استقبال اليهود للرسول صلى الله عليه وسلم عند مقدمه للمدينة .
اضمر بعض اليهود سوءا للدعوة الاسلامية منذ وصول الرسول صلى الله عليه وسلم
الى المدينة ، فبينما كان المسلمون من الأ,س والخزرج ينتظرون قدوم النبى صلى الله
عليه وسلم بعد أن ترامت الأخبار الى مسامعهم بهجرته اليهم صاح بهم يهودى وقد لمح
الركب النبوى :" يا بنى قيلة هذا جدكم قد جاء " ( نسب الأوس والخزرج
يرجع الى أب وجد واحد الى أمهم " قيلة بنت بن عذرة " ولذا كانوا يسمون
بأبناء قيلة ) ، وأخرج البخارى فى حديث الهجرة " أن المسلمين فى المدينة حين
سمعوا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة كانوا يخرجون كل غداة الى الحرة
فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة فانقلبوا يوما الى أهليهم بعد أن طال انتظارهم
فلما آوو الى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم فبصر رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب فلم يملك اليهودى أن قال بأعلى صوته
:" يا معشر العرب هذا جدكم الذى تنتظرونه ، فثار المسلمون الى السلاح فتلقوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة " ، واشترك اليهود فى مجموعهم مع
المهاجرين والأنصار فى حسن استقبال صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم ، وقد حدثت
الأخبار الصحيحة أن بعض اليهود قد تنكر للدعوة الاسلامية وتوجس خيفة من صاحبها صلى
الله عليه وسلم منذ اليوم الأول من الهجرة ، فعن صفية بنت حيى بن أخطب رضى اله
عنها قالت :" كنت أحب ولد أبى اليه ، والى عمى أبى اسر لم ألقهما فى ولد لهما
قط وأهش اليهما الا أخذانى دونه ، فلما قدم النبى صلى الله عليه وسلم ونزل قباء فى
بنى عمرو بن عوف غدا اليه أبى وعمى أبو ياسر مغلسين قالت :" فوالله ما رجعا
الا مع مغيب الشمس ، قالت :" فرجعا الينا فاترين كسلانين ساقطين يمشيان
الهوينى ، فهششت اليهما كما كنت أصنع فوالله ما نظر الى واحد منهما ، مع ما بهما
من الغم قالت :" وسمعت عمى أبا ياسر يقول لأبى :" أهو هو ؟ " ، قال
:" نعم والله " ،قال :" أتعرفه بنعته وصفته ؟" ، قال :"
نعم والله " ، قال :" فماذا فى نفسك منه ؟ ، قال :" عداوته والله
ما بقيت " سيرة ابن هشام ج 2 ، وذكر موسى بن عقبة عن الزهرى أن أبا ياسر بن
أخطب لما قدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة ذهب اليه وسمع منه وحادثه ، ثم رجع
الى قومه فقال :" يا قوم أطيعونى فان الله قد جاءكم بالذى كنتم تنتظرونه
فاتبعوه ولا تخالفوه " ، فانطلق أخوه حيى بن أخطب فجلس الى رسول الله صلى
الله عليه وسلم وسمع منه ، ثم رجع الى قومه وكان فيهم مطاعا فقال :" أتيت من
عند رجل والله لا أزال له عدوا أبدا " ، فقال له أخوه ياسر :" يا أبن
أمى أطعنى فى هذا الأمر ، واعصنى فيما شئت بعده لا تهلك " ، قال :" لا
والله لا أطيعك أبدا " ، واستحوذ عليه الشيطان واتبعه قومه على رأيه قلت :" أما أبو ياسر فلا أدرى ما آل اليه
أمره ، وأما حييى فشرب عداوة النبى صلى الله عليه وسلم ولم يزل ذلك رأيه حتى هلك .
الأمر الآخر كان بعد ستة عشر شهرا من مقدمه الى
المدينة قبل وقعة بدر بضهرين فقد استقبل الرسول صلى الله عليه وسلم بيت المقدس حين
قدم المدينة ستة عشر شهرا ، وكان فى جعل
القبلة الى بيت المقدس ثم تحويلها الى الكعبة حكم عظيمة : فانها القبلة التى تليق
بهم وهم أهلها لأنها أوسط الأمم كما أختارلهم
أفضل الرسل وأفضل الكتب وأخرجهم فى خير القرون وخصهم بأفضل الشرائع ومعهم
خير الأخلاق وأسكنهم خير الأرض وجعل منازلهم فى الجنة خير المنازل وموقفهم يوم
القيامة خير المواقف ، فأتم الله نعمته عليهم مع القبلة بأن شرع لهم الآذان فى
اليوم والليلة خمس مرات وزادهم فى الظهر والعصر والعشاء ركعتين أخرتين بعد أن كانت
ثنائية ، فكل هذا كان بعد مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم الى المدينة ، وبلغ أصحابه بالحبشة هجرته الى المدينة فرجع
منهم ثلاثة وثلاثون رجلا ، فحبس منهم بمكة سبعة وانتهى بقيتهم الى رسول الله صلى
الله عليه وسلم بالمدينة ثم هاجر بقيتهم فى السفينة عام خيبر سنة سبع ، عشر سنوات هى عمر الدولة الاسلامية على عهد
النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة ، يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة فيصدر
" اعلانه الشهير " ، الذى يبرز عبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم ، رجل
السياسة والمواثيق والمعاهدات ، اورد ابن اسحاق نصا طويلا أطلق عليه اسم
"صحيفة " لايوازيه فى طوله الا معاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل
نجران ، كتاب فى تنظيم أحوال أهل المدينة وعلاقتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم
ومع بعضهم وقد نقله كذلك أبو داود فى السنن وأبو عبيد القاسم بن سلام فى الأحوال ،
وابن سعد فى الطبقات وغيرهم كثير ، وروى ابن الأثير أن الصحيفة اصدرها الرسول صلى
الله عليه ةوسلم فى اجتماع فى بيت أنس بن مالك ، ولابد أن الصحيفة كانت صادرة بعد
الهجرة بزمن قليل لأن الرسول صلى الله عليه وسلم انشغل على أثر الهجرة بمعالجة
استقرار المهاجرين ، وآخى بين الأوس والخزرج ، ومن المعلوم أن علاقة الرسول صلى
الله عليه وسلم باليهود ابان الأشهر
الأولى من الهجرة كانت سليمة ، وكانت هناك المعاملات فى الأسواق ، وكانت القبلة
نحو بيت المقدس ، وصام المسلمون فى عاشوراء ، وهو يوم صلاة اليهود ، وهذا الزمن لم يدم طويلا ،وقد أضمر بعض اليهود
سوءا للدعوة الاسلامية منذ وصول الرسول صلى الله عليه وسلم الى المدينة ، ومع ذلك
تغاضى عن عداوة هذا البعض دون أن يجهلها ، وعمل على نشر روح التعاون والمودة مع
اليهود فتحدث الى رؤسائهم وتحدثوا اليه وتقرب منهم وتقربوا منه ، وأباح للمسلمين
أن يؤاكلوهم وأن يتزوجوا من نسائهم ، وفرح اليهود عندما رأوا النبى صلى الله عليه
وسلم والمسلمين يستقبلون فى صلاتهم بيت المقدس ، الذى هو قبلة بنى اسرائيل فى
صلاتهم ،وقد أراد النبى صلى الله عليه وسلم بجانب حسنمعاملته لهم أن يزيد فى أسباب
التعاون وتبادل المنافع معهم فعقد بينه وبينهم معاهدة عادلة أو أصدر صحيفة ،
والبنود الكثيرةالتى تعالج أمور السلم والحرب توحى أن الصحيفة صدرت بعد سرية نخلة
التى كانت المرحلة الأولى من توجه الرسول صلى الله عليه وسلم لمقاتلة مشركى قريش ،
وقد أعقبتها معركة بدر التى كانت أول قتال مسلح للرسول صلى الله عليه وسلم مع أهل
مكة ، وقد أبرز هذا القتال الحاجة الى تنظيم العلاقات القتالية مع اليهود ، عالجت
الصحيفة قضايا تنظيمية وادارية ولم تمس العقيدة والدين ، وهذه الصحيفة فى أوائل
الهجرة الأولى تدل على فكرة التعايش ورغبة الرسول صلى الله عليه وسلم فى مسالمة
غير المسلمين ، وقد جاء فى نصوص الصحيفة ( وقد يسميها البعض معاهدة ) ما يلى : 1-)
أن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين ، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ، موليهم وأنفسهم
. 2-) وأن على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم . 3-) وأن بينهم النصر على من
حارب أهل هذه الصحيفة . 4-) وأن بينهم النصح النصيحة ، والبر دون الأثم . 5-) وأنه
لا يأثم أمرؤ بحليفه . 6-) وأن النصر للمظلوم . 7-) وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين
ما داموا محاربين . 8-) وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة . 9-) وأنه ما كان
بين أهل هذه الصحيفة من حدث أوشتجار يخاف فساده فان مرده الى الله ، والى محمد
رسول الله صلى الله عليه وسلم . 10-) وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها . 11-) وأن
بينهم النصر على من دهم يثرب .. على كل أناس حصتهم من جانبهم الذى قبلهم . 12-)
وأنه يحول هذا الكتاب دون ظلم أو أثم .