمَرّ " ويقول عزوجل مهددا الكفار أن موعد حسابهم وعقابهم الذى سيكون بعد هزيمتهم فى الدنيا هو يوم القيامة بعد بعثهم وهذا اليوم سيكون عليهم أكثر فى مصيبته عليهم وسيكون أشد مرارة لهم وعن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال وهو فى قبة له يوم بدر " أنشدك عهدك ووعدك اللهم ان شئت لم تعبد بعد اليوم فى الأرض أبدا " فأخذ أبو بكر رضى الله عنه بيده وقال حسبك يا رسول الله ألححت على ربك فخرج وهو يثب فى الدرع وهو يقول " سيهزم الجمع ويولون الدبر * بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر " وعن عكرمة قال لما نزلت " سَيُهۡزَمُ ٱلۡجَمۡعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ " قال عمر أى جمع يهزم ؟ أى جمع يغلب ؟ " قال عمر فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب فى الدرع وهو يقول " سَيُهۡزَمُ ٱلۡجَمۡعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ " فعرفت تأويلها يومئذ " وقالت عائشة رضى الله عنها نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة وانى لجارية ألعب "بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوۡعِدُهُمۡ وَٱلسَّاعَةُ أَدۡهَىٰ وَأَمَرُّ " .
إِنَّ ٱلۡمُجۡرِمِينَ
فِي ضَلَٰلٖ وَسُعُرٖ ٤٧ يَوۡمَ يُسۡحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ
وُجُوهِهِمۡ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ٤٨ إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ ٤٩ وَمَآ أَمۡرُنَآ
إِلَّا وَٰحِدَةٞ كَلَمۡحِۢ بِٱلۡبَصَرِ ٥٠ وَلَقَدۡ أَهۡلَكۡنَآ
أَشۡيَاعَكُمۡ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرٖ ٥١ وَكُلُّ شَيۡءٖ فَعَلُوهُ فِي
ٱلزُّبُرِ ٥٢ وَكُلُّ صَغِيرٖ وَكَبِيرٖ مُّسۡتَطَرٌ ٥٣ إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي جَنَّٰتٖ وَنَهَرٖ ٥٤ فِي مَقۡعَدِ
صِدۡقٍ عِندَ مَلِيكٖ مُّقۡتَدِرِۢ ٥٥
" إِنَّ
ٱلۡمُجۡرِمِينَ فِي ضَلَٰلٖ وَسُعُر" يخبر الله تعالى عن المجرمين أنهم فى ضلال
بعيدين عن الحق وفى سعر مما هم من الشكوك والاضطراب فى الآراء وهذا يشمل كل من
اتصف بذلك من كافر ومبتدع من سائر الفرق ، " يَوۡمَ يُسۡحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ
وُجُوهِهِمۡ " يقول الله تعالى عن هؤلاء المجرمين أنهم كما كانوا فى سعر وشك
وتردد فى الدنيا أورثهم ذلك النار فى الآخرة وكما كانوا ضلالا فى الدنيا فانهم يسحبون
فيها على وجوههم ولا يدرون أين يذهبون ويقال لهم تقريعا وتوبيخا " ذُوقُواْ
مَسَّ سَقَرَ " تجرعوا العذاب فى سقر وهو اسم من أسماء النار ، " إِنَّا
كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَر" يتحدث الله تعالى أنه قدر قدرا وهدى
الخلائق اليه وهذا كقوله " وخلق كل شىء فقدره تقديرا " وكقوله تعالى
" سبح اسم ربك الأعلى الذى خلق فسوى والذى قدر فهدى " ولهذا يستدل بهذه
الآية أئمة السنة على اثبات قدر الله السابق لخلقه وهو علمه الأشياء قبل كونها
وكتابته لها قبل تبرمها وردوا بهذه الآية بما شاكلها من الآيات وما ورد فى معناها
من الأحاديث الثابتات على الفرقة القدرية الذين نبغوا فى آواخر عصر الصحابة وعن
أبى هريرة قال : جاء مشركو قريش الى النبى صلى الله عليه وسلم يخاصمونه فى القدر
فنزلت " يَوۡمَ يُسۡحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمۡ ذُوقُواْ مَسَّ
سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ
بِقَدَر " وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال ما نزلت هذه الآيات " إِنَّ
ٱلۡمُجۡرِمِينَ فِي ضَلَٰلٖ وَسُعُر* يَوۡمَ يُسۡحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمۡ
ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَر " الا فى
أهل القدر ، وعن ابن زرارة عن أبيه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية
" ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَر "
قال : نزلت فى أناس من أمتى يكونون فى آخر الزمان يكذبون بقدر الله " وعن
نافع قال : كان لابن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه فكتب اليه عبد الله بن عمر انه
بلغنى أنك تكلمت فى شىء من القدر فاياك أن تكتب الى فانى سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول " سيكون فى أمتى أقوام يكذبون بالقدر " وعن ابن عمر قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل شىء بقدر حتى العجز والكيس " وفى
الحديث الصحيح " استعن بالله ولا تعجز فان أصابك أمر فقثل قدر الله وما شاء
فعل ولا تقل لو أنى فعلت لكان كذا فان لو تفتح عمل الشيطان " وفى حديث ابن
عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على
أن ينفعوك بشىء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك ، ولواجتمعوا على أن يضروك بشىء لم
يكتبه الله عليك لم يضروك ، جفت الأقلام وطويت الصحف " وعن على بن أبى طالب
رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليهوسلم" لا يؤمن أحد حتى يؤمن
باربع : يشهد أن لا اله الا الله وأنى رسول الله بعثنى بالحق ويؤمن بالبعث بعد
الموت ويؤمن بالقدر خيره وشره " ، " وَمَآ أَمۡرُنَآ إِلَّا وَٰحِدَةٞ كَلَمۡحِۢ
بِٱلۡبَصَرِ " هذا اخبار عن نفوذ مشيئة الله عز وجل فى خلقه كما أخبر بنفوذ
قدره فيهم أآ انما نأمر بالشىء مرة واحدة لا نحتاج الى تأكيد بثانية فيكون ذلك
الذى نأمر حاصلا موجودا كلمح البصر لا يتأخر طرفة عين ، " وَلَقَدۡ
أَهۡلَكۡنَآ أَشۡيَاعَكُمۡ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِر" يقول الله عز وجل موجها
كلامه الى كفار قريش أهلكنا أمثالكم وسلفكم من الأمم السابقة المكذبين بالرسل فهل
من متعظ بما أخزى الله أولئك وقدر لهم من العذاب كما قال تعالى " وحيل بينهم
وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل " ،" وَكُلُّ شَيۡءٖ فَعَلُوهُ
فِي ٱلزُّبُرِ " يقول تعالى أن كل شىء فعلوه مكتوب عليهم فى الكتب التى بأيدى
الملائكة عليهم السلام ، " وَكُلُّ صَغِيرٖ وَكَبِيرٖ مُّسۡتَطَرٌ " ويقول عز وجل أنكل صغيرة وكبيرة من
أعمالهم مجموع عليهم ومسطر فى صحائفهم ولا يغادر ضغيرة ولا كبيرة الا أحصاها وعن
عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول " يا عائشة
اياك ومحقرات الذنوب فان لها من الله طالبا " ،" إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ
فِي جَنَّٰتٖ وَنَهَر" بعكس ما
الأشقياء فيه من الضلال والسعر والسحب فى النار على وجوههم مع التوبيخ والتقريع
والتهديد فان المتقين فى جنات تجرى من حولهم ومن تحتهم الأنهار ، " فِي
مَقۡعَدِ صِدۡقٍ عِندَ مَلِيكٖ مُّقۡتَدِرِ " أى فى دار كرامة الله ورضوانه وفضلهوامتنانه وجوده واحسانه عند الملك العظيم
الخالق للأشياء كلها ومقدرها وهومقتدر على ما يشاء مما يطلبون ويريدون .
تفسير
الجزء السابع والعشرين
تفسير
سورة الرحمن
سورة الرحمن سورة مكية ،
عدد آياتها 78 آية ، ةتتميز بسمات السور المكية من قصر الآيات ، وهى تتميز بتكرار
الآية " فبأى آلاء ربكما تكذبان " لأنها تتحدث على قدرة الله فى الكون
بايراد الآيات الدالة على قدرة الله فى الخلق ووحدانيته وتواجه بها من يكذب بذلك
من الجن والانس ، وعن جابر قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ
عليهم سورة الرحمن من أولها الى آخرها فسكتوا فقال " لقد قرأتها على الجن
ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم ،كنت كلما أتيت على قوله " فبأى آلاء
ربكما تكذبان " قالوا لا بشىء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد " وعن ابن
عمر أن رسول الله قرأسورة الرحمن أو قرئت عنده فقال " ما لى أسمع الجن أحسن
جوابا لربها منكم ؟ " قالوا : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال " ما أتيت على
قوله تعالى " فبأى آلاء ربكما تكذبان " الا قالت الجن لا بشىء من نعم
ربنا نكذب " .
ٱلرَّحۡمَٰنُ
١ عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ ٢ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ ٣ عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ ٤ ٱلشَّمۡسُ
وَٱلۡقَمَرُ بِحُسۡبَانٖ ٥ وَٱلنَّجۡمُ وَٱلشَّجَرُ يَسۡجُدَانِ
٦ وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلۡمِيزَانَ ٧ أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي
ٱلۡمِيزَانِ ٨ وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَانَ
٩ وَٱلۡأَرۡضَ وَضَعَهَا لِلۡأَنَامِ ١٠ فِيهَا فَٰكِهَةٞ وَٱلنَّخۡلُ
ذَاتُ ٱلۡأَكۡمَامِ ١١ وَٱلۡحَبُّ ذُو ٱلۡعَصۡفِ وَٱلرَّيۡحَانُ ١٢ فَبِأَيِّ
ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ١٣
"
ٱلرَّحۡمَٰنُ " تبدأ السورة باسم تفرد الله به وصفة تفرد بها وهى أنه الرحمن "
عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ " يخبر الله عن فضله ورحمته بخلقه فمن رحمته بهم وهو
رحمن الدنيا رحيم الآخرة أنه أنزل القرآن ويسر تعلمه وحفظه لمن رحمه من عباده وفى
الحديث " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " وفى هذا القرآن منهج الله تعالى
مع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن من
الله عليه تعلم القرآن واتخذه منهج لحياته وتعلمه يتلوه حق تلاوته ، " خَلَقَ
ٱلۡإِنسَٰنَ " من قدرة الله تعالى خلق الانسان فى حد ذاته فيه من المعجزات
بما آتاه من حواس ما لا يحصى من الآيات كما قال " وفى أنفسكم أفلا تبصرون
" "عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ "
قال قتادة والضحاك وغيرهما البيان هو الخير والشر وقال الحسن يعنى النطق وهو هنا
أحسن وأقوى لأن السياق فى تعليمه تعالى القرآن وهو أداء تلاوته يكون بتيسير النطق
على الخلق وتسهيل خروج الحروف من مواضعها من الحلق واللسان والشفتين على اختلاف
مخارجها وأنواعها ، " ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ بِحُسۡبَان" يتحدث
الله تعالى كذلك عن قدرته فى الخلق ومن الآيات الدالة على قدرته خلق الشمس والقمر
يجريان متعاقبين بحساب مقنن لا يتخلف ولا يضطرب كقوله تعالى " لا الشمس ينبغى
لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل فى فلك يسبحون " وكما قال تعالى
" فالق الاصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز
العليم " ونحن نعلم دور الشمس والقمر
فى الحياة على الأرض وحركتهما بحساب دقيق نعلم منه الأيام والشهور والسنوات فهناك
السنة القمرية والسنة الشمسية يحسب بهما الزمن منذ بدأ الخليقة ووجود الانسان على
الأرض وهى آية من آيات قدرة الله عز وجل على الخلق ، " وَٱلنَّجۡمُ وَٱلشَّجَرُ يَسۡجُدَانِ " يتحدث
الله عز وجل عن آية أخرى من آيات قدرته على الخلق والقدرة فمن قدرته خضوع النجوم
فى السماء والأشجار فى الأرض وهما من أمثلة الخضوع لله فكل الكائنات تسبح لله
وتسجد له "ولكن لا تفقهون تسبيحهم " فكيف نفقه سجودهم وهذا كقوله "
ألم تر أن الله يسجد له من فى السموات ومن فى الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال
والشجر والدواب وكثير من الناس"، "وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ
ٱلۡمِيزَانَ " الميزان معناها العدل كما قال تعالى " لقد أرسلنا رسلنا
بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط " فمن آيات الله تعالى
رفع السماء ويمكن أن تكون السماء التى تظل الأرض ويمكن أن يكون الميزان هو التوازن
الذى يسير عليه الكون فالكون يسير بميزان محكم لا يختل ونحن نعلم التوازن البيىء
أو توازن البيئة من حولنا الذى أخل به الانسان فى العصر الحديث فيتعرض لكوارث وقال
المفسرون الميزان يعنى العدل كما قال تعالى " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات
وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط " أى ليكون العدل هوميزان
الحياة وتسير عليه الحياة وقال هنا " أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ " أى
خلق السموات والأرض بالحق والعدل لتكون الأشياء كلها بالحق والعدل والله ينهى على
عدم الطغيان وهو تجاوز الحد والظلم عكس العدل كذلك وله نفس المعنى وهو تجاوز الحد
بالبعد عن الحق والخروج عنه وتجاوزه وهو فى كل الأحوال يدعو الى التوازن فى كل
الأمور ، " وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُواْ
ٱلۡمِيزَانَ " يأمر الله تعالى باقامة الوزن كما استخدم فعل أقيموا الصلاة والاقامة
من الاستقامة وهى ليست مجرد الأداء ولكن الاداء القويم الصحيح فالوزن بمعناه
المباشر وهوموازين البيع والشراء يجب أن يكون بالعدل وعطف على ذلك بالنهى عن فعل
العكس وهو بخس الميزان بالنقصان فالميزان يجب أن يكون عادلا بالقسط لا خسران
فيه كما ورد فى سورة المطففين " ويل
للمطففين * الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون * واذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون "وكما
قال تعالى " وزنوا بالقسطاس المستقيم" "وَٱلۡأَرۡضَ وَضَعَهَا
لِلۡأَنَامِ " ومن آيات الله كذلك تسخيره للأرض فكما رفع السماء وضع الأرض
وهنا استخدم مع السماء فعل رفع لأنها تعلو الأرض واستخدم مع الأرض وضع ومنها
الوضعية ووضع الشىء جعله فى مكانه ومحله وهذا يفيد الاستقرار فجعل الله للأرض
وضعها من حيث أنه مهدها وأرساها بالجبال الراسيات الشامخات لتستقر لما على وجهها
من الأنام وهم الخلائق المختلفة أنواعهم وأشكالهم وألوانهم وألسنتهم فى سائر
أقطارها وأرجائها ، " فِيهَا فَٰكِهَةٞ وَٱلنَّخۡلُ ذَاتُ ٱلۡأَكۡمَامِ " يذكر الله عز وجل من نعمه
على خلقه أن الأرض تنبت الفاكهة مختلفة الألوان والطعوم والروائح وقد خص سبحانه
وتعالى شجر النخيل وأفرده بالذكر وهو من الفواكه لشرفه ونفعه رطبا ويابسا وهو من المكونات
الأساسية فى أكل شبه الجزيرة العربية مع الخبز واللبن ولحم الغنم والمعز والابل وقيل
الأكمام هى أوعية الطلع كما قال ابن عباس وهو الذى يطلع فيه العنقود ثم ينشق عن
العنقود فيكون بسرا ثم رطبا ثم ينضج ويتناهى نفعه واستواؤه وقال الحسن وقتادة
الأكمام للنخلة هى رفاتها وهو الليف الذى
على عنق النخلة ، " وَٱلۡحَبُّ ذُو
ٱلۡعَصۡفِ وَٱلرَّيۡحَانُ " ومن آيات خلق الله ونعمه خلق الحب وهو الحبوب
التى يقتات منها الناس ويطعمون منها دوابهم مثل القمح والشعير والأرز وقيل العصف
هو التبن كقوله " فجعلهم كعصف مأكول " وعن ابن عباس قال ورق الزرع
الأخضر الذى قطع رؤسه فهو يسمى العصف اذا يبس وقال قتادة وغيره عصفه تبنه ومن آيات
خلق الله كذلك أن خلق الريحان فعطف على خلقه فهو خلق الحبوب التى لها عصف وهو
التبن الذى تقتات عليه الماشية فيكون نفعه مزدوج للانسان والريحان ونحن نعلم نبات
الريحان كما قال الحسن هو ريحانكم هذا والريحان من النباتات العطرية مثل النعناع
وهى كلها مفيدة ولها فوائد عظيمة تستخدم كعلاج وفى عصرنا ما يعرف بطب الأعشاب وهو
موجود منذ قديم الأزل عرفه العرب كذلك وقال ابن عباس أن الريحان خضر الزرع ،"
فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ " الآلاء هى النعم فالله عز وجل
يوجه كلامه الى الجن والانس فيقول أى نعمى يا معشر الجن والانس تنكران وتكذبان ؟
هل يمكنكم أن تنكروا وتكذبوا فضل فيما آتيتكم من هذه النعم التى ذكرتها عليكم ؟
ويدل عليه السياق بعده أى النعمة ظاهرة عليكم وأنتم مغمورون بها لا تستطيعون
انكارها ولا جحودها فنحن نقول كما قالت الجن المؤمنون به اللهم ولا بشىء من آلائك
ربنا نكذب ، فلك الحمد وكان ابن عباس يقول لا بأيها يا رب أى لا نكذب بشىء منها .
خَلَقَ
ٱلۡإِنسَٰنَ مِن صَلۡصَٰلٖ كَٱلۡفَخَّارِ ١٤ وَخَلَقَ ٱلۡجَآنَّ مِن مَّارِجٖ مِّن نَّارٖ ١٥ فَبِأَيِّ
ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ١٦ رَبُّ ٱلۡمَشۡرِقَيۡنِ
وَرَبُّ ٱلۡمَغۡرِبَيۡنِ ١٧ فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ١٨
مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ يَلۡتَقِيَانِ ١٩ بَيۡنَهُمَا بَرۡزَخٞ لَّا يَبۡغِيَانِ ٢٠
فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٢١ يَخۡرُجُ مِنۡهُمَا ٱللُّؤۡلُؤُ
وَٱلۡمَرۡجَانُ ٢٢ فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٢٣ وَلَهُ
ٱلۡجَوَارِ ٱلۡمُنشََٔاتُ فِي ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَٰمِ ٢٤
فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٢٥
" خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِن صَلۡصَٰلٖ كَٱلۡفَخَّارِ " يذكر الله
من آيات خلقه وقدرته حلق الانسان من صلصال كالفخار وهوطين الأرض اذا يبس ونفخ فيه
الروح والمقصود هنا الخلق الأول خلق آدم من تراب وهذه مرحلة من خلق آدم قبل نفخ
الروح فيه ، " وَخَلَقَ ٱلۡجَآنَّ
مِن مَّارِجٖ
مِّن نَّار" ومن آيات خلق الله عز وجل وقدرته
التى تدل على وحدانيته وتفرده بالخلق وحده خلق الجان من مارج من نار وهوطرف لهبها
وقال ابن عباس من مارج من نار من لهب النار من أحسنها وفى قول آخر له من خالص
النار وعن عائشة رضى الله عنها قالت قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج
من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم " ، " فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ " تكررت الآية وقد تقدم تفسيرها ، " رَبُّ ٱلۡمَشۡرِقَيۡنِ
وَرَبُّ ٱلۡمَغۡرِبَيۡنِ " من آيات الله عز وجل فى الخلق وجود مشرقين قيل
اتجاه الشرق ومشرق الشمس من المشرق أو الشرق واتجاه الغرب ومغرب الشمس الى اتجاه
الغرب وقال فى آية أخرى " فلا أقسم برب المشارق والمغارب " وذلك باختلاف
مطالع الشمس وتنقلها فى كل يوم وبروزها منه الى الناس فهى تشرق على مكان فى حركتها
وتتركه وتغرب منه لتشرق على آخر ثم تغرب عنه فيما يعرف بحركة الليل والنهار وقال
فى آية أخرى " رب المشرق والمغرب لا اله الا هو فاتخذه وكيلا " وهذا
المراد منه جنس المشارق والمغارب ولما كان فى اختلاف هذه المشارق والمغارب مصالح
للخلق من الجن والانس قال " فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ "
وقد سبق تفسير ذلك ، " مَرَجَ
ٱلۡبَحۡرَيۡنِ يَلۡتَقِيَانِ " المراد بقوله البحرين الملح والحلو فالحلو هو
هذه الأنهار السارحة بين الناس وهذا كقوله فى سورة الفرقان " وهو الذى مرج
البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج * وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا "
،" بَيۡنَهُمَا بَرۡزَخٞ لَّا يَبۡغِيَانِ " البرزخ هو الحاجز من الأرض لئلا يبغى هذا
على هذا فيفسد كل واحد منهما الآخر ويزيله عن صفته وقيل أيضا كثافة الماء فالماء
المالح كثافته تختلف عن الماء العذب فلا يختلط به ويمكن رؤية ذلك عند التقاء نهر
ببحر كما هو الحال عند دمياط وعند رشيد فى مصر عند تدفق النيل حتى يصب فى البحر
المتوسط من يتوجه الى هذا المكان أوذاك يلاحظ ذلك ومن ضمن الأمور التى منعت من حفر
منخفض القطارة وجعل ماء البحر يتدفق اليه هو مخاطر أن يغمر ماء البحر الآبار ويرفع
الملوحة فى التربة مما يجعلها غير قابلة للزراعة فلو كان هذا مثل ذلك بدون حاجز
الكثافة الطبيعى للماء المالح والماء العذب لصلحت الأمور ، " فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ "
تتكرر الآية وقد سبق تفسيرها ، "يَخۡرُجُ مِنۡهُمَا ٱللُّؤۡلُؤُ
وَٱلۡمَرۡجَانُ " اللؤلؤ هو الجواهر ابيض اللون والمرجان هو من الجواهر وهو
أحمر اللون ونحن نعلم أن اللؤلؤ والمرجان يستخرجان من البحر فقط بمائه المالح حتى
علمنا الحالى ولا نعلم دور النهر فى ذلك أو هل هناك حلية تستخرج من الآنهار كما
قال فى آية أخرى " ومن كل تاكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها "
فاللحم من كل من الأجاج والعذب ، والحلية انما هى من المالح دون العذب ، "
فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ " تتكرر الآية وقد سبق تفسيرها
، " وَلَهُ ٱلۡجَوَارِ ٱلۡمُنشََٔاتُ فِي ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَٰمِ "
من آيات الله فى الخلق وقدرته كذلك السفن التى تجرى فى البحر وهى الجوارى وقال
مجاهد ما رفع قلعه من السفن فهى منشآت وما لم يرفع قلعه فليس بمنشآت وهذا يدل على
كبر حجم السفن وفى عصرنا اصبح حجم السفن مدن عائمة يمكن أن تغيب اشهر وهذا من قدرة
الله سبحانه على تسخير البحر للانسان بان جعله صالحا لسير السفن الضخمة فيه
ويشبهها فى كبر حجمها كالاعلام وهى الجبال فى كبرها وما فيها من المتاجر والمكاسب
المنقولة من قطر الى قطر واقليم الى اقليم مما فيه صلاح للناس فى جلب ما يحتاجون
اليه من سائر البضائع ومن انتقال للناس ولهذا قال " فَبِأَيِّ ءَالَآءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ " تتكرر الآية .
كُلُّ
مَنۡ عَلَيۡهَا فَانٖ ٢٦ وَيَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَٰلِ
وَٱلۡإِكۡرَامِ ٢٧ فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٢٨ يَسَۡٔلُهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ
كُلَّ يَوۡمٍ هُوَ فِي شَأۡنٖ ٢٩ فَبِأَيِّ
ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٣٠
"
كُلُّ مَنۡ عَلَيۡهَا فَان" يخبر الله تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون
ويموتون أجمعون وكذلك أهل السموات الا من شاء الله ولا يبقى أحد وى وجهه الكريم
فان الرب تعالى وتقدس لا يموت بل هو الحى الذى لا يموت أبدا وقال الشعبى اذا قرأت
كل من عليها فان فلا تسكت حت تقرأ " وَيَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو
ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ ، " وهذا
كقوله " كل شىء هلك الا وجهه " وقد نعت تعالى وجهه الكريم فى هذه الآية
بأنه ذو الجلال والاكرام أى هو أهل أن يجل فلا يعصى وأن يطاع فلا يخالف كقوله
تعالى " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه " ولما
أخبر تعالى عن تساوى أهل الأركلهم فى الوفاة وأنهم سيصيرون الى الدار الآخرة فيحكم
فيهم ذو الجلال والاكرام بحكمه العدل قال " فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ" ، " يَسَۡٔلُهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ
كُلَّ يَوۡمٍ هُوَ فِي شَأۡن" هذا عن اخبار عن غناه عز وجل عما سواه وافتقار الخلائق اليه فى
جميع الآنات وأنهم يسألونه بلسان حالهم وقالهم وأنه كل يوم هو فى شأن قال عبيد بن
عمير " كل يوم هو فى شأن " من شأنه أن يجيب داعيا أو يعطى سائلا أو يفك
عانيا أو يشفى شقيما وقال مجاهد كل يوم يجيب داعيا ويكشف كربا ويجيب مضطرا ويغفر
ذنبا وقال قتادة لا يستغنى عنه أهل السموات والأرض يحيىحيا ويميت ميتا ويربى صغيرا
ويفك أسيرا وهو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم ومنهى شكواهم وعن منيب بن عبد الله
بن منيب الأزدى عن أبيه قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " كُلَّ
يَوۡمٍ هُوَ فِي شَأۡن" قال من شأنه أن يغفر ذنبا ، ويفرج كربا ، ويرفع قوما
ويضع آخرين " ولذا قال " فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
" تتكر الآية وقد فسرت من قبل .
سَنَفۡرُغُ
لَكُمۡ أَيُّهَ ٱلثَّقَلَانِ ٣١ فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٣٢
يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ إِنِ ٱسۡتَطَعۡتُمۡ أَن تَنفُذُواْ مِنۡ
أَقۡطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ فَٱنفُذُواْۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا
بِسُلۡطَٰنٖ ٣٣ فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٣٤ يُرۡسَلُ
عَلَيۡكُمَا شُوَاظٞ مِّن نَّارٖ وَنُحَاسٞ فَلَا تَنتَصِرَانِ ٣٥
فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٣٦
" سَنَفۡرُغُ لَكُمۡ " قال ابن جريج "
سنفرغ لكم " أى سنقضى لكم وقال البخارى سنحاسبكم لا يشغله شىء عن شىء وهو
معروف فى كلام العرب يقال لأتفرغن لك وما به شغل يقول لآخذنك على غرتك" أَيُّهَ
ٱلثَّقَلَانِ" الثقلان هما الجن والانس كما جاء فى الحديث الصحيح "
يسمعه كل شىء الا الثقلين " وفى رواية " الا الانس والجن " وفى
حديث الصور " الثقلان الانس والجن " ، " فَبِأَيِّ ءَالَآءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ" تكررت الآية ، " يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ
وَٱلۡإِنسِ إِنِ ٱسۡتَطَعۡتُمۡ أَن تَنفُذُواْ مِنۡ أَقۡطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ
وَٱلۡأَرۡضِ فَٱنفُذُواْۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلۡطَٰن" أختلف فى تفسير
هذه الآية فالخطاب من الله تعالى الى معشر الجن والانس وهو تحدى من الله للجن
والانس بتجاوز السموات والأرض والخروج منها فمهما فعلوا لن يتجاوزوا حدودهم فسيكون
ذلك بقدر محدود وهذا يدل على اتساع الكون والعجز عن الوصول الى حدف يه وفى عصرنا
الحالى اخترع الانسان سفن الفضاء وتحرك من أقطار الأرض وسمائها وخرج الى الفضاء
الخارجى الى القمر والكواكب القريبة وتقاس المسافات بالسنوات الضوئية والانسان لم
يتجاوز السماء الأولى كما يقول علم الفلك والسلطان هنا هو اذن الله وما أتاحه أى
لا يمكن فعل شىء الا باذن من الله وسلطان أى قدرة منه وحدهوكما نعلم السماء صعب
اختراقها وهى مليئة بالاجسام الفضائية التى لا يمكن الانتصار عليها الا بارادة
الله وحده وفى التفاسير يقول المفسرون لا
تستطيعون هربا من أمر الله وقدره بل هو محيط بكم لا تقدرون على التخلص من حكمه ولا
النفوذ عن حكمه فيكم ، أينما ذهبتم أحيط بكم وهذا فى مقام الحشر ، الملائكة محدقة
بالخلائق سبع صفوف من كل جانب فلا يقدر أحد على الذهاب " الا بسلطان "
أى الا بأمر الله كما فى قوله "يقول الانسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر الى
ربك يومئذ المستقر " ، " فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ "
تتكرر الآية وسبق شرحها ،" يُرۡسَلُ عَلَيۡكُمَا شُوَاظٞ مِّن نَّارٖ وَنُحَاسٞ فَلَا تَنتَصِرَانِ "
قال ابن عباس الشواظ هو لهب النار وفى قول آخر الدخان وكذلك قال اللهب الذى لا
دخان له وقال مجاهد هو اللهب الأخضر المنقطع وقال أبو صالح الشواظ هو اللهب الذى
فوق النار ودون الدخان وقال الضحاك سيل من نار والنحاس المذاب وقال مجاهد النحاس
الصفر المذاب فيصب على رؤسهم وقال قتادة سيل من نحاس والمعنى كما فسروه لو ذهبتم
هاربين يوم القيامة لردتكم الملائكة والزبانية بارسال اللهب من النار والنحاس
المذاب عليكم لترجعوا ولهذا قال " فلا تنتصران * فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ "
.
فَإِذَا ٱنشَقَّتِ
ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتۡ وَرۡدَةٗ كَٱلدِّهَانِ ٣٧ فَبِأَيِّ ءَالَآءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٣٨ فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يُسَۡٔلُ عَن ذَنۢبِهِۦٓ إِنسٞ وَلَا جَآنّٞ ٣٩
فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٤٠ يُعۡرَفُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ
بِسِيمَٰهُمۡ فَيُؤۡخَذُ بِٱلنَّوَٰصِي وَٱلۡأَقۡدَامِ ٤١ فَبِأَيِّ ءَالَآءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٤٢ هَٰذِهِۦ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا
ٱلۡمُجۡرِمُونَ ٤٣ يَطُوفُونَ بَيۡنَهَا وَبَيۡنَ حَمِيمٍ ءَانٖ ٤٤ فَبِأَيِّ
ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٤٥
"فَإِذَا
ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ " تتحدث الآية عن يوم القيامة وما يحدث فيه من انقلاب
للكون فتنشق السماء أى تنكسر وينهدم بنائها وتزول كما قال " اذا السماء انشقت
وأذنت لربها وحقت " وكما قال " ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة
تنزيلا " وهذه الآيات وغيرها تدل على يوم القيامة وما يحدث فيه،" فَكَانَتۡ
وَرۡدَةٗ كَٱلدِّهَانِ " يتحدث الله
عز وجل عن حال السماء حين انشقاقها فتكون كما قال ابن عباس تغير لونها وقال مجاهد
كألوان الدهان وقال عطاء الخرسانى كلون دهن الورد فى الصفرة وقال قتادة هى يومئذ
لونها الى الحمرة يوم ذى ألوان وقال أبو الجوزاء فى صفاء الدهن وقال السدى تكون
كالمهل كدردى الزيت وقال ابن جريج تصير السماء كالدهن الذائب من شدة الحرارة وفى
سورة المعارج "يوم تكون السماء كالمهل" - 8 وكلها اجتهادات والله أعلم
بمراده ويعتمد فقط على مدلول اللفظ فى التفسير ، " فَبِأَيِّ ءَالَآءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ " تتكرر الآية التى سبق تفسيرها ، "
فَيَوۡمَئِذٖ
لَّا يُسَۡٔلُ عَن ذَنۢبِهِۦٓ
إِنسٞ وَلَا جَآنّ" فى هذا اليوم وهو يوم القيامة وكأن
هذا بعد ما يؤمر بهم الى النار فذلك الوقت لا يسئلون عن ذنوبهم بل يقادون اليها
ويلقون فيها كما قال تعالى فى الآية التى ستأتى " يعرف المجرمون بسيماهم
" قال مجاهد لا تسأل الملائكة عن المجرم فهم يعرفون بسيماهم أى بعلامات تظهر
عليهم وهذا كقوله تعالى " هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون "
وكقوله تعالى " فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون " ،" فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ "
تتكرر الآية التى سبق تفسيرها ، " يُعۡرَفُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ بِسِيمَٰهُمۡ " يعرف
المجرمون بعلامات تظهر عليهم وقال الحسن وقتادة يعرفونهم باسوداد الوجوه وزرقة العيون
وهذا كما يعرف المؤمنون بالغرة والتحجيل من آثار الوضوء ، " فَيُؤۡخَذُ
بِٱلنَّوَٰصِي وَٱلۡأَقۡدَامِ "يجمع الزبانية ناصية المجرم مع قدميه ويلقونه
فى النار وقال ابن عباس يؤخذ بناصيته وقدميه فيكسر كما يكسر الحطب فى التنور وقال
الضحاك يجمع بين ناصيته وقدميه فى سلسلة من وراء ظهره وقال السدى يجمع بين ناصية
الكافر وقدميه فتربط ناصيته بقدمه ويفتل ظهره
، " فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ " تتكرر الآية
التى سبق تفسيرها ،"هَٰذِهِۦ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا
ٱلۡمُجۡرِمُونَ " يقال للكافرين تقريعا وتوبيخا وتصغيرا وتحقيرا هذه هى النار
التى كنتم تكذبون بوجودها ها هى حاضرة تشاهدونها عيانا ، " يَطُوفُونَ
بَيۡنَهَا وَبَيۡنَ حَمِيمٍ ءَان" الآن أى حار قد بلغ الغاية فى الحرارة لا
يستطاع من شدة ذلك وقال ابن عباس قد انتهى غليه واشتد حره وهذا كقوله " تسقى
من عين آنية " أى حاضرة شديدة الحر لاتستطاع وكقوله " غير ناظرين اناه
" يعنى استواءه ونضجه أى تارة يعذبون
فى الجحيم ويصطلون بالنار وتارة يسقون من الحميم وهو الشراب الذى هوكالنحاس المذاب
يقطع الأمعاء والأحشاء وهذا كقوله تعالى " اذ الأغلال فى أعناقهم والسلاسل
يسحبون فى الحميم ثم فى النار يسجرون " قال محمد بن كعب القرظى يؤخذ العبد
فيحرك بناصيته فى ذلك الحميم حتى يذوب اللحم ويبقى العظم والعينان فى الرأس لأن
معنى يسجر أى تضرم فيه النار ، " فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
" تتكرر الآية التى سبق تفسيرها .
وَلِمَنۡ خَافَ مَقَامَ
رَبِّهِۦ جَنَّتَانِ ٤٦ فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٤٧ ذَوَاتَآ
أَفۡنَانٖ ٤٨ فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٤٩ فِيهِمَا
عَيۡنَانِ تَجۡرِيَانِ ٥٠ فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٥١
فِيهِمَا مِن كُلِّ فَٰكِهَةٖ زَوۡجَانِ ٥٢ فَبِأَيِّ
ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٥٣
"
وَلِمَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ جَنَّتَانِ " قال ابن شوذب عطاء الخرسانى
نزلت فى أبى بكر الصديق رضى الله عنه وعن عطية بن قيس قال نزلت فى الذى قال
أحرقونى بالنار لعلى أضل الله قال تاب يوما وليلة بعد أن تكلم بهذا فقبل الله منه
وأدخله الجنة ،والصحيح أن هذه الآية عامة كما قال ابن عباس وغيره يقول الله تعالى
ولمن خاف مقام ربه بين يدى الله عز وجل يوم القيامة ونهى النفس عن الهوى ولم يطع
ولا آثر الحياة الدنيا وعلم أن الآخرة خير وأبقى فأدى فرائض الله واجتنب محارمه
فاه يوم القيامة عند ربه جنتان وفى قوله " ومن دونهما جنتان " جنتان من
ذهب للمقربين وجنتان من ورق لأصحاب اليمين وهذه الآية عامة فى الانس والجن فهى من
أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة اذا آمنوا واتقوا ولهذا أمتن الله تعالى على
الثقلين بهذا الجزاء فقال "وَلِمَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ جَنَّتَانِ *
فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ " ، " فَبِأَيِّ
ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ " تكررت الآية الت سبق تفسيرها ، نعت الله
تعالى هاتين الجنتين فقال " ذَوَاتَآ أَفۡنَان" الأفنان
هى الأغصان النضرة الحسنة تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة وقال عطاء الخرسانى وجماعة
أن الأفنان أغصان الشجر يمس بعضها بعضا وقال عطاء كل غصن يجمع فنونا من الفاكهة
وقال الربيع بن أنس واسعتا الفناء وقال قتادة ذواتا أفنان يعنى بسعتها وفضلها
ومزيتها على ما سواها وعن أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنهما قالت سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم وذكر سدرة المنتهى فقال " يسير فى ظل الفنن منها الراكب
مائة سنة - أو قال - يستظل فى ظل الفنن منها مائة راكب فيها فراش الذهب كأن ثمرها
القلال " ، " فَبِأَيِّ
ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ " تتكرر الآية الت سبق شرحها ، " فِيهِمَا
عَيۡنَانِ تَجۡرِيَانِ " يستمر عز وجل فى وصف الجنتين بأن فيهما عينان تسرحان
لسقى تلك الأشجار والأغصان فتثمر من جميع الألوان ، "فَبِأَيِّ ءَالَآءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ " تتكرر الاية التى سبق شرحها ، " فِيهِمَا مِن
كُلِّ فَٰكِهَةٖ زَوۡجَانِ " يستمر الله عز وجل فى وصف الجنتين أن فيهما من
جميع أنواع الثمار مما يعلمون وخير مما يعلمون ومما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا
خطر على قلب بشر ، " فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ " تتكرر
آية التعقيب التى سبق شرحها .
مُتَّكِِٔينَ عَلَىٰ فُرُشِۢ بَطَآئِنُهَا مِنۡ
إِسۡتَبۡرَقٖۚ وَجَنَى ٱلۡجَنَّتَيۡنِ دَانٖ ٥٤ فَبِأَيِّ
ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٥٥ فِيهِنَّ قَٰصِرَٰتُ ٱلطَّرۡفِ
لَمۡ يَطۡمِثۡهُنَّ إِنسٞ قَبۡلَهُمۡ وَلَا جَآنّٞ ٥٦ فَبِأَيِّ ءَالَآءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٥٧ كَأَنَّهُنَّ ٱلۡيَاقُوتُ وَٱلۡمَرۡجَانُ ٥٨ فَبِأَيِّ
ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٥٩ هَلۡ جَزَآءُ ٱلۡإِحۡسَٰنِ إِلَّا
ٱلۡإِحۡسَٰنُ ٦٠ فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٦١
" مُتَّكِِٔينَ " يتحدث الله تعالى عن حال أهل الجنة والمراد بالاتكاء هنا الاضطجاع ويقال الجلوس على صفة التربيع ، "عَلَىٰ فُرُشِۢ بَطَآئِنُهَا مِنۡ إِسۡتَبۡرَق" يصف الله الفرش التى يتكىء عليها أهل الجنة بأن بطائنها من استبرق وهو ما غلظ من الديباج كما قال قتادة وغيره وقال لأبو عمران الجونى هو الديباج المزين بالذهب فنبه على شرف الظهارة بشرف البطانة فهذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى وعن عبد الله بن مسعود قال : هذه البطائن فكيف لو رأيتم الظواهر ؟ ، " وَجَنَى ٱلۡجَنَّتَيۡنِ دَان" أى ثمرهما قريب اليهم متى شاءوا تناولوا على أى صفة كانوا كما قال تعالى " قطوفها دانية " وكما قال " ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا " أى لا تمتنع ممن تناولها بل تنحط اليه من اغصانها ، " فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ " تتكرر الآية التى سبق شرحها ، " فِيهِنَّ قَٰصِرَٰتُ ٱلطَّرۡفِ " لما ذكر الله تعالى الفرش وعظمتها ذكر أن فى الفرش الزوجات الغضيضات البصر عن غير أزواجهن العفيفات فلا يرين شيئا فى الجنة أحسن من أزواجهن ، " لَمۡ يَطۡمِثۡهُنَّ إِنسٞ قَبۡلَهُمۡ وَلَا جَآنّ" يصفهن الله تعالى أنهن أبكار عرب أتراب لم يطأهن أحد قبل أزواجهن من الانس والجان وهذه أيضا من الأدلة على دخول مؤمنى الجن الجنة وقال أرطاة بن المنذر سئل ضمرة بن حبيب هل يدخل الجن الجنة ؟ قال نعم وينكحون ، للجن جنيات والانس انسيات ، " فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ " تتكرر الآية التى سبق شرحها ، " كَأَنَّهُنَّ ٱلۡيَاقُوتُ وَٱلۡمَرۡجَانُ " يستمر الله عز وجل فى وصف قصرات الطرف وهن زوجات أهل الجن ويشبههن بالياقوت والمرجان ونحن نعلم أن ما فى الجنة لا يمكن أن يقارن بما فى الأرض فهى مجرد تسميات لتقريب الصورة ولكن فى الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وهى مجرد اجتهادات علم على شىء عند الله عز وجل قال مجاهد وغيره فى صفاء الياقوت وبياض المرجان ونحن نعلم أن الياقوت والمرجان الموجودان لونهما أحمر فهل المقصود هنا هو الصفاء يقول التفسير فأما الياقوت فانه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه وعن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال " للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين على كل واحدة سبعون حلة يرى مخ ساقها من وراء الثياب " ، " فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ " تتكرر الآية التى سبق شرحها ،" هَلۡ جَزَآءُ ٱلۡإِحۡسَٰنِ إِلَّا ٱلۡإِحۡسَٰنُ " يقول الله تعالى ليس جزاء من أحسن العمل فى الدنيا الا الاحسان اليه فى الآخرة كما قال تعالى " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " وعن أنس بن مالك قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل جزاء الاحسان الا الاحسان " وقال " هل تدرون ما قال ربكم ؟ " قالوا الله ورسوله أعلم " قال " يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد الا الجنة " ولما كان فى الذى ذكر نعم عظيمة لا يقاومها عمل بل مجرد تفضل وامتنان قال بعد ذلك كله " فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ " تكررت الآية التى سبق تفسيرها .
وَمِن
دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ٦٢ فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٦٣
مُدۡهَآمَّتَانِ ٦٤ فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٦٥ فِيهِمَا
عَيۡنَانِ نَضَّاخَتَانِ ٦٦ فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٦٧
فِيهِمَا فَٰكِهَةٞ وَنَخۡلٞ وَرُمَّانٞ ٦٨ فَبِأَيِّ
ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٦٩ فِيهِنَّ خَيۡرَٰتٌ حِسَانٞ ٧٠ فَبِأَيِّ
ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٧١ حُورٞ مَّقۡصُورَٰتٞ فِي ٱلۡخِيَامِ
٧٢ فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٧٣ لَمۡ يَطۡمِثۡهُنَّ إِنسٞ قَبۡلَهُمۡ وَلَا
جَآنّٞ ٧٤ فَبِأَيِّ
ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٧٥ مُتَّكِِٔينَ عَلَىٰ رَفۡرَفٍ خُضۡرٖ وَعَبۡقَرِيٍّ حِسَانٖ ٧٦ فَبِأَيِّ
ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٧٧ تَبَٰرَكَ ٱسۡمُ
رَبِّكَ ذِي ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ ٧٨
" وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُدۡهَآمَّتَانِ * فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيۡنَانِ نَضَّاخَتَانِ * فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا فَٰكِهَةٞ وَنَخۡلٞ وَرُمَّان* فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ " قال ابن زيد من دونهما فى الفضل وقال ابن عباس من دونهما فى الدرج فهاتان الجنتان دون الجنتين قبلهما فى المرتبة والفضيلة والمنزلة بنص القرآن وقد تقدم فى الحديث جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما فالأوليان للمقربين والأخريان لأصحاب اليمين وقال أبوموسى جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من فضة لأصحاب اليمين والدليل على شرف الأوليين على الأخريين وجوه ( أحدهما ) أنه نعت الأولتين قبل هاتين والتقديم يدل على الاعتناء ثم قال " ومندونهما جنتان "وهذا ظاهر فى شرف التقدم وعلوه على الثانى وقال هناك " ذواتا أفنان " وهى الأغصان أو الفنون فى الملاذ وقال هنا "مدهامتان " أى سوداوان من شدة الرى من الماء قال ابن عباس فى قوله " مدهامتان " قد اسودتا من الخضرة من شدة الرى من الماء وقال ابن عباس فى قول آخر خضروان وقال محمد بن كعب "مدهامتان " ممتلئتان من الخضرة وقال قتادة خضروان من الرى ناعمتان ولا شك فى نضارة الأغصان على الاشجار المشتبكة بعضها فى بعض وقال هناك " فيهما عينان تجريان " وقال هنا " نضاختان " قال ابن عباس أى فياضتان والجرى أقوى من النضخ وقال الضحاك " نضاختان " أى ممتلئتان ولا تنقطعان وقال هناك "فيهما من كل فاكهة زوجان " وقال هنا " فيهما فاكهة ونخل ورمان " ولا شك أن الأولى أعم وأكثر فى الافراد والتنويع على فاكهة وهى نكرة فى سياق الاثبات لا تعم ولهذا فسر قوله " ونخل ورمان " من باب عطف الخاص على العام وانما افراد النخل والرمان بالذكر لشرفهما على غيرهما وعن بن الخطاب قال جاء أناس من اليهود الى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد أفى الجنة فاكهة ؟ قال " نعم فيها فاكهة ونخل ورمان " قالوا فيأكلون كما يأكلون فى الدنيا ؟ قال " نعم وأضعاف " قالوا : فيقضون الحوائج ؟ قال " لا ولكنهم يعرقون ويرشحون فيذهب الله ما فى بطونهم من أذى " ، " فِيهِنَّ خَيۡرَٰتٌ حِسَان" قيل المراد خيرات كثيرة حسنة فى الجنة كما قال قتادة وقيل خيرات جمع خيرة وهى المرأة الصالحة الحسنة الخلق الحسنة الوجه قاله الجمهور ، " فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ " تتكرر الآية التى سبق تفسيرها ، "حُورٞ مَّقۡصُورَٰتٞ فِي ٱلۡخِيَامِ " زوجات من الحور محجوزات فى الخيام مقصورات عليهم لا لاحد غيرهم وهناك قال " فيهن قاصرات الطرف " ولا شك أن التى قد قصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قصرت وانكان الجميع مخدرات وقوله تعالى " فى الخيام" عن عبد الله بن قيس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فى الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة طولها عرضها ستونميلا فى كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمنون " وأخرجه مسلم من حديث أبى عمران ولفظه ان للمؤمن فى الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة ستون ميلا للمؤمن فيها يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا ،" فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ "تكررت الآية وقد سبق تفسيرها ، " لَمۡ يَطۡمِثۡهُنَّ إِنسٞ قَبۡلَهُمۡ وَلَا جَآنّ" يصفهن الله تعالى أنهن أبكار عرب أتراب لم يطأهن أحد قبل أزواجهن من الانس والجان وهذه أيضا من الأدلة على دخول مؤمنى الجن الجنة وقال أرطاة بن المنذر سئل ضمرة بن حبيب هل يدخل الجن الجنة ؟ قال نعم وينكحون ، للجن جنيات والانس انسيات الا أنه زاد فى وصف الأوائل بقوله " كأنهن الياقوت والمرجان " ، " فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ " تتكرر الآية التى تذكر بنعمة الله وقد سبق شرحها ، " مُتَّكِِٔينَ عَلَىٰ رَفۡرَفٍ خُضۡرٖ وَعَبۡقَرِيٍّ حِسَان" الرفرف كما قال عاصم الجحدرى وحسن البصرى يعنى الوسائد قال ابن عباس العبقرى الزرابى وقال سعيد بن جبير هى عتاق الزرابى يعنى جيادها وقال مجاهد العبقرى الديباج وقال الحسن البصرى هى بسط أهل الجنة لا أبا لكم فاطلبوها وعلى كل تقدير فصفة مرافق أهل الجنتين الأوليين أرفع وأعلى من هذه الصفة فانه قد قال هناك " متكئين على فرش بطائنها من استبرق " فنعت بطائن فرشهم وسكت عن ظهائرها اكتفاء بما مدح به البطائن بطريق الأولى والأحرى وتمام الخاتمة أنه قال بعد الصفات المتقدمة " هل جزاء الاحسان الا الاحسان " فوصف أهلها بالاحسان وهو أعلى المراتب والنهايات كما فى حديث جبريل لما سأل عن الاسلام ثن الايمان ثم الاحسان ، فهذه وجوه عديدة فى تفضيل الجنتين الأوليين على هاتين الأخيرتين ، " فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ " تكررت الآية التى تذكر نعمة الله وقد سبق شرحها ،" تَبَٰرَكَ ٱسۡمُ رَبِّكَ ذِي ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ " أى هو أهل أن يجل فلا يعصى وأن يكرم فيعبد ويشكر فلا يكفر وأن يذكر فلا ينسى وقال ابن عباس ذى العظمة والكبرياء وعن عائشة رضى الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا سلم لا يقعد يعنى بعد الصلاة الا بقدر ما يقول " اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والاكرام " .
تفسير
الجزء السابع والعشرين
تفسير
سورة الواقعة
سورة سورة مكية ،عدد آياتها 96 آية ، تتميز بما تميزت بها
السور المكية من قصر الآيات ، عن عبد الله بن مسعود قال سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول " من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا " ،
والواقعة هى يوم القيامة واسم من أسمائه وسميت بذلك لتحقق كونها ووجودها ، فهى
تتحدث عن يوم القيامة وما يدور فيه وتتحدث عن أهل الجنة وأهل النار ، كما تتحدث عن
الآيات الدالة على قدرة الله فى الخلق التى تشهد له بالالوهية والوحدانية .
إِذَا
وَقَعَتِ ٱلۡوَاقِعَةُ ١ لَيۡسَ لِوَقۡعَتِهَا كَاذِبَةٌ ٢ خَافِضَةٞ رَّافِعَةٌ ٣ إِذَا
رُجَّتِ ٱلۡأَرۡضُ رَجّٗا ٤ وَبُسَّتِ ٱلۡجِبَالُ
بَسّٗا ٥ فَكَانَتۡ هَبَآءٗ مُّنۢبَثّٗا ٦ وَكُنتُمۡ أَزۡوَٰجٗا ثَلَٰثَةٗ ٧ فَأَصۡحَٰبُ ٱلۡمَيۡمَنَةِ
مَآ أَصۡحَٰبُ ٱلۡمَيۡمَنَةِ ٨ وَأَصۡحَٰبُ ٱلۡمَشَۡٔمَةِ مَآ أَصۡحَٰبُ ٱلۡمَشَۡٔمَةِ ٩ وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلسَّٰبِقُونَ ١٠
أُوْلَٰٓئِكَ ٱلۡمُقَرَّبُونَ ١١ فِي جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ ١٢
"
إِذَا وَقَعَتِ ٱلۡوَاقِعَةُ * لَيۡسَ لِوَقۡعَتِهَا كَاذِبَةٌ " يتحدث الله
عزوجل عن حتمية وقوع يوم القيامة وسماه بالواقعة أى الحدث المتحقق الوقوع وليس
لوقوعها اذا أراد الله تعالى كونها فلا صارف يصرف هذه الواقعة ولا دافع يدفعها كما
قال " استجيبوا لربكم من قبل أن يأتى يوم لا مرد له من الله " وكما
قال "سأل سائل بعذاب واقع * للكافرين ليس له
دافع " ومعنى " كاذبة " كما قال محمد بن كعب لابد أن تكون وقال
قتادة ليس فيها مثنوية ولا ارتداد ولا رجعة وتكرر الوقوع بثلاث كلمات لتؤكد وقوعه
" وقعت " و "الواقعة " و " لوقعتها " وتأكد بذلك
باستخدام المصدر " كاذبة " وهو كعاقبة وعافية أى أنها مؤكدة ولا يكذبها
أحد ، " خَافِضَةٞ رَّافِعَةٌ " أى تخفض أقواما
الى أسفل سافلين الى الجحيم وان كانوا فى الدنيا أعزاء ، وترفع آخرين الى أعلى
عليين الى النعيم المقيم وان كانوا فى الدنيا وضعاء هكذا قال قتادة والحسن وغيرهما
وقال السدى خفضت المتكبرين ورفعت المتواضعين ، " إِذَا رُجَّتِ ٱلۡأَرۡضُ
رَجّٗا " أى زلزلت زلزالا شديد
وقال الربيع بن أنس ترج بما فيها كرج الغربال بما فيه وهذا كقوله تعالى " اذا
زلزلت الأرض زلزالها " وكقوله تعالى " يا أيها الناس اتقوا ربكم ان
زلزلة الساعة شىء عظيم " ، " وَبُسَّتِ ٱلۡجِبَالُ بَسّٗا " أى فتت فتا وقال ابن زيد
صارت الجبال كقوله تعالى " كثيبا مهيلا " وكقوله " وتكون الجبال
كالعهن المنفوش " القارعة - 5 وكقوله
تعالى " فى التكوير " واذا الجبال سيرت " وكقوله فى سورة النبأ
" وسيرت الجبال فكانت سرابا " - 20 وهنا يقول " فَكَانَتۡ هَبَآءٗ مُّنۢبَثّٗا " قال على رضى الله عنه
هباء منبثا كرهج الغبار يسطع ثم يذهب فلا يبقى شىء وقال ابن عباس الهباء الذى يطير
من النار اذا اضطرمت يطير منه الشرر فاذا وقع لم يكن شيئا وقال عكرمة المنبث الذى
قد ذرته الريح وبثته وقال قتادة كيبس الشجر الذى تذروه الرياح وهذه الآية كأخواتها
الدالة على زوال الجبال عن أماكنها يوم القيامة وذهابها وتسييرها ونسفها أى قلعها
وصيرورتها كالعهن المنفوش ، " وَكُنتُمۡ أَزۡوَٰجٗا ثَلَٰثَة" ينقسم الناس يوم
القيامة الى ثلاثة أصناف وقال ابن عباس أصنافا ثلاثة وقال مجاهد يعنى فرقا ثلاثة
وعن مجاهد عن ابن عباس فى قوله " وكنتم أزواجا ثلاثة " قال هى التى فى
سورة الملائكة " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه
ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات " وقال ابن جريج عن ابن عباس هذه الأزواج
الثلاثة هم المذكورون فى آخر السورة ،" ينقسم الناس يوم القيامة الى ثلاثة
أصناف فصلهم الله عز وجل " فَأَصۡحَٰبُ ٱلۡمَيۡمَنَةِ مَآ أَصۡحَٰبُ
ٱلۡمَيۡمَنَةِ " قوم عن يمين العرش ويؤتون كتبهم بأيمانهم ويؤخذ بهم ذات
اليمين وقال السدى وهم جمهور أهل الجنة ، " وَأَصۡحَٰبُ ٱلۡمَشَۡٔمَةِ مَآ أَصۡحَٰبُ ٱلۡمَشَۡٔمَةِ " الصنف الثانى الذين يكونون عن
يسار العرش ويؤتون كتبهم بشمالهم ويؤخذ بهم ذات الشمال وهم عامة أهل النار ،
" وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلسَّٰبِقُونَ "
وطائفة السابقون هم من يكونون بين يدى الله عز وجل وهم أخص وأحظى وأقرب من أصحاب
اليمين الذين هم سادتهم فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء وهم أقل عددا من
أصحاب اليمين وهم المقربون من الله تعالى وهم أصحاب جنات النعيم وقال محمد بن كعب
وغيره الأنبياء عليهم السلام وقال السدى هم أهل عليين وقال الأوزاعى عن عثمان بن
أبى سودة أنه قال أولهم رواحا الى المسجد وأولهم خروجا فى سبيل الله وهذه الأقوال
كلها صحيحة فان المراد بالسابقين هم المبادرون الى فعل الخيرات كما أمروا كما قال
تعالى " وسارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض " وكما
قال تعالى " سابقوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض"
ولهذا قال تعالى " أُوْلَٰٓئِكَ ٱلۡمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ
" وهكذا قسمهم الله عز وجل الى هذه
الأنواع الثلاثة فى آخر السورة وقت احتضارهم وهكذا ذكرهم فى قوله تعالى " ثم
أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق
بالخيرات باذن الله " وعن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا
هذه الآية " واصحاب اليمين ما أصحاب اليمين " " وأصحاب الشمال ما
أصحاب الشمال " فقبض بيده قبضتين فقال " هذه للجنة وهذه للنار ولا أبالى
" .
ثُلَّةٞ مِّنَ ٱلۡأَوَّلِينَ
١٣ وَقَلِيلٞ مِّنَ ٱلۡأٓخِرِينَ ١٤ عَلَىٰ سُرُرٖ مَّوۡضُونَةٖ ١٥ مُّتَّكِِٔينَ عَلَيۡهَا مُتَقَٰبِلِينَ ١٦ يَطُوفُ
عَلَيۡهِمۡ وِلۡدَٰنٞ مُّخَلَّدُونَ ١٧ بِأَكۡوَابٖ وَأَبَارِيقَ وَكَأۡسٖ مِّن مَّعِينٖ ١٨ لَّا يُصَدَّعُونَ
عَنۡهَا وَلَا يُنزِفُونَ ١٩ وَفَٰكِهَةٖ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ ٢٠ وَلَحۡمِ طَيۡرٖ مِّمَّا يَشۡتَهُونَ
٢١ وَحُورٌ عِينٞ ٢٢ كَأَمۡثَٰلِ ٱللُّؤۡلُوِٕ ٱلۡمَكۡنُونِ ٢٣ جَزَآءَۢ بِمَا
كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٢٤ لَا يَسۡمَعُونَ فِيهَا لَغۡوٗا وَلَا تَأۡثِيمًا ٢٥
إِلَّا قِيلٗا سَلَٰمٗا سَلَٰمٗا ٢٦
"
ثُلَّةٞ مِّنَ ٱلۡأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٞ مِّنَ ٱلۡأٓخِرِينَ " يقول
الله تعالى مخبرا عن هؤلاء السابقين أنهم ثلة أى جماعة من الأولين وقليل من
الآخرين وقد اختلفوا فى المراد بقوله الأولين والآخرين فقيل المراد بالأولين الأمم
الماضية وبالآخرين هذه الأمة وعن أبى هريرة قال : لما نزلت " ثلة من الأولين
* وقليل من الآخرين" شق ذلك على أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فنزلت "
ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين" فقال النبى صلى الله عليه وسلم " انى
لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ثلث أهل الجنة بل أنتم نصف أهل الجنة أو شطر أهل
الجنة وتقاسمونهم النصف الثانى " والقول الثانى فى هذا المقام هو الراجح وهو
أن يكون المراد بقوله تعالى " ثلة من الأولين " أى من صدر هذه الأمة
" وقليل من الآخرن " أى من هذه الأمة وقول الحسن وابن سيرين أن الجميع
من هذه الأمة ، ولاشك أن أول كل أمة خير من آخرها فيحتمل أن تعم هذه الآية جميع الأمم
كل أمة بحسبها ولهذا ثبت فى الصحاح وغيرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " والغرض أن هذه
الأمة أشرف من سائر الأمم والمقربون فيها أكثر من غيرها وأعلى منزلة لشرف دينها
وعظم نبيها ولهذا ثبت بالتواتر عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن فى هذه الأمة سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير
حساب وفى لفظ" مع كل ألف سبعون ألفا - وفى آخر - مع كل واحد سبعون ألفا
" وعن أبى مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما والذى نفسى
بيده ليبعثن منكم يوم القيامة مثل الليل الأسود زمرة جميعها يحيطون الأرض تقول
الملائكة لما جاء مع محمد صلى الله عليه وسلم أكثر مما جاء مع الأنبياء عليهم
السلام " وحسن أن يذكر هنا عند قوله " ثلة من الآولين * وقليل من
الآخرين " ، " عَلَىٰ سُرُرٖ مَّوۡضُونَة" قال ابن عباس أى مرمولة بالذهب يعنى منسوجة به وقال السدى مرمولة بالذهب واللؤلؤ
وقال عكرمة مشبكة بالدر والياقوت وقال ابن جرير ومنه يسمى وضين الناقة الذى تحت
بطنها وكذلك السرر فى الجنة مضفورة بالذهب والآلىء ، " مُّتَّكِِٔينَ عَلَيۡهَا مُتَقَٰبِلِينَ " أى
وجوه بعضهم الى بعض ليس أحد وراء أحد ،" يَطُوفُ عَلَيۡهِمۡ وِلۡدَٰنٞ مُّخَلَّدُونَ " أى مخلدون
على صفة واحدة لا يكبرون عنها ولا يشيبون ولا يتغيرون يظلون على حالهم ولدان فى
الجنة ، " بِأَكۡوَابٖ وَأَبَارِيقَ وَكَأۡسٖ مِّن مَّعِين" الأكواب هى الكيزان التى ليس لها آذان أو
يتدلى منها فتحة بارزة للصب مثل الابريق فالأباريق هى التى جمعت الوصفين عكس
الأكواب فهى التى يصب منها الشراب والكؤوس نحن نعلمها والجميع من خمر من عين جارية
معين ليس من أوعية تنقطع وتفرغ بل من عيون سارحة ، " لَّا يُصَدَّعُونَ عَنۡهَا " ليس لهم من
شربها صداع رأس ،" وَلَا يُنزِفُونَ " أى لا تذهب بعقولهم ، " وَفَٰكِهَةٖ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ "
ويطوفون عليهم بما يتخيرون من الثمار ، "وَلَحۡم ِ طَيۡرٖ مِّمَّا يَشۡتَهُونَ " يطعم
أهل الجنة ما يشتهونه من لحم الطير وعن عبد الله بن مسعود قال قال لى رسول الله
صلى الله عليه وسلم " انك لتنظر الى الطير فى الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك
مشويا" ،"وَحُور عِين* كَأَمۡثَٰلِ ٱللُّؤۡلُوِٕ ٱلۡمَكۡنُونِ " ولهم
فى الجنة حور عين من الزوجات كما سبق الحديث عن ذلك كأنهن اللؤلؤ الرطب فى بياضه
وصفائه كما تقدم فى سورة الصافات " كأنهن بيض مكنون " وقدتقدم فى سورة
الرحمن وصفهن أيضا ولهذا قال " جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ "
هذا الذى أتحفناهم به مجازاة لهم على ما أحسنوا من العمل ،" لَا يَسۡمَعُونَ
فِيهَا لَغۡوٗا
وَلَا تَأۡثِيمًا " لا يسمعون فى
الجنة كلاما لاغيا أى عبثا خاليا من المعنى أو مشتملا على معنى حقير أو ضعيف كما
قال " لا تسمع فيها لاغية " أى كلمة لا غية "ولا تأثيما " أى ولا كلاما فيه قبح
، "إِلَّا قِيلٗا سَلَٰمٗا سَلَٰمٗا " لا يسمعون الا التسليم منهم بعضهم على بعض كما قال تعالى
" تحيتهم فيها سلام " وكلامهم أيضا سالم من اللغو والاثم .
وَأَصۡحَٰبُ ٱلۡيَمِينِ
مَآ أَصۡحَٰبُ ٱلۡيَمِينِ ٢٧ فِي سِدۡرٖ مَّخۡضُودٖ ٢٨ وَطَلۡحٖ مَّنضُودٖ ٢٩ وَظِلّٖ مَّمۡدُودٖ ٣٠ وَمَآءٖ مَّسۡكُوبٖ ٣١ وَفَٰكِهَةٖ كَثِيرَةٖ ٣٢ لَّا مَقۡطُوعَةٖ وَلَا مَمۡنُوعَةٖ ٣٣ وَفُرُشٖ مَّرۡفُوعَةٍ ٣٤
إِنَّآ أَنشَأۡنَٰهُنَّ إِنشَآءٗ ٣٥ فَجَعَلۡنَٰهُنَّ أَبۡكَارًا ٣٦ عُرُبًا
أَتۡرَابٗا ٣٧ لِّأَصۡحَٰبِ ٱلۡيَمِينِ ٣٨ ثُلَّةٞ مِّنَ ٱلۡأَوَّلِينَ
٣٩ وَثُلَّةٞ مِّنَ ٱلۡأٓخِرِينَ ٤٠
"
وَأَصۡحَٰبُ ٱلۡيَمِينِ مَآ أَصۡحَٰبُ ٱلۡيَمِينِ " لما ذكر الله تعالى مآل
السابقين وهم المقربون عطف عليهم بذكر أصحاب اليمين وهم الأبرار وكما قال ميمون بن
مهران أصحاب اليمين منزلتهم دون المقربين والمعنى الى أى شىء أصحاب اليمين وما
حالهم وكيف مآلهم ثم فسر ذلك بقوله " فِي سِدۡرٖ مَّخۡضُود" المخضود
هو الذى لا شوك فيه كما قال ابن عباس وغيره وقال قتادة الموقر الذى لا شوك فيه
والظاهر أن المراد هذا وهذا فان سدر الدنيا كثير الشوك قليل الثمر وفى الآخرة على
العكس منهذا لا شوك فيه وفيه الثمر الكثير الذى قد أثقل أصله وعن سليم بن عامر قال
كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : ان الله لينفعنا بالأعراب
ومسائلهم قال أقبل أعرابى يوما فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما هى ؟
" قال : السدر فان له شوكا مؤذيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "
أليس الله تعالى يقول " فى سدر مخضود " خضد الله شوكه فجعل فى مكانكل
شوكة ثمرة فأنها لتنبت ثمرا ففتق الثمرة منها عن اثنين وسبعين لونا من طعام ما
فيها لون يشبه الآخر " ، " وَطَلۡحٖ مَّنضُود" الطلح شجر عظان يكون بأرض الحجاز من شجر العضاة واحدته طلحة وهوشجر
كثير الشوك وقال مجاهد " منضود " أى متراكم الثمر يذكر بذلك قريشا لأنهم
كانوا يعجبون من وج وظلاله منطلح وسدر وقال ابن عباس يشبه طلح الدنيا ولكن له ثمر
أحلى من العسل وقال مجاهد وابن زيد كما قال ابن عباس وطلح منضود الموز وزيد أن أهل
اليمن يسمون الموز الطلح ، " وَظِلّٖ مَّمۡدُود" عن أبى هريرة رضى
الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ان فى الجنة شجرة يسير
الراكب فى ظلها سبعين أو مائة سنة هى شجرة الخلد "وفى قول آخر " فى
الجنة شجرة يسير الراكب فى ظلها مائة عام ما يقطعها واقرءوا ان شئتم " وظل
ممدود" وهذا كقوله " وندخلهم ظلا ظليلا " وقوله " أكلها دائم
وظلها " وقوله " فى ظلال وعيون " الى غير ذلك من الآيات
،"وَمَآء ٖ مَّسۡكُوب" قال الثورى يجرى فى غير أخدود وقد تقدم الكلام
عند تفسير قوله تعالى "فيها أنهار من ماء غير آسن " ، " وَفَٰكِهَةٖ كَثِيرَة" يكون عند أهل الجنة كذلك من الفواكه الكثيرة المتنوعة فى الألوان مما لا عين رأت ولا أذن
سمعت ولا خطر على قلب بشر كما قال تعالى " كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا
قالوا هذا الذى رزقنا من قبل وأتوا به متشابها " أى يشبه الشكل الشكل ولكن
الطعم غير الطعم وعن ابن عباس قال خسفت الشمس فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
والناس معه فذكر الصلاة ، وفيه قالوا يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا فى مقامك
هذا ثم رأيناك تكعكعت قال انى رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا ولو أخته لأكلتم منه
ما بقيت الدنيا " وعن جابر قال بينا نحن فى صلاة الظهر اذ تقدم رسول الله صلى
الله عليه وسلم فتقدمنا معه ثم تناول شيئا ليأخذه ثم تأخر فلما قضى الصلاة قال له
أبى بن كعب يا رسول الله صنعت اليوم فى الصلاة شيئا ما كنت تصنعه قال " انه
عرضت على الجنة وما قيها من الزهرة والنضرة فتناولت منها قطفا من عنب لآتيكم به
فحيل بينى وبينه ولة أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقص منه "
، " لَّا مَقۡطُوعَةٖ وَلَا مَمۡنُوعَة " أى لا تنقطع شتاء ولا صيفا بل أكلها
دائممستمر أبدا مهما طلبوا وجدوا لا يمتنع عليهم بقدرة الله شىء وقال قتادة لا
يمنعهم من تناولها عود ولا شوك ولا بعد وقد تقدم فى الحديث : اذا تناول الرجل
الثمرة عادت مكانها أخرى ، " وَفُرُشٖ مَّرۡفُوعَةٍ " أى عالية
وطيئة أى يسهل استخدامها أو مريحة فى استخدامها ناعمة وهى فرش أهل الجنة ، "
إِنَّآ أَنشَأۡنَٰهُنَّ إِنشَآء* فَجَعَلۡنَٰهُنَّ أَبۡكَارًا أى أعدناهن فى النشأة الأخرى بعد ما كن عجائز رمصا صرن أبكارا عربا
أى بعد القيوبة عدن أبكارا عربا متحببات الى أزواجهن بالحلاوة والظرافة والملاحة
وعن الحسن قال أتت عجوز فقالت يا رسول الله ادع الله تعالى أن يدخلنى الجنة فقال :
يا أم فلان ان الجنة لا تدخلها عجوز " قال فولت تبكى قال أخبروها أنها لا
تدخلها وهى عجوز ان الله تعالى يقول " انا أنشأناهن انشاء فجعلناهن أبكارا
"، "عُرُبًا" قال ابن عباس متحببات الى أزواجهن وفى قول آخر
العواشق لأزواجهن وأزواجهن لهن عاشقون وعن عبد الله بن بريدة قال الشكلة بلغة أهل
مكة والمغنجة بلغة أهل المدينة وقال زيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن "العرب"
حسنات الكلام وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم "عربا" قال " كلامهن عربى " ، "أَتۡرَابٗا " قال ابن عباس يعنى فى سن
واحدة وقال مجاهد الأتراب المستويات وقال السدى أى فى الأخلاق المتواخيات بينهن
ليس بينهن تباغض ولا تحاسد يعنى لا كما كن ضرائر متعاديات ، " لِّأَصۡحَٰبِ
ٱلۡيَمِينِ " أى خلقهن الله لأصحاب اليمين أو ادخرن لأصحاب اليمين وعن أنس
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان الحور العين يغنين فى الجنة نحن
الحور الحسان خلقنا لأزواج كرام " ،" ثُلَّةٞ مِّنَ ٱلۡأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٞ مِّنَ ٱلۡأٓخِرِينَ " يتحدث
الله عزوجل عن أصحاب اليمين أنهم جماعة من الأولين وجماعة من الآخرين عن ابن عباس
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هما جميعا من أمتى " عن أبى
هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يدخل أهل الجنة الجنة جردا
مردا بيضا جعادا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين وهم على خلق آدم ستون دراعا فى عرض
سبعة أذرع " .
وَأَصۡحَٰبُ
ٱلشِّمَالِ مَآ أَصۡحَٰبُ ٱلشِّمَالِ ٤١ فِي سَمُومٖ وَحَمِيمٖ ٤٢ وَظِلّٖ مِّن يَحۡمُومٖ ٤٣ لَّا بَارِدٖ وَلَا كَرِيمٍ ٤٤
إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَبۡلَ ذَٰلِكَ مُتۡرَفِينَ ٤٥ وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلۡحِنثِ
ٱلۡعَظِيمِ ٤٦ وَكَانُواْ يَقُولُونَ أَئِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابٗا وَعِظَٰمًا أَءِنَّا
لَمَبۡعُوثُونَ ٤٧ أَوَ ءَابَآؤُنَا ٱلۡأَوَّلُونَ ٤٨ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَوَّلِينَ
وَٱلۡأٓخِرِينَ ٤٩ لَمَجۡمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَٰتِ يَوۡمٖ مَّعۡلُومٖ ٥٠ ثُمَّ إِنَّكُمۡ
أَيُّهَا ٱلضَّآلُّونَ ٱلۡمُكَذِّبُونَ ٥١ لَأٓكِلُونَ مِن شَجَرٖ مِّن زَقُّومٖ ٥٢ فَمَالُِٔونَ مِنۡهَا ٱلۡبُطُونَ ٥٣ فَشَٰرِبُونَ
عَلَيۡهِ مِنَ ٱلۡحَمِيمِ ٥٤ فَشَٰرِبُونَ شُرۡبَ ٱلۡهِيمِ ٥٥ هَٰذَا نُزُلُهُمۡ
يَوۡمَ ٱلدِّينِ ٥٦
" وَأَصۡحَٰبُ ٱلشِّمَالِ مَآ
أَصۡحَٰبُ ٱلشِّمَالِ " لما ذكر تعالى حال أصحاب اليمين عطف عليهم بذكر أصحاب
الشمال فقال أى شىء هم فيه أصحاب الشمال ؟ ثم فسر ذلك بقوله " فِي سَمُومٖ وَحَمِيم"السموم هو الهواء الحار
والحميم هو الماء الحار وهذا حالهم يوم القيامة فى النار ، " وَظِلّٖ مِّن يَحۡمُوم" قال ابن عباس ظل
الدخان وهذا كقوله " انطلقوا الى ما كنتم به تكذبون * انطلقوا الى ظل ذى ثلاث
شعب لا ظليل ولا يغنى من اللهب * انها ترمى بشرر كالقصر * كأنه جمالة صفر * ويل
يومئذ للمكذبين " ولهذا قال هنا " وظل من يحموم " وهو الدخان
الأسود ، " لَّا بَارِدٖ وَلَا كَرِيمٍ "ليس طيب الهبوب
ولا حسن المنظر وكما قال الحسن وقتادة " ولا كريم " أى ولا كريم المنظر
وقال الضحاك كل شرب ليس بعذب فليس بكريم وقال ابن جرير : العرب تتبع هذه اللفظة فى
النفى فيقولون هذا الطعام ليس بطيب ولا كريم هذا اللحم ليس بسمين ولا كريم وهذه
الدار ليست بنظيفة ولا كريمة ثم ذكر تعالى استحقاقهم لذلك فقال تعالى " إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَبۡلَ ذَٰلِكَ مُتۡرَفِينَ "
أى كانوا فى الدار الدنيا منعمين مقبلين على لذات أنفسهم لا يلوون على ما جاءتهم
به الرسل ، " وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلۡحِنثِ ٱلۡعَظِيمِ " الحنث
العظيم هو الكفر بالله وجعل الأوثان والأنداد أربابا من دون الله وقال ابن عباس
الحنث العظيم الشرك أى كانوا يقيمون ولا يتوبون توبة عن الكفر بالله والشرك به ،
" وَكَانُواْ يَقُولُونَ أَئِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابٗا وَعِظَٰمًا أَءِنَّا
لَمَبۡعُوثُونَ * أَوَ ءَابَآؤُنَا ٱلۡأَوَّلُونَ " وينكرون البعث ويوم
القيامة ويكذبون به وهم يستبعدون وقوعه فكيف اذا بليت أجسادهم وتحولت الى تراب
وعظام أنهم سيبعثون وكذلك يبعث من سبقهم من أجدادهم السابقين الذين ماتوا وهلكوا ، " قُلۡ إِنَّ
ٱلۡأَوَّلِينَ وَٱلۡأٓخِرِينَ * لَمَجۡمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَٰتِ يَوۡمٖ مَّعۡلُوم" يرد
الله عليهم ويقول لرسوله صلى الله عليه وسلم أخبرهم أن الأولين والآخرين من بنى آدم
سيجمعون الى عرصات القيامة لا يغادر منهم أحد وهو موقت بوقت محدود لا يتقدم ولا
يتأخر ولا يزيد ولا ينقص كما قال تعالى
" ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود * وما نؤخره الا لأجل معدود * يوم
يأت لا تكلم نفس الا باذنه فمنهم شقى وسعيد " ، " ثُمَّ إِنَّكُمۡ
أَيُّهَا ٱلضَّآلُّونَ ٱلۡمُكَذِّبُونَ * لَأٓكِلُونَ مِن شَجَرٖ مِّن زَقُّوم* فَمَالُِٔونَ مِنۡهَا ٱلۡبُطُونَ " يتحدث
الله عز وجل عما يلحق بالكافرين وهم أصحاب السمال من العذاب فى جهنم وهم الضالون
الذين ضلوا وكذبوا الرسل فانهم يقبضون ويسجرون
ويكون طعامهم من شجر الزقوم يأكلون منه حتى يملأوا بطونهم منه ، " فَشَٰرِبُونَ
عَلَيۡهِ مِنَ ٱلۡحَمِيمِ * فَشَٰرِبُونَ شُرۡبَ ٱلۡهِيمِ " ويكون شرابهم من
الحميم وهو الماء المغلى الحار شديد الحرارة
يشربون منه كما تشرب الهيم وهى الابل العطاش الظماء كما قال ابن عباس واحدها
أهيم والأنثى هيماء ويقال هائم وهائمة وقال عكرمة الابل المراض تمص الماء مصا ولا
تروى وقال السدى الهيم داء يأخذ الابل فلا تروى أبدا حتى تموت فكذلك أهل جهنم لا
يروون من الحميم أبدا أى يشربون من الحميم بنهم من شدة الحر ويشربون كميات كبيرة
مثل شرب الأبل العطاش ، "هَٰذَا نُزُلُهُمۡ يَوۡمَ ٱلدِّينِ " يقول الله
عزوجل هذا الذى وصفنا هو ضيافتهم عند ربهم يوم حسابهم كما قال تعالى فى حق
المؤمنين " ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا
" أى ضيافة وكرامة .
نَحۡنُ
خَلَقۡنَٰكُمۡ فَلَوۡلَا تُصَدِّقُونَ ٥٧ أَفَرَءَيۡتُم مَّا تُمۡنُونَ ٥٨
ءَأَنتُمۡ تَخۡلُقُونَهُۥٓ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡخَٰلِقُونَ ٥٩ نَحۡنُ قَدَّرۡنَا
بَيۡنَكُمُ ٱلۡمَوۡتَ وَمَا نَحۡنُ بِمَسۡبُوقِينَ ٦٠ عَلَىٰٓ أَن نُّبَدِّلَ
أَمۡثَٰلَكُمۡ وَنُنشِئَكُمۡ فِي مَا لَا تَعۡلَمُونَ ٦١ وَلَقَدۡ عَلِمۡتُمُ
ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأُولَىٰ فَلَوۡلَا تَذَكَّرُونَ ٦٢
" نَحۡنُ خَلَقۡنَٰكُمۡ فَلَوۡلَا تُصَدِّقُونَ "
يقول الله تعالى مقررا للمعاد ورادا على المكذبين به من أهل الكفر والزيغ والالحاد
من الذين قالوا " أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون " وقولهم
ذلك صدر منهم على وجه التكذيب والاستبعاد رد الله عليهم عزوجل نخن ابتدأنا خلقكم
بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا أفليس الذى قدر على البداءة بقادر على الاعادة بطريق
الأولى والأحرى ؟ فهل تصدقون بالبعث ؟ ، " أَفَرَءَيۡتُم مَّا تُمۡنُونَ *
ءَأَنتُمۡ تَخۡلُقُونَهُۥٓ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡخَٰلِقُونَ " قال تعالى ردا على
المنكرين البعث المنى الذى يخلق منه الولد والذى يخرج منكم أنتم الذين تخلقونه وتقرونه
فى الأرحام أم الله الخالق لذلك ؟ ونحن نعلم قدرة الله عز وجل فى ذلك فهو الرازق
للذرية وحده بمشيئته ، " نَحۡنُ قَدَّرۡنَا بَيۡنَكُمُ ٱلۡمَوۡتَ وَمَا
نَحۡنُ بِمَسۡبُوقِينَ * عَلَىٰٓ أَن نُّبَدِّلَ أَمۡثَٰلَكُمۡ وَنُنشِئَكُمۡ فِي
مَا لَا تَعۡلَمُونَ " ويرد الله عز وجل على الكافرين أنه وحده الذى كما بيده
الحياة والخلق بيده الموت ولا يعجزه شىء أن يغير خلقكم يوم القيامة ويعيد خلقكم
فيم لا تعرفون عنه شيئا من الصفات والأحوال ،
"وَلَقَدۡ عَلِمۡتُمُ
ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأُولَىٰ فَلَوۡلَا تَذَكَّرُونَ " يرد الله على الكافرين
المنكرين للبعث أنكم قد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا فخلقكم
وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة فهل تتذكرون وتعرفون أن الذى قدر على هذه النشأة
وهى البداءة قادر على النشأة الأخرى وهى الاعادة بطريق الأولى والأحرى كما قال
تعالى " وهو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه " وكما قال "
أو لا يذكر الانسان أنا خلقناه من نطفة فاذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلا ونسى
خلقه قال من يحيى العظام وهى رميم * قل يحييها الذى أنشأها أول مرة وهو بكل خلق
عليم " وقال تعالى " أيحسب الانسان أن يترك سدى * ألم يك نطفة من منى
يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى * أليس ذلك بقادر
على أن يحيى الموتى " .
أَفَرَءَيۡتُم
مَّا تَحۡرُثُونَ ٦٣ ءَأَنتُمۡ تَزۡرَعُونَهُۥٓ أَمۡ نَحۡنُ ٱلزَّٰرِعُونَ ٦٤ لَوۡ
نَشَآءُ لَجَعَلۡنَٰهُ حُطَٰمٗا فَظَلۡتُمۡ
تَفَكَّهُونَ ٦٥ إِنَّا لَمُغۡرَمُونَ ٦٦ بَلۡ نَحۡنُ مَحۡرُومُونَ ٦٧
أَفَرَءَيۡتُمُ ٱلۡمَآءَ ٱلَّذِي تَشۡرَبُونَ ٦٨ ءَأَنتُمۡ أَنزَلۡتُمُوهُ مِنَ
ٱلۡمُزۡنِ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡمُنزِلُونَ ٦٩ لَوۡ نَشَآءُ جَعَلۡنَٰهُ أُجَاجٗا فَلَوۡلَا تَشۡكُرُونَ
٧٠ أَفَرَءَيۡتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ ٧١ ءَأَنتُمۡ أَنشَأۡتُمۡ
شَجَرَتَهَآ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡمُنشُِٔونَ ٧٢ نَحۡنُ جَعَلۡنَٰهَا تَذۡكِرَةٗ وَمَتَٰعٗا لِّلۡمُقۡوِينَ ٧٣
فَسَبِّحۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلۡعَظِيمِ ٧٤ ۞
"أَفَرَءَيۡتُم
مَّا تَحۡرُثُونَ * ءَأَنتُمۡ تَزۡرَعُونَهُۥٓ أَمۡ نَحۡنُ ٱلزَّٰرِعُونَ "
يتحدث الله تعالى عن قدرته فى الخلق والبعث بالزرع والحرث فيقول عزوجل هذا الحرث
الذى تحرثونه من شق الأرض واثارتها والبذر فيها هل أنتم الذين تنبتونه فى الأرض بل
نحن الذين نقره قراره وننبته فى الأرض وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم " لا يقولن أحدكم زرعت ولكن قل حرثت " قال أبو
هريرة ألم تسمع الى قوله تعالى " أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن
الزارعون " وروى عن حجر المنذرى أنه كان اذا قرأ الآية وأمثالها يقول بل أنت
يا رب ، " لَوۡ نَشَآءُ لَجَعَلۡنَٰهُ حُطَٰمٗا فَظَلۡتُمۡ
تَفَكَّهُونَ " يقول تعالى نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا وأبقيناه لكم رحمة بكم
ولو شئنا لأيبسناه قبل استوائه واستحصاده ولوجعلناه حطاما لظلتم تفكهون فى المقالة
وتقولون "إِنَّا لَمُغۡرَمُونَ * بَلۡ نَحۡنُ مَحۡرُومُونَ " تنوعون
كلامكم فتارة تقولون انا لمغرمون أى لملقون للشر أى بل نحن مجارفون قال قتادة أى
لا يثبت لنا مال ولا ينتج لنا ربح وقال مجاهد بل نحن محرومون أى مجدودون يعنى لا
حظ لنا وقال مجاهد أيضا تفجعون وتحزنون
على ما فاتكم من زرعكم وقال ابن عباس "تفكهون " تعجبون وهذا يرجع الى الأول وهو التعجب من السبب
الذى من أجله أصيبوا فى مالهم وقال عكرمة تلاومون وقال الحسن وقتادة تندمون على ما
أنفقتم أو على ما أسلفتم من الذنوب وقال الكسائى " تفكه " من الأضداد
تقول العرب تفكهت بمعنى تنعمت وكذلك بمعنى حزنت،،"أَفَرَءَيۡتُمُ ٱلۡمَآءَ
ٱلَّذِي تَشۡرَبُونَ * ءَأَنتُمۡ أَنزَلۡتُمُوهُ مِنَ ٱلۡمُزۡنِ أَمۡ نَحۡنُ
ٱلۡمُنزِلُونَ "يتحدث الله تعالى عن نعمته فى انزال الماء من السحاب عزبا
فراتا فيقول هل تتفكروا فى الماء الذى تشربونه ؟هل أنتم الذين أنزلتموه من السحاب
أم نحن الذين أنزلناه لكم ؟ يقول ابن عباس بل نحن المنزلون ، " لَوۡ نَشَآءُ جَعَلۡنَٰهُ أُجَاجٗا فَلَوۡلَا
تَشۡكُرُونَ " يقول عز وجل ردا على الكافرين أن هذا الماء الذى تشربونه عزبا
فراتا لوشئنا لأنزناه عليكم زعاقا مرا لا يصلح لشرب ولا زرع فهل تشكرون نعمة الله
عليكم فى انزاله المطر عليكم عذبا زلالا وعن أبى جعفر عن النبى صلى الله عليه وسلم
أنه كان اذا شرب الماء قال " الحمد لله الذى سقاناه عذبا فراتا برحمته ولم
يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا " وهذا كقوله تعالى " لكم منه شراب ومنه شجر
فيه تسيمون * ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات ان فى
ذلك لآية لقوم يتفكرون" ،" أَفَرَءَيۡتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ *
ءَأَنتُمۡ أَنشَأۡتُمۡ شَجَرَتَهَآ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡمُنشُِٔونَ "يتحدث
الله عز وجل عن قدرته فى خلق النار فيقول هل تفكرتم فى النار التى تقدحون من
الزناد وتستخرجونا من أصلها أأنتم الذين ابتدعتم هذه النار وأتيتم بها الى الوجود
بل نحن الذين جعلناها مودعة فى موصعها وتستخرجونها من أصلها وللعرب شجرتان أحدهما
" المرخ " والأخرى " العفار " اذا أخذ منها غصنان أخضران فحك
أحدها بالآخر تباين من بينهما شرر النار ، " نَحۡنُ جَعَلۡنَٰهَا تَذۡكِرَة"
يقول الله عزوجل أن هذه النار التى فى الدنيا جعلناها لتذكركم بالنار الكبرى نار
جهنم فى الآخرة قال قتادة ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يا
قوم ناركم هذه التى توقدون جزء من سبعين جزأ من نار جهنم " قالوا يا رسول
الله ان كانت لكافية ؟ قال انها ضربت بالبحر ضربتين أو مرتين حتى يستنفع بها بنو
آدم ويدنوا منها " وعن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" أتدرون ما مثل ناركم هذه من نار جهنم ؟ لهى أشد سوادا من ناركم هذه بسبعين
ضعفا " ، " وَمَتَٰعٗا لِّلۡمُقۡوِينَ " قال ابن عباس وغيره يعنى بالمقوين
المسافرين وقال ومنه قولهم أقوت الدار اذا رحل أهلها وقال غيره ألقى والقواء القفر
الخالى البعيد من العمران وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم المقوى هنا الجائع وقال
مجاهد ومتاعا للمقوين للحاضر والمسافر لكل طعام لا يصلحه الا النار وعن مجاهد فى
قول آخر يعنى المستمتعين من الناس أجمعين وهذا أعم من غيره فان الحاضر والبادى من
غنى وفقير الجميع محتاجون اليها للطبخ والاصطلاء والاضاءة وغير ذلك من المنافع ثم
من لطف الله تعالى أن أودعها فيما يمكن أن يصدر عنه شرر من أحجار وغيرها وفى عصرنا
الحالى يمكن أن يتولد الشرر بطرق كثيرة علمها لنا الله بغير طريق الاحتكاك وقد
أودعت بحيث يمكن للمسافر وغيره أن يستفيد منها ولكن أفرد المسافر لأن العرب قوم
كثيرون الترحال وبيئتهم غير مستقرة وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " ثلاث لا يمنعن الماء والكلأ والنار " وعن رجل من
المهاجرين من قرن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " المسلمون شركاء فى
ثلاثة النار والكلأ والماء " ،
" فَسَبِّحۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلۡعَظِيمِ " بعد أن ذكر الله تلك الأشياء
المختلفة المتضادة من ماء زلال لو شاء الله لجعله ملحا أجاجا كالبحار المغرقة وخلق
النار المحرقة وجعل ذلك مصلحة للعباد وجعل هذه منفعة لهم فى معاش دنياهم وزجرا لهم
فى المعاد الذى خلقها بقدرته هو المستحق للتنزيه المتعالى رب العباد رب
العظمة تقدس أسمه وجل ثناؤه ولا اله الا
هو الحى القيوم .
فَلَآ
أُقۡسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ ٧٥ وَإِنَّهُۥ لَقَسَمٞ
لَّوۡ تَعۡلَمُونَ عَظِيمٌ ٧٦ إِنَّهُۥ لَقُرۡءَانٞ كَرِيمٞ ٧٧ فِي كِتَٰبٖ مَّكۡنُونٖ ٧٨ لَّا يَمَسُّهُۥٓ
إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ ٧٩ تَنزِيلٞ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ
٨٠ أَفَبِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَنتُم مُّدۡهِنُونَ ٨١ وَتَجۡعَلُونَ رِزۡقَكُمۡ
أَنَّكُمۡ تُكَذِّبُونَ ٨٢
" فَلَآ أُقۡسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ *
وَإِنَّهُۥ لَقَسَمٞ لَّوۡ
تَعۡلَمُونَ عَظِيمٌ " هذا قسم من
الله تعالى فهو وحده يقسم بما شاء من خلقه وهو دليل على عظمته وقال بعض المفسرين
" لا" زائدة وتقديره أقسم بمواقع النجوم وقال آخرون ليست زائدة لا معنى
لها بل يؤتى بها فى أول القسم اذا كان مقسما به على منفى كقول عائشة رضى الله عنها
" لا والله ما مست رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط " وهكذا
هنا تقدير الكلام لا أقسم بمواقع النجوم ليس الأمر كما زعمتم فى القرآن أنه سحر أو
كهانة بل هو قرآن كريم قال مجاهد مواقع النجوم فى السماء وهذا أقرب الى ما أثبته
علم الفلك الحديث من وجود مجموعات نجمية بعيدة فى الكون لا تعد ولا تحصى وقد سبق
القرآن عصره فاستخدم "لو تعلمون عظيم " فكان علمهم فى هذا المجال محدود
وكأن القسم مستمر الى يوم القيامة لمن يعلم عظمته وقد أثبتها العلم الحديث فنحن
نقيس المسافات بالسنين الضوئية فيقول الله عز وجل ان هذا القسم الذى أقسمت به لقسم
عظيم لو تعلمون عظمته لعظمتم المقسم به عليه " إِنَّهُۥ لَقُرۡءَانٞ كَرِيم " أى أن هذا القرآن الذى نزل على محمد صلى
الله عليه وسلم لكتاب عظيم ويكفى هذه الآية لتدل على عظمة هذا التنزيل وعظمة هذا
القرآن ، " فِي كِتَٰبٖ مَّكۡنُون" أى أن هذا
القرآن الذى نزل على محمد صلى الله عليه وسلم معظم فى كتاب محفوظ موقر ، " لَّا
يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ" اختلف فى معنى "المطهرون" هل
هومعنوى أوحسى فلو كان معنوى فان المقصود لا يمسه الا المطهرون أى الأطهار عند
الله فأما فى الدنيا فانه يمسه المجوسى النجس والمنافق الرجس وقال أبو العالية ليس
أنتم أصحاب الذنوب وقال ابن زيد زعمت كفار قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين
فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه الا المطهرون كما قال تعالى " وما تنزلت به
الشياطين وما ينبغى لهم وما يستطيعون انهم عن السمع لمعزولون " وقال الفراء
لا يجد طعمه ونفعه الا من آمن به ، والتفسير الآخر قال آخرون " لا يمسه الا
المطهرون " أى من الجنابة والحدث وقالوا المراد بالقرآن هنا المصحف كما روى
مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن الى أرض
العدو مخافة أن يناله العدو واحتجوا فى ذلك بما رواه الامام مالك فى موطئه عن عبد
الله بن أبى بكر بن محمد عن عمرو بن حزم أن فى الكتاب الذى كتبه رسول الله صلى
الله عليه وسلم لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن الا طاهر ونحن نعلم أنه لا يجوزمس
المصحف فى حالتى الجنابة والحيض ولابد أن يكون الشخص طاهر بالغسل وأن يكون متوضىء
ولكن حالة الوضوء هى التى اختلف فيها ويمكن الرجوع الى كتب الفقه ، " تَنزِيلٞ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ " هذا القرآن منزل من رب
العالمين وليس هو كما يقولون انه سحر أو كهانة أو شعر بل هو الحق الذى لا مرية فيه
، " أَفَبِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَنتُم مُّدۡهِنُونَ " الحديث هوكتاب الله
المنزل من عنده أوما أرسل به رسوله من الحق مدهنون قال ابن عباس مكذبون غير مصدقين
وقال مجاهد أى تريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا اليهم ، " وَتَجۡعَلُونَ
رِزۡقَكُمۡ أَنَّكُمۡ تُكَذِّبُونَ " قال بعضهم معنى وتجعلون رزقكم بمعنى
شكركم أنكم تكذبون أى تكذبون بدل الشكر وفى تفسير آخر أن الآية تتحدث عن نزول
المطر من عند الله أو حلول نعمة من عند الله فتنسب الى غير الله فهذا نكران وتكذيب
قال مجاهد " وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون " قولهم فى الأنواء مطرنا بنوء
كذا وبنوء كذا يقول قولوا هو من عند الله وهو رزقه وعن على رضى الله عنه قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " وتجعلون رزقكم يقول شكركم أنكم تكذبون تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا بنجم
كذا وكذا " وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال " ما أنزل الله من السماء من بركة الا أصبح فريق من الناس بها كافرين
ينزل الغيث فيقولون بكواكب كذا وكذا " وعن زيد بن خالد الجهنى أنه قال : صلى
بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية فى أثر سماء كانت من الليل
فلما انصرف أقبل على الناس فقال " هل تدرون ماذا قال ربكم " قالوا الله
ورسوله أعلم قال " قال أصبح من عبادى مؤمن بى وكافر : فأما من قال مطرنا بفضل
الله ورحمته فذلك مؤمن بى كافر بالكواكب ، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر
بى مؤمن بالكواكب " .
فَلَوۡلَآ
إِذَا بَلَغَتِ ٱلۡحُلۡقُومَ ٨٣ وَأَنتُمۡ حِينَئِذٖ تَنظُرُونَ ٨٤
وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَيۡهِ مِنكُمۡ وَلَٰكِن لَّا تُبۡصِرُونَ ٨٥
فَلَوۡلَآ إِن كُنتُمۡ غَيۡرَ مَدِينِينَ ٨٦ تَرۡجِعُونَهَآ إِن كُنتُمۡ
صَٰدِقِينَ ٨٧
يتحدث
الله عز وجل عن حالة الاحتضار وهى عند حلول الموت " فَلَوۡلَآ إِذَا
بَلَغَتِ ٱلۡحُلۡقُومَ " يقول تعالى اذا بلغت الروح الحلق كما قال تعالى
" كلا اذا بلغت التراقى * وقيل من
راق * وظن أنه الفراق * والتفت الساق بالساق * الى ربك يومئذ المساق "
القيامة 26 - 30 ولهذا قال " وَأَنتُمۡ حِينَئِذٖ تَنظُرُونَ " يتحدث الله
عزوجل عن من يحضرون المحتضر وما يكابده من سكرات الموت فلا يملكون الا النظر اليه
ولا حول لهم ولا قوة كما لا حول له ولا قوة فهو بين يدى الله عز وجل ولا يستطيعون
منع الموت عنه ، " وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَيۡهِ مِنكُمۡ" ويقول عزوجل نحن
أقرب لهذا المحتضر بملائكتنا التى تقبض روحه منكم يامن تحضرون وفاته ويا من أنتم
فى عالمه فهو ينتقل الى عالم آخر عالم الآخرة الذى علمه عند ربى عز وجل ولهذا قال
"وَلَٰكِن لَّا تُبۡصِرُونَ " أنكم لا ترون ولا تبصرون هؤلاء الملائكة
كما قال تعالى فى آية أخرى "وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى اذا
جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون * ثم ردوا الى الله مولاهم الحق ألا له
الحكم وهو أسرع الحاسبين " ،" فَلَوۡلَآ إِن كُنتُمۡ غَيۡرَ مَدِينِينَ
* تَرۡجِعُونَهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ
" قال ابن عباس ان كنتم غير مدينين يعنى محاسبين معناه فهل ترجعون هذه النفس
التى قد بلغت الحلقوم الى مكانها ومقرها من الجسد ان كنتم غير محاسبين أى تعيشون
بغير حساب من الله فأنتم ترجعون اليه وغير مخلدين ليوم الحساب فى الآخرة وقال سعيد
بن جبير والحسن البصرى اذا كنتم غير مصدقين أنكم تدانون وتبعثون وتجزون فردوا هذه
النفس وعن مجاهد " غير مدينين " غير موقنين وقال ميمون بن مهران غير
معذبين مقهورين .
فَأَمَّآ
إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ ٨٨ فَرَوۡحٞ وَرَيۡحَانٞ وَجَنَّتُ نَعِيمٖ ٨٩ وَأَمَّآ إِن
كَانَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلۡيَمِينِ ٩٠ فَسَلَٰمٞ لَّكَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلۡيَمِينِ
٩١ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ ٩٢ فَنُزُلٞ مِّنۡ حَمِيمٖ ٩٣ وَتَصۡلِيَةُ
جَحِيمٍ ٩٤ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلۡيَقِينِ ٩٥ فَسَبِّحۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ
ٱلۡعَظِيمِ ٩٦
هذه الأحوال
الثلاثة هى أحوال الناس عند احتضارهم اما
أن يكون من المقربين أو يكون ممن دونهم من أصحاب اليمين ، واما أن يكون من
المكذبين بالحق الضالين عن الهدى الجاهلين بأمر الله " فَأَمَّآ إِن كَانَ
مِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ * فَرَوۡحٞ وَرَيۡحَان" قال ابن عباس راحة
وريحان يقول مستراحة وقال مجاهد ان الروح الاستراحة وقال أبو حرزة الراحة من
الدنيا وقال سعيد بن جبير والسدى الروح الفرح وقال مجاهد " فروح وريحان
" جنة ورخاء وقال قتادة فروح فرحمة وكل هذه الأقوال متقاربة صحيحة فان من مات
مقربا حصل له ذلك من الرحمة والراحة والاستراحة والفرح والسرور والرزق الحسن ،
"وَجَنَّتُ نَعِيم" قال محمد بن كعب لا يموت أحد من الناس حتى يعلم من
أهل الجنة هو أم من أهل النار ؟ يقول عزوجل اذا كان المحتضر من المقربين وهم الذين
فعلوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات وبعض المباحات تقشفا وزهدا
منهم فان لهم روح وريحان وجنة نعيم وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت كما تقدم فى حديث البراء أن ملائكة الرحمة تقول : أيتها
الروح الطيبة فى الجسد الطيب كنت تمرينه اخرجى الى روح وريحان ورب غير غضبان وقد
تقدم الذكر عن أحاديث الاحتضار عند قوله تعالى فى سورة ابراهيم " يثبت الله الذين
آمنوا بالقول الثابت " وأجلها وأحسنها حديث تميم الدارى عن النبى صلى الله
عليه وسلم يقول " يقول الله تعالى لملك الموت انطلق الى فلان فائتنى به فانه
قد جربته بالسراء والضراء فوجدته حيث أحب ، ائتنى فلأريحه ، قال فينطلق اليه ملك
الموت ومعه خمسمائة من الملائكة معهم أكفان وحنوط من الجنة ومعهم ضبائر الريحان
أصل الريحانة واحد وفى رأسها عشرون لونا لكل لون منها ريح صاحبه ومعهم الحرير
الأبيض فيه المسك " ، " وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلۡيَمِينِ *
فَسَلَٰمٞ لَّكَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلۡيَمِينِ" اما ان كان المحتضر من أصحاب اليمين
تبشره الملائكة بذلك أنه من أصحاب اليمين تقول لأحدهم سلام لك أآ لا بأس عليك أنت
الى سلامة أنت من أصحاب اليمين وقال قتادة : سلم من عذاب الله وسلمت عليه ملائكة الله
كما قال عكرمة تسلم عليه الملائكة وتخبره أنه من أصحاب اليمين وهذا كقوله تعالى
" ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا
تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون * نحن أولياؤكم فى الحياة الدنيا وفى
الآخرة ولكم فيها ما تشتهى أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم "
وقال البخارى " فسلام لك " أى مسلم لك أنك من أصحاب اليمين ، "
وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ* فَنُزُلٞ مِّنۡ حَمِيم* وَتَصۡلِيَةُ جَحِيمٍ " واما ان كان
المحتضر من المكذبين بالحق الضالين عن الهدى فتكون ضيافتهم أن يتجرعوا الحميم وهو
المذاب الذى يصهر به ما فى بطونهم والجلود ويحرق فى النار التى تحيط به وتغمره من
جميع الجهات ، " إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلۡيَقِينِ " ينهى الله
تعالى ما سبق بأن هذا الخبر هو الحق اليقينى الذى لا يتزعزع الذى لا مرية فيه ولا
محيد عنه ، " فَسَبِّحۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلۡعَظِيمِ " بعد أن ذكر الله هذه
الأحوال للمحتضرين وعلق على ذلك بان هذا هو الحق الذى سيتحقق لذا فهوالمستحق
للتنزيه المتعالى رب العباد رب العظمة
تقدس أسمه وجل ثناؤه ولا اله الا هو الحى القيوم ، وعن عقبة بن عامر الجهنى
رضى الله عنه قال لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم " فسبح باسمربك
العظيم " قال " اجعلوها فى ركوعكم " ولما نزلت " سبح اسم ربك
الأعلى " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اجعلوها فى سجودكم "
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلمتان
خفيفتان على اللسان ثقيلتان فى الميزان حبيبتان الى الرحمن : سبحان الله وبحمده
سبحان الله العظيم " .
تفسير
الجزء السابع والعشرين
تفسير
سورة الحديد
سورة الحديد سورة مدنية ، عدد آياتها 29 آية ،وتتميز
بما تميزت به السور المدنية من طول للآيات ، وتتحدث عن المنافقين والحث على
الانفاق فى سبيل الله وتمجيد الله وتسبيحه وتحث على الحرص على العمل على مرضات
الله وطلب الجنة وطلب التوبة والرجوع الى الله كما تتحدث عن قدرة الله فى الخلق
وتعظيمه .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا
فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ١ لَهُۥ مُلۡكُ
ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ ٢ هُوَ
ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ وَٱلظَّٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ
٣
" سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ"
تبدأ السورة بذكر أن الله تعالى يسبح لهما فى السموات والأرض من كل المخلوقات
والأشياء فهو المستحق بالتنزيه فهو رب الملكوت كما قال " تسبح له السموات
السبع والأرض ومن فيهن وان من شىء الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم انه كان
حليما غفورا " ، "وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ " وهو العزيز الذى
خضع له كل شىء الحكيم فى خلقه وأمره وشرعه ، " لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ
وَٱلۡأَرۡضِۖ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ "
يخبر الله تعالى أنه هو المالك المتصرف فى خلقه فى السموات وفى الأرض فيحيى ويميت
ويعطى من يشاء ما يشاء وهو القادر على كل شىء ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فأمره
اذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، " هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ وَٱلظَّٰهِرُ
وَٱلۡبَاطِنُۖ" اختلفت عبارات المفسرين فى هذه الآية وأقوالهم على نحو بضعة
عشر قولا تتضمن الآية أسماء من أسماء الله الحسنى فهو الأول ليس قبله شىء والآخر
ليس بعده شىء وقال البخارى قال يحيى
: الظاهر على كل شىء علما والباطن على كل
شىء علما ، "وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ " يخبر الله تعالى أنه عليم
بكل شىء فهو وحده لا يخفى عليه شىء فى الأرض وفى السماء وفى الآية التى قبلها أخبر
تعالى أنه على كل شىء قدير فهو سبحانه عليم بكل شىء قادر على كل شىء له ملكوت كل
شىء المستحق للتنزيه تفرد بأسمائه الحسنى الذى تواكبت مع ما تحدثت عنه الآيات فهو
الظاهر على كل شىء علما والباكن على كل شىء علما وهو الأزلى الأول ليس قبله شىء
والآخر ليس بعده شىء فهو الحى القيوم الذى يحيى ويميت وحده ،وعن أبى هريرة رضى
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليهوسلم كان يدعو عند النوم " اللهم رب
السموات السبع ورب العرش العظيم ، ربنا ورب كل شىء ، منزل التوراة والانجيل
والفرقان ، فالق الحب والنوى لا اله الا أنت أعوذ بك من شر كل شىء أنت آخذ بناصيته
، أنت الأول فليس قبلك شىء وأنت الآخر فليس بعدك شىء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شىء
، وأنت الباطن ليس دونك شىء ، اقض عنا الدين ، واغننا من الفقر " .
هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ
فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يَعۡلَمُ مَا يَلِجُ
فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا يَخۡرُجُ مِنۡهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا
يَعۡرُجُ فِيهَاۖ وَهُوَ مَعَكُمۡ أَيۡنَ مَا كُنتُمۡۚ وَٱللَّهُ بِمَا
تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ ٤ لَّهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَإِلَى
ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ ٥ يُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ
ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِۚ وَهُوَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ٦
"
هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ "
يخبر الله تعالى عن خلقه السموات والأرض وما بينهما فى ستة أيام ثم أخبر تعالى
باستوائه على العرش بعد خلقهن وقد تقدم الكلام على هذه الآية واشباهها فى سورة
الأعراف ، " يَعۡلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلۡأَرۡضِ " أى يعلم ما يدخل فيها
قيل من قطر وحب ، " وَمَا يَخۡرُجُ مِنۡهَا" وهو سبحانه يعلم ما يخرج من
الأرض من نبات وزروع وثمار وغير ذلك كما قال تعالى " وعنده مفاتح الغيب لا
يعلمها الا هو ويعلم ما فى البر والبحر وما تسقط من ورقة الا يعلمها ولا حبة فى
ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس الا فى كتاب مبين " ، " وَمَا يَنزِلُ
مِنَ ٱلسَّمَآءِ " أى ما ينزل من السماء من أمطار وثلوج وغير ذلك والأحكام
مع الملائكة الكرام ، " وَمَا يَعۡرُجُ فِيهَاۖ" أى ما يصعد من الملائكة
والأعمال وغير ذلك وكما جاء فى الصحيح " يرفع اليه عمل الليل قبل النهار ،
وعمل النهار قبل الليل " ، "وَهُوَ مَعَكُمۡ أَيۡنَ مَا كُنتُمۡۚ
وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِير" يتحدث الله عز وجل مخبرا عباده قائلا
لهم أنى رقيب عليكم شهيد على أعمالكم حيث كنتم وأين كنتم من بر أو بحر فى ليل أو
نهار فى البيوت أو فى القفار الجميع فى علمه على السواء وتحت بصره وسمعه فيسمع
كلامكم ويرى مكانكم ويعلم سركم ونجواكم كما قال تعالى " ألا انهم يثنون
صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون انه عليم
بذات الصدور " وقال تعالى " سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو
مستخف بالليل وسارب بالنهار " فلا اله غيره ولا رب سواه وقد ثبت فى الصحيح أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل لما سأله عن الاحسان " أن تعبد الله
كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك "، " لَّهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ
وَٱلۡأَرۡضِۚ" الله عزوجل هو له وحده ملكوات السموات والأرض وما فيهما وما
بينهما ، "وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ
ٱلۡأُمُورُ " أى اليه المرجع يوم القيامة فيحكم فى خلقه بما يشاء وهو العادل
الذى لا يجور ولا يظلم مثقال ذرة بل ان يكن عمل أحدهم حسنة واحدة يضاعفها الى عشر
أمثالها المالك للدنيا والآخرة كما قال
تعالى " وان لنا للآخرة والأولى " وهو المحمود على ذلك وكما قال تعالى
" وهو الله لا اله الا هو له الحمد فى الأولى والآخرة " وكما قال تعالى
" الحمد لله الذى له ما فى السموات وما فى الأرض وله الحمد فى الآخرة وهو
الحكيم الخبير " ، " يُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ
ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِ" الايلاج هو الدخول فهما متداخلان يخبر الله عز وجل أنه هو المتصرف فى الخلق يقلب
الليل والنهار ويقدرهما بحكمته كما يشاء فتارة يطول الليل ويقصر النهار وتارة
بالعكس وتارة يتركهما معتدلين ، " وَهُوَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ" وهو يعلم السرائر وان دقت وان خفيت .
ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ
وَرَسُولِهِۦ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسۡتَخۡلَفِينَ فِيهِۖ فَٱلَّذِينَ
ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَأَنفَقُواْ لَهُمۡ أَجۡرٞ كَبِيرٞ ٧ وَمَا لَكُمۡ لَا
تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلرَّسُولُ يَدۡعُوكُمۡ لِتُؤۡمِنُواْ بِرَبِّكُمۡ وَقَدۡ
أَخَذَ مِيثَٰقَكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ٨ هُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ
عَبۡدِهِۦٓ ءَايَٰتِۢ بَيِّنَٰتٖ لِّيُخۡرِجَكُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۚ
وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمۡ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ ٩ وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ
وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ
أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ
أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ
ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ ١٠ مَّن ذَا ٱلَّذِي
يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥ وَلَهُۥٓ أَجۡرٞ كَرِيمٞ ١١
" ءَامِنُواْ
بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسۡتَخۡلَفِينَ فِيهِ"
أمر تباركوتعالى بالايمان به وبرسوله على الوجه الأكمل والدوام والثبات على ذلك
والاستمرار وحث على الانفاق فى الذى استخلف فيه عباده أى مما هو معهم على سبيل
العارية فانه قد كان فى أيدى من قبلكم ثم صار اليكم فأرشد تعالى الى استعمال ما
استخلفهم فيه من المال فى طاعته والا حاسبهم عليه وعاقبهم لتركهم الواجبات فيه
وقوله تعالى " مما جعلكم مستخلفين فيه " فيه اشارة الى أنه سيكون مخلفا
عنك فلعل وارثك أن يكيع الله فيه فيكون أسعد بما أنعم الله به عليك أو يعصى الله
فتكون قد سعيت فى معاونته على الاثم والعدوان وعن ابن عبد الله بن الشخير عن أبيه
قال انتهيت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول " ألهاكم التكاثر ،
يقول ابن آدم مالى مالى وهل لك من مالك الا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت ، أو
تصدقت فأمضيت ؟" ، " فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَأَنفَقُواْ
لَهُمۡ أَجۡرٞ كَبِير" ترغيب من
الله تعالى فى الايمان والانفاق فى الطاعة فالله سبحانه يضاعف الحسنات فالحسنة
بعشر أمثالها الى سبعمائة ضعف ، " وَمَا لَكُمۡ لَا تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ
وَٱلرَّسُولُ يَدۡعُوكُمۡ لِتُؤۡمِنُواْ بِرَبِّكُمۡ " يقول عز وجل موجها
الكلام الى عباده المؤمنين أى شىء يمنعكم من الايمان والرسول بين أظهركم يدعوكم
الى ذلك ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به ،" وَقَدۡ أَخَذَ
مِيثَٰقَكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ " ويعنى بالميثاق بيعة الرسول صلى الله
عليه وسلم كما قال تعالى " واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذى واثقكم به
اذ قلتم سمعنا وأطعنا " وقال ابن
جرير لأن المراد بذلك الميثاق الذى أخذ عليهم فى صلب آدم ، " هُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبۡدِهِۦٓ
ءَايَٰتِۢ بَيِّنَٰتٖ لِّيُخۡرِجَكُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ" يقول
الله عزوجل أنه ينزل على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم حججا واضحات ودلائل
باهرات وبراهين قاطعات وهو كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ليخرج عباده من
ظلمات الجهل والكفر والآراء المتضادة الى نور الهدى واليقين ،" وَإِنَّ
ٱللَّهَ بِكُمۡ لَرَءُوفٞ رَّحِيم" يخبر الله تعالى أنه رءوف بعباده رحيم بهم فى
انزاله الكتاب وارساله الرسل لهداية الناس وازاحة العلل وازالة الشبه ولما أمرهم
بالايمان حثهم على الانفاق وقد أزال عنهم موانعه فقال " وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي
سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ" أى أنفقوا
ولا تخشوا فقرا واقلالا فان الذى أنفقتم فى سبيله هو مالك السموات والأرض وبيده
مقاليدهما وعنده خزائنهما وهومالك العرش بما حوى وهو القائل " وما أنفقتم من
شىء فهو يخلفه وهو خير الرازقين " وقال " ما عندكم ينفد وما عند الله
باق " فمن توكل على الله أنفق ولم يخش من ذى العرش اقلالا وعلم أن الله
سيخلفه عليه ، " لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ
وَقَٰتَلَۚ" أى لا يستوى من جاهد وأنفق قبل فتح مكة وبعد الفتح وذلك أن قبل
فتح مكة كان الحال شديدا فلم يكن يؤمن حينئذ الا الصديقون وأما بعد الفتح فانه ظهر
الاسلام ظهورا عظيما ودخل الناس فى دين الله أفواجا وأصبح الأمر ميسر وليس هناك
مشقة لمن أراد أن يتبع الاسلام ولهذا قال تعالى "أُوْلَٰٓئِكَ أَعۡظَمُ
دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ
أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُوا" من أنفق وجاهد وقاتل فى سبيل الله قبل
الفتح أعظم درجة ممن أنفق بعد الفتح لأن الأجر على قدر المشقة ، " وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ
ٱلۡحُسۡنَىٰ" والله سبحانه وتعالى يخبر أن المنفقين قبل الفتح وبعده كلهم له
ثواب على ما عملوا وان كان بينهم تفاوت فى تفاضل الجزاء كما قال تعالى " لا
يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون فى سبيل الله بأموالهم
وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله
الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما " وهكذا فى الحديث
الصحيح " المؤمن القوى خير وأحب الى الله من المؤمن الضعيف وفى كل خير "
وانما نبه بهذا لئلا يهدر جانب الآخر بمدح الأول دون الآخر فيتوهم متوهم ذمه فلهذا
عطف بمدح الآخر والثناء عليه مع تفضيل الأول عليه ولهذا قال تعالى " وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِير" أى
فلخبرته بالأعمال فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل ومن فعل ذلك بعد ذلك
وما ذاك الا لعلمه بقصد الأول واخلاصه التام وانفاقه فى حال الجهد والقلة والضيق
وفى الحديث " سبق درهم مائة ألف " ولا شك عند أهل الايمان أن أبا بكر
الصديق رضى الله عنه له الحظ الأوفر من هذه الآية فانه سيد من عمل بها من سائر أمم
الأنبياء فانه أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله عز وجل ولم يكن لأحد عنده نعمة يجزيه
بها ، " مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥ
وَلَهُۥٓ أَجۡرٞ كَرِيم " القرض الحسن هو الانفاق فى سبيل الله كما قال عمر
بن الخطاب وقيل هو النفقة على العيال والصحيح أنه أعم من ذلك فكل من أنفق فى سبيل
الله بنية خالصة وعزيمة صادقة دخل فى عموم هذه الآية فالله تعالى يشبه الانفاق فى
سبيله بالقرض الحسن الواجب الرد والله يرد هذا بأضعاف مضاعفة وبالجزاء الجميل
والرزق الباهر وهو الجنة يوم القيامة وعن
عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت هذه الاية قال أبو الدحداح الأنصارى يا رسول
الله وان الله ليريد منا القرض ؟ قال " نعم يا أبا الدحداح " قال : أرنى
يدك يا رسول الله فناوله يده قال فانى قد أقرضت ربى حائطى فيه ستمائة نخلة وأم
الدحداح فيه وعيالها فجاء أبو الدحداح فناداها يا أم الدحداح قالت لبيك قال :
اخرجى فقد أقرضته ربى عزوجل " وفى رواية أنها قالت له ربح بيعك يا أبا
الدحداح ونقلت منه متاعها وصبيانها وان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "
كم من عذق رداح فى الجنة لأبى الدحداح - وفى لفظ - رب نخلة مدلاة عروقها در وياقوت
لأبى الدحداح فى الجنة " .
يَوۡمَ تَرَى
ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَسۡعَىٰ نُورُهُم بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ
وَبِأَيۡمَٰنِهِمۖ بُشۡرَىٰكُمُ ٱلۡيَوۡمَ جَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا
ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٢ يَوۡمَ
يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱنظُرُونَا
نَقۡتَبِسۡ مِن نُّورِكُمۡ قِيلَ ٱرۡجِعُواْ وَرَآءَكُمۡ فَٱلۡتَمِسُواْ نُورٗاۖ فَضُرِبَ بَيۡنَهُم
بِسُورٖ لَّهُۥ بَابُۢ
بَاطِنُهُۥ فِيهِ ٱلرَّحۡمَةُ وَظَٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلۡعَذَابُ ١٣
يُنَادُونَهُمۡ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمۡ فَتَنتُمۡ
أَنفُسَكُمۡ وَتَرَبَّصۡتُمۡ وَٱرۡتَبۡتُمۡ وَغَرَّتۡكُمُ ٱلۡأَمَانِيُّ حَتَّىٰ
جَآءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ ١٤ فَٱلۡيَوۡمَ لَا
يُؤۡخَذُ مِنكُمۡ فِدۡيَةٞ وَلَا مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ مَأۡوَىٰكُمُ
ٱلنَّارُۖ هِيَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ ١٥ ۞
" يَوۡمَ تَرَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَسۡعَىٰ نُورُهُم بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ " يقول الحسن "يسعى نورهم بين أيديهم " يعنى على الصراط يقول الله تعالى مخبرا عن المؤمنين المتصدقين والمؤمنات أنهم يوم القيامة يروا يسعى نورهم بين أيديهم فى عرصات القيامة بحسب أعمالهم كما قال عبد الله بن مسعود على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل ومنهم من نوره مثل النخلة ومنهم من نوره مثل الرجل القائم وأدناهم نورا من نوره فى ابهامه يتقد مرة ويطفأ مرة وقال قتادة ذكر لنا أن نبى الله صلى الله عليه وسلم كان يقول " من المؤمنين من يضىء نوره من المدينة الى عدن أبين وصنعاء فدون ذلك حتى أن المؤمنين من يضىء نوره موضع قدميه " وعن أبى الدرداء وأبى ذر عن النبى صلى الله عليه وسلم قال " أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود وأول من يؤذن له برفع رأسه فأنظر بين يدى ومن خلفى وعن يمينى وعن شمالى فأعرف أمتى من بين الأمم فقال له رجل يا نبى الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم ما بين نوح الى أمتك ؟ فقال أعرفهم محجلون من أثر الوضوء ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم فى وجوههم وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم " ، " وَبِأَيۡمَٰنِهِم" قال الضحاك أى وبأيمانهم كتبهم كما قال تعالى " فمن أوتى كتابه بيمينه " ، " بُشۡرَىٰكُمُ ٱلۡيَوۡمَ جَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ " يقال لهم بشراكم اليوم جنات أى لكم البشارة بجنات تجرى من تحتها الأنهار ،" خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ" أى ماكثين فيها أبدا لا يتحولون عنها ولا يزولون ،" ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ " هذا الذى ينعم به المؤمنون والمؤمنات هو الفوز العظيم الذى لا يعادله فوز الفوز بالجنة ونعيمها، هذا اخبار من الله تعالى عما يقع يوم القيامة فى العرصات من الأهوال المزعجة والزلازل العظيمة ، والأمور الفظيعة وانه لا ينجو يومئذ الا من آمن بالله ورسوله وعمل بما أمر الله به وترك ما زجر عنه يتحدث الله عن حال المنافقين يوم القيامة وهم ينظرون الى المؤمنين ونورهم متجلى وهم فى ظلمة شديدة فيرجون منهم أن ينتظروهم قال أبو أمامة فى موقف جنازة وهو يتحدث عن يوم القيامة " ثم تنتقلون الى مواطن يوم القيامة فانكم فى بعض تلك المواطن حتى يغشى الناس أمر من الله فتبيض وجوه وتسود وجوه ، ثم تنتقلون منه الى منزل آخر فيغشى الناس ظلمة شديدة ، ثم يقسم النور فيعطى المؤمن نورا ويترك الكافر والمنافق فلا يعطيان شيئا ،وهو المثل الذى ضربه الله تعالى فى كتابه فقال " أوكظلمات فى بحر لجى يغشله موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض اذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور " فلا يستضى الكافر والمنافق بنور المؤمن كما لا يستضىء الأعمى ببصر البصير ويقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا " يَوۡمَ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقۡتَبِسۡ مِن نُّورِكُم " وقال يوسف بن الحجاج عن أبى أمامة " يبعث الله ظلمة يوم القيامة فما من مؤمن ولا كافر يرى كفه حتى يبعث الله بنور الى المؤمنين بقدر أعمالهم فيتبعهم المنافقون فيقولون انظرونا نقتبس من نوركم ، " قِيلَ ٱرۡجِعُواْ وَرَآءَكُمۡ فَٱلۡتَمِسُواْ نُورٗاۖ" هى خدعة من الله خدع بها المنافقين حيث قال " يخادعون الله وهوخادعهم " فيرجعون الى المكان الذى قسم فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون اليهم وقد ضرب بينهم بسور له باب وقال ابن عباس بينما الناس فى ظلمة اذ بعث الله نورا فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه وكان النور دليلا من الله الى الجنة فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا اتبعوهم فأظلم الله على المنافقين فقالوا حينئذ " انظرونا نقتبس من نوركم " فانا كنا معكم فى الدنيا قال المؤمنون " ارجعوا وراءكم " من حيث جئتم من الظلمة فالتمسوا هنالك النور وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان الله تعالى يدعو الناس يوم القيامة بأسمائهم سترا منه على عباده ، وأما عند الصراط فان الله تعالى يعطى كل مؤمن نورا وكل منافق نورا فاذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات فقال المنافقون انظرونا نقتبس من نوركم وقال المؤمنون ربنا أتمم لنا نورنا فلا يذكر عند ذلك أحد أحدا " " فَضُرِبَ بَيۡنَهُم بِسُورٖ لَّهُۥ بَابُۢ بَاطِنُهُۥ فِيهِ ٱلرَّحۡمَةُ وَظَٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلۡعَذَابُ " قال الحسن وقتادة هو حائط بين الجنة والنار وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو الذى قال الله تعالى" وبينهما حجاب " باطنه فيه الجنة وما فيها وهى الرحمة وظاهره وادى جهنم أى النار والمراد سور يضرب يوم القيامة ليحجز بين المؤمنين والمنافقين اذا انتهى اليه المؤمنون دخلوه من بابه فاذا استكملوا دخولهم أغلق الباب وبقى المنافقون من ورائه فى الحيرة والظلمة والعذاب كما كانوا فى الدار الدنيا فى ظلمة الكفر والجهل والشك والحيرة ،" يُنَادُونَهُمۡ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡ" ينادى المنافقون المؤمنين أما كنا معكم فى الدار الدنيا نشهد معكم الجمعات ونقف معكم بعرفات ونحضر معكم الغزوات ونؤدى معكم سائر الواجبات ، "قَالُواْ بَلَىٰ" يرد المؤمنون على المنافقين قائلين بلى قد كنتم معنا ، " وَلَٰكِنَّكُمۡ فَتَنتُمۡ أَنفُسَكُمۡ وَتَرَبَّصۡتُمۡ " قال بعض السلف أى فتنتم أنفسكم باللذات والمعاصى والشهوات وتربصتم أى أخرتم التوبة من وقت الى وقت وقال قتادة " تربصتم " بالحق وأهله ، " وَٱرۡتَبۡتُمۡ " أى شككتم بالبعث بعد الموت ، " وَغَرَّتۡكُمُ ٱلۡأَمَانِيُّ " أى قلتم سيغفر لنا وقيل غرتكم الدنيا ، " حَتَّىٰ جَآءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ " أى مازلتم فى هذا حتى جاءكم الموت ، "وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ " الغرور هو الشيطان قال قتادة كانوا على خدعة من الشيطان ومازالوا عليها حتى قذفهم الله فى النار ، ومعنى هذا الكلام من المؤمنين للمنافقين أنكم كنتم معنا أى بأبدان لا نية لها ولا قلوب معها وانما كنتم فى حيرة وشك فكنتم تراءون الناس ولا تذكرون الله الا قليلا وقال مجاهد كان المنافقون مع المؤمنين أحياء يناكحونهم ويغشونهم ويعاشرونهم وكانوا معهم أمواتا ويعطون النور جميعا يوم القيامة ، ويطفأ النور من المنافقين اذا بلغوا السور ويماز بينهم حينئذ ، " فَٱلۡيَوۡمَ لَا يُؤۡخَذُ مِنكُمۡ فِدۡيَةٞ وَلَا مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ" يقول الله تعالى موبخا وزاجرا ولائما للمنافقين وللكافرين لو جاء أحدكم بملء الأرض ذهبا ومثله معه ليفتدى به من عذاب الله يوم القيامة ما قبل منه فقد حسم الأمر ، " مَأۡوَىٰكُمُ ٱلنَّارُ" مصيركم النار واليها متقلبكم ، "هِيَ مَوۡلَىٰكُمۡ" هى أولى بكم من كل منزل على كفركم وارتيابكم " وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ " ساء مصيركم الذى صرتم اليه فى النار .
أَلَمۡ
يَأۡنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن تَخۡشَعَ قُلُوبُهُمۡ لِذِكۡرِ ٱللَّهِ وَمَا
نَزَلَ مِنَ ٱلۡحَقِّ وَلَا يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن
قَبۡلُ فَطَالَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَمَدُ فَقَسَتۡ قُلُوبُهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ
١٦ ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحۡيِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ
قَدۡ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ ١٧
عن ابن عباس قال ان الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على راس ثلاث عشرة من نزول القرآن فقال "أَلَمۡ يَأۡنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن تَخۡشَعَ قُلُوبُهُمۡ لِذِكۡرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلۡحَقِّ " يقول تعالى أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله أى تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه وعن شداد بن أوس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ان أول ما يرفع من الناس الخشوع"، "وَلَا يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلُ فَطَالَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَمَدُ فَقَسَتۡ قُلُوبُهُمۡ" نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى لما تطاول عليهم الأمد بدلوا كتاب الله الذى بأيديهم واشتروا به ثمنا قليلا ونبذوه وراء ظهورهم وأقبلوا على الآراء المختلفة والأقوال المؤتفكة ، وقلدوا الرجال فى دين الله واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله فعند ذلك قست قلوبهم فلا يقبلون موعظة ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد ، " وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ " يتحدث الله عزوجل عن الذين نهى المؤمنين عن التشبه بهم من أهل الكتاب أن أكثرهم عصاة لله خارجون عن طاعة الله ومنهجه فى الأعمال فقلوبهم فاسدة وأعمالهم باطلة كما قال تعالى " فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به " أى فسدت قلوبهم فقست وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه وتركوا الأعمال التى أمروا بها وارتكبوا ما نهوا عنه ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم فى شىء من الأمور الأصلية والفرعية ،" ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحۡيِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ قَدۡ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ " يخبر الله تعالى عباده المؤمنين بقدرته ومنته عليهم لعلهم يعلمون ما يخبر به فيتقونه بعد أن بين ووضح لهم طريق الحق فيعقلونه ويعملون به وفى هذا اشارة الى أن الله تعالى يلين القلوب بعد قسوتها ويهدى الحيارى بعد ضلتها ويفرج الكروب بعد شدتها فكما يحيى الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث كذلك يهدى القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل ، ويولج اليها النور بعد أن كانت مقفلة لا يصل اليها الواصل ، فسبحان الهادى لمن يشاء بعد الضلال ، والمضل لمن أراد بعد الكمال ، الذى هو لما يشاء فعال ، وهو الحكيم العدل فى جميع الفعال ، اللطيف الخبير الكبير المتعال ،
إِنَّ
ٱلۡمُصَّدِّقِينَ وَٱلۡمُصَّدِّقَٰتِ وَأَقۡرَضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا يُضَٰعَفُ لَهُمۡ
وَلَهُمۡ أَجۡرٞ كَرِيمٞ ١٨ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦٓ
أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَۖ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمۡ لَهُمۡ
أَجۡرُهُمۡ وَنُورُهُمۡۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ
ٱلۡجَحِيمِ ١٩
"إِنَّ ٱلۡمُصَّدِّقِينَ
وَٱلۡمُصَّدِّقَٰتِ وَأَقۡرَضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا " ورد فى الآية
" وأقرضوا الله قرضا حسنا " ونحن نعلم أن الاقراض يكون الاعطاء بنية أن
يرد الينا ما أعطينا والله هو الرزاق الذى يرزق بغير حساب وهو الكريم فحثا
للمؤمنين على الانفاق استخدم القرض الحسن أى أن ما تقدمونه حتى وان قدمتوه بنية العطاء
الذى لا ينتظر الرد سيرد لكم من الله أضعافا مضاعفة ، يخبر الله تعالى عما يثيب به
المصدقين والمصدقات بأموالهم على أهل الحاجة والفقر والمسكنة ودفعوا أموالهم وما
تصدقوا به بنية خالصة ابتغاء مرضاة الله لا يريدون جزاءا ممن أعطوه ولا شكورا
ولهذا قال " يُضَٰعَفُ لَهُمۡ " أى يقابل لهم الحسنة بعشر أمثالها ويزاد
ذلك الى سبعمائة ضعف وفوق ذلك ،" وَلَهُمۡ أَجۡرٞ كَرِيم" ولهم ثواب جزيل حسن ومرجع صالح ومآب حسن ،" وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ
بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ" هذه مفصولة فى
المعنى يتحدث الله عز وجل عن الذين آمنوا بالله ورسله أنهم هم الصديقون فهم قد
صدقوا مع الله فى ايمانهم فصدقوا ما جاءت به الرسل من عند ربهم واتبعوهم فصدق
ايمانهم " وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمۡ " وكذلك الشهداء مضاف على ما
قبله ، وعن عبد الله بن مسعود فى قوله " وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ
وَرُسُلِهِۦٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَۖ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمۡ
" قال هم ثلاثة أصناف : يعنى المصدقين والصديقين والشهداء كما قال تعالى
" ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين " ففرق بين الصديقين والشهداء فدل على أنهما
صنفان ولاشك أن الصديق أعلى مقاما من الشهيد كما رواه الامام مالك بن أنس فى كتابه
الموطأ عن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ان أهل
الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدرى الغابر فى الأفق من
المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم " قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء
لا يبلغها غيرهم قال " بلى والذى نفسى بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين
" وقال آخرون بل المراد فى قوله تعالى " أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَۖ
وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمۡ " أن الله تعالى أخبر عن المؤمنين بالله
ورسله بأنهم صديقون وشهداء ، " لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ وَنُورُهُمۡۖ" لهم عند
ربهم أجرجزيل ونور عظيم يسعى بين أيديهم وهم فى ذلك يتفاوتون بحسب ما كانوا فى
الدار الدنيا من الأعمال ، " وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَآ أُوْلَٰٓئِكَ
أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ " لما ذكر الله تعالى السعداء ومآلهم عطف بذكر الأشقياء
وبين حالهم وهم الذين كفروا وكذبوا بآيات الله فهم يلقون فى نار جهنم ووصفهم بأنهم
أصحاب الجحيم أى أهل النار الملازمون المعمرون لها كما نقول أصحاب البيت أو
البستان وغير ذلك أى ملاكه الملازمون له صحبة متلازمة لا تزول ولا تحول .
ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا
ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا لَعِبٞ وَلَهۡوٞ وَزِينَةٞ وَتَفَاخُرُۢ بَيۡنَكُمۡ وَتَكَاثُرٞ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ
وَٱلۡأَوۡلَٰدِۖ كَمَثَلِ غَيۡثٍ أَعۡجَبَ ٱلۡكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ
فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرّٗا ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰمٗاۖ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٞ شَدِيدٞ وَمَغۡفِرَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ
وَرِضۡوَٰنٞۚ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ
ٱلۡغُرُورِ ٢٠ سَابِقُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ
وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا كَعَرۡضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ أُعِدَّتۡ لِلَّذِينَ
ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن
يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ ٢١
"ٱعۡلَمُوٓاْ
أَنَّمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا لَعِبٞ وَلَهۡوٞ وَزِينَةٞ وَتَفَاخُرُۢ بَيۡنَكُمۡ وَتَكَاثُرٞ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ
وَٱلۡأَوۡلَٰدِ" يقول الله تعالى موهنا أمر الحياة الدنيا ومحقرا لها اعرفوا
واعلموا أيها المؤمنون انما حاصل أمرها عند أهلها أنها لعب ولهو كل ما فيها ليس
بجاد وانشغال فنحن نعلم أن كل ما يشغل ويبعد عن ذكر الله يصدق عليه هذا الوصف
" ألا ان كل شىء ما خلا الله باطل * وأن كل نعيم لا محالة زائل " وكل ما
على الأرض زينة أى مزين للنفس حسنه وان كان ليس حسنا حقيقيا فهو سرعان ما يزول كما
نزين أى مكان وأى شىء من حولنا أى نحسنه حتى يعجب من ينظر اليه والحياة الدنيا
تفاخر بين الناس ففيها التفاوت فى المنازل والعطاء ومن متاع الدنيا الزائل التباهى
بكثرة الأموال والأولاد وهذا كما قال
تعالى " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب
والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن
المآب " ، ثم ضرب تعالى مثل الحياة الدنيا فى أنها زهرة فانية ونعمة زائلة
فقال"كَمَثَلِ غَيۡثٍ " الغيث هو المطر الذى يغيث الناس يأتى بعد قنوط
كما قال تعالى " وهو الذى ينزل الغيث من بعد ما قنطوا " ، " أَعۡجَبَ
ٱلۡكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ" أى يعجب الزراع نبات ذلك الزرع الذى نبت بالغيث وكما
يعجب الزراع كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفار فانهم أحرص شىء عليها وأميل الناس
أليها ، " ثُمَّ يَهِيجُ " أى يكبر هذا الزرع "فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرّٗا ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰمٗا" فتراه مصفرا أى
أصفر يابسا بعد ما كان خضرا نضرا ثم يكون بعد ذلك كله حطاما أى يصير يابسا متحطما
هكذا الحياة الدنيا تكون أولا شابة ثم تكتهل ثم تكون عجوزا شوهاء ، والانسان يكون
كذلك فى أول عمره وعنفوان شبابه غضا طريا لين الأعطاف بهى المنظر ثم أنه يشرع فى
الكهولة فتتغير طباعه ويفقد بعض قواه ثم يكبر فيصير شيخل كبيرا ضعيف القوى ، قليل
الحركة يعجزه الشىء اليسير وهذا حال الدنيا كحال الانسان أيضا وحال كل شىء فى
الدنيا ، "وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٞ شَدِيدٞ وَمَغۡفِرَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰن" ولما كان هذا المثل دالا على زوال
الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة وأن الآخرة كائنة لا محالة حذر من أمرها ورغب
فيما فيها من الخير أى وليس فى الآخرة اما عذاب شديد ، واما مغفرة من الله ورضوان
،" وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ " يقول
الله تعالى معلقا ومعقبا أن الحياة الدنيا هى متاع فان وزائل وغار لمن ركن اليه
فانه يغتر بها وتعجبه حتى يعتقد أن لا دار سواها ولا معاد وراءها وهى حقيرة قليلة
بالنسبة الى الدار الآخرة وعن أبى هريرة ضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم " لموضع سوط فى الجنة خير من الدنيا وما فيها وعن عبد الله قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " للجنة أقرب الى أحدكم من شراك نعله والنار
مثل ذلك " ففى هذا الحديث دليل على اقتراب الخير والشر من الانسان ، واذا لزم
الأمر كذلك فلهذا حثه الله تعالى على المبادرة الى الخيرات من فعل الطاعات وترك
المحرمات التى تكفر عنه الذنوب والزلات وتحصل له الثواب والدرجات فقال تعالى " سَابِقُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ
وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا كَعَرۡضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ" يدعو الله تعالى الى
التسابق الى طلب المغفرة من الله والعفو منه والتوبة من كل ذنب والى عمل الأعمال
الصالحة التى تؤدى وتفضى الى الجنة التى وصفها الله عز وجل أن عرضها السموات
والأرض وهذا الوصف لتصوير كبر حجم الجنة وسعتها ولتقريب الأمور الى الفهم ، "
أُعِدَّتۡ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ" والتى أعدها الله لعباده الذين آمنوا بالله
ورسله وهذا كقوله " وسارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض
أعدت للمتقين " " ذَٰلِكَ
فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ
" أى هذا الذى أهلهم الله له هو من فضله ومنه عليهم واحسانه اليهم فهو صاحب
الفضل العظيم وحده هذا كما تقدم فى الصحيح أن فقراء المهاجرين قالوا يا رسول الله
ذهب أهل الدثور بالأجور بالدرجات العلى والنعيم المقيم قال " وما ذاك ؟
" قالوا " يصلون كما نصلى ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ،
ويعتقون ولا نعتق " قال " أفلا أدلكم على شىء اذا فعلتموه سبقتم من
بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم الا من صنع مثل ما صنعتم ؟ تسبحون وتكبرون وتحمدون
دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين " فرجعوا فقالوا : سمع اخواننا أهل الأموال ما
فعلنا ففعلوا مثله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذلك فضل الله يؤتيه
من يشاء " .
مَآ أَصَابَ مِن
مُّصِيبَةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِي
كِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ أَن
نَّبۡرَأَهَآۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ ٢٢ لِّكَيۡلَا
تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ وَٱللَّهُ
لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٍ ٢٣ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ وَيَأۡمُرُونَ
ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِۗ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ
ٱلۡحَمِيدُ ٢٤
" مَآ أَصَابَ
مِن مُّصِيبَةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ " يخبر
الله تعالى عن قدره السابق فى خلقه قبل أن يبرأ البرية فقال أن ما يقع من مصائب
وأحداث فى الأرض أى فى الآفاق قال قتادة ما أصاب من مصيبة فى الأرض قال هى السنون
يعنى الجدب " وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ"
يقول الأوجاع والأمراض قال وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدش عود ولا نكبة قدم ولا
خلجان عرق الا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر ، " إِلَّا فِي كِتَٰب" أى
مقدرة من الله مكتوبة عنده ، " مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَآ" أى من
قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة وقال بعضهم من قبل أن نبرأها عائد على النفوس
وقيل عائد على المصيبة والأحسن عوده على الخليقة والبرية لدلالة الكلام عليها وهذه
الآية الكريمة العظيمة أدل دليل على القدرية فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " قدر الله المقادير قبل أن يخلق
السموات والأرض بخمسين ألف سنة " إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِير" أى أن علمه تعالى
الأشياء قبل كونها وكتابته لها طبق ما يوجد فى حينها سهل على الله عز وجل لأنه
يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، " لِّكَيۡلَا
تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ "أى أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا
للأشياء قبل كونها وتقديرنا الكائنات قبل وجودها لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن
ليخطئكم وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم فلا تأسوا أى لا تحزنوا على ما فاتكم لأنه لو
قدر لكان ، " وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡ" لاتفرحوا بما جاءكم
وكذلك أعطاكم وكلاهما متلازم أى لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم فان
ذلك ليس بسعيكم ولا كدكم وانما هو عن قدر الله ورزقه لكم فلا تتخذوا نعم الله أشرا
وبطرا تفخرون بها على الناس ولهذا قال تعالى " وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ
مُخۡتَالٖ فَخُورٍ " أى
مختال فى نفسه متكبر فخور أى على غيره وقال عكرمة ليس أحد الا وهو يفرح ويحزن ولكن
اجعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا ، " ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ وَيَأۡمُرُونَ
ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِ" يتحدث الله تعالى عن المختال الفخور هم الذين يفعلون
المنكر ويحضون الناس عليه ، " وَمَن
يَتَوَلَّ " أى من يعرض ويبتعد عن أمر الله وطاعته ،" فَإِنَّ ٱللَّهَ
هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ " فان الله ليس بحاجة الى طاعته فهو الغنى عن
عباده رغم أنه هو المستحق للحمد منهم والشكر لنعمته التى أنعمها عليهم كما قال
موسى عليه السلام " ان تكفروا أنتم ومن فى الأرض جميعا فان الله لغنى حميد
" .
لَقَدۡ
أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ
وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ
بَأۡسٞ شَدِيدٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ
وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ
قَوِيٌّ عَزِيزٞ ٢٥
" لَقَدۡ
أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ " يقول الله تعالى ارسلنا رسلنا
بالمعجزات والحجج الباهرات والدلائل القاطعات ، "وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ
ٱلۡكِتَٰبَ " وهو التنزيل من الله وهو النقل الصدق عنه سبحانه وتعالى ،
" وَٱلۡمِيزَانَ " وهو العدل وقال مجاهد وقتادة وغيرهما وهو الحق الذى
تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة الآراء السقيمة كما قال تعالى "
والسماء رفعها ووضع الميزان " ولهذا قال فى هذه الآية ،" لِيَقُومَ
ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِ" أى بالحق والعدل وهو اتباع الرسل فيما أخبروه به
وطاعتهم فيما أمروا به فان الذى جاؤا به هو الحق الذى ليس وراءه حق كما قال "
وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا " أى صدقا فى الاخبار وعدلا فى الأوامر
والنواهى ولهذا يقول المؤمنون اذا تبوؤا
غرف الجنات ، والمنازل العاليات ، والسرر المصفوفات " الحمد لله الذى هدانا
لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق " ، " وَأَنزَلۡنَا
ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٞ شَدِيدٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ " يتحدث الله عز وجل عن نعمة من نعمه
وهو انزال الحديد من السماء وهى آية من آيات الاعجاز العلمى فى القرآن ثبتت بالعلم
الحديث فالحديد الذى فى الأرض وفى باطن الأرض منزل من الله والبأس هو الشدة والقوة
فمن الحديد يصنع الكثير من الأشياء التى على سطح الأرض ويخلط بالمعادن الآخرى لتتكون
سبائك ونحن نعلم صلابة الحديد ويصنع منه الفولاذ وفى الحديد منافع لا تعد ولا تحصى
ويكاد يدخل فى كل شىء يستخدمه الناس فى حياتهم اليومية تصنع منه عدة القتل من سيوف
وسهام وحراب فى العصر القديم وفى عصرنا الحديث المدافع والدبابات والأجهزة التى
نستخدمها والأدوات التى نستخدمها فمنافع الحديد للناس لا تعد ولا تحصى ، "
وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِ" واذا كان
الحديد يقصد به تخصيص معدات القتال التى تصنع منه وتستخدم فى الجهاد قديما وحديثا
فان الله يعقب على ذلك أنه يعلم من يحمل سلاحه ونيته فى حمل السلاح نصرة الله
ورسله فالرسل بما فيهم محمد صلى الله عليه وسلم رسالتهم واحدة منذ أن أرسلهم الله
، " إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز " والله هو قوى وهو رب العزة ينصر من
ينصره من غير احتياج منه الى الناس وانما شرع الجهاد ليبلوا بعضكم ببعض .
وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحٗا وَإِبۡرَٰهِيمَ
وَجَعَلۡنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلۡكِتَٰبَۖ فَمِنۡهُم مُّهۡتَدٖۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ
٢٦ ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ
مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ
ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا
عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ
رِعَايَتِهَاۖ فََٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ
أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ ٢٧
" وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحٗا
وَإِبۡرَٰهِيمَ وَجَعَلۡنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلۡكِتَٰبَ"
يخبر الله تعالى أنه منذ بعث نوحا عليه السلام لم يرسل بعده رسولا ولا نبيا الا من
ذريته وكذلك ابراهيم عليه السلام خليل الرحمن لم ينزل من السماء كتابا ولا أرسل
رسولا ولا أوحى الى بشر من بعده الا وهو من سلالته كما قال فى الآية الأخرى "
وجعلنا فى ذريتهما النبوة والكتاب " " وهو الكتاب الذى أوحاه الله
اليه ، "فَمِنۡهُم مُّهۡتَدٖۖ
وَكَثِيرٞ
مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ " رغم أن الله عز وجل أرسل هديه وبعث رسله فان من اهتدى
كان القليل والأكثرية هم الفاسقون أى الخارجون عن طاعة الله ، " ثُمَّ
قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ
" حتى كان آخر أنبياء بنى اسرائيل عيسى ابن مريم الذى بشر من بعده بمحمد
صلوات الله وسلامه عليهما ولهذا قال تعالى "وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَ"
وآتيناه الانجيل أى أنزلنا عليه الانجيل ، "وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ
ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَة" الذين اتبعوا المسيح عليه السلام هم الحواريون وجعل الله فى قلوبهم
رأفة أى رقة وهى خشية الله وجعل الله فى قلوبهم كذلك رحمة بالخلق ، "
وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا "
يتحدث الله عن الرهبانية التى أبتدها النصارى من بعد عيسى عليه السلام فهى لم تكن
مشرعة من الله يقول تعالى ما شرعنها لهم وانما هم التزموها من تلقاء أنفسهم ،
" مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ "
فى هذه الآية قولان أحدهما أنهم عندما ابتدعوا الرهبانية من أنفسهم قصدوا بذلك
رضوان الله وان كانت قد خرجت بعد ذلك وتجاوزت الحدود كما قال تعالى" فَمَا
رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا" أى ما قاموا بما التزموه خير قيام ، وهذا ذم
لهم من وجهين أحدهما الابتداع فى دين الله ما لم يأمر به الله والثانى فى عدم
قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة تقربهم الى الله عز وجل وعن ابن مسعود قال
قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا ابن مسعود " قلت لبيك يا رسول
الله قال " هل علمت أن بنى اسرائيل افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة ؟ لم ينج
منها الا ثلاث فرق قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم عليه السلام فدعت
الى دين الله ودين عيسى ابن مريم فقاتلت الجبابرة فقتلت فصبرت ونجت ، ثم قامت
طائفة أخرى لم تكن لها قوة بالقتال فقامت بين الملوك والجبابرة فدعوا الى دين الله
ودين عيسى ابن مريم فقتلت وقطعت بالمناشير وحرقت بالنيران فصبرت ونجت ، ثم قامت
طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال ولم تطق القيام بالقسط فلحقت بالجبال فتعبدت
وترهبت وهم الذين ذكر الله تعالى "وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا
كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ " ، " فََٔاتَيۡنَا
ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡ" يتحدث الله تعالى انه عز وجل قد
كافأ الذين آمنوا بالمسيح عليه السلام وصدقوا به بأن آتهم أجرهم كاملا غير منقوص ،
" وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ " ويخبر الله عز وجل أن كثيرين قد
كذبوا عيسى عليه السلام وخالفوه أيضا .
يَٓأَيُّهَا ٰ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ
بِرَسُولِهِۦ يُؤۡتِكُمۡ كِفۡلَيۡنِ مِن رَّحۡمَتِهِۦ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ نُورٗا تَمۡشُونَ بِهِۦ
وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٢٨ لِّئَلَّا يَعۡلَمَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ أَلَّا
يَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَيۡءٖ مِّن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ
يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ ٢۹
"
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِۦ
يُؤۡتِكُمۡ كِفۡلَيۡنِ مِن رَّحۡمَتِهِ"
عن ابن عباس أنه حمل هذه الآية على مؤمنى أهل الكتاب وأنهم يؤتون أجرهم
مرتين اذا آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم كما فى الحديث عن أبى موسى الأشعرى
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من
أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بى فله أجران ، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه فله
أجران ، ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران " وقال سعيد بن جبير لما افتخر أهل الكتاب بأنهم
يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله تعالى هذه الآية فى حق هذه الأمة ، " وَيَجۡعَل
لَّكُمۡ نُورٗا تَمۡشُونَ بِهِ" يعنى هدى يتبصر به من العمى والجهالة ويغفر لكم ،
ففضلهم بالنور والمغفرة وهذا كقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا ان تتقوا
الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيآتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم " وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيم" يتحدث الله عز وجل أنه سيجازى المؤمنين كذلك بالمغفرة لذنوبهم فهو الغفور
الذى يقبل التوبة ويصفح عن عباده برحمته ، عن أبى موسى عن النبى صلى الله عليه
وسلم قال " مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استعمل قوما يعملون له
عملا يوما الى الليل على أجر معلوم فعملوا الى نصف النهار فقالوا لا حاجة لنا فى
أجرك الذى شرطت لنا وما عملنا باطل فقال لهم لا تفعلوا أكملوا بقية عملكم وخذوا
أجركم كاملا فأبوا وتركوا واستأجر آخرين بعدهم فقال أكملوا بقية يومكم ولكم الذى
شرطت لهم من الأجر فعملوا حتى اذا كان حين صلوا العصر قالوا ما عملنا باطل ولك
الأجر الذى جعلت لنا فيه ، فقال أكملوا بقية عملكم فانما بقى من النهار يسيرا
فابوا ، فاستأجر قوما أن يعملوا له بقية يومهم ، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس
فاستكملوا أجر الفريقين كليهما فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور "
انفرد به البخارى ولهذا قال تعالى " لِّئَلَّا يَعۡلَمَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ أَلَّا
يَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَيۡءٖ مِّن فَضۡلِ ٱللَّهِ أى ليتحققوا
أنهم لا يقدرون على رد ما أعطاه الله ولا اعطاء ما منع الله " وَأَنَّ
ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ"وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ
ٱلۡعَظِيمِ " قال ابن جرير " لئلا يعلم أهل الكتاب " أى ليعلم أهل
الكتاب وذكر عن ابن مسعود أنه قرأها لكى يعلم وقال ابن جرير لأن العرب تجعل لا صلة
فى كل كلام دخل فى أوله وآخره جحد غير مصرح فالسابق كقوله " ما منعك ألا تسجد
" وكقوله " وما يشعركم أنها اذا
جاءت لا يؤمنون " ويكون المعنى أنه
يقول تعالى ليعلم أهل الكتاب كذلك أن الفضل والنعمة التى يمن بها على عباده
بيده وحده يؤتى ذلك لمن يشاء من عباده بحكمته فهو صاحب الفضل الكبير على عباده .
No comments:
Post a Comment