تبسيط تفسير أبن كثير للقرآن الكريم ( 15 )
الجزء
الخامس عشر
تفسير
سورة الاسراء
سورة الاسراء مكية وتسمى
" سبحان " وتسمى " بنى اسرائيل " عن أبى لبابة قال سمعت عائشة
رضى الله عنها تقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول ما يريد أن يفطر ،
ويفطر حتى نقول ما يريد أن يصوم وكان يقرأ كل ليلة بنى اسرائيل والزمر .
سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ
ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ
لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ١
" سُبۡحَٰنَ " يمجد تعالى نفسه ويعظم شأنه لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه تنزه ، " ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ" يعنى محمد صلى الله عليه وسلم ، " لَيۡلٗا " أى فى جنح الليل ، " مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ " وهو مسجد مكة ، " إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا " وهو بيت المقدس ، " ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُ " جعلنا البركة فى هذا المكان وهو مكان مقدس تشد اليه الرحال ، " ۥ لِنُرِيَهُۥ أى نرى محمد صلى الله عليه وسلم ، " مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ"من معجزات ودلائل عظيمة كما قال تعالى " لقد رأى من آيات ربه الكبرى " إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ " الله هو السميع لأقوال عباده مؤمنهم وكافرهم ، مصدقهم ومكذبهم ، البصير بهم فيعطى كلا منهم ما يستحقه فى الدنيا والآخرة .
وَءَاتَيۡنَا
مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلۡنَٰهُ هُدٗى لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُواْ مِن
دُونِي وَكِيلٗا ٢ ذُرِّيَّةَ مَنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٍۚ إِنَّهُۥ
كَانَ عَبۡدٗا شَكُورٗا ٣
لما ذكر الله أنه أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم عطف بذكر موسى عليه ا لسلام وكثيرا ما يقرن الله ذكر موسى ومحمد عليهما من الله الصلاة والسلام وبين ذكر التوراة والقرآن " وَءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ " يقول الله تعالى أنه أنزل على موسى عليه السلام التوراة ، " وَجَعَلۡنَٰهُ هُدٗى لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ " وجعل الله التوراة وما أنزل فيها هاديا لبنى اسرائيل ، " أَلَّا تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلٗا " وأمر الله بنى اسرائيل أن لا يتخذوا من دونه وليا ولا نصيرا ولا معبودا من دونه لأن الله تعالى أنزل على كل نبى أرسله أن يعبد وحده لا شريك له ، " ذُرِّيَّةَ مَنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٍۚ " تقديرمنادى ياذرية من حملنا مع نوح فى السفينة من المؤمنين بعد اهلاك الكافرين وانجاء المؤمنين وتخليص الأرض من الكفر تشبهوا بأبيكم نوح ، " إِنَّهُۥ كَانَ عَبۡدٗا شَكُورٗا " أقتدوا بنوح عليه السلام انه كان عبدا لله حق العبودية يعبده ويطيعه ويطيع أوامره وهذه صفة مهمة عند التعرض لبنى اسرائيل فهم يدعون أنهم أبناء الله وأحباؤه دون عباده من البشر ويصف الله نوح عليه السلام بانه شكورا أى كثير الشكر لله فكان يحمد الله على كل حال وعن سعد بن مسعود الثقفى قال انما سمى نوح عبدا شكورا لأنه كان اذا أكل أو شرب حمد الله وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ان الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمد الله عليها " رواه مسلم والترمذى والنسائى ، وذكر صفة الشكر منذ القديم منذ نوح عليه السلام عند ذكر بنى اسرائيل فيه دلالة لأنهم كانوا كثيرا ما يجحدون نعمة ربهم حين أنزل المن والسلوى فطلبوا من موسى عليه السلام أن يسأل الله أن يخرج لهم مما تنبت الأرض من بقلها وفومها وعدسه وبصلها وطلبوا أن يروا الله جهرة وكانوا لايقبلون أمر الله بالقبول والطاعة والفناعة والشكر بل كانوا لا يكفون عن الطلب وكانوا يحتالون ويتباطؤن فى تنفيذ أوامر الله لهم عندما أمرهم بدخول بيت المقدس وعندما طلب منهم أن يذبحوا بقرة فهم قوم بهت لا يقابلون نعمة الله بالشكر ولا يقبلون أوامر الله بالطاعة .
وَقَضَيۡنَآ إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ فِي
ٱلۡكِتَٰبِ لَتُفۡسِدُنَّ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَّتَيۡنِ وَلَتَعۡلُنَّ عُلُوّٗا كَبِيرٗا ٤ فَإِذَا جَآءَ
وَعۡدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثۡنَا عَلَيۡكُمۡ عِبَادٗا لَّنَآ أُوْلِي
بَأۡسٖ شَدِيدٖ فَجَاسُواْ خِلَٰلَ
ٱلدِّيَارِۚ وَكَانَ وَعۡدٗا مَّفۡعُولٗا ٥ ثُمَّ رَدَدۡنَا لَكُمُ ٱلۡكَرَّةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَمۡدَدۡنَٰكُم
بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ أَكۡثَرَ نَفِيرًا ٦ إِنۡ
أَحۡسَنتُمۡ أَحۡسَنتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡۖ وَإِنۡ أَسَأۡتُمۡ فَلَهَاۚ فَإِذَا
جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ لِيَسُُٔواْ
وُجُوهَكُمۡ وَلِيَدۡخُلُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا
عَلَوۡاْ تَتۡبِيرًا ٧ عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يَرۡحَمَكُمۡۚ وَإِنۡ عُدتُّمۡ
عُدۡنَاۚ وَجَعَلۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ حَصِيرًا ٨
" وَقَضَيۡنَآ إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ " يخبر الله أنه تقدم الى بنى اسرائيل وكتب عنده او أخبرهم فى الكتاب الذى أنزله عليهم وهو التوراة وهذا كقوله " وقضينا اليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين " أى تقدمنا اليه وأخبرناه وأعلمناه " لَتُفۡسِدُنَّ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَّتَيۡنِ " أخبرهم الله أنهم سيفسدون فى الأرض مرتين ، " وَلَتَعۡلُنَّ عُلُوّٗا كَبِيرٗا " وأخبر الله تعالى أنهم سيعلون علوا كبيرا أى سيرتفع شأنهم سيكون لهم الملك مرتين ويتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس ، " فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ أُولَىٰهُمَا "اذا جاء ميعاد أولى الافسادتين ، " بَعَثۡنَا عَلَيۡكُمۡ عِبَادٗا لَّنَآ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيد" سلطنا عليكم جندا من خلقنا أولى قوة وعدة وسلطنة شديدة ، " فَجَاسُواْ خِلَٰلَ ٱلدِّيَارِۚ " فتملكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم أى بينها ووسطها فدمروها وانصرفوا ذاهبين لا يخافون أحدا ، " وَكَانَ وَعۡدٗا مَّفۡعُولٗا " وهذا له ميعاد وقدر من الله محتم الوقوع ، وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف الى عصرنا الحالى فى هؤلاء المسلطين عليهم من هم وكذلك فى المرتين عن ابن عباس قال أنه جالوت وجنوده سلط عليهم أولا ثم أديلوا عليه بعد ذلك وقتل داود جالوت ولهذا قال " ثُمَّ رَدَدۡنَا لَكُمُ ٱلۡكَرَّةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَمۡدَدۡنَٰكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ أَكۡثَرَ نَفِيرًا"وعن سعيد بن جبير أنه ملك الموصل سنجاريب وجنوده وعنه أيضا وعن غيره أنه بختنصر ملك بابل وقال أبن أبى حاتم أنه سار الى بيت المقدس فقتل بها خلقا كثيرا من بنى اسرائيل وسبى منهم الكثير وأخذه الى بابل وقد وردت فى هذا آثار كثيرة اسرائيلية منها ما هو موضوع من وضع بعض زنادقتهم ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحا ونحن فى غنية عنها ، وفيما قص الله علينا فى كتابه وكذلك ما ورد من أحاديث فى السنة غنية عما سواهما ولم يحوجنا الله ولا رسوله اليهم ، وقد أخبر الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا سلط الله عليهم عدوهم فاستباح بيضتهم وملك خلال بيوتهم فدمرها وأذلهم وقهرهم جزاءا وفاقا فانهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء حتى أنه لم يبق من يحفظ التوراة وأخذ منهم خلقا كثيرا أسرى ،" إِنۡ أَحۡسَنتُمۡ أَحۡسَنتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡۖ وَإِنۡ أَسَأۡتُمۡ فَلَهَا " يعقب الله ذلك بقوله ان فعلكم الحسنات فهذا لأنفسكم تنالون جزاءه وان ارتكبتم السيئات فعلى أنفسكم ستحاسبون بها كقوله " عن عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها " ، " فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ " اذا جاء موعد الكرة الأخرى أى اذا أفسدتم الكرة الثانية ، وقال مفسرون فى عصرنا أن وجود اليهود فى فلسطين فى عصرنا الحالى واحتلالهم أرضها هو المرة الثانية وكلمة " الآخرة " تعنى قرب يوم القيامة ويؤيد ذلك ما ورد من علامات يوم القيامة مما لم يتطرق اليه أبن كثير ومن أراد أن يطلع على ذلك فهذا بحث منفصل لوحده وتؤيده الأحاديث النبوية وما وقع حاليا بالفعل من قيام دولة لليهود فى فلسطين تسمى اسرائيل ، " لِيَسُُٔواْ وُجُوهَكُمۡ وَلِيَدۡخُلُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّة " فى المرة الثانية فسوف تقهروا على يد عباد الله ويدخلون المسجد كما دخلوه فى المرة الأولى قيل ذلك عن المسلمين حينما دخلوا بيت المقدس على يد الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنه فاتحين وطردوا منها الروم وذلك لوجود لفظ " المسجد " ولم يكن المسجد الا فى الاسلام وهو المسجد الأقصى كما ورد فى بداية السورة " سبحان الذى أسرى بعبده من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى " وهذا من معجزات القرآن فكلمة مسجد لم تذكر ولم يخص بها الا الاسلام والمسلمين ، " وَلِيُتَبِّرُواْ " قال أبن كثير يدمروا ويخربوا وممكن هذا يحدث لأن الحروب فى عصرنا الحالى مدمرة من استخدام لأسلحة فتاكة من قنابل وصواريخ مدمرة تدمر كل شىء ، " مَا عَلَوۡاْ تَتۡبِيرًا " قال أبن كثير ما ظهروا عليه وكررت كلمة تتبيرا وهى تعنى التدمير والتخريب مرتين للتأكيد أن هذا سيحدث ، " عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يَرۡحَمَكُمۡۚ " رحمة ربكم تحل بكم اذا رجعتم الى ما أنتم فيه من استعلاء وظلم وتجبر ، " وَإِنۡ عُدتُّمۡ عُدۡنَاۚ " يتوعد الله من يفعل معصية ويتجبر فى الأرض ولم يتوب ويرجع عن المعاصى أن يحيق به العذاب ويسلط عليه من يهلكه ولم يرحمه ومن أفعالكم سلط عليكم ، " وَجَعَلۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ حَصِيرًا " بعد أن يحيق به العذاب فى الدنيا على يد أعدائه ستكون جهنم له مستقرا ومحصرا وسجنا لا محيد له عنه جزاء كفره وعدم اتباعه منهج الله فى العدل وقال مجاهد يحصرون فيها أى فى جهنم وقال قتادة قد عاد بنو اسرائيل فسلط الله عليهم الحى محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأخذون منهم الجزية عن يد وهم صاغرون وقد كان هذا فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعده من الخلفاء وهو أقرب الأقوال لما حدث ولما سوف يحدث لأن أبن كثير لم يربط التفسير فيما ورد من أحاديث علامات الساعة وكذلك ما يحدث فى عصرنا من تجبر اليهود والصهيونية العالمية وما تفعله من قهر وقمع وقتل فى العالم وفى فلسطين وما ترتكبه من ربا وشبكات عصابات منظمة فى كل الأنشطة المحرمة وسيكون عقاب الله شديدا فى الدنيا وفى الآخرة .
تعليق : التفاسير التى سبقت عصرنا الحديث لم
تفسر هذا الجزء من سورة الاسراء واجتهدت كثيرا اختلفت فى تفسيره لأن القرآن معجز
يسبق عصره ويتنبأ بما لا يستطيعه البشر فلم يدر فى خلد المفسرين قديما أن يكون
لليهود دولة وهم شتات فى العالم وكانوا أيام دولة الخلافة تقريبا ليس لهم ذكر
وكانوا قد طردوا وأجلوا عن المدينة تماما فلم يعد لهم قوة بعد غدرهم ونقضهم العهود
مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ضمن ما يعكس ذلك ما قاله أبن قتادة قد عاد بنو
اسرائيل فسلط الله عليهم الحى محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأخذون منهم
الجزية عن يد وهم صاغرون فقد كانوا لا شأن لهم كما تنبأ
القرآن بهزيمة الفرس على يد الروم فى سورة الروم " غلبت الروم فى أدنى الأرض
وهم من بعد غلبهم سيغلبون فى بضع سنين" فى هذا العصر توقع الجميع هزيمة الروم
على يد الفرس وقد كان للفرس القوة والسيادة ولم يتوقع نهوض الروم وانتصارهم مرة
أخرى فى سنوات قليلة وتحققت نبوءة لقرآن مما يؤكذ صدق الوحى من عند الله تعالى
ونحن نجتهد فقط بامكاناتنا وتوقعاتنا البشرية التى لا يمكن أن يمتد بصرها لما
سيحدث فى الغيب وفى المستقبل الذى علمه عند الله وحده " ان هو الا وحى يوحى
" .
إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ
أَقۡوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ
لَهُمۡ أَجۡرٗا كَبِيرٗا ٩ وَأَنَّ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ
أَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا ١٠
" إِنَّ
هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ " يمدح الله تعالى كتابه
العزيز القرآن الكريم الذى أنزله على رسولهمحمد صلى الله عليه وسلم بانه يهدى
لأقوم الطرق وأوضح السبل ، " وَيُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ
يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَبِير" يبشر المؤمنين به الذين يعملون الصالحات على
مقتضاه أن لهم أجرا كبيرا أى يوم القيامة ، " وَأَنَّ ٱلَّذِينَ لَا
يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ أَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا
" ويبشر الذين لا يؤمنون بالآخرة بالعذاب الأليم يوم القيامة كما قال تعالى
" فبشرهم بعذاب أليم " .
وَيَدۡعُ ٱلۡإِنسَٰنُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُۥ
بِٱلۡخَيۡرِۖ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ عَجُولٗا ١١
" وَيَدۡعُ ٱلۡإِنسَٰنُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُۥ بِٱلۡخَيۡرِۖ "
يخبر الله تعالى عن عجلة الانسان ودعائه فى بعض الأحيان على نفسه أو ولده بالشر أى
بالموت أوالهلاك والدمار واللعنة ونحو ذلك كما هو يدعو ربه لاستجلاب الخير وهو
يسوى فى الحالتين دون أن يعلم ويغلبه الاستعجال وعدم التريث فى أمره فلو استجاب له
ربه لهلك بدعائه كما قال تعالى " ولو بعجل الله للناس الشر " وفى الحديث
" لا تدعوا على أنفسكم ولا على أموالكم أن توافقوا من الله ساعة اجابة يستجيب
فيها " ، " وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ عَجُولٗا " انما يحمل أبن آدم على ذلك قلقه وعجلته .
وَجَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ ءَايَتَيۡنِۖ
فَمَحَوۡنَآ ءَايَةَ ٱلَّيۡلِ وَجَعَلۡنَآ ءَايَةَ ٱلنَّهَارِ مُبۡصِرَةٗ لِّتَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡ
وَلِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ وَكُلَّ شَيۡءٖ فَصَّلۡنَٰهُ تَفۡصِيلٗا ١٢
"
وَجَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ ءَايَتَيۡنِۖ " يخبر الله تعالى بمنته على
خلقه بآياته العظام منها مخالفته بين الليل والنهار وخلفهما كذلك ، " فَمَحَوۡنَآ
ءَايَةَ ٱلَّيۡلِ " محو آية الليل سواد القمر الذى فيه جعل الله لهم الليل ليسكنوا فيه حيث فيه السكينة
والهدوء ، "وَجَعَلۡنَآ ءَايَةَ ٱلنَّهَارِ مُبۡصِرَة" آية النهار
منيرة وخلق الشمس أنور من القمر وأعظم ، " لِّتَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن
رَّبِّكُمۡ " والنهار فيه الضياء والحركة لينتشر الناس فى الأرض للمعايش
والصنائع والعبادات والأسفار ، " وَلِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ
وَٱلۡحِسَابَۚ " وحركة الليل والنهار
ينتج عنها الأيام والسنوات فان الله لوجعل الزمان كله نسقا واحدا وأسلوبا متساويا
لما عرف شىء من ذلك كما قال تعالى " قل أرأيتم ان جعل الله عليكم الليل سرمدا
الى يوم القيامة من اله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون * قل أرأيتم ان جعل الله
عليكم النهار سرمدا الى يوم القيامة من غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا
تبصرون * ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم
تشكرون " ، " وَكُلَّ شَيۡءٖ فَصَّلۡنَٰهُ تَفۡصِيل " كل شىء وضحناه وبيناه وجعلناه
آية ودليل واضح على قدرة الله وخلقه .
وَكُلَّ
إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ
ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا ١٣ ٱقۡرَأۡ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ
بِنَفۡسِكَ ٱلۡيَوۡمَ عَلَيۡكَ حَسِيبٗا ١٤
"
وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِ " يقول الله تعالى
مايقع من أعمال بنى آدم قال أبن عباس طائره هو ما طار اليه من عمله من خير وشر
ويلزمه به ويجازيه عليه كقوله " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال
ذرة شرا يره وكقوله " وان عليكم لحافظين *
كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون " والمقصود أن عمل أبن آدم محفوظ عليه
قليله وكثيره ويكتب عليه ليلا ونهارا صباحا ومساءا ، " وَنُخۡرِجُ لَهُۥ
يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا " نجمع لبنى آدم عمله كله فى
كتاب يعطاه يوم القيامة اما بيمينه ان كان سعيدا أو بشماله ان كان شقيا منشورا أى
مفتوحا يقرءوه هو وغيره فيه جميع عمله من أول عمره الى آخره كما فى قوله "
ينبأ الانسان يومئذ بما قدم وأخر * بل الانسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى
معاذيره" ، " ٱقۡرَأۡ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفۡسِكَ ٱلۡيَوۡمَ عَلَيۡكَ
حَسِيبٗا "
يأمر الله الانسان أن يقرأ كتاب أعماله بنفسه وهو يعلم أنه لم يظلم ولم يكتب عليه
الا ما عمل وكل واحد يقرأ كتابه من كاتب وأمى ولا ينسى أحد شيئا مما كان منه وعن
عقبة بن عامر رضى الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس من عمل
يوم الا وهو يختم عليه فاذا مرض المؤمن قالت الملائكة يا ربنا عبدك فلان قد حبسته
فيقول الرب جل جلاله اختموا له على مثل عمله حتى يبرأ أو يموت " ، وقال قتادة
" أَلۡزَمۡنَٰهُ طَٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِ " قال عمله " وَنُخۡرِجُ
لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ " قال نخرج ذلك العمل " كِتَٰبٗا
يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا " فى كتاب أعماله يوم القيامة .
مَّنِ
ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ
عَلَيۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ
نَبۡعَثَ رَسُولٗا ١٥
" مَّنِ ٱهۡتَدَىٰ
فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِ " يخبر اللفه تعالى أنمن أهتدى واتبع الحق
واقتفى أثر النبوة فانما يحصل عاقبة ذلك الحميدة لنفسه ، " وَمَن ضَلّ " ومن بعد عن الحق
وزاغ عن سبيل الرشاد ، " َ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيۡهَاۚ " فانما يجنى
على نفسه وانما يعود وبال ذلك عليه ، " وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ " لايحمل أحد ذنب
أحد ولا يجنى جان الا على نفسه كما قال تعالى " وان تدع مثقلة الى حملها لا
يحمل منه شىء " وهذا لا يتناقض مع قوله " وليحملن أثقالهم وأثقالا مع
أثقالهم " وقوله " ومن أوزار الذين يضلونهم بغيرعلم" فان الدعاة
عليهم اثم ضلالتهم فى أنفسهم واثم آخر بسبب ما أضلوا من غير أن ينقص من أوزار
أولئك ولا يحمل عنهم شيئا ، " وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ
رَسُولٗا " اخبار عن عدالة الله تعالى وأنه
لا يعذب أحدا الا بعد قيام الحجة عليه بارساله الرسول اليه وهذا كقوله " كلما
ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا
ما نزل الله من شىء ان أنتم الا فى ضلال كبير "
وَإِذَآ
أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا
فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا ١٦
" وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً " اذا حل قدر الله على قرية ، " أَمَرۡنَا " قال أبن جرير يحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء ، " مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا " اختلف المفسرون فى معناها قيل أمرنا المترفين من أهلها وهم أصحاب الترف والنعمة فيها الذين يملكون الأموال والسلطة والجاه بالطاعات ففعلوا الفواحش فاستحقوا العقوبة وقيل معناها أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمرا قدريا كقوله تعالى " أتاها أمرنا ليلا أو نهارا " فان الله لا يأمر بالفحشاء ، وقالوا معناه أنه سخرهم الى فعل الفواحش بما هم عليه من سوء فاستحقوا العذاب لأن الله اذا غضب على عبد ابتلاه بالنعمة فان افترى سهل له من باب الاستدراج وزين له الاستمرار فى فعل المنكرات والفواحش حتى يأخذه لم يفلته ويستحق عليه العذاب ، " أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا " قال أبن عباس سلطنا أشرارها فعصوا فيها فاذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب وهذا كقوله " وكذلك جعلنا فى كل قرية أكابر مجرميها " ، وقال العوفى عن أبن عباس " أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا " أكثرنا عددهم وكذلك قال قتادة وغيره أكثرنا وقد استشهد بعضهم بالحديث عن سويد بن هبيرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " خير مال امرىء له مهرة مأمورة (فرس كثيرة النسل من الخيل ) أو سكة مأبورة ( الطريق المصطفة من النخل التى تأبرت من التأبير وهو تلقيح النخل ليعطى محصول وفير أى كثيرة الانتاج من التمر ) " .
وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِنۢ بَعۡدِ نُوحٖۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ
بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِيرَۢا بَصِيرٗا ١٧
" وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِنۢ بَعۡدِ نُوح" يقول تعالى
منذرا كفار قريش فى تكذيبهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه قد أهلك أمما
كثيرة من المكذبين للرسل من بعد نوح ، ومهناه أنكم أيها المكذبون لستم أكرم على
الله من الأمم التى أهلكت من بعد نوح وهى كثيرة وقدكذبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق
فعقوبتكم أولى وأحرى ، ودل هذا على أن
القرون التى كانت بين آدم ونوح على الاسلام وكما قال أبن عباس كان بين آدم ونوح
عشرة قرون كلهم على الاسلام ، " وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ
خَبِيرَۢا بَصِيرٗا " الله وحده هو عالم بجميع أعمال عباده خيرها وشرها لا
يخفى عليه منها خافية سبحانه وتعالى .
مَّن كَانَ
يُرِيدُ ٱلۡعَاجِلَةَ عَجَّلۡنَا لَهُۥ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ
جَعَلۡنَا لَهُۥ جَهَنَّمَ يَصۡلَىٰهَا مَذۡمُومٗا مَّدۡحُورٗا ١٨ وَمَنۡ أَرَادَ
ٱلۡأٓخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعۡيَهَا وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ كَانَ
سَعۡيُهُم مَّشۡكُورٗا ١٩
" مَّن
كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعَاجِلَةَ " يخبر الله تعالى أنه ما كل من طلب الدنيا وما
فيها من النعيم أى من سعى وراء الدنيا وترك الآخرة ، " عَجَّلۡنَا لَهُۥ
فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ " لا يحصل له ذلك حسب ما يريد بل انما
يحصل لمن أراد الله وما يشاء الله ، " ثُمَّ جَعَلۡنَا لَهُۥ جَهَنَّمَ
يَصۡلَىٰهَا " يخسر فى الآخرة لأنه نسى الله فيدخله الله جهنم حتى تغمره من
جميع جوانبه ، " مَذۡمُومٗا " مذموما أى ملعونا على سوء تصرفه وصنيعه اذ اختار
الفانى على الباقى ، " مَّدۡحُورٗا " مبعدا مقصيا حقيرا ذليلا مهانا ، وعن عائشة رضى الله
عنها قالت " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدنيا دار من لا دار
له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له " ، " وَمَنۡ أَرَادَ
ٱلۡأٓخِرَةَ " من أراد الدار الآخرة وهى الجنة ، " وَسَعَىٰ لَهَا سَعۡيَهَا " طلب ذلك بالسعى
والعمل بمتابعة ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، " وَهُوَ مُؤۡمِن" قلبه مصدق وموقن بالثواب
والجزاء من عند الله " فَأُوْلَٰٓئِكَ كَانَ سَعۡيُهُم مَّشۡكُورٗا "
فهذا السعى والعمل يستحق الشكر من الله أى التوفيق وحسن الجزاء على ما فعلوه .
كُلّٗا نُّمِدُّ هَٰٓؤُلَآءِ وَهَٰٓؤُلَآءِ مِنۡ عَطَآءِ
رَبِّكَۚ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا ٢٠ ٱنظُرۡ كَيۡفَ فَضَّلۡنَا
بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ وَلَلۡأٓخِرَةُ أَكۡبَرُ دَرَجَٰتٖ وَأَكۡبَرُ تَفۡضِيلٗا ٢١
" كُلّٗا نُّمِدُّ هَٰٓؤُلَآءِ وَهَٰٓؤُلَآءِ
مِنۡ عَطَآءِ رَبِّكَۚ " يقول الله تعالى أن عطائه للكل من الفريقين الذين
أرادوا الدنيا والذين أرادوا الآخرة يمدهم فيما هم فيه فهو المتصرف الحاكم الذى لا
يجور فيعطى كلا ما يستحقه من السعادة والشقاوة فلا راد لحكمه ولا مانع لما أعطى
ولا مغير لما أراد ولهذا قال " وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا
" عطاء الله لا يمنعه أحد ولا يحظره ولا يرده راد وقال قتادة محظورا أى
منقوصا ، " ٱنظُرۡ كَيۡفَ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡض " يدعو
الله الى التفكر والنظر فى تفضيل بعض الناس على بعض فى الدنيا فى الأرزاق والدرجات
والمناصب ليتخذ بعضهم بعضا سخريا فمنهم الغنى ومنهم الفقير والحسن والقبيح ومن
يموت صغيرا ومن يعمر حتى يبقى شيخا كبيرا وبين ذلك ، " وَلَلۡأٓخِرَةُ
أَكۡبَرُ دَرَجَٰتٖ وَأَكۡبَرُ تَفۡضِيلٗا " وتفاوتهم فى الدار الآخرة أكبر من
الدنيا فان منهم من يكون فى الدركات فى جهنم وسلاسلها وأغلالها ، ومنهم من يكون فى
الدرجات العليا فى الجنة ونعيمها وسرورها ، ثم أهل الدركات يتفاوتون فيما هم فيه
كما أن أهل الدرجات يتفاوتون فان الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء
والأرض ، وفى الصحيحين " ان أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما ترون
الكوكب الغابر فى أفق السماء " وعن سلمان مرفوعا " ما من عبد يريد أن
يرتفع فى الدنيا درجة فارتفع الا وضعه الله فى الآخرة أكبر منها " .
لَّا تَجۡعَلۡ
مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ فَتَقۡعُدَ مَذۡمُومٗا مَّخۡذُولٗا ٢٢ ۞
" لَّا
تَجۡعَلۡ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ " يقول
تعالى والمراد المكلفون من الأمة لا تجعل أيها المكلف فى عبادتك ربك له شريكا ،
" فَتَقۡعُدَ
مَذۡمُومٗا "
فتصبح وتستمر مذموما أى ملعونا ، " مَّخۡذُولٗا " مصاب بالفشل والخذلان لأن الرب تعالى لا ينصرك بل
يكلك الى الذى عبدت معه وهو لا يملك لك ضرا ولا نفعا لأن مالك الضر والنفع هو الله
وحده لا شريك له ، وعن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
:" من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ، ومن أنزلها بالله أرسل الله
له بالغنى اما آجلا واما غنى عاجلا " رواه أبوداود والترمذى .
وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ
وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ
أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا
وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا ٢٣ وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ
ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا ٢٤
" وَقَضَىٰ رَبُّكَ " القضاء هنا الأمر أى أمر ربك وقال مجاهد وصى ، " أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ"قرن الله الأمر بعبادته برالوالدين فأمر بالوالدين احسانا ، " إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّ" لاتسمع الوالدين قولا سيئا حتى ولا التأفيف الذى هو أدنى مراتب القول السىء ،"وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا" ولا يصدر منك اليهما فعل قبيح وقال عطاء بن أبى رباح لا تنفض يدك عليهما ، " وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا " لما نهى الله عن القول القبيح الى الوالدين أمر الله بالقول الحسن والفعل الحسن بأن يكون حتى مجرد القول والقول أدنى من الفعل لينا طيبا بتأدب وتوقير وتعظيم فما بالنا بالفعل ، " وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ " تواضع لهما بفعلك " وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا " واطلب لهما الرحمة من الله أى أدعو ربك لهما بالرحمة فى كبرهما وعند وفاتهما جزاء تربيتهما ورعايتهما لك وأنت صغير ليس لك حول ولا قوة ولم يبخلا عليك بشىء حتى صرت شابا يافعا ، وقد جاء فى بر الوالدين أحاديث كثيرة منها عن أبى أسيل وهو مالك بن ربيعة الساعدى قال بينما أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ جاءه رجل من الأنصار فقال يا رسول الله هل بقى على من بر أبوى شىء بعد موتهما أبرهما به ؟ " قال : " نعم خصال أربع : الصلاة عليهما والاستغفار لهما وانفاذ عهدهما واكرام صديقهما وصلة الرحم التى لا رحم لك الا من قبلهما فهو الذى بقى عليك من برهما بعد موتهما " وعن أبى مالك القشيرى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار من بعد ذلك فأبعده الله وأسحقه " ،وعن أنس وغيره أن النبى صلى الله عليه وسلم لما صعد المنبر قال : " آمين آمين آمين " قيل يا رسول الله علام أمنت ؟ " قال : " أتانى جبريل فقال يا محمد رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليك قل آمين فقلت آمين ، ثم قال رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر له قل آمين فقلت آمين ، ثم قال رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قل آمين فقلت آمين " وعن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف رجل أدرك أحد أبويه أو كلاهما عند الكبر ولم يدخل الجنة " .
رَّبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمۡۚ إِن
تَكُونُواْ صَٰلِحِينَ فَإِنَّهُۥ كَانَ لِلۡأَوَّٰبِينَ غَفُورٗا ٢٥
" رَّبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمۡۚ
" الله أعلم بما فى النفوس والسرائر ، " إِن تَكُونُواْ صَٰلِحِينَ
" اى تعملون الصالحات ، " فَإِنَّهُۥ كَانَ لِلۡأَوَّٰبِينَ غَفُورٗا " اختلف فى من
هم الأوابين أو المقصود فى الآية قال مجاهد هو الذى اذا ذكر ذنوبه فى الخلاء
فيستغفر الله منها فيغفر الله له وقال قتادة المطيعين أهل الصلاة وقال أبن عباس
المسبحين وفى رواية أخرى عنه المطيعين المحسنين وعن سعيد بن المسيب قال الذين
يصيبون الذنب ثم يتوبون ويصيبون الذنب ثم يتوبون وقال أبن جرير هو التائب من الذنب
الرجاع من المعصية الى الطاعة مما يكره الله الى ما يحبه ويرضاه وهذا الذى قاله
الصواب لأن الأواب مشتق من الأوب وهو الرجوع يقال آب فلان اذا رجع وقال تعالى
" ان الينا ايابهم " وفى الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان اذا رجع من سفر قال " آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون " .
وَءَاتِ ذَا
ٱلۡقُرۡبَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلۡمِسۡكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرۡ
تَبۡذِيرًا ٢٦ إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ إِخۡوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِۖ وَكَانَ
ٱلشَّيۡطَٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورٗا ٢٧ وَإِمَّا تُعۡرِضَنَّ عَنۡهُمُ ٱبۡتِغَآءَ
رَحۡمَةٖ مِّن رَّبِّكَ تَرۡجُوهَا فَقُل لَّهُمۡ قَوۡلٗا مَّيۡسُورٗا ٢٨
" وَءَاتِ ذَا ٱلۡقُرۡبَىٰ حَقَّهُۥ
وَٱلۡمِسۡكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ " لما ذكر الله تعالى بر الوالدين عطف
بذكر الاحسان الى القرابة وصلة الارحام عن أشعث بن سليم عن أبيه عن رجل من بنى
يربوع قال : اتيت النبى صلى الله عليه وسلم فسمعته وهو يكلم الناس يقول : "
يد المعطى العليا أمك وأباك وأتك وأخاك ثم أدناك أدناك " وفى رواية " ثم
الأقرب فالأقرب " وفى الحديث أيضا " من أحب أن يبسط له فى رزقه وينسأ له
فى أجله فليصل رحمه " يأمر الله الله أيضا بالاحسان الى المسكين وأبن السبيل
كما سبق الحديث فى سورة التوبة ، " وَلَا تُبَذِّرۡ تَبۡذِيرًا " أمر
الله بالانفاق ونهى عن الاسراف فيه بل يكون وسطا كما قال تعالى " والذين اذا
أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا " ،" إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ
إِخۡوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِۖ " المبذرين اخوان الشياطين أى أشباههم فى ذلك وقال
أبن مسعود التبذير الانفاق فى غير حق وقال مجاهد لو أنفق انسان ماله كله فى الحق
لم يكن مبذرا ولو أنفق مدا فى غير الحق كان مبذرا وقال قتادة التبذير النفقة فى
معصية الله تعالى وفى غير الحق والفساد ، " وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِرَبِّهِۦ
كَفُورٗا " الشيطان جحودا
لأنه لأنكر نعمة الله عليه ولم يعمل بطاعته بل أقبل على معصيته ومخالفته ، " وَإِمَّا
تُعۡرِضَنَّ عَنۡهُمُ ٱبۡتِغَآءَ رَحۡمَةٖ مِّن رَّبِّكَ تَرۡجُوهَا فَقُل لَّهُمۡ قَوۡلٗا مَّيۡسُورٗا " " اذا
سألك أقاربك ومن أمرناك باعطائهم وليس عندك شىء وأعرضت عنهم لفقد النفقة فقل لهم
قولا ميسورا طيبا أى عدهم وعدا بسهولة ولين اذا جاء رزق الله فسنصلكم ان شاء الله
.
وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ
وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ فَتَقۡعُدَ مَلُومٗا مَّحۡسُورًا ٢٩ إِنَّ
رَبَّكَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُۚ إِنَّهُۥ كَانَ
بِعِبَادِهِۦ خَبِيرَۢا بَصِيرٗا ٣٠
يقول الله
تعال آمرا بالاقتصاد فى العيش ذاما للبخل ناهيا عن السرف " وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً
إِلَىٰ عُنُقِكَ " لا تكن بخيلا منوعا لا تعطى أحدا شيئا كما قالت اليهود يد
الله مغلولة أى نسبوه الى البخل تعالى وتقدس الكريم الوهاب وهنا صورة بلاغية بربط
اليد الى العنق فلا تتحرك فالبخيل لا يمد يده ليخرج النفقة من مال وغيره ليعطيها
بل هى مقيدة بالأغلال ومربوطة ومشدودة الى الرقبة وهذه سورة حسية كناية عن عدم
الانفاق وهذا من بلاغة القرآن فى التعبير والتصوير ، " وَلَا تَبۡسُطۡهَا
كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ " لا تسرف فى الانفاق فتعطى فوق طاقتك وتخرج أكثر من دخلك وبسط
اليد هو تحريكها لتعطى وتنفق وكل البسط أى المبالغة فى مد اليد بالانفاق الزائد
عما يجب وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
:" ما عال من اقتصد " ، " فَتَقۡعُدَ مَلُومٗا
مَّحۡسُورًا " فتقد فى كلا الحالتين ملوما محسورا فتقعد ان بخلت ملوما يلومك
الناس ويذمونك على بخلك وامساكك ومتى بسطت يدك فوق طاقتك قعدت بلا شىء تنفقه فتكون
كالحسير وهم كالدابة التى قد عجزت عن السير فوقفت ضعفا وعجزا فانها تسمى الحسير
وهو مأخوذ من الكلال كما قال " فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر
كرتين ينقلب اليك البصر خاسئا وهو حسير " أى كليل أن يرى عيبا وعن أبى هريرة
رضى الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مثل البخيل
والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثدييهما الى تراقيهما فأما المنفق فلا
ينفق الا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفى بنانه وتعفو أثره وأما الخيل فلا يريد أن
ينفق شيئا الا لزقت كل حلقة منها مكانها فهو يوسعها فلا تتسع " وعن أبى هريرة
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ان الله قال لى أنفق أنفق عليك
" وعن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من يوم
يصبح العباد فيه الا ملكان ينزلان من السماء يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ،
ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا " ، وعن أبى هريرة مرفوعا : " ما نقص
مال من صدقة وما زاد الله عبدا أنفق الا عزا ومن تواضع لله رفعه الله " وفى
حديث أبن عمر مرفوعا :" اياكم والشح فانه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل
فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا " ، " إِنَّ
رَبَّكَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُ " الله تعالى هو
الرزاق القابض الباسط المتصرف فى خلقه بما يشاء فيغنى من يشاء ويفقر من يشاء لما
له فى ذلك من الحكمة ولهذا قال " اِنَّهُۥ كَانَ بِعِبَادِهِۦ خَبِيرَۢا
بَصِيرٗا " خبير
بصير بمن يستحق الغنى ومن يستحق الفقر كما جاء فى الحديث " ان من عبادى لمن
لا يصلحه الا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه ، وان من عبادى لمن لا يصلحه الا
الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه " وقد يكون الغنى فى حق بعض الناس
استدراجا والفقر عقوبة .
وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُمۡ خَشۡيَةَ إِمۡلَٰقٖۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُهُمۡ
وَإِيَّاكُمۡۚ إِنَّ قَتۡلَهُمۡ كَانَ خِطۡٔٗا كَبِيرٗا ٣١
هذه
الآية الكريمة دالة على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده لأنهى نهى عن قتل الأولاد كما
أوصى الآباء بالأولاد فى الميراث وكان أهل الجاهلية لا يورثون البنات بل كان أحدهم
ربما قتل أبنته لئلا تكثر عيلته فنهى الله تعالى عن ذلك " وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ
أَوۡلَٰدَكُمۡ خَشۡيَةَ إِمۡلَٰق " ينهى الله عن قتل الأولاد خشة الفقر ،" نَّحۡنُ نَرۡزُقُهُمۡ وَإِيَّاكُمۡ
"قدم الله الاهتمام برزق الأولاد فقال بصيغة التعظيم " نحن " ولم
يقل " انا " فهو العظيم الرزاق القادر المتكفل برزقهم كما هو متكفل
برزقكم ، " إِنَّ قَتۡلَهُمۡ كَانَ
خِطۡٔٗا
كَبِيرٗا
" قتل الأولاد خشية الفقر أو على أى نحو آخر ذنبا عظيما وفى الصحيحين عن عبد
الله بن مسعود قلت يارسول الله أى الذنب أعظم ؟ " قال : " أن تجعل لله
ندا وهوخلقك " قلت : ثم أى ؟ " قال : " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم
معك " قلت : ثم أى ؟ " قال : " أن تزانى بحليلة جارك "وينهى
الله تعالى عن الزنا فى الآية التالية .
وَلَا
تَقۡرَبُواْ ٱلزِّنَىٰٓۖ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَسَآءَ سَبِيلٗا ٣٢
" وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلزِّنَىٰٓۖ " ينهى
الله تعالى عن الزنا وعن مقاربته ومخالطة أسبابه ودواعيه فهم يغلق كل السبل أليه ،
" إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَسَآءَ سَبِيلٗا " فهو ذنب عظيم وبئس طريق ومسلك وهو من الكبائر فى الاسلام
التى توجب الحد على من يرتكبه .
وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ
إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا فَلَا يُسۡرِف فِّي
ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا ٣٣
" وَلَا
تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ " ينهى
الله تعالى عن قتل النفس بغير حق شرعى وهو القصاص وغيره كما ثبت فى الصحيحين أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا اله
الا الله وأن محمدا رسول الله الا باحدى ثلاث : النفس بالنفس والزانى المحصن
والتارك لدينه المفارق للجماعو " وفى السنن " لزوال الدنيا عند الله
أهون من قتل مسلم " ، " وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ
جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا " من قتل بظلم أى بغير حق شرعى فان سلطته على القاتل
بالخيار فيه ان شاء قتله وان شاء عفا عنه على الدية وان شاء عفا عنه مجانا كما
ثبتت السنة بذلك ، " فَلَا يُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِ " فلا يسرف الولى فى
قتل القاتل بأن يمثل به أو يقتص من غير القاتل كما يحدث من الأخذ بالثأر من عادات
منهى عنها بقتل عدد كبير من أسرة أو أقارب القاتل أو قتل غير القاتل أخذا بالثأر ،
" إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا "الولى منصور على القاتل شرعا وغالبا وقدرا فى الدنيا
والآخرة أنكى وأشد بخاصة اذا قتل من قتل مظلوما وعمدا وهذه رسالة من الله لمن
يستبيح دماء الناس ومن لا يطبق شرع الله فى القتل .
وَلَا
تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ
أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُواْ بِٱلۡعَهۡدِۖ إِنَّ ٱلۡعَهۡدَ كَانَ مَسُۡٔولٗا ٣٤ وَأَوۡفُواْ
ٱلۡكَيۡلَ إِذَا كِلۡتُمۡ وَزِنُواْ بِٱلۡقِسۡطَاسِ ٱلۡمُسۡتَقِيمِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلٗا ٣٥
" وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡيَتِيمِ
إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ أَشُدَّهُ " لا تتصرفوا فى
مال اليتيم الا بالغبطة حتى يكبر ويبلغ رشده ويسلم له ماله ويترك له الحرية فى
التصرف كما قال " ولا تأكلوها اسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف
ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " وقد جاء فى صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال لأبى ذر : " يا أبا ذر انى أراك ضعيفا وانى أحب لك ما أحب
لنفسى لا تامرن على اثنين ولا تولين مال يتيم " ، " وَأَوۡفُواْ
بِٱلۡعَهۡدِ " يطالب الله الوفاء بالعهود مع الذين نعاهد عليها الناس
وبالعقود الذى نعامل الناس بها ، " إِنَّ
ٱلۡعَهۡدَ كَانَ مَسُۡٔولٗا " فان العهد والعقد كل منهما يسأل صاحبه عنه ،" وَأَوۡفُواْ
ٱلۡكَيۡلَ إِذَا كِلۡتُمۡ " يأمر الله بالوفاء بالكيل من غير تطفيف ولا بخس
للناس أشياءهم ، " وَزِنُواْ
بِٱلۡقِسۡطَاسِ ٱلۡمُسۡتَقِيمِ " يأمر الله أن لا يبخس القسطاس أى الميزان
وأن يكون بالعدل الذى لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا اضطراب ، " ذَٰلِكَ خَيۡر" ذلك خير لكم
فى معاشكم ومعادكم ، " وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلٗا " وهذا
أفضل وأحسن مآل ومنقلبا فى آخرتكم وقال قتادة ذلك خير ثوابا وأحسن عاقبة وعن أبن
عباس قال ذكر لنا أن نبى الله صلى الله عليه وسلم كان يقول " لا يقدر رجل على
حرام ثم يدعه ليس به الا مخالفة الله الا أبدله الله به فى عاجل الدنيا قبل الآخرة
ما هو خير له من ذلك " .
وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ
ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسُۡٔولٗا ٣٦
" وَلَا
تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌ " عن أبن عباس قال لا تقل ما ليس لك به
علم وقال العوفى عنه لا ترم أحدا بما ليس لك به علم وقال محمد بن الحنفية يعنى
شهادة الزور ، " إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ
أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسُۡٔولٗا " قال قتادة لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمع وعلمت
ولم تعلم فان الله سائلك عن ذلك كله ، " كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ " هذه
الصفات من السمع والبصر والفؤاد وكلها حواس الادراك والفهم ، " كَانَ عَنۡهُ
مَسُۡٔولٗا
" سيسأل العبد عنها يوم القيامة وتسأل عنه وعما عمل فيها ، وفى الحديث "
اياكم والظن فان الظن أكذب الحديث " وفى الحديث الآخر " ان أفرى الفرى
أن يرى الرجل عينيه ما لم تريا " .
وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّكَ لَن
تَخۡرِقَ ٱلۡأَرۡضَ وَلَن تَبۡلُغَ ٱلۡجِبَالَ طُولٗا ٣٧ كُلُّ ذَٰلِكَ
كَانَ سَيِّئُهُۥ عِندَ رَبِّكَ مَكۡرُوهٗا ٣٨
" وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًا " يقول الله تعالى ناهيا عباده عن التجبر والتبختر فى المشية أى لا تمشى فى الأرض متبخترا متمايلا مشى الجبارين وهذا تعبير عن مسلك المتكبر الجبار المتغطرس وتصرفه فى الأرض من الشىء القليل وهو المشى فما بالنا بالأكبر فى التصرف الله نهى حتى عن القليل وعن مظهر التكبر والغطرسة فما بالنا بالأفعال والتصرف ، " إِنَّكَ لَن تَخۡرِقَ ٱلۡأَرۡضَ " لن تقطع الأرض وتشقها بمشيك ، " وَلَن تَبۡلُغَ ٱلۡجِبَالَ طُولٗا " بتمايلك وفخرك واعجابك بنفسك لن تكن عاليا شامخا مثل الجبال وهذه صورة بلاغية يقدمها القرآن الكريم فالانسان ضعيف وخلق ضعيفا فكيف يتكبر ويتجبر وهو لا يستطيع مهما فعل بمشيه لا يقوى على قطع الأرض ولا برفع قامته أن يصل الى الجبال وكذلك أخبر الله تعالى عن قارون أنه خرج على قومه فى زينته وأن الله تعالى خسف به وبداره الأرض وفى الحديث " من تواضع لله رفعه الله فهو فى نفسه حقير وعند الله كبير ، ومن استكبر وضعه الله فهو فى نفسه كبير وعند الناس حقير ، حتى لهو أبغض اليهم من الكلب والخنزير " ، " كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُۥ عِندَ رَبِّكَ مَكۡرُوهٗا "كل ذلك الذى نهى عنه سيئة أى فاحشة مؤاخذ العبد عليها وهذا مكروه عند الله لا يحبه ولا يرضاه ، وقيل اذا قرأت " سيئه " على الاضافة أى فسىء الذى ذكر أى قبيحه مكروه عند الله كما قال ذلك أبن جرير .
ذَٰلِكَ
مِمَّآ أَوۡحَىٰٓ إِلَيۡكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلۡحِكۡمَةِۗ وَلَا تَجۡعَلۡ مَعَ
ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ فَتُلۡقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومٗا مَّدۡحُورًا ٣٩
"
ذَٰلِكَ مِمَّآ أَوۡحَىٰٓ إِلَيۡكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلۡحِكۡمَةِ " يقول تعالى
هذا الذى أمرناك به يا محمد صلى الله عليك وسلم من الأخلاق الجميلة ونهيناك عنه من
الصفات الرذيلة مما أوحينا اليك لتأمر به الناس ، " وَلَا تَجۡعَلۡ مَعَ
ٱللَّهِ إِلَٰهًاَ ءَاخَر" نهى الله عن الشرك به واتخاذ آلهة من دونه ،
" فَتُلۡقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومٗا
مَّدۡحُورًا " عاقبة الشرك هو الالقاء فى نار جهنم ومن يفعل ذلك من الشرك لا
يلومن الا نفسه ويستحق كذلك اللوم من الله والجزاء من الالقاء فى جهنم مبعدا من كل
خير مهزوما وقال قتادة مطرودا والمراد من هذا الخطاب الأمة بواسطة الرسول صلى الله
عليه وسلم فانه صلوات الله عليه وسلامه معصوم .
أَفَأَصۡفَىٰكُمۡ رَبُّكُم بِٱلۡبَنِينَ وَٱتَّخَذَ
مِنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنَٰثًاۚ إِنَّكُمۡ لَتَقُولُونَ قَوۡلًا عَظِيمٗا ٤٠
يقول الله
تعالى رادا على المشركين الكاذبين الزاعمين أن الملائكة بنات الله فجعلوا الملائكة
الذين هم عباد الرحمن اناثا ثم ادعوا أنهم بنات الله ثم عبدوهم فأخطئوا فى كل
المقامات الثلاث خطأ عظيما فقال الله تعالى منكرا عليهم " أَفَأَصۡفَىٰكُمۡ
رَبُّكُم بِٱلۡبَنِينَ " يقول الله منكرا على المشركين هل خصكم ربكم
بالذكور،" وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنَٰثًاۚ " واختار الله
لنفسه على زعمكم البنات ، " إِنَّكُمۡ لَتَقُولُونَ قَوۡلًا عَظِيمٗا " شدد
الله الانكار على المشركين فقال لهم فى زعمكم أن لله ولدا ثم جعلكم ولده الاناث
التى تأنفون أن تكون لكم وربما قتلتموهن بالوأد فتلك اذا قسمة منكرة وهذا القول
قولا جسيما فى خطئه واثمه .
وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ
لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمۡ إِلَّا نُفُورٗا ٤١
" وَلَقَدۡ
صَرَّفۡنَا فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لِيَذَّكَّرُواْ " يقول الله لقد صرفنا
فى القرآن أنزلنا فيه من الوعيد لعلهم يذكرون ما فيه من الحجج والبينات والمواعظ
فينزجروا عما هم فيه من الشرك والظلم والافك ، " وَمَا يَزِيدُهُمۡ إِلَّا
نُفُورا " ما يزيد ذلك الكافرين الا بعدا عن الحق وبعدا عن ما جاء فى القرآن
نفسه .
قُل لَّوۡ كَانَ مَعَهُۥٓ ءَالِهَةٞ كَمَا يَقُولُونَ إِذٗا لَّٱبۡتَغَوۡاْ
إِلَىٰ ذِي ٱلۡعَرۡشِ سَبِيلٗا ٤٢ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ
عُلُوّٗا كَبِيرٗا ٤٣
" قُل لَّوۡ كَانَ مَعَهُۥٓ ءَالِهَةٞ كَمَا يَقُولُونَ إِذٗا لَّٱبۡتَغَوۡاْ إِلَىٰ
ذِي ٱلۡعَرۡشِ سَبِيلٗا " يقول تعالى قل يا محمد لهؤلاء المشركين الزاعمين أن لله شريكا
من خلقه العابدين معه غيره ليقربهم اليه زلفى لو كان الأمر كما يقولون وأن معه
آلهة تعبد لتقرب اليه وتشفع لديه لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون اليه ويبتغون اليه الوسيلة
والقربة فاعبدوه أنتم وحده كما يعبده من تدعونه من دونه ولا حاجة لكم الى معبود
يكون واسطة بينكم وبينه فانه لا يحب ذلك ولا يرضاه بل يكرهه ويأباه وقد نهى عن ذلك
على ألسنة جميع رسله وأنبيائه ، " سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا
يَقُولُونَ " نزه الله نفسه وقدسها عما يدعى هؤلاء المشركون المعتدون الظالمون فى زعمهم أن معه آلهة أخرى ،
" عُلُوّٗا كَبِيرٗا " تعاليا كبيرا بل
هو الله الأحد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد .
تُسَبِّحُ لَهُ
ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبۡعُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا
يُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِيحَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ
حَلِيمًا غَفُورٗا ٤٤
" تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبۡعُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ " يقول تعالى تقدسه السموات السبع والأرض ومن فيهن من المخلوقات وتنزهه وتعظمه وتبجله وتكبره عما يقول هؤلاء المشركون وتشهد له بالوحدانية فى ربوبيته والهيته ، " وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِ"وما من شىء من المخلوقات الا يسبح بحمد الله ، " وَلَٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِيحَهُمۡ " لا تفهمون تسبيحهم أيها الناس لأنها بخلاف لغاتكم وهذا عام فى الحيوانات والجماداتوالنباتات وفى حديث أبى ذر أن النبى صلى الله عليه وسلم أخذ فى يده حصيات فسمع لهن تسبيح كحنين النحل وكذا فى يد أبى بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم وهو حديث مشهور فى المسانيد ، " إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا " الله حليم لا يعاجل من عصاه بالعقوبة بل يؤجله وينظره فان استمر على كفره وعنادهأخذه أخذ عزيز مقتدر .
وَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ جَعَلۡنَا بَيۡنَكَ
وَبَيۡنَ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ حِجَابٗا مَّسۡتُورٗا ٤٥ وَجَعَلۡنَا
عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن يَفۡقَهُوهُ وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٗاۚ وَإِذَا ذَكَرۡتَ
رَبَّكَ فِي ٱلۡقُرۡءَانِ وَحۡدَهُۥ وَلَّوۡاْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِمۡ نُفُورٗا ٤٦
" وَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ
جَعَلۡنَا بَيۡنَكَ وَبَيۡنَ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ حِجَابٗا مَّسۡتُورٗا " يقول تعالى
واذا قرأت القرآن يا محمد على هؤلاء المشركين جعلنا بينك وبينهم حجاب والحجاب
المانع أى حائل أن يصل الينا مما تقول وقال أبن جرير حجاب بينهم وبين الهدى فهم يجعل كفرهم وعنادهم حاجز بينهم وبين
الهدى وقيل مستورا عن الأبصار فلا تراه ، فعن أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنها
قالت لما نزلت " تبت يدا أبى لهب " جاءت العوراء أم جميل امرأة أبى لهب
ولها ولولة وفى يدها فهر وهى تقول : مذمما أتينا - أو أبينا قال أبو موسى الشك منى
- ودينه قلينا ، وأمره عصينا "، ورسول الله صلى الله عليه
وسلم جالس وأبو بكرالى جنبه فقال أبو بكر رضى الله عنه : لقد أقبلت هذه وأنا أخاف
أن تراك " فقال : " انها لن ترانى " وقرأ قرآنا اعتصم به منها
" وَإِذَا
قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ جَعَلۡنَا بَيۡنَكَ وَبَيۡنَ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ
بِٱلۡأٓخِرَةِ حِجَابٗا مَّسۡتُورٗا " فجاءت حتى قامت
على أبى بكر فلم تر النبى صلى الله عليه وسلم فقالت : يا أبا بكر بلغنى أن صاحبك
هجانى فقال أبو بكر : لا ورب هذا البيت ما هجاك " فانصرفت وهى تقول : لقد
علمت قريش أنى بنت سيدها " ، " وَجَعَلۡنَا عَلَىٰ
قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن يَفۡقَهُوهُ " أكنة جمع كنان الذى يغشى القلب فمنعه
من الفهم أى حائل لئلا يفهموا القرآن كقوله " وقالوا قلوبنا فى أكنة مما
تدعونا اليه وفى آذننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب "، " وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٗا "
الوقر هو الثقل الذى يمنعهم من سماع القرآن سماعا ينفعهم ويهتدون به ، " وَإِذَا
ذَكَرۡتَ رَبَّكَ فِي ٱلۡقُرۡءَانِ وَحۡدَهُۥ " اذا وحدت الله فى تلاوتك وقلت
لا اله الا الله ، " وَلَّوۡاْ عَلَىٰٓ
أَدۡبَٰرِهِمۡ نُفُورٗا " أدبروا راجعين ولم يقبلوا فارين ونفور جمع نافر
كقعود جمع قاعد أى نافرين مما تقول لهم ويجوز
أن تكون مصدرا أى يملأهم النفور ، كما قال " واذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب
الذين لا يؤمنون بالآخرة " ، " وَإِذَا ذَكَرۡتَ رَبَّكَ فِي
ٱلۡقُرۡءَانِ " قال قتادة أن المسلمين لما قالوا لا اله الا الله أنكر ذلك
المشركون وكبرت عليهم فأبى الله أن يمضيها ويعليها وينصرها ويظهرها على من ناوأها
وقال أبن عباس هم الشياطين اذا قرىء القرآن ونودى بالآذان أو ذكر الله انصرفوا .
نَّحۡنُ
أَعۡلَمُ بِمَا يَسۡتَمِعُونَ بِهِۦٓ إِذۡ يَسۡتَمِعُونَ إِلَيۡكَ وَإِذۡ هُمۡ
نَجۡوَىٰٓ إِذۡ يَقُولُ ٱلظَّٰلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلٗا مَّسۡحُورًا ٤٧
ٱنظُرۡ كَيۡفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلۡأَمۡثَالَ فَضَلُّواْ فَلَا يَسۡتَطِيعُونَ
سَبِيلٗا ٤٨
" نَّحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَا
يَسۡتَمِعُونَ بِهِۦٓ إِذۡ يَسۡتَمِعُونَ إِلَيۡكَ وَإِذۡ هُمۡ نَجۡوَىٰٓ إِذۡ
يَقُولُ ٱلظَّٰلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلٗا مَّسۡحُورًا " يخبر الله تعالى نبيه
محمدا صلى الله عليه وسلم بما يتناجى به رؤساء كفار قريش حين جاءوا يستمعون قراءته
صلى الله عليه وسلم سرا من قومهم بما قالوا من أنه رجل مسحور ، من الكافرين من قال
على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسحور له ومنهم من قال شاعر ومنهم من قال
كاهن ومنهم من قال مجنون ومنهم من قال ساحر ولهذا قال " ٱنظُرۡ كَيۡفَ
ضَرَبُواْ لَكَ ٱلۡأَمۡثَالَ " اى كيف قالوا عنك وشبهوك به من أمثال البشر ،
" فَضَلُّواْ فَلَا يَسۡتَطِيعُونَ سَبِيلا "ضلوا فلا يهتدون الى الحق
ولا يجدون اليه مخلصا قال محمد بن اسحاق فى السيرة حدثنى محمد بن مسلم بن شهاب
الزهرى أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا
من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى بالليل فى بيته فأخذ كل واحد منهم مجلسا
يستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له حتى اذا طلع الفجر تفرقوا
حتى اذا جمعهم الطريق تلاوموا وقال بعضهم لبعض لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم
لأوقعتم فى نفسه شيئا ثم انصرفوا تكرر ذلك وفى المرة الثالثة حين جمعهم الطريق
تعاهدوا ألا يعودا أبدا ، فلما أصبح الصبح أخذ الأخنس بن شريق عصاه ثم خرج حتى أتى
أبا سفيان بن حرب فى بيته فقال :" أخبرنى يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من
محمد ؟ "قال : " يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما
يراد بها وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها " قال الأخنس : "
وأنا والذى حلفت به " ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال :
" يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ " قال : " ماذا سمعت ؟
" قال :" تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا وحملوا
فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى اذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسى رهان قالوا منا نبى
يأتيه الوحى من السماء فمتى ندرك هذه ، والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه "
فقام عنه الأخنس وتركه .
وَقَالُوٓاْ
أَءِذَا كُنَّا عِظَٰمٗا وَرُفَٰتًا أَءِنَّا لَمَبۡعُوثُونَ خَلۡقٗا جَدِيدٗا ٤٩ ۞قُلۡ كُونُواْ
حِجَارَةً أَوۡ حَدِيدًا ٥٠ أَوۡ خَلۡقٗا مِّمَّا يَكۡبُرُ فِي صُدُورِكُمۡۚ فَسَيَقُولُونَ
مَن يُعِيدُنَاۖ قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖۚ فَسَيُنۡغِضُونَ
إِلَيۡكَ رُءُوسَهُمۡ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَۖ قُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَكُونَ قَرِيبٗا ٥١ يَوۡمَ
يَدۡعُوكُمۡ فَتَسۡتَجِيبُونَ بِحَمۡدِهِۦ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثۡتُمۡ إِلَّا
قَلِيلٗا ٥٢
يخبر
الله تعالى عن الكفار المستبعدين وقوع المعاد القائلين استفهام انكار منهم " وَقَالُوٓاْ أَءِذَا كُنَّا
عِظَٰمٗا
وَرُفَٰتًا أَءِنَّا لَمَبۡعُوثُونَ خَلۡقٗا جَدِيدٗا " اذا متنا وبليت أجسادنا وتحولت الى عظام وتراب هل
نبعث يوم القيامة بعد ما بلينا وصرنا عدما كقوله" يقولون ائنا لمردودون فى
الحافرة أئذا كنا عظاما نخرة قالوا تلك اذا كرة خاسرة " ، " قُلۡ كُونُواْ حِجَارَةً أَوۡ
حَدِيدًا " أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم اذا تحولتم الى ما
هو أشد امتناعا من العظام والرفات وهو الحجارة أو الحديد ، " أَوۡ خَلۡقٗا
مِّمَّا يَكۡبُرُ فِي صُدُورِكُمۡ "ولو أنكم فرضتم أنكم لو صرتم الى الموت
الذى هو ضد الحياة لأحياكم الله اذا شاء فانه لا يمتنع عنه شىء اذا أراده وقال
مجاهد يعنى السماء والآرض والجبال حتى لو صرتم السماء والأرض والجبال وفى رواية
كونوا ما شئتم فسيعيدكم الله بعد موتكم ، " فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا
" أى من يعيدنا اذا كنا حجارة أوحديدا أو خلقا آخر شديد ، " قُلِ
ٱلَّذِي فَطَرَكُمۡ أَوَّلَ مَرَّة" الجواب يعيدكم الله الذى خلقكم ولم تكونوا شيئا مذكورا
ثم صرتم بشرا تنتشرون فانه قادر على اعادتكم ولو صرتم الى أى حال كقوله
" وهو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه " ، " فَسَيُنۡغِضُونَ إِلَيۡكَ رُءُوسَهُمۡ "
يردون عليك بتحريك رؤسهم استهزاءا وهو الذى تعرفه العرب من لغاتها لأن الانغاض هو
التحرك من أسفل الى أعلى أو من أعلى الى أسفل ، " وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ
" يقولون استبعاد لوقوع يوم القيامة ويطلبون تحديا ميعاد وقوعه ، " قُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَكُونَ قَرِيبٗا "
يرد عليهم أن احذروا ذلك فانه قريب اليكم سيأتيكم لا محالة ، " يَوۡمَ يَدۡعُوكُمۡ " يأمركم الله بالخروج
والبعث من القبور كقوله " وما أمرنا الا واحدة كلمح بالبصر " وكقوله
" فانما هى زجرة واحدة * فاذا هم بالساهرة " ، " فَتَسۡتَجِيبُونَ بِحَمۡدِهِ " تقومون كلكم
استجابة لأمره وطاعة لارادته وقال قتادة بمعرفته وطاعته ، " وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثۡتُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا "
يوم تبعثون وتقومون من قبوركم تعتقدون ويدور فى تفكيركم أنكم لبثم فى الدار الدنيا
أو فى القبور وقت قليل هذا كقوله " قال كم لبثتم فى الأرض عدد سنين قالوا
لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين * قال ان لبثم الا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون
" .
وَقُل لِّعِبَادِي
يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ يَنزَغُ بَيۡنَهُمۡۚ إِنَّ
ٱلشَّيۡطَٰنَ كَانَ لِلۡإِنسَٰنِ عَدُوّٗا مُّبِينٗا ٥٣
" وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ
أَحۡسَنُ " يأمر تبارك وتعالى عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يأمر
عباد الله المؤمنين أن يقولوا فى مخاطبتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن والكلمة
الطيبة ، " إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ يَنزَغُ بَيۡنَهُمۡ " فان لم يفعلوا ذلك
نزغ الشيطان بينهم أى يتدخل بينهم وأخرج الكلام الى الفعال ووقع الشر والمخاصمة
والمقاتلة ، "إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ
كَانَ لِلۡإِنسَٰنِ عَدُوّٗا مُّبِينٗا " الشيطان عدو لآدم وذريته من حين امتنع من السجود لآدم وعداوته ظاهرة
بينه ولهذا نهى أن يشير الرجل الى أخيه المسلم بحدبدة فان الشيطان ينزع فى يده أى
فربما أصابه بها ، وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : " لا يشيرن أحدكم الى أخيه بالسلاح فانه لا يدرى أحدكم لعل الشيطان أن
ينزع فى يده فيقع فى حفرة من النار " .
رَّبُّكُمۡ
أَعۡلَمُ بِكُمۡۖ إِن يَشَأۡ يَرۡحَمۡكُمۡ أَوۡ إِن يَشَأۡ يُعَذِّبۡكُمۡۚ وَمَآ
أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ وَكِيلٗا ٥٤ وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِمَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ
وَٱلۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ فَضَّلۡنَا بَعۡضَ ٱلنَّبِيِّۧنَ عَلَىٰ
بَعۡضٖۖ وَءَاتَيۡنَا
دَاوُۥدَ زَبُورٗا ٥٥
"
رَّبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِكُم " ربكم أعلم بكم أيها الناس ، "إِن يَشَأۡ
يَرۡحَمۡكُمۡ أَوۡ إِن يَشَأۡ يُعَذِّبۡكُم " هو أعلم بمن يستحق منكم الهداية
ومن لا يستحق ان يشأ يرحمكم بأن يوفقكم لطاعته والانابة اليه أو ان يشأ يعذبكم من
أفعالكم وانصرافكم عن طاعته ، " وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ وَكِيلٗا " ما
أرسلناك يا محمد موكلا بهم وبأعمالهم انما أرسلناك نذير فمن أطاعك دخل الجنة ومن
عصاك دخل النار ، " وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِمَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ"
الله أعلم بمراتب من فى السموات والأرض فى الطاعة والمعصية ، " وَلَقَدۡ
فَضَّلۡنَا بَعۡضَ ٱلنَّبِيِّۧنَ عَلَىٰ بَعۡض" جعل الله
رسله وأنبيائه درجات بحكمته وعلمه وما هم عليه وما كلفهم به كقوله " تلك
الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات " وهذا لا
ينافى ما ثبت فى الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تفضلوا
بين الأنبياء " والمراد من ذلك هو التفضيل بمجرد التشهى والعصبية لا بمقتضى
الدليل فاذا دل الدليل على شىء وجب اتباعه ولا خلاف أن الرسل أصحاب الرسالات الى
قومهم من الله أفضل من بقية الأنبياء واختيار الله لرسله يتم بعلمه فهو أعلم بمن
فى السموات والأرض وبما كلفهم به وبما هم عليه من صفات ، وأولى العزم من الرسل هم
الأفضل وهم الخمسة المذكورون نصا فى آيتين من القرآن وفى سورة الأحزاب " واذ
أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وابراهيم وموسى وعيس أبن مريم " وفى
الشورى " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا اليك وما وصينا به
ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " ولا خلاف أن محمدا
خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم أفضلهم وهذا موضوع يناقش لوحده وموضع بحث ثم بعده
ابراهيم ثم موسى ثم عيسى عليهم السلام على المشهور، " وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ
زَبُورٗا "
تنبيه على فضل داود وشرفه فخصه الله بالزبور ، وكل الرسل والأنبياء عقيدتهم واحدة
ودينهم واحد وهو الاسلام ولكن كل شىء
منازل ودرجات كما قال الله تعالى ولكن كله تكليف من الله واصطفاء منه " ورفع
بعضهم درجات " كما كان الصحابة حول رسول الله عليه وسلم كلهم من أصحاب
المنزلة الحسنة ولكن كانوا درجات وكذلك الملائكة درجات وهذا الكون مبنى على ذلك .
قُلِ ٱدۡعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُم مِّن دُونِهِۦ فَلَا
يَمۡلِكُونَ كَشۡفَ ٱلضُّرِّ عَنكُمۡ وَلَا تَحۡوِيلًا ٥٦ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ
يَدۡعُونَ يَبۡتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلۡوَسِيلَةَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ
وَيَرۡجُونَ رَحۡمَتَهُۥ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُۥٓۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ
مَحۡذُورٗا ٥٧
" يقول تعالى قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين
عبدوا غير الله " قُلِ ٱدۡعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُم مِّن دُونِهِ" أن
يدعو من يعتقدون فيهم من الأصنام والأنداد فيرغبوا اليهم " فَلَا يَمۡلِكُونَ
كَشۡفَ ٱلضُّرِّ عَنكُمۡ وَلَا تَحۡوِيلًا " فانهم لا يملكون كشف الضرعنهم
بالكلية ولا تحويلا أى بان يحولوا الضر الى غيرهم والمعنى أن الله هو القادر وحده
لا شريك له الذى له الخلق والأمر وقال العوفى عن أبن عباس فى قوله " ٱدۡعُواْ
ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُم" قال كان أهل الشرك يقولون نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا
وهم الذين يدعون يعنى الملائكة والمسيح وعزيرا ، " أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ
يَدۡعُونَ يَبۡتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلۡوَسِيلَةَ " عن أبن مسعود قال
نزلت فى نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون والانس الذين كانوا
يعبدونهم لا يشعرون باسلامهم فنزلت هذه الآية وفى رواية عن أبن مسعود كانوا يعبدون
صنفا من الملائكة يقال لهم الجن والوسيلة هى القربة كما قال قتادة ولهذا قال
" أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ " ، " وَيَرۡجُونَ رَحۡمَتَهُۥ وَيَخَافُونَ
عَذَابَهُۥ" يرجون رحمة الله ويخشون ويخافون من عذابه لأنه لا تتم العبادة
الا بالخوف والرجاء فبالخوف ينكف عن المناهى وبالرجاء يكثر من الطاعات ، " إِنَّ
عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحۡذُورٗا " ان عذاب الله ينبغى أن يحذر منه ويخاف من وقوعه وحصوله .
وَإِن مِّن قَرۡيَةٍ إِلَّا نَحۡنُ مُهۡلِكُوهَا قَبۡلَ
يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَوۡ مُعَذِّبُوهَا عَذَابٗا شَدِيدٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي
ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا ٥٨
" وَإِن
مِّن قَرۡيَةٍ إِلَّا نَحۡنُ مُهۡلِكُوهَا قَبۡلَ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَوۡ
مُعَذِّبُوهَا عَذَابٗا شَدِيدٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا "
اخبار من الله عزوجل بأنه حتم وقضى بما قد كتب عنده فى اللوح المحفوظ أنه ما من
قرية قد عصته وخالفت شرعه ورسله الا سيهلكها بان يبيد أهلها أو يعذبهم عذابا شديد
أما بافناء أو ابتلاء بسبب ذنوبهم وخطاياهم كما وقع مع قوم ثمود وصالح ولوط وغيرهم
كما قال تعالى " وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم " وكما قال " فذاقت
وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسر ا " .
وَمَا
مَنَعَنَآ أَن نُّرۡسِلَ بِٱلۡأٓيَٰتِ إِلَّآ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلۡأَوَّلُونَۚ
وَءَاتَيۡنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبۡصِرَةٗ فَظَلَمُواْ بِهَاۚ وَمَا نُرۡسِلُ بِٱلۡأٓيَٰتِ
إِلَّا تَخۡوِيفٗا ٥٩
" وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرۡسِلَ بِٱلۡأٓيَٰتِ إِلَّآ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلۡأَوَّلُونَ" عن سعيد بن جبير قال : قال المشركون يا محمد انك تزعم أنه كان قبلك أنبياء فمنهم من سخرت له الريح ومنهم من كان يحيى الموتى فان سرك أن نؤمن بك ونصدقك فادع ربك أن يكون لنا الصفا ذهبا فأوحى الله اليه " انى قد سمعت الذى قالوا فان شئت أن نفعل الذى قالوا فان لم يؤمنوا نزل العذاب فانه ليس بعد نزول الآية مناظرة وان شئت أن نستأنى بقومك استأنيت بهم " قال " يارب استأن بهم " وعن أبن عباس قال سأل أهل مكة النبى صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحى الجبال عنهم فيزرعوا فقيل له ان شئت أن نستأنى بهم وان شئت أن يأتيهم الذى سألوا فان كفروا هلكوا كما أهلكت من كان قبلهم من الأمم " قال : " لا بل أستأن بهم " وأنزل تعالى قوله "وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرۡسِلَ بِٱلۡأٓيَٰتِ إِلَّآ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلۡأَوَّلُونَ"،وعن أم عطاء مولاة الزبير بن العوام قالت:سمعت الزبير يقول لما نزلت " وأنذر عشيرتك الأقربين " صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبى قبيس ( اسم جبل بمكة ) : " يا آل عبد مناف انى نذير " فجاءت قريش فحذرهم وأنذرهم فقالوا تزعم أنك نبى يوحى اليك وان سليمان سخر له الريح والجبال وان موسى سخر له البحر وان عيسى كان يحيى الموتى فادع الله أن يسير عنا هذه الجبال ويفجر لنا الأرض أنهارا فتتخذ محارث ( أى أرض تحرث وتزرع ) فنزرع ونأكل والا فادع الله أن يحيى لنا موتانا لنكلمهم ويكلمونا والا فادع الله أن يصير لنا هذه الصخرة التى تحتك ذهبا فننحت منها وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف فانك تزعم أنك كهيئتهم " قال فبينا نحن حوله اذ نزل عليه الوحى فلما سرى عنه قال : " والذى نفسى بيده لقد أعطانى ما سألتم ولو شئت لكان ولكنه خيرنى بين أن تدخلوا باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم وبين أن يكلكم الى ما اخترتم لأنفسكم فتضلوا عن باب الرحمة فلا يؤمن منكم أحد فاخترت باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم وأخبرنى أنه ان أعطاكم ذلك ثم كفرتم أنه يعذبكم عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين " فنزل قوله تعالى " وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرۡسِلَ بِٱلۡأٓيَٰتِ إِلَّآ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلۡأَوَّلُونَ" ويقول تعالى أن لا مانع من أن نبعث الآيات ونأتى بها على ما سأل قومك منك فانه سهل علينا يسير لدينا الا أنه قد كذب بها الأولون بعد ما سألوها وجرت سنتنا فيهم وفى أمثالهم أنهم لا يؤخرون ( أى لا يؤخر عنهم العذاب ) ان كذبوا بها بعد نزولها كما قال تعالى فى سورة المائدة " قال الله انى منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فانى أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين " ، " وَءَاتَيۡنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبۡصِرَة فَظَلَمُواْ بِهَا " قال تعالى عن ثمود وهذا مثل لارسال الآيات حين سألوا آية الناقة تخرج من صخرة عينوها فدعا صالح عليه السلام ربه فأخرج لهم منها ناقة على ما سألوا فلما ظلموا بها أى كفروا بمن خلقها وكذبوا رسوله ومنعوها شربها وعقروها فأبادهم الله عن آخرهم وانتقم منهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، " وَمَا نُرۡسِلُ بِٱلۡأٓيَٰتِ إِلَّا تَخۡوِيفٗا " قال قتادة ان الله تعالى يخوف الناس بما شاء من الآيات لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحديث المتفق عليه " ان الشمس والقمر آيتان من آيات الله وانهما لاينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن الله عز وجل يخوف بهما عباده ، فاذا رأيتم ذلك فافزعوا الى ذكره ودعائه واستغفاره ثم قال " يا أمة محمد ما أحد أغير من الله أن يزنى عبده أو تزنى أمته ، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا " .
وَإِذۡ قُلۡنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِۚ
وَمَا جَعَلۡنَا ٱلرُّءۡيَا ٱلَّتِيٓ أَرَيۡنَٰكَ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلنَّاسِ
وَٱلشَّجَرَةَ ٱلۡمَلۡعُونَةَ فِي ٱلۡقُرۡءَانِۚ وَنُخَوِّفُهُمۡ فَمَا
يَزِيدُهُمۡ إِلَّا طُغۡيَٰنٗا كَبِيرٗا ٦٠
" وَإِذۡ
قُلۡنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ " يقول الله تعالى لرسوله صلى
الله عليه وسلم محرضا له على ابلاغ رسالته ومخبرا له بانه قد عصمه من الناس فانه
القادر عليهم وهم فى قبضته وتحت قهره وغلبته وقال مجاهد وقتادة وغيرهما فى قوله "
وَإِذۡ قُلۡنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ " أى أن الله يبلغك
أنه عصمك وحماك من الناس لتبلغ رسالتك التى أرسلك بها ،" وَمَا جَعَلۡنَا
ٱلرُّءۡيَا ٱلَّتِيٓ أَرَيۡنَٰكَ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلنَّاسِ " عن أبن عباس قال هى رؤيا عين حقيقية أريها
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به لما أسرى به كذبته قريش ولكن الصديق
رضى الله عنه رد عليهم بأنه يصدقه بخبر السماء يأتيه به الوحى من سبع سموات فكيف
لا يصدقه فى رحلة الاسراء ونحن نعلم ما دار بين النبى صلى الله عليه وسلم وتكذيب
قريش لهم حتى بعد أن أخبرهم بأمر القوافل الى رآها فى الطريق ووصف المسجد الأقصى
ببيت المقدس فكانت فتنة للناس وهم ناسا رجعوا عن دينهم بعد ما كانوا على الحق لأنه
لم تحمل قلوبهم وعقولهم ذلك فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه وجعل الله ذلك ثباتا
ويقينا لآخرين ولهذا قال " إِلَّا فِتۡنَة " أى اختبارا وامتحانا وحديث
الاسراء والمعراج له بحث وحده والحديث فيه يطول ، " وَٱلشَّجَرَةَ
ٱلۡمَلۡعُونَةَ فِي ٱلۡقُرۡءَانِ " الشجرة الملعونة هى شجرة الزقوم كما
أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الجنة والنار ورأى شجرة الزقوم
فكذبوا بذلك حتى قال أبوجهل : هاتوا لنا تمرا وزبدا وجعل يأكل من هذا بهذا ويقول
تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا " ، " وَنُخَوِّفُهُمۡ " يقول الله
تعالى نخوف الكفار بالوعيد والعذاب والنكال ، " فَمَا يَزِيدُهُمۡ إِلَّا
طُغۡيَٰنٗا كَبِيرٗا " ولكن
ذلك يزيدهم تماديا فيما هم فيه من الكفر والضلال وذلك من خذلان الله لهم .
وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ
فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ قَالَ ءَأَسۡجُدُ لِمَنۡ خَلَقۡتَ طِينٗا ٦١ قَالَ
أَرَءَيۡتَكَ هَٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمۡتَ عَلَيَّ لَئِنۡ أَخَّرۡتَنِ إِلَىٰ يَوۡمِ
ٱلۡقِيَٰمَةِ لَأَحۡتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٗا ٦٢
يذكر الله تعالى عداوة ابليس لعنه الله لآدم وذريته وأنها عداوة قديمة منذ خلق آدم " وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ " أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا كلهم الا ابليس ، " قَالَ ءَأَسۡجُدُ لِمَنۡ خَلَقۡتَ طِينٗا " استكبر وأبى أن يسجد له افتخارا عليه واحتقارا له وأنه أفضل فى الخلق منه فهو خلق من نار وآدم خلق من طين مادته أقل منه فكيف يسجد لمن هو أقل منه وأخذه الكبر وعصى أمر ربه وهذا كقوله " أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين " ، " قَالَ أَرَءَيۡتَكَ " يقول للرب بدلا من أن يطيعه وينفذ ما أمره به يتحدث للرب جراءة وكفرا والرب يحلم وينظر ، " هَٰذَا ٱلَّذِي " يشير الى آدم باسلوب يخرج عن الاحترام ويتحدث الى ربه واستخدم الاشارة لغير العاقل بدل من أن يقول "من" قال " هذا الذى " ، " كَرَّمۡتَ عَلَيَّ " أى كرمته بطلب سجود الملائكة له وفضلته على ، " لَئِنۡ أَخَّرۡتَنِ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَأَحۡتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٗا " سوف أستولين على ذريته كما قال أبن عباس وقال مجاهد لأضلنهم واستخدم لفظ " لأحتنكن " اللام للتأكيد والاحتناك يفيد الامتطاء والتحكم والسيطرة والمعنى أرأيتك سوف ترى منى وهذا وقاحة فى الخطاب وتحدى هذا الذى شرفته وعظمته على لئن أنظرتنى أى أمهلتنى الى يوم القيامة ولم تعجل لى العذاب وتدخلنى جهنم لأضلن ذريته الا قليلا منهم ، ونحن نرى هذا فى الواقع من تسويل ابليس لكثير من الناس أعمالهم وعصيانهم لله الا من رحم الله فالشيطان يجرى فى أبن آدم مجرى الدم .
قَالَ ٱذۡهَبۡ
فَمَن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمۡ جَزَآءٗ مَّوۡفُورٗا ٦٣ وَٱسۡتَفۡزِزۡ
مَنِ ٱسۡتَطَعۡتَ مِنۡهُم بِصَوۡتِكَ وَأَجۡلِبۡ عَلَيۡهِم بِخَيۡلِكَ وَرَجِلِكَ
وَشَارِكۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِ وَعِدۡهُمۡۚ وَمَا يَعِدُهُمُ
ٱلشَّيۡطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا ٦٤ إِنَّ عِبَادِي لَيۡسَ لَكَ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٞۚ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ
وَكِيلٗا ٦٥
" قَالَ ٱذۡهَبۡ " لما سأل ابليس الامهال قال الله تعالى له قد أنظرتك أى أمهلتك تفعل ما تشاء الى يوم القيامة كما قال فى الآية الأخرى " فانك من المنظرين الى يوم الوقت المعلوم " الوقت المعلوم هو يوم القيامة ، " فَمَن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمۡ جَزَآءٗ مَّوۡفُورٗا " أوعد الله ابليس ومن اتبعه من ذرية آدم جهنم فهى ستكون الجزاء على أعمالكم وسيكون هذا الجزاء وافرا كما قال مجاهد وقال قتادة موفورا عليكم لا ينقص لكم منه ، " وَٱسۡتَفۡزِزۡ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتَ مِنۡهُم بِصَوۡتِكَ " استخف من تقدر عليه بالقول وقال مجاهد باللهو والغناء وقال أبن عباس اسنخف واغرى كل داع دعا الى معصية الله عزوجل ،" وَأَجۡلِبۡ عَلَيۡهِم بِخَيۡلِكَ وَرَجِلِكَ " واحمل عليهم بجنودك واهجم عليهم وتسلط عليهم بكل ما تقدر عليه خيالتهم أى الراكب للخيل والرجل جمع راجل أى السائر على رجليه أو الماشى أى الماشى والراكب لايترك منهم أحد فى أى مكان واستخدام " خيلك ورجلك " ونسبها الى ابليس تفيد التمكن والقدرة فكل ملك له الراكب والسائر من ذريته وكذلك من البشر ويمكن تفسير الاية أن ابليس يتسلط بكل ما أوتى من قوة لديه هو وذريته فالخيل والرجل كناية عن تمام القوة المستخدمة من ظهور خيل ومشاة يحملون السلاح للهجوم ويمكن تفسير الاية أن ابليس يحمل على البشر جميعا الراكب الخيل أو السائر على رجليه وقال أبن عباس ومجاهد كل راكب وماشى فى معصية الله وقال قتادة ان له خيلا ورجالا من الجن والانس وهم الذين يطيعونه وتقول العرب أجلب فلان على فلان اذا صاح عليه ومنه اشتقاق الجلبة وهى ارتفاع الأصوات ، " وَشَارِكۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ" قال أبن عباس ومجاهد هو ما أمرهم به من انفاق الأموال فى معاصى الله وقال الحسن هو جمع الأموال من خبيث وانفاقها فى حرام ، " وَٱلۡأَوۡلَٰدِ " قال أبن عباس وغيره أولاد الزنا وقال أبن جرير وأولى الأقوال بالصواب أن يقال كل مولود ولدته أنثى عصى الله فيه بتسميته بما يكرهه الله مثل عبد شمس وعبد فلان أو بادخاله فى غير الدين الذى ارتضاه الله أو بالزنا بأمه أو بقتله أو وأده أو غير ذلك من الأمور التى يعصى الله بفعله به أو فيه فقد دخل فى مشاركة ابليس فيه من ولد ذلك الولد له أومنه لأن الله لم يخصص معنى الشركة فيه بمعنى دون معنى فكل ما عصى الله فيه أو به أو أطيع الشيطان فيه أو به فهو مشاركة فقد ثبت فى صحيح مسلم عن عياض بن حماد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله عز وجل انى خلقت عبادى حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم "وفى الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو أن أحدهم اذا أراد أن يأتى أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فانه ان يقدر بينهما ولد فى ذلك لم يضره الشيطان أبدا " ،" وَعِدۡهُمۡ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا " يتحدث الله عن اغراء الشيطان للبشر بالوعود الكاذبة عما سيكون لهم اذا أطاعوا قوله وفعله واتبعوه وان وعده لهم كاذب ومخادع نهايته الخسران المبين فى الدنيا والآخرة فسكة الشيطان لا ينتج منها الا المعاصى والهلاك والدمار فى الدنيا والآخرة ،"إِنَّ عِبَادِي لَيۡسَ لَكَ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰن" هذا اخبار من الله تعالى بتأييده لعباده المؤمنين وحفظه اياهم وحراسته لهم من الشيطان الرجيم فالشيطان ليس له عليهم قدرة ولا سيطرة ، " وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلٗا " والله وحده يكفيك ويحميك فهو الحافظ والمؤيد والناصر وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : " ان المؤمن لينض شياطينه كما ينض أحدكم بعيره فى السفر " ينض أى يأخذ بناصيته ويقهره .
رَّبُّكُمُ ٱلَّذِي يُزۡجِي لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ فِي
ٱلۡبَحۡرِ لِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا ٦٦
" رَّبُّكُمُ
ٱلَّذِي يُزۡجِي لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ فِي ٱلۡبَحۡرِ لِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦٓۚ "
يخبر الله تعالى عن لطفه فى تسخيره لعباده الفلك أى السفن فى البحر وتسهيله لمصالح
عباده لابتغائهم من فضله فى التجارة والصيد والسفر واستخراج المعادن وغيرها من
البحر وغير ذلك من الأغراض الابتغاء من خير الله وما أنعم به من خيرات البحار ،
" إِنَّهُۥ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا " كل شىء مسخر برحمة الله والمعنى انما فعل هذا بكم من
فضله عليكم ورحمته بكم .
وَإِذَا
مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فِي ٱلۡبَحۡرِ ضَلَّ مَن تَدۡعُونَ إِلَّآ إِيَّاهُۖ فَلَمَّا
نَجَّىٰكُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ أَعۡرَضۡتُمۡۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ كَفُورًا ٦٧
" وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فِي
ٱلۡبَحۡرِ ضَلَّ مَن تَدۡعُونَ إِلَّآ إِيَّاهُ " يخبر تبارك وتعالى أن
الناس اذا مسهم ضر دعوه منيبين اليه مخلصين له الدين وهنا تشبيه للدنيا كمن يسير
فى البحر تائه فيه ليس للانسان من أحد غير الله يدعوه ، " فَلَمَّا نَجَّىٰكُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ
أَعۡرَضۡتُمۡ " عندما ينجيكم الله مما أنتم فيه من خطر وتصلون الى بر الأمان
بفضله وحوله تبعدون عن طريق الله وحده لا شريك له وتنسون ما حل بكم ، " وَكَانَ
ٱلۡإِنسَٰنُ كَفُورًا" يشير الله الى جحود الانسان ونكرانه لنعمة ربه وهذه
سجية الانسان نسيان نعمة الله وجحودها الا من عصم الله .
أَفَأَمِنتُمۡ أَن يَخۡسِفَ بِكُمۡ جَانِبَ ٱلۡبَرِّ
أَوۡ يُرۡسِلَ عَلَيۡكُمۡ حَاصِبٗا ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمۡ وَكِيلًا ٦٨
" أَفَأَمِنتُمۡ أَن
يَخۡسِفَ بِكُمۡ جَانِبَ ٱلۡبَرِّ " يقول تعالى أفحسبتم بخروجكم الى البر
أمنتم من انتقامه وعذابه أن يخسف بكم جانب البر ، " أَوۡ يُرۡسِلَ عَلَيۡكُمۡ
حَاصِبٗا " أو يرسل عليكم حاصبا وهو المطر
الذى فيه الحصباء وهى الحجارة كما فى قوله " انا أرسلنا عليهم حاصبا الا آل
لوط نجيناهم بسحر نعمة من عندنا " وكما فى قوله " أم أمنتم من فى السماء
أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير " ، " ثُمَّ لَا تَجِدُواْ
لَكُمۡ وَكِيلًا " لن تجدوا لكم من دون الله ناصرا تتوكلون عليه وينقذكم منه
.
أَمۡ أَمِنتُمۡ
أَن يُعِيدَكُمۡ فِيهِ تَارَةً أُخۡرَىٰ فَيُرۡسِلَ عَلَيۡكُمۡ قَاصِفٗا مِّنَ ٱلرِّيحِ
فَيُغۡرِقَكُم بِمَا كَفَرۡتُمۡ ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمۡ عَلَيۡنَا بِهِۦ
تَبِيعٗا ٦٩ ۞
" أَمۡ أَمِنتُمۡ أَن يُعِيدَكُمۡ فِيهِ تَارَةً أُخۡرَىٰ " يقول الله تعالى هل أمنتم أيها المعرضون عن طريق الله بعد أن دعوتم الله وأنتم فى الضيق والضنك فأنجاكم الله ، " فَيُرۡسِلَ عَلَيۡكُمۡ قَاصِفٗا مِّنَ ٱلرِّيحِ " أن يعيدكم الى ما كنتم فيه مرة أخرى فيرسل الله عليكم قاصف من الريح أى ريح شديدة تقصف الصوارى وتغرق المراكب والسفن ، " فَيُغۡرِقَكُم بِمَا كَفَرۡتُمۡ " فيهلككم بسبب كفركم واعراضكم عن الله تعالى ، " ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمۡ عَلَيۡنَا بِهِۦ تَبِيعٗا " ولا تجدوا أحدا بعدنا نصيرا لكم كما قال أبن عباس ، هذا تحذير من الله لمن يبعد عن طريقه بعد ان أنجاه وهو يعتقد أنه فى مأمن فلا يأمن مكر الله الا القوم الضالين .
وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ
فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ
عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا ٧٠
" وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ
وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ
وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا يخبر الله عن تشريفه لبنى آدم وتكريمه اياهم فى خلقه لهم على
أحسن الهيئات وأكملها كقوله تعالى " لقد خلقنا الانسان فى أحسن تقويم "
له سمعا وبصراوأفئدة يفهم ويفرق بين الأشياء ويعرف منافعها وخواصها وغير ذلكمما
فتح الله عليه وسخر الله للانسان وسائل الحمل مما خلق فى البر من دواب وفى البحر
أيضا على السفن ومما هداه اليه من اختراعات أصبحت تحمله فى جو السماء وفى الأرض
ةينتقل الى خارج حدود الأرض "فانفذوا لا تنفذون الا بسلطان " ورزق الله
الانسان من الطيبات والنعم على الأرض ومن البحار مما يجعله يعيش حياة رغدة ويحترف
حرفا تجلب له الرزق وفضل الله الانسان على كثيرا من خلقه وسخر لهم من الحيوانات
وأصناف المخلوقات وتكر كلمة التفضيل لتأكيده وتأكيد فضل الله فى هذا التفضيل ، وقد
استدل بهذه الآية الكريمة على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة وعن عبد الله بن
عمرو عن النبى صلى الله عليه وسلم قال " ان الملائكة قالت ياربنا أعطيت بنى
آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا
نلهو فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة قال لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدى
كمن قلت لهكن فيكون " وعن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : " ما شىء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم " قيل يا رسول
الله ولا الملائكة قال " ولا الملائكة ، الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس
والقمر " وهذا حديث غريب جدا .
يَوۡمَ
نَدۡعُواْ كُلَّ أُنَاسِۢ بِإِمَٰمِهِمۡۖ فَمَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ
فَأُوْلَٰٓئِكَ يَقۡرَءُونَ كِتَٰبَهُمۡ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلٗا ٧١ وَمَن كَانَ فِي
هَٰذِهِۦٓ أَعۡمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ أَعۡمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلٗا ٧٢
" يَوۡمَ نَدۡعُواْ كُلَّ أُنَاسِۢ بِإِمَٰمِهِمۡ فَمَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَقۡرَءُونَ كِتَٰبَهُمۡ" يخبر الله عن يوم القيامة أنه يحاسب كل أمة بامامهم واختلف فى " امامهم " قال قتادة نبيهم وهذا كقوله تعالى " ولكل أمة رسول فاذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط " وقال أبن زيد بكتابهم الذى أنزل على نبيهم من التشريع وقال العوفى عن أبن عباس فى قوله" يَوۡمَ نَدۡعُواْ كُلَّ أُنَاسِۢ بِإِمَٰمِهِمۡ " قال بكتاب أعمالهم وهذا هو القول الأرجح كقوله تعالى " وكل شىء أحصيناه فى امام مبين " وقال تعالى " ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه " ، ويحتمل أن المراد بامامهم أى كل قوم بمن يأتمون به فأهل الايمان ائتموا بالأنبياء عليهم السلام وأهل الكفر ائتموا بائمتهم كما قال "وجعلناهم أئمة يدعون الى النار"وفى الصحيحين " لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فيتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت " وقال تعالى " وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى الى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون * هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق انا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " ، وهذا لا ينافى أن يجاء بالنبى اذا حكم الله بين أمته فانه لابد أن يكون شاهدا على أمته بأعمالها كقوله تعالى " وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجىء بالنبيين والشهداء " وكقوله تعالى " فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " ولكن المراد هنا بالامام هو كتاب الأعمال كقوله تعالى " يوم ندعوا كل أناس بامامهم فمن أوتى كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم " أى من فرحته وسروره بما فيه من العمل الصالح يقرأه ويحب قراءته كقوله " فأما من أوتى كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه " وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم فى قوله" يَوۡمَ نَدۡعُواْ كُلَّ أُنَاسِۢ بِإِمَٰمِهِمۡ " قال " يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمد له فى جسمه ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤة يتلألأ فينطلق الى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون اللهم آتنا بهذا ، وبارك لنا فى هذا فيأتيهم فيقول لهم أبشروا فان لكل رجل منكم مثل هذا ،وأما الكافر فيسود وجهه ويمد له فى جسمه ويراه أصحابه فيقولون نعوذ بالله من هذا أو من شر هذا اللهم لا تأتنا به فيأتيهم فيقولون اللهم أخره فيقول أبعدكم الله فان لكل رجل منكم مثل هذا " ، " وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلٗا " الفتيل هو الخيط المستطيل فى شق النواة أى أن الله تعالى يوفى كل بعمله ويجازى عليه حتى وان كان مثل الفتيل ويوفيه أجره عليه بالقسط والعدل كقوله " فمن يعمل مثال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " ، "وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ"قال أبن عباس وغيره الحياة الدنيا ،" أَعۡمَىٰ " أعمى عن حجة الله وآياته وبيناته ، " فَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ أَعۡمَىٰ" أى فى الآخرة يكون كذلك ويبعث كذلك لأن الناس يبعثون على ما كانوا عليه،"وَأَضَلُّ سَبِيلٗا "يأتى وهو أضل منه عما كان فى الدنيا حتى يستوفى حسابه فى جهنم .
وَإِن كَادُواْ لَيَفۡتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِيٓ
أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ لِتَفۡتَرِيَ عَلَيۡنَا غَيۡرَهُۥۖ وَإِذٗا لَّٱتَّخَذُوكَ
خَلِيلٗا ٧٣ وَلَوۡلَآ أَن ثَبَّتۡنَٰكَ
لَقَدۡ كِدتَّ تَرۡكَنُ إِلَيۡهِمۡ شَيۡٔٗا قَلِيلًا ٧٤ إِذٗا لَّأَذَقۡنَٰكَ
ضِعۡفَ ٱلۡحَيَوٰةِ وَضِعۡفَ ٱلۡمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيۡنَا نَصِيرٗا ٧٥
"
وَإِن كَادُواْ لَيَفۡتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ لِتَفۡتَرِيَ
عَلَيۡنَا غَيۡرَهُ " وَإِذٗا لَّٱتَّخَذُوكَ خَلِيلٗا " يخبر الله
عن تأييده رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وتثبيته وعصمته فى مواجة المشركين وهذا
يثبت بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه ليس معصوما الا باذن الله وحده فهو
المتولى أمره ويأمره الله ان يعرض عن المشركين ويمضى فى طريقه فالمشركين يحاولون
بكل الطرق والاغراءات صرف الرسول صلى الله عليه عن رسالته بالاغراء تارة والتعذيب
والتهديد والوعيد تارة لقول غير الحق ويركن اليهم حتى يكون صاحبا لهم والمتابع
للسيرة النبوية يجد الكثير من مواقف مشركى قريش ، " وَلَوۡلَآ أَن
ثَبَّتۡنَٰكَ لَقَدۡ كِدتَّ تَرۡكَنُ إِلَيۡهِمۡ شَيۡٔٗا قَلِيلًا
" ولكن كان الله مثبته وعاصمه ومؤيده من شر الأشرار وحافظه وناصره ومظفره
ومظهر دينه على من عاداه وخالفه وناوأه فى مشارق الأرض ومغاربها ، " إِذٗا
لَّأَذَقۡنَٰكَ ضِعۡفَ ٱلۡحَيَوٰةِ وَضِعۡفَ ٱلۡمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ
عَلَيۡنَا نَصِيرٗا " لوكان حدث ذلك وركن الى المشركين ولو قليلا لما سلم
من عذاب الله المضاعف فى الحياة الدنيا وفى الممات فى الآخرة ولا يكون له ناصر أو
منقذ من غير الله ،يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يثبت أمام المشركين ولا
يركن اليهم ولو قليلا فهو المتكفل به وهو ناصره .
وَإِن كَادُواْ
لَيَسۡتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ لِيُخۡرِجُوكَ مِنۡهَاۖ وَإِذٗا لَّا يَلۡبَثُونَ
خِلَٰفَكَ إِلَّا قَلِيلٗا ٧٦ سُنَّةَ مَن قَدۡ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِن
رُّسُلِنَاۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحۡوِيلًا ٧٧
" وَإِن كَادُواْ
لَيَسۡتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ لِيُخۡرِجُوكَ مِنۡهَاۖ وَإِذٗا لَّا يَلۡبَثُونَ خِلَٰفَكَ إِلَّا
قَلِيلٗا " قيل نزلت فى كفار قريش هموا باخراج
رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم فتوعدهم الله بهذه الآية وأنهم لو أخرجوه
لما لبثوا بمكة من بعده الا يسيرا ، وكذلك وقع فانه لم يكن بعد هجرته من بين
أظهرهم بعد ما اشتد عليه أذاهم له وما هى الا سنة ونصف حتى جمعهم الله واياه ببدر
على غير ميعاد فأمكنه منهم وسلطه عليهم وأظفره بهم فقتل أشرافهم وسبى ذراريهم لهذا قال تعالى " سُنَّةَ مَن قَدۡ
أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِن رُّسُلِنَاۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحۡوِيلًا
" أى هكذا عادة الله التى ليس لها تغيير أو تحويل فى الذين كفروا برسله وآذوهم
بخروج الرسول من بين أظهرهم يأتيهم العذاب ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
الرحمة رفض أن يحل بهم العذاب ولو جاءهم العذاب فى الدنيا لجاءهم ما لأحد قبل له
به وبخاصة عندما آذاه الكفار فى الطائف وأدموا قدميه وقال له جبريل عليه السلام لو شئت لأطبقت عليهم الأخشبين أى الجبلين فرفض
أن يدعو عليهم كما دعى نوح وموسى عليهما السلام على قومهما فاستجاب الله لهما
ولهذا قال تعالى " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " .
أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ إِلَىٰ غَسَقِ
ٱلَّيۡلِ وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِۖ إِنَّ قُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡهُودٗا ٧٨ وَمِنَ ٱلَّيۡلِ
فَتَهَجَّدۡ بِهِۦ نَافِلَةٗ لَّكَ عَسَىٰٓ أَن يَبۡعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامٗا مَّحۡمُودٗا ٧٩
يقول الله
تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم آمرا له باقامة الصلوات المكتوبات فى
أوقاتها " أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ " أمره الله أن يقيم
الصلاة قيل لغروب الشمس قال أبن عباس دلوكها زوالها وعن جابر بن عبد الله قال دعوت رسول الله صلى
الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه فطعموا عندى ثم خرجوا حين زالت الشمس فخرج النبى
صلى الله عليه وسلم فقال " اخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس " ،
" إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيۡلِ " غسق الليل هو ظلامه وهذه الآية دخل فيها
أوقات الصلوات الخمس ،"وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡر" يعنى صلاة الفجر ، " إِنَّ
قُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡهُودٗا" وعن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم فى هذه
الآية قال" تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار " وعن أبى هريرة رضى الله
عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال " فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس
وعشرون درجة ، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار فى صلاة الفجر " وفى
الصحيحين عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال "
يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون فى صلاة الصبح وفى صلاة
العصر ، فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بكم كيف تركتم عبادى ؟
فيقولون أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون " ، " وَمِنَ ٱلَّيۡلِ
فَتَهَجَّدۡ بِهِ" أمر الله بقيام الليل بعد المكتوبة فان التهجد ما كان بعد
النوم وهو المعروف فى لغة العرب وكذلك ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه كان يتهجد بعد نومه وقال الحسن البصرى هو ما كان بعد العشاء ويحمل على ما
كان بعد النوم وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة
رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل أى الصلاة أفضل بعد
المكتوبة ؟ قال صلاة الليل " ، " نَافِلَةٗ لَّكَ
" أختلف فى معناه فقيل مهناه أنك أى الرسول صلى الله عليه وسلم مخصوص بوجوب
ذلك وحدك فجعلوا قيام الليل واجبا فى حقه دون الأمة وقيل انما جعل قيام الليل فى
حقه نافلة على الخصوص لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ،وغيره من أمته
انما يكفر عنه صلواته النوافل الذنوب التى عليه ، " عَسَىٰٓ أَن يَبۡعَثَكَ
رَبُّكَ مَقَامٗا مَّحۡمُودٗا " يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم افعل هذا الذى
أمرتك به لنقيمك يوم القيامة مقاما محمودا يحمدك فيه الخلائق كلهم وخالقهم تبارك
وتعالى وقال أبن جرير قال أكثر أهل التأويل ذلك هو المقام الذى يقومه محمد صلى
الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة
ذلك اليوم وقال أبن عباس هذا المقام المحمود مقام الشفاعة وعن أبى هريرة رضى الله
عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة
وأول من ينشق عنه القبر يوم القيامة وأول شافع وأول مشفع وعن أبى هريرة قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " عَسَىٰٓ أَن يَبۡعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامٗا مَّحۡمُودٗا "
سئل عنها فقال " هى الشفاعة " وهناك أحاديث كثيرة عن الشفاعة .
وَقُل رَّبِّ أَدۡخِلۡنِي مُدۡخَلَ صِدۡقٖ وَأَخۡرِجۡنِي
مُخۡرَجَ صِدۡقٖ وَٱجۡعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلۡطَٰنٗا نَّصِيرٗا ٨٠ وَقُلۡ جَآءَ
ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَٰطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقٗا ٨١
عن أبن عباس قال كان النبى صلى الله عليه وسلم بمكة ثم
أمر بالهجرة فأنزل الله الاية وقال الحسن البصرى فى تفسير هذه الآية : ان كفار مكة
لما ائتمروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أو يطردوه أو يوثقوه فأراد
الله قتال أهل مكة أمره أن يخرج الى المدينة " وَقُل رَّبِّ أَدۡخِلۡنِي مُدۡخَلَ صِدۡق"
قال قتادة يعنى المدينة هى مدخل الصدق الذى أمر بالدخول اليها ، " وَأَخۡرِجۡنِي مُخۡرَجَ صِدۡق " يعنى مكة
أى اجعل لى خروج من مكة وهى مخرج الصدق وهذا أشهر الأقوال وقال العوفى عن أبن عباس
" أَدۡخِلۡنِي مُدۡخَلَ صِدۡق" مدخل الصدق الموت ، " وَأَخۡرِجۡنِي
مُخۡرَجَ صِدۡق" ومخرج الصدق الحياة بعد الموت ، " وَٱجۡعَل لِّي مِن
لَّدُنكَ سُلۡطَٰنٗا نَّصِيرٗا " قال الحسن البصرى فى تفسيرها أن الرسول صلى الله عليه
وسلم وعده ربه لينزعن ملك فارس وليجعلنه له وملك الروم وعز الروم وقال قتادة أن
نبى الله صلى الله عليه وسلم علم أنه لا طاقة له بهذا الأمر الا بسلطان من الله
وحده فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله ، ولحدود الله ولفرائض الله ولاقامة دين الله
وهو الأرجح لأنه لابد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه وكثيرا ما طلب الرسول صلى
الله عليه وسلم أن ينصره الله ولا ننسى ما حدث فى غزوة الخندق عندما كان المسلمون
محاصرين واعترضت صخرة حطمها الرسول صلى الله عليه وسلم وتنبأ كلما كسرمنها جزءا أن
الله سيفتح عليه بلاد كسرى والشام وغيرها وهناك من الأحاديث ما كان يبشر بالفتوحات
وهذا بسلطان الله ونصره وفى الحديث " ان الله ليزع بالسلطان ما لا
يزع بالقرآن " أى ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام مالا يمتنع كثير
من الناس بالقرآن وما فيه من الوعيد الأكيد والتهديد الشديد وهذا هو الواقع اقامة
دين الله وشرعه من قبل من لديه سلطة لاقامة شرع الله وبخاصة الحاكم المسلم ،
" وَقُلۡ جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَٰطِلُ إِنَّ ٱلۡبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقٗا " تهديد ووعيد
لكفار قريش فانه قد جاءهم من الله الحق الذى لا مرية فيه ولا قبل لهم به وهوما بعث
الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من القرآن والايمان والعلم النافع وزهق
باطل الكفار أى اضمحل وهلك فان الباطل لا تبات له مع الحق ولا بقاء كما قال تعالى
" بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فاذا هو زاهق " وعن عبد الله بن
مسعود رضى الله عنه قال :دخل النبى صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون
وثلثمائة نصب فجعل يطعنها بعود فى يده ويقول جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَٰطِلُۚ
إِنَّ ٱلۡبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقٗا " ، جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد " وعن جابر
رضى الله عنه قال : دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ثلثمائة
وستون صنما تعبد من دون الله فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبت على
وجوهها وقال " جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَٰطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَٰطِلَ كَانَ
زَهُوقٗا " .
وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٞ وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ
وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارٗا ٨٢
" وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٞ وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ " يتحدث الله تعالى عن كتابه الذى أنزله على رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وهو القرآن انه شفاء ورحمة للمؤمنين أى يذهب ما فى القلوب من الأمراض من شك ونفاق وشرك وزيغ وميل وغير ذلك من أمراض النفوس والقلوب فالقرآن يشفى من ذلك كله وهو أيضا رحمة يحصل فيها الايمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه وليس هذا الا لمن آمن به وصدقه واتبعه فانه يكون فى حقه شفاء ورحمة قال قتادة اذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه ، " وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارٗا " وأما الكافر الظالم نفسه فلا يزيده سماعه القرآن الا بعدا وكفرا والآفة من الكافر لا من القرآن والكافر لا ينتفع بالقرآن ولا يحفظه ولا يعيه فان الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين وهذا كقوله " قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون فى آذانهم وقر وهو عليهم عمى " وكقوله تعالى " واذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه ايمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم ايمانا وهم يستبشرون وأما الذين فى قلوبهم مرض فزادتهم رجسا الى رجسهم وماتوا وهم كافرون" .
وَإِذَآ
أَنۡعَمۡنَا عَلَى ٱلۡإِنسَٰنِ أَعۡرَضَ وَنََٔا
بِجَانِبِهِۦ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ كَانَ ئَُوسٗا ٨٣ قُلۡ كُلّٞ يَعۡمَلُ عَلَىٰ
شَاكِلَتِهِۦ فَرَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَنۡ هُوَ أَهۡدَىٰ سَبِيلٗا ٨٤
يخبر الله تعالى عن نقص الانسان فى حالتى السراء والضراء "
وَإِذَآ أَنۡعَمۡنَا عَلَى ٱلۡإِنسَٰنِ أَعۡرَضَ وَنََٔا بِجَانِبِهِ
" اذا أنعم الله على الانسان بمال وعافية وفتح ورزق ونصر ونال ما يريد أعرض
عن طاعة الله وعبادته ونأى بجانبه وقال مجاهد بعد عن الله وهذا كقوله " فلما
كشفنا عنه ضره مر :ان لم يدعنا الى ضر مسه " وكقوله " فلما نجاكم الى
البر أعرضتم " ، " وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ كَانَ ئَُوسٗا " اذا أصاب الانسان
المصائب والحوادث والنوائب قنط وأصابه
اليأس وهذا كقوله" ولئن أذقنا الانسان منا رحمة ثم نزعناها منه انه ليئوس
كفور * ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عنى انه لفرح فخور *
الا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير "، " قُلۡ
كُلّٞ يَعۡمَلُ عَلَىٰ
شَاكِلَتِهِ" كل شخص يعمل قال أبن
عباس على ناحيته وقال مجاهد على حدته وكبيعته وقال قتادة على نيته وقال أبن زيد
دينه ، وهذه الآية تهديد للمشركين ووعيد لهم على عملهم كقوله " وقل للذين لا
يؤمنون أعملوا على مكانتكم " ،
" فَرَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَنۡ هُوَ أَهۡدَىٰ سَبِيلٗا " والله وحده يعلم
من من فينا أهدى فى اتباع الحق وطريقه وسيجزى كل عامل بعمله فانه لا تخفى عليه
خافية .
وَيَسَۡٔلُونَكَ
عَنِ ٱلرُّوحِۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ
ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗا ٨٥
عن أبن عباس قال : قالت قريش ليهود أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل فقالوا سلوه عن الروح فنزلت الآية،وعن عكرمة قال سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح فأنزل الآية" وَيَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ" يسألك اليهود أو غيرهم يا محمد عن الروح ، وقد اختلف المفسرون فى الروح فقال أحدهما أن المراد أرواح بنى آدم وقال العوفى عن أبن عباس أن اليهود قالت للنبى صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن الروح وكيف تعذب الروح فى الجسد وانما الروح من الله ولم يكن نزل عليه شىء فيه فأتاه جبريل فقال " قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗا " فأخبر النبى صلى الله عليه وسلم بذلك فقالوا : من جاءك بهذا قال جاءنى به جبريل من عند الله فقالوا له : والله ما قاله لك الا عدونا فأنزل الله " قل من كان عدوا لجبريل فانه نزله على قلبك باذن الله مصدقا لما بين يديه " ، وقيل المراد بالروح هنا جبريل ،" قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي " رد عليهم يا محمد أن الروح من شأن الله ربى ومما استأثر بعلمه دونكم ، "وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗا " وما أطلعكم الله من علمه الا القليل فانه لا يحيط بعلمه الا بما شاء والمعنى أن علمكم فى علم الله قليل وهذا الذى تسألون عليه من الروح مما استأثر به تعالى ولم يطلعكم عليه كما أنه لم يطلعكم الا على القليل من علمه تعالى ، وقال السهيلى قال بعض الناس لم يجبهم عما سألوا لأنهم سألوا على وجه التعنت وقيل أجابهم وعول على أن المراد بقوله " قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي " أى من شرعه فادخلوا فيه وقد علمتم ذلك لأنه لا سبيل الى معرفة هذا من طبع ولا فلسفة وانما ينال من جهة الشرع وذكر السهيلى الخلاف بين العلماء فى أن الروح هى النفس أو غيرها وقرر أنها ذات لطيفة كالهواء سارية فى الجسد كسريان الماء فى عروق الشجر وقرر أن الروح التى ينفخها الملك فى الجنين هى النفس بشرط اتصالها بالبدن واكتسابها بسببه فحاصل ما نقول ان الروح هى أصل النفس ومادتها والنفس مركبة منها ومن أحسن من تكلم على ذلك الحافظ أبن منده فى كتاب فى الروح .
وَلَئِن شِئۡنَا لَنَذۡهَبَنَّ بِٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ
إِلَيۡكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِۦ عَلَيۡنَا وَكِيلًا ٨٦ إِلَّا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ إِنَّ
فَضۡلَهُۥ كَانَ عَلَيۡكَ كَبِيرٗا ٨٧ قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ
عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ
وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا ٨٨ وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا
ٱلۡقُرۡءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٖ فَأَبَىٰٓ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ إِلَّا كُفُورٗا ٨٩
يذكر تعالى نعمته وفضله العظيم
على عبده ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم فيما أوحاه اليه من القرآن المجيد الذى
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد " وَلَئِن شِئۡنَا لَنَذۡهَبَنَّ بِٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ
إِلَيۡكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِۦ عَلَيۡنَا وَكِيلًا * إِلَّا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ إِنَّ فَضۡلَهُۥ كَانَ
عَلَيۡكَ كَبِيرٗا "يذكر
الله منته على رسول محمد صلى الله عليه وسلم بما اجتباه به من الوحى والتنزيل
بفضله ومنته وحده ولو شاء الله لذهب بذلك ولكن فضله كان عظيما باصطفائه بالوحى
والنبوة والرسالة فكل ذلك بمشيئته ولو شاء لذهب به ولوذهب به لم يكن أحد غيره كفيل
بذلك ولكن الله بفضله ورحمته هوالذى تفضل به وهو عظيم الفضل والمنة عليه ، قال أبن مسعود رضى الله عنه يطرق الناس ريح
حمراء فى آخر الزمان من قبل الشام فلا يبقى فى مصحف رجل ولا فى قلبه آية ، " قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ
عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ
وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا " نبه تعالى على شرف هذا القرآن
العظيم فأخبر أنه لو اجتمعت الانس والجن كلهم واتفقوا على أن يأتوا بمثل ما أنزله
الله على رسوله لما أطاقوا ذلك ولو تعاونوا وتساعدوا وتظافروا فان هذا أمر لا
يستطاع وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذى لا نظير له ولا مثال له ولا
عديل له ، " وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ مِن
كُلِّ مَثَلٖ فَأَبَىٰٓ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ إِلَّا كُفُورٗا" يقول الله تعالى بينا لهم الحجج
والبراهين القاطعة ووضحنا لهم الحق وشرحناه وبسطناه ومع هذا فأبى أكثر الناس الا
كفورا أى جحودا للحق وردا للصواب .
وَقَالُواْ لَن نُّؤۡمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفۡجُرَ لَنَا
مِنَ ٱلۡأَرۡضِ يَنۢبُوعًا ٩٠ أَوۡ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٞ مِّن نَّخِيلٖ وَعِنَبٖ فَتُفَجِّرَ
ٱلۡأَنۡهَٰرَ خِلَٰلَهَا تَفۡجِيرًا ٩١ أَوۡ تُسۡقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمۡتَ
عَلَيۡنَا كِسَفًا أَوۡ تَأۡتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ قَبِيلًا ٩٢ أَوۡ
يَكُونَ لَكَ بَيۡتٞ مِّن زُخۡرُفٍ أَوۡ تَرۡقَىٰ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَن
نُّؤۡمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيۡنَا كِتَٰبٗا نَّقۡرَؤُهُۥۗ قُلۡ
سُبۡحَانَ رَبِّي هَلۡ كُنتُ إِلَّا بَشَرٗا رَّسُولٗا ٩٣
قال أبن جرير عن أبن عباس أن عتبة وشيبة ابنى ربيعة وأبا سفيان بن حرب ورجلا من بنى عبد الدار وأبا البخترى أخا بنى أسد والأسود بن المطلب بن أسد وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبى أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيها ومنبها ابنى الحجاج السهميين اجتمعوا أو من اجتمع منهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض ابعثوا الى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه ، فبعثوا اليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا وهو يظن أنه قد بدا لهم فى أمره بدء وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعزعليه عنتهم حتى جلس اليهم فقالوا : يا محمد انا قد بعثنا اليك لنعذر فيك وانا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقى من قبيح الا وقد جئته فيما بيننا وبينك ، فان كنت انما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وان كنت انما تطلب الشرف فينا سودناك علينا ، وان كنت تريد ملكا ملكناك علينا ، وان كان هذا الذى يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن الرئى - فربما كان ذلك بذلنا أموالنا فى طلب الطب حتى نبرئك منه أونعذر فيك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما بى ما تقولون ، ما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثنى اليكم رسولا وأنزل على كتابا وأمرنى أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم فان تقبلوا منى ما جئتكم به فهو حظكم فى الدنيا والآخرة وان تردوه على أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم " فقالوا : يا محمد فان كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلادا ولا أقل مالا ولا أشد عيشا منا فاسأل لنا ربك الذى بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التى قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليفجر فيا أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصى بن كلاب فانه كان شيخا صدوقا فنسالهم عما تقول حق هو أم باطل ؟ فان صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا منزلتك عند الله وأنه بعثك رسولا كما نقول" فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بهذا بعثت انما جئتكم من عند الله بما بعثنى به فقد بلغتكم ما أرسلت به اليكم فان تقبلوه فهو حظكم فى الدنيا والآخرة ،وان تردوه على أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم " قالوا : فان لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك فسل ربك أن يبعث ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وتسأله فيجعل لك جنات وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة يغنيك بهما عما نراك تبتغى فانك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضل منزلتك من ربك ان كنت رسولا كما تزعم " فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أنا بفاعل ما أنا بالذى يسأل ربه هذا وما بعثت اليكم بهذا ولكن الله بعثنى بشيرا ونذيرا فان تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم فى الدنيا والآخرة ، وان تردوه على أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم " قالوا فأسقط السماء كما زعمت أن ربك ان شاء فعل ذلك فانا لن نؤمن لك الا أن تفعل " فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذلك الى الله ان شاء فعل بكم ذلك " فنزلت الآيات تخبر عن ذلك " وَقَالُواْ لَن نُّؤۡمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفۡجُرَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَرۡضِ يَنۢبُوعًا " سألوه أن يجرى لهم عيونا معينا فى أرض الحجاز حتى يؤمنوا به ، " أَوۡ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٞ مِّن نَّخِيلٖ وَعِنَبٖ فَتُفَجِّرَ ٱلۡأَنۡهَٰرَ خِلَٰلَهَا تَفۡجِيرًا " وسألوه أن يسأل الله أن يسيرعنهم الجبال التى قد ضيقت عليهم وليبسط لهم بلادهم و يجعل لهم جنان بها النخيل والعنب وهو أطيب ما كان لديهم من الرزق الذى عرفوه ويكن فى هذه الجنان من الأنهار التى تجرى خلالها فترويها فيجتمع الماء والخضرة والثمار والرزق الطيب السهل بدل منمعيشة الصحراء الصعبة المعتمدة على الأمطار القليلة والآبار ، " أَوۡ تُسۡقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمۡتَ عَلَيۡنَا كِسَفًا " تحدوه استهزاءا بطلب استعجال العذاب قالوا فأسقط السماء كما زعمت أن ربك ان شاء فعل ذلك فانا لن نؤمن لك الا أن تفعل " أَوۡ تَأۡتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ قَبِيلًا " وقال قائلهم نحن نعبد الملائكة وهى بنات الله لن نؤمن لك حتى تأتى بالله والملائكة من قبلك ، " أَوۡ يَكُونَ لَكَ بَيۡتٞ مِّن زُخۡرُفٍ " وطلبوا منه أن يكون له كما قال أبن عباس بيت من زخرف أى من ذهب ، " أَوۡ تَرۡقَىٰ فِي ٱلسَّمَآءِ " وسألوه أن يصعد فى سلم الى السماء وهم ينظرون اليه ، " وَلَن نُّؤۡمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيۡنَا كِتَٰبٗا نَّقۡرَؤُهُ " ولن يؤمنوا بذلك حتى يأتى معه بصحيفة منشورة قال مجاهد مكتوب فيه الى كل واحد صحيفة هذا كتاب من الله لفلان ابن فلان تصبح موضوعة عند رأسه ، " قُلۡ سُبۡحَانَ رَبِّي هَلۡ كُنتُ إِلَّا بَشَرٗا رَّسُولٗا " يقول الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم قل للكافرين الله ربى سبحانه وتعالى وتقدس أن يتقدم أحد بين يديه فى أمر من أمور سلطانه وملكوته بل هو الفعال لما يشاء ان شاء أجابكم الى ما سألتم وان شاء لم يجبكم وما أنا الا رسول اليكم أبلغكم رسالات ربى وأنصحلكم وقد فعلت ذلك وأمركم فيما سألتم الى الله عز وجل وعن أبى أمامة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " عرض على ربى عز وجل ليجعل لى بطحاء مكة ذهبا ، فقلت : لا يارب ولكن أشبع يوما وأجوع يوما - أو نحو ذلك- فاذا جعت تضرعت اليك وذكرتك ، واذا شبعت حمدتك وشكرنك " رواه الترمذى .
وَمَا مَنَعَ
ٱلنَّاسَ أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ جَآءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰٓ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ
أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَرٗا رَّسُولٗا ٩٤ قُل لَّوۡ كَانَ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَلَٰٓئِكَةٞ يَمۡشُونَ
مُطۡمَئِنِّينَ لَنَزَّلۡنَا عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكٗا رَّسُولٗا ٩٥
" وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ " يقول تعالى ما منع
أكثر الناس ، " أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ جَآءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰٓ إِلَّآ أَن
قَالُوٓاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَرٗا رَّسُولٗا "ما منعهم من الايمان بالله ويتابعوا الرسل الا استعجابهم
من بعث الله البشر رسلا كما قال تعال " أكان للناس عجبا أن أوحينا الى رجل
منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ط وقال فرعون وملؤه
" أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون " والآيات فى هذا كثيرة "
، " قُل لَّوۡ كَانَ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَلَٰٓئِكَةٞ يَمۡشُونَ
مُطۡمَئِنِّينَ لَنَزَّلۡنَا عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكٗا رَّسُولٗا " قال الله
تعالى منبها على لطفه ورحمته بعباده أنه يبعث اليهم الرسول من جنسهم ليفقهوا عنه
ويفهموا منه لتمكنهم من مخاطبته ومكالمته ولو بعث الى البشر رسولا من الملائكة لما
استطاعوا مواجهته ولا الأخذ عنه كما قال تعالى " كما أرسلنا فيكم رسولا منكم
يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون
" .
قُلۡ كَفَىٰ
بِٱللَّهِ شَهِيدَۢا بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ بِعِبَادِهِۦ خَبِيرَۢا
بَصِيرٗا ٩٦
" قُلۡ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدَۢا بَيۡنِي
وَبَيۡنَكُمۡۚ " يقول تعالى مرشدا نبيه صلى الله عليه وسلم الى الحجة على
قومه فى صدق ما جاءهم به فالله شاهد عليه وعليهم ، عالم بما جاءهم به بصير بما
يفعلون فلو كان كاذبا على الله لانتقم منه
أشد الانتقام كما قال تعالى " ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه
باليمين ثم لقطعنا منه الوتين " ، " إِنَّهُۥ كَانَ بِعِبَادِهِۦ
خَبِيرَۢا بَصِيرٗا " الله عليم بمن
يستحق من عباده الانعام والاحسان والهداية من يستحق الشقاء والاضلال والازاغة .
وَمَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ وَمَن
يُضۡلِلۡ فَلَن تَجِدَ لَهُمۡ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِهِۦۖ وَنَحۡشُرُهُمۡ يَوۡمَ
ٱلۡقِيَٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمۡ عُمۡيٗا وَبُكۡمٗا وَصُمّٗاۖ مَّأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ كُلَّمَا خَبَتۡ
زِدۡنَٰهُمۡ سَعِيرٗا ٩٧ ذَٰلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمۡ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِنَا
وَقَالُوٓاْ أَءِذَا كُنَّا عِظَٰمٗا وَرُفَٰتًا أَءِنَّا لَمَبۡعُوثُونَ خَلۡقٗا جَدِيدًا ٩٨ ۞ أَوَ
لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ قَادِرٌ
عَلَىٰٓ أَن يَخۡلُقَ مِثۡلَهُمۡ وَجَعَلَ لَهُمۡ أَجَلٗا لَّا رَيۡبَ فِيهِ
فَأَبَى ٱلظَّٰلِمُونَ إِلَّا كُفُورٗا ٩٩
يقول الله تعالى مخبرا عن تصرفه فى خلقه ونفوذ حكمه وأنه لا معقب له " وَمَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَلَن تَجِدَ لَهُمۡ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِهِ " من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه يهدونهم كما قال تعالى " من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا " ، " وَنَحۡشُرُهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمۡ " عن أنس بن مالك قال : قيل يارسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم ؟ " قال " الذى أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم "،" عُمۡيٗا وَبُكۡمٗا وَصُمّٗا " الكافرون الضالون يحشرهم الله يوم القيامة ويبعثهم عميا لا يبصرون وبكما لا ينطقون وصما لا يسمعون وهذا يكون حال دون حال جزاءا لهم كما كانوا فى الدنيا عميا وبكما وصما عن الحق ، " مَّأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ كُلَّمَا خَبَتۡ زِدۡنَٰهُمۡ سَعِيرٗا " منقلب هؤلاء ومصيرهم جهنم تسعر عليهم كلما سكنت زادت لهبا ووهجا وجمرا ، " ذَٰلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمۡ كَفَرُواْ " يقول تعالى هذا الذى جازيناهم به من البعث على العمى والبكم والصمم جزاؤهم الذى يستحقونه لأنهم كذبوا ، " بَِٔايَٰتِنَا " أى كذبوا بأدلتنا وحجتنا واستبعدوا وقوع البعث ، " وَقَالُوٓاْ أَءِذَا كُنَّا عِظَٰمٗا وَرُفَٰتًا "وقالوا أءذا كنا عظاما بالية نخرة ، " أَءِنَّا لَمَبۡعُوثُونَ خَلۡقٗا جَدِيدًا " بعد أن صرنا ما صرنا اليه من البلى والهلاك والتفرق والذهاب فى الأرض نعاد ونبعث مرة ثانية ؟ ، "أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ قَادِرٌ عَلَىٰٓ أَن يَخۡلُقَ مِثۡلَهُمۡ " احتج الله تعالى على هؤلاء الكافرين المنكرين للبعث ونبههم على قدرته على ذلك بأنه خلق السموات والأرض فقدرته على اعادتهم أسهل من ذلك كما قال " لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس " كقوله " أو لم يروا أن الله الذى خلق السموات والأرض ولم يعى بخلقهن بقادر على أن يحيى الموتى " ،" وَجَعَلَ لَهُمۡ أَجَلٗا لَّا رَيۡبَ فِيهِ " جعل الله لاعادتهم واقامتهم من قبورهم موعدا محددا ومدة مقدرة لابد من انقضائها كقوله " وما نؤخره الا لأجل معدود " ، " فَأَبَى ٱلظَّٰلِمُونَ إِلَّا كُفُورٗا " رفض الكافرون بعد قيام الحجة عليهم الا التمادى فى الباطل والضلال .
قُل لَّوۡ أَنتُمۡ تَمۡلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحۡمَةِ
رَبِّيٓ إِذٗا لَّأَمۡسَكۡتُمۡ خَشۡيَةَ ٱلۡإِنفَاقِۚ وَكَانَ
ٱلۡإِنسَٰنُ قَتُورٗا ١٠٠
" قُل
لَّوۡ أَنتُمۡ تَمۡلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحۡمَةِ رَبِّيٓ إِذٗا
لَّأَمۡسَكۡتُمۡ خَشۡيَةَ ٱلۡإِنفَاقِ " يقول الله تعالى لرسوله صلى الله
عليه وسلم قل لهم لو أنكم أيها الناس تملكون التصرف فى خزائن الله لأمسكتم خشية
الانفاق قال أبن عباس خشية الانفاق أى خشية الفقر أن تذهبوها مع أنها لا تفرغ ولا
تنفد أبدا لأن هذا من طباعكم وسجاياكم ولهذا قال " وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ
قَتُورٗا "
قال أبن عباس كان الانسان بخيلا منوعا وهذا كقوله " أم لهم نصيب من الملك
فاذا لا يؤتون الناس نقيرا " أى لو أن لهم نصيبا فى ملك الله لما أعطوا أحدا
شيئا ولا مقدار نقير ، والله تعالى يصف الانسان بالبخل وكقوله " ان الانسان
خلق هلوعا اذا مسه الشر جزوعا واذا مسه الخير منوعا الا المصلين " البخل
والجزع والهلع صفة للانسان الا من رحمه وقد جاء فى الصحيحين " يد الله ملأى
لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فانه لم
يغ1 ما فى يمينه " .
وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ تِسۡعَ ءَايَٰتِۢ بَيِّنَٰتٖۖ فَسَۡٔلۡ بَنِيٓ
إِسۡرَٰٓءِيلَ إِذۡ جَآءَهُمۡ فَقَالَ لَهُۥ فِرۡعَوۡنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ
يَٰمُوسَىٰ مَسۡحُورٗا ١٠١ قَالَ لَقَدۡ عَلِمۡتَ مَآ أَنزَلَ هَٰٓؤُلَآءِ
إِلَّا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ
يَٰفِرۡعَوۡنُ مَثۡبُورٗا ١٠٢ فَأَرَادَ أَن يَسۡتَفِزَّهُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ
فَأَغۡرَقۡنَٰهُ وَمَن مَّعَهُۥ جَمِيعٗا ١٠٣ وَقُلۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ لِبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ
ٱسۡكُنُواْ ٱلۡأَرۡضَ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ جِئۡنَا بِكُمۡ لَفِيفٗا ١٠٤
"
وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ تِسۡعَ ءَايَٰتِۢ بَيِّنَٰت " يخبر الله تعالى
أنه بعث موسى عليه السلام بتسع آيات بينات وهى الدلائل القاطعة على صحة نبوته
وصدقه فيما أخبر به عمن أرسله الى فرعون وهى العصا واليد والبحر والطوفان والجراد
والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات وهى فى سورة الأعراف وقد أوتى موسى عليه السلام
آيات أخرى كثيرة منها ضربه الحجر بالعصا وخروج الماء منه ومنه تظليلهم بالغمام
وانزال المن والسلوى ، " فَسَۡٔلۡ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ " يقول الله
لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم يمكن أن تسال بنى اسرائيل عن خبر موسى عليه السلام
وهو من أرسل اليهم وهذه جملة للتأكيد أودعوة لبنى اسرائيل وكانوا فى المدينة
موجودين فيها والسورة مكية ولم يكن الرسول قد دخل بعد المدينة وفعلوا معه ما فعلوا
من عداوة ،" إِذۡ جَآءَهُم ۡ فَقَالَ لَهُۥ فِرۡعَوۡنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ
يَٰمُوسَىٰ مَسۡحُورٗا " ومع هذه الآيات التى جاء بها موسى عليه السلام
لفرعون وقومه ومشاهدتهم لها كفروا بها وجحدوا بها فكذلك لو اجبنا هؤلاء الذين
سألوا منك يا محمد ما سالوا وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا الى
آخر ما طلبوا كما سبق ذكره لما استجابوا ولا آمنوا " قَالَ لَقَدۡ عَلِمۡتَ
مَآ أَنزَلَ هَٰٓؤُلَآءِ إِلَّا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ " قال موسى عليه السلام لفرعون هذه الحجج والأدلة
التى أتيتك بها من الله الذى خلق السموات والأرض " بَصَآئِر " حجج
وأدلة على صدق ما أتيتك به ، "َ
وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَٰفِرۡعَوۡنُ مَثۡبُورٗا " وأنى أعتقد أنك يا فرعون مثبورا قال قتادة هالكا
وقال أبن عباس ملعونا وقال أيضا مغلوبا والهالك كما قال قتادة يشمل ذلك كله بسبب
عدم تصديقى بما ارسلت به اليك من الله ودعوته لك الى الايمان وترك الجبروت
والطغيان فقد كلف الله موسى بالتوجه الى فرعون بالدعوة وأيده بآياته " اذهب
الى فرعون انه طغى " ، " فَأَرَادَ أَن يَسۡتَفِزَّهُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ
فَأَغۡرَقۡنَٰهُ وَمَن مَّعَهُۥ جَمِيعٗا " أراد فرعون أن يخلى بنى اسرائيل من الأرض ويزيلهم
عنها فكان جزاءه أن أهلكه الله بالغرق هو ومن كان معه ، " وَقُلۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ لِبَنِيٓ
إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱسۡكُنُواْ ٱلۡأَرۡضَ " أورث الله القوم الذين كانوا يستضعفون
من بنى اسرائيل مشارق الأرض ومغاربها , اورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم
وثمارهم وكنوزهم ، " فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ جِئۡنَا بِكُمۡ لَفِيفٗا
" هذه الآية من معجزات القرآن التى لم تفسر الا فى عصرنا الحالى وكان التفسير
فيها اجتهادى مما قال أبن كثير فى ذلك فقد فسر وعد الآخرة بيوم القيامة وأن الله
سيحشر بنى اسرائيل وقوم فرعون عدوهم جميعا ، وقد ذكر وعد الآخرة فى بداية السورة
فى قوله " فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ ليسؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد
كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا " وتكرر فى هذه الآية " فَإِذَا
جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ جِئۡنَا بِكُمۡ لَفِيفٗا " لو ربطنا
ما جاء فى أول السورة بما جاء فى آخرها وبما ورد من علامات يوم القيامة من
الأحاديث النبوية من محاربة المسلمين لليهود حتى يقول الحجر والشجر للمسلم وراءى
يهودى فاقتله وما يحدث فى عصرنا الحالى من قدوم اليهود الى فلسطين من كل دول
العالم جماعات حتى يتم وعد الآخرة وهذه الآية الكريمة تروى ما يحدث فى عصرنا من
قدوم الصهاينة واحتلال فلسطين واقتراب موعد يوم القيامة بقتالهم وهذا موضوع له مناقشة
لوحده فى علامات الساعة .
وَبِٱلۡحَقِّ
أَنزَلۡنَٰهُ وَبِٱلۡحَقِّ نَزَلَۗ وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا مُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ١٠٥ وَقُرۡءَانٗا فَرَقۡنَٰهُ
لِتَقۡرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكۡثٖ وَنَزَّلۡنَٰهُ تَنزِيلٗا ١٠٦
" وَبِٱلۡحَقِّ
أَنزَلۡنَٰهُ وَبِٱلۡحَقِّ نَزَلَ " يقول الله تعالى مخبرا أنه أنزل كتابه
العزيز وهو القرآن المجيد وأنه بالحق نزل أى نزل متضمنا للحق وجاء به متضمنا علم
الله الذى أراد أن يطلعكم عليه من أحكامه وأمره ونهيه ، ونزل اليك يا محمد محفوظا
محروسا لم يشب بغيره ولا زيد فيه ولا نقص منه بل وصل اليك بالحق فانه نزل به شديد
القوى الأمين المكين المطاع فى الملأ الأعلى ، " وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا مُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ، " يقول
الله تعالى مخاطبا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أنه ما أرسله الا ليكون مبشرا
لمن أطاعه من المؤمنين بالجزاء الحسن فى الجنة ونذيرا لمن عصاه من الكافرين ينذرهم
حتى يرجعوا عن ما هم فيه من الكفر حتى لا يكون جزاءهم النار فى الآخرة ، "
وَقُرۡءَانٗا
فَرَقۡنَٰهُ " من قرأ كلمة " فَرَقۡنَٰهُ " بالتخفيف وفتح الراء
معناه فصلناه من اللوح المحفوظ الى بيت العزة من السماء الدنيا ثم نزل مفرقا منجما
على الوقائع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ثلاث وعشرين سنة وذلك عن عكرمة
عن أبن عباس ، وعن أبن عباس أيضا أنه قرأ " فرقناه " بالتشديد أى تسكين
الراء وتشديد القاف قال أبن عباس ايضا أنزلناه آية آية مبينا مفسرا ولهذا قال
" لِتَقۡرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكۡث" لتقرأه أى
لتبلغه الناس وتتلوه عليهم على مهل ، " وَنَزَّلۡنَٰهُ تَنزِيلٗا "
ونزل من عند الله شيئا بعد شىء .
قُلۡ
ءَامِنُواْ بِهِۦٓ أَوۡ لَا تُؤۡمِنُوٓاْۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ مِن
قَبۡلِهِۦٓ إِذَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ يَخِرُّونَۤ لِلۡأَذۡقَانِۤ سُجَّدٗاۤ ١٠٧ وَيَقُولُونَ
سُبۡحَٰنَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعۡدُ رَبِّنَا لَمَفۡعُولٗا ١٠٨ وَيَخِرُّونَ
لِلۡأَذۡقَانِ يَبۡكُونَ وَيَزِيدُهُمۡ خُشُوعٗا۩ ١٠٩
" قُلۡ ءَامِنُواْ بِهِۦٓ
أَوۡ لَا تُؤۡمِنُوٓاْۚ " يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قل
لهؤلاء الكافرين بما جئتهم به من هذا القرآن العظيم سواء آمنتم به أم لم تؤمنوا
فهو حق فى نفسه أنزله الله ونوه بذكره فى سالف الأزمان فى كتبه المنزلة على رسله
،" إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ مِن قَبۡلِهِ " ان الذين أوتوا
العلم من صالحى أهل الكتاب الذين تمسكوا بكتابهم ويقيمونه ولم يبدلوه ولا حرفوه ،
" إِذَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ " اذا يتلى عليهم هذا القرآن ، " يَخِرُّونَۤ لِلۡأَذۡقَانِۤ سُجَّدٗاۤ " يسجدون لله فى خشوع وطاعة تامة
شكرا على ما أنعم به عليهم من جعله اياهم أهلا أن أدركوا هذا الرسول صلى الله عليه
وسلم الذى أنزل عليه هذا الكتاب ، " وَيَقُولُونَ سُبۡحَٰنَ رَبِّنَآ " يقولون تعظيما لربهم وتوقيرا
تنزهت وتعاليت ربنا ، " إِن كَانَ وَعۡدُ رَبِّنَا لَمَفۡعُولٗا " يسبحون ربهم على قدرته التامة
وأنه لا يخلف الميعاد الذى وعدهم على ألسنة الأنبياء المتقدمين عن بعثة محمد صلى
الله عليه وسلم ، " وَيَخِرُّونَ لِلۡأَذۡقَانِ يَبۡكُونَ " يخرون
ساجدين خاضعين لله عز وجل وايمانا وتصديقا بكتابه وبرسوله ،" وَيَزِيدُهُمۡ خُشُوعٗا " ويزيدهم ايمانا وتسليما و"يخرون"
تفيد عطف السجود على السجود لابراز شدة الايمان والخضوع لله كما قال " والذين
اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم " .
قُلِ ٱدۡعُواْ
ٱللَّهَ أَوِ ٱدۡعُواْ ٱلرَّحۡمَٰنَۖ أَيّٗا مَّا تَدۡعُواْ فَلَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ
وَلَا تَجۡهَرۡ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتۡ بِهَا وَٱبۡتَغِ بَيۡنَ ذَٰلِكَ
سَبِيلٗا ١١٠ وَقُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمۡ يَتَّخِذۡ وَلَدٗا وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ
شَرِيكٞ فِي ٱلۡمُلۡكِ وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ وَلِيّٞ مِّنَ ٱلذُّلِّۖ
وَكَبِّرۡهُ تَكۡبِيرَۢا ١١١
" قُلِ " الخطاب موجه من الله سبانه وتعالى الى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين المنكرين صفة الرحمة لله عز وجل المانعين تسميته بالرحمن ، " ٱدۡعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدۡعُواْ ٱلرَّحۡمَٰنَۖ أَيّٗا مَّا تَدۡعُواْ فَلَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰ " لا فرق بين دعائكم له باسم الله أو باسم الرحمن فانه ذو الأسماء الحسنى وكلها أسماؤه كقوله فى سورة الحشر " هو الله الذى لا اله الا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم - الى قوله - له الأسماء الحسنى يسبح له ما فى السموات والأرض " وقد روى مكحول وأبن عباس أن رجلا من المشركين سمع النبى صلى الله عليه وسلم وهو يقول فى سجوده " يا رحمن يا رحيم " فقال انه يزعم أنه يدعو واحدا وهو يدعوا اثنين فأنزل الله هذه الآية ، قال أبن عباس نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار بمكة كان اذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن وسبوا من أنزله به فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم " وَلَا تَجۡهَرۡ بِصَلَاتِكَ " لا تجهر بفراءتك فيسمع المشركون فيسبون القرآن ، " وَلَا تُخَافِتۡ بِهَا " لا تخفض صوتك بالقراءة عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك ، " وَٱبۡتَغِ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلٗا " اتبع وأسلك أن تكون وسطا بين الجهر والخفوت فلا تجهر فيسمعك المشركون ويفعلوا ما يفعلوا ولا تخفت وتخفض صوتك فلا يسمعك أصحابك فلما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم الى المدينة سقط ذلك يفعل أى ذلك شاء ،وقال محمد بن اسحاق عن أبن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا جهر بالقرآن وهو يصلى تفرقوا عنه وأبوا أن يسمعوا منه فكان الرجل اذا أراد أن يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو وهو يصلى استرق السمع دونهم فرقا منهم فاذا رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم فلم يسمع فان خفض صوته لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئا فأنزل الله " ولا تجهر بصلاتك " فينفروا عنك " ولا تخافت بها " فلا يسمع من أراد أن يسمع ممن يسترق ذلك منهم فلعله يرعوى الى بعض ما يسمع فينتفع به " وابتغ بين ذلك سبيلا " ، وقال قتادة وحسن البصرى وغيرهما نزلت هذه الآية فى القراءة فى الصلاة وعن عائشة رضى الله عنها قالت نزلت فى الدعاء ، وقال على بن أبى طلحة عن أبن عباس قال لا تصل مرآة للناس ولا تدعها مخافة الناس ، " وَقُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمۡ يَتَّخِذۡ وَلَدٗا وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ شَرِيكٞ فِي ٱلۡمُلۡكِ " لما أثبت تعالى لنفسه الكريمة الأسماء الحسنى نزه نفسه عن النقائص وأنه الواحد الأحد لا شريك له ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ولا يشاركه فى ملكه وملكوته أحدا ، " وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ وَلِيّ مِّنَ ٱلذُّلِّۖ " ليس بذليل فيحتاج الى أن يكون له ولى أو وزير أومشير بل هو تعالى خالث الأشياء وحده لا شريك له ومدبرها ومقدرها بمشيئته وحده لا شريك له وقال مجاهد لم يحالف أحد ولم يبتغ نصر أحد ، " وَكَبِّرۡهُ تَكۡبِيرَۢا "أى عظمه وأجله عما يقول الظالمون المعتدون علوا كبيرا ، وكان القرظى يقول فى هذه الآية أن اليهود والنصارى قالوا اتخذ الله ولدا وقالت العرب لبيك لا شريك لك الا شريكا هو لك تملكه وما ملك ، وقال الصابئون والمجوس لولا أولياء الله لذل فأنزل الله هذه الآية " وَقُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمۡ يَتَّخِذۡ وَلَدٗا وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ شَرِيكٞ فِي ٱلۡمُلۡكِ وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ وَلِيّٞ مِّنَ ٱلذُّلِّۖ وَكَبِّرۡهُ تَكۡبِيرَۢا " ، وقدجاء فى حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى هذه الآية آية العز وفى بعض الآثار أنها ما قرئت فى بيت فى ليلة فيصيبه سرق أو آفة والله أعلم .
الجزء الخامس عشر
سورة الكهف
سورة الكهف مكية ذكر ما ورد فى فضلها والعشر آيات من أولها
وآخرها وأنها عصمة من الدجال " فعن أبى الدرداء عن النبى صلى الله عليه وسلم
قال : " من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال " وعن أبى
الدرداء عن النبى صلى الله عليه وسلم قال " من قرأ العشر الأواخر من سورة
الكهف فانه عصمة له من الدجال " وعن سهل بن معاذ بن أنس الجهنى عن أبيه عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له
نورا من قدمه الى رأسه ومن قرأها كلها كانت له نورا ما بين السماء والأرض " وعن
أبى سعيد عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال " من قرأ سورة الكهف فى يوم
الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين " وعن أبى هاشم باسناده أن
النبى صلى الله عليه وسلم قال " من قرأ سورة الكهف كما نزلت كانت له نورا يوم
القيامة " .
ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ
ٱلۡكِتَٰبَ وَلَمۡ يَجۡعَل لَّهُۥ عِوَجَاۜ ١ قَيِّمٗا لِّيُنذِرَ بَأۡسٗا شَدِيدٗا مِّن لَّدُنۡهُ
وَيُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا
حَسَنٗا ٢ مَّٰكِثِينَ فِيهِ أَبَدٗا ٣ وَيُنذِرَ
ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدٗا ٤ مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٖ وَلَا لِأٓبَآئِهِمۡۚ
كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا
كَذِبٗا ٥
" ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ
" يحمد تعالى نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتمها فانه المحمود على كل
حال وله الحمد فى الأولى والآخرة ، " ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ ٱلۡكِتَٰبَ
وَلَمۡ يَجۡعَل لَّهُۥ عِوَجَاۜ " حمد الله نفسه على انزاله كتابه العزيز على
رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فانه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض
اذ أخرجهم من الظلمات الى النور حيث جعله كتابا مستقيما لا أعوجاج فيه ولا زيغ بل
يهدى الى صراط مستقيم ، " قَيِّمٗا "مستقيما واضحا بينا جليا
، " لِّيُنذِرَ بَأۡسٗا شَدِيدٗا مِّن لَّدُنۡهُ " ينذر
بالعقوبة العاجلة فى الدنيا والآجلة فى الآخرة لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به من عند
الله الذى لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد ، " وَيُبَشِّرَ
ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ " يبشر المؤمنين بهذا
القرآن الذين صدقوا ايمانهم بالعمل الصالح ، " أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنٗا " لهممثوبةعند الله جميلة حسنة ،
" مَّٰكِثِينَ فِيهِ أَبَدٗا " مستمرين فى ثوابهم عند الله دائما لا زوال ولا
انقضاء ، " وَيُنذِرَ ٱلَّذِينَ
قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدٗا " ينذر كما قال أبن
اسحاق مشركى العرب فى قولهم نعبد الملائكة وهم بنات الله وكذلكمنحذا حذوهم من أهل
الكتاب الذين يدعون أن لله ولد ،" مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡم" ليس لهم علم بهذا القول الذى افتروه وائتفكوه
، " وَلَا لِأٓبَآئِهِمۡ " ولا لأسلافهم أو من سبقوهم من آباء وأجداد ،
" كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ
" أظهر الله تبشيع لمقالتهم واستعظام لافكهم كلمة باطلة ليس لها مستند سوى
قولهم ولا دليل لهم عليها قيل هذا على التعجب ، " إِن يَقُولُونَ إِلَّا
كَذِبٗا " لا دليل لقولهم الا كذبهم
وافتراؤهم .
فَلَعَلَّكَ
بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا
ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا ٦ إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِينَةٗ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ
أَيُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا ٧ وَإِنَّا لَجَٰعِلُونَ مَا عَلَيۡهَا صَعِيدٗا جُرُزًا ٨
" فَلَعَلَّكَ
بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ
عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا "
يقول الله تعالى مسليا لرسوله صلى الله عليه وسلم فى حزنه على المشركين لتركهم
الايمان وبعدهم عنه وكلمة باخع أى مهلك يقول الله تعالى لا تهلك نفسك أسفا وقال
قتادة قاتل نفسك غضبا وحزنا عليهم وقال مجاهد جزعا والمعنى متقارب أى لا تأسف
عليهم بل أبلغهم رسالة الله فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فانما يضل عليها ، "
إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِينَةٗ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَيُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗ" أخبر
تعالى أنه جعل الدنيا دارا فانية مزينة بزينة زائلة وانما جعلها دار اختبار لا دار
قرار وعن أبى سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ان الدنيا حلوة
خضرة وان الله مستخلفكم فيها فناظرماذا تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فان
أول فتنة بنى اسرائيل كانت فى النساء " ، " وَإِنَّا لَجَٰعِلُونَ مَا
عَلَيۡهَا صَعِيدٗا جُرُزًا " يخبر الله تعالى بزوال الأرض وما عليها
وفنائها وفراغها وانقضائها وذهابها وخرابها ويعنى وانا لمصيروها بعد الزينة الى
الخراب والدمار فنجعل كل شىء عليها هالكا صعيدا جرزا لا ينبت ولا ينتفع به وعن أبن
عباس قال يهلك كل شىء عليها ويبيد وقال قتادة : الصعيد الأرض التى ليس فيها شجر
ولا نبات وقال أبن اسحاق الأرض وما عليها لفان وبائد وان المرجع لالى الله فلا تأس
ولا يحزنك ما تسمع وترى .
أَمۡ حَسِبۡتَ أَنَّ أَصۡحَٰبَ ٱلۡكَهۡفِ وَٱلرَّقِيمِ
كَانُواْ مِنۡ ءَايَٰتِنَا عَجَبًا ٩ إِذۡ أَوَى ٱلۡفِتۡيَةُ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ
فَقَالُواْ رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةٗ وَهَيِّئۡ لَنَا مِنۡ
أَمۡرِنَا رَشَدٗا ١٠ فَضَرَبۡنَا عَلَىٰٓ ءَاذَانِهِمۡ فِي ٱلۡكَهۡفِ
سِنِينَ عَدَدٗا ١١ ثُمَّ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِنَعۡلَمَ أَيُّ
ٱلۡحِزۡبَيۡنِ أَحۡصَىٰ لِمَا لَبِثُوٓاْ أَمَدٗا ١٢
هذا اخبار
من الله عن قصة أصحاب الكهف على سبيل الاجمال والاختصار ثم بسطها بعد ذلك والكهف
هو الغار فى الجبل وهو الذى لجأ اليه هؤلاء الفتية المذكورون وأما الرقيم فقال أبن
عباس هو واد قريب من ايلة وهو الآن وادى الأردن"أَمۡ حَسِبۡتَ أَنَّ
أَصۡحَٰبَ ٱلۡكَهۡفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنۡ ءَايَٰتِنَا عَجَبًا " يعنى
يا محمد هل جاء فى اعتقادك وحسبانك كقوله " أم حسبتكم أنما خلقناكم عبثا
" أمرا عجيبا فى قدرة الله وسلطانه فهو على ما يشاء قادر ولا يعجزه شىء أعجب
من أخبار أصحاب الكهف وقد كان فى آياتنا ما هو أعجب من ذلك قال أبن عباس الذى
آتيناك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف وقال محمد بن اسحاق ما
أظهرت من حججى على العباد أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم وليس أمرهم أعجب فى
قدرة الله من خلق السموات والأرض وغير ذلك من الآيات العظيمة ، " إِذۡ أَوَى ٱلۡفِتۡيَةُ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ
فَقَالُواْ رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَة " يخبر تعالى عن أولئك
الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم الكافرين لئلا يفتنوهم عنه فهربوا منهم فلجئوا
الى الكهف ليختفوا من قومهم فقالوا حين دخلوا الكهف سائلين من الله تعالى رحمته
ولطفه بهم سألوه رحمة من عنده يرحمهم بها ويسترهم عن قومهم ، " وَهَيِّئۡ لَنَا
مِنۡ أَمۡرِنَا رَشَدٗا " وقدر لنا من أمرنا هذا رشدا أى اجعل عاقبتنا رشدا أى
أن يكون أمرنا هذا حكيما راشدا حسن العاقبة وهذا يعكس ما كانوا فيه من خوف فهم
يرجون رحمة الله وتوفيقه أن يرشدهم الى الطريق المستقيم كما جاء فى الحديث " وما قضيت لنا من قضاء
فاجعل عاقبته رشدا " ، " فَضَرَبۡنَا عَلَىٰٓ ءَاذَانِهِمۡ فِي
ٱلۡكَهۡفِ سِنِينَ عَدَدٗا " ألقينا عليهم النوم حين دخلوا الكهف فناموا سنين
كثيرة عديدة ، " ثُمَّ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِنَعۡلَمَ أَيُّ ٱلۡحِزۡبَيۡنِ
أَحۡصَىٰ لِمَا لَبِثُوٓاْ أَمَدٗا " ثم بعثناهم من رقدتهم تلك ليعرف من هو أدق من
المختلفين فيهم فى عدد السنين التى ناموها حيث حدث جدل فى المدة التى ناموها وكذلك
فى عددهم وقد حسم الله الخلاف بذكر عد السنين التى ناموها ولكن ذكر الجدل حول
عددهم ولم يحدد عددهم لأن تحديد المدة أهم من تحديد عددهم هذه المدة تثبت قدرة
الله على البعث بعد الموت كما حدث فى سورة البقرة من الذى مر على قرية وكان يشك فى
البعث فأماته الله مائة عام ثم بعثه فى كلا الحالتين كان الاهتمام بعدد السنين
ليرد على المشككين فى البعث بعد الموت .
نَّحۡنُ
نَقُصُّ عَلَيۡكَ نَبَأَهُم بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ
بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدٗى ١٣ وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُواْ
فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن
دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا ١٤
هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ لَّوۡلَا يَأۡتُونَ
عَلَيۡهِم بِسُلۡطَٰنِۢ بَيِّنٖۖ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ
كَذِبٗا ١٥ وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ
فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ
وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا ١٦ ۞
" نَّحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ نَبَأَهُم بِٱلۡحَقِّ " شرع الله تعالى فى بسط قصة أصحاب الكهف وشرحها ، " إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ " ذكر الله تعالى أنهم فتية وهم الشباب وهم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا فى دين الباطل ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شبابا ، وأما المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم ولم يسلم منهم الا القليل وهكذا أخبر الله تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابا فآمنوا بربهم أى اعترفوا له بالوحدانية وشهدوا أنه لا اله الا هو فى الوقت الذى كان فيه قومهم على الكفر ، " وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدٗى " زادهم الله ايمانا على ايمانهم حين أتبعوا سبيله وتوجهوا الى الكهف هربا بدينهم وقد استدل عدد من الأئمة كالبخارى ممن ذهب الى زيادة الايمان وتفاضله وأنه يزيد وينقص كما قال تعالى " والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم " وكما قال " فأما الذين آمنوا فزادتهم ايمانا وهم يستبشرون " وكما قال " ليزدادوا ايمانا مع ايمانهم " ، " وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ" صبرناهم على مخالفة قومهم ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة وذكر غير واحد من المفسرين أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم وأنهم خرجوا يوما فى بعض أعياد قومهم وكان لهم احتفال كل سنة يجتمعون فيه وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت ويذبحون لها وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له دقيانوس وخرج الناس لهذا الاحتفال ، " إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا * هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ لَّوۡلَا يَأۡتُونَ عَلَيۡهِم بِسُلۡطَٰنِۢ بَيِّنٖۖ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبا " وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم ونظروا الى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم عرفوا أن الذى يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغى الا لله الذى خلق السموات والأرض فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه فاجتمعوا على الايمان فيما بينهم وجعل كل واحد منهم يكتم ما هو عليه عن أصحابه خوفا منهم ولا يدرى أنه مثله ولكن شاءت مشيئة الله أن يجمعهم فيما بينهم على الهدى حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة فصاروا يدا واحدة واخوان صدق فاتخذوا لهم معبدا يعبدون الله فيه فعرف بهم قومهم فوشوا بأمرهم الى ملكهم فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه فأجابوه بالحق ودعوه الى الله عز وجل فثبتوا على الحق ولم ينفوا ما وقع منهم لأن حسب قولهم لو فعلوا لكان ذلك باطلا ولهذا قال عنهم " لقد قلنا اذا شططا " أى لو قلنا مثل قولهم لكان قولنا باطلا وكذبا وبهتانا وشططا أى بعد عن الحق فقومنا اتخذوا آلهة من دون الله دون حجة أو برهان واضح وليس هناك أظلم ممن كذب على الله فى فعله وقوله ، ويقال أن ملكهم لما دعوه الى الايمان بالله أبى عليهم وتهددهم وتوعدهم وأمر بنزع لباسهم عنهم الذى كان عليهم من زينة قومهم ،" وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا " وأمهلهم لينظروا فى أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذى كانوا عليه ، وكان هذا من لطف الله بهم فانهم فى تلك المهلة توصلوا الى الهرب منه والفرار بدينهم من الفتنة بعد ان اعتزلوا قومهم الكافرين لعبادة الله وحده بعيدا عنهم اقترحوا أنهم كما فارقوا قومهم وخالفوهم فى دينهم فى عبادتهم غير الله قرروا أن يفارقوهم بأبدانهم فقرروا أن يلجأوا الى الكهف بعيدا ويرجون أن يبسط الله عليهم رحمة منه يسترهم بها من قومهم وأن يهيىء الله لهم أمرا يرتفقون به وخرجوا هربا الى الكهف فأووا اليه ففقدهم قومهم من بين أظهرهم وتطلبهم الملك فيقال أنه لم يظفر بهم وعمى الله عليه خبرهم كما فعل بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق حين لجآ الى غار ثور فى الهجرة وجاء المشركون الى الغار وأعماهم الله .
وَتَرَى ٱلشَّمۡسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَٰوَرُ عَن
كَهۡفِهِمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقۡرِضُهُمۡ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ
وَهُمۡ فِي فَجۡوَةٖ مِّنۡهُۚ ذَٰلِكَ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِۗ مَن يَهۡدِ
ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ وَلِيّٗا مُّرۡشِدٗا ١٧
" وَتَرَى ٱلشَّمۡسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَٰوَرُعَن كَهۡفِهِمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ " قال مالك عن زيد بن أسلم "تزاور" تميل هذا دليل على أن باب الكهف كان من نحو الشمال لأنه تعالى أخبر أن الشمس اذا دخلته عند طلوعهما تميل عنه ذات اليمين يتقلص الفىء يمنة وذلك أن الشمس كلما ارتفعت فى الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لايبقى منه شىء عند الزوال فى مثل ذلك المكان ، " وَإِذَا غَرَبَت تَّقۡرِضُهُمۡ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ " قال قتادة " تقرضهم " تتركهم أى تدخل الى غارهم من شمال بابه وهو من ناحية المشرق وبيان ذلك أنه لوكان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل اليه من الشمس شىء عند الغروب ولو كان من ناحية القبلة لما دخل منها شىء عند الطلوع ولا عند الغروب ولا تزاور الفىء يمينا ولا شمالا ولو كان من ناحية الغرب لما دخلته وقت الطلوع بل بعد الزوال ولم تزل فيه الى الغروب ، " وَهُمۡ فِي فَجۡوَةٖ مِّنۡهُ " فجوة أى متسع منه داخلا بحيث لا تصيبهم الشمس اذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم وثيابهم ، "ذَٰلِكَ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ " قال أبن عباس هذه آية من آيات الله حيث أرشدهم الى هذا الغار الذى جعلهم فيه أحياء والشمس والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانهم دون أن تؤذيهم " مَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِ " الله هو الذى بيده الهداية فهو الذى أرشد هؤلاء الفتية الى الهداية من بين قومهم فانه من هداه الله اهتدى ، "وَمَن يُضۡلِلۡ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ وَلِيّٗا مُّرۡشِدٗا " ومن يريد الله أن يضله كما أضل قومهم فلا هادى له يتولاه ويرشده الى طريق الحق والصواب.
وَتَحۡسَبُهُمۡ أَيۡقَاظٗا وَهُمۡ رُقُودٞۚ وَنُقَلِّبُهُمۡ
ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِۖ وَكَلۡبُهُم بَٰسِطٞ ذِرَاعَيۡهِ
بِٱلۡوَصِيدِۚ لَوِ ٱطَّلَعۡتَ عَلَيۡهِمۡ لَوَلَّيۡتَ مِنۡهُمۡ فِرَارٗا وَلَمُلِئۡتَ
مِنۡهُمۡ رُعۡبٗا ١٨
ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله علي آذانهم بالنوم
لم تنطبق أعينهم لئلا يسرع اليها البلى فاذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها ولهذا
قال " وَتَحۡسَبُهُمۡ أَيۡقَاظٗا وَهُمۡ رُقُود " عندما تنظر الى أعينهم وهم نائمون تظنهم
مستيقظين غير نائمين وعيونهم مغلقة لأن
الله بقدرته جعل أعينهم مفتوهة كهيئة المستيقظ
، " وَنُقَلِّبُهُمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ "
يجعلهم الله يقلبون أجسامهم يمينا وشمالا قال أبن عباس لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض
، " وَكَلۡبُهُم بَٰسِطٞ ذِرَاعَيۡهِ بِٱلۡوَصِيدِ " قال أبن عباس الوصيد الفناء وهو
الباب كقوله تعالى " انها عليهم مؤصدة " مطبقة مغلقة أى بابها موصد أى مغلق والوصيد هو الباب أى ربض
كلبهم على الباب كما جرت عليه عادة الكلاب وقال أبن جريج يحرس عليهم الباب وهذا من
سجيته وطبيعته حيث يربض ببابهم كأنه يحرسهم وكان جلوسه خارج الباب لأن الملائكة لا
تدخل بيتا فيهكلب كما ورد فى الصحيح ولا صورة ولا جنب ولا كافر كما ورد فى الحديث ،
" لَوِ ٱطَّلَعۡتَ عَلَيۡهِمۡ لَوَلَّيۡتَ مِنۡهُمۡ فِرَارٗا وَلَمُلِئۡتَ
مِنۡهُمۡ رُعۡبٗا " ألقى الله عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر عليهم الا
أهابهم لما ألبسوامن المهابة والذعر لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد حتى يبلغ
الكتاب أجله وتنقضى رقدتهم التى شاء الله تبارك وتعالى فيهم لما له فى ذلك من
الحكمة والحجة البالغة والرحمة الواسعة .
وَكَذَٰلِكَ
بَعَثۡنَٰهُمۡ لِيَتَسَآءَلُواْ بَيۡنَهُمۡۚ قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ كَمۡ
لَبِثۡتُمۡۖ قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۚ قَالُواْ رَبُّكُمۡ
أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثۡتُمۡ فَٱبۡعَثُوٓاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَٰذِهِۦٓ إِلَى
ٱلۡمَدِينَةِ فَلۡيَنظُرۡ أَيُّهَآ أَزۡكَىٰ طَعَامٗا فَلۡيَأۡتِكُم
بِرِزۡقٖ مِّنۡهُ وَلۡيَتَلَطَّفۡ وَلَا يُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ
أَحَدًا ١٩ إِنَّهُمۡ إِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ يَرۡجُمُوكُمۡ أَوۡ يُعِيدُوكُمۡ
فِي مِلَّتِهِمۡ وَلَن تُفۡلِحُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا ٢٠
" وَكَذَٰلِكَ بَعَثۡنَٰهُمۡ " يقول تعالى كما ارقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبصارهم لم يفقدوا من أحوالهم وهيآتهم شيئا وذلك به هذه الفترة الطويلة التى مكثوها ، " لِيَتَسَآءَلُواْ بَيۡنَهُمۡ " عند بعثهم بدءوا يتساءلون فيما بينهم عن المدة التى مرت عليهم وهم رقود فى الكهف ، " قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡ " قال أحدهم لهم كم رقدتم فى الكهف ، " قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡم " ردوا عليه أنهم رقدوا وظلوا على هذا الحال يوما أو جزء من اليوم لأن دخولهم الى الكهف كان فى أول النهار واستيقاظهم كان فى آخر النهار ،" قَالُواْ رَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثۡتُمۡ " واستدركوا الأمر فقالوا الله أعلم بالأمر وكأنه حصل لهم نوع من التردد فى كثرة نومهم فالله أعلم ، " فَٱبۡعَثُوٓاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَٰذِهِۦٓ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ " عدلوا الى الأهم فى أمرهم وهو احتياجهم الى الطعام والشراب فقالوا أبعثوا أحدنا بالورق وهى الفضة وكانت النقود قديما من الذهب والفضة لآنهم كانوا قد استصحبوا معهم نقود من منازلهم لحاجتهم لها فبعثوا أحدهم الى المدينة التى خرجوا منها ،" فَلۡيَنظُرۡ أَيُّهَآ أَزۡكَىٰ طَعَامٗا فَلۡيَأۡتِكُم بِرِزۡق مِّنۡهُ " ليذهب ويشاهد أطيب الطعام وأزكاه كقوله " قد أفلح من تزكى " يأتى بما يرزقه الله منه ، " وَلۡيَتَلَطَّفۡ وَلَا يُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا " ويتلطف فى خروجه وذهابه وشرائه وايابه بحيث لا يشعر به أحد حتى لا يبلغ الحاكم عنه ، " إِنَّهُمۡ إِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ يَرۡجُمُوكُمۡ أَوۡ يُعِيدُوكُمۡ فِي مِلَّتِهِمۡ " لأنهم ان يعلموا مكانكم يصيبكم منهم القتل بالرجم بالحجارة أو السهام أو يعيدوكم أو يعذبوهم حتى يعيدوهم الى الكفر ، " وَلَن تُفۡلِحُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا " وان وافقتموهم على العودة فى الدين فلا فلاح لكم فى أبدا الدنيا ولا فى الآخرة .
وَكَذَٰلِكَ أَعۡثَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ لِيَعۡلَمُوٓاْ
أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَيۡبَ فِيهَآ إِذۡ
يَتَنَٰزَعُونَ بَيۡنَهُمۡ أَمۡرَهُمۡۖ فَقَالُواْ ٱبۡنُواْ عَلَيۡهِم بُنۡيَٰنٗاۖ رَّبُّهُمۡ أَعۡلَمُ
بِهِمۡۚ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِمۡ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيۡهِم
مَّسۡجِدٗا ٢١
" وَكَذَٰلِكَ
أَعۡثَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ "يقول تعالى كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيآتهم أطلعنا
عليهم الناس وعلى أمرهم وما حدث لهم من رقود طويل وقيام بعده ، "
لِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ
لَا رَيۡبَ فِيهَآ إِذۡ يَتَنَٰزَعُونَ بَيۡنَهُمۡ أَمۡرَهُمۡۖ " ليعلموا أن
ما وعد الله به من الساعة أى يوم القيامة حقا لا شك فى وقوعه وأن هناك بعث بعد
الموت فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم كما حدث مع أصحاب الكهف فالنوم والموت عند الله
سيان وهو القادر على كل شىء وذكر غير واحد من السلف أنه كان قد حصل لأهل ذلك
الزمان شك فى البعث وفى أمر القيامة وقال عكرمة كان منهم طائفة قالوا تبعث الأرواح
ولا تبعث الأجساد فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك وذكروا أنه لما
أراد أحد أصحاب الكهف الخروج ليذهب الى المدينة فى شراء شىء لهم ليأكلوه تنكر وخرج
يمشى فى غير الجادة حتى انتهى الى المدينة وهو يظن أنه قريب العهد بها وكان الناس
قد تبدلوا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل فجعل لا يرى شيئا من معالم البلد التى
يعرفها فجعل يتحير فى نفسه وان عهدى بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة ثم
عمد الى رجل ممن يبيع الطعام فدفع اليه ما معه فلما رآها أنكرها وجعلوا يقولون لعل
هذا وجد كنزا فسألوه عن أمره لعله وجد هذه النفقة من كنز فجعل يقول لهم أنه من
البلدة وعهده بها عشية أمس وأن فيها دقيانوس فحملوه الى ولى أمرهم فلما أعلمهم
بشأنه قاموا الى الكهف ويقال دخلوا عليهم ورأوهم وسلم عليهم الملك وكان مسلما
ففرحوا به وعادوا الى مضاجعهم وتوفاهم الله عز وجل ، " فَقَالُواْ ٱبۡنُواْ عَلَيۡهِم
بُنۡيَٰنا رَّبُّهُمۡ أَعۡلَمُ بِهِمۡ " قال بعض الناس سدوا عليهم باب كهفهم
وذروهم على حالهم وهذا معناه ان الله توفاهم فهل توفاهم بعد رأيتهم مباشرة أو بعد
ذلك ،"قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِمۡ لَنَتَّخِذَنَّ
عَلَيۡهِم مَّسۡجِدٗا " وقال آخرون الذين هم أصحاب الكلمة والنفوذ أن يبنوا
فى المكان الذى هم فيه مسجد ولكن هل هذا محمود أم لا؟ فيه نظر فقد كانوا يفعلون ذلك فى الماضى وقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور
أنبيائهم وصالحيهم مساجد " .
سَيَقُولُونَ
ثَلَٰثَةٞ رَّابِعُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ وَيَقُولُونَ خَمۡسَةٞ سَادِسُهُمۡ
كَلۡبُهُمۡ رَجۡمَۢا بِٱلۡغَيۡبِۖ وَيَقُولُونَ سَبۡعَةٞ وَثَامِنُهُمۡ
كَلۡبُهُمۡۚ قُل رَّبِّيٓ أَعۡلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِيلٞۗ فَلَا تُمَارِ
فِيهِمۡ إِلَّا مِرَآءٗ ظَٰهِرٗا وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِيهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدٗا ٢٢
يقول الله
تعالى مخبرا عن اختلاف الناس فى عدد أصحاب الكهف فحكى ثلاثة أقوال "
سَيَقُولُونَ ثَلَٰثَةٞ رَّابِعُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ "منهم من قال عددهم ثلاثة
ورابعهم كلبهم ، " وَيَقُولُونَ خَمۡسَةٞ سَادِسُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ رَجۡمَۢا بِٱلۡغَيۡبِ " وقال آخرون خمسة وسادسهم كلبهم قولا بلا علم
كمن يرمى الى مكان لا يعرفه فانه لا يكاد يصيب وان أصاب فلا قصد ، " وَيَقُولُونَ سَبۡعَةٞ
وَثَامِنُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ " وقال القول الثالث سبعة وثامنهم كلبهم ليدل على
صحته ، " قُل رَّبِّيٓ أَعۡلَمُ
بِعِدَّتِهِم " ارشاد الى أن الأحسن فى مثل هذا المقام رد العلم الى الله
تعالى اذ لا احتياج الى الخوض فى مثل ذلك بلا علم لكن اذا أطلعنا على أمر قلنا به
والا وقفنا ، " مَّا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِيل " لايعلمهم الا قليل من
الناس ، " فَلَا تُمَارِ فِيهِمۡ إِلَّا مِرَآءٗ ظَٰهِرٗا "
قال تعالى فلا تتجادل فيهم الا جدالا سهلا لينا فان الأمر فى معرفة ذلك لا يترتب
عليه كبير فائدة ، " وَلَا
تَسۡتَفۡتِ فِيهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدٗا " وقد جاءك ربك يامحمد بالحق الذى لا شك فيه ولا مرية
فلا تسأل أحدا منهم أى من أهل الكتاب فى أمر أصحاب الكهف فانهم لا علم لهم بذلك
الا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجما بالغيب أى من غير استناد الى كلام معصوم .
وَلَا
تَقُولَنَّ لِشَاْيۡءٍ إِنِّي فَاعِلٞ ذَٰلِكَ غَدًا ٢٣ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ
وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَهۡدِيَنِ رَبِّي لِأَقۡرَبَ
مِنۡ هَٰذَا رَشَدٗا ٢٤
سبب نزول
الآيتين قول النبى صلى الله عليه وسلم لما سئل وفد من قريش بايعاذ من اليهود
ليتبينوا صدقه عن قصة أصحاب الكهف " أخبركم غدا عما سألتم عنه ولم يستثن
" فتأخر الوحى خمسة عشر يوما حتى أرجف أهل مكة وقالوا وعدنا محمد غدا واليوم
خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشىء عما سألناه عنه وحتى أحزن رسول الله صلى
الله عليه وسلم مكث الوحى عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ثم جاءه جبريل عليه
السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبتة اياه لعدم الاستثناء "
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيۡءٍ إِنِّي فَاعِلٞ ذَٰلِكَ غَدًا " هذا ارشاد من الله تعالى لرسوله صلى
الله عليه وسلم الى الأدب فيما اذا عزم على شىء ليفعله فى المستقبل ، " إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ " عليه أن
يرد ذلك الى مشيئة الله عز وجل علام الغيوب الذى يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن
كيف يكون ، " وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ " قال أبن عباس أن تقول
ان شاء الله ، يرشد الله تعالى من نسى الشىء فى كلامه الى ذكر الله تعالى لأن
النسيان منشؤه من الشيطان كما قال فتى موسى " وما أنسانيه الا الشيطان أن
أذكره " وذكر الله تعالى يطرد الشيطان فاذا ذهب الشيطان ذهب النسيان فذكر
الله سبب للذكر ، وقال أبن عباس كذلك اذا نسيت الاستثناء فاستثن عند ذكرك له ومعن
قوله يستثنى ولو بعد سنة أى اذا نسى أن يقول فى حلفه وفى كلامه ان شاء الله وذكر
ولو بعد سنة فالسنة له أن يقول ذلك ليكون آتيا بسنة الاستثناء حتى لوكان بعد الحنث
وقال أبن عباس هى خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لأحد منا أن يستثنى الا
فى صلة من يمينه ، " وَقُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَهۡدِيَنِ رَبِّي لِأَقۡرَبَ مِنۡ
هَٰذَا رَشَدٗا "
اذا سئلت عن شىء لا تعلمه فاسأل الله تعالى فيه وتوجه اليه فى أن يوفقك للصواب
والرشد فى ذلك ، وفى الصحيحين عن أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال " قال سليمان بن داود عليهما السلام لأطوفن الليلة على سبعين
امرأة - وفى رواية تسعين امرأة وفى رواية مائة امرأة تلد كل امرأة منهن غلاما
يقاتل فى سبيل الله فقيل له - وفى رواية قال له الملك - قل ان شاء الله فلم يقل
فطاف بهن فلم يلد منهن الا امرأة واحدة نصف انسان ، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : والذىنفسى بيده لو قال ان شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته " وفى
رواية " ولقاتلوا فى سبيل الله فرسانا أجمعين " .
وَلَبِثُواْ فِي كَهۡفِهِمۡ ثَلَٰثَ مِاْئَةٖ سِنِينَ وَٱزۡدَادُواْ
تِسۡعٗا ٢٥ قُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثُواْۖ لَهُۥ غَيۡبُ
ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَبۡصِرۡ بِهِۦ وَأَسۡمِعۡۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ
مِن وَلِيّٖ وَلَا يُشۡرِكُ فِي حُكۡمِهِۦٓ أَحَدٗا ٢٦
" وَلَبِثُواْ فِي كَهۡفِهِمۡ ثَلَٰثَ مِاْئَةٖ سِنِينَ وَٱزۡدَادُواْ تِسۡعٗا " هذاخبر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف فى كهفهم منذ أرقدهم الى أن بعثهم الله وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان وأنه كان مقداره ثلثمائة سنة تزيد تسع سنين قمرية وهى ثلثمائة سنة بالشمسية فان تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية الى الشمسية ثلاث سنين فلهذا قال بعد الثلثمائة وازدادوا تسعا ، " قُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثُواْۖ " اذا سئلت عن لبثهم وليس عندك علم فى ذلك وتوقيف من الله تعالى فلا تتقدم فيه بشىء وقل الله أعلم لاعلم ذلك الا هو ومن أطلعه عليه من خلقه ، "لَهُ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ " فهو الذى يعلم الغيب فى السموات وفى الأرض ، " أَبۡصِرۡ بِهِۦ وَأَسۡمِعۡ " قال قتادة فلا أبصر من الله وأسمع وقال أبن زيد يرى أعمالهم ويسمع ذلك منهم سميعا بصيرا ، " مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ وَلَا يُشۡرِكُ فِي حُكۡمِهِۦٓ أَحَدٗا " الله تعالى هو الذى له الخلق والأمر الذى لا معقب لحكمه وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير تعالى وتقدس .
وَٱتۡلُ مَآ
أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَن تَجِدَ
مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا ٢٧ وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ
رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ
عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ
أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا ٢٨
" وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ " يقول الله تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم بتلاوة كتابه العزيز وابلاغه الى الناس ، " لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِ" لا مغير لها ولا محرف ولا مزيل فهى محفوظة ثابتة الى يوم القيامة ، " وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا " قال مجاهد ملتحدا ملجأ وعن قتادة وليا ولا مولى ، قال أبن جرير يقول تعالى ان أنت يا محمد لم تتل ما أوحى اليك من كتاب ربك فانه لا ملجأ لك من الله كما قال تعالى " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس "" وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُ " اجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ويسألونه بكرة وعشيا من عباد الله سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء ، يقال أنها نزلت فى أشراف قريش حين طلبوا من النبى صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه كبلال وعمار وصهيب وخباب وأبن مسعود وليفرد أولئك بمجلس على حدة فنهاه الله عن ذلك وأمره أن يصبر فى الجلوس مع هؤلاء وقال مسلم عن سعد بن وقاص قال كنا مع النبى صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبى صلى الله عليه وسلم أطرد هؤلاء لا يجترئون علينا وكنت أنا وأبن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما فوقع فى نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه " وعن أنس بن مالك رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله لا يريدون بذلك الا وجهه الا ناداهم مناد من السماء أن قوموا مغفورا لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات " ، " وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا " قال أبن عباس لا تجاوز هؤلاء الى غيرهم أى تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة ، "وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا " لا تتبع من شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا ، " وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا " واتبع ما فى نفسه من هوى وضلال وكانت أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع ولا تكن مطيعا له ولا محبا لطريقه ولا تغبطه بما هو فيه كما قال " ولا تمدن عينيك الى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى " .
وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ
فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّٰلِمِينَ
نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ كَٱلۡمُهۡلِ يَشۡوِي
ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا
٢٩
" وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُم " يقول الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم قل يا محمد للناس هذا الذى جئتكم به من ربكم هو الحق لا مرية فيه ولا شك ، " فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ " هذا من باب التهديد والوعيد الشديد فالله ترك للانسان حرية العقيدة والعمل وعليه الحساب فى الآخرة بعد أن وضح له الحق الذى أرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم ، " إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَا " فالله أعد فى الآخرة للكافرين به وبرسوله وكتابه نارا شديدة يحيط بهم سورها وهى مغلقة محيطة بهم من كل مكان وعن أبى سعيد الخدرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لسرادق النار أربعة جدر كثافة كل جدار مسافة أربعين سنة " وأخرجه الترمذى فى صفة النار وأبن جرير فى تفسيره . وقال أبن عباس فى ذلك سرادقها حائط من نار ، " وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ كَٱلۡمُهۡلِ يَشۡوِي ٱلۡوُجُوهَ " قال أبن عباس المهل الماء الغليظ مثل دردى الزيت وقال مجاهد هو كالدم والقيح وقال عكرمة هو الشىء الذى انتهى حره وقال آخرون هو كل شىء أذيب وقال قتادة : أذاب أبن مسعود شيئا من الذهب فى أخدود فلما انماع وأزبد قال : هذا أشبه شىء بالمهل وهذه الأوصاف الرذيلة كلها يجمع فيها المهل فهو أسود منتن غليظ حار فهو يشوى الوجوه من شدة حره واذا استغاث الكافر من شدة الحر قدم له ماء كالمهل اذا أراد الكافر أن يشربه وقربه من وجهه شواه حتى تسقط جلدة وجهه وعن سعيد الخدرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ماء كالمهل قال كعكر الزيت فاذا قربه اليه سقطت فروة وجهه فيه " ، " بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ " يذم الله هذا الشراب كما قال فى آية أخرى " وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم " وقال تعالى " تسقى من عين آنية " عين حارة شديدة الحرارة كما قال " وبين حميم آن " أى شديد الحرارة ، " وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا " وساءت النار منزلا ومقيلا وموضعا للارتفاق كما قال " انها ساءت مستقرا ومقاما " .
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ
إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجۡرَ مَنۡ أَحۡسَنَ عَمَلًا ٣٠ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ جَنَّٰتُ
عَدۡنٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰرُ يُحَلَّوۡنَ فِيهَا مِنۡ
أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَيَلۡبَسُونَ ثِيَابًا خُضۡرٗا مِّن سُندُسٖ وَإِسۡتَبۡرَقٖ مُّتَّكِِٔينَ
فِيهَا عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِۚ نِعۡمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتۡ مُرۡتَفَقٗا ٣١ ۞
" إِنَّ
ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجۡرَ مَنۡ
أَحۡسَنَ عَمَلًا " ذكر الله تعالى حال الأشقياء ثم ثنى بذكر السعداء الذين
آمنوا بالله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به وعملوا بما أمروهم به من الأعمال
الصالحة " أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ جَنَّٰتُ عَدۡنٖ تَجۡرِي
مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰر " فلهم جنات عدن والعدن الاقامة أى دار الاقامة
الدائمة تجرى من تحت غرفهم ومنازلهم أنهار الجنة المختلفة وقال فرعون " وهذه
الأنهار تجرى من تحتى " ، " يُحَلَّوۡنَ
فِيهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَب" يحلون من الحلية والزينة أى
يتزينون فى الجنة مما حرموا منه فى الدنيا من أساور الذهب ، قال تعالى عن لبس أهل
الجنة " ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير " وفصل هذا الحرير فى هذه الآية
" وَيَلۡبَسُونَ ثِيَابًا خُضۡرٗا مِّن سُندُسٖ وَإِسۡتَبۡرَق " وثياب أهل الجنة من السندس الأخضر
والسندس ثياب رفاع كالقمصان والاستبرق فهو غليظ الديباج وفيه بريق ، "
مُّتَّكِِٔينَ فِيهَا
عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِۚ " الاتكاء قيل الاضطجاع وقيل التربع فى الجلوس والأرائك
جمع أريكة وهى السرير وقال معمر وغيره السرر أى أهل الجنة يستريحون فى جلستهم فى
الجنة ويتنعمون ، " نِعۡمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتۡ مُرۡتَفَقٗا "
يمدح الله الجنة نعمت الجنة ثوابا للمؤمنين على أعمالهم وحسنت مرتفقا أى حسنت
منزلا ومقيلا ومقاما كما ذم النار " بئس الشراب وساءت مرتفقا " وهنا
المقابلة بين النار وبين الجنة وبين أهل النار وأهل الجنة وهكذا قابل بينهما فى سورة
الفرقان فى قوله " انها ساءت مستقرا ومقاما " ثم ذكر صفات المؤمنين "
أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما خالدين فيها حسنت مستقرا
ومقاما " .
وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلٗا رَّجُلَيۡنِ
جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيۡنِ مِنۡ أَعۡنَٰبٖ وَحَفَفۡنَٰهُمَا
بِنَخۡلٖ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمَا زَرۡعٗا ٣٢ كِلۡتَا
ٱلۡجَنَّتَيۡنِ ءَاتَتۡ أُكُلَهَا وَلَمۡ تَظۡلِم مِّنۡهُ شَيۡٔٗاۚ وَفَجَّرۡنَا
خِلَٰلَهُمَا نَهَرٗا ٣٣ وَكَانَ لَهُۥ ثَمَرٞ فَقَالَ لِصَٰحِبِهِۦ
وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَنَا۠ أَكۡثَرُ مِنكَ مَالٗا وَأَعَزُّ نَفَرٗا ٣٤ وَدَخَلَ
جَنَّتَهُۥ وَهُوَ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ
هَٰذِهِۦٓ أَبَدٗا ٣٥ وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةٗ وَلَئِن رُّدِدتُّ
إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهَا مُنقَلَبٗا ٣٦
"
وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلٗا رَّجُلَيۡنِ " يقول الله تعالى بعد ذكره المشركين
المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين وافتخروا عليهم بأموالهم
واحسانهم فضرب لهم مثلا برجلين ، " جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيۡنِ مِنۡ
أَعۡنَٰبٖ
وَحَفَفۡنَٰهُمَا بِنَخۡلٖ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمَا زَرۡعٗا "
جعل الله لأحدهما جنتين أى بستانين من أعناب محفوفتين بالنخيل المحدقة فى جنباتهما
وفى خلالهما الزروع وكل من الأشجار والزروع مقبل فى غاية الجودة ، " كِلۡتَا
ٱلۡجَنَّتَيۡنِ ءَاتَتۡ أُكُلَهَا وَلَمۡ تَظۡلِم مِّنۡهُ شَيۡٔٗاۚ "
كلتا الجنتين أى البستانين أخرج ثماره تاما ولم ينقص منه شيئا أى جيد المحصول
والثمر ، " وَفَجَّرۡنَا خِلَٰلَهُمَا نَهَرٗا " وتجرى الأنهار فيهما متفرقة هنا وهناك " ،
" وَكَانَ لَهُۥ ثَمَر" قيل المراد المال أى له مال وقيل الثمار وهى
أظهر ، " فَقَالَ لِصَٰحِبِهِۦ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَنَا۠ أَكۡثَرُ مِنكَ
مَالٗا وَأَعَزُّ
نَفَرٗا "
أحدهما وهو صاحب هاتين الجنتين وهو يحاور صاحبه أى يجادله ويخاصمه وبخاصة يفتخر
عليه ويتراءس أنه أكثر منه مالا وخدما وحشما وولدا وقال قتادة تلك أمنية الفاجر
كثرة المال وعزة النفر ، " وَدَخَلَ جَنَّتَهُۥ وَهُوَ ظَالِمٞ
لِّنَفۡسِهِ" دخل جنته أى بستانه بكفره وتمرده وتكبره وتجبره وانكاره المعاد
والبعث يوم القيامة " قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِۦٓ أَبَدٗا " قال
اغترارا منه لما رأى من الزروع والثمار والأشجار والأنهار فى جوانبها وأرجائها ظن
أنها لا تفنى ولا تفرغ ولا تهلك ولا تتلف وذلك لقلة عقله وضعف يقينه بالله واعجابه
بالحياة الدنيا وزينتها وكفره بالآخرة " وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَة"
فهو لا يعتقد أن الساعة أى يوم القيامة كائن ، " وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ
رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهَا مُنقَلَبٗا " ولئن كان معاد ورجعة ومرد الى الله ليكونن لى هناك
احسن من هذا الحظ عند ربى ولولا كرامتى عليه ما أعطانى هذا كقوله " ولئن رجعت
الى ربى ان لى عنده للحسنى " .
قَالَ لَهُۥ
صَاحِبُهُۥ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَكَفَرۡتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلٗا ٣٧ لَّٰكِنَّا۠ هُوَ
ٱللَّهُ رَبِّي وَلَآ أُشۡرِكُ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا ٣٨ وَلَوۡلَآ إِذۡ
دَخَلۡتَ جَنَّتَكَ قُلۡتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ إِن
تَرَنِ أَنَا۠ أَقَلَّ مِنكَ مَالٗا وَوَلَدٗا ٣٩ فَعَسَىٰ رَبِّيٓ أَن يُؤۡتِيَنِ خَيۡرٗا مِّن جَنَّتِكَ
وَيُرۡسِلَ عَلَيۡهَا حُسۡبَانٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَتُصۡبِحَ صَعِيدٗا زَلَقًا ٤٠ أَوۡ
يُصۡبِحَ مَآؤُهَا غَوۡرٗا فَلَن تَسۡتَطِيعَ لَهُۥ طَلَبٗا ٤١
يقول الله تعالى مخبرا عما أجابه به صاحبه المؤمن واعظا له وزاجرا عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار " قَالَ لَهُۥ صَاحِبُهُۥ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَكَفَرۡتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلٗا " هذا انكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود ربه الذى خلقه وابتدأ خلق الانسان من طين وهو آدم ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين كما قال تعالى " كيف تكفرون بالله وكنتم أموتا فأحياكم " ، " لَّٰكِنَّا۠ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي وَلَآ أُشۡرِكُ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا " لكن أنا لا أقول بمقالتك بل أعترف لله بالوحدانية والربوبية وأنه هو المعبود لا شريك له ، " وَلَوۡلَآ إِذۡ دَخَلۡتَ جَنَّتَكَ قُلۡتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ " هذا تخصيص وحث أى اذا أعجبتك جنتك حين دخلتها ونظرت اليها حمدت الله على ما أنعم به عليك وأعطاك من المال والولد ما لم يعطه لغيرك وقلت ما شاء الله لا قوة الا بالله ، ولهذا قال بعض السلف من أعجبه شىء من حاله أو ماله أو ولده فليقل ما شاء الله لا قوة الا بالله وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة وفى الصحيح عن أبى موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له " ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ؟ لا حول ولا قوة الا بالله " ، " إِن تَرَنِ أَنَا۠ أَقَلَّ مِنكَ مَالٗا وَوَلَدٗا " وان كنت ترى أنى أنا أقل منك فى المال والولد ، " فَعَسَىٰ رَبِّيٓ أَن يُؤۡتِيَنِ خَيۡرٗا مِّن جَنَّتِكَ " فاله يمكن أن يؤتينى خيرا من جنتك فى الدنيا وفى الآخرة ،" وَيُرۡسِلَ عَلَيۡهَا حُسۡبَانٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَتُصۡبِحَ صَعِيدٗا زَلَقًا " والله قادر أن يرسل على حنتك هذه التى ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى عذابا من السماء والظاهر أنه المطر العظيم المزعج يقلع زرعها وثمارها وأشجارها فتصبح ترابا أملسا لا ينبت فيه زرع وقال أبن عباس كالجرز الذى لا ينبت شيئا ، " أَوۡ يُصۡبِحَ مَآؤُهَا غَوۡرٗا فَلَن تَسۡتَطِيعَ لَهُۥ طَلَبٗا" ويمكن أن يذهب منها الماء ويصبح غائرا فى الأرض لايمكن أن يخرج منها فلا ترتوى وتنبت الزرع وتفنى وتبيد وهو ضد النابع الذى يطلب وجه الأرض فالغائر يطلب اسفلها كما قال تعالى " قل أرأيتم ان أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين" أى ماء جار وسائح .
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِۦ فَأَصۡبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيۡهِ
عَلَىٰ مَآ أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ
يَٰلَيۡتَنِي لَمۡ أُشۡرِكۡ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا ٤٢ وَلَمۡ تَكُن
لَّهُۥ فِئَةٞ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ
مُنتَصِرًا ٤٣ هُنَالِكَ ٱلۡوَلَٰيَةُ لِلَّهِ ٱلۡحَقِّۚ هُوَ خَيۡرٞ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ عُقۡبٗا ٤٤
" وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ" وقع بهذا الكافر ما كان
يحذر مما خوفه به المؤمن من ارسال الحسبان على جنته التى اغتر بها وألهته عن الله
عز وجل ، " فَأَصۡبَحَ يُقَلِّبُ
كَفَّيۡهِ عَلَىٰ مَآ أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا "
أصابته الحسرة فأخذ يصفق كفيه متأسفا على الأموال التى أذهبها عليها وقد دمرت
تماما وأصبحت أرض خربة ، " وَيَقُولُ
يَٰلَيۡتَنِي لَمۡ أُشۡرِكۡ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا " أصابته الحسرة والندامة على اشراكه بالله وكفره وجحوده لنعمة
الله ، " وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ فِئَةٞ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا " ولم
يكن له نصير ولا سند ولم يكن له عشيرة ولا ولد من دون الله وكان عاقبته الخسران فلا
منقذ له من عذاب الله ، " هُنَالِكَ ٱلۡوَلَٰيَةُ لِلَّهِ ٱلۡحَقِّ " فى
هذا الموقف وفى غيره فان الموالاة لله ، كل أحد مؤمن أو كافر يرجع الى الله والى موالاته
والخضوع له اذا وقع العذاب وهذا كقول فرعون لما أصابه الغرق والهلاك " حتى
اذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا اله الا الذى آمنت به بنو اسرائيل وأنا من
المسلمين * الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين " ، " هُوَ خَيۡرٞ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ عُقۡبٗا " الله عنده أفضل
الجزاء والثواب على الأعمال التى تكون له وعنده خير العاقبة أى أفضل نهاية فى
الدنيا والآخرة .
وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا
كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ
فَأَصۡبَحَ هَشِيمٗا تَذۡرُوهُ ٱلرِّيَٰحُۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ
شَيۡءٖ مُّقۡتَدِرًا ٤٥ ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِينَةُ ٱلۡحَيَوٰةِ
ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّٰلِحَٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ أَمَلٗا ٤٦
" وَٱضۡرِبۡ لَهُم " يقول تعالى أضرب للناس يا محمد ، " مَّثَلَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا " الحياة الدنيا فى زوالها وفنائها وانقضائها ، " كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ " كمثل النبات الذى فى الأرض شب وحسن وعلاه الزهر والنور والنضرة بالمطر الذى أنزله الله من السماء ، " فَأَصۡبَحَ هَشِيمٗا تَذۡرُوهُ ٱلرِّيَٰحُ " وبعد ذلك أصبح يابسا تطرحه الرياح فى كل مكان ذات اليمين وذات الشمال ، "وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقۡتَدِرًا " والله هو القادر على هذه الحال وهذه الحال ، وكثيرا ما يضرب الله مثل الحياة الدنيا بهذا المثل كما فى قوله فى سورة يونس " انما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام " وكقوله فى سورة الحديد " اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وتفاخر بينكم وتكاثر فى الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته " ، " ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِينَةُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ" الحياة الدنيا زينتها المال والأولاد التى تلهى عن ذكر الله هذا كل ما فيها كقوله تعالى " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة " وكقوله " انما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم " ، " وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّٰلِحَٰتُ " تعددت الأقوال فى الباقيات الصالحات قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وكذلك أبن جرير هى الأعمال الصالحة كلها وقال العوفى عن أبن عباس هى الكلام الطيب وعن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله أكبر هن الباقيات الصالحات " وعن أبى سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " استكثروا من الباقيات الصالحات " قيل وما هى يا رسول الله ؟ قال الملة ، قيل وما هى يا رسول الله ؟ قال " التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة الا بالله " ، وقال الامام أحمد حدثنا محمد بن يزيد عن العوام حدثنى رجل من الأنصار من آل النعمان بن بشير قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن فى المسجد بعد صلاة العشاء فرفع بصره الى السماء ثم خفض حتى ظننا أنه قد حدث فى السماء شىء ثم قال " أما انه سيكون بعدى أمراء يكذبون ويظلمون فمن صدقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم فليس منى ولست منه ، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يمالئهم على ظلمهم فهومنى وأنا منه ، ألا وان سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله أكبر هن الباقيات الصالحات " ،" خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ أَمَلٗا " هذه الأعمال الصالحات التى ذكرت والاقبال عليها افضل مما فى الدنيا لما فيها من ثواب من الله ومن حسن العاقبة والرجاء فيها وما يأمل فيها من خير .
وَيَوۡمَ نُسَيِّرُ ٱلۡجِبَالَ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ
بَارِزَةٗ وَحَشَرۡنَٰهُمۡ فَلَمۡ نُغَادِرۡ مِنۡهُمۡ أَحَدٗا ٤٧ وَعُرِضُواْ
عَلَىٰ رَبِّكَ صَفّٗا لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ
مَرَّةِۢۚ بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدٗا ٤٨ وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ
فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا
مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً
إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ
رَبُّكَ أَحَدٗا ٤٩
يخبر الله تعالى عن أهوال يوم القيامة وما يكون فيها من الأمور العظام " وَيَوۡمَ نُسَيِّرُ ٱلۡجِبَال " تتحرك الجبال من أماكنها وتذهب وتزول ، " َ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ بَارِزَة" وتصبح الأرض وما عليها بادية ظاهرة ليس فيها معلم لأحد ولا مكان يوارى أحدا بل الخلق كلهمضاحون لربهم لا تخفى عليه منهم خافية ،" وَحَشَرۡنَٰهُمۡ فَلَمۡ نُغَادِرۡ مِنۡهُمۡ أَحَدٗا " يجمع الله العباد الأولين منهم والآخرين فلم يترك منهم أحدا صغيرا أو كبيرا كما فى قوله" قل ان الأولين والآخرين لجموعون الى ميقات يوم معلوم " ، "وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفّٗا " جميع الخلائق يقومون بين يدى الله صفا واحدا كقوله " وعرضوا على ربك صفا " وكما قال " وجاء ربك والمللك صفا صفا " ، " لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةِۢ " هذا تقريع للمنكرين ليوم القيامة وللمعاد وتوبيخ على رءوس الأشهاد لقد بعثتم من بعد موتكم ولم بصبح منكم شيئا فى القبور كما خلقتم ولم تكونوا شيئا ، " بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدٗا " كنتم تزعمون أن لن تبعثوا وتنكرون المعاد وأن هذا واقع بكم ، " وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ " وضع كتاب الأعمال الذى فيه الجليل والحقير والصغير والكبير ، " فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ " والكفار يرون وهم مصابون بالحسرة والحزن من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة ، " وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا " كلما تدل على الحسرة أى يقولون يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا فى اعمالنا وأعمارنا ، " مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَا " يتحسرون مما يجدونه مسجلا لا تفريط فيه لكل أعمالهم القبيحة كل صغير وكبيرة محسوبة محصية عليهم ومحفوظة ، قال سعد بنجنادة لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين نزلنا قفرا من الأرض ليس فيه شىء فقال النبى صلى الله عليه وسلم " اجمعوا من وجد عودا فليأت به ومن وجد حطبا أو شيئا فليأت به ، فما كان الا ساعة حتى جعلناه ركاما فقال النبى صلى الله عليه وسلم " أترون هذا ؟ فكذلك تجمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا فليتق الله رجل ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة فانها محصاة عليه "،"وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗا" يجد هؤلاء كل أعمالهم حاضرة أمامهم محصاة منخير وشر كما قال تعالى " يوم تجد كل نفس ما عملت منير محضرا " وكقوله تعالى " ينبأ الانسان يومئذ بما قدم وأخر " ، "وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا " يكم الله بعدله بين عباده فى اعمالهم جميعا ولا يظلم أحدا منخلقه بل يعفو ويصفح ويرحم ويعذب من يشاء بقدرته وحكمته وعدله .
وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ
فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلۡجِنِّ فَفَسَقَ عَنۡ أَمۡرِ
رَبِّهِۦٓۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُۥ وَذُرِّيَّتَهُۥٓ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمۡ
لَكُمۡ عَدُوُّۢۚ بِئۡسَ لِلظَّٰلِمِينَ بَدَلٗا ٥٠ ۞
يقول اله تعالى
منبها بنى آدم على عداوة ابليس لهم ولأبيهم آدم عليه السلام من قبل ومقرعا لمن
اتبعه منهم وخالف خالقه ومولاه وهو الذى أنشأه وابتدأه " وَإِذۡ قُلۡنَا
لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ " أمر الله جميع الملائكة " ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ
فَسَجَدُوٓاْ " أن يسجدوا لآدم سجود تشريف وتكريم فأطاعوا أمره وسجدوا ،
"إِلَّآ إِبۡلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلۡجِنّ" ِالذى لم يسجد هو ابليس خانه
أصله فانه خلق من مارج من نار وأصل خلق الملائكة من نور فعن عائشة رضى الله عنها
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " خلقت الملائكة من نور وخلق ابليس
من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم فعند الحاجة نضح كل وعاء بما فيه وخانه الطبع
عند الحاجة وذلك أنه كان قد توسم بأفعال الملائكة وتشبه بهم وتعبد وتنسك فلهذا دخل
فى خطابهم وعصى بالمخالفة " ونبه تعالى هنا على أنه من الجن أى على خلقه من
نار كما قال " أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين " وقال الحسن
البصرى ما كان ابليس من الملائكة طرفة عين قط وانه لأصل الجن كما أن آدم عليه
السلام أصل البشر والمارج من نار كما قال أبن عباس هو لسان النار الذى يكون فى
طرفها اذا التهبت ، " فَفَسَقَ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِۦ" عصى ربه وخرج عن
طاعته فان الفسق هو الخروج قال فسقت الرطبة اذا خرجت من أكمامها وفسقت الفأرة اذا
خرجت من جحرها للعبث والفساد ، " أَفَتَتَّخِذُونَهُۥ وَذُرِّيَّتَهُۥٓ
أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمۡ لَكُمۡ عَدُوُّ" يقول الله تعالى مقرعا
وموبخا لمن أتبع ابليس وأطاعه وأطاع ذريته من بعده كيف تتخذونه هو وذريته من بعده
أولياء لكم بدلا عنى وهو عدو لكمكما كانعدوا لآبيكم آدم وأخرجه من الجنة ، " بِئۡسَ لِلظَّٰلِمِينَ بَدَلٗا " بئس صيغة للذم
يذمهم الله على اتخاذ ابليس وذريته أولياء من دون الله ويذم هذا البدل الذى اتخذوه
.
مَّآ أَشۡهَدتُّهُمۡ خَلۡقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ
وَلَا خَلۡقَ أَنفُسِهِمۡ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلۡمُضِلِّينَ عَضُدٗا ٥١
" "
مَّآ أَشۡهَدتُّهُمۡ خَلۡقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَا خَلۡقَ أَنفُسِهِمۡ
وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلۡمُضِلِّينَ عَضُدٗا " الذين اتخذتموهم أولياء من دونى عبيد أمثالكم لا
يملكون شيئا ولا أشهدتهم على خلق السموات والأرض ولا كانوا اذ ذاك موجودين ويقول
تعالى أنا المستقل بخلق الأشياء كلها ومدبرها ومقدرها وحدى ليس معى فى ذلك شريك
ولا وزير ولا مشير ولا نظير ولا سند ولا أعوانا .
وَيَوۡمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآءِيَ ٱلَّذِينَ
زَعَمۡتُمۡ فَدَعَوۡهُمۡ فَلَمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَهُمۡ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُم
مَّوۡبِقٗا ٥٢ وَرَءَا ٱلۡمُجۡرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوٓاْ
أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمۡ يَجِدُواْ عَنۡهَا مَصۡرِفٗا ٥٣
وَيَوۡمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآءِيَ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ " يقول الله مخبرا عما يخاطب به المشركين يوم القيامة على رءوس الأشهاد تقريعا لهم وتوبيخا ادعوا اليوم الذين أتخذتموهم شراء من دونى فى الدنيا لينقذوكم مما أنتم فيه كما قال " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم ومانرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون " ، " فَدَعَوۡهُمۡ فَلَمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَهُمۡ " يدعوا من اتخذوهم شركاء ولكن هيهات هيهات ليس هناك استجابة وليس هناك من منقذ ، " وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُم مَّوۡبِقٗا " قال قتادة موبقا واديا فى جهنم وعن عبد الله بن عمرو قال هو واد عميق فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة والمعنى أن الله تعالى بين أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين ولا وصول لهم الى آلهتهم التى كانوا يزعمون فى الدنيا وأنه يفرق بينهم وبينها فى الآخرة فلا خلاص لأحد من الفريقين الى الآخر بل بينهما مهلك وأمر عظيم وهول كبير ، " وَرَءَا ٱلۡمُجۡرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا " لما عاين الكافرون النار نار جهنم حين جىء بها تقاد وتحققوا ألا محالة أنهم متوقعوعها فان توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه عذاب ناجز ، " وَلَمۡ يَجِدُواْ عَنۡهَا مَصۡرِفٗا " ليس لهم طريق يعدل بهم عنها ولابد لهم منها وعن أبى سعيد الخدرى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ينصب الكافر مقدار خمسين ألف سنة كما لم يعلم فى الدنيا وان الكافر ليرى جهنم ويظن أنتها مواقعته من مسيرة أربعين سنة " .
وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لِلنَّاسِ
مِن كُلِّ مَثَلٖۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَكۡثَرَ شَيۡءٖ جَدَلٗا ٥٤
" وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِي
هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٖۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَكۡثَرَ
شَيۡءٖ جَدَلٗا " يقول تعالى ولقد بينا
للناس فى هذا القرآن ووضحنا لهم الأمور وفصلناها كيلا يضلوا عن الحق ويخرجوا عن
طريق الهدى ومع هذا البيان وهذا الفرقان الانسان كثير المجادلة والمخاصمة
والمعارضة للحق بالباطل الا من هدى الله وبصره لطريق النجاة .
وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ
جَآءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّهُمۡ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمۡ
سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ أَوۡ يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ قُبُلٗا ٥٥ وَمَا نُرۡسِلُ
ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَۚ وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ
كَفَرُواْ بِٱلۡبَٰطِلِ لِيُدۡحِضُواْ بِهِ ٱلۡحَقَّۖ وَٱتَّخَذُوٓاْ ءَايَٰتِي
وَمَآ أُنذِرُواْ هُزُوٗا ٥٦
"
وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ جَآءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ
وَيَسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّهُمۡ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ أَوۡ
يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ قُبُلٗا " يخبر تعالى عن تمرد الكفرة فى قديم الزمان وحديثه
وتكذيبهم بالحق البين الظاهر مع ما يشاهدون من الآيات والدلالات الواضحات وأنما
منعهم من اتباع ذلك الا طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذى وعدوا به عيانا كما قالوا
" ائتنا بعذاب الله ان كنت من الصادقين " ، " وَمَا نُرۡسِلُ
ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ " يخبر الله تعالى أن مهمة
الرسل أن يكونوا مبشرين من صدقهم وآمن بهم ومنذرين لمن كذبهم وخالفهم من عذاب الله
، " وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلۡبَٰطِلِ لِيُدۡحِضُواْ بِهِ
ٱلۡحَقَّ " ثم يخبر الله عن الكفار بأنهم يجادلون بالباطل ليضعفوا به الحق
الذى جاءتهم به الرسل وليس ذلك بحاصل لهم ، "وَٱتَّخَذُوٓاْ ءَايَٰتِي وَمَآ
أُنذِرُواْ هُزُوٗا " واتخذوا الحجج والبراهين وخوارق العادات التى بعث
بها الرسل وما أنذروهم وخوفوهم به من العذاب سخرية واستهزاءا فقد سخروا من الرسل
وهو أشد التكذيب .
وَمَنۡ
أَظۡلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِۦ فَأَعۡرَضَ عَنۡهَا
وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُۚ إِنَّا جَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً
أَن يَفۡقَهُوهُ وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٗاۖ وَإِن تَدۡعُهُمۡ إِلَى ٱلۡهُدَىٰ فَلَن
يَهۡتَدُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا ٥٧ وَرَبُّكَ ٱلۡغَفُورُ ذُو ٱلرَّحۡمَةِۖ لَوۡ
يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلۡعَذَابَۚ بَل لَّهُم مَّوۡعِدٞ لَّن يَجِدُواْ مِن
دُونِهِۦ مَوۡئِلٗا ٥٨ وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰٓ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ لَمَّا
ظَلَمُواْ وَجَعَلۡنَا لِمَهۡلِكِهِم مَّوۡعِدٗا ٥٩
" وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِۦ فَأَعۡرَضَ عَنۡهَا " يقول الله تعالى وأى عباد الله أظلم أى أكثر ظلما ممن ذكر يآيات ربه فأعرض عنها أى تناساها وبعد عنها ولم يصغ لها ولا ألقى لها بالا ،"وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُ" نسى ما قدمت يداه من الأعمال السيئة والأفعال القبيحة ، " إِنَّا جَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن يَفۡقَهُوهُ " يقول الله تعالى أنه جعل على قلوب هؤلاء الكافرين أغطية لئلا يفهموا هذا القرآن والبيان ، " وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٗا " وجعل الله فى آذانهم صمما معنويا عن الرشاد فلا يستمون الى الحق ويتبعونه ، "وَإِن تَدۡعُهُمۡ إِلَى ٱلۡهُدَىٰ فَلَن يَهۡتَدُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا " واذا قمت بدعوتهم الى ما نزل اليك من ربك من الهدى فلن يتبعوه ويهتدوا " وَرَبُّكَ ٱلۡغَفُورُ ذُو ٱلرَّحۡمَةِ " ربك يا محمد غفور ذو رحمة واسعة ، " لَوۡ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلۡعَذَابَ " لو يحاسب الله هؤلاء الكفار بأعمالهم وما فعلوه من سيئات لعجل لهم العذاب ، " بَل لَّهُم مَّوۡعِدٞ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِۦ مَوۡئِلٗا " لكن الله أخر لهم العذاب فى موعد محدد ليس لهم عنه محيص ولا معدل ولا محيد وهو يوم القيامة ، " وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰٓ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ " وهذه الأمم السالفة والقرون الخالية أهلكهم الله بسبب كفرهم وعنادهم ، " وَجَعَلۡنَا لِمَهۡلِكِهِم مَّوۡعِدٗا " جعل مهلكهم الى مدة معلومة ووقت معين لا يزيد ولا ينقص وكذلك أنتم أيها المشركون احذروا أن يصيبكم ما أصابهم فقد كذبتم أشرف رسول وأعظم نبى ولستم بأعز علينا منهم فخافوا عذابى ونذر .
وَإِذۡ قَالَ
مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ لَآ أَبۡرَحُ حَتَّىٰٓ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ أَوۡ
أَمۡضِيَ حُقُبٗا ٦٠ فَلَمَّا بَلَغَا مَجۡمَعَ بَيۡنِهِمَا نَسِيَا
حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ سَرَبٗا ٦١ فَلَمَّا جَاوَزَا
قَالَ لِفَتَىٰهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدۡ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا
نَصَبٗا ٦٢ قَالَ أَرَءَيۡتَ إِذۡ أَوَيۡنَآ إِلَى ٱلصَّخۡرَةِ فَإِنِّي
نَسِيتُ ٱلۡحُوتَ وَمَآ أَنسَىٰنِيهُ إِلَّا ٱلشَّيۡطَٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥۚ
وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ عَجَبٗا ٦٣ قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبۡغِۚ فَٱرۡتَدَّا
عَلَىٰٓ ءَاثَارِهِمَا قَصَصٗا ٦٤ فَوَجَدَا عَبۡدٗا مِّنۡ عِبَادِنَآ
ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا ٦٥
عن أبى بن كعب رضى الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
" ان موسى قام خطيبا فى بنى اسرائيل فسئل أى الناس أعلم ؟ قال : أنا ، فعتب
الله عليه اذ لم يرد العلم اليه ، فأوحى الله اليه أن لى عبدا بمجمع البحرين هو
أعلم منك ، قال موسى : يا رب وكيف لى به ؟ فأوحى اليه أن ائت البحر فانك تجد على
شط البحر حوتا فخذه فادفعه الى فتاك ثم الزم شاطىء البحر فاذا نسيت الحوت وهلك منك
فثم تجد العبد الصالح الذى تطلب ، فأخذ حوته فجعله بمكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه
يوشع بن نون عليه السلام فلما طال سفر وبلغ به التعب حتى اذا أتيا الصخرة وضعا رأسيهما
فناما واضطرب الحوت فى المكتل فخرج منه فسقط فى البحر فاتخذ سبيله فى البحر سربا
وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصارعليه
مثل الطاق ، فلما استيقظ نسى صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما
حتى اذا كان من الغداة قال موسى لفتاة يطلب منه الغداء بعد أن حل بهما التعب ثم
جاوزا المكان الذى أمره الله به وقال له فتاه أنه نسى الحوت عند الصخرة التى
استراحا عندها وأن ذلك كان من الشيطان فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا الى الصخرة فوجد
الحوت فجعل الحوت يضرب فى البحر ويتبعه موسى وجعل موسى يقدم عصاه يفرج بها عنه
الماء يتبع الحوت وجعل الحوت لا يمس شيئا من البحر الا يبس عنه الماء حتى يكون
صخرة فجعل نبى الله يعجب من ذلك حتى انتهى به الحوت الى جزيرة حتى لقى الخضر عليه
السلام هناك "وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ لَآ أَبۡرَحُ
حَتَّىٰٓ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ أَوۡ أَمۡضِيَ حُقُبٗا "
قال موسى لفتاه بعد أن ذكر له أن عبدا من عباد الله بمجمع البحرين عنده من العلم
ما لم يحط به موسى عليه السلام فأحب
الرحيل اليه وقال لفتاه لا أزال سائرا حتى أبلغ هذا المكان الذى فيه مجمع البحرين
حتى لو أنى أسير حقبا أى فترة طويلة من الزمان وقال أبن جرير ذكر بعض أهل العلم أن
الحقب فى لغة قيس سنة وقال عبد الله بن عمرو الحقب ثمانون سنة وقال مجاهد سبعون
خريفا وقال أبن عباس دهرا أى لن يعدل عن الوصول اليه ، " فَلَمَّا بَلَغَا
مَجۡمَعَ بَيۡنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ
سَرَبٗا "
فسارا حتى بلغا مجمع البحرين فناما هناك وكان هناك عين يقال لها عين الحياة وأصاب
الحوت من رشاش الماء فاضطرب وطفر من المكتل الى البحر واتخذ طريقه الى البحر وهرب
مثل السرب فى الأرض ، " فَلَمَّا
جَاوَزَا قَالَ لِفَتَىٰهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدۡ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا
هَٰذَا نَصَبٗا "
لما جاوزا المكان الذى نسيا فيه الحوت بمرحلة قال موسى عليه السلام أن يأتيه
بالغداء فقد أصابهم التعب الشديد فى مسيرهم وسفرهم الى مجمع البحرين ، "
قَالَ أَرَءَيۡتَ إِذۡ أَوَيۡنَآ إِلَى ٱلصَّخۡرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلۡحُوتَ
وَمَآ أَنسَىٰنِيهُ إِلَّا ٱلشَّيۡطَٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَه وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ
فِي ٱلۡبَحۡرِ عَجَبٗا " رد فتى موسى عليه السلام أنه نسى الحوت عند الصخرة
التى استراحا عندها وأن هذا النسيان الذى منعه من تذكر الحوت والحفاظ عليه هو
الشيطان وقد هرب الى البحر ، " قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبۡغِ فَٱرۡتَدَّا
عَلَىٰٓ ءَاثَارِهِمَا قَصَصٗا " هذا ما كنا نطلب من الطريق الذى نسلكه ورجعا ألى
طريقهما يقصان آثار مشيهما ويقفوان أثرهما ،
" فَوَجَدَا عَبۡدٗا مِّنۡ
عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا " بلغا
عبدا صالح من عباد الله وهو الخضر عليه السلام كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ن قال أبن عباس انى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول " بسنا موسى فى ملأ من بنى اسرائيل اذ جاءه رجل فقال تعلم مكان رجل أعلم
منك قال لا ، فأوحى الله الى موسى بلى عبدنا خضر " فسأل موسى السبيل الى لقيه
فجعل الله له الحوت آية وقيل له اذا فقدت الحوت فارجع فانك ستلقاه فكان موسى يتبع
أثر الحوت فى البحر فقال فتى موسى لموسى أرأيت اذ أوينا الى الصخرة فانى نسيت
الحوت قال موسى " ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا " فوجدا عبدنا
خضرا فكان من شأنهما ما قص الله فى كتابه .
قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰ هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰٓ أَن
تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدٗا ٦٦ قَالَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا ٦٧ وَكَيۡفَ تَصۡبِرُ
عَلَىٰ مَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ خُبۡرٗا ٦٨ قَالَ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِرٗا وَلَآ أَعۡصِي لَكَ
أَمۡرٗا ٦٩ قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعۡتَنِي فَلَا تَسَۡٔلۡنِي عَن
شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرٗا ٧٠
" قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰ هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰٓ أَن
تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدٗا " لما قابل موسى عليه السلام الخضر عليه السلام فسلم
عليه فقال أنا موسى ، فقال له الخضر : موسى بنى اسرائيل ؟ " قال موسى : نعم
أتيتك لتعلمنى مما علمت رشدا أى مما علمك الله شيئا أسترشد به فى أمرى من علم نافع
وعمل صالح ، " قَالَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا " قال الخضر : يا موسى
انى على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت وأنت على علم من علم الله علمكه الله
لا أعلمه فكل منا مكلف بأمور من الله دون صاحبه ، وأبلغه أنه لن يقدر على مصاحبته لما سيرى منه
من الأفعال التى تخالف شريعته يستطيع
الصبر على ما سيعلمه ، " وَكَيۡفَ تَصۡبِرُ عَلَىٰ مَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ
خُبۡرٗا " انا اعرف أنك
ستنكر على ما أنت معذور فيه وسيتدخل وينفد صبره ليعرف ما أخفاه عنه بيانه من العلم
والمصلحة الباطنة التى أطلع هو عليها دونه ، " قَالَ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ
ٱللَّهُ صَابِرٗا وَلَآ أَعۡصِي لَكَ أَمۡرٗا" وعد موسى عليه السلام الخضر عليه السلام أنه سيكون
صابرا على ما يرى من أموره معه وسيطيع أوامره ولن يخالفه فى أمر ، " قَالَ
فَإِنِ ٱتَّبَعۡتَنِي فَلَا تَسَۡٔلۡنِي عَن شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرٗا " فشارطه الخضر عليه
السلام انه طالما معه فلا يسأله عن علم شىء لا يعرفه حتى يبدأه هو قبل أن يساله .
فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا رَكِبَا فِي ٱلسَّفِينَةِ
خَرَقَهَاۖ قَالَ أَخَرَقۡتَهَا لِتُغۡرِقَ أَهۡلَهَا لَقَدۡ جِئۡتَ شَيًۡٔا إِمۡرٗا ٧١ قَالَ أَلَمۡ
أَقُلۡ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا ٧٢ قَالَ لَا
تُؤَاخِذۡنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرۡهِقۡنِي مِنۡ أَمۡرِي عُسۡرٗا ٧٣
" فَٱنطَلَقَا " يقول تعالى مخبرا عن موسى وصاحبه وهو الخضر أنهما انطلقا لما توافقا واصطحبا واشترط عليه أن لا يسأ له عن شىء أنكره حتى يكون هو الذى يبتدئه من تلقاء نفسه بشرحه وبيانه ، " حَتَّىٰٓ إِذَا رَكِبَا فِي ٱلسَّفِينَةِ خَرَقَهَا " حتى اذا ركبا فى السفينة وجدا معابر صغارا تحمل أهل هذا الساحل الى هذا الساحل الآخر أى فى عصرنا الحاضر "معدية " عرفوه فقالوا : عبد الله الصالح لا نحمله بأجر فحملوهما بغير أجرة تكرمة للخضر فلما استقلت بهم السفينة فى البحر ولججت أى دخلت اللجة قام الخضر فخرقها ووتد فيها وتدا واستخرج لوحا من ألواحها ثم رقعها ، " قَالَ أَخَرَقۡتَهَا لِتُغۡرِقَ أَهۡلَهَا لَقَدۡ جِئۡتَ شَيًۡٔا إِمۡرٗا " لم يملك موسى عليه السلام نفسه وقال موسى منكرا أخرقت السفينة حتى تغرق من فيها لقد فعلت شيئا منكرا ، " قَالَ أَلَمۡ أَقُلۡ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا " فعندها قال له الخضر مذكرا بما تقدم من الشرط أن هذا الصنيع فعلته قصدا وهو من الأمور التى اشترطت معك أن لا تنكر على فيها لأنك لم تحط بها خبرا أى علما ولها دخل وهو مصلحة ولم تعلمه أنت ، " قَالَ لَا تُؤَاخِذۡنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرۡهِقۡنِي مِنۡ أَمۡرِي عُسۡرٗا " رد موسى عليه لا تضيق على ولا تشدد بما تركت من عهد بسبب نسيانى .
فَٱنطَلَقَا
حَتَّىٰٓ إِذَا لَقِيَا غُلَٰمٗا فَقَتَلَهُۥ قَالَ أَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا زَكِيَّةَۢ بِغَيۡرِ
نَفۡسٖ لَّقَدۡ جِئۡتَ شَيۡٔٗا نُّكۡرٗا ٧٤ ۞
" فَٱنطَلَقَا " استمرا فى طريقهما بعد أن غادرا السفينة الى قرية من القرى ، " حَتَّىٰٓ إِذَا لَقِيَا غُلَٰمٗا فَقَتَلَهُ " وجد الخضر غلمانا يلعبون فأخذ غلاما كافرا ظريفا وكان أحسنهم وأجملهم وأضوأهم فاضجعه ثم ذبحه بالسكين وقيل رضخه بحجر وفى رواية اقتلعه بيده ، " قَالَ أَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا زَكِيَّةَۢ بِغَيۡرِ نَفۡسٖ لَّقَدۡ جِئۡتَ شَيۡٔٗا نُّكۡرٗا " لما شاهد موسى ذلك أنكره أشد من الأول وبادر فقال قتلت نفسا صغيرة لم تعمل الحنث ولا عملت اثما فقتلته بغير مستند لقتله من قتل نفس فتقتل كقصاص لقد فعلت شيئا ظاهر وشديد النكارة .
No comments:
Post a Comment